الغرور بأنعم الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الدنيا يعطيها الله لمن أحب أو كره.
2 ـ النعم قد تكون استدراجًا.
3 ـ الاغترار بالدار العاجلة الفانية عن الدار الآخرة الباقية.
4 ـ منزلة الدنيا من الآخرة.
5 ـ أهم أسباب التخلف عن العمل ضعف العلم واليقيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فإنه ربما اتكل بعض المغترين على ما يرى من نعمة الله عليه، وأنه سبحانه لا يغير ما به، ويظن أن ذلك من محبة الله له، وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك، وهذا من الغرور، وقد قال أحد الرجلين اللذين ضرب الله مثلهما للناس في سورة الكهف، والذي جعل الله له جنتين من أعناب محفوفتين بنخل، وجعل بينهما زرعًا، وفجر خلالهما نهرًا، قال هذا الرجل لصاحبه وهو يحاوره، وكان له ثمر: أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـ?ذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ ?لسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى? رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً [الكهف: 34 ـ 36].
فانظر إلى هذا الرجل كيف نظر لنعمة الله عليه، وأنه سبحانه لا يغير ما به بالرغم من إقامته على معاصيه، فاعتبر أن هذا من محبة الله تعالى وإكرامه له، وأن ما بصاحبه من الفقر والحاجة إنما هو لهوانه على الله، فقاس مكانته في الآخرة على مكانته في الدنيا. فقال: وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى? رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً فعاقبه الله على شركه ومعاصيه وسوء ظنه فبدل ما به من النعم وأحل محلها نقمًا. قال تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى? عُرُوشِهَا وَيَقُولُ ي?لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً [الكهف: 42، 43].
وبين الله سبحانه وتعالى أن طباع الإنسان المذمومة في سورة فصلت فقال: لاَّ يَسْئَمُ ?لاْنْسَـ?نُ مِن دُعَاء ?لْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ?لشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَـ?هُ رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـ?ذَا لِى وَمَا أَظُنُّ ?لسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى? رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى? [فصلت: 49، 50].
فهدد الله ما كان هذا طبعه بقوله: فَلَنُنَبّئَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت: 50].
ثم بين تعالى في الآية التي بعدها أن من شأن الإنسان أنه إذا أنعم الله عليه ومسه بخير أعرض، وإذا مسه الشر فدعاءه عريض يجأر ويتضرع ويدعو، قال سبحانه: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى ?لإنسَـ?نِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ?لشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ [فصلت: 51].
وقد رد سبحانه على من ظن إسباغ الله النعم على بعض خلقه إنما هو لمحبته لهم. وأنما ابتلاؤه لبعضهم إنما هو لهوانهم عليه، فقال سبحانه في سورة الفجر: فَأَمَّا ?لإِنسَـ?نُ إِذَا مَا ?بْتَلـ?هُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ?بْتَلَـ?هُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر: 15 ـ 17] أي: ليس كل من نعمته ووسعت عليه في رزقه أكون قد أكرمته، ولا كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل أبتلي هذا بالنعم وأكرم هذا بالابتلاء.
قال أبو حازم التابعي سلمه ابن دينار رحمه الله تعالى: "إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه فاحذره فإنما هو استدراج منه يستدرجك به؛ قال تعالى في سورة الزخرف: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?باً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف: 33 ـ 35].
أي ليس إعطاء الله تبارك وتعالى وإسباغه للنعم على بعض عباده ليس دليلاً على محبته لهم وإكرامه لهم، ولو شاء الله سبحانه أن يكرم الكفرة المشركين ويعطيهم من هذه النعم ما لا قدرة لأحد على تقويمه، ولا يخطر بباله لأعطاهم، لولا أن يكون ذلك سببًا لتحبيب الكفر والمعاصي والشرك للناس، يقولون: كما مرّ من بيان سوء ظن الإنسان وغروره، لولا مكانتهم عند الله لما أعطاهم هذا العطاء، إذن فمن يعمل مثل عملهم يُعطى عطاؤهم فلولا ذلك لأعطاهم الله ولأعطاهم سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?باً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ.
وقال بعض السلف: رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم، ورب مغرورٍ بستر الله عليه وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، وأعظم الخلق غرورًا من اغتر بالدنيا وعاجلها فآثرها على الآخرة، ورضي بها من الآخرة حتى يقول بعض هؤلاء : الدنيا نقد ٌوالآخرة نسيئة، والنقد أحسن من النسيئة، فشبه الدنيا بالمال الذي يدفع في العاجلة (الدنيا نقد) الدنيا تشبه لو أنك بعت على أحد سلعة وأعطاك الثمن فورًا هذه هي الدنيا، وأما الآخرة فهي بمثابة أن يقول لك بعد سنتين، بعد عشر، بعد عشرين، فما يعطى الآن خير ولا شك مما يعطى فيما بعد، أنا أريد أن أستمتع بنقودي وحقي في حياتي لعلي لا أظفر به،ويكون من نصيب الورثة مثلاً، أنا أريده لنفسي الآن، فالدنيا نقد والآخرة نسيئة، شبه الدنيا بالمال الذي يُدفع عاجلاً، وشبّه الآخرة بالمال الذي يؤجل دفعه، ففضَّل الدنيا على الآخرة بهذا الاعتبار.
ويقول بعضهم: درةٌ مفقودة ولا درة موعوده، أي درةٌ لؤلؤةٌ ثمينه تتلقاها وتتسلمها فورًا وعاجلاً خيرٌ وأفضل من درة توعد أن تتلقها وتتسلمها آجلاً.
ويقول آخر: لذات الدنيا متيقنه ولذات الآخرة مشكوك فيها، ولا أدع اليقين بالشك. وهذا من أعظم تلبيس الشيطان وتسويله والبهائم العُجم خير من هؤلاء؛ لأن البهيمة إذا خافت مضرة شيء لم تقدم عليه ولو ضُربت، لو مرت البهيمة في طريق وتوهمت أن أمامها ماء أو عمقًا سحيقًا لا يمكن أن تسير خطوة واحدة ولو ضربتها ما وسعك الضرب، البهيمة لا تقدم على ما تتوهم خطورته ولو ضربت، وهؤلاء يقدم أحدهم على عطبه وهو يعلم.
فيقدم على ما فيه هلاكه وهو بين مصدق ومكذب فهذا الصنف من الناس إن كان يؤمن أحدهم بالله وبرسوله والجزاء، فهو من أعظم الناس حسرةً لأنه أقدم على علم، وإن لم يكن يؤمن بالله وبرسوله والجزاء فبعدًا له.
وقول هذا القائل: "النقد خيرٌ، من النسيئة" جوابه:
إذا تساوى النقد والنسيئة فالنقد خير وإذا تفاوتا وكانت النسيئة خير وأفضل فهي خير، فكيف والدنيا كلها كنفس واحد من أنفاس الآخرة، أين وجه الشبه لو كانت الدنيا حقًا نقدًا والآخرة نسيئة مؤجلة، أين وجه الشبه بينهما والدنيا كلها كنفس واحد من أنفاس الآخرة.
كما جاء في صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه عن النبي قال: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع)) مثل أن يضع أحدكم إصبعه في البحر، فلينظر بم يرجع من ماء البحر، فلينظر بالقدر الذي يعلق بإصبعه من ماء البحر فإنه قيمة الدنيا في الآخرة.
فإيثار هذا النقد على النسيئة من أعظم الغبن، وأقبح الجهل، وإذا كان هذا نسيئة، الدنيا بمجموعها إلى الآخرة فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة، إذا كانت الدنيا كلها نفسًا من أنفاس الآخرة بمجموعها، فما مقدار عمر الإنسان بالنسبة إلى الآخرة، فأيما أولى بالعاقل إيثار العاجل في هذه المدة اليسيرة وحرمان الخير الدائم في الآخرة، أم ترك شيء حقير صغير منقطع عن قرب لمتيقن لا شك فيه ولا انقطاع له، ليأخذ ما لا قدرة للناس على تقويمه ولا يخطر ببالهم ولا نهاية لعدده ولا غاية لأمده. أيما أولى بالعقل.
وأما قول الآخر:"لذات الدنيا متيقنة ولذات الآخرة مشكوك فيها، فلا أدع متيقنًا لمشكوك فيه" فنقول له: إما أن تكون على شك من وعد الله ووعيده وصدق رسله، وإما أن تكون على يقين من ذلك، فإن كنت على يقين فقد تركت ذرة عاجلة فانية عن قرب لمتيقن لا شك فيه ولا انقطاع له، وإن كنت على شك فراجع آيات الرب تعالى الدالة على وجوده، وقدرته ومشيئته ووحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به عن الله، وتجرد حتى يتبيَّن لك أن ما جاء به الرسل هو الحق الذي لا شك فيه، وأن خالق هذا العالم ورب السماوات والأرض يتعالى ويتقدس ويتنزه على خلاف ما أخبرت به رسله، عنه يتعالى أن يكون بخلاف ما أخبرت به رسله عنه أو لا يتحقق ما أخبرت به رسله عنه فمن نسبه إلى غير ما وصفه به رسله وأخبروا به عنه، من نسبه إلى غير ذلك فقد شتمه وكذَّبه وأنكر ربوبيته ومُلكه إذ من المحال الممتنع عند كل ذي فطرة سليمة أن يكون الملك الحق عاجزًا أو جاهلاً لا يعلم شيئًا ولا يسمع ولا يبصر، كلا، ولا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب ولا يعز من يشاء ولا يذل من يشاء، ولا يرسل آحاد البشر ولا يليق به، هل يليق بأحد ملوك البشر في أي جزء من الدنيا ومن الأرض أن يقال عنه أنه عاجز، أن يقال عنه أنه لا يعلم، أن يقال عنه أنه لا يسمع ولا يبصر، لا يأمر ولا ينهى، لا يُرسل رسله إلى أطراف المملكة، لا يعتني برعيته!! إذا كان هذا قدح في آحاد ملوك البشر ولا يليق به فكيف يجوز نسبته إلى الملك الحق المبين، فقد بان أن المضّيع مغرور على التقديرين، المضيع الذي لا يعمل وفرّط مغرور على التقديرين، تقدير تصديقه ويقينه؛ لأنه لم ينتفع بهذا التصديق بشيء مادام قد ضيع، وتقدير تكذيبه وشكه هو مضيع، ولذلك فهو مغرور على كلا التقديرين، وإنما يسلم من هذه الطباع المذمومة والغفلة التي تؤدي إلى الخسران من كمّل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بعمل الصالحات والتواصي بالصبر، فإن الله تعالى أقسم في سورة العصر على أن كل الناس في خساره، أقسم على أن كل الناس في خسار إلا من آمن وعمل صالحًا وتواصى بالحق وبالصبر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله الله الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإن هذا سؤالاً يتعلق بما مضى من الكلام، وهو كيف يجتمع اليقين بالمعاد والتخلف عن العمل؟ كيف يجتمع عند أحد التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار، ثم يتخلف عن العمل؟! وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غدًا إلى يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة إن أساء، ويكرمه أتم كرامة إن أحسن، ثم يبيت قائمًا ساهيًا غافلاً ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك ولا يستعد له ولا يأخذ له أهبته، قد علمنا جميعًا أن من طباع الإنسان المذمومة ما قد ذكره من أنه يغتر بنعم الله عليه ومن عدم تغييره سبحانه لما به من النعم. ويظن أن ذلك من محبة الله له وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك. وعلمنا من الطباع المذمومة للإنسان أنه لا يسئم من دعاء الخير، ومن طلب الخير، وأنه إذا مسه الشر يأس وقنط، وعلمنا أن من طباعه المذمومة أنه إذا مسه الله بخير أعرض، وإذا مَسّه بضر جأر وتضرع ودعا، وعلمنا أن من سوء طبع الإنسان أنه يظن أن إسباغ الله النعم على بعض خلقه أنه إكرام وأن ابتلاء الآخرين بالتضيق في الأرزاق أنه إهانة، كل ذلك قد تم علمه وأنه في طباع البشر إلا من استثناه الله تبارك وتعالى بما سمعتموه في سورة العصر، لكن هل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب ليقف بين يدي الملك، ثم لا يستعد لهذا اللقاء! ليس هذا من طباع البشر، ليس هذا في طباعهم إلا مع ملك الملوك، ورب السماوات فحسب، هذا الطبع لا تراه إلا مع مالك السموات والأرض وما بينهما المتيقن منهم يعلم أنه موقوف بين يدي الله عز وجل لقوله في سورة الصافات: وقفوهم إنهم مسؤولون إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا الوقوف وعلى الحساب والعرض والفصل. ومع ذلك قليلٌ من عباد الله تعالى من أدَّاه يقينه إلى العمل، وهذا السؤال والله سؤال صحيح، وارد على أكثر الخلق فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء حقًا، يقين وتخلفٌ عن العمل، والتخلف عن العمل له عدة أسباب أهمها:
ضعف العلم ونقصان اليقين: ضعف العلم واستيلاء الجهل بدلاً من العلم الذي يشرف الناس ويتبعون به إلى المعالي. ضعف العلم عند الناس ونقصان اليقين والتصديق بما أخبرت به الرسل عن الله تبارك وتعالى اليقين ناقص، فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضار الإنسان أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع وغلبات الهوى واستيلاء الشهوة وتكوين النفس وغرور الشيطان واستبطاء الوعد وغرور الشيطان ورقدة الغفلة وحب العاجلة ورخَصْ التأويل؛ إذا استولت هذه الأمور على الإنسان لا يمسك الإيمان على نفسه وقلبه، لا يمسك الإيمان ساعتها إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، كيف يستقيم إيمانٌ مع استيلاء هذه المضار؟ كيف يستقيم؟! إنه لا يمسكه حينئذٍ إلا الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا بالرغم من أنها توشك أن تنشق وتنفطر، توشك الأرض أن تنشق بسبب ما يُعمل من معاصي ابن آدم ويمسكها الله تعالى أن تزولا، يمسكها سبحانه، فلا يمسك الإيمان مع وجود هذه المضار حينئذ إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا. وهذا إيمان مهددٌ بألا يتماسك ومهددٌ بأن يتضعضع ويتغير كما ستتغير الأرض والسماوات عند قيام الساعة. قال تعالى في سورة إبراهيم: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فسيتغير هذا الإيمان الضعيف حتمًا إن لم يعمد صاحبه إلى تقويته وإلى إزالة الأمور والمضار التي تحيق وتحيط بهذا الإيمان وتوشك أن تضعضعه، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال، بسبب ضعف العلم ونقصان اليقين إن الناس فيه على درجات وبسبب ذلك يتفاوتون في الإيمان وفي العمل، فمن عظم علمه ويقينه كان أشد إيمانًا وأكثر عملاً، ومن قل نصيبه من هذا قلّ نصيبه من ذاك، وجماع هذه الأسباب يرجع إلى البصيرة والصبر، وقد مدح الله تعالى أهل الصبر واليقين وجعلهم أئمة الدين. فقال في سورة السجدة: فجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.
فلنعمد إلى العلم حتى لا نكون كالنصارى الذين جهلوا الحق فضلوا عنه بسبب ضلالتهم عن هداية العلم، فقد قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن التابعي الجليل رحمه الله: العلم وسيلة إلى كل فضيلة، فإن علمنا ولم نعمل ولم يورثنا علمنا خشية فلنتفقد قلوبنا، فإن فيها حينئذ شبهًا بقلوب اليهود. فإنهم علموا الحق فلم يعلموا به بل اتبعوا أهوائهم.
أعود فأقول: هذا السؤال الماضي سؤال هام وصحيح: كيف يكون المرء مؤمنًا بالله ورسوله موقنًا بالمعاد والجنة والنار متخلفًا عن العمل؟!
وقد علمنا أسباب ذلك فلنعمد إلى إزالتها نوفق للعمل.
(1/1735)
أمراض القلوب (3)
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
الجن والشياطين, الفرقة الناجية
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ كيد الشيطان وتزينه فعل المعاصي. 2 ـ تخلي الشيطان عن أوليائه يوم بدر.
3 ـ تزيين الشيطان وإغوائه للعابد برصيصا.
4 ـ كلمة في إثبات صفات الله كما أثبتها لنفسه.
5 ـ محنة الإمام أحمد مع المعتزلة.
6 ـ ثبات الأوزاعي أمام العباس السفاح. 7 ـ التأويل الخاطئ لقوله تعالى: عليكم أنفسكم
_________
الخطبة الأولى
_________
هذا هو اللقاء الثالث لنا مع الحديث عن علاج القلب من مرض الشيطان، وقد سبق لنا في آخر لقاء أن الشيطان يدور عمله مع ابن آدم على أمرين:
تخويفه من فعل الخير، وتزيين فعل الشر له، ونستكمل ما مضى فنقول وبالله التوفيق:
إن من كيد الشيطان لابن آدم أنه يورده الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عنه، ويُسلمه ويقف يشمت به ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنى والقتل وغير ذلك ويدل عليه ويفضحه، بمعنى أن الشيطان يُغري الإنسان بورود موارد المعاصي، يحرضه على أن يغشى مواطن المعاصي، فإذا وردها ودخلها زين له فعل المعصية التي في هذا الموطن، فإذا استجاب وعملها تخلى عنه بعد ذلك وأسلمه لأسوأ مصير، وشمت به بعد الوقوع في الرذيلة، بعد أن كان معافًا من الوقوع فيها، وضحك منه وسخر وتهكم، فيأمره بالسرقة مثلاً أو الزنى أو القتل أو غيره من صنوف وألوان المعاصي التي حذر الله تبارك وتعالى من إرتكابها. ثم إذا ارتكبها تخلى عنه وأسلمه وقام هو بنفسه بالدلالة عليه، وفضيحته، ومن الأمثلة التي وردت في كتاب الله عز وجل على خداع الشيطان للإنسان وعلى تخليه عنه بعد استجابته، وعلى تبريء الشيطان من الإنسان إذا عمل ما وسوس به قوله تعالى في سورة الأنفال في حق قريش لما خرجت يوم بدر تريد محاربة رسول الله وأصحابه وهدم الإسلام في دولته الجديدة في المدينة، خرج الشيطان كما جاء في سيرة ابن إسحاق في صورة سراقة ابن مالك ابن جعشم المدلجي، وكان بين قريش وبين بني بكر، كان بينهما عداوة وتحسب وتأهب للقتال والغدر، وكاد ذلك أن يُثنى قريش عن الخروج إلى بدر، لكن الشيطان خرج في صورة سراقة يمنيهم ويطمئنهم على الذراري والنساء وعلى ما خلَّفوا وراءهم، وكان شريفًا من أشراف بني كنانة، وكان يظهر لهم في كل موضع أثناء السفر، فلما رأى عدو الله إبليس جند الله من الملائكة نزلوا بأمر الله لنصرة النبي وأصحابه قال لقريش بعد أن أغراهم وحرضهم على الخروج ـ كما ذكر الله في كتابه ـ: إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أَرَى? مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ ?للَّهَ وَ?للَّهُ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 48].
وتقول الآية من أولها: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَعْمَـ?لَهُمْ زين لهم حرب النبي ، وزين لهم الكفر بالله وبرسوله عليه الصلاة والسلام، وزين لهم الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ?لْيَوْمَ مِنَ ?لنَّاسِ أنتم اليوم أقوياء في غاية القوة والمنعة وإني جار لكم، وأنا أيضًا جار لكم أحميكم وأؤيدكم وأنصركم فَلَمَّا تَرَاءتِ ?لْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى? عَقِبَيْهِ تراجع وتقهقر وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أَرَى? مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ ?للَّهَ وَ?للَّهُ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 48] وإعلانه بأنه يخاف الله يُحمل عند المفسرين على خوف كخوف الكافر والفاجر إذا أحسّ أنه سيؤاخذ بجرمه ويُعاقب على ما فعل، وقال الزجّاج وابن الأنباري: إنما قال ذلك لما رأى الملائكة وخاف أن يكون نزول الملائكة نهاية إنظاره فيكون بذلك قد حان موعد معاقبته ومؤاخذته بعد زوال مدة الإنظار التي أعطاها الله تبارك وتعالى له، ومن ثم قال: إِنّي أَخَافُ ?للَّهَ وَ?للَّهُ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ ، وهذا الخوف لا يستوجب نجاة ولا أمنًا، فلو كان يخاف الله الخوف الذي يمنعه العصيان ومن تحريض غيره على العصيان، لخاف من عصيان أمر الله تبارك وتعالى يوم أمره بالسجود لآدم فامتنع وتعلل ذلك بأنه خير من آدم.
وفي سورة الحشر: آيتان جاء في تفسيرهما حديث أخرجه ابن جرير وابن كثير عن علي وابن مسعود مختصرًا، وأخرجه البغوي عن ابن عباس مطولاً، قال الله تعالى: كَمَثَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَـ?نِ ?كْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ فَكَانَ عَـ?قِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى ?لنَّارِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ [الحشر: 17].
ورد في تفسير الآيتين الحديث الذي ذكرت مصادره وأنه في حق راهبٍ من بني إسرائيل يقال له "برصيصا" وأن هذا الراهب العابد أتاه ناس بامرأة أرادوا منه أن يقرأ عليها وأن يعالجها العلاج الشرعي، وتركوها له حتى إذا استغرق العلاج أيامًا فإنهم سيأتون بعد ذلك لتسلّمها، وجاء الشيطان إلى هذا الراهب العابد ورغبه وحرّضه وشهى إليه فاحشة الزنا بهذه المرأة التي ائتمن عليها، وما زال به الشيطان حتى استجاب، فلما وقع في المحظور جاءه ووسوس إليه وحَرّضه بقتلها حتى لا يظهر آثر جرمه وفاحشته إذا حملت المرأة فقتلها ودفنها، ثم جاء إلى أهلها فوسوس إليهم ودلهم، وفضح الراهب فجاءوه فأنكر أن يكون أساء إليها أو تقدم إليها بسوء فلما حفروا في المكان الذي دُلّوا عليه وجدوا ابنتهم، وعندئذ سجن وأتاه الشيطان مرة ثالثة كما يقول هذا الحديث وطلب منه أن يسجد له إذا كان يريد النجاة وكان ذلك آخر ما يطمع فيه الشيطان من صرف هذا الراهب تمامًا عن الدخول في رحمة الله عز وجل، وسجد الراهب رغبةً في النجاة والخلاص وعندها ضحك منه الشيطان ضحكًا طويلاً، وانصرف عنه وتركه بعد أن حقق معه كل ما أراده.
إن الشيطان يورد الإنسان الموارد التي فيها هلاكه، وهو يتصور بعد الغواية والإضلال أن فيها منفعته ومصلحته، ثم إذا صدر المصادر وخرج بعد ذلك مثقلاً بالأوزار ندم حيث لم ينفع الندم وتألم لشدة لوم الناس، ولا منفعة تُرجى من التألم لشدة اللوم أو الندم، وكذلك يُغري الشيطان الناس في جميع شؤونهم وأمورهم عبادات كانت أم معاملات أم غير ذلك يغريهم ويحرضهم على التبديل وعلى عمل ما لا يرضي الله تبارك وتعالى من الأمور والأعمال، ومن ذلك أنه يأتي إلى بعض الناس يحرضهم على نفي صفات الله تبارك وتعالى من باب التنزيه فيقنعهم أن ذلك هو لامتثال لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى: 11]، فإن قال النبي في حديث : ((إن الله يضحك)) فسّر النفاة الضحك على أنه ليس بالضحك، وأوّل بعضهم فقال: إنه الإحسان أو الرحمة أو ما إلى ذلك من التأويلات بينما أصحاب رسول الله عرفوا المعنى وفوضوا الكيفية إلى الله تبارك وتعالى، أما المعنى فهو معلوم: الضحك هو الضحك، كيف ضحك الله عز وجل، هذا ما لا يمكن أن نعرفه أو ندريه، أو نسأل عليه أو نتدخل فيه؛ لأنه يجب هنا أن نقول ليس كمثله شيء، أما أن يثبت له النبي أنه يضحك أو أنه ((ينزل في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من داع فأستجيب له)) إلى آخر الحديث أو أنه يقترب من عبده الذي يقترب منه كل ذلك وغيره أثبته النبي لله عز وجل، وأثبت القرآن كذلك لله عز وجل صفات أخرى كقوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَ?لْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر: 22] يوم القيامة، كل ذلك نفاه بعض الناس متابعة لإغراء الشيطان وتحريضه تحت مظلة أن هذا هو التنزيه.
واسمعوا إلى الصحابي الجليل أبي رزين العقيلي لما قال النبي كما عند الترمذي وغيره: ((إن الله يضحك)) فقال هذا الصحابي الجليل لما علم المعنى وفهمه، ولكنه لم يسأل عن الكيفية، لأنه لا مدخل إلى هذا السؤال كيف نُكَيِّف لك هذه الصفات بينما الله عز وجل ليس كمثله شيء ، لا سبيل إلى التكييف أبدًا. لكن المعنى معلوم فقال: يا رسول الله، أو يضحك ربنا؟ قال: ((نعم)) فماذا قال هذا الصحابي الجليل؟ قال: (لن نعدم من رب يضحك خيرًا). سبحان الله، ما دام ربنا يضحك فلن نعدم منه خيرًا، ولكن لما تقادمت الأزمان وبعُد العهد بالصدر الأول والجيل العظيم، جيل أصحاب رسول الله وخالط المسلمون الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ومنهم من كان حاقدًا على الإسلام حقدًا أسودًا دفينًا كالفرس والروم، فمنهم من دخل الإسلام ليكيد لأهله، وأدخل عليهم علم الكلام، وما أدراك ما علم الكلام، وما فيه من اللعب بالعقول والنظر إلى الدين على أنه فكرة لا يجعلون من الكتاب والسنة رائدًا، عند ذلك بدأ التشويش يحصل، وبدأ الخلط، ومن ذلك فتنة أحمد بن أبي دؤاد الذي فتن المسلمين في عهد الإمام أحمد بن حنبل بمحنة خلق القرآن، فمن لم يقل: إن القرآن مخلوق عُذّب أو قُتل، وصمد لذلك الإمام أحمد، صمد لهذه الفتنة، وقال: "إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق" فعُذب وسُجن وُضرب، وقال الجلاد الذي ضربه في زمن المعتصم: "لقد ضربته ثمانين سوطًا لو ضربتها جملاً لهدّته" وصمد وتحمل لأنه عالم لا بد أن يحتمل من أجل أن تسير سفينة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومن أجل أن يستمر الخير وترتفع رايته ويرتفع لواؤه. فلا يمكن أن يُنكر هاهنا بالقلب، فلو أنكر مثل هؤلاء بالقلب فمن ذا الذي ينكر باللسان. ولكن ما أفلت أحمد بن أبي دؤاد من عقوبة الله عز وجل. هذا الذي استجاب للشيطان وفتن المسلمين وامتحنهم وتسبب لهم في المحن والمتاعب والويلات، لم يُفلته الله عز وجل في الدنيا فما الظن بالآخرة، إن أحمد بن أبي دؤاد في آخر عمره يضرب بالسياط وهو مريض مُلقى على الفراش، لقد ضرب الإمام أحمد ولكنه كان متماسكًا وأعانه الله عز وجل، أما هذا فأذله الله حتى إنه ليضرب وهو مريض طريح الفراش ويصف أحمد بن أبي دؤاد مرضه فيقول:
إن نصف جسمي من المرض لا أشعر مع المرض فيه بشيء. شلل، لا حياة في هذا النصف، ولو ضربت فيه السيوف وإن النصف الآخر يؤذيني ويؤلمني، أي شيء يمر عليه ولو كان هو الذباب [1] ، قال الله تعالى: وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مّنَ ?للَّهِ مِن وَاقٍ [الرعد: 33، 34].
فهل نصر إبليس أحدًا بعد الغواية والضلالة، هل وقف بجانبه بعد الاستجابة لإغوائه؟ لا، بل يتخلى ويُسلمه ويضحك منه، وتبرؤه يوم القيامة من الأتباع والجند والحزب الشيطاني، تبرؤه يومئذ أعظم، يومها يقتل الندم الشديد والألم النفس، فضلاً عن قتلها، وإذاقتها العذاب الأليم بفعل التواجد في النار وفي الجحيم والنكال والسعير، فعذاب أليم مُعدّ لهم عياذًا بالله منه، وندمًا شديدًا لا ينفع في هذا الموطن، فإياكم والاستجابة للشيطان، حذركم الله تبارك وتعالى وأخبركم أنه عدو لكم، كيف تتخذونه بعد ذلك صاحبًا ووليًا، بل استعيذوا بالله منه، والزموا طاعة ربكم تفلحوا وتفوزوا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] والصحيح أنّ هذه المقالة للجاحظ يصف فيها أمراضه التي أصيب بها في أخريات حياته. انظر: سير أعلام النبلاء (11/527) (المنبر).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
ومن كيد الشيطان كذلك أخوة الإسلام للإنسان، وهو أعظم كيده لأهل الإيمان، أنه يخوف المؤمنين من جنده وأولياءه، قال الله تعالى في سورة آل عمران: إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 175].
وجميع المفسرين على تفسير هذه الآية بأن الشيطان يخوفكم أيها المؤمنون بأوليائه ويخوفكم من أوليائه حتى لا تأمرونهم بمعروف ولا تنهونهم عن منكر بسبب الخوف منهم، فإذا عمل جند الشيطان وحزبه وأولياءه ما عساهم أن يعملوا من المعاصي خوف الشيطان المؤمنين من أمرهم ونصحهم، ونبههم قائلاً للذي يريد أن يأمر أو ينهى أو ينصح:
أتأمره، أتنصحه، ألا تخاف أن يقطع رزقك وعيشك أو يعذبك أو يقتلك وما إلى ذلك فيقول عندها الإنسان إذا كان ضعيف الإيمان استبد الخوف بقلبه، وما شأني أنا فليأمرهم غيري ولينههم غيري، أما إن كان قويًا زال الخوف من قلبه، ومن ثم أضرب مثالاً واحدًا وبسرعة لأن الوقت يتفلت منا ويسابقنا، أضرب مثالاً على قوة الإيمان إذا تمكنت من القلب لم تدع مجالاً في القلب للخوف من الشيطان أبدًا. مهما كان التخويف والتهذيب والوعيد. إن أول خليفة عباسي وهو السفاح لما حارب بني أمية واستولى على الحكم. سأل جنوده وأتباعه وهو من سلالة ونسل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ولكن شتان بين الصحابي ابن الصحابي وبين هذا الخليفة الذي سرق ونهب وقتل وفعل الأفاعيل، قال: "هل بقي أحد يُنكر علينا ما فعلنا" فقال له جنوده: نعم، الأوزاعي عالم الشام. قال: "ائتوني به"، فاستدعي. وجاء الأوزاعي يقطع طريقه "بحسبي الله لا إله إلا الله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" وبدعاء: "اللهم اكفنيهم بما شئت" إلى غير ذلك من الأذكار، وجاء والنور يتهلل من وجهه، نور إيمانه ورضاه بقدر ربه وتسليمه واستعداده لكل ما يمكنه بذله في سبيل رضى ربه تبارك وتعالى. كيف لا والعلم الذي أنعم الله تبارك وتعالى به عليه هو قائده إلى مثل هذا الرضا وهذا الثبات، وأمر السفاح جنوده أن يقفوا صفين وأن يستعرضوا السيوف حتى يدخل الرعب والخوف إلى قلب ذلك العالم من كل حدب وصوب، ودخل الأوزاعي والسيوف حوله من كل جهة حتى إذا وقف بين يدي الخليفة قال له: ما تقول فيما فعلناه من قتل بني أمية؟ فقال الأوزاعي: حدثني فلان عن فلان عن ابن عباس رضي الله عنهما (وأتاه بحديث عن جده الأعلى خصيصًا) قال: قال رسول الله : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
نفس بنفس: رجل قتل رجلاً عمدًا يُقتل به، الثيب الزاني: الزاني الذي ليس بكرًا، والتارك لدينه المرتد المفارق للجماعة.
فنكت السفاح الأرض بعصًا في يده في الأرض وغضب غضبًا شديدًا. قال الأوزاعي: حتى رأيت الوزراء حوله يكفون ثيابهم لئلا يصيبهم دمي إذا ضُربت بالسيف. ثم قال له: وما تقول فيما أخذناه من المال؟ قال: إن كنت أخذته بحق فأنت عليه مُحاسب، وإن كنت أخذته بباطل فأنت عليه معاقب، وغضب غضبًا شديدًا زيادة على غضبه الأول، فقال له: انصرف عنّي. فانصرف وقال: الحمد لله.
ثم دعاه مرة أخرى فقال: ارجع. فرجع. فقال له خذ هذا المال. فأراد ألا يستجيب، وأشار له بعض الحاضرين أن خذه وتصرف (يعني: إن كان الأمر وقف على استلام المال فخذه ثم تصرف فيه، ولا حرج عليك) فأخذه الأوزاعي ووزعه على الجنود وهو خارج وترك لهم كيس النقود، وانصرف إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ.
فليبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكانه ونصابه وفي موضعه، ولا يخافن خائف من أن يقوم بكلمة لله عز وجل حيثما تطلب الأمر أن يقام بكلمة الله عز وجل، ولا ينبغي أبدًا أن يتدخل الشيطان أو يتسرب إلى النفوس من باب التودد إلى الناس وحسن الخلق، وقوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة: 105] يقول للذي يريد أن يأمر وينصح يا أخي هذا ليس من قبيل التودد للناس لا تغضب للناس، تودد إليهم، إنك إن أنكرت عليهم كلما عملوا عملاً، أو أخطأوا خطأً فلن يبقى لك أحدٌ أبدًا يحبك. خففّ. هوّن بعض الشيء. بعض ذلك يكفيك، ثم إن هذا ليس من حُسن الخلق أن تضايق الناس وأن تُغضبهم كلما عملوا شيئًا، قلت لهم: إن هذا خطأ، إن القرآن يقول كذا، إن السنة تقول كذا. لا. فيقول صحيح. إن هذا ليس من حُسن الخلق، فلنقل شيئًا ولنترك آخر، وإن شاء الله ربنا يهديهم، ثم قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وهذه هي المصيبة الكبرى عندما يُقنعهم بالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقرآن الكريم عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ التي قال فيها أبو بكر رضي الله عنه: "إنكم تتأولون هذه الآية خطأ ليس معناها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني على المرء أن يكتفي بنفسه فحسب، لا.
المسلمون كل لا يتجزأ، المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك النبي بين أصابعه كما في صحيح البخاري عن أبي موسى وفي غيره من الكتب، عليكم أنفسكم يعني عليكم بجميع المسلمين، عليكم بجميع الإخوان والأحباب والأصدقاء والمعارف طالما أنهم مسلمون يُنصحون ويؤمرون وينهون. هكذا.
إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ومن كيده لابن آدم أنه يسحر عقله حتى يُزين له الباطل فيبرزه في صورة مستحسنة، ويُقبح إليه الحق فيبرزه في صورة مستهجنه، يخيل إليه النافع ضارًا، والضار نافعًا/ حتى يحب الضار ويشتهيه ويرغب فيه بينما فيه هلاكه وعطبه. فهو الذي صاحب أبوينا حين أُخرجا من الجنة، وهو الذي صاحب قابيل حين قتل أخاه، وهو الذي صاحب قوم نوح حين أغرقوا، وصاحب قوم هود حين أرسل الله عليهم الريح العقيم، وصاحب قوم صالح حين أخذتهم الصيحة، وصاحب قوم لوط حين رُفعوا وقلبوا وأُتبعوا بالحجارة التي من سجيل منضود، وصاحب أصحاب مدين حتى أخذهم عذاب يوم الظلة، وصاحب قوم فرعون حين أُغرقوا وصاحب بني إسرائيل أو بعضهم حين عبدوا العجل وحاق بهم المصير السيئ من أن الرجفة أخذتهم، هو من لدن أبينا آدم إلى اليوم، فهلا أفاق الناس وعادوا إلى صوابهم ورشدهم وضيقوا على إبليس دائرة الجند والحزب الشيطاني، وكثّروا ـ بفضل الطاعة والانصياع والخضوع لله عز وجل ومتابعة الرسول حزب المؤمنين وجند الله تعالى وحزبه. حتى ولو كانوا قلة في العدد فإنهم إذا قوي إيمانهم وعظم ثقتهم بالله تعالى وركنوا إلى الله عز وجل فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة إذا قوى إيمانهم وزادت ثقتهم في الله عز وجل فلن يُغلبوا من قلة، إنما يُغلب المؤمنون من قبل الضعف في إيمانهم وعدم الثقة في الله عز وجل، والاغترار بالكثرة لَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ?لارْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى? رَسُولِهِ وَعَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَذ?لِكَ جَزَاء ?لْكَـ?فِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ ?للَّهُ مِن بَعْدِ ذ?لِكَ عَلَى? مَن يَشَاء وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 25 ـ 27].
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
(1/1736)
أمراض القلوب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ إغواء الشيطان للأبوين: آدم وحواء.
2 ـ إدلاء الشيطان للأبوين وإقسامه كذبًا أمامهما.
3 ـ تعدد وسائط الشيطان في إغراء الناس.
4 ـ ظاهرة الانفعال المؤقت عند المسلمين.
5 ـ دعوة للإنفاق في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار أما بعد:
فإن أول كيد الشيطان عدو الله أنه كاد للأبوين آدم وحواء بالأيمان الكاذبة والإقسام بالله عز وجل أنه يريد لهما الخلود في الجنة، قال الله تعالى في سورة الأعراف: فَوَسْوَسَ لَهُمَا ?لشَّيْطَـ?نُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف: 20، 21].
وسوس الشيطان للأبوين، والوسوسة إنما هي حديث النفس والصوت الخفي، وسوس لهما ليبدى لهما ما وري عنهما من سوءاتهما، علم أنهما إن عصيا الله تبارك وتعالى في أمره لهما باجتناب هذه الشجرة فستبدو لهما سوءاتهما، وهكذا من عصى الله تبارك وتعالى بديت له سوءته الباطنة بنزعه للباس التقوى الذي أخبر الله تبارك وتعالى بأنه خير، فكما إذا نزعت الثياب ظهرت السوأة الظاهرة وبدت، فكذلك إن تخلى المرء عن التقوى ظهرت سوأته الباطنة، قال الله تبارك وتعالى عقب هذه القصة، قصة كيد الشيطان للأبوين: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وهذا ما تُستر به السوأة الظاهرة، ثم قال: وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ وهذا ما تستر به السوأة الباطنة ذ?لِكَ مِنْ آيَـ?تِ ?للَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26] ولهذا أيضًا فكما ظهرت السوأة الظاهرة للأبوين عندما عصيا الله تبارك وتعالى فكذلك من رأى نفسه في منامه من رجل أو أنثى مكشوف السوأة، فهذا يدل على فساد في الدين فتعبير الرؤيا يعتمد بشكل كبير على فهم نصوص القرآن الكريم والسنة للربط بينه وبين ما رآه الرجل أو المرأة، فمن رأى نفسه مكشوف السوأة دل ذلك على فساد في دينه، ومن ثم أخرج البخاري عن سمرة ابن جندب رضي الله عنه أن النبي كان كثيرًا ما يسأل الصحابة عن رؤياهم التي يرونها في منامهم وأنه أخبرهم ذات يوم برؤيا له، أن رجلين آتيا فاستتبعاه فمشى معهما صلى الله عليه وسلم حتى وصلا وانتهيا به إلى تنور، وإذا بداخل التنور (أي الفرن) رجال ونساء عراة، وإذا لهب يأتيهم كلما أتاهم ضوضوا، أي صرخوا وصاحوا، وفي التنور لغط وأصوات ثم أخبر الرجلان اللذان أتيا النبي في منامه أن هؤلاء الذين رآهم إنما هم الزناة من الرجال والنساء.
فَوَسْوَسَ لَهُمَا ?لشَّيْطَـ?نُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ [الأعراف: 20].
شامَّ عدو الله الأبوين وخالط نفوسهما وعرف من أين يأتيهما، وكذلك يفعل ببني آدم جميعًا، عرف منهما أنهما يريدان البقاء والخلود في دار النعيم المقيم، ومن ذا الذي يسكن دارًا كهذه ويود الخروج عنها أو أن ينصرف، عرف أنهما قد استمتعا بالمقام في هذه الدار، فجمع لهما بين الشبهة والشهوة، شبهة المنع من الأكل من هذه الشجرة، وشهوة البقاء والخلود في هذه الدار، ووسوس لهما أن الله تبارك وتعالى إنما منعهما من الأكل من هذه الشجرة بصفة خاصة كراهية أن يكونا ملكين أو يكونا من الخالدين، وردد شبهته بين أمر ممتنع وأمر ممكن، أما الممتنع فهو أن يكونا ملكين. ولم يكن الأبوين يطمعا أن يكونا ملكين لأنهما عاشرا الملائكة وخالطاهما فلم يريا الملائكة يأكلون، ومن ثم بقيت الشهوة في أن يتم لهم الخلود في الجنة، ومن هنا قرأ ابن عباس رواية أخرى تبين الشبهة بدرجة أكبر من أن يكونا ملكين، قرأ إلا أن تكونا مَلِكين من المُلك ويؤيدها الآية التي في سورة طه: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ?لشَّيْطَـ?نُ قَالَ يئَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى? شَجَرَةِ ?لْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى? [طه: 120] عندها بعد اجتماع الشبهة والشهوة وإقسام عدو الله إبليس بالله عز وجل ولم يكن الأبوين سمعا أحدًا يقسم بالله من قبل كاذبًا، وساعد قدر الله المحتوم، أكل الأبوان من الشجرة بعد أن أقسم لهما الشيطان بخبر يفيد أنواعًا من التأكيد، أقسم لهما أنه لهما لمن الناصحين فدلاهما بغرور ـ أي أغراهما وجرأهما وأرسلهما، معاني كثيرة تُستفاد من التدلية، إما من التدلية أو الإدلاء أو الدلالة كالذي يُغري رجلاً عطشان بالنزول إلى بئر ليروي فإذا نزل لم يجد ماءً فيكون قد تدلى بغرور، لم يُكتب الخُلد للأبوين ولا الملك عندما عصيا الله تبارك وتعالى وأكلا من الشجرة. إنما الذي كان أنه بدت لهما سوءاتهما. وهكذا يأتي الشيطان إلى كل أحد من بني آدم يشم نفسه ويخالطها ليتعرف على الأمر الذي تركن إليه النفس وتأنس به، ليتخذها بابًا يدخل منه إلى هذا الإنسان من بني آدم، فإن كانت نفسه قد غلب عليها حب الظهور والتسلط وحب السلطة أتى الشيطان ابن آدم من هذه الجهة، فحرضه على جملة من المعاصي ليصل إلى مبتغاه، وإن كانت النفس قد غلب عليها حب ارتكاب الفواحش، أتى الشيطان ابن آدم من هذه الجهة وحرضه على جملة من المعاصي ليصل إلى مبتغاه، وإن كانت النفس قد غلب عليها حب اقتناء المال وما إلى ذلك من صنوف الشهوات التي تركن إليها النفس وتأنس به أتى الشيطان هذه النفوس من هذه الجهة، ليتخذها أبوابًا يدخل منها على هذه النفوس والسعيد من عرف نقطة الضعف في نفسه فقواها وحصنها، وسد الفرجة التي يمكن أن يدخل منها الشيطان إلى نفسه هذا هو السعيد، الذي يعرف المكمن الذي يأتي منه الشيطان إلى نفسه ليحرضها على المعاصي والامتناع من طاعة الله عز وجل، ولا شك أن كلاً منا يعرف الأمر الذي تركن إليه النفس، وعليه إذن أن يقاوم هذا الأمر في نفسه ليسد هذا المدخل على إبليس وعلى إخوانه من شياطين الإنس الذين يصاحبون الناس من الباب الذي يعرفون أنهم يركنون إليه ويأنسون به.
إخوان الشياطين من بني آدم، شياطين الإنس لا يأتون كل واحد من باب، إنما يأتون هذا من جهة، وهذا من جهة على حسب الأمر الذي تركن إليه النفس وتأنس به، فالسعيد إذن من قوَّى هذه النقطة الضعيفة في نفسه، وسد هذه الفرجة، وحصَّن الباب الذي يدخل عليه إبليس منه جيئة وذهوبًا، وعليه فإن الإنسان إذا فعل ذلك وتحصن من نقاط ضعفه؛ أمكنه أن يرد على إبليس كيده، وأمكنه أن يرده في نحره، وأمكنه أن يزيده غيظًا ودحورًا، وأن يفلت من كيده ومحاربته، وأن يكون يوم القيامة من جند وحزب الرحمن مُفلتًا، ناجيًا من جند وحزب الشيطان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمّا بعد:
فإن من الأمور التي تحتاج إلى استمرار في الانفعال والعطاء، أمر التبرع للمجاهدين واللاجئين من إخواننا الأفغان، فإننا قد تعودنا في السنوات الماضية من معانة إخواننا من محاربة عدو من ألدّ أعدائهم تعودنا أن تزيد جرعة انفعالنا وعطاءنا في شهر رمضان الكريم المبارك، عندما يحين إخراج زكاة المال، عندها ترى المتبرعين يغشون المساجد ويخرجون زكاة أموالهم ويزيد المال الذي يُرسل لسد احتياج إخواننا من لاجئين ومجاهدين. ثم ما نلبث أن نفتر بعد هذا الشهر على مدار السنة وحاجات إخواننا ما تزال قائمة وباقية، إنهم يحتاجون في رمضان وفي غير رمضان، لكن من الأمور التي بُلي بها المسلمون في العصور المتقدمة هذه، أنهم إذا انفعلوا بأمر لم يدم انفعالهم به ولم يستمر إلا يسيرًا وقد أخبرني أحد إخواني الذين يعملون في المسجد الحرام لتوجيه الطائفين والساعين وما إلى ذلك من الذين يغشون المسجد الحرام يوجهونهم ويأمرونهم وينهونهم عما لا يليق ولا يجوز، أخبرني أنه رأى امرأة بريطانية مع زوجها وهما حديثا الإسلام ـ دخلا في الإسلام حديثًا ـ أما المرأة فقد كانت ارتدت رداءًا خفيفًا من فوق الكتفين فتقدم نحوها وهو ممن يحسن اللغة الإنجليزية وأفهمها أن هذا لا يجوز، وعلى المرأة أن تلبس الزي الساتر لعوراتها وأن تكون محتشمة وأن تأخذ على جسمها وعلى نفسها بالثياب التي لا تُبدي شيئًا من جسمها. ولم تكن تعرف ذلك. ثم طلبت منه أن يعطيها الغطرة التي يلبسها على رأسه لتضعها فوق الكتفين، واستجاب وامتثل، فلما انتهت من طوافها تقدم نحو زوجها يطلب منه أن يرد عليه الغطرة، وأجابت المرأة بما يدل على عكس ما نحن عليه الآن من الانفعال بأمر في حين ثم فتور ذلك الانفعال بعد زوال شيء من الوقت أو حين من الزمان.
قالت: أهذا أمر مؤقت (ستر العورة هذا شيء مؤقت) أم هو أمر لازم دائمًا أبدًا، قال: بل هو أمر لازم دائمًا أبدًا. قالت: فدعها لي حتى أشتري الثياب التي تكون ساترة ستر حقيقيًا ثم أعود أنا وزوجي فأردها لك، وعجبت وعجب هو أيضًا، وأظن أن كثيرين سيعجبون. سبحان الله العظيم، الذين يدخلون الإسلام حديثًا، لعل شوقهم وحبهم لهذا الدين وإقبالهم عليه جاء من قبيل أنهم كانوا قبله في ضياع، وكانوا في ظلام وجهل شديد فلما فتحوا على أنفسهم نور هذا الدين أخذوا يقبلون كل ما يسمعون من الأمور التي يعرفون أنها تزيدهم قربًا من الله تبارك وتعالى. لهذا على الدعاة وعلى العلماء أن يتعاهدوا هؤلاء الذين يدخلون الدين من جديد، ولأول مرة بعد عمر طويل قضوه في الشرك والمعاصي، عليهم أن يتعاهدوا هؤلاء لأنهم يعتنقون أول ما يسبق إلى أذهانهم من المعتقدات. ومن الأمور التي يُعلَّمون إياها، لكن الذي أريد أن أُركز عليه هو هذا الأمر العجيب في هؤلاء الناس الذين يفهمون أن الأمر إذا فُهم وإذا عُلم لزمت المحافظة عليه، ولزم الاستمرار في الانفعال به والعطاء إن كان يحتاج إلى عطاء، أو إلى التزام معين.
ويقول أيضًا هذا الأخ الكريم: إن مما استفاده أيضًا من العمل في المسجد الحرام أنه كان يراقب الذين يلتزمون باب الكعبة ويتعلقون به سائلين الله تبارك وتعالى حاجاتهم، وقال: رأيت أكثرهم من غير أصحاب الثراء والأموال والغنى، من الفقراء، وكأن الأغنياء لم يعد لهم حاجة إلى الله عز وجل، واقتربت منهم أريد أن أسمع دعاءهم في هذه الحالة التي تعلقوا فيها بباب الكعبة، يسألون الله بتضرع وذل وخشوع، ماذا يريدون؟ أيريدون الدنيا؟ وليسوا ملومين إن أرادوها فهم فقراء ومحتاجون؟ أم ماذا يريدون؟ قال: فسمعت منهم من يسأل الفقه في الدين، ومن من يسأل العلم النافع، ومنهم من يسأل مزيدًا من التقوى والورع والخشوع والإيمان وذهاب أثر القسوة على قلوبهم، إلى غير ذلك من الأدعية التي ليس فيها شيء متعلق بالدنيا.
ولست اليوم أُناشد أصحاب الثراء والمال والغنى فحسب، بل أناشد كل من كان قادرًا على أن يبذل ولو يسيرًا من المال، فلو أخرج كل واحد منا ريالاً في كل يوم وجمع في كل شهر ثلاثين ريالاً على أن يكون ذلك منتشرًا بين جميع الأخوة المسلمين في هذا البلد وفي غيرها من الأمكان سُدَّ حاجة المجاهدين واللاجئين الذين يحتاجون على الأقل ـ كما قد سمعتم وقرأتم الإحصائيات الواردة عنهم ـ يحتاجون إلى مليوني دولار شهريًا لأجل الخبز فقط، فما ظنك بحاجاتهم إلى ما يتطببون به ويُمرِّضون به المرضى وإلى ما يحتاجون إليه من أجل مياه الشرب وإلى الملابس والثياب والتعليم وغير ذلك مما يحتاجون إليه. الأمر إذن عظيم ومُلح ويا ليتنا نقتصر على شيء يسير ولكنه يدوم يعبر عن صحوة أحاسيسنا وضمائرنا تجاه هؤلاء الإخوان المجاهدين واللاجئين في بلاد الأفغان وغيرها من البلاد المنكوبة المحتاجة إلى بعض ما نحظى به في هذا البلد الأمين.
وقد قرأتم أيضًا واستمعتم أو قرأ بعضهم واستمع إلى أن كثيرًا من البلاد تخلت عن إرسال الأموال التي كانت ترسلها إلى هؤلاء المحتاجين حتى إن لجنة الدعوة الكويتية على سبيل المثال لا الحصر، أصبحت تأتي إلى هذا البلد الذي يُعدَ البلد الوحيد تقريبًا الذي يرسل الأموال للمجاهدين واللاجئين، جاءت هذه اللجنة عن بلدها لتأخذ أموالاً من هذا البلد تستعين به على المشاريع التي تقوم بها نحو المجاهدين واللاجئين، فهل يتخلى هذا البلد أيضًا عن المجاهدين واللاجئين حتى يأتي يوم لا يشعر فيه مسلم بإخوانه هؤلاء الذين يكابدون البرد الشديد إذا أقبل الشتاء، والحر الشديد إذا أقبل الصيف، والعداء المستحكم الشديد من عدو لدود يأبى أن يخرج من هذا البلد إلا وقد صان ماء وجهه، وسوف لن يكتب الله تعالى العزيز الحكيم الذي كتب ليغلبن هو ورسله وجنده وسوف لن يكتب لهم أن يخرجوا من هذا البلد بماء وجههم عما لم يكتب لعدو أبدًا أن يعود من حرب المسلمين وكيدهم والرغبة في القضاء على دينهم ـ أن يخرج سالمًا غانمًا أبدًا, بل يخرج دائمًا كل من رام هذه البلاد المسلمة بسوء، يخرج بماء وجهه وقد أُريق.
الحاصل: أهيب بكم وبجميع المسؤولين أنتم عنهم من أهلين وأولاد، بنات وغلمان، أن يشعر الجميع بهؤلاء الإخوان، وألا يفتر شعورنا تجاههم، وألا يكون الأمر مسألة وقت ننفعل فيه ونعطي، ثم إذا تأخر الدعوة والإرشاد إلى الإنفاق حصل النكوص وحصل الفتور وسوف يكون في هذا المسجد أو على بابه بدءًا من هذا اليوم من يقف بصندوق مفتوح ليلقي فيه المال لعل المار يكون أكثر تشجيعًا للأخوة على البذل والعطاء من الصناديق المغلقة التي في آخر المسجد، لعل هذا الأمر يكون فيه تشجيعًا ويكون فيه حثًا وحضًا على العطاء والبذل، سائلاً المولى عز وجل أن يدوم هذا الأمر دائمًا أبدًا، وأن يكون مأخوذًا في حُسبان كل مسلم مستطيع قد أتاه الله عز وجل ويسر له سُبل المعايش.
(1/1737)
حب الله ورسوله
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ فضل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 ـ العمل بسنته دليل محبته.
3 ـ فائدة محبة الأنبياء والصالحين.
4 ـ الناس يحبون حسب مصالحهم وأهوائهم.
5 ـ مغالطة البعض في الاستدلال بسماح الحكومات لبعض المنكرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بعدة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن لحب الله ورسوله أثرًا عظيمًا على المؤمنين الذين يعملون الصالحات في موافقتهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة وحسن أولئك رفيقًا، وذاك ما يصدقه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي اتفق عليه الشيخان أن رجلاً سأل النبي عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: ((وما أعددت لها)) قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: ((أنت مع من أحببت)) قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ((أنت مع من أحببت)) قال أنس: (فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإلا لم أعمل أعمالهم" فرح المسلمون فرحًا لم يفرحوا مثله بقول النبي : ((أنت مع من أحببت)) وليس في قول الرجل السائل عن الساعة الذي قال له النبي ((ما أعددت لها)) ليس في قوله لا شيء يدل على ترك العمل، وهذا لا بد من التنبيه عليه إذ أصبح فاشيًا بين الناس قوله: "لا شيء" لا يعني أنه يترك العمل لأن الآية الكريمة من سورة آل عمران قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني بحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فحجة على كل من ادعى المحبة ولم يعمل ولم يطع الله ورسوله ، فلو لم يكن عاملاً مدعيًا للمحبة فحسب من غير عمل فخصمه النبي بهذه الآية، ولقال له: أين دليل المحبة لكنه قصد "لا شيء" أنه لم يُعِدَ للساعة عملاً من الأعمال الضخام التي تستوجب ثوابًا عظيمًا هائلاً يوم القيامة، هو عامل من العمال المسلمين يعمل لله تبارك وتعالى عملاً عاديًا فيه امتثال لله تبارك وتعالى، وفيه طاعة يأتمر بما به الله أمر، وينزجر عمّا عنه الله زجر، وليس عنده من الأعمال ما يطمع في أن يستوجب له ثوابًا عظيمًا، هذا الحديث الجليل يؤكد أن حب الله ورسوله يلحق العامل العادي بالمقربين والسابقين والأخيار، ويجعله معهم يوم القيامة كما قال أنس: (فأنا أحب النبي وأبا بكر وعمر رضي الله عنما وأرجو أن أكون معهم) وفي رواية أخرى: (أرجو أن يحشرني الله معهم يوم القيامة وإن لم أعمل أعمالهم) أي وإن لم أعمل مثل أعمالهم العظيمة التي خلدها التاريخ، وما زالت أصداء آثارها ترن في سمع السماء "أنا أرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل أعمالهم فهو حب الله إذًا وحب رسوله ، وينبغي على العبد إذا كان صادقًا في حب الله تبارك وتعالى وحب رسوله أن يحب ما يحب الله تبارك وتعالى، فعليه أن يحب جميع الأنبياء، لأن الله يحبهم وعليه أن يحب كل ما علم أنه مات على الإيمان والتقوى؛ لأن الله يحبهم كالذين شهد لهم الرسول مثلاً بالجنة وكغيرهم من أهل بدر وأهل بيعة الرضوان والصحابة والتابعين من بعدهم، والأئمة الأجلة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وغيرهم، وهم كثير من الأفاضل الأجلاء الذين استفاض عملهم بطاعة الله ورسوله واستفاضت أنباء تقواهم وصلاحهم واستقامتهم وموتهم على الإيمان والتقوى، فالصادق في حب الله تبارك وتعالى يحب ما يحبه الله تبارك وتعالى وهذا هو الحب لله، ولما كان الحب لله أوثق عرى الإيمان فقد قال أنس: "فإني أحب النبي وأبا بكر وعمر" لأن الله تبارك وتعالى يحب النبي ويحب أبا بكر وعمر والصالحين الصادقين من أصحاب النبي ، ويحب من عمل بما أمر به، وانتهى بما نهى عنه، ولكن هناك من يحبون لغير الله تبارك وتعالى، وهذا قطاع كبير كثير عدوه في هذه الأيام، التي أصبحت العلاقات فيها لأجل مصلحة النفوس وحظوظها العاجلة، فأصبحت تجد من يحب العبد لدنيا يصيبها منه، أو لحاجة يقوم له بها، أو لمال يتأكله به، أو لعصبية فيه، ونحو ذلك من الأسباب، وهناك من يحب من الناس أناسًا لأجل أسباب هزيلة لا يقوم لها بنيان ثابت راسخ، فهناك من يحب شخصًا لأجل موافقته له في هواه أيٍّ كان هذا الهوى، يحبه لأجل أنه يوافقه في ذلك الهوى ويبغضه لأجل أنه يخالفه في ذلك الهوى، حب للهوى وبغض للهوى حتى عمم بعض الناس ذلك على العلماء والمشايخ العاملين، فتجده يقول: أنا لا أحب فلانًا من العلماء، ولِمَ يا أخي لا تحبه؟! يقول: لأجل إننا لا نسمع منه إلا كلمة حرام حرام حرام، يقولون في أموال وفوائد البنوك الربوية حرام، يقولون في الجلسات الطيبة التي فيها الطرب الجميل والتصفيق وهو ما يسمى بالموالد حرام، يقولون في الدخان حرام، يقولون في زيارة المقابر والاستشفاع بأهلها حرام، ومن تحب إذًا؟! نحب الذين يقولون إن الدين يسر. وهل من يسر الدين ألا يكون له ضابط ولا قاعدة، ولا قيد، هذا يسر، هذا تفكك، إنّ من يسر الدين أن يستعمل الإنسان في الأمور التي تعن له بصدد الدين أيسر الأمور التي تبلغه تحقيق هذا الأمر المراد من الدين، فمثلاً بعض الناس يقولون عن الذين يحجون في الطائرة إنه ثُمنُ حج، ثُمن أي ليس حجًا كاملاً، وعن الحج بالسيارة إنه ربع حج، هذا ليس بصحيح، فعلى المرء المؤمن أن لا يشدد على نفسه في ذلك، وأن يستعمل الأمور التي تبلغه تحقيق عبادته بأيسر ما يمكن، وكذلك في أمور متعدده لا بد أن يختار المسلم على الأقل لغيره إن لم يكن يريده هو هذا التيسير، عليه أن يختار لغيره الأيسر في الأمور لقول النبي : ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) بقسط وتيسير على النفس وباستعانة بالصلوات بالغدوة في الفجر والروحة الصلاة التي تكون في آخر اليوم والدلجة بالليل شيء من الصلاة في ظلام الليل حيث يكون الدعاء أسمع، عملاً بحديث رسول الله : أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبات)) إذا فلا يحبون العلماء العاملين لأجل إنهم يقولون في بعض الأمور: حرام، وهذا اتباع للهوى لأن كل ما خالف أهواءهم نبذوه وصادموه وقاوموه ولم يقبلوه، وإذا خاصمتهم وناقشتهم، خاصمتهم (أي كنت خصمًا لهم) وأظهرت الحجة عليهم وناقشتهم وبينت لهم لماذا قال العلماء العاملون في هذه الأمور: حرام. عجزوا عن النقاش، وأبرزوا الحجة الأخيرة لهم يريدون إحراجك، يقولون: لو كانت حرامًا لما أذنت الدول الإسلامية بشيوعيها وماذا كان رضى الدول الإسلامية بشيوع المنكرات فيها التي بُلينا بها والتي لم يسلم بلد من بلاد المسلمين من شيوعها، هذه الأمور التي تحدثت عنها آنفًا متى كان رضى الدول دليلاً على حل ما حرم الله تبارك وتعالى؟ لكنه يلجأ إلى ذلك أخيرًا ليحرجك، ماذا نقول إن قال لك لما سحت الدولة؟ هل تقول إن الدولة أخطأت طبعًا ستسكت؛ لأن في ذلك شيئاً ليس محمودًا، وليس أثره طيبًا على القائل بهذه الأمور، أراد إحراجك ولم يرد الحق لكن الله تبارك وتعالى يقول في سورة النساء في الآية التاسعة والخمسين ما يضحد هذه الحجة حيث قال: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] فلم يفرد لأولي الأمر طاعة خاصة بهم فطاعتهم مقيدة بطاعة الله ورسوله ولهذا قال النبي : ((إنما الطاعة في المعروف)) فمن أطاع الله ورسوله كانت له الطاعة، ويقول في الآية التاسعة والخمسين في آخرها والتسعين من سورة النحل: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى? لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى [النحل: 90] الله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ونحتج على الدخان والمجلات الخليعة وغير ذلك من الأشياء بسماح الدولة بها، لا، لا، وكلا، وألف كلا، ولكننا نسأل الله أن يرد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ردًا جميلاً، أمّا الحقّ فهو معروف، وقد صرَّح به العلماء العاملون ـ رحمهم الله ـ تبارك وتعالى، وبارك فيهم ـ ، وأكثر منهم على مرَّ الزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها ولكن فَمَا لِهَؤُلاء ?لْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء: 78] فَمَا لَهُمْ عَنِ ?لتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ?لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ?لأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ?لأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم: 39، 40] غرتهم الدنيا وركنوا إليها ورفضوا وقاوموا كل ما يصادم أهواءهم، لماذا؟ وكم تدوم هذه الدنيا لكم ألا توقنون بيوم تقفون فيه موقفًا مهيبًا روى فيه البخاري عن أبي هريرة وغيره أن النبي قال: ((يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا)) عرق غزير يسيل من أبدانهم حتى يكاد يغطي رؤوس البعض حسب الأعمال في هذا اليوم المهيب، لأن الشمس دنت من الرؤوس والحر شديد والهول هول القيامة الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، ألا يفكر هؤلاء في كل هذا، ويقبلون على نفوسهم تأديبًا وكبحًا لما جاء من كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله ، أما هؤلاء العلماء فصدق قول الإمام أحمد رحمه الله فيهم، قال: "ينفون عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تأئهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم" يبصرونهم بالحق ويأخذون بأيديهم إلى الحق، ويعود إليهم من الشتم ومن السباب من الناس أرباب الهوى ما لا حصر له ولا عد، أيها الناس اسمعوا قول الله تعالى في الدنيا التي غرت، التي أغرت في سورة فاطر، وفي سورة لقمان وفي غير ذلك من السور: يأَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [فاطر: 5] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1738)
خطبة عيد الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ حديث عن النار وأهوالها.
2 ـ وصف مسهب للجنة ومنازلها ونعيمها.
3 ـ دعوة للاستقامة على الأعمال الصالحة بعد رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد تولى شهر الصيام والقرآن، وأقبل العيد الذي لا يشعر بفرحته إلا المؤمنون، الذين بادروا إلى امتثال أمر الله تعالى بصيام شهر رمضان والعمل بما ندبهم إليه رسول الله من قيام لياليه، فالمؤمنون اليوم فرحون بفطرهم، وإذا لقوا ربهم فرحوا بصومهم، لقد كان المؤمنون على مدى أيام ذلك الشهر الكريم ولياليه يسارعون وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]. صاموا أيامه وقاموا لياليه يسارعون بذلك إلى مغفرة من ربهم للذنوب التي توبق مرتكبها في النار، ويسارعون بذلك أيضًا إلى الجنة التي من زحزح عن النار وأدخلها فقد فاز، أما النار التي هربوا منها فقد جاء في وصفها آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل تخوف وتحذر منها، منها قوله تعالى في سورة التحريم: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] وجاء فيها من حديث رسول الله ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من جهنم)) فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، إن كانت هذه لكافية فقال عليه الصلاة والسلام: ((ولكنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا)) [1].
وأما الجنة التي سارع المؤمنون إليها فقد جاء في وصفها كذلك آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل، ترغب فيها وتدعو إليها، منها: قوله تعالى خطابًا للمؤمنين يوم القيامة ـ كما في سورة الزخرف ـ : ?دْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْو?جُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَـ?فٍ مّن ذَهَبٍ وَأَكْو?بٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ?لأنْفُسُ وَتَلَذُّ ?لأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَـ?كِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف:70-73].
وجاء فيها من حديث رسول الله ما أخرجه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي قال: ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) [2].
وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودع فيها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص، فإن سألت عن أرضها وتربها فهي المسك والزعفران، وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن، وإن سألت عن ملاطها [3] فهو المسك الإذفر، وإن سألت عن حصبائها فهو اللؤلؤ والجوهر، وإن سألت عن بنائها فلبنة من فضة ولبنة من ذهب، وإن سألت عن أشجارها فما فيها من شجرة إلا وساقها من الذهب والفضة لا من الحطب والخشب، وإن سألت عن ثمارها فأمثال القلال ألين من الزبد وأحلى من العسل، وإن سألت عن ورقها فأحسن ما يكون من رقائق الحُلل، وإن سألت عن أنهارها أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لّلشَّـ?رِبِينَ وَأَنْهَـ?رٌ مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد:15]. وإن سألت عن طعامهم وَفَـ?كِهَةٍ مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ [المعارج:20، 21]. وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور، وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير، وإن سألت عن سعة أبوابها فما بين المصراعين مسيرة الأربعين من الأعوام، وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها فإنها تستفز بالطرب لمن يسمعها، وإن سألت عن ظلها ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها، وإن سألت عن سعتها فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألفي عام، وإن سألت عن خيامها وقبابها فالخيمة الواحدة من درة مجوفة طولها ستون ميلاً من تلك الخيام، وإن سألت عن علاليها وجواسقها فهي غرف من فوقها غرف تجري من تحتها الأنهار، وإن سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار، وإن سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب، وإن سألت عن فرشها فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرتب، وإن سألت عن أرائكها فهي الأسرة عليها الخشخانات وهي الحجال مزررة بأزرار الذهب، فما لها من فروج ولا خلال، وإن سألت عن وجوه أهلها وعن حسنهم فعلى صورة القمر، وإن سألت عن أسنانهم فأبناء ثلاث وثلاثين على طول آدم عليه السلام أبي البشر وصورة يوسف عليه السلام، وإن سألت عن سماعهم فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى من سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما خطاب الله رب العالمين، وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها فالنجائب إن شاء الله مما شاء تسير بهم حيث شاءوا من الجنان، وإن سألت عن حُليهم وشاراتهم فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس وملابس التيجان، وإن سألت عن غلمانهم فولدان مخلدون كأنهم لؤلؤ مكنون، وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم فهن الكواعب الأتراب التي جرى في أعضائهن ماء الشباب فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ المنظم ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عليه القصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت.
هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد. ورؤية وجهه المنزَّه عن التشبيه والتمثيل كما ترى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، وهذا تشبيه رؤية برؤية، لا تشبيه مرئي بمرئي كما تُرى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد [4].
إن سألت عن ذلك كله فاستمع يوم يناد المناد: يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحي على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم فيستوون على ظهورها مسرعين حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدًا وجمعوا هنالك فلم يغادر الداعي منهم أحدًا. أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنُصب هناك. ثم نصبت لهم منابر من لؤلؤ ومنابر من نور، ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة وجلس أدناهم وحاشاهم أن يكون فيهم دني على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا حتى إذا استقروا في مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو؟! ألم يُبيض وجوهنا ويُثقل موازيننا، ويُدخلنا الجنة ويُزحزحنا عن النار! فبينما هم كذلك إذا سطع لهم نور أشرقت له الجنة فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم، فلا تُرد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة. فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة، أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي. هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف لهم الرب جل جلاله عنه الحجب ويتبدى لهم فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا. ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلا حاضره ربه تبارك وتعالى محاضرة حتى إنه ليقول: يا فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا، يذكره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا رب، ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجين بالصفقة الخاسرة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى? رَبّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22-25].
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونُسلّم
أقول قولي هذا...
[1] صحيح، صحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها – باب في شدة حر نار جهنم... حديث (2843)، وأخرجه أيضاً البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة النار... حديث (3265).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة... حديث (3250).
[3] الملاط: هو الطين الذي يُجعل بين اللبنتين، لسان العرب [ملط].
[4] انظر طرفاً من ذلك في: صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق – باب ما جاء في صفة الجنة...، وصحيح مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب حدثنا سعيد بن عمرو والأشعث، وباب: إن في الجنة شجرة...، وباب: إحلال الرضوان على أهل الجنة...، وباب: ترائي أهل الجنة...، وباب: في سوق الجنة... وسنن الترمذي: كتاب صفة الجنة، وسنن أبي داود: كتاب السنة، باب: في الحوض، وسنن ابن ماجه: كتاب الزهد – باب: صفة الجنة وغيرها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أهله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنكم أيها الأخوة المسلمون قد ودعتم بالأمس شهر رمضان واستقبلتم اليوم العيد، فلا تودعوا بوداعكم شهرَ رمضانَ الصيام وقيام الليل وقراءة القرآن والإحسان والبر وسائر أعمال الخير. لا تودعوا هذه الأعمال بوداعكم لهذا الشهر الكريم، واعلموا أن وراءكم صيام أيام قال فيهن النبي ما يقتضي أنها لو أضيفت إلى شهر رمضان عدلت صيام الدهر كله، قال فيما أخرجه أصحاب السنن عن أبي أيوب رضي الله عنه عن النبي : ((من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله)) [1] فاحرصوا على صيامها واحرصوا بعدها على صيام الأيام المسنونة عن رسول الله : كصيام الأيام البيض، والاثنين والخميس، وغيرها، واجعلوا من قيامكم ليالي شهر رمضان توطئة لتعودكم على قيام الليالي في بقية الشهور. واجعلوا من قراءتكم لكتاب الله تعالى صباحًا ومساءً منطلقًا للعزم على دوام تلاوته وتدبره وفهمه والعمل به واجعلوا من اعتيادكم الإحسان والبر سببًا لاستدامة سائر أعمال الخير التي كنتم عليها حريصين. دوموا على ما تعودتم عليه في هذا الشهر الكريم إلى سابق العهد فإنه كثيرًا ما يحل بنا هذا الشهر الكريم ونحن نعزم عزمًا أكيدًا فيما بيننا وبين ربنا على أن نُصلح وعلى أن نتوب وعلى ألا نرجع إلى ما كنا عليه عاكفين من المعاصي ولكن ما إن يبعد العهد بشهر رمضان حتى تعود النفوس إلى سابق عهدها من التكاسل والتواكل بل والوقوع مرة أخرى إلى سابق المعاصي والمخالفات، فإياكم وإياها أيها الإخوة المسلمون واعزموا على توبة نصوح أكيدة لا عودة بعدها أبدًا إلى الضلال والمعاصي واتقوا الله راقبوه في سركم وعلانيتكم فإن ربكم الذي أقبلتم على طاعته في شهر رمضان هو حري أن يُتقى ويُستغفر وأن يُناب إليه، وأن يُحب وأن يقبل عليه في سار العمر لا في شهر رمضان فحسب، إياكم وهذه العادة التي أصبحت فاشية في كثير من المسلمين إلا من رحم الله، لهم حالٌ في شهر رمضان ليسوا عليه في بقية الشهور.
وأما العيد الذي استقبلتموه فتواصلوا فيه وتزاوروا وتراحموا وتصالحوا، وأولى الناس منكم بالتواصل والتزاور أولو الأرحام كما أخرج صاحبا الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره وأجله فليصل رحمه)) [2] ماذا يفعل؟ ((فليصل رحمه)) من أراد أن يبسط له في الرزق ويوسع عليه وأن يبارك له في عمره وأجله فليصل رحمه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وأن يوفقنا فيما نأتي وندع من الأمور، وأن يرزقنا الإخلاص في جميع الأمور من الأقوال والأفعال والأحوال والأعمال، وأسأله عز وجل أن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأن ينصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيله تعالى في كل مكان. وأن يشفي مرضانا ويرحم موتانا، وأن يختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. آمين إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم وبارك وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[1] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب الصيام – باب استحباب صوم ستة أيام... حديث (1164).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب البيوع – باب من أحب أن يٌبسط له... حديث (2067)، صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم... حديث (2557).
(1/1739)
غض البصر
الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, فضائل الأعمال
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الإسلام يهدف إلى إقامة المجتمع النظيف الطاهر.
2 ـ صورة التردي في المجتمعات البشرية وآثاره على الشعوب المختلفة.
3 ـ النصوص تأمر بغض البصر وحفظ الفرج.
4 ـ أمر النساء أيضًا بغض البصر كما أمرن بإخفاء الزينة
5 ـ حكم كشف الوجه.6 ـ محارم المرأة الذين يجوز أن تظهر أمامهم بزينتها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون، واعلموا أن الله تبارك وتعالى أمركم بالعمل بأمور يصلح العمل بها أحوالكم، ونهاكم عن فعل أمور صيانة لكم عما يفسد أحوالكم، وعن ما يقطع أواصر المحبة فيما بينكم.
فإن العبد إذا لم يعمل بأوامر الله تبارك وتعالى وتعدى الحدود التي أمره الله ألا يتجاوزها لم يكن له هم إلا إشباع شهواته، وإزاحة كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين أطماع نفسه من شهواتها من طريقه.
وقد كان أدب الاستئذان آخر ما مَرّ بنا، أدب الاستئذان على البيوت، ولما كان أدب الاستئذان توطئة لأدب النفوس وصيانة لها عن التعرض لما يفسدها ويثير كوامنها، كان لزامًا علينا أن نتبعه بالكلام على الآيتين التاليتين الكريمتين، فالقرآن الكريم بعد أدب الاستئذان على البيوت، وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب الفتنة العابرة يأخذ على الفتنة الطريق، حتى لا تنطلق من عقالها بدافع النظر إلى مواضع الفتنة، وبدافع الحركات المعبرة الداعية إلى الغواية.
يقول الله تبارك وتعالى في الآية الثلاثين والحادية والثلاثين من سورة النور ـ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ : قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 30، 31].
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينتهي، والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج السعار الحيواني المجنون، وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد، وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة عن الكبح بعد الإثارة، وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون إنشاء هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري بين الجنسين سليمًا على قوته الطبيعية دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف، ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة والحديث الطليق والاختلاط الميسور والدعابة المرحة بين الجنسين والإطلاع على مواضع الفتنة المخبؤة؛ تنفيسٌ وترويح وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت والعقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي لما يكون وراءه من اندفاع غير مأمون إلى آخره.
شاع هذا على إثر بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان، والرجوع به إلى الخاصية الحيوانية الغارقة في الطين، وخاصة نظرية فرويد، ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، شاهد المنصفون بأعينهم في أشد البلاء إباحيةً وانفلاتًا من جميع القواعد الاجتماعية والدينية والإنسانية ما يكذّبها وينقضها من الأساس "نظرية كاذبة" منقوضة من الأساس، نعم شاهِدوا في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي بكل صوره وأشكاله،إن ذلك كله لم ينتهي بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها أبدًا، إنما انتهى إلى سعار حيواني مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والإندفاع، شاهدوها بوفرة ومع الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة للإختلاط الكامل الذي لا يتقيد بقيد، ليحذر المسلمون، ليحذروا، زعموا أن ذلك يفي براحة الإنسان وراحته النفسية، كان من جراء ذلك أن ظهرت الأمراض النفسية والعقد، ومحاولات الانتحار بكثرة، والمستشفيات يغشاها من أصحاب هذه الحالات الكثيرون، ثمرةً مباشرة للاختلاط الذي لا يتقيد بقيد، وللصداقات بين الجنسين، تلك التي يباح فيها كل شيء، وللأجسام العارية في الطريق، والحركات الكثيرة، والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ يأمر الله أتباعه المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي حسن صحيح، وفي بعض رواياتهم فقال: ((أطرق بصرك)) يعني: انظر إلى الأرض، قال ابن كثير رحمه الله: "والصرف أعم؛ فإنه قد يكون إلى جهة الأرض وإلى جهة أخرى"، وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال رسول الله : ((إياكم والجلوس في الطرقات)) قالوا: يا رسول الله، لا لبد لنا من مجالسنا نتحدث فيها. قال: ((إن أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)).
قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ هذا أمر بحفظ الفرج، وهو من صفات المؤمنين في سورة المؤمنون والمعارج وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج: 29، 30] ثم أخبر أن من يتجاوزون ذلك ـ الأزواج وما ملكت اليمين ـ أنهم هم العادون، المعتدون: الذين تجاوزوا ما أمرهم الله تعالى ألا يتعدوه، ولا يتجاوزوه، ويحفظوا فروجهم، روى الإمام البخاري أن النبي قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) اللسان والفرج.
وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ أي: ذلك أزكى لقلوبهم إن حفظوا أبصارهم، وحفظوا فروجهم، ذلك أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورًا في بصيرته، ويروى: في قلبه. روي عن أبي أمامة وابن عمر وحذيفة وعائشة مرفوعًا وأسانيدها فيها ضعف.
ثم نأتي بعد ذلك إلى قول الله تعالى في نهاية الآية إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ونعمت الخاتمة، إن الله يعلم سركم وجهركم فراقبوه في السر والعلانية فإنه لا يخفى عليه من حالكم خافية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
ثم يقول الله تبارك وتعالى آمرًا النساء المؤمنات: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ يأمر الله تبارك وتعالى النساء المؤمنات بغض الأبصار غيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتميزًا لهن عن صفة نساء أهل الجاهلية وفعال المشركات، يأمرهن بغض البصر عما حرم عليهن من غير الأزواج وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ويأمرهن كما أمر الرجال بحفظ الفروج عن الفواحش، وعما لا يحل لهن وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال ابن مسعود: إلا ما ظهر منها كالرداء والثياب، هذا يعني على ما كان يتعاطاه نساء الجاهلية من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، الزينة التي تظهر من أسفل الثياب لا زينة الأجساد؛ لأن الزينة هو كل ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء، وهذا مما يصلح لدفع القول بأن الزينة هي الوجه والكفان كما سنعلم، فلا حرج عليها فيما يبدو من أسافل الثياب، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، فهذا لا حرج عليها فيه، قاله ابن مسعود وتابعه عليه الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وأما قول ابن عباس: "إن الزينة الظاهرة: الوجه والكفان والخاتم" فقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "يحتمل أن يكون هذا للزينة التي نُهينا عن إبدائها؛ لأن الآية ذكرت الزينة مرتين، في أول الآية وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا والمرة الثانية: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ قال: فيُحتمل أن يكون هذا تفسيرًا لابن عباس في الزينة الثانية التي نهيت يقال: إن أبا داود مُخرج الحديث وأبا حاتم الرازي قالا: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والحديث قال فيه الإمام أبو داود بسنده: حدثنا يعقوب ابن كعب الأنطاكي ومؤمل ابن فضل الحراني قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: ((يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا)) وأشار إلى وجه وكفيه. قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والمرسل قسم من أقسام الضعيف، فهذا حديث من الأحاديث التي احتج بها أهل القول بجواز كشف الوجه مستبين من أقوال العلماء وردودهم في الجمعة القادمة إن شاء الله وقدر في الكلام على الحجاب ما في هذه الأحاديث وكيف ردت، وردوها ولم يسّلموا بصلاحيتها للحجة.
ثم قال الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ الخُمُر: جمع خمار، وهو ما يغطى به الرأس، أمر الله تبارك وتعالى المؤمنات أن يسترن صدورهن وترائبهن بالخمر، ولا يتشبهن بنساء أهل الجاهلية فقد كانت المرأة فيهم تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا تواريه، وربما أظهرت عنقها وذوابئها وأقراط آذانها، فنهى الله النساء المؤمنات عن التشبه بهن، وأمرهن أن يستترن في جميع أحوالهن. كما قال في الآية السابعة والخمسين من سورة الأحزاب"
يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59] وقال هنا: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ ثم قال: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أي للأزواج يبدين الزينة الثانية التي أُمرن بألا يبدينها إلا للأزواج والمحارم يبدينها للأزواج مقدمة من يسمح لها بكشفها لهم فإن الأزواج لهم كل ذلك، وكل ذلك من أجلهم، وتتصنع المرأة بما شاءت لهم بما لا يجوز في حضرة غيره.
ثم قال: أَوْ ءابَائِهِنَّ وذكر المحارم آباء النساء وآباء أزواجهن وأبنائهن وأبناء أزواجهن والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات. كل هؤلاء محارم للمرأة، يجوز لها أن تظهر عليهن بزينتها، ولكن من غير تبرج.
ثم بعد ذلك أَوْ نِسَائِهِنَّ يجوز به أن تظهر المرأة زينتها للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة الكافرات من اليهوديات والنصرانيات، وغيرهن من المجوسيات؛ لأن الرسول قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)).
فإن النساء المسلمات يعلمن أن ذلك حرام فينزجرن عنه، وأما نساء أهل الذمة فليس عندهن ما يمنعهنّ من وصف نساء المسلمات لأزواجهن الكفار ونعتهن لهم.
ثم قال الله تبارك وتعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ من الرقيق، قال ابن جرير: الأمة المشركة. وقال آخرون: من الرقيق رجالاً ونساءًا؛ لأن الرجال إذا كانوا عبيدًا أرقاء لا تقطع همتهم إلى سيداتهم والأول أولى؛ لأن الرقيق يشترك مع الأحرار فيما عندهم من الميل الفطري إلى النساء.
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ هؤلاء من الذين لا يميل لهم ولا همة لهم إلى النساء بسبب الجبّ، أي: الخصاء والعُنّة؛ والبلاهة والجنون وسائر ما يمنع من اشتهاء الرجل للمرأة. وعليها مع ذلك بالرغم من أنه لا حرج عليها إذا بدت زينتها لهؤلاء فعليها مع ذلك أن تحتاط، وألا تتبرج لأن الإمام أحمد والشيخين رووا عن أم سلمة رضي الله عنها أنه كان عندها مخنث، وهو ممن لا همة له إلى النساء وأخوها عبد الله بن أبي أمية ودخل رسول الله فسمع النبي ذلك المخنث يقول لعبد الله: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدًا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. إذن بالرغم من أنه مخنث إلا أنه يفهم ويفرق بين الشوهاء والحسناء. فقال النبي في حالة هذا الرجل الذي كانوا يعدونه من غير أولي الإربة قال: ((لا يدخل هذا عليك)) أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء يعني لصغرهم فإنهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهم من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن. فإذا كان الطفل صغيرًا فلا بأس في دخوله على النساء، فإذا كان مراهقًا أو قريبًا منه أو يفرق بين الشوهاء والحسناء ويفهم ذلك ويعرفه ويدريه، وتطلع على ذلك من خلال كلامه وحركاته فلا يُمَكّن من الدخول على النساء.
كل ذلك صيانة لنا من الله تبارك وتعالى عن الوقوع في حبائل الفتنة واتقاءً لأسبابها.
ثم قال للنساء: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا مشت في الطريق وفي رجلها خلخال لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجل طنين، فنهيت المرأة المؤمنة عن مثل ذلك. ويدخل في هذا النهي إن كان شيئًا من زينتها مستورًا ثم تحركت ليعلم وليسمع صوته لقوله تعالى: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ثم قال الله تبارك وتعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا ما أمركم الله به من هذه الصفات الجميلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمركم الله ورسوله به وترك ما نهاكم الله ورسوله عنه وبهذا يرد القرآن القلوب كلها إلى الله ويفتح لها بابًا للتوبة بهذه الخاتمة ليتوبوا مما ألموا به قبل نزول هذا القرآن أو قبل العلم بما في هاتين الآيتين. يفتح لهم بابًا للتوبة. وبذلك يشير حساسية لرقابة الله تبارك وتعالى في السر والعلانية، وعطفه على خلقه وعونه للبشر في ضعفهم أمام هذا الميل الفطري العميق الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله وبتقواه.
(1/1740)
عيد الأضحى
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعمال يوم الحج الأكبر. 2-نعم الله الكثيرة تستوجب الشكر. 3-الحذر من المنكرات التي تستنزل العذاب وزوال النعمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً.
عباد الله: إن هذا اليوم هو يوم الحج الأكبر، فهو الذي تتم فيه أكثر أعمال الحج كرمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق وطواف الإفاضة، وهو أيضا عيد الأضحى، أحد عيدي المسلمين، وفيه يذبح المسلم القادر أضحية خالية من العيوب، يسفك دمها بعد صلاة العيد تقرباً إلى الله، وإقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن لم يتسر للمسلم أن يذبح يوم العيد، فله الفرصة طيلة أيام التشريق، وهي الأيام الثلاثة التي تلي العيد، وهي أيام أكل وشرب وذكر الله كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، ويحرم صيامها إلا لمن حج ولم يجد الهدي.
عباد الله: إن الله تعالى هو الجواد الكريم، الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وقد سرت العادة أن من أسدى إليك معروفاً أن تشكره، فكيف لا تشكر الله وأنت قلبك لا يخفِق إلا بإذنه، ونفسُك لا يتردد في صدرك إلا بإذنه، وبصرُك لا ينطلق إلا بإذنه، أليس هو تعالى أحق بالشكر؟
ونعم الله كثيرة، كما قال تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. ولقد أمرنا ربنا عز وجل بالشكر كما أمر أنبياءه بذلك، وأخبر تعالى أن أكثر الناس لا يشكرون، يقول تعالى: ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الشاكرين، فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟)).
عباد الله: إن شكر الله حق في رقابنا للمنعم المتفضل تعالى، وأقل القليل هو أن نظهر هذا الشكر ونشيعه بين الناس، ونتواضع لله الذي فضلنا على كثير من خلقه، يجب علينا إظهار شكرنا لله تعالى في الخلاء وبين الملأ، لأن ذلك يذكر الناس بربهم ونعمه، فلعلهم ينتابهم شيء من الحياء والخجل من ربهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله)).
والله تعالى بتكليفه لنا شكره بالقلب واللسان والجوارح، لم يكلفنا ما لا نطيق، فيكفي لكي تشكره بقلبك أن يخفِق قلبك بالثناء عليه فتقول مناجياً معترفاً بنعمه: ربي أصححت جسدي وما أكثر الأسقام في الناس، أحييتني لعبادتك والمقابر مليئة بالموتى، هديتني للحق والإسلام، وأكثر البشر كالأنعام بل هم أضل، أغنيتني من فضلك وكم من معدم فقير، عافيتني في جسدي ومالي وأهلي وديني، وكم من مبتلى، رزقتني السمع والبصر والفؤاد فلك الحمد حتى ترضى.
وإن حقيقة الشكر أن نفعل ما أمر الله وأن نجتنب ما نهى الله عنه، لأن الذي يستعمل نعمة الله في معصيته فذلك هو أكبر الجحود والكفر بالنعمة، فما شكر الله من أعطاه الله المال فأنفقه في معصيته، وما شكر الله من رزقه الصحة فأتلفها بمسكر أو مخدر أو دخان، وما شكر الله من كان عنده زوجة جميلة، ولم يأمرها أن تغطي وجهها ومفاتنها عن أعين المسلمين، وما شكر الله تعالى من رزقه الله ولداً، فما زال يمده بالمال ويعينه على السفر، ويسهل له وسائل الفساد حتى أغرقه في مستنقع الانحراف والرذيلة، وما شكر الله من يسمع المؤذن ينادي للصلاة وهو يرى الناس يمشون إلى المسجد ومع ذلك هو يتولى معرضاً عن الصلاة مع المسلمين، وما شكر الله من رزقه سمعاً وبصراً، فهو يسمع الحرام وينظر إلى الحرام، فهؤلاء ما شكروا نعمة الله عليهم.
ولقد توعد الله من كفر بالنعمة بالعذاب، وتعهد بالزيادة لمن شكر، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. ولعل ما نحن به من قحط واحتباس المطر بسبب ذنوبنا التي بلغت عنان السماء، فاللهم عرفنا نعمك بدوامها علينا، ولا تعرفنا إياها بالزوال.
عباد الله، إنه ما من أمة تركت إنكار المنكر إلا سلط الله عليها صنوفاً من العذاب والذل والمهانة الذي لا يرفعه عنها حتى تراجع دينها، ولقد أصبحنا نرى المنكرات وقد أخرجت رأسها، وقل أن نرى من ينكرها ويحتسب عند الله تعالى، فأصبحنا نرى النساء يعملن في المستشفيات بل وفي بعض الشركات، سافرات متبرجات يختلطن بالرجال ويعملن معهم، وأصبحت البنوك الربوية تعلن صراحة عن قروضها الشخصية الربوية في كل مكان بدون وجل ولا خجل، وصارت الدشوش في كل بيت تقريباً، وكَثُرَت محلات بيع الأغاني والأفلام، وكلها أمور محرمة، أدت إلى انتشار الزنى واللواط والعنف والجريمة بين الشباب خاصة وبين الناس عامة، وكل ذلك بسبب تركنا إنكار المنكر، حتى كاد المنكر أن يدخل بيوتنا، ولقد تهددنا نبينا صلى الله عليه وسلم فقال: ((مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجيب لكم)) ، وكم ندعو الله تعالى أن يفرج هم المسلمين وأن ينصرنا على أعدائنا وأن يصلح ذريتنا وأن يسقينا الغيث، ولكن الدعاء محجوب لا يرفع إلى السماء بسبب تركنا إنكار المنكرات، ولقد بشر نبينا صلى الله عليه وسلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بأن من أمته من يُعطى مثل أجور الصحابة وذلك بإنكارهم المنكر، فهل ننكر المنكر في أسواقنا وبيوت معارفنا وفي كل مكان نمر به كي يرفع الله عنا سخطه؟
عباد الله: يجب أن لا تنسينا فرحتنا بالعيد واجبات فرضها الله تعالى وحدوداً حدها الله تعالى، فما ينبغي للمسلم أن يترك الصلاة مع الجماعة وهو يعلم أن الله هو الذي أوجبها عليه، ولا يجوز ما يفعله الكثيرون من اختلاط النساء بالرجال الغير محارم في الزيارات للمعايدة أو لتناول الطعام، ولا ينبغي إهدار الأموال وحرقها تحت مسمى الفرح واللعب، فكم من أموال ترمى في الملاهي وتحرق في المفرقعات النارية، وإخواننا في الشيشان يبادون ويشردون ويضطهدون، وهم يستغيثون بإخوانهم المسلمين، ولكن لا حياة لمن ينادون، لأننا مشغولون بشهواتنا وملذاتنا، وبجمع المال من أجلها، وأهملنا الجهاد ونصرة المسلمين، فهل نظن أن الله لن يسألنا عن هذه الأموال من أين اكتسبناها وفيما أنفقناها؟
إن الكثيرين منا قد عششت الأحقاد والضغائن في قلبه، وفرخت قطيعةً للرحم وتعاسةً ونكداً، أفلم يأن لقلوبنا أن تصفح وتسامح وتغفر؟ أليس الوقت مناسباً لوصل ما انقطع من أرحام وإصلاح ما فسد من وشائج الصداقات والقربى؟ فلنستغل فرصة العيد ولنكن نحن أول من يبدأ بالسلام، لعل الله أن يدخلنا جنته بهذا العمل الصالح.
يا معشر المؤمنات، ما قيل للرجال يقال لكن، لأنكن شقائق الرجال كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم، فاشكرن نعمة الله عليكن بالقلب واللسان والجوارح، واحمدن الله تعالى على نعمة الأمن والعافية، فقد عافانا من فيضانات أصابت غيرنا ومن تشريد وتقتيل قد وقع واستحر بإخواننا في الشيشان وكشمير وفلسطين، وعليكن بإنكار المنكر في الأسواق والمستشفيات والأفراح والمدارس، فالمرأة تستطيع الإنكار على النساء أفضل من الرجال، وعليك يا أمة الله أن تتأكدي من أداء زوجك وأبنائك الصلاة في المسجد حيث أمر الله تعالى، واجتهدي في تطهير بيتك من وسائل الإفساد كالدش وآلات اللهو والمعازف، فإن هذا أهم بكثير من محافظتك على صحة أولادك ودراستهم، إذ ليس بعد مصيبة الدين مصيبة، وتأكدي من إخراج التماثيل والتصاوير من بيتك، وعدم وجودها على ملابس أبنائك، لأن الشياطين تحل في المكان الذي لا توجد فيه الملائكة، وعليك أيتها المؤمنة بالإكثار من سماع الأشرطة الإسلامية وقراءة الكتيبات التي تزيد في إيمانك وترسخ عقيدتك، وتكون لك حصناً حصيناً من شبهات العلمانيين ودعاة التحرر من الإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1741)
سعد بن معاذ
سيرة وتاريخ
تراجم
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
24/2/1422
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إسلام الأوس بدعوة سعد إياهم. 2- زيارة سعد مكة بعد إسلامه. 3- حكم سعد في يهود بني قريظة. 4- موقف لسعد قبيل بدر. 5- سعد من أهل الجنة. 6- ضمة القبر. 7-عبرة وعظة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن القارئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، ليجد فيها البلسم الشافي والقدوة الحسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وإن من سادة الأنصار الذين نصروا الله ورسوله: سعد بن معاذ، وهو سيد الأوس، أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعام تقريباً، فلما أسلم وقف على قومه فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأيمننا نقيبة، فقال: فإن كلامكم علي حرام، رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما بقي رجل ولا امرأة في دار بني عبد الأشهل إلا وأسلموا، فكان من أكثر الصحابة بركة على قومه رضي الله عنه.
وكل داعية لله ينبغي عليه أن ينهج نهج سعد رضي الله عنه، لأن قوم سعد لم يسودوه عليهم لماله أو لجاهه وسلطانه، إنما سودوه لأنه كان أرجحهم عقلاً وأسدهم رأياً، أحبوه لأنه كان قوياً من غير عنف، ورحيماً من غير ضعف، استجابوا له لأنهم عرفوا صدقه معهم وحبه للخير لهم، وهكذا ينبغي على كل داعية لأهله أو جماعته أو قومه أن يغرس فيهم حبه وأن يلمسوا صدقه ورغبته الصادقة في إسدائهم المشورة والرأي السديد، وأنه لا يريد علوا في الأرض ولا تسلطاً، إن يريد إلا الإصلاح ما استطاع.
وسعد رضي الله عنه كان قوياً ذا عزة ومنعة في الجاهلية، وزاده الإسلام عزة ومنعة، جاء في صحيح البخاري أن سعداً ذهب إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف، وكان أمية ينزل على سعد إذا مر بالمدينة لتجارته بالشام، فقال له: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس طفت، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل، فقال من الذي يطوف آمناً؟ فقال: أنا سعد، فقال أتطوف آمناً وقد آويتم محمداً وأصحابه؟ قال نعم، فتلاحيا، فقال أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي، فقال له: والله لو منعتني لقطعت عليك متجرك بالشام، فردد عليه أمية مقولته، فغضب سعد وقال: دعنا منك فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، فقال أمية:إياي؟ قال نعم، فقال والله ما يكذب محمد، فقتله الله تعالى في بدر.
شهد سعد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، ورُمي يوم الخندق في أكحله بسهم، فنزف منه شهراً ثم مات شهيداً في السنة الخامسة، وكما هو معروف فإن غزوة الخندق قامت فيها قريش وغطفان بمعاونة يهود بني قريظة بمحاصرة المسلمين في المدينة، فلما هزم الله تعالى الأحزاب، دعا سعد بن معاذ ربه أن لا يمته حتى تقر عينه من بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله تعالى، فتوقف جرحه عن النزيف، فما قطرت منه قطرة، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليحكم في بني قريظة، كما طلبوا هم من النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم سعد فيهم أن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى نساؤهم وأطفالهم، فلما قُتل رجال بني قريظة وكانوا أربعمائة، استجاب الله دعاءه فانفتق عرقه ومات رضي الله عنه.
كانت له في الإسلام مواقف عظيمة كثيرة، فمن ذلك عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأنصار في الخروج من المدينة لقتال المشركين في بدر، لأن النبي عليه الصلاة السلام خشي أن ترى الأنصار أنه لا يجب عليهم نصرته خارج المدينة، فقال: ((أشيروا علي أيها الناس)) ، فقام أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو فقالوا خيرا وأحسنوا، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((أشيروا علي أيها الناس)) ، فقال سعد: والله كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل، فقال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصُبر في الحرب، صُدق عند اللقاء، لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ على بركة الله، فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ونشطه ذلك.
وسعد ابن معاذ في الجنة، إذ أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، والحديث في الصحيحين عن أنس، فتعجب الصحابة من لينه ونعومة ملمسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتعجبون من لين هذه؟ والذي نفسي بيده لمناديل سعد بالجنة خير من هذا)) ، وروى النسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألف من الملائكة،لقد ضُمَّ ضمة ثم فرج عنه)).
قال الذهبي رحمه الله: وليس هذا الضغط من عذاب القبر في شيء، بل هو من روعات المؤمن كنزع روحه، وكألمه من بكاء حميمه، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه، وكروعته يوم الموقف وساعة ورود جهنم، كأنك يا هذا تظن أن الفائز لا يناله هول في الدارين، ولا روع ولا ألم ولا خوف؟ سل ربك العافية، وأن يحشرنا في زمرة سعد، أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، عباد الله، إن الشهيد لا يُعذب في قبره، وسعد بن معاذ شهيد، ومع ذلك فقد ضم عليه في قبره ثم فُرج عنه، وهو من هو في الإسلام، فكيف بحالنا نحن في قبورنا؟ لقد جاء في الحديث المتفق على صحته أن المنافق يضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله، فما حال آكلي أموال الناس بالباطل والمتعاملين بالرشاوى والربا؟ وما حال المغنين والممثلين والكتاب الذين يدعون للانحلال والبعد عن الدين ويشجعون النساء على التبرج والاختلاط؟ عباد الله: إن سعد بن معاذ رضي الله عنه، عاش في الإسلام قرابة ستة أعوام، ومع ذلك اهتز عرش الرحمن لموته، وما ذلك إلا لمكانته عند الله تعالى، تلك المكانة التي اكتسبها بإيمانه وإخلاصه وعمله الصالح في ستة أعوام فقط، وإن منا معشر المسلمين من عاش أضعاف أضعاف هذه المدة، إلا أن الأرض التي يمشي عليها لتلعنه، وتفرح الأحياء بل والجمادات بموته، راحة منه ومن عصيانه وشروره، وعار والله أن يعيش المسلم منا وما قدم للإسلام شيئاً، وما هدى للإسلام أحداً، وكل همته تحصيل شهواته والعيش بسلام، بل إن من المسلمين من أعان ويعين على هدم الدين، ويمضي عمره في نشر باطله من شهوات وشبهات والدعوة إليها، فهذا الذي ترتاح الدنيا بموته، ويشدد عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه.
فاتقوا الله عباد الله، وراجعوا أنفسكم وحاسبوها، لتعلموا ما لكم عند الله تعالى، لتكن دعوتنا إلى الله إيجابيةً شاملةً، نريد بها الخير للجميع كما فعل سعد، عسى الله إن فعلنا ذلك وأصلحنا أوضاعنا وأوضاع أبنائنا أن يحشرنا الله مع سعد وأصحابه الأطهار رضي الله عنهم جميعاً.
(1/1742)
طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/3/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الشهادتان أصل الدين. 2 ـ معنى شهادة أن محمدا رسول الله. 3 ـ عموم رسالة النبي.
4 ـ من مقتضيات الإيمان به طاعته. 5 ـ من مقتضيات الإيمان به محبته. 6 ـ حقيقة
محبة النبي. 7 ـ طاعة الصحابة للنبي. 8 ـ ثناء الصحابة على من عمل بسنته.
9 ـ تغليظ الصحابة على من خالف سنته. 10 ـ اتباع الشرع دليل المحبة. 11 ـ تحذير
النبي أمته من الغلو فيه. 12 ـ ادعاء المحتفلين بالمولد لمحبته مع مخالفتهم لسنته.
13 ـ عدم إقامة الصحابة للموالد. 14 ـ محبة الصحابة للنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، جعل الله كلمتي التوحيد أصل الملة والدين، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بأن نعبده تعالى بما شرع على لسان نبيه محمد.
وتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله الإيمان الصادق، واليقين التام بأن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله إلى الخليقة بشيرًا ونذيرًا، يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى نَزَّلَ عَلَى? رَسُولِهِ وَ?لْكِتَـ?بِ ?لَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ [النساء: 136].
أرسله الله بالرسالة العامة، لكل الخليقة، عربها وعجمها، إنسها وجنها، قُلْ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158]، ويقول أيضًا جل جلاله: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28]، ويقول جل جلاله: تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1]، وجعله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـ?كِن رَّسُولَ ?للَّهِ وَخَاتَمَ ?لنَّبِيّينَ [الأحزاب: 40].
فمن آمن به وبما جاء به، ووحد الله جل وعلا، فقد دخل في الإسلام، وعصم ماله ودمه، واستحق الجنة برحمة أرحم الراحمين، وأمن من الخلود في النار، يقول : ((والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار)) [1].
أيها المسلمون، الإيمان بمحمد ، من مقتضيات ذلك أن نطيعه فيما أمرنا به، ونجتنب ما نهانا عنه، فإن طاعته طاعة لله، يقول الله جل وعلا: قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [النور: 54].
ويقول جل جلاله: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر: 7]. وحذرنا من مخالفة أمره، فقال جل جلاله: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: "الفتنة الشرك، لعلّه إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" [2].
ومن الإيمان به محبته، فمحبته أصل الإيمان، وكمالها من كمال الإيمان، أن يحب المسلم محمدًا رسول الله محبة فوق محبة الأهل والولد والوالد والناس أجمعين.
يقول لما قال له عمر: يا رسول الله، والله إنك لأحب الناس إليّ إلا من نفسي، قال: ((لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، قال: يا رسول الله، وأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: ((الآن يا عمر)) [3].
ويقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)) [4].
هذه المحبة لمحمد ليست دعوى تُدَّعى، ولكنها حقيقة للمؤمن، فما كل من ادعى محبَّته كان صادقًا في ذلك، فلا بد من ابتلاء وامتحان.
فالمحب الصادق له هو الذي يمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه، ويتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه، ويعلم أنه لا يقول إلا الصدق والحق.
فمن الإيمان به أن نصدق ما أخبرنا به مما كان وسيكون؛ لأنه لا ينطق عن الهوى كما قال الله: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 3، 4].
ومن محبته أن ينصر المسلم سنته، ويدافع عنها، قال تعالى: فَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ?تَّبَعُواْ ?لنُّورَ ?لَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157].
أيها المسلمون، إن من محبته تطبيق أوامره، واجتناب نواهيه، ولقد كان صحابته الكرام رضي الله عنهم من أعظم الخلق تطبيقًا لأوامره ، وبعدًا عن نواهيه، كانوا أسرع الناس امتثالاً لما أمرهم به، وأسرعهم اجتنابًا لما نهاهم عنه.
أنزل الله على نبيه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكان أهل قباء يصلون نحو بيت المقدس لم يبلغهم الخبر، فجاءهم رجل وقال: يا أهل قباء، إن رسول الله أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر باستقبال الكعبة، قال: فاستداروا نحو الكعبة [5]. استداروا نحو الكعبة في صلاتهم تطبيقًا لأمره.
ومن ذلكم ما ذكره أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت في بيت أبي طلحة أسقيهم الخمر، فجاء رجل فقال: ما بلغكم خبر تحريم الخمر؟ إن الله أنزل تحريمها، قال أنس: فقال لي أبو طلحة: يا أنس، انهض فأرق الخمر، قال: فأراق الصحابة الخمور، حتى جرت في المدينة [6].
كل ذلك امتثالاً لأمره، وسمعًا وطاعة له.
قال عبد الله بن عمر: تختَّم النبي بخاتم الذهب، فلما ألقاه ألقى الناس خواتمهم من الذهب [7] ، وتركوها اقتداء به.
في يوم خيبر نادى منادي النبي : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فلما بلغهم الخبر، أكفؤوا القدور وإنها لتغلي بلحوم الحُمر [8] ، كل ذلك طاعة منهم له ، واستجابة لأمره.
أنزل الله على نبيه: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ?للَّهُ [البقرة: 284] ـ فظاهرها أننا نحاسب على حديث أنفسنا ـ فجاء الصحابة لرسول الله وجثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله، كلَّفنا من العمل ما نطيق، الصلاة والصيام والزكاة، وقد أنزل الله آية لا نطيقها أن الله يحاسبنا عن حديث أنفسنا، فقال: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا)) فقالوا: سمعنا وأطعنا، فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم نسخها الله بقوله: ءامَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَ?لْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ?كْتَسَبَتْ [البقرة:285، 286] [9] ، فعفا الله عن حديث النفس، ولذا قال : ((إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به)) [10].
ومن آثار محبة الصحابة لمحمد ـ وهذا الخلق يكون لكل مسلم أيضًا ـ أنهم كانوا يثنون على كل من وافق سنته، وعمل بشريعته، تشجيعًا له لإظهاره السنة.
صلى أنس بن مالك رضي الله عنه خلف عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فلما صلى، ورأى ما قام به عمر من تطبيق السنة في الصلاة، قال رضي الله عنه: (إن أشبهكم صلاةً برسول الله هذا الفتى) [11] ؛ لأنه رأى موافقته للسنة، وتقيده بها.
ومن آثار محبتهم رضي الله عنهم أنهم كانوا يعتبون على كل من خالف سنته، ويغلظون القول عليه، تعظيمًا لسنة رسول الله ، أن يستخف بها ويستهان بها.
حدَّث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قائلاً: سمعت رسول الله يقول: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)) ، فقال ابنه بلال: والله لنمنعهنّ، قال الراوي: فسبّه عبد الله سبًا ما سمعته سبّه مثله قط، وقال: أحدثك عن رسول الله، وتقول: لأمنعهنّ؟!! [12].
انظر كيف غلظ عليه، قد يكون قصده اجتهادا لأنه رأى من النساء شيئًا، يعني غيّرن فيه ما كان ماضيًا، لكنه ما أحبَّ أن يسمع قولاً يصادم قول محمد.
حدَّث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إياكم والخذف، فإنه يفقأ العين ويكسر السن ولا ينكأ عدوًا)) فقام رجل من بنيه فخذف فنهاه، فقام فخذف فنهاه، وقال: أحدثك عن رسول الله وتفعل خلاف ذلك، والله لا كلمتك أبدًا [13].
وأيضًا: رجل من الصحابة، كان في يده خاتم ذهب، فأخذه النبي وألقاه، وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في يده))، فقيل للرجل: خذ خاتمك، قال: والله ما كنت لآخذه بعدما ألقاه النبي [14].
هذه سيرتهم رضي الله عنهم الدالة على كمال المحبة لمحمد ، فإن محبته ليست دعوى باللسان، ولكنها حقائق تظهر عند تطبيق الأوامر، واجتناب النواهي.
لما نوقش عبد الله بن عباس في متعة الحج، وأن الصديق وعمر وعثمان رأوا أن الإفراد أفضل، قال لمن قال له: يوشك أن تقع عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!!! [15].
ولما قيل لعبد الله بن عمر: إن أباك ينهى عن المتعة وأنت تأمر بها!! قال: أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر؟! [16].
كل هذا تعظيم للسنة، تعظيم لرسول الله، لما يدل على المحبة الصادقة له.
أيها المسلمون، إن الله جل وعلا امتحن من ادعى محبته بقول: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران: 31]، فاتباع شريعة محمد والعمل بها دليل على محبة الله جل وعلا.
فالمحب لله هو العامل بسنة رسول الله، المطبق لها، المنفذ لها، الواقف عندها.
ولهذا يقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) [17] ، قال الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36] فأمر الله وأمر رسوله أمرٌ نافذ، ولا خيار لأحد في ذلك.
فالمسلمون يعظمون سنته، ويرجعون كل نزاع تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه، يقول الله جل وعلا: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآَخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وكان أئمة الإسلام يتبرؤون من أقوالهم المخالفة لسنة محمد ، ويرون أن أقوالهم إذا خالفت السنة وجب أن ترد ولا يعمل بها، ولا يلتفت إليها.
أمة الإسلام، إن محمدًا حذرنا من أن نسلك معه مسلك اليهود والنصارى في أنبيائهم، فاليهود والنصارى غلوا في أنبيائهم غلوّا خرجوا به عن منهج الله، بأن عبدوهم من دون الله، واتخذوهم أربابًا من دون الله، ولذا نبينا خاف علينا ما وقع فيه من قبلنا فقال لنا : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [18] ، وقال أيضًا لنا : ((إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) [19].
وحذرنا من أن نتخذ قبره عيدًا، فقال: ((لا تتخذوا بيوتكم قبورًا، ولا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني أين كنتم)) [20].
وكان في آخر لحظة من لحظات حياته، يكشف غطاء على وجهه ـ وكان في الموت ـ يقول: ((لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد)) [21] ، ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)) [22].
أيها المسلمون، بعض الخلق يدعي محبة النبي ، وإذا نظرت في أقواله وأعماله رأيته مخالفًا لشريعة محمد ، والمسلم حقًا صلتُه بمحمد صلة على الدوام في كل الأحوال، فهو في وضوئه وفي صلاته وفي صومه وحجه وزكاته وكل معاملاته مقتدٍ بمحمد ، في أكله وشربه ونومه ويقظته، وفي كل تصرفاته، سنة محمد نصب عينيه دائمًا وأبدًا، ما سمع منها عمل به ونفذه.
وأما أقوام يدعون المحبة، ولكن محبتهم له إنما تدرج في ليلة ما من الليالي، قراءة أوراد أو سيرة أو قصائد شركية ضالة بعيدة عن الهدى، ثم يدعون أنهم يعظمون سنته، وإذا نظرت في تصرفاتهم وجدتهم بعيدين عن السنة في كل أحوالهم، لا في مظهرهم، والغالب أن مخبرهم خلاف سنة رسول الله ، لا ترى لهم حكم السنة، لا في آدابها، ولا في أوامرها، ولا بالبعد عن نواهيها، ولكنهم مفارقون للسنة، وإنما يقضون ليلة ما من الليالي، ويزعمون أنهم يحبون سنته، وأن تلك الليلة ليلة المولد، هي التي تذكرهم به، وتقوّي صلتهم به، وتربطهم به، ولكنهم بعدها على خلاف شريعته، وعلى خلاف سنته، لا يقيمون لها وزنًا، ولا يقدرونها قدرًا، وكل هذا من مخالفة هدي النبي.
إن أحب الخلق إلى رسول الله صحابته الكرام، ولا سيما خلفاؤه الراشدون، فهم أعظم الخلق محبة له، وما وجدناهم أقاموا لليلة المولد وزنًا، ولا جعلوا لها ذكرًا، ولا أحيوها، لأنهم يعلمون أن ذلك ليس من هدي محمد.
إنهم يعلمون متى ولد، وفي أي عام، وفي أي ليلة ولد، ومع هذا ما أقاموا لذلك وزنًا، صاموا يوم الاثنين لأن النبي أخبرهم بأنه يوم ولد فيه، ويوم أوحي إليه فيه [23] ، فصاموه اتباعًا للسنة فقط، لكن لما لم يشرع لهم نبيهم إحياء ليلة من الليالي، ولا الاهتمام بها فإنهم تركوها، لا عن جهل ولكن اتباعًا للسنة، ووقوفًا عند الشرع.
هكذا يكون المسلمون، فالبدع مهما حسنها أهلها، ومهما دافعوا عنها فإنها مخالفة للشرع، لا يجوز اعتقادها، ولا العمل بها، ولا إحياؤها، لأن المؤمن مأمور باتباع الكتاب والسنة، وعمله لا يكون عملاً مقبولاً إلا إذا كان خالصًا لوجه الله، وكان على وفق كتاب الله وسنة محمد.
أسأل الله لي ولكم التوفيق في الأقوال والأعمال، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [153] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] انظر: الصارم المسلول (2/116).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور [6632] من حديث عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر... وذكر القصة.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الأيمان[15]، ومسلم في كتاب الإيمان [44] من حديث أنس رضي الله عنه واللفظ له. وأخرجه البخاري في الإيمان [14] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)).
[5] أخرج هذه القصة البخاري في كتاب الصلاة [403]، ومسلم في كتاب المساجد [526] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في كتاب التفسير [4620]، ومسلم في كتاب الأشربة [1980] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في كتاب اللباس [5867]، ومسلم في كتاب اللباس [2091] بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في كتاب المغازي [4199]، ومسلم في كتاب الصيد[1940] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
[9] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [125] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[10] أخرجه البخاري في كتاب الطلاق [5269]، ومسلم في كتاب الإيمان [127] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ له.
[11] هذا الأثر جاء من أوجه عديدة عن أنس:
فقد جاء من طريق عامر بن عبد الله بن الزبير عنه، أخرجه أحمد في المسند (3/144، 221)، والبخاري في التاريخ الكبير (1/235) وفي سنده محمد بن مساحق لم يرو عنه إلا فليح بن سليمان.
وجاء من طريق ربيعة الرأي عن أنس، أخرجه الطبراني في الأوسط (1/103)، وفي سنده رشدين بن سعد وهو ضعيف.
وجاء من طريق أبي النضر سالم بن أبي أمية المدني عن أنس، أخرجه الطبراني في الأوسط (8/673)، وابن عدي في الكامل (4/ 149) وفي سنده عبد الله بن لهيعة صدوق اختلط.
وجاء من طريق سعيد بن جبير عن أنس، أخرجه أحمد في المسند (3/162، 163)، وأبو داود في الصلاة [888]، والنسائي (2/224)، والبيهقي في الكبرى (2/110)، والضياء في المختارة (6/146)، وفي السند وهب بن مانوس بالنون، وقيل: مابوس بالموحدة وهو مستور.
وجاء من طريق زيد بن أسلم عن أنس، أخرجه أحمد (3/225)، والنسائي (2/66)، وأبو يعلى [3669]، والطبراني في الأوسط (8/354) بإسناد حسن.
وجاء من طريق عثمان بن يزدويه عن أنس، أخرجه أحمد في المسند (3/254)، وإسناده لا بأس به.
وجاء من طريق الضحاك بن عثمان قال حدثني من سمع أنس بن مالك، أخرجه أحمد في المسند (2/329 ـ 330)، وقد أبهم هنا لأنه نسي أيهما حدثه يحيى الأنصاري أم شريك بن أبي نمر، كما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد (5/332)، وكلاهما من رجال الشيخين.
فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح، ولذا صححه الألباني في صحيح سنن النسائي [938].
[12] أخرجه البخاري في كتاب الأذان [865]، ومسلم في الصلاة [442]، وليس عند البخاري القصة التي حصلت بين بلال وأبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[13] أخرجه البخاري في كتاب الذبائح [5479]، ومسلم في كتاب الصيد [1454] بنحوه.
[14] أخرجه مسلم في كتاب اللباس [2090] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[15] أخرجه أحمد في المسند (1/337) بلفظ: أراهم سيهلكون، أقول قال النبي ، ويقول: نهى أبو بكر وعمر؟!! وفي إسناده شريك بن عبد الله القاضي صدوق يخطئ كثيرًا.
وأخرجه ابن حزم في حجة الوداع (ص 353) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب ولفظه: فقال ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، أحدثكم عن رسول الله ، وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر؟!.
وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/189) من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن أبي مليكة، ولفظه: قال ابن عباس: لهذا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله ، وتحدثوني عن أبي بكر وعمر؟!
وأما اللفظ الذي ذكره الخطيب في خطبته فقد ذكره ابن تيمية كما في المجموع (20/ 215، 251)، وابن القيم في زاد المعاد (2/195).
[16] أخرجه البيهقي في السنن (5/21) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عنه.
[17] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة [15]، والخطيب في تاريخه (4/369)، والبغوي في شرح السنة [104]، وصححه النووي في الأربعين. قال ابن رجب: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدًا" ثم ذكر من أوجه ضعفه: تفرد نعيم بن حماد به وهو ضعيف، والاختلاف عليه فيه، والانقطاع في سنده.
[18] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [3445] من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[19] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك [3057]، وابن ماجه في المناسك [3029] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان [3871]، والحاكم (1/466) ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضًا ابن الجارود في المنتقى [473] والضياء في المختارة (10/ 30 ـ 31)، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة [1283]، ونقل تصحيح النووي وابن تيمية له.
[20] أخرجه أحمد في المسند (2/367)، وأبو داود في المناسك [2042]، والطبراني في الأوسط (8/81)، وحسنه الألباني في تحذير الساجد (ص 96، 97).
[21] أخرجه البخاري في الجنائز [1330]، ومسلم في كتاب المساجد [529]، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[22] أخرجه مسلم في كتاب المساجد [523] من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
[23] أخرج مسلم في كتاب الصيام [1162] عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت أو أنزل عليّ فيه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله:
أصحاب محمد ، أحبوا هذا النبي الكريم محبة صادقة، محبة تمكنت في قلوبهم، وظهرت آثارها على جوارحهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
فمن ذلكم ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها أن رجلاً من أصحاب النبي أتى النبي قائلاً: يا رسول الله، والله إنك لأحب الخلق إلي، وإني كلما ذكرتك وأنا في بيتي لا تطيب نفسي حتى أخرج وأراك، ولكني إذا ذكرت أني ميت وأنك ميت، وأن منزلتك في الجنة عالية، فأنى لي النظر إليك؟! هذا الذي أقلقني وأتعبني، فسكت حتى أنزل الله: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] [1].
قال ربيعة الأسلمي: قربت للنبي وضوءه ـ وكان يخدم النبي ـ فقال: ((سل يا ربيعة)) قال له: أسألك يا رسول الله مرافقتك في الجنة، قال: ((أوغير ذلك؟)) قال: هو ذاك، أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((يا ربيعة، أعني على نفسك بكثرة السجود)) [2].
ولما قسم النبي غنائم حنين، وأعطى المؤلفة قلوبهم ترغيبًا لهم في الإسلام، ولم يعط الأنصار، وجدوا في أنفسهم شيئًا، فدعاهم وحدهم وقال: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! ومتفرقين فألفكم الله بي؟!)) فكلما قال شيئًا، قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((لو شئتم لقلتم: أتيتنا مطرودًا فآويناك، ومكذبًا فصدقناك، وفقيرًا فواسيناك، يا معشر الأنصار، لو سلك الناس واديًا وشِعبًا، لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، أترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون بالنبي إلى رحالكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم)) قال: فخضبت لحاهم بالدموع، وقالوا: الله ورسوله أمنَّ [3].
ومن محبتهم له أيضًا، كلما ذكروه ذرفت عيونهم شوقًا إليه، خطب الصديق بعد موت النبي بعام، فلما خطب قال: أيها الناس، سمعت رسول الله في مثل مقامي هذا من العام الماضي، ثم بكى رضي الله عنه، ثم أعادها فبكى ثلاث مرات، وقال: سمعته يقول: ((ما أعطي ابن آدم بعد الإخلاص خيرًا من العافية)) [4].
ولما حضرته الوفاة قال لبنيه: يا بنيَّ إن مت اليوم فأسرعوا بجنازتي، فإن يومًا أكون بجوار محمد لمن خير الأيام وأحبها إليّ [5].
ولما طعن عمر رضي الله عنه دعا ابنه عبد الله، فقال: يا عبد الله، إن أهم ما يهمني أن أكون بجوار محمد وصاحبه، وإن ذلك أمرٌ بيد أم المؤمنين فأقرئها مني السلام، وقل لها: يستأذن عمر أن يدفن بجوار رسول الله وصاحبه، قال عبد الله: فأتيتها وهي تبكي حزنًا على عمر، فقلت: يقرئك عمر السلام، ويستأذنك أن يدفن بجوار رسول الله وصاحبه، قالت: والله ما كنت لأوثر أحدًا غيره، أخبره بذلك، قال: فلما رجع عبد الله إلى أبيه، وقالوا: هذا عبد الله أقبل، قال: أجلسوني، ما وراءك يا عبد الله؟ قال: هو ما تحب يا أمير المؤمنين، أذنت لك أن تدفن مع رسول الله وصاحبه، قال: يا عبد الله، لعل ذلك في حياتي، فإذا مت وصليتم علي، فمرُّوا بجنازتي عليها واستأذنوها لي، قال: فلما صلوا مرّوا بجنازته، فقالت: ما كنت لأوثره حيًا، وأحرمه ميتًا، ادفنوه بجوار رسول الله وصاحبه [6].
كل ذلك من محبتهم له رضي الله عنهم وأرضاهم، وإن المسلم الذي يحب رسول الله هو الذي يعظم سنته، ويعمل بها، وينقاد إليها، ويسمع ويطيع له.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من العاملين بشريعته، المتمسكين بها، الثابتين عليها، وأن يجعلنا ممن يرد عليه حوضه يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
صلوا رحمكم الله على محمد ، كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [7].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] عزاه ابن كثير في التفسير (2/310 ـ 311) إلى ابن مردوية في تفسيره، والحافظ أبي عبد الله المقدسي في صفة الجنة، ونقل عنه أنه قال: "لا أرى بإسناده بأسًا". وقد أخرج نحوه الطبري في تفسيره (8/534 ـ 535) مرسلاً عن سعيد بن جبير ومسروق وقتادة والسدي والربيع بن أنس، قال ابن كثير (2/310) عن مرسل الربيع: "هو من أحسنها سندًا".
[2] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة [489] عن ربيعة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المغازي [4330]، ومسلم في الزكاة [1061] من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
[4] أخرجه الطيالسي [5] وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد [724]، وابن ماجه [3849] وغيرهم من طريق أوسط البجلي عن أبي بكر، وصححه الحاكم (1/529)، والألباني في صحيح الأدب المفرد [557].
وأخرجه أيضًا الترمذي في كتاب الدعوات [3558] من طريق رفاعة عن أبي بكر، وقال: "حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي بكر رضي الله عنه".
ولفظه عندهم: ((بعد اليقين))، وليس ((بعد الإخلاص)).
[5] أخرجه أحمد (1/8) عن عائشة قالت: إن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الإثنين، قال: فإن مت من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد؛ فإن أحب الأيام والليالي إليّ أقربها من رسول الله.
قال الهيثمي في المجمع (3/20): "فيه شيخ أحمد محمد بن ميسَّر أبو سعد، ضعفه جماعة كثيرون، وقال أحمد: صدوق".
[6] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز [1392] بنحوه.
[7] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة [384] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/1743)
استقدام المشركين إلى جزيرة العرب
الإيمان
الولاء والبراء
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التفريق بين المؤمنين والكافرين في التعامل. 2- المشركون على اختلاف مللهم
أعداء للإسلام والمسلمين. 3- التحذير من استقدام المشركين إلى بلاد المسلمين. 4- ذرائع
يتذرع بها مستقدمو المشركين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلون اتقوا الله عباد الله، فإن تقواه هي النجاة ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
عباد الله: إنه لا بد من التفريق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان لأن عدم التفريق بينهما فتنة عظيمة وفساد كبير أَفَنَجْعَلُ ?لْمُسْلِمِينَ كَ?لْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].
أيها المسلم: إنك حين آمنت بالله ورسوله أصبحت واحداً من المسلمين، لك مالهم وعليك ما عليهم، والمؤمنون هم حزب الله وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]. وأصبح لك أعداء لم يؤمنوا بالله ولا برسوله ولم يدينوا دين الحق الذي ارتضاه لنفسه.. يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
والآيات أيها المسلمون في جانب الولاء والبراء كثيرة كثيرة... هذه أوامر الله ونواهيه وهي نصوص من الوحي ولا تختلف باختلاف الزمان ولا تتغير بتغير الأسماء والألوان، فما كان للكفار فهو شامل لهم جميعاً ألا ما استثني بالدليل.
وإن التاريخ يشهد بذلك فقل لي أيها المسلم من الذي كان يحارب المسلمين في بدر وأحد يريد ذلة الإسلام وأهله، أليس المشركون؟.
ومن صادم المسلمين في القادسية واليرموك ليصدهم عن نشر دين الله، أليس المشركون؟.
تلك شهادة التاريخ وغيرها كثير، وفهل يخفى عليك أيها المسلم ما يلاقي المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها من الأذى والتعذيب والتنكيل وهدم المساجد والمنازل وهتك الأعراض من يفعل هذه الأفعال أوليس المشركون؟.
ومع هذا نجد من المسلمين من يؤويهم ويمكن لهم ويثني عليهم ويدافع عنهم بل ربما سب المسلمين من أجلهم، فإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون.. أو فينا من يحتاج إلى خطبة كاملة ليعرف واجبه تجاه إخوانه؟ أو ليس بيننا من لم يزل يبغض الكفار بالجملة ويوالي أفراداً منهم.. ما هذا الفهم الخاطئ؟
فإذا قيل له الكفار شتمهم وتأوه من أعمالهم في المسلمين.
أما إذا قيل له عاملك الهندوسي أو النصراني قال: هذا مسكين، هذا طيب، ذروني وهذا، فإني لا أستغني عنه وهل وقف الأمر على عاملي أو مكفولي.
اتق الله أيها المسلم فما الأمة إلا أنت وأمثالك لو أجبتم داعي الحق جميعاً لاستقامت السبل ولخرج الكفار والمشركون من جزيرة العرب.
عباد الله:
إن بعض الناس يرى أن الكفار أعداء الله ولكنه لا يستشعر أن كل كافر هو بعينه عدو الله، يجب بغضه والبراءة منه.
صحيح أخي المسلم أن إبليس عدو الله وكذا فرعون وأضرابهم من الكفرة ولكن ما رأيك في مكفولك الكافر، أو خادمة جيرانك الكافرة أو عامل المحل الذي استقدمته أنت تحت كفالتك ومكنته من أرض المسلمين التي حرمها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيأت له الفرصة الجميلة إذ يسرت له سبل العيش وكفلت أسرته وأطفاله وهم شر على دينك وأمتك حاضراً ومستقبلاً وقدمته على أخيك المسلم في بلاده وتركت أخاك المسلم يصارع ألام الحياة ويتكبد المآسي هو وأهله، إن عاملك الكافر هو عدو الله، ولكنك تسامحت معه إلى أبعد الحدود. سامحك الله وغفر زلتك ونحاك من زلتك. من الذي يقاتل المسلمين في كشمير أليس الهنادكة عباد البقر؟ ومن الذي يمد اليهود بالسلاح والعتاد والتقنية الحديثة أليسوا النصارى أعداء الله ؟.
إن هؤلاء الكفار الذين تحت كفالتك أعداء لله ولرسوله ولدينك وأمتك.
أرأيت لو كان عدواً لأبيك وكان مسلماً أو عدواً لبلدك.. أكنت تستقدمه وتؤويه؟. اتق الله أيها المسلم.. ألا تخاف مكر الله وأنت تؤوي أعداءه وتمكن لهم في أرض المسلمين وتسهل لهم سبل المعيشة دون إخوانك المسلمين مع شدة حاجتهم وقد أمرت ونهيت وما انتهيت.
أيها المسلم.. لقد كان عليك أن تنصر المسلمين بنفسك ومالك، فإذا لم يكن منك ذلك فليسلم منك المسلمون – على الأقل – فلا تؤذيهم بالتمكين لعدوهم واستقدامه دونهم، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
أيها المسلمون: لقد تكالبت الأعداء على إخواننا في بلدانهم فهل تكون أنت عليهم؟ إن أشق ما يواجه المسلمين في الهند أن تدفق الأموال على كفرة الهندوس من الخليج.
أيها المسلمون: في أصقاع بعيدة يتمنى المسلم بكل حرقة أن يقدم إلى هذه البلاد لعله يحج فكانت الفرصة على يديك ومكنت أن تستقدم من تلك البلاد واحداً أو أكثر فحرمت أخاك الذي يتمنى المجيء واستقدمت بدله كافراً وعدواً مبيناً، ومع ذلك تزعم محبة إخوانك المسلمين. فاتق الله عبادة الله واحرصوا على طاعة الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ [التوبة:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. أقول ما تسمعون..
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: إن هناك شبهات ثلاثاً لابد من الرد عليها، لأن الشيطان سوّل بها وأملى. الأولى: قولهم إن هؤلاء الكفار أحسن عملاً من المسلمين، والثانية قولهم: أستقدم كافراً وأدعوه للإسلام، والثالثة قولهم: إن تغيير الديانة في البطاقة سهل، فإذا اشترطنا الإسلام كتبه في بطاقته، ولو لم يسلم!
والحقيقة أنها هذه كلها ليست حجة يقولها صاحب حق، ولكنها خدعة يقولها متورط، وهو أول المخدوعين.. فلما صار في قلبه مرض، واستقدم عدو الله وخالف وصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اضطر أن يدافع عن خطئه، فجعل يلتمس أعذاراً أوهن من بيت العنكبوت، وربما زل بكلام خطير لا يعرف مداه، وهو يدافع عن خطئه، ويمدح الكفار، ويثني على أخلاقهم وعملهم، ويسب المسلمين، ويرميهم بكل نقيصة ! وعلماء الأحناف يقولون: "من قال: النصارى خير من المسلمين كفر"!!.
والحقيقة أن المسلمين هنالك فرض عليهم الجهل، ولم يتمكنوا من الفرص، وضيق عليهم في الاستقدام، فتركناهم وجئنا بالكفرة فتعلموا على حسابنا ثم قلنا: هم أتقن عملاً.. وربما استقدم المسلم مسلماً فلم يرضه، فآلى على نفسه ألا يستقدم مسلماً أبداً عياذاً بالله من ذلك لأنه كان على حرف فابتلي كَذ?لِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163].
ثم هب أنهم كانوا كذلك فهذا أمر مسلم، وليس محل نزاع، فليس في الشرع أن تفاضل بين الكافر والمسلم، فتستقدم المتقن، ولكن الشرع يحرم موالاة الكفار، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، ويحرم استقدامهم إلى جزيرة العرب، كما صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكما أفتى بذلك العلماء الأثبات.
أما قولك: أستقدم كافراً وأدعوه للإسلام، فإن ما نراه ليس من الدعوة في شيء، ثم كم أسلم على يديك من كافر، وكم يكفيك من الوقت لتعرف نتيجة دعوتك معه؟ وماذا صنعت لمن لم يسلم؟
وأما القول بسهولة تغيير الديانة، فلو أن رجلاً أراك في بطاقته أنه مسلم ما صح لك أن تتهمه بالكفر، حتى ترى منه كفراً وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ?لسَّلَـ?مَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء:94]. ثم إنك إذا استقدمت من كتب في ديانته (مسلم) فقد برئت ذمتك إن شاء الله، وعليك التحري ما استطعت، أما أن تقول: إن تغيير الديانة في البطاقة سهل، وأنت تدافع عن استقدامك لعدو الله، وتركك لأخيك المسلم المحتاج، فهذه حجة خارج قضية النزاع، فليس صحيحاً أن تشرب الخمر، لأن جعل العنب خمراً سهل، والعقلاء لا يقبلون هذا.. والله أعلم بما تصفون.
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور
أيها المسلمون: إن هذا الحديث ليس مقصوراً على من استقدم كافراً بل هو لكل من سمعه، فإذا استيقظت غيرتك، وثِبت إلى رشدك، وثبت إلى ربك، وعزمت أن تخرج كل كافر أدخلته بلاد المسلمين مهما كلف الأمر، وأن تناصح كل من استقدم كافرا ً- ألا هل بلغت، اللهم فاشهد–.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بناً حاسداً.. اللهم احفظ علينا ديننا وأمتنا وبلادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة.
عباد الله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل::90].
(1/1744)
الكذب
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الكذب. 2- ذكر بعض صور الكذب الشائعة بين الناس. 3- الدوافع المؤدية للكذب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه، وقوموا بما أوجب الله عليكم من الواجبات وانتهوا عن المنهيات تفوزوا برضاه.
يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون: لا شك أن الكذب عمل مرذول وصفة ذميمة فهو من خصال النفاق ومن شعب الكفر.
والكذب من أسباب رد القول ونزع الثقة من الكاذب والنظر إليه بعين الخيانة.
والكذب دليل على ضعف النفس وحقارة الشأن، والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها، فالكذاب يقلب الحقائق، فيقرب البعيد، ويبعد القريب، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح، قال صلوات ربي وسلامه عليه محذراً من الكذب ((وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)). قال الماوردي رحمه الله: والكذب جماع كل شر وأصل كل ذم، لسوء عواقبه وخبث نتائجه، لأنه ينتج النميمة ،والنميمة تنتج عنها البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة، ولذلك قيل: من قل صدقه قلّ صديقه.
وقيل في ذم الكذاب: لا تطلبوا الحوائج من كذاب فإنه يقربها وإن كانت بعيدة، ويبعدها وإن كانت قريبة.
ومما يؤسف له أيها المسلمون ذهاب الصدق في هذه الأزمنة المتأخرة وكثرة الكذب في الأعم الأغلب، فما أقل من يصدق في حديثه، وما أقل من يصدق في علاقاته ومعاملاته.
أيها المسلمون: وللكذاب صور كثيرة قد يجهلها كثير من الناس نذكر بعضاً منها لعلنا نحذرها.
فمن صور الكذب: الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كحال من يفتي بغير علم ويقول على الله ورسوله الكذب، فيضل ويضل ويهلك ويُهلك قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116].
وكحال من يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال صلى الله عليه وسلم: ((من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
ومن صور الكذب: الكذب في البيع والشراء.. كحال من ينفق سلعته بالحلف الكاذب ومن يغش المشتري في بضاعته فما أكثر ما يقع هذا بين الناس قال صلى الله عليه وسلم: ((اليمين الكذابة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من غشنا فليس منا)).
ومن صور الكذب: الكذب لإضحاك السامعين، ومن صور الكذب أيضاً الكذب في المطالبات والخصومات، وهذا يحدث كثيراً بين الناس، فقل من يصدق حال المطالبات، وهذا ما يشاهد مراراً وتكراراً عند الخصومات في المحاكم وغيرها، وعند حوادث السيارات، فقل من تجده ينصف بنفسه ويقر بخطئه، بل تجد من يكذب كي لا يكون الحق عليه فيتحمل تبعته.
ومن صور الكذب.. الكذب للتخلص من المواقف المحرجة، كحال من يكذب على والديه أو مسئوليه خوفاً من العقاب.
ومن صور الكذب أيضاً، الرجل الإعلامي الذي يقلب الحقائق ويلبس على الناس فيرفع الأمر ويضع الأعلام ويغري بالرذيلة ويزري بالفضيلة، فكم برأ من مفسد محرم، وكم نال من مصلح بريء، وكم رفع من وضيع وكم وضع من رفيع.
ومن صور الكذب: الكذب على الأولاد فكثيراً ما يكذب الوالدن على أولادهما الصغار رغبة في التخلص منهم أو تخويفاً لهم كي يكفوا عن العبث واللعب أو غير ذلك فنجد من الوالدين من إذا أراد ولده الخروج معه أحب الوالدان أن يتخلص من الولد تجده يعده ببعض الهدايا ثم لا يفي بذلك، وتجد منهم من يكذب على الولد يخوفه بأشياء وهمية، فينشأ الولد جباناً رعديداً يخاف مما لا يُخاف منه.
ومن صور الكذب أيضاً التوسع في باب المصلحة، فتجده يتأول لنفسه الكذب باسم المصلحة فيبطل الحق ويحق الباطل، ولا شك أن الذي يصلح بين الناس ويقول الخير أو ينمي الخير ليس بكذاب. أما من توسع في هذا الباب ويرخص لنفسه الكذب فيما هو مصلحة خاصة له أو فيما هو ضرر على الآخرين فلا شك أنه قد وقع في المحذور، شعر أو لم يشعر.
قال صلوات الله وسلامه عليه: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيراً أو ينمي خيراً)).
هذه بعض صور الكذب الشائعة أحببنا ذكرها لعلنا نحذرها ونحذر منها، فاحذروا إخواني الكذب، فإنه لو لم يكن في الكذب عيب إلا أنه منقصة للقدر بين الناس ورد للحديث لكفى، فكيف وفيه من الوعيد ما فيه.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين.. جعل العاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون: ذكرنا في الخطبة الأولى صور الكذب، فيا ترى ما هي الأسباب المؤدية إلى الكذب؟ فإن من أراد الحذر من شيء فإنه يجب عليه أن يحذر أسبابه ودوافعه.
أما دوافع الكذب فكثيرة نذكر منها:
فمنها الخوف من العقاب والعتاب، فإن الخوف من العتاب يدفع بالمرء إلى الكذب تخلصاً من هذه المواقف، ومنها إيثار المصلحة الخاصة التي تدفع بالشخص إلى الكذب لينال مطلوبه.
ومنها أيضاً: قلة مراقبة الله عز وجل وقلة الخوف منه، فلو أنه تذكر وعيد الله للكذاب ووصم رسول الله صلى الله عليه وسلم للكذاب بصفة النفاق، وأن الكذب بضاعة المنافقين ومن قل دينهم، ولو أنه تذكر ذلك ما أقدم على الكذب.
ومنها أيضاً: اعتياد الكذب وإلفه، فإنه إذا كذب المرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، عند ذلك اعتاد الكذب وأصبح عادة يصعب التخلص منها.
ومنها أيضاً سوء التربية من قبل الأولياء فتجد الأب يكذب على أبنائه ولا يتورع عن الكذب ولا يربي أولاده على الصدق واعتياد الصدق.
هذه بعض الأسباب التي تدفع بالمرء إلى الكذب ذكرناها لعلنا نحذرها ونتجنبها.
فاتقوا الله أيها المسلمون وكونوا مع الصادقين، اتقوا الله وذروا الكذب في الحديث لو لم يكن في الكذب إلا أنه طريق إلى النار لكفى بذلك زاجراً ((إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)).
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله.
(1/1745)
اللعن والملعونون
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من إطلاق اللسان. 2- ما جاء في ذم اللعن. 3- ذكر الملعونين في القرآن والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون: يقول تبارك وتعالى: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
نعم أيها المسلمون: إن المسلم مسئول عن كل تصرفاته وألفاظه وأفعاله، لذا وجب علينا أيها المسلمون أن نحاسب أنفسنا وأن نحسب لتصرفاتنا ألف حساب، فما كان منها موافقا لأمر الله ورسوله أمضيناه وسرنا فيه، وما كان منها مخالفاً لأمر الله ورسوله توقفنا عنه وتركناه وراء ظهورنا.
أيها المسلمون: لقد أصبح كثير من المسلمين اليوم لا يبالون بتصرفاتهم وما يصدر عنهم من أقوال، وقد يكون في هذه الأقوال ما فيه خسارة دينهم ودنياهم، روى الإمام الترمذي والنسائي وغيره من حديث بلال بن الحارث أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة)) فكان علقمة أحد رواة هذا الحديث يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث.
عباد الله: ولقد أصبح اللعن والقذف عادة عند كثير من الناس في هذا الزمان حتى أصبح وكأنه تحية عند البعض مع أن اللعن كبيرة من كبائر الذنوب، ذلك أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل، فما بالك فيمن يكون هذا دأبه مع أبنائه وإخوانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش والبذيء)) [رواه الإمام الترمذي].
بل إن اللعانين يحرمون في الآخرة من الشفاعة لغيرهم روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه: ((إن اللعانين لا يكونون يوم القيامة شفعاء ولا شهداء)).
ولعن المؤمن كقتله لأن القاتل يقطع من قَتَله عن منافع الدنيا، والذي يلعن المؤمن يريد أن يقطعه عن نعيم الآخرة وعن رحمة الله التي وسعت كل شيء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لعن مؤمناً فهو كقتله)).
كما أنه لا يجوز اللعن بالتعيين لأنه إذا لعن المرء رجلاً مسيئاً زاده شراً على ما هو عليه.
أما من يجوز لعنهم على العموم وليس على وجه التخصص فهم كثير، ولكن نذكر منهم أنواعاً حتى نحذر المسلمون ولا يقعوا فيما يقعون فيه من الأعمال التي توجب لعن الله ورسوله، فهذه اللعنة لمن عمل هذا العمل.
وقد ورد في السنة والقرآن اللعن على من يعمل أعمالاً معينة، فالكفار والعصاة والظالمون بشكل عام ملعونون، روى ابن ماجه والحاكم في مستدركه عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ هو المحِل. فلعن الله المحل والمحلل له)). والمحل هو الذي يتزوج المرأة المطلقة ثلاث مرات ليحلها لزوجها الأول ليس إلا.
روى البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن السارق يسرق البطة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده)) وممن ورد لعنهم في السنة شارب الخمر وساقيها وعاصرها وبائعها ومشتريها.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد! إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقيها)).
وممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب والديه، روى الإمام أبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه يلعن أبا الرجل فيلعن أباه ويلعن أمه فيلعن أمه)).
وروى الإمام مسلم وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير منار الأرض)).
وممن لعنهم الله عز وجل من أتى امرأة في دبرها ومن عمل قوم لوط.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ملعون من سب أباه، ملعون من سب أمه، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من غير تخوم الأرض، ملعون من كمه أعمى عن طريق، ملعون من وقع على بهيمة، ملعون من عمل بعمل قوم لوط)).
وممن ورد لعن في السنة من حال بين الحق وأهله، روى الإمام النسائي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ومن قتل عمداً فقود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
وممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، فعن أبي مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، هم فيه سواء)) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه].
وممن ورد لعنه في السنة.. من سب الصحابة فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من سب أصحابي)) [رواه الطبراني].
ومن الملعونين أيضاً.. من وسم حيواناً في وجهه، رواه الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله من وسم في الوجه)) وكذلك ممن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قذف المؤمنات المحصنات.
وممن ورد لعن في السنة الراشي والمرتشي روى الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشي والمرتشي)).
فاتقوا اله عباد الله واعملوا بطاعة الله إِنَّ ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً [الأحزاب:57].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وتاب علي وعليكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له..
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه.
وممن ورد لعنه في السنة من النساء حتى نحذر أهلينا وممن تحت أيدينا من النساء وحتى لا يقعن في هذا الفعل. الخامشة وجهها والشاقة جيبها.
فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الخامشة وجهها والشاقة ثوبها والداعية بالويل والثبور)) ومنها أيضاً الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة، والهاجرة لفراش زوجها.
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا لعنة الله ورسوله ولا تقعوا فيمن يفعل هذه الأفعال، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
فاتقوا الله عباد الله.. وصلوا على رسول الله كما أمركم بذلك مولاكم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، اللهم عليك بالطغاة.
(1/1746)
حسن وسوء الخاتمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خوف الصالحين من سوء الخاتمة. 2- بعض أقوال السلف ساعة الاحتضار. 3- صور من
سوء الخاتمة. 4- أسباب سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه.
أيها المسلمون: إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقي الله عز وجل على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسب وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه.
أيها المسلمون: إنه ينبغي للمؤمن أن يخشى الله عز وجل حق خشيته وأن يعمل بالصالحات وأن يستمر على طاعة الله حتى الممات حتى لا تغلب الوساوس الرديئة على العبد في حال مفارقته الدنيا فيختم له بعمل سيئ عياذاً بالله من ذلك.
والخوف من سوء الخاتمة هو الذي طيش قلوب الصديقين وأرهب أفئدتهم في كل حين – ولماذا لا يخافون من ذلك، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، كم سمعنا عمن آمن ثم كفر، وكم رأينا من استقام ثم انحرف، ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يردد: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
ولقد ارتد في زمن النبي بعض من آمن فخرج من النور إلى الظلمات.
ولقد كان يشتد خوف السلف الصالح من سوء الخاتمة.
وإذا تأملنا أقوال السلف الصالح عند الاحتضار أخذنا من ذلك العبرة والعظة:
لما حضرت أبا هريرة – رضي الله عنه – الوفاة بكى فقيل: ما يبكيك؟ قال: يبكيني بعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين والعقبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويروى أن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – لما دنا من الموت دعا بحراسه ورجاله فلما دخلوا عليه قال: هل تغنون عني من الله شيئاً؟ قالوا: لا: قال: فاذهبوا وتفرقوا عني، ثم دعا بماء فتوضأ وأسبغ الوضوء ثم قال: احملوني إلى المسجد، ففعلوا، فقال: اللهم إنك أمرتني فعصيت وائتمنتني فخنت.. اللهم لا عذر فاعتذر ولا قوي فانتصر بل مذنب مستغفر، ولا مصر ولا مستكبر.
فإذا كان هذا هو حال الصالحين والأبرار فنحن أجدر بالخوف منهم وإنما أمنا لجهلنا وقسوة قلوبنا فنحن أجدر بالخوف منهم فنسأل الله قلوباً خاشعة.
أيها المسلمون: سوء الخاتمة أعاذنا الله منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا ولا علم به والحمد لله وإنما تكون لمن كان له فساد في القتل أو إصرار على الكبائر أو إقدام على العظائم أو يكون مستقيماً ثم يتغير حاله ويخرج عن سنته ويأخذ في غير طريقه فيكون سبباً لسوء خاتمته وشؤم عاقبته.
وسوء الخاتمة أيها المسلمون على مرتبتين:
الأولى: أن يغلب على القلب والعياذ بالله شك أو جحود عند سكرات الموت وأهواله فيقتضي ذلك العذاب الدائم وهو أعظم المراتب.
وأما أن يتسخط الأقدار أو يتكلم بالاعتراض أو يجور في الوصية أو يموت مصراً على ذنب من الذنوب.
وأسباب سوء الخاتمة كثيرة نذكر بعضاً منها لعلنا نحذر منها وتعمل بضدها فمن هذه الأسباب:
الشك والجحود الذي تسببه البدعة.
وكم ختم لكثير من البشر بهذا عندما ابتدعوا في دين الله عز وجل وزاغوا وانحرفوا فظهرت حقيقتهم في أول لقاء لهم مع ربهم.
فهذا ابن الفارض الذي كان يقول بحلول الله عز وجل في مخلوقاته عندما احتضر كما قال الأئمة الثقات الذين شاهدوه في حالة الاحتضار نظم أبياتاً من الشعر وهو في تلك الحالة يعبر فيها عن شقوته وعن هلاكه قال ذلك حينما عاين سخط الله عز وجل، وقل أن يختم لمبتدع في دين الله تعالى بخير نسأل الله العافية والسلام.
ومن أسباب سوء الخاتمة:
التسويف بالتوبة.. وإن من أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة، فإن أمامه زمناً طويلاً فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالطاعات من الآن، فهذا من بعض مكائد إبليس في التسويف بالتوبة.
قال بعض السلف: أنذركم سوف فإنها أكبر جنود إبليس.
ومن أسباب سوء الخاتمة أعاذنا الله وإياكم منها حب المعصية واعتيادها، فإذا ألِف الإنسان المعصية ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه: لا إله إلا الله، طغت هذه المعصية على تفكيره.
فتكلم بما لا يفيد، وختم له بسوء عياذاً بالله، أفلا يخشى الذين يتركون الصلاة تلو الصلاة ثم يوعظون فلا يستجيبون، ألا يخشى هؤلاء أن يختم لهم بسوء؟ هؤلاء الذين جعلوا مصدر رزقهم غش المسلمين وجلب وتوفير ما يضرهم في دينهم ودنياهم للمسلمين، مع عدم قبولهم للنصح، ألا يخشى هؤلاء وأولئك وغيرهم ممن أصر على المعصية حتى أحبها؟ ألا يخشون أن يختم لهم بسوء؟
هذه بعض أسباب سوء الخاتمة وأنني لأحذر نفسي وإياكم أن يكون فينا سبب من هذه الأسباب وإياكم والتسويف بالاستعداد فإن العمر قصير.
أيها المسلمون: وهناك بعض العلامات الدالة على سوء الخاتمة وهي كثيرة فبعضهم يظهر عليه ذلك عند اشتداد المرض فيقع في التسخط والاعتراض على قضاء الله.
ومنهم من يتلفظ عند احتضاره بكلام يغضب المولى أو يحال بينه وبين كلمة التوحيد، وبعضهم ربما ظهر عليه ذلك عند تغسيله كسواد اللون وغيرها من العلامات.
قال الحافظ بن رجب الحنبلي – رحمه الله -: قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة لا إله إلا الله فقال آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبدالعزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
ومنذ سنوات جرت حادثة في بلادنا وحاصلها أن رجلاً في حال احتضاره ظهر عليه من الاعتراض على ربه ما ظهر، فجاء بعض أصحابه ممن كان يصلي معه في المسجد - والله أعلم بما في القلوب - وقال: يا عبد الله هذا المصحف الذي كنت تقرأ فيه فاتق الله، ولقنه كلمة التوحيد، فقال هو كافر بالمصحف وبلا إله إلا الله وختم له على ذلك نعوذ بالله من الخذلان، وقال ابن أبي الدنيا رحمه الله: حدثني أبو الحسن بن أحمد قال: "نزل الموت برجل كان عندنا فقيل له: استغفر الله فقال: ما أريد... فقيل له: قل: لا إله إلا الله، قال: ما أقول ثم مات... ".
هذا بعض ما ورد عند الاحتضار..
أما ما ورد عند التغسيل فكثير جداً من ذلك ما ذكره القحطاني: "لقد جيء بميت فلما ابتدأنا بتغسيله انقلب لونه كأنه فحمة سوداء وكان قبل ذلك أبيض البشرة فخرجت من مكان الغسيل وأنا خائف فوجدت رجلاً واقفاً، فقلنا له: هذا الميت لكم؟ قال: نعم، قال: قلنا: أنت أبوه؟ قال: نعم: قلت: ما شأن هذا الرجل؟ قال: هذا الرجل كان لا يصلي، قلت: فخذ ميتك فغسله" نعوذ بالله من سوء الختام.
اللهم إنا نسألك بأسمائك العلى وصفاتك الحسنى أن تختم لنا بما يرضيك عنا، واجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها وخير ساعاتنا ساعة لقائك، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقواه..
أيها المسلمون: فكما ذكرنا الأسباب المؤدية إلى سوء الخاتمة فيجدر بنا أن نذكر شيئاً من أسباب حسن الخاتمة علنا نأخذ بها.
فأول هذه الأسباب:
تقوى الله عز وجل في السر والعلانية والعمل بطاعة الله والمحافظة على الواجبات والانتهاء عن المنهيات وأن يحذر العبد من الذنوب أشد الحذر فإن الكبائر موبقات، وكثرة الصغائر مع عدم التوبة ران على القلوب قال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقرات الذنوب، إنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
ومن الأسباب المؤدية إلى حسن الختام:
المداومة على ذكر الله عز وجل وشكره، فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله كان آخر ما يقوله من الدنيا: لا إله إلا الله، ونال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قال: ((من كان آخر كلام لا إله إلا الله دخل الجنة)) ، ثم ليعلم المسلم أن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، فإذا علم ذلك جعل الدنيا في يده لا في قلبه وليكثر من قول: يا مقلب القول ثبت قلبي على دينك.
فاتقوا الله عباد الله واعملوا بطاعة الله واجتنبوا أسباب سخط الله عز وجل وموجبات عقابه.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله..
(1/1747)
حقوق على المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سالم بن عبد الكريم الغميز
حائل
جامع العريمضي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقوق الجيران. 2- حقوق الأرحام. 3- حقوق الزوج على زوجته. 4- حقوق الزوجة
على زوجها. 5- صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق تقواه وأطيعوه ولا تعصوه.
واستكمالاً لموضوع سابق نتكلم في هذه الخطبة أيضاً عن بعض الحقوق التي علينا، علنا نقوم بما نستطيع منها تنفيذاً لأمر الله ورسوله وإقامة للعدل بين المسلمين والذي لا يقوم إلا بمعرفة الحقوق ومن ثم أداءها لمستحقيها على الوجه الذي يرضي ربنا عنا.
فمن الحقوق التي أمرنا الله عز وجل بأدائها حقوق الأقارب، وهم كل من يمت إليك بصلة القرابة قال تعالى: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ [الإسراء:26]. وقال عز من قائل: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً [النساء:36].
فيجب على كل قريب أن يصل قريبه بالمعروف ببذل الجاه والنفع البدني والمالي بحسب ما تتطلبه قوة القرابة والحاجة.
وقد كثرت النصوص في الحث على صلة الرحم ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال الله: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك قالت: بلى! قال: فذلك لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22-23] )).
وكثير من الناس اليوم مضيعون لها الحق مفرطون فيه، تجد الواحد منهم لا يعرف لقرابته الصلة، لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق، تمضي الأيام والشهور وما رآهم ولا قام بزيارتهم ولا تودد إليهم بهدية، ولا دفع عنهم ضرورة أو حاجة، بل ربما أساء إليهم بالقول والفعل، يصل البعيد ويقطع القريب، بل لقد امتلأت المحاكم بالشكاوى من الأقارب بعضهم لبعض، يتنافسون حطاماً من الدنيا، كلّ منهم يحاول أن يأكل حق الآخر.
ومن الناس من يصل أقاربه إن هم وصلوه، ويقطعهم إذا قطعوه، وهذا ليس بواصل في الحقيقة وإنما هو مكافئ للمعروف بمثله.
والواصل حقيقة هو الذي يصل قرابته ولا يبالي أوصلوه أم لا.كما في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)).
فاتقوا الله أيها المسلمون وقومواً بهذا الحق الواجب عليكم، وصلوا أرحامكم، فإن صلة الرحم نور في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن في صلة الرحم إلا أنها سبب في أن يصل الله الواصلَ في الدنيا والآخرة لكفى، فضلاً عن ما فيها من الخيرات في الدنيا والآخرة، من تفريج لكربات وإشاعة المحبة في المجتمع الواحد.
ومن الحقوق الواجبة علينا أيها المسلمون حق الزوج على زوجته.
وحقوق الزوج على زوجته لا شك أنها أعظم من حقوقها عليه فقد قال تبارك وتعالى مبيناً ذلك وموضحه: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ [البقرة:228]. فمن حقوق الزوج على زوجته أن تطيعه في غير معصية الله وأن تحفظه في سره وماله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) [رواه الترمذي وقال: حسن].
ولقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا الزوج عن زوجته من أسباب دخول الجنة فقد روى الإمام الترمذي رحمه الله من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)).
أما حقوق الزوجة على زوجها:
أن يقوم بواجب نفقتها من الطعام والشراب والمسكن، سئل صلوات ربي وسلامه عليه ما حق زوجة أحدنا قال: ((أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)).
ومن كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل.
فاتقوا الله أيها المسلمون وقومواً بهذا الواجب.
ومن الحقوق الواجبة علينا أيضاً حق الجيران، فالجار هو القريب منك بالمنزل، وله حق عليك كبير، فإن كان قريباً منك في النسب وهو مسلم فله ثلاثة حقوق، حق الجوار وحق القربى وحق الإسلام، وإن كان بعيداً وهو مسلم فله حق الجوار وحق الإسلام.
وأن كان غير مسلم فله حق واحد وهو حق الجوار، قال تعالى: وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ [النساء:36].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
فمن حقوق الجار على جاره أن يحسن إليه بما استطاع قال صلوات الله وسلامه عليه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)).
ومن حقوق الجار على جاره أن يكف عنه الأذى القولي والفعلي فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قالوا: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) وفي رواية أخرى ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) والبوائق هي الشرور.
فمن لا يأمن جاره شره فليس بمؤمن كامل الإيمان ولا يدخل الجنة إلا أن يشاء الله، وكثير من الناس الآن لا يهتمون بحق الجوار ولا يأمن جيرانهم شرورهم فتراهم دائماً في نزاع معهم وشقاق واعتداء على الحقوق وإيذاء بالقول أو الفعل.
وهنا صورة منتشرة من صور إيذاء الجار عند بعض الناس وهي رفع أصوات الأجهزة بالأغاني المؤذية فيتأذى الجار من هذه الأصوات المزعجة، فمع ما في هذه الأغاني من المعاصي فهي أذية للجيران.
فاتقوا الله أيها المسلمون وكفوا الأذى عن جيرانكم بالقول والفعل، نفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول ما تسمعون..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق تقواه واعلموا أنكم في آجال منقوصة وأنفاس معدودة وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم وأعدوا للسؤال جواباً وللجواب صواباً.
أيها المسلمون: نحن الآن أيها المسلمون نعيش شهراً عظيماً من الأشهر المباركة فيه نصر الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام وأغرق عدوه الأثيم فرعون في اليم.
لقد حصل هذا الحادث العظيم في اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم عاشوراء فهو يوم له فضل عظيم وحرمة قديمة قد صامه موسى عليه السلام شكراً لله عز وجل.
وصامه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه مع صوم يوم قبله أو بعده، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
وقد عزم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره أن لا يصومه مفرداً بل يصوم يوماً قبله أو بعده مخالفة لأهل الكتاب، ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده)) اقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطلباً للثواب.
فاتقوا الله عاد الله واحرصوا على طاعة الله وأكثروا من الحسنات فإن الحسنات يذهبن السيئات.
ألا وصلوا عباد الله على خير خلق الله..
(1/1748)
فضل الصلاة ومنزلتها
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/3/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلاة ركن من أكان الإسلام. 2- آيات في بيان أهمية الصلاة والحث عليها. 3- حكم تارك الصلاة. 4- الصلاة نور. 5- فضائل الصلاة. 6- الأمر بالمحافظة على الصلاة. 7- الحث على الخشوع في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الصلوات الخمس أحد أركان الإسلام التي قام الإسلام عليها، يقول صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام)) [1].
الصلوات – يا عباد الله – عبادة قديمة تعبّد بها الأنبياء والمرسلون، شعيرة من شعائر الدين، ولكن للصلوات الخمس في شريعة الإسلام خصوصية لم تكن تلك في شرائع الأنبياء السابقين، وقد اهتم الإسلام بها، واعتنى بأمرها، وشدد في حق تاركها والمتهاون بها.
وإذا تدبر المسلم كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم يرى للصلاة ذكراً عظيماً في كتاب الله العزيز، في آيات كثيرة يأتي ذكر الصلوات، فهي ركن الإيمان، ومفتاح دار السلام، وهي خير الأعمال، وهي أول ما يحاسب عنه المؤمن يوم القيامة من الأعمال فيما بينه وبين الله.
يذكرها ربنا جل وعلا في دعاء الخليل عليه السلام حيث يقول: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. ويمدح الذبيح إسماعيل عليه السلام بقوله: وَ?ذْكُرْ فِى ?لْكِتَـ?بِ إِسْمَـ?عِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَـ?دِقَ ?لْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً [مريم:54-55]. ويأمر بها موسى عليه السلام في أول ما أوحى إليه: وَأَنَا ?خْتَرْتُكَ فَ?سْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:13-14]. ويوحي إليه وإلى أخيه هارون بقوله: أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَ?جْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ [يونس:87]. وينطق بها عيسى في مهده حيث أخبر الله عنه أنه قال: قَالَ إِنّى عَبْدُ ?للَّهِ ءاتَانِىَ ?لْكِتَـ?بَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:20-21]. ويثني على عباده المؤمنين بقوله جل وعلا: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ?لْخَيْر?تِ وَإِقَامَ ?لصَّلو?ة وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ وَكَانُواْ لَنَا عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:73].
ويجعلها الله جل وعلا صفة للمتقين، المنتفعين بهدي القرآن، وهي صفة تلي الإيمان بالغيب، فقال في القرآن: هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ [البقرة:2-3]. ويبتدئ بها صفات المؤمنين، ويختم بها صفاتهم: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1-2]. ثم يأتي ذكر صفاتهم إلى أن قال: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ (1/1749)
همّ الفراغ وفقه الترويح
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
16/3/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشواغل في حياة الناس. 2- من أضرار الحضارة الغربية. 3- مشكلة الفراغ. 4- مراعاة الإسلام لمطالب الفطرة البشرية. 5- الترويح في واقعنا. 6- الترويح في واقع السلف. 7- التحذير من التوسع في الترويح. 8- بيان خطر كثير من المسابقات الثقافية. 9- وسطية الإسلام وتوازنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ عنهم فمات، فميتته جاهلية.
أيها المسلمون:
إن حياة الناس بعامة مليئة بالشواغل والصوارف المتضخمة، والتي تفتقد من حيث الممارسات المتنوعة إلى شيء من الفرز والترتيب لقائمة الأولويات، مع عدم إغفال النظر حول تقديم ما هو أنفع على ما هو نافع فحسب.
ثم إن الضغوط النفسية والاجتماعية الكبيرة الناتجة عن هذا التضخم، ربما ولدت شيئاً من النهم واللهث غير المعتاد، تجاه البحث عما يبرد غلّة هذه الرواسب المتراكمة، ويطفئ أوارها [1].
إن الحضارة العالمية اليوم قد عنيت بإشعال السلاح، ورفع الصناعة، وعولمة بقاع الأرض، تلكم الحضارة التي حولت الإنسان إلى شبه آلة تعمل معظم النهار – إن هي عملت – ليكون ساهراً أو سادراً [2] أو خامداً ليله، هذه هي الثمرة الحاصلة، ليس إلا.
إن تلكم الحضارة برمّتها لم تكن كفيلة في إيجاد الإنسان العاقل، الإنسان المدرك، الإنسان الموقن بقيمة وجوده في هذه الحياة، وحكمة خلق الله له، بل إن ما فيها من آليات متطورة وتقنيات، كان سبباً بصورة ما في إيجاد شيء من الفراغ في الحياة العامة، مما ولد المناداة في عالم الغرب بما يسمى "علم اجتماع الفراغ"، وإن لم يكن هذا الفراغ فراغ وقت على أقل تقدير، فهو فراغ نفس، وفراغ قلب، وفراغ روح، وأهداف جادة، ومقاصد خالية من الشوائب.
يأَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6]. لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ (1/1750)
الترويح في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
16/3/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ شمول الإسلام. 2 ـ ساعة وساعة. 3 ـ فوائد الترويح. 4 ـ مفاهيم فاسدة للترويح.
5 ـ الترويح عند السلف. 6 ـ مفاسد الترويح المعاصر. 7 ـ ضوابط الترويح المباح.
8 ـ من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم. 9 ـ المزاح لا يناقض العبودية.10- مشكلة الفراغ. 11- مفاسد الفراغ. 12- استثمار الفراغ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، وتذكروا مصيركم، وانظروا ما قدمتم من أعمال، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنها متاع الغرور، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله:
في مثل هذه الأيام من مواسم الإجازة، يشغل كثير من الآباء والمربين بقضيتين هامتين، هما الترويح ومفهومه، والفراغ وهمومه.
وإذا قرأت حديث حنظلة الأسيدي وقفت منبهرًا أمام شمول الإسلام والمنهج الشامل، فحنظلة من جيل حرص على أن يبقى يومه كلّه، بل حياته كلها على أعلى مستويات الإيمان ودرجات الكمال، وظن أن المرح مع زوجه، وترويحه مع ولده، وبسمته ومداعبته تنافي منهج العبودية وإعلان الاستسلام المطلق لله تبارك وتعالى، يقول له أبو بكر: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله ، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله ، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله، إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله ، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، قال: قال رسول الله : ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، إن كنتم تدومون على ما تكونون وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ـ ثلاث مرات ـ )) أخرجه مسلم [1].
عباد الله:
إن المراوحة في الأشياء، تزيل التعب والإرهاق، وتجدد النشاط، وتقوي على العمل، وتزيد الطاقة والإنتاج، وليس معنى قوله : ((ساعة وساعة)) أن يقطع المسلم يومه لهوًا ولعبًا، ويشغل الأوقات بالعبث والمجون، أو بالعكوف على أفلام ومجلات خليعة، تثير الغرائز، وتفسد القلوب.
قال عمر بن عبد العزيز: (لا بأس على المسلم أن يلهو ويمرح ويتفكه، على أن لا يجعل ذلك عادته وخلقه، فيهزل في موضع الجد، ويعبث ويلهو في وقت العمل).
وكان عبد الله بن مسعود يقول: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) [2].
والتخول هو التحول من حال إلى حال، لكن الفهوم السقيمة تتكئ على هذه النصوص لتضيق ساعة الذكر والجد والحزم، وتوسّع ساعة الترويح واللهو، فتهجر مجالس العلم والوعظ إلا قليلاً.
قد ينقدح في بعض الأذهان عند الحديث عن الترويح أنه سلوك بلا ضوابط، وممارسة بلا منهج، وتعدٍ على حدود الشرع، فيمارسون الترويح بأي وسيلة، دون تقيّد بحلّ أو حرمة أو فضيلة.
وهنا لا بدّ أن نستقرئ ترويح السلف الصالح، لنتبين منهجهم في هذا الميدان:
هذا ابن مسعود رضي الله عنه يبين أهمية الترويح بقوله: (أغيثوا القلوب، فإن القلب إذا أكره عمي) [3].
ويقول علي رضي الله عنه: (أجموا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة، فإنها تملّ كل تملّ الأبدان) [4].
قال أبو الدرداء: (إني لأستجم قلبي من اللهو المباح، ليكون أقوى لي على الحق) [5].
إذا قررنا أن الترويح سلوك قائم في حياة الرعيل الأول، فلنا أن نتساءل: لماذا يمارسون الترويح؟ هل هو انعكاس لمعاناة من فراغ، أو شعور بالسآمة والملل؟! كلا وحاشا، لقد كان ترويحهم ترويحًا للنفس حتى تتهيأ للجد، وكسبًا لنشاط أقوى، وهمة أعلى، لتحقيق الغاية من خلق الإنسان، وهي عبادة الله تبارك وتعالى.
لم يكن الترويح في حِسِّهم غاية يسعون لبلوغها، أو هدفًا لذاته يبذلون في سبيله الأوقات والأموال.
تفرز ممارسات الترويح المعاصر ذوبان الشخصية، وتمييع أحكام الشرع، وسلوكيات لا تقرها من تفاهة وانحلال.
وهذا نتاج المفهوم المعاصر للترويح، كونهم جعلوا الترويح هدفًا لذاته وغاية.
أما الترويح كما فهمه الرعيل الأول، فهو وسيلة سامية تخدم مصالح ومقاصد عالية، تُبنَى في ظلها سمات الشخصية، تُقوَّى الأجساد، تُهذَّب الأخلاق، تُدرِّب على الرجولة والجد، تفتح آفاقًا من العلم والعمل، مسابقة بالأقلام، مصارعة لتربية الأجسام، تحفيز على تعلّم الرمي، سابق رسول الله أصحابه، كما سابق عائشة [6] ، صارع رسول الله ركانة فصرعه النبي، وكان ذلك سببًا في إسلام ركانة [7] ، وخرج رسول الله على قوم من أسلم يتناضلون في السوق فقال: ((ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا)) أخرجه البخاري [8].
ويقول عمر بن عبد العزيز: (تحدثوا بكتاب الله، وتجالسوا عليه، وإذا مللتم فحديث من أحاديث الرجال حسنٌ جميل) [9].
إخوة الإسلام:
إن الترويح الذي مارسه الرعيل الأول ليس عبثا، بل ترويح تترتب عليه مصالح وفوائد، لا يتضمن سخرية بالآخرين ولمزا بالمسلمين، ولا غيبة ونميمة، لا يتضمن كذبًا وافتراءً، ذلك أن الترويح الذي لا منفعة فيه دنيوية ولا أخروية، يضيع عمر الإنسان بما لا فائدة فيه.
ليس من الترويح المباح التجول في الشوارع والأسواق، وتتبع العوار، والجلوس في المقاهي والشوارع والطرقات، الترويح في الإسلام ليس كأي ترويح، بل يجب أن يكون بريئًا من كل إسفاف، أو خروج على الأخلاق الإسلامية، محفوظًا عن اختلاط الرجال بالنساء، والنظرة المحرمة، أو أي ذريعة لمخالفة شرعية أكبر.
يقرر سلف الأمة أن النفس لها إقبال وإدبار، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدبارًا، فخذوها عند شهواتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها) [10].
لكنهم لا يسمحون للنفس وقت توريحها أن تفرط في حقوق الله، فلا ترويح في أوقات الصلوات، فهذا اعتداء على حقوق الله، ولا ترويح في أوقات العمل، فهذا اعتداء على حقوق الناس.
الترويح في حياة أمة الإسلام ليس هو كل شيء في حياتها، تصبح وتمسي عليه، وإنما هو ترويح بقدر، لئلا يزحف على الأعمال الجادة، والواجبات الأخرى، ولأن عمر الإنسان أغلى وأسمى من أن تُضيَّع أيامه بين لهو عابث، وعبث باطل، ولهذا ثبت من فعل أصحاب النبي أنهم كانوا يتبادحون ـ أي يترامون ـ بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال [11].
وعن [أبي] سلمة بن عبد الرحمن قال: (لم يكن أصحاب رسول الله منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق [12] عينيه) [13].
كان رسول الله يمزح ويداعب؛ جاءته امرأة عجوز تقول: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال لها: ((يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز)) ، وانزعجت المرأة وبكت، ظنًا منها أنها لن تدخل الجنة، فلما رأى ذلك منها، بيّن لها غرضه أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزًا، بل يبعثها الله خلقًا آخر، فتدخلها شابة بكرًا، وتلا قول الله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَـ?هُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَـ?هُنَّ أَبْكَـ?راً عُرُباً أَتْرَاباً [الواقعة: 25 ـ 27] [14].
وجاءته امرأة في حاجة لزوجها، فقال لها: ((من زوجك؟)) فقالت: فلان، قال: ((الذي في عينيه بياض؟)) وفي رواية: فانصرفت عجلى إلى زوجها، وجعلت تتأمل عينيه، فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخبرني رسول الله أن في عينيك بياضًا, فقال لها: أما ترين بياض عيني أكثر من سوادهما؟!! [15]
وعن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله : ((يا ذا الأذنين)) أخرجه أبو داود [16].
هذه الشخصية التي تمارس المزاح والمداعبة هي ذاتها التي تقوم الليل وتصوم النهار، تجاهد في سبيل الله، تبذل النفس والنفيس، ويدها سخّاء، فحين نسلّط الضوء على جوانب من شخصيته في المرح والمزاح والمداعبة يجب أن نوقد السراج طويلاً، ونقرأ مليا صفحات أخرى من شخصيته، فالهدي واحد، والشخصية كلّ لا يتجزأ، فمع كونه يمارس المزاح والمداعبة، كان طويل العبادة والخشوع، كثير البكاء والخضوع، لا يفتر لسانه من ذكر، ولا يهدأ باله من تأمل وفكر.
قال : ((إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه)) أخرجه البخاري [17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] في كتاب التوبة من صحيحه [2750].
[2] أخرجه البخاري في كتاب العلم [70]، ومسلم في كتاب صفة القيامة [2821].
[3] انظر: بهجة المجالس لابن عبد البر (ص115).
[4] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم [659]، وأخرجه أيضًا الخطيب في جامع أخلاق الراوي (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (ص 68) من طريق النجيب بن السري عن علي، وهذا سند منقطع، انظر: المراسيل لابن أبي حاتم (ص 424 ـ 425).
[5] ذكره ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص 274) وابن عبد البر في بهجة المجالس (ص 115) والذهبي في السير (5/421).
[6] حديث سباق النبي لعائشة أخرجه أحمد في المسند (6/264)، وأبو داود في كتاب الجهاد [2578]، وابن ماجه في كتاب النكاح [1979] عنها رضي الله عنها، وصححه ابن حبان [4691]، وهو في صحيح سنن أبي داود [2248].
[7] أخرجه أبو داود في كتاب اللباس [4078]، والترمذي في أبواب اللباس [1784]، وقال: "هذا حديث غريب، وإسناده ليس بالقاسم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة"، وأخرجه الحاكم (3/452) وسكت عنه، وكذا الذهبي، وحسنه الألباني لشواهده، الإرواء [1503]، وانظر: المسارعة إلى المصارعة للسيوطي بتقديم وتخريج مشهور حسن.
[8] هو في كتاب الجهاد من صحيحه [2899]، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[9] أخرجه البيهقي في الشعب (4/318).
[10] انظر: بهجة المجالس (ص 115)، والفوائد (ص 202).
[11] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (41) عن بكر بن عبد الله قال: كان أصحاب النبي يتبادحون...وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [435].
[12] حماليق العين هو ما يسوده الكحل من باطن أجفان العين، وهو كناية عن فتح العينين، والنظر الشديد.
[13] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/278)، والبخاري في الأدب المفرد (81)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/ 540)، والألباني في صحيح الأدب المفرد [432].
[14] أخرجه هناد في الزهد (1/58)، والطبراني في الأوسط (5/357) من حديث عائشة رضي الله عنها، وحسنه الألباني في غاية المرام [375].
[15] ذكره ابن قتيبة في مختلف الحديث (ص 272)، وأورده أبو البركات في كتاب المراح في المزاح (ص 13).
[16] هو في كتاب الأدب من سننه [5002]، وأخرجه الترمذي في كتاب البر [1992]، وأحمد في المسند (3/117) وقال الترمذي: "صحيح غريب"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود [4182].
[17] أخرجه البخاري في كتاب الصوم [1968] من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن سلمان رضي الله قال لأبي الدرداء: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط لكل ذي حق حقه، فأتى النبي فذكر ذلك له، فقال النبي : ((صدق سلمان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
وفي الإجازة تبرز مشكلة تقضّ مضاجع الآباء والأمهات والمربين، ألا وهي الفراغ الذي يغمر أوقات الأبناء والبنات، بل إن انحراف الشباب وجنوحهم صدى لهذه المشكلة، والحضارة المادية المعاصرة توسع دائرة الخطر، وتزيد من عمق الضرر.
النفس التي تفرغ من الجدّ تنتهي إلى حالة من الشر والانحلال، وخطورة الفراغ أنه لا يبقى فراغًا أبدًا، فلا بد أن يملأ بخير أو شر، ومن لم يشغل نفسه بالحق شغلته بالباطل.
نعم، إذا زاد وقت الفراغ، وترك دون استغلال، فإنه يتحول إلى مشكلة، ولا يخفى أن وقت الفراغ يقوي قابلية الانحراف، وأسباب الفساد، يقتل الفكر، ويبطل العقل، ويفتح أبواب الوساوس، ويثير كوامن الأفكار والأوهام.
وشهد أصحاب الاختصاص أن نسبة الجرائم والمشكلات الأخلاقية تبلغ ذروتها مع البطالة والفراغ، ويزداد الأمر خطورة مع وسائل العصر الحديثة، تلك التي تغري الشباب، وتفتح آفاقًا من الشر وهدر الأوقات.
ولئلا يفعل الفراغ فعله في النفوس، فإن ملأ الأوقات بالمفيد، والانتقال من عمل إلى آخر حصانة ووقاية، ومن الوسائل المفيدة لملء الفراغ أداء العبادات والسنن، والقراءة المفيدة في أمور الدين، والسيرة النبوية، وحياة الصالحين، والأخلاق، وكان عبد الله بن المبارك يمكث في بيته بعد علمه وتجارته، قارئًا لتراث السلف، فإذا ما سئل: ألا تستوحش؟ أجاب: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه؟!! [1]
إن الأمة التي تملأ وقتها بقراءة المفيد، وتعلّم النافع، ترقى في سلم التقدم والحضارة، وستكون قادرة على فهم الحياة، وإصلاح حالها، وبلوغ أهدافها، أما الأمة التي لا تتعدى ثقافتها ميادين اللهو واللعب والأزياء فستظل تابعة ذليلة في مؤخرة الركب لا وزن لها.
ومن الأعمال المفيدة في الإجازة حضور المحاضرات والندوات والدروس العلمية، وصلة الأرحام، والزيارات، والاشتراك في أنشطة المراكز الصيفية، وممارسة الترويح بالضوابط التي ذكرت آنفًا.
قال عمر بن الخطاب: (إن هذه الأيدي لا بد أن تُشغل بطاعته، قبل أن تشغلك بمعصيته).
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه الخطيب في تاريخه (10/154)، وانظر: صفة الصفوة (4/136)، والسير (8/382).
(1/1751)
بين يدي عام هجري جديد
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مضي عام يعني طوي سنة من أعمارنا. 2-ضرورة المحاسبة. 3-معنى المحاسبة. 4- أهمية محاسبة النفس. 5-فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك. 6-كيفية المحاسبة. 7- نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم. 8-التأريخ بالتأريخ الهجري دون الميلادي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى، فالأعمار تطوى، والآجال تفنى.
قبل أيام ودعنا عامًا هجريًا وبدأنا عامًا آخر، انقضت صفحة من صفحات حياتنا، ولا ندري عما طويناها، هل سودناها بسوء أعمالنا، أم بيضناها بصالح قرباتنا.
المسلم الصالح يا عباد الله، تكون له وقفات دائمة مع نفسه ليحاسبها ويصحح مسيرته ويتدارك خطأه، لاسيما عند انقضاء مرحلة من مراحل عمره.
إن النفس سريعة التقلب، ميالة في كثير من الأحيان إلى الشر، كما قال الله تعالى عنها: إِنَّ ?لنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِ?لسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى [يوسف:53].
ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طِوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها.
قال أبو حامد الغزالي: "اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك" [1].
أولاً: معنى المحاسبة:
المحاسبة ياعباد الله كما قال الماوردي: "أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل" [2] يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "المحاسبة أن يميز العبد بين ماله وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود" [3].
وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: "هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه" [4].
ثانياً: أهمية محاسبة النفس:
أيها الإخوة المؤمنون: لمحاسبة النفس فوائد كثيرة متعدّدة:
1- فمنها أن غيابها نذير غرق الأمة في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة، وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً، لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع المجتمع والفرد حساباً على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون وكما تهوى أنفسهم فيتقلبون على الحياة ودروبها بلا زمام ولا خطام فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا كِذَّاباً [النبأ:27-28].
2- ومنها –يا عباد الله- الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن اطلع على عيوب نفسه، أنزل نفسه المنزلة الحقيقة لا سيما إن جنحت إلى الكبر والتغطرس.وما من شك أنّ معرفة العبد قدر نفسه يورثه تذلّلاً لله وعبودية عظيمة لله عز وجل، فلا يمنّ بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ مقتاً) [5].
3-ومنها أيها الإخوة - أن يتعرّف على حق الله ـ تعالى ـ عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل مشين وقبيح؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ويتيقّن أنه من حقّه ـ سبحانه ـ أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
4-من فوائد المحاسبة كذلك أنها تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أمْر الله ـ تعالى ـ. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9-10]. وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً" [6].
5-أيها المؤمنون: المحاسبة تربّي عند الإنسان الضمير الحي داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7].
6-أيها المسلمون: استمعوا إلى ابن القيم ـ رحمه الله ـ وهو يحذر من إهمال محاسبة النفس فيقول: "أضرّ ما على المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها" [8].
والنفس كالطفل إن تهمله ش،ب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاحذر هواها وحاذر أن توليه إن إلهوى ما تولى يعم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم
أيها الإخوة: إذا كان أرباب الأعمال وأرباب الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم مراحل العملية الإدارية، فبدون هذه المراحل تكون المنشأة عرضة لفشل محقق، فما بالكم بهذا الإنسان المسكين الضعيف الذي يقطع مراحل حياته ليلقى ربه، فإما فوز ونجاة، وإما خسارة وعذاب.
عباد الله: يا من تعيشون في هذه الديار التي علا فيها صوت الشيطان، وأجلب على أهلها بخيله ورجله، نحن في حاجة أكبر لمحاسبة النفس، المعاصي تغزونا حتى في دورنا وبين أهلينا، والغفلة رانت على قلوبنا، وطاعة الله بعيدة عنا.
ثالثاً: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:
أيها المؤمنون: يقول الله تبارك وتعالى ـ: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. قال صاحب الظّلال: "وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً ورصيده من البرّ ضئيلاً؟! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن النظر والتقليب" [9].
قال الحسن البصري في تفسير قول الله عز وجل: وَلاَ أُقْسِمُ بِ?لنَّفْسِ ?للَّوَّامَةِ [القيامة:2]. "لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه" [10].
ويقول الله ـ عزّ وجلّ ـ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه: إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
قال الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ [الحاقة:18]) [11].
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة" [12]. ويقول ميمون بن مهران: "إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه" [13].
رابعاً: كيفية المحاسبة:
فإن قال قائل يا عباد الله: كيف تكون محاسبة النفس؟
فالجواب: محاسبة النفس لها طرائق متعددة، كل يجتهد في الطريقة الأنسب،وهنا نشير إشارات مختصرة.
بين بعض العلماء [14] أن المحاسبة تكون على نوعين:
النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه.
قال الحسن: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره توقّف" [15]. قيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ فقال: "كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة، ثم قال: امض" [16].
النوع الثاني من أنواع المحاسبة يا عباد الله: المحاسبة بعد العمل، وهي على أقسام ثلاثة:
أ- محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله ـ تعالى ـ وذلك يكون بأن يديم سؤال نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً ـ وأيّنا يسلم من ذلك؟ ـ فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.
ب – القسم الثاني من المحاسبة بعد العمل محاسبة النفس على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: "وبداية المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب.
وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل... فإذا قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [أنها] الجاهلةُ الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي" [17].
وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال ـ سبحانه ـ: إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود: 114].
فالبدارَ البدارَ يا عبد الله قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد والزقوم والصديد في نارٍ قال فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إن أهون أهل النار عذاباً رجل انتعل نعلين يغلي منهما دماغه)).
فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على ارتكاب المعصية والذنب ـ ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟! نسأل الله اللطف والتخفيف.
ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركُه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.
وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.
أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: "إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن ـ واللهِ ـ ما من صلةٍ إليك، هيهات!! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً ـ إن شاء الله ـ.
إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ـ عز وجل ـ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كلّه" [18].
وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.
خامساً: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:
أيها المؤمنون: سلفنا الصالح ضربوا أروع الأمثلة في محاسبة النفس، مما لو حاولنا أن نستقصيه لطال بنا المقام، ولعجزنا عن ذلك، لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره نفسه إلا بخير.
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعتُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ: (عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [19].
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: (إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه) [20].
وقال إبراهيم التيمي: "مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي" [21].
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: (يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟) [22].
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!) [23].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم.
[1] الإحياء: 4/588
[2] أدب الدنيا والدين (342) [نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم، 8/ 3317].
[3] مدارج السالكين، 1/187.
[4] التربية الذاتية من الكتاب والسنة لهاشم علي أحمد (97).
[5] الزهد للإمام أحمد (196).
[6] إغاثة اللهفان لابن القيم (79).
[7] التربية الذاتية (98).
[8] إغاثة اللهفان، (82).
[9] في ظلال القرآن، لسيد قطب، 6/3531.
[10] تفسير البغوي، 4/421، والزهد للإمام أحمد (396).
[11] حلية الأولياء لأبي نعيم، 2/157.
[12] يراجع من المقال في مجلة البيان.
[13] الزهد لوكيع بن الجرّاح تحقيق الفريوائي (501).
[14] وهو الغزالي ـ رحمه الله ـ
[15] مقاصد المكلفين فيما يتعبّد به لربّ العالمين، للدكتور عمر الأشقر (429) (بتصرّف).
[16] جامع العلوم والحكم شرح الحديث الأول.
[17] مدارج السالكين 1/188.
[18] حلية الأولياء 2/157، وذم الهوى (40).
[19] الزهد للإمام أحمد (171).
[20] مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لابن الجوزي، 171.
[21] الزهد للإمام أحمد، 501.
[22] الزهد للإمام أحمد، 336، وذم الهوى، 41.
[23] وتمام القصة ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى. الإحياء،4/58، والقصة مذكورة في صفة الصفوة لابن الجوزي 4/196.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواصل الحمد بالنعم، والنعم بالشكر، نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه، ونستعين به على نفوسنا الأمارة بالسوء، ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه علم غير قاصر وكتاب غير مغادر، خلق الإنسان وبصّره بما في الحياة من خير وشر إِنَّا هَدَيْنَـ?هُ ?لسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديرا ً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
الأمر جد خطير، أيها المؤمنون، استمعوا إلى هذا الحديث: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّه،ِ وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَد)) [1].
أيها المؤمنون إلى متى نسبح في بحار الغفلة، ونسير مع رياح الهوى، أليس وراءنا حساباً، أليس وراء الحساب عذاب؟
وباختصار نقول يا عباد الله، ليعاهد كل منا نفسه أن يكون له في كل يوم قبل نومه لحظة حساب، فإن لم يكن ففي شهره، فإن لم يكن ففي سنته، وليس وراء ذلك خوف ولا خير.
ثم هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم تذكرنا بأمر هام إلا وهو التأريخ الهجري، هل تعلمون يا عباد الله أن كثيراً من المسلمين لا يعلمون في أي سنة هجرية نحن، بل إن كثيراً منهم لا يعرفون في أي شهر عربي إسلامي نحن؟
إن لكل أمة تأريخاً يعتزون به، اليهود يعتزون بدينهم، والصينيون لهم تاريخ، والأقباط لهم تاريخ، كل يعتز بتاريخه ويحافظ عليه، إلا أمة الإسلام، تهاونت في تاريخها، وما ذلك إلا مظهر من مظاهر انسلاخها من دينها وتاريخها، وهو نتاج طبيعي للهزيمة النفسية التي سيطرت على المسلمين أفراد وجماعات.
إن اعتماد التاريخ الهجري والعمل به التزام من هذه الأمة بدينها، وربط لأجيال الأمة بتاريخها المجيد، وإحياء لشعيرة التميز الذي ميزت به هذه الأمة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
إن نسيان هذا التاريخ يعني ذوبان هوية هذه الأمة، وطغيان الهوية الغربية النصرانية عليها، إنه تشبه بالضالين، ولذا نص العلماء على منعه.
إننا وإن ابتلينا بهذا التاريخ النصراني، وارتبطت به كثير من مصالحهم، فلا أقل من أن نلتزم بذكر هذا التاريخ في حياتنا اليومية، وأن نبدأ به مراسلاتنا ومواعيدنا، وأن نعلمه أبناءنا وبناتنا ونذكر به زوجاتنا، بل نتذاكر به جميعاً.
أيها الإخوة: التاريخ الهجري هو تاريخ المسلمين المعتمد الذي انعقد الإجماع على العمل به، وهو من شعائر أهل الإسلام، والرغبة عنه إلى غيره من تواريخ الشرق أو الغرب خروج عن الإجماع، وإظهار شعار من شعائر الكفار واستغناء به ومشاركة في طمس الهوية الإسلامية. ولا يمكن أن تستقيم عبادات هذه الأمة التي أمرها بها خالقها إلا بالتاريخ الهجري. فعبادات هذه الأمة مرتبطة بهذا التاريخ وغيره لا يصلح لنا.
أيها المؤمنون: إننا ندعو الدول الإسلامية والهيئات الإسلامية والأفراد جميعاً - إن كانوا صادقين في تشرفهم بهذا الدين - أن يلتزموا التاريخ الهجري تاريخاً أصلياً، ولا مانع من ذكر الموافق له من التاريخ النصراني الذي ابتلينا به لتسيير أمورنا، حتى يأتي الله بفتح من عنده.
أيها المؤمنون: من اللطائف أيضاً أن نذكر التاريخ الهجري دون تعقيب بقولنا للهجرة النبوية، لأنه الأصل فلا داعي للتعريف به، وإذا ذكرنا التاريخ الميلادي نقيده بقولنا للميلاد أو نحوها لأنه أمر طارئ يحتاج إلى بيان.
عباد الله: نعم نحن هذه الأيام نستقبل عاماً جديداً إسلامياً هجرياً، ليس من السنّة أن نحدث عيداً لدخوله أو نعتاد التهاني ببلوغه، أو أن نحتفل به، أو نحتفل بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم زاعمين حبه، فليس الغبطة بكثرة السنين وإنما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة مولاه، فكثرة السنين خير لمن أمضاها في طاعة ربه، شر لمن أمضاها في معصية الله والتمرد على طاعته وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
ها قد أهلّ على الوجودِ (مُحَرّمُ) فالكونُ يزهو والحياةُ تبسّمُ
ترنو إلى ركبِ النبي وقد مضى تَبْكيه مكةُ والمَقَامُ وزمزمُ
عوّدتُ نفسي الاحتفالَ بهجرةِ الْـ هادي الْبشيرِ، وعطرَها أتنسّمُ
لكنْ على الوجهِ الذي أبصرتُه عن حبِ خير المرسلين يُترجِمُ
فاخترتُ من شعرِ المديحِ قصيدةً أنشدتُها ووجدتُني أترنّمُ
وحَسِبتُ أني قد بلغْتُ ذرا التقى بل ليس مثلي في المحبة مسلمُ!!
وإذا بأعماقي دويّ صارخٌ يا غافلاً حتّى متى تتَوهّمُ!!
حتى متى والقولُ قد زخرفْتَهُ والفعلُ يفضحُ ما تقولُ وتزعُمُ
لمّا عَجزْتَ عن اتباعِ (محمدٍ) أَقنعْتَ نفسَكَ بالكلامِ، ودُمْتمو!
ماذا اقترفتُ لكي تراني واهماً أَلأَنّنِي بهوى النّبيِ مُتيّمُ؟!
إني أرى حبّ النبي عبادةً ينجو بها يومَ الحسابِ المسلمُ
فأجابني: حبّ النبِي عبادةٌ فرضٌ على كل العبادِ محتّمُ
لكنْ إذا سَلَكَ المحبّ سبيلَهُ متأسّياً وَلهدْيِهِ يَتَرَسّمُ
هل ضيّعَ الإسلامَ إلا قائلٌ أفعالُهُ تنفي المقالَ، وَتْهدِمُ؟
فالقدسُ ضاعت من كلامٍ دونما فعلٍ يؤيد قولهم، ويُتَرْجِمُ
والطفلُ ملّ من الكلامِ؛ وليتهم يدَعُونه يرمي اليهودَ، ويَرْجُمُ
والعدلُ ملّ من الكلامِ؛ وقد رأى مَنْ يَدّعي عدلاً يجورُ، ويَظْلِمُ
والطهرُ ملّ من الكلامِ؛ وطالما زعمَ الطهارةَ داعرٌ لا يرحمُ
حتى البطولةُ أَعْلنتْ إضرابَها لما ادّعاها من يَخافُ، ويُحْجمُ
فَصَرخْتُ:كُفّ القولَ؛ قد أَخْجَلْتَنِي وكلامُك الحقّ الذي لا يُكْتَمُ
[1] رواه الترمذي
(1/1752)
آثار الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعاصي سبب الهلاك.2- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.3- حالنا اليوم.4- الحث على التوبة النصوح.5- من آثار المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن خراب الناس وهلاك الأمم إنما يكون بسبب انتشار المعاصي والسيئات والمنكرات، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]. أي أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم ولذلك قال الله عز وجل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا وفي قراءة أمَّرنا مترفيها فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. ومعنى أمرنا مترفيها أي أن المترفين من أهل الفساد هم الذين يتأمرون على الناس فيشيعون المنكرات والسيئات بين المسلمين، فإذا شاعت المنكرات وسكت الناس عن تغييرها ولم يقوموا بواجبهم في تغيير المنكرات والأمر بالمعروف عمهم الله سبحانه وتعالى بعقاب من عنده، ثم يدعون فلا يستجاب لهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25]. قال ابن عباس : (إذا رأى الناس المظالم ولم يغيروها عمهم الله بعذاب من عنده) ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: دخل علي رسول الله ذات يوم فزعاً وهو يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها)) فقلت ـ أي تقول أم المؤمنين زينب رضي الله عنها ـ: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما].
ومعنى فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، أي: إن باب الشر والفتنة في عهده يوم أن دخل فزعاً وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح باب الفتنة والشر مثل هذه، فمنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، خمسة عشر قرناً من الزمان، كم توسع ردم الفتنة وباب الشر، الله أعلم ولكن الشرور في زماننا هذا كثيرة فإن الناس قد بعدوا عن الله عز وجل، وصارت السيادة لأهل المنكرات والسيئات، يعيثون في الأرض فسادا، أين المصلحون أين الذين يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين الذين يقفون في صف واحد أمام أعداء الإسلام ليردوا كيدهم في نحورهم، أين الذين يذودون عن حياض هذا الدين.
المنكرات والسيئات، قد عمت وانتشرت وبسبب شؤم هذه المعاصي التي سادت وانتشرت بين المسلمين خرب العمران والبلاد وتعطلت المصالح، وإذا بالغلاء الفاحش يضرب بأطنابه في كل مكان، والمسلمون في كل بقاع الأرض يشكون من هذه الابتلاءات والمصائب المتتابعة عليهم، ألم يعلموا أن الجزاء من جنس العمل؟ إن الله سبحانه وتعالى ما ينزل مصيبة في الأرض ولا بلاءً من السماء ينزل إلى الأرض إلا بسبب معصية، إلا بسبب فاحشة، إلا بسبب شيوع المنكرات والسيئات والمعاصي، فالبدار البدار عباد الله، العودة إلى الله، التوبة إلى الله، الاستغفار لله، إذا أردنا أن تحسن أحوالنا، ويرفع الله سبحانه وتعالى عنا البلاء والمصائب فلن يرفع إلا بتوبة صادقة بعودة صادقة إلى الله، والتمسك بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، فإذا فعل المسلمون ذلك عمهم من الله سبحانه وتعالى الرحمة، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
إن كل ما نراه إنما هو بسبب معاصي المسلمين، المسلمون كثير منهم أشركوا بالله في أقوالهم وأفعالهم، المسلمون نحوا شرع الله عن سدة الحكم فتحاكموا إلى القوانين الوضعية وإلى الطاغوت وإلى الكهنة وإلى الشياطين وإلى السحرة وإلى الدساتير الوضعية التي وضعها أناس من البشر، نصبوا أنفسهم أرباباً من دون الله ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ?للَّهِ وَ?لْمَسِيحَ ?بْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـ?هاً و?حِداً لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـ?نَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. كم هم الذين يحافظون عن أداء الصلوات الخمس في أوقاتها؟ إنهم قليل بل أقل من القليل، وكثير من المسلمين في غيبتهم سارون، كم هم الذين استمروا الباطل فما من زنا إلا وفعلوه، وأما الخمر فقد شربوها، وأما الربا فقد أكلوه، وأما الرشوة فقد استباحوها، وبعد ذلك كلما نادى منادٍ بعودة الناس إلى الدين، ونادى مناد بإرجاع الناس إلى الحق المبين، إذا بك تسمع من يسخر بالناس الدعاة الصالحين.
والمسلمون يصفقون لأمثال هؤلاء ولا يغيرون المنكرات بعد ذلك إذا ابتلاهم الله بالمصائب يضجون ويشكون، ولم يعلموا أن الجزاء من جنس العمل، وأن هذه الابتلاءات والمصائب ما نزلت إلا بسبب ما كسبته أيدينا، ثم بعد ذلك نعيب الزمان عجباً والله إن الزمان لا يفسد إلا بفساد أهله، ولا يصلح إلا بصلاح الناس، إن صلح الناس كان الزمان صالحاً، وإن فسد الناس كان الزمان فاسداً، فرحم الله الإمام الشافعي إذ قال:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
تأملوا حالنا: القتل أصبح منتشراً بين المسلمين على مستوى الأفراد والجماعات، أصبح المسلم اليوم يقتل على مرأى ومسمع من كل المسلمين، ولا يسمع من ينكر أو يضج أو يحرك ساكناً، فهذا المنكر العظيم والنبي يقول كما رواه البخاري في صحيحه يقول : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) صار دم المسلم اليوم أرخص من دم الدجاجة.
الدجاجة قد تشترى بثمن والمسلم يقتل ولا حد ولا قصاص ولا من يطالب بدمه، إن كل ما أصابنا بسبب شؤم المعصية التي نحن نرتكبها، وأحمد الله سبحانه وتعالى أن جعل الله سبحانه وتعالى لكم أعيناً تطرف وآذاناً تسمع، وقلوباً تعي فإن من رحمة الله عز وجل أنه ما يؤاخذ بالعقوبة بغتة إلا بعد إمهال، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإذا رأى العبد أن الله قد أغدق عليه بالنعمة أو تركه على حالة وهو منغمس في المعاصي فلا يأمن مكر الله، وليعلم أن ذلك استدراج سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ [الأعراف:44-45].
ولذلك يقول أبو بكر الصديق قال: (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها). يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ?هْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. وإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه - أي لم يمنعوه من الظلم - أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) [أخرجه الإمام أبو داود والترمذي والنسائي].
فهل تكون هذه عبرة لمن أراد أن يعتبر إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
أقول ما تسمعون، ادعوا الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد أخرج الإمام ابن ماجه في سننه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمر ما قال: وعظنا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [إسناده حسن].
خمس خصال كلها لو تأملناها، موجودة فينا، ومنطبقة علينا تمام الانطباق، تعالوا نتأمل: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون)). يقول الدكتور محمد علي البار في كتاب الأمراض الجنسية: إن الطاعون اسم لمسمى الفيروسات الفاتكة التي تفتك بالبشرية، إذا شاع فيها الفاحشة والفاحشة، مسماها في أمرين: في الزنا وفي فعل قوم لوط، والعياذ بالله، هذه الفاحشة اليوم منتشرة بين المسلمين، فتحت لها دور البغايا في كثير من البلدان ومن الدول، من قننت وأعطت للباغيات والمومسات صكوكاً كترخيص السيارة تمارس هذه الدعارة التي وصفها الله بالفاحشة في قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. تعطى هذه التراخيص للمومسات ليزنين تحت حماية القانون، وما من فندق أو كازينو أو كابريهات إلا وتجد طابوراً من الداعرات اللواتي يمارسن هذه الفاحشة على مرأى ومسمع من المسلمين جميعاً، وبحماية القانون، ثم بعد ذلك إذا ظهر في البشرية الأمراض الفتاكة كالإيدز والهربس والزهري والسيلان ومرض الشبك الجنسي، وآخر تلك الأمراض التي الآن البشرية تعاني منها إنه قد اكتشف في الآونة الأخيرة، مرض جديد مرض الشوك الجلدي هذا المرض ما هو؟ الذين يفعلون الفاحشة سواء يأتون الفروج الحرام بالزنا أو بفعل قوم لوط يبتليهم الله سبحانه وتعالى بعظام تخرج من جلودهم كالشوك ثم بعد ذلك يموت، بعد أن يتعذب عذاباً إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. سيئ السبيل سيئ الطريق وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126].
((ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين والقحط والجفاف)) أما نعاني اليوم من قحط وجفاف؟ استسقينا فلم نسق، دعونا فلم يستجب لنا، لأن للدعاء شروطاً، ومن شروط الدعاء العودة والاستجابة لله، الله سبحانه وتعالى ضمن لنا الإجابة إذا دعوناه بشروط فقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. من ذا الذي يستجيب الله له إذا دعاه فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. هل استجبنا لله؟ هل آمنا بالله؟ حتى الإيمان سلوا أنفسكم كم من المتحاكمين بالباطل ونحن نصفق لهم ونزمجل لهم ونطبل لهم ونزمر لهم، وكم من إنسان يريد أن يقيم العدالة في الأرض ونحن نسبه ونتهمه بالخيانة فبعد ذلك الله سبحانه وتعالى يغير من أحوالنا.
تحاكموا فاستطالو في تحكمهم وإما قليل كأنما الأمر لم يكن
لو أنصفوا أنصفوا ولكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالأحزان والمحن
وأصبحوا ولسان الحال ينشدهم هذا بذاك ولا عتب على الزمن
إنما العتب علينا أيها المسلمون:
((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة)) أي الفقر من غير تعليق، وجور السلطان عليهم والحكاية تغني عن المقال.
((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء)) في عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس الذي سماه الإمام الشافعي بخامس الخلفاء الراشدين، حكم سنتين بل أٌقل من السنتين أقل من السنتين ببضعة أشهر، حكم ما يقارب السنتين فرد المظالم إلى أهلها، وأقام الحدود والقصاص في الأرض، وطبق شرع الله وكان يأخذ المال، فبارك الله في المال أموال الزكاة حتى إنه كان يحثوه حثوا فقسمه على الفقراء والمساكين، ففي السنة الثانية لم يجدوا في دولة الإسلام فقيراً.
حالنا انظروا إليه، كم من فقراء اليوم يتضورون جوعاً، لا يجدون لقمة، وكم من الأغنياء والمسؤولين يتعالجون من مرض التخمة في أوربا من كثرة الأكل، يصابون بالتخمة وفقراؤنا لا يجدون اللقمة.
أحياءنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألفاً ترزق الأموات
أيرحمنا الله بعد ذلك، والرسول يقول: ((الراحمون يرحمهم الرحمن.ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
((ولولا البهائم لم يمطروا)) لكن رحمة الله سبحانه وتعالى أن يرحم البهائم والأطفال الرضع والشيوخ الركع فبرحمة الله. لهؤلاء المستضعفين قد ينزل المطر، وإذا حبس عنهم فذالك جزاء من الله سبحانه وتعالى بسبب العقوبة التي نستحقها، وإن الله حكيم لا يصدر شيئاً إلا بحكمة، وهو العزيز الحكيم، ((إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم)).
((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) نعم بأسنا بيننا على مستوى الأفراد والشعوب، ما من بقعة إلا وينعدم فيها الأمان اليوم، فتسمع من قبيلة فلانية 16 قتيلاً وكذلك كذا جريحاً لماذا؟ على أتفه الأسباب، ليتهم قاتلوا في سبيل الله، إنما يقاتلون في سبيل الطاغوت فَقَـ?تِلُواْ أَوْلِيَاء ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفاًً [النساء:76].
إننا والله يا معشر المسلمين على شفتي هلكة من أمرنا، فلنتدارك أنفسنا قبل أن يرسل الله سبحانه وتعالى علينا صاعقة من السماء، فإنكم كما تعلمون وفي ناحية من نواحي إب حصل قبل أسابيع قليلة حصل أن أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم صاعقة، فأهلك ستة عشر نفراً وكذا وكذا من الجرحى، حتى تشققت بعض البيوت من الصاعقة، هذا كله إنذار من الله سبحانه وتعالى بالعودة الصادقة إلى الله، العودة الصادقة إلى الله، توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وارجعوا إلى الله لعل الله سبحانه وتعالى يحول أحوالنا إلى أحسن حال.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
(1/1753)
التوحيد وفضل العشر من ذي الحجة
التوحيد
أهمية التوحيد
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الفضيلة في اتباع الشرع. 2 ـ كمال الدين وتمام الشريعة. 3 ـ التوحيد أصل الأصول.
4 ـ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. 5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6 ـ حال المسلمين اليوم. 7 ـ فضل العشر من ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن الفضيلة يبحث عنها كل إنسان، ذلك لأن منها قوام حياة المسلم فبالفضيلة واجتناب الرذيلة يسعد الإنسان في هذه الدنيا، وإن البحث عنها لا يكون إلا على وفق مقتضى الشريعة الإسلامية، ذلك أن الله سبحانه وتعالى ما من خير وفضيلة إلا أمر به، وما من شر ورذيلة إلا نهى عنه، ولذلك جعل اتباع هذا الشرع الحنيف واجباً على كل مسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال الله سبحانه وتعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. فأكمل الله سبحانه وتعالى للناس الدين فكان إكمالاً للفضيلة، وأتم عليهم النعمة الإسلامية فكان ذلك إتماماً للفضيلة، ورضي الله سبحانه وتعالى للمسلمين هذا الدين إلى قيام الساعة، أن يسيروا عليه ويقتفوا أثر النبي عليه الصلاة والسلام ظاهراً وباطناً، فإنهم إن فعلوا ذلك كانوا من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، وإن أعرضوا عنه كانوا من أهل الشقاء الذين لا يسعدون أبداً.
فمن أين يكون البحث عن الفضيلة؟
إن البحث عن الفضيلة إنما يكون في المقومات التي جاء تأصيلها في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله ، وأول تلك الفضائل المأمور بها من الله عز وجل التوحيد، أن نوحد الله أن نعبده وحده لا شريك له، وأن نتجرد لله عز وجل في كل أمر من أمور ديننا ودنيانا، حتى نلقى الله وهو راض عنا، ولذلك هذا الأمر كان أصل الأصول في هذا الدين وهو أوجب الواجبات، يقول معاذ بن جبل : "كنت رديف الرسول على حمار، فقال: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وحق العباد على الله))؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله، أي ما أوجبه الله على نفسه وجعله حقاً للعباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً))، قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس، (لأن هذه الفضيلة كان حقاً على كل إنسان أن يبشر نفسه ويبشر بها إخوانه) أفلا أبشر الناس، قال: ((لا فيتكلوا)) فأخبر بها معاذ من عند موته تأثما، أي عندما حضرته الوفاة أخبر بها خوفاً من أن يناله إثم حتى لا يكون من الذين يكتمون ما أنزل الله على عبده. لي من الله رعاية أن منها في عناية
قد جعلت الصدق دأبي والتوكل لي وقاية
فإذا ما رام عدوي بي شراً أو نكاية
حلته سراً على الله وفي الله الكفاية
فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً. [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحه].
ولذلك فإن التوحيد بمعناه العام والشامل هو المطلوب من كل العباد أن يجعلوا كل أمورهم لله وفي الله، إن أحببنا فلنحب في الله، وإن أبغضنا فلنبغض في الله، عطاؤنا لله، منعنا لأجل الله، إن توكلنا فلنتوكل على الله، في الاحتكام لا نحتكم إلا إلى الله ورسوله، وكذلك في حياتنا إلى مماتنا، وفي كل حركة وسكون نفعله يجب أن يكون لله عز وجل، تجرد كامل لله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. لذلك قال في بيان معنى الفضيلة في الدنيا والآخرة: ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) [أخرجه البخاري ومسلم].
أي فضلية أعظم من هذه الفضيلة غير أن الناس في غفلة عنها، وإنها لمصيبة أن يعلم المسلمون أن الواجب عليهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ثم هم يصرفون أمورهم لغير الله، إنها والله لجريمة في حق الإسلام أن يعي المسلم هذه الحقيقة وهو لا يعمل لها ليل نهار.
ومن الفضيلة كذلك الاقتداء بالنبي في الهدي الظاهر والباطن، فإن التمسك بسنته والعمل بمقتضى أمره وتوجيهه عليه الصلاة والسلام فيه السعادة، قال الله سبحانه وتعالى: أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]. طاعةً لله ولرسوله، نهي من الله سبحانه وتعالى عن الإعراض والتولي عن سنة نبيه لذلك قال أبي بن كعب: "عليكم بالسبيل والسنة (والسبيل هو الصراط المستقيم الذي جعله الله للمؤمنين في الأرض ويقودهم إلى الجنة)، عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد يكون على سبيل وسنة ثم يذكر الله فتفيض عيناه أي بالدموع إلا حرم الله عليه النار، وفي قول : إلا حرم الله على النار أن تمسه لذلك كان حذيفة يقول للقراء الحفاظ كتاب الله: (يا معشر القراء إنكم قد سبقتم سبقاً بعيداً، فإن أخذتم يميناً أو شمالاً ضللتم ضلالاً) بعيداً أي إن أعرضتم من هذا الخير الذي حباكم الله سبحانه وتعالى به ضللتم ضلالاً بعيداً.
ومن الفضيلة كذلك أن يعِّود المسلمون أنفسهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الأصل أي أصل القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي ينال بها المسلمون الخيرية، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]. تأمرون بالمعروف، والمعروف هو كل ما أمر به الشرع، وتنهون عن المنكر والمنكر هو كل ما نهى عنه الشرع، فكل ما جاء تحسينه في كتاب الله وسنة رسوله فهو معروف يجب الائتمار به، وكل ما قبحه الشرع في الكتاب والسنة فإنه منكر يجب الانتهاء عنه وزجر الناس عنه، لذلك قال : ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا فنجوا جميعاً)) [أخرجه البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير].
بيان من النبي بأن الفضيلة لن تتأتى في أي مجتمع إلا إذا كان أبناؤه قائمين بالأمر بالمعروف ناهين عن المنكر، وإن الفساد لم يستشر بين المسلمين، والمنكرات لم تطغ على حياتهم إلا حين غفلوا عن هذا الواجب العظيم، وقد قال : ((لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يأخذكم بعقاب من عنده ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) [أخرجه الإمام الترمذي بإسناد حسن].
((ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) إي وربي إنها الحالة التي نحن عليها، مصائب متتابعة، ابتلاءات على إثر ابتلاءات، محن تأتي الواحدة بعد الأخرى، تكالب الأعداء علينا من كل مكان وحدب وصوب، ضيق الله على المسلمين في معيشتهم، انعدم الأمان فزرع الخوف بين المسلمين حتى أصبح المسلم لا يستأنس بأخيه المسلم،السيئات انتشرت والخمر قد شربت على مرأى ومسمع من عباد الله، والربا قد استبيحت والرشوة قد أكلت، والمنكرات طغت وعمت في المجتمع، والسفور والتبرج يطغى كل الشوارع وحكم الله مغيب، أُدني المجرمون وأبعد المؤمنون، حورب المسلمون عباد الله، ورفع العلمانيون المرتدون الذين يشار إليهم بالبنان، وقدموا على أنهم من دعاة التقدم والتحضر، سفك للدماء، أكل لأموال الناس بالباطل، يقتل المسلم أخاه لأتفه الأسباب.
كل هذه عقوبة قدرية من الله، لأننا لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، فساد في كل بيت، في كل بيت يسمع فيه ما يغضب الرحمن الرحيم، ويرضي الشيطان الرجيم، وبعد ذلك نرفع أكفنا بالضراعة إلى الله نقول: يا رب، لم لا ترفع عنا هذا البلاء والغلاء والمصائب؟ ولكن من ذا الذي يجيب، إن الله لا يستجيب لنا لأن الداء فينا، قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. دعوناه فلم يجبنا لأنه قال: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. هل استجبنا لله؟ إن استجبنا لله كان حقاً على الله سبحانه وتعالى أن يجيب دعاءنا، فكيف يستجيب الله دعاءنا ونحن لم نستجب له؟ لذلك إن أردنا الفضيلة فلنرجع إلى الله سبحانه وتعالى ونمتثل قوله: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:24-25].
فالبدار البدار والعودة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أقول ما تسمعون ادعوا الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإننا نعيش في هذه الأيام الفضيلة المباركة، نعيش في نفحات الرحمن، إنها الأيام المعلومات التي أمر الله سبحانه وتعالى فيها عباده بالطاعة وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُود? [البقرة:203]. فأمر الله بذكره في هذه الأيام وهي الأيام التي أمر الله موسى بأن يذكر بني إسرائيل في أرجح أقوال أهل العلم في قوله تعالى وذكرهم بأيام الله ، وكان حقاً أن يذكر المسلم نفسه وإخوانه بها كي ينتفع المسلمون بهذه الأيام المباركات.
إنها الأيام العشر من ذي الحجة التي جعل النبي العمل الصالح فيها أحب إلى الله سبحانه وتعالى مما سواها قال : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر أي من عشر ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وبماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما].
إن هذه الأيام يستحب فيها الصيام كما يستحب فيها الذكر، يستحب فيها التهليل والتحميد والتكبير والتسبيح والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، يستحب فيها الصدقة يستحب فيها الاعتكاف، يستحب فيها قراءة القرآن، يستحب فيها الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى من كل المؤثرات الدنيوية، وخير هذه الأيام الفضيلة يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وسوف يوافق إن شاء الله في هذا العام يوم جمعة كما كان في حجة النبي عام حجة الوداع فإنه حج ووافق حجه يوم عرفة بأن كان في يوم الجمعة، وذلك فضل الله والله ذو الفضل العظيم.
وصوم يوم عرفه يكفر ذنب سنتين عن أبي قتادة قال: قال رسول الله : ((صوم عرفة يكفر سنتين)) أي ذنب سنتين ماضية ومستقبلة، أي السنة التي ذهبت والسنة التي نستقبلها. ((وصوم عاشوراء يكفر سنة)) أي ماضية، [وهذا الحديث أخرجه الجماعة إلا البخاري والنسائي]. وفيه دلالة على أن صوم يوم عرفة من الأيام العظيمة التي يجب أن يتبعها المسلمون، فإن لم تستطع أخي المسلم أن تصوم أيام العشر فلا تحرم نفسك من صوم يوم عرفة إلا أن صوم يوم عرفة صيامه خاص بغير الحجاج، فإن الحاج من السُنَّةِ أن لا يصوم يوم عرفة. عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((يستحب صوم يوم عرفة لغير الواقف بعرفات)) أي من وقف بعرفات فإن من السنة أن يفطر [والحديث متفق عليه وأخرجه أحمد والنسائي وأبو داود بإسناد صحيح].
ولذلك النبي يوم حجة الوداع وهو واقف بعرفات أفطر ولم يصم فتقول أم الفضل رضي الله عنها زوج العباس بن عبد المطلب أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعاً تقول: (شككنا في يوم عرفة أن صام رسول الله قال: فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف يخطب بعرفات فأخذه فسم الله فشرب منه) [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما].
ففيه دلالة على أن الواقفين بعرفات لا يسن في حقهم الصيام إنما يسن في حقهم الإفطار، ولذلك حتى لا تحرم نفسك أخي المسلم من أن تشارك الحجاج وهم ضيوف على الرحمن عز وجل فصم على الأقل في هذا اليوم أي يوم عرفة، فإنه يوم ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا ويباهي بعباده الصالحين الملائكة فيغفر لهم جميعاً إلا اثنين متشاحنين أي متخاصمين. وإن استطعت أن تصوم العشر كلها أو بعضاً منها فافعل فإن حفصة زوج النبي أم المؤمنين تقول: (أربع لم يدعهن رسول الله أربع لم يدعهن (أي لم يتركهن رسول الله ) صيام العشر (أي من ذي الحجة) وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وركعتا الغداة (أي سنة الفجر) [أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وهذا حديث صحيح]. وفيه بيان فضيلة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، فلا تحرم نفسك أخي المسلم من هذه الفضيلة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وركوعنا وسجودنا ويجعل خير أعمالنا خالصة لوجهه الكريم وأن يتقبل منا صالح أعمالنا في هذه الأيام الفضيلة.
(1/1754)
الرد على العرافين والمنجمين
التوحيد
الشرك ووسائله, نواقض الإسلام
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الحكمة من خلق الإنس والجن. 2 ـ معنى العبودية. 3 ـ لا يعلم العيب إلا الله.
4 ـ النهي عن إتيان العرافين وتصديقهم. 5 ـ من هو العراف ومن هو الكاهن.
6 ـ ما هو التنجيم. 7 ـ التحذير من كاهن باليمن. 8 ـ خطورة الشرك. 9 ـ التوحيد
طريق الجنة، والشرك طريق النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن الله تعالى ما خلقنا إلا لعبادته، وكان حقاً على المسلم أن يحقق وحدانية الله في أرضه؛ أن يعبد الله وحده لا يشرك معه غيره كان من كان، كما قال الله سبحانه وتعالى في بيان الحكمة من خلق الجن والإنس: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] قال علي بن أبي طالب : أي لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إلى ألوهيتي، وقال قتادة: "أي لآمرهم وأنهاهم، فهذه هي الحكمة التي لأجلها خلقنا الله ولذلك كان الواجب على كل مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أن يجرد التوحيد لله.
فإذاً الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العبد عملاً إلا إذا كان مخلصاً لله عز وجل بالقول والعمل ظاهراً وباطناً قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163]، معنى العبودية لله عز وجل وعبادته أنك تعبده في كل شيء: أنك لا تركع إلا لله، ولا تسجد إلا لله، كذلك اجعل سائر أمورك، اجعل توكلك على الله، خشيتك لله، إنابتك لله، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، كل عمل تفعله من حياتك إلى مماتك يجب أن يكون لله، هذا هو التوحيد.
ومنها كذلك تسليم الأمر لله، أن يؤمن بأنه هو الذي استأثر بالغيب عنده فلا يعلم الغيب إلا الله سبحانه وتعالى، ما جعل علم الغيب يعلمه أحد من البشر كائناً من كان إلا من ارتضى سبحانه وتعالى عَـ?لِمُ ?لْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى? غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ?رْتَضَى? مِن رَّسُولٍ [الجن: 25، 26] ويقول الله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ?لْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ [الأنعام: 59] ويقول الله تعالى آمراً نبيه أن يقول للناس قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]. وقال تعالى قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [الأنعام: 65]. ولذلك لما جاء جبريل على صورة أعرابي لم يعرفه أحد إلا النبي وسأله عن الساعة فأجاب النبي فقال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأخبرك عن أشراطها ((إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها وإذا تطاول رعاة البهم في البنيان فذاك من أشراطها في خمسٍ لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ : إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34])) ،أخرجه الإمام مسلم وهو جزءٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
هذا هو الواجب في معرفة التوحيد إن الإنسان إذا وحد الله يعلم أنه ليس هناك من يعلم الغيب ويدعي معرفته، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا من ارتضى الله له ذلك، فقد يرتضي الله لبعض عباده شيئاً من الغيبيات كالمرسلين والأنبياء فإنهم لا يعلمون إلا ما أعلمهم الله من أمور الغيب أو بعضها، وإن تعجب فعجب أن تسمع كثيراً ممن يدعون معرفة الغيب فيأتوننا في كل زمان وفي كل سنة وفي كل مكان ليحضروا لنا كتيبات يدعون فيها معرفة الغيب، وما يجري في السماء، وما يجري إلى قرن من الزمان، وهؤلاء كذبوا وزعموا وهؤلاء كذبوا وزعموا أنهم يعلمون الغيب، فكيف علموه هل جاءهم وحي من الله أعلمهم بذلك، أم أنه وحي شيطاني، وليعلم هؤلاء أنهم عرافون دجالون كهانون كذابون سحرة مشعوذون وجب على كل مسلم أن يكفر بهم ولا يؤمن بهم قط، فإن من آمن بهم كفر. واسمعوا إلى قوله عليه الصلاة والسلام ((من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يومًا)) أخرجه الإمام مسلم من حديث بعض أزواج النبي.
هذا إذا أتاه ولم يصدقه في شيء واحد لا تقبل له صلاة أربعين يوماً أما من أتاه وآمن به وصدق به كفر بما أنزل على محمد فعن أبي هريرة :أن رسول الله قال: ((من أتى كاهناً فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
من هو العراف ومن هو الكاهن؟.
العراف: هو الذي يدعي معرفة الغيب الأمور الغائبة يستدل بها على أشياء كأن يدعي معرفة المسروق أين هو؟ والأمر الذي ضل على صاحبه أين هو فهذا هو العراف، فإنه مشتق من اسم معرفة أي عرف يعرف معرفة فهو عراف.
وأما الكاهن فإنه هو الذي يتكهن أي يدعي معرفة الأمور المستقبلية ويحدث الناس أنه سيحصل في يوم كذا وكذا، وفي عام كذا وكذا وهذان الحديثان دليلان على كفر العراف والكاهن ودليلان على كفر من صدق بهما لأن التصديق هو اعتقاد فلا يصدق الإنسان شيء إلا وهو موقن معتقد اعتقاداً جازماً على صدق ذلك الشيء الذي صدق به.
أما التنجيم فإنه ضرب من السحر كما جاء في الحديث عن قتادة قال: (خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدي بها، أي يهتدي بها المسافرون في البر والبحر، فمن تقول فيها غير ذلك فقد أخطأ أو أضاع أي أضاع دينه، وكلف ما لا علم له به)) أي تكلف ما ليس له علم به أخرجه البخاري في صحيحه، ولذلك جاء في الحديث عن عمران بن حصين أن النبي قال: ((ليس منا من تطير أو تطير له)) أي من تشاءم أو تشوئم له ((ومن تكهن أو تكهن له، ومن سحر أو سحر له ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) أخرجه البزار بإسناد جيد.
وإنك لترى في بلادنا كثيراً من الناس يشترون أرطالاً من الكتب التي أنهكت رجالاً على الله وعلى عباده ومن تلك الكتب الفلكية التي تسمى بفكلية صاحب بيت الفقيه فإن هذا رجل أفاك أثيم دجال كذاب أشر، يدعي أنه يعرف أمور الغيب ففي كل فلك يطلع لنا بفلكية جديدة يحدثنا أولاً بأخبار اليمن، وماذا سيحصل فيها من صفر إلى صفر، ثم يحدثنا عن أخبار الجزيرة العربية وما سيحصل فيها من صفر إلى صفر، ثم يحدثنا عن أحوال الدول العربية الأخرى ويحدثنا عما يحصل فيها من صفر إلى صفر ثم يحدثنا عن الدول الإسلامية الأخرى الدول الإسلامية فيخبرنا عن أحداثها وما سيحصل في الهند في بلاد فارس في أيمان وما سيحصل في البنيان أهو نبي أو ملك أوحى الله إليه هذه الأمور فمن أين له؟ ولكن العجب أن تجد كثيراً من المسلمين يصدقونه ويتركون الحق الذي بين أيديهم.
وما علم هؤلاء المساكين أنهم بشرائهم هذه الكتب واقتنائهم لها وتصديقهم ما فيها أنهم يقعون في الكفر من حيث لا يعلمون فليتق الله المسلمون وليعلموا بأن التوحيد هو أساس الإسلام وأساسه الذي لا يصح عمل إلا به، وكل الأنبياء ما بعثهم الله إلا لدعوة الناس إلى التوحيد ويجردوهم من الشرك ويجروهم لله سبحانه في القول والعمل والمعتقد وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل: 36] وقال سبحانه وتعالى مبيناً عظم الشرك وأنه يحبط عمله حتى لو كان محمداً وقع في الشرك أن الله يحبط عمله فقال تعالى وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ بَلِ ?للَّهَ فَ?عْبُدْ وَكُن مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الزمر: 65، 66].
فعلينا أن نتقي الله وأن نتمسك بلا إله إلا الله محمد رسول الله ولنعرف مدلولها هذه الكلمات ولنفهم لازمها وما هو الواجب علينا تجاهها ولندرس مقتضاها فإن كثيراً من المسلمين يتلفظون بها دون أن يعرفوا معناه،ا فمن لم يعرف معناها ربما وقع في الشرك من حيث لا يعلم ونعوذ بالله من الخذلان ونسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
أقول ما تسمعون، ادعو الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن تحقيق التوحيد أمر أوجبه الله سبحانه وتعالى على عباده الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآمنوا بجملة الأمور الغيبية التي جاء الإخبار عنها في كتاب الله وسنة رسوله فإن من آمن بكل ذلك وحقق التوحيد دخل الجنة فعن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)). أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
لكن هذا المراد به تحقيق التوحيد إقراراً باللسان واعتقاداً وتصديقاً بالقلب وعملاً بالجوارح والأركان، هذا الذي بينه حديث معاذ رضي الله عنه حين كان رديف النبي على حمار فقال له النبي : ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)) أي ما هو الواجب الذي فرضه الله على العباد وما الواجب الذي فرضه الله على نفسه تجاه عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.
إن أساس الدنيا يجب أن تكون لأجل التوحيد فإننا عبيد لله، إن لم نخضع ولم نستكن ولم نذلّ لله عز وجل لا خير فينا ولا كرامة لنا، فإذا اتخذ الناس الأنداد والأوثان والطواغيت والكهان والسحرة والعرافين والأحبار والرهبان أرباباً من دون الله كفروا بدين الله الذي رضيه لعباده، وأما يوم القيامة فإن الناس فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير، فالذين يدخلون الجنة مهما عظمت أعمالهم إلا إذا صلح توحيدهم فإن صلح توحيده وأتى الله سبحانه وتعالى ولم يشرك به شيئاً وآمن به إيماناً جازماً دخل الجنة من تفاضل بينهم بالإيمان في الدنيا وعلى قدر تفاضلهم في الدين يتفاضلون برتبهم في الجنة، وأما من لم يجرد التوحيد ولو أتى بأعمال كجبال تهامة فإنه لا خير له ولا كرامة وكان من أهل النار، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي قال: ((يؤتى يوم القيامة بالمشرك فيقال له وهو يساق إلى النار وهو موقن أنه يدخل النار، فيقول الله: يا عبد الله لو كان لك مثل الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها)) أي كتب تدفعها لتنجيك من عذاب الله، قال: ((بلى يا رب أي كنت أدفعها لنفسي لأنجيها من عذاب النار فقال الله سبحانه وتعالى له: لقد أردت منك أهون من ذلك، أردت منك أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك ثم يلقى في النار)) ولذلك الذي ينجي الإنسان هو التوحيد، فلنسمع إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال:(( يصاح يوم القيامة على رؤوس الخلائق برجل أي ينادى فيأتي به، فتعرض عليه أعماله فتعرض له الملائكة ، أو قال: ينشر له تسعة وتسعون سجل أي صحيفة كل سجلٍ مد البصر أي إلى منتهى البصر كلّ من السيئات، فتوضع في كفة السيئات ، هو يعلم الآن أنه هالك، فيقول الله سبحانه وتعالى: يا عبدي هل ظلمك كتبتي؟ هل انتقصاك من عملك شيء فيقول: لا، فيقول الله سبحانه وتعالى: ألك عذر عندنا؟ أو قال: هل لك حسنة عندنا ؟ فيقول يائساً متعجباً: لا يا رب، وأي حسنة بعد هذه السيئات؟ فيقول الله سبحانه وتعالى له: بلى إن لك عندنا حسنة، إنك لا تظلم اليوم أبداً فيأمر الله الملائكة أن يأتي له ببطاقة، فتنشر له بطاقة ، الآن تنشر له تسعة وتسعون سجل أمام بطاقة صغيرة فإذا أن فيها أنه يومًا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله مخلصاً ، فتوضع في كفة الحسنات، فثقلت تلك البطاقة حتى طاشت بتسعة وتسعين سجلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ((وهكذا لا يثقل مع لا إله إلا الله شيئاً)) أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وهو كما قال، إسناده صحيح لكن هذا ما انتفع بلا إله إلا الله إلا حينما عرف معناها، وعمل بمقتضاها، لا إله إلا الله تريد منك عملاً فمن قال: لا إله إلا الله فليأت بلازمها ما هو لوازمها ما أمرك الله به فأتمر وما نهاك عنه تنتهي وتنزجر.
ومما نهانا الله عنه ونهانا عنه رسوله تصديق المنجمين والعرافين والكهنة فإن من صدقهم ولو بشيء واحد كفر بدين محمد فالبدار البدار جرد التوحيد إلى الله وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنين لعلكم تفلحون.
(1/1755)
حادثة الإفك
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
16/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ تصوير عظم وشناعة حادثة الإفك.
2 ـ أحداث القصة كما ترويها عائشة رضي الله عنها.
3 ـ دروس وعبر من حادثة الإفك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن الله سبحانه وتعالى قد أورد في القرآن الكريم نموذجاً من قذف المحصنات الغافلات المؤمنات البريئات، اللواتي قذفن بتهمة الزنا دون جريرة ودون أن يقترفن ما اتهمن به، وكان القصد من هذا الاتهام هو إيجاد البلبلة والإرباك بين المسلمين، وقد بلغت الجريمة من الشناعة أنها تناولت أشرف بيت عرفته البشرية، إنه بيت النبوة على صاحبه أفضل الصلوات والتسليم، وتناولت عرض رسول الله الذي هو أكرم الخلق عند الله، وتناولت عرض زوجه الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، والتي حلت من قلب النبي محلاً كبيراً من الحب والتقدير، وتناولت كذلك عرض صاحبه عليه الصلاة والسلام وهو أبو بكر الصديق الرجل الوفي الذي كان أول السابقين إلى الإسلام، والذي أحبه النبي حباً ما أحبه رجلاً قط، ولو كان من قرابته ، ولذلك عانى أبو بكر من الألم والقلق والارتباك والشك هو وزوجه ما لم يعانيه من قبل، ولذلك قال: هذا أمر لم نتهم به في الجاهلية، أفنرمى به في الإسلام؟ مما يدل على الألم الذي كان يعتصر قلبه ، وهو يرى ابنته الشريفة قد تناولها الأفاكون بهذه الجريمة البشعة، وتتجلى بشاعتها عندما يقذف رجل من المسلمين ما علم عنه النبي إلا خيراً ذلكم هو الصحابي الفاضل صفوان بن المعطل الذي ظل كذلك يعتصر الألم قلبه، كيف يرمى بخيانة بيت النبوة، ومن يخون رسول الله الذي يحبه حباً عظيماً بعد الله بعد الله عز وجل متقرباً إلى الله عز وجل بحب نبيه، وكذلك أبطأ الوحي شهراً، وعاش المسلمون لحظات رهيبة عصيبة الكل يخوض، وانقسم المجتمع إلى قسمين قسم خاص مع الخائضين، وقسم توقف وقسم كان عنده الورع وإذا به يقول كما قال الله سبحانه وتعالى: سُبْحَـ?نَكَ هَـ?ذَا بُهْتَـ?نٌ عَظِيمٌ [النور:16].
إنها حادثة تكشف لنا كثيراً من الصور التي نجليها في مجتمعاتنا ونحن نعيش بين الناس، نستكشف حقائق كثيرة وقبل الخوض في استجلاء تلك الحقائق ندع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصور لنا ذلك الحادث الذي ظل الناس يخوضون فيه شهراً، وهي تعاني من الألم، والألم يعتصر كبدها وقلبها حتى ظنت أن البكاء قد فلق كبدها فماذا قالت رضي الله عنها.
أخرج الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها أي خرجت عليها القرعة درج بها معه، وإنه أقرع بيننا في غزوة قيل إنها غزوة بني المصطلق، فخرج سهمي فخرجت معه بعد أن أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج (والهودج هو شيء يصنع للمرأة تجلس عليه، ثم يوضع على سنام الجمل لكي تقاد المرأة حيث يسافر بها) قالت: وأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك فقفل أي فرجع ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، أي أنه أعلم أصحابه بالرحيل، فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني كأنها ذهبت لتقضي حاجتها، أقبلت إلى الرحل فلمست صدري لأنه كان عندها عقد، فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار انقطع يعني ضاع منها، فرجعت فتلمسته فحبسني ابتغاؤه أي تأخرت وهي تبحث عن عقدها، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني أي الذين كانوا يقودون جملها مع هودجها الذي هي فيه، فاحتملوا هودجي هم يظنون أنها في الهودج فاحتملوا هودجي فرحلوه على ظهر بعيري، وهم يحسبون أنني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفاف أي نحيفات لم يثقلهن اللحم، وإنما نأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج فحملوه لأنها كانت نحيفة وخفيفة فخفة الهودج لم يثر استغراباً لديهم، فظنوا أنها فيه وكنت جارية حديثة السن أي صغيرة لأن عمرها كما قيل لم يتجاوز السادسة عشر، فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم وليس فيه أحد فتيممت منزلي أي أنها ظلت مكانها، وظننت أنهم سيفقدونني ويرجعون إلي، فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس وراء الجيش فأدلج، لأن النبي كان يترك في المنزل الذي يرتحلون منه رجلاً في الليل لعل الجيش تخلف منه أحد أو أنهم مثلاً نسوا شيئاً فهذا الذي يبقى في المكان يأتي به بعد أن يسفر الصباح، فأصبح عند منزلي أي عند المكان الذي نامت فيه وهو لم يعلم أن هنا امرأة، فرأى سواد إنسان نائماً فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، أي قبل أن تنزل آية الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه، وحين رآني وعرف أنها عائشة أم المؤمنين استرجع أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي أي اختمرت بجلبابها والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته أي قرب إليها الراحلة فوطئ على يدها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتيت الجيش بعد أن نزلوا معرسين، أي أن الجيش سار فقطع مسافة ونزلوا في المكان، فلحقهم صفوان بن المعطل براحلته وفيها عائشة أم المؤمنين، قالت: هلك في شأني من هلك، الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا أي مرضت بها شهراً، والناس يفيضون أي يخوضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر وهو يريبني في وجعي، كانت تشك وهي مريضة أني لا أرى من النبي اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم فيقول كيف تيكم فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر، مسكينة أن الناس قد خاضوا في عرضها واتهموها في هذه الجريمة البشعة، فقالت: ولا أشعر بالشر حتى نقهت، أي تماثلت للشفاء، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع كان الناس وبالذات النساء خارج الميدينة يقضين فيه الحاجة فقالت فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن يتخذ الناس الكنف، أي لا يتخذ الناس الحمامات في البيوت وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، لأن العرب قديماً في الجاهلية ما كانوا يعرفون اتخاذ الحمامات في بيوتهم، فأقبلت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم وهي لابن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنها وابنها مسطح بن أثاثة بن عباس بن المطلب، حين فرغنا من شأننا نمشي فتعثرت أم مسطح أي سقطت، لأن ثوبها عثرها فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، ومسطح ابنها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها تقول أم المؤمنين عائشة تقول لأم مسطح: بئسما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً، فقالت: يا هنتاه ألم تستمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فزدت مرضاً إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول الله فقال: ((كيف تيكم؟)) فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي وأنا حينئذٍ أريد أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي فأتيت أبوي فقلت: يا أمتاه ما يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنيّة هوني على نفسك الشأن، فوالله تعلمي ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فقلت: فبكيت تلك الليلة فأصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث أي تأخر الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبما يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، واسأل الجارية تخبرك قالت: فدعا رسول الله بريرة فقال لها: ((أي بريرة هل رأيت فيها شيئاً يريبك؟)) فقلت: لا والله فوالذي بعثك بالحق نبياً إن رأيت منها شيئاً أغمصه أي أعيبه عليها. أكثر من أنها جارية صغيرة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن أي الشاة في البيت فتأكله، فقالت: فقام رسول الله من يومه واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول وقال وهو على المنبر: من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت في أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً أي اتهموا رجلاً ما علمت عنه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، قالت: فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فعلتنا فيه، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر، فلم يزل يخفضهم أي يسكتهم حتى سكتوا ونزل، ولا غرابة في ذلك لأن حساسية الموقف وخطورته هو الذي أدى إلى هذه المواقف العصيبة، ذلك أن الذين تولوا كبر هذا الإثم قد حاكوا المؤامرة بخبث ولؤم وكان من الدهاء حيث الذي تولى كبره ما كان يتكلم به عند الناس، إنما كان يتكلم به عند خاصته الذين يسترون أمره ألا وهو عبد الله بن أبي بن سلول لعنة الله عليه، رأس المنافقين، ورسول الله أبطأ عنه الوحي ولا يستطيع أن يبرئ أهله، وهو يعلم فيهم الخير، مما اتهموا به ولا يعلم من هذا الرجل أي صفوان إلا خيراً، لكن البرءاة كيف يكشفها وقد أبطأ الوحي وحساسية الموقف تجعل الإنسان في غاية الارتباك والقلق والشك والأرق، لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يعتصر الألم في صدره إنما كان أبو بكر في موقفه إن لم يكن أشد منه، الذي اتهم هو بيت أبي بكر، التي اتهمت هي الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها الذي اتهم هو رسول الله ونال المنافقون وعصبة اليهود من عرض النبي ، لأنهم لما عجزوا في حرب الإسلام علانية لجأوا إلى هذه الأساليب الخسيسة، والتي بلغت من الجرم والشناعة ما الله به عليم، والمهم أن الاستشارة لأسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب ليس في ذلك غرابة، فإنه قد عانى ما لم يعانيه أحد من قبل وكان الألم يعتصر قلبه وهو يتهم في عرضه وفي عرض من هو أحب إلى قلبه ألا وهي زوجه عائشة رضي الله عنها، كما أن ذلك الاتهام كان اتهاماً للإسلام، ولذلك ما عانى الرسول في كل المواقف التي عاناها منذ أن بعثه الله إلى أن توفاه مثل تلك المعاناة.
ماذا تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في سردها لهذه القصة الغريبة العجيبة، قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيث ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنومٍ، فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن كذلك، إذ دخل الرسول ثم جلس ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل قبلها، وقد مكث شهراً ولم يوحَ إليه بشأني في شيء، فتشهد أي شهد الله وأثنى عليه بما هو أهله، فحين جلس فتشهد فقال مخاطباً عائشة: فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت أذنبت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه، فلما قضى رسول الله ما قالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، قالت: وأنا جارية حديثة السن أي صغيرة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن، فقلت: إي والله أعلم أنكم سمعتم حديثاً تحدث الناس به واستقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقنني، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف، هي من هول القضية والفاجعة نسيت اسم النبي يعقوب، فقالت: ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت فضجعت إلى فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله تعالى ينزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في أمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى النبي في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي فسري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله تعالى، فإنه قد برأك، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله ، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي فأنزل الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ مَّا ?كْتَسَبَ مِنَ ?لإثْمِ وَ?لَّذِى تَوَلَّى? كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11]. فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق : وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لصلة قرابة منه وفقره والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد ما قال لعائشة رضي الله عنها فأنزل الله تعالى: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ?لْفَضْلِ مِنكُمْ وَ?لسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْمَسَـ?كِينَ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:22]. فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الصدقة التي يجري عليه، قال: والله لا أنزعها منه أبداً، قالت عائشة: وكان رسول الله سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: يا زينب ما علمت وما رأيت فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيراً، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع، قالت فطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك في أصحاب الإفك.
هذه هي القصة بتمامها والمعاناة بكاملها روتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ولنا وقفات مع هذا الحادث نستجلي منه بعض الحقائق.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو السميع العليم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن الله سبحانه وتعالى حين أنزل براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال في أول آية من الآيات العشر من سورة النور وهي نور من أولها إلى آخرها تجلى لنا حقائق كثيرة قال: إِنَّ ?لَّذِينَ جَاءوا بِ?لإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ [النور:11]. يعني أنهم لم يكونوا فرداً ولا أفراداً إنما كانوا جماعة ذات هدف معين يتزعمهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول لعنة الله عليه، ومن ورائه عصبة من اليهود الذين ضلوا أن بعث الله نبيه، وهم يتآمرون على الإسلام علانية فلما باءت كل محاولاتهم بالفشل لجأوا إلى هذا الأسلوب الخسيس وإلى هذا الجرم والشناعة أن يشككوا في أطهر بيت وأشرفه عرفته البشرية منذ أن خلق الله آدم وإلى يومنا هذا، بل وإلى قيام الساعة.
ما الذي يفيدنا هذا؟ إن العصبة التي شككت في بيت رسول الله موجودة كما وجدت في زمان النبي موجودة، إلى اليوم نسمع من يرمي أم المؤمنين عائشة بالفحش، نسمع من يسمون أنفسهم بالشيعة الرافضة وبالباطنية الذين يلقون بيننا بحفاوة من قبل كثير ممن أعمى الله سبحاونه وتعالى بصائرهم عن نور الحق، وكانوا مثلهم في الجرم وكانوا مثلهم في البشاعة ومثلهم في الزندقة، بل ومثلهم في الكفر والردة، والذي يرمي أم المؤمنين عائشة بالفحش لا حظ له من الإسلام فهو أول المخالفين للإسلام، فهو أول مكذب بالقرآن، حيث برأ الله عائشة من فوق سبع سموات، لا حظ له من الإسلام، لأنه قد تناول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتناوله إنما الهدف منه اتهام النبي ، والنيل من رسول الله هو النيل من الإسلام، لأننا إذا اتهمنا عرض أشرف رجل عند الله عز وجل وأكرمه، فماذا بقي بعد ذلك للإسلام من قداسة؟
هؤلاء الزنادقة اليوم ينالون من عائشة ويكدرون عرضها بأنهم ليس لهم حظ من الإسلام، لا نقول: إنه ليس عندهم تقوى إنما التقوى قد تضعف عند أهل الإسلام، لكن هؤلاء وإن تستروا باسم الإسلام، فلا حظ لهم من الإسلام، باطنية المكارم وكذلك البهرة الإسماعيلية القرامطة يعتقدون ما تعتقده الشيعة الإمامية الرافضة في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يلصقون بها الفحش، بعد ذلك يكون لهم موطئ قدم بيننا يكون لهم بين المسلمين مرتع في اليمن، ويلقون الحفاوة من قبل الدولة، كذلك والله إن هذه لجريمة بشعة ما علمت جريمة أبشع منها، كما أن النبي لم يعلم جريمة بشعة نالته ونالت من الإسلام مثل تلك الجريمة، لكن هكذا يدور الزمن دورته وإذا بنا نجد عصبة ذات هدف واحد هدفها النيل من عرض النبي تتمثل بالمنافقين من الباطنية الإسماعلية والشيعة الرافضة وكذلك العلمانيين الذين يكونون مع عصبة اليهود والصليبين يكونون جماعة ذات هدف منظم الهدف منه تشكيك المسلمين في دينهم، وترويج مثل هذه العقائد بين المسلمين.
إن هذا الحادث كما تعلمون أنه قد خاض فيه بعض من الصحابة من أجلاء الصحابة مسطح بن أثاثة الذي شهد بدراً والنبي يقول: ((فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فغفر لهم فقال لهم: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم)) غزوة بدر التي أعز الله بها الإسلام والمسلمين بثلة خالصة من المؤمنين، مسطح خاض فيها، سبحان الله، حسان بن ثابت شاعر النبي والذي كان يذب عن الإسلام ويدافع عن الدين ويدافع عن رسول الله بشعره لتكون شرارة يقذف الله سبحانه وتعالى بها على رؤوس الكافرين فتهلكهم وتبددهم، وهو الذي دعا له النبي ونصب له منبراً في المسجد وكان يقول له اهجهم وروح القدس معك، كان من الخائضين، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها صحابية جليلة خاضت مع الخائضين، فهلكت مع من هلك من أهل الإفك، ما الذي يدل هذا الأمر يدل على النفوس الضعيفة وأن الابتلاء هو الذي يمحص النفوس، ونحن أيضاً مبتلون بهذا، إذا كان أصحاب رسول الله تربوا على يديه خاضوا مع الخائضين، وهلكوا مع الهالكين في حديث الإفك، لينالوا من عرض رسول الله وعرض زوجه وعرض كذلك صديقه الصديق أبي بكر ، فإن كثيراً من المسلمين اليوم يجلسون المجالس فيفرون أعراض الناس الأبرياء، ويقذفون المحصنات المؤمنات البريئات بالتهم التي لا طاقة لها ولا فطام، وإذا بهم بعد ذلك يشككون في النوايا، ويقولون: فلان كذا وفلان ضال وفلان أضل من حمار أهله وفلان نيته سيئة، دخلوا في النوايا يفرون أعراض الأبرياء والدعاة والعلماء، لينالوا من الإسلام، لأنهم يفرون إلى الإعلام الكاذب الذي ما دأب إلا أن يشكك في الإسلام عن طريق حملة الشريعة الإسلامية وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لاْمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً. [النساء:83].
الحذر الحذر أئمة الإسلام من اللسان فإن اللسان يورد الإنسان الموارد والمهالك، النبي يقول لمعاذ بن جبل: ( (كف عليك هذا وأشار إلى لسانه)) فقال: يا رسول الله وإنا لمآخذون بما نتكلم به، قال: ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) اللسان جرمه صغير وشره مستطير، إنه ثعبان لو لدغك فإنه يودي بدينك وبحياتك، ولربما يتكلم الإنسان بكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وإنك لترى الرجل يعجبك سمته وخلقه وهديه متورع عن الشبهات فضلاً عن تورعه عن أكل الحرام، ولكنه إذا جلس مجلساً فإنه يفري في أعراض الناس، ويطلق للسانه العنان، فإنا لله وإنا إليه راجعون من هؤلاء الذين ابتلوا في أعراض الأبرياء.
إن هذا الحادث أخيراً يبين لنا أن حملة الدين مستهدفون كم قرأنا وكم سمعنا وكم رأينا وما زلنا نقرأ ونسمع ونرى دعاة صادقين وعلماء أجلاء اتهمهم الطواغيت وأعداء الإسلام من اليهود والنصارى في أعراضهم، حتى إنهم أوذوا بين قومهم، فمنهم من أقيم عليه الحد، ومنهم من نبذهم الناس، ولكن إرادة الله سبحانه وتعالى قاضية أن يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، فما تدور عجلة الزمان إلا ويبرئ الله سبحانه وتعالى ساحة الأبرياء من أوليائه، ويأخذ الذين تولوا كبر الإثم والجريمة البشعة أخذ عزيز مقتدر.
برأ الله سبحانه وتعالى ساحة أوليائه لأنه هو الذي يدافع عن المؤمنين، فيا عبد الله يا من نيل منك في عرضك يا من اتهمت بتهم بشعة اعتصم بالله وكن به معتصماً، اعتصم بالله وحده واستعن به وحده واعلم أن الله يقول: إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
اعتصم بالله وحده وكن بالله معتصماً واذكر قول النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) فإن من هو أفضل منك وأكرم عند الله قد نيل منه أشد ما نيل منك، فليكن ذلك أريحية لك يخفف عنك الألم والتهمة التي يعتصر قلبك منها اعتصاراً، فلا تبتئس بما يقولون، ولا بما كانوا يفعلون.
هذه هي الحقائق والدروس والعبر التي يجب أن نجليها لنستكشف واقعنا، فإن الهول الذي ينتظر الدعاة الصادقين هول عظيم، وهو ابتلاء قدره الله سبحانه وتعالى كوناً وقدراً وشرعاً أن يكون لأوليائه، ليعلم الله سبحانه وتعالى الصادق في دينه والكاذب.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت قلوبنا على الإيمان والتقوى، وأن يعصم ألسنتنا من الإفك والافتراء والكذب والقذف، وكذلك يعصمنا من الزلل والمعاصي ما ظهر منها وما بطن، فاللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار..
(1/1756)
دعاة تحرير المرأة
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع
المرأة, مذاهب فكرية معاصرة
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ المرأة في الجاهلية. 2 ـ المرأة في الإسلام. 3 ـ دعوة تحرير المرأة. 4 ـ الصهاينة
وتحرير المرأة. 5 ـ أهداف الأعداء من وراء تحرير المرأة. 6 ـ الإعلام ودوره في إفساد
المرأة والطفل. 7 ـ أين العلاج؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن المرأة قبل الإسلام كانت في نظر الناس من سقط المتاع، هضموا حقوقها واعتبروها مجرد متعة لا غير، ولذلك كانوا يتبرمون إذا بشر أحدهم بالأنثى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58، 59]، ولذلك كان العرب في الجاهلية من بغضهم للمرأة كانوا يئدون البنت وهي حية يحفرون لها حفرة وهي حية، ويدفنونها وهي حية، ولذلك قال تعالى في بيان أهوال القيامة وَإِذَا ?لْمَوْءودَةُ سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 8، 9] فجاء الإسلام فاعتبر المرأة إنساناً لها مكانتها ورفع من شأنها وأعطاها حقوقها ما هضمها حقها قط، بل إنها عنصر فعال في المجتمع لا يمكن الاستغناء عنه ولذلك قال تعالى : وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] أي مثل ما للرجال بالمعروف للمرأة كذلك لهن من المعروف وقال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء: 19] والنبي يقول: ((استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج))، والمراد هنا التشبيه باعوجاج لسانها، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، ((وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن أردت أن تقيمه كسرته وإن تركته لا يزال أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا)) أخرجه البخاري ومسلم.
ولذلك جعل الإسلام المرأة الصالحة خير متاع في الدنيا إن المرأة الصاحلة خير من المال فخير متاع يتمتع به الإنسان في الدنيا وخير شيء يحوزه الإنسان من الفضيلة المرأة الصالحة قال الرسول (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) أخرجه الإمام مسلم.
ولذلك يأتي في زماننا هذا دعاة يريدون أن يغيروا المرأة إلى الحالة التي كانت عليها في الجاهلية، فالمرأة قد كرمها الإسلام فهم يريدون أن يجعلوها أيضاً من سقط المتاع، يريدون أن يستمتعوا بها، ولذلك نجد اليوم من يدعو إلى أن تكشف المرأة حجابها تكشف عن سوأتها تتبرج وتمشي في المجتمع سافرة، ونسمع من يدعو بهذه الدعوة أن خروج المرأة من بيتها سافرة يعتبر نوعاً من التحضر، ولذلك سموها بدعوة تحرير المرأة وكذلك باسم إعطاء المرأة حقوقها أو المحافظة على حقوق المرأة، وكذلك نسمع من يرفع عقيرته بالصراخ ليقول لنا: إن المجتمع اليوم يتنفس برئة واحدة، لماذا لا نرى المرأة اليوم مزاحمة مع الرجال، وكذلك منهم من يقوم إن نصف المجتمع معطل هذه كلها دعوات لها أغراض خبيثة إنها ليست عفوية إنما هي مخطط لها من قبل أساطين الكفر واليهود والنصارى هكذا قال اليهود في بروتوكالاتهم التي سموها بروتوكولات حكماء صهيون فيقولون بالنص ما معناه قالوا: يجب أن نكسب المرأة يجب أن نكسب المرأة، أي في كل لعبة نلعبها في أي مجتمع يجب أن نكسب المرأة فإنها في أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية أي قضية إفساد الشعوب.
وقد قال أحد اليهود قديماً من الذين تخصصوا وتفننوا في إفساد الشعوب الإسلامية ماذا قال: إن مكسبنا في الشرق لا يمكن أن يتحقق إلا إذا خلعت الفتاة المسلمة حجابها، فإذا خلعت الفتاة المسلمة حجابها كسبنا القضية واستطعنا أن نستولي على الشرق.
وقال أحد قادة الماسون قال: كأس وغانية يفعلان بالأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع ودبابة فأغرقوها، أي أمة محمد أغرقوها في حب المادة والشهوات. واليوم أساطين الكفر العالمي في كل بلد إسلامي وفي كل بلاد وجد فيها مسلمون ماذا يقولون؟ يقولون: إنه لا يمكن بناء التنمية الاقتصادية في البلاد إلا إذا حررنا المرأة، ولا ديمقراطية إلا بتنمية، ولا تنمية إلا بتحرير المرأة، هذه هي دعوة اليهود والنصارى ينادي بها أقوام من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا تعرف منهم وتنكر، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ولذلك حتى نتدارك الأمور لا بد أن نعلم ما هي الدعوة التي ينادي بها هؤلاء لإفساد المرأة كي نضع النقاط على الحروف وتجري الأمور لتعلموا بأن الهدف من وراء ذلك أولاً إفساد المجتمع الإسلامي عن طريق إفساد المرأة لأن المرأة هي الأم وهي الزوجة وهي البنت وهي الأخت وهي التي تربي الأجيال فمتى ما فسدت فسد المجتمع لأنها بفسادها تصطاد الشباب بحبائل الشيطان ماذا يريد هؤلاء من دعوتهم لتحرير المرأة أو بما يسمونه زوراً وبهتاناً وكذباً وافتراء بإعطائها حقوقها؟ ماذا أرادوا من هذه الدعوة؟ أرادوا من المرأة أن تكون متاعاً، أرادوا من المرأة أن تكون سافرة خلعت ربقة الحياء من عنقها، أرادوا من المرأة أن تكون عارية كاشفة مائلة مميلة رأسها كسنام البخت تمشي بين الناس لتصطاد شباب الإسلام بحبائل الشيطان فتغريهم بمظهرها الفاتن فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الميل بين الجنسين بالتكوين الحيوي عميقاً جداً ولذلك الإسلام وضع للمرأة قيوداً حتى لا يفسد المجتمع إنهم يريدون منها انتهاك عرضها ويريدون منها أن تكون متاعاً رخيصاً في سوق الدعاية نخاسة العصر تباع بأرخص الأثمان كما يباع الرقيق والعبيد في سوق النخاسة ولذلك هم إلى جانب هذه الأمور يتبنون إفسادها عن طريق الإعلام الفاسد هذه الصحف التي تدخل كل البلاد التي فيها المسلمون والتي يعيش فيها المسلمون صحف كثيرة تعد بالمئات بالآلاف إذا ما عدت على مستوى البلاد التي يعيش فيها المسلمون صحف تدخل حتى السياسية منها فالهدف منها إفساد المرأة وإفساد المجتمع تجد على كل غلاف صورة امرأة فاتنة يختارون أجمل امرأة توفرت فيها مواصفات الإغراء والإثارة الجنسية كاشفة شعرها ونحرها وجيدها ووجهها وكذلك أيضاً شيء من مفاتنها المغلظة فيعدونها لكي يفسدوا المجتمع.
والأقلاك كذلك إنما سخرت لهذه المهمة، والمسلسلات كذلك سخرت لهذه المهمة ففي دراسة أجريت على 500 فيلم تبين أن موضوع الحب والجنس يشكل اثنين وسبعين بالمئة حتى الأفلام التي صمموها للأطفال سخروها لإفساد الأطفال عن طريق المرأة في دراسة أجريت على الأفلام التي تعرض في كل القنوات العربية الفضائية اليوم تبين أن تسعة وعشرين وستة من عشرة في المئة من هذه الأفلام أي أفلام الأطفال حتى الكرتونية منها تتناول موضوعات جنسية وخمس عشرة في المئة تدور حول الحب الشهواني العصري، يريدون كذلك أن يفسدوا أبناء الأمة الإسلامية من الصغر ولذلك أكثر الشباب المراهق والفتيات المراهقات تعلمن سوء الأدب وقلة الحياء وتعلمن الممارسة الجنسية عن طريق هذه الأفلام الداعرة والمسلسلات الهابطة والتمثيليات المبتذلة، والتي ليس هدفها إلا إفساد الشباب المسلم، وكذلك أيضاً فنون الدعارة والتقبيل، وكذلك الحب والمغازلة والإثارة الجنسية التي يشكو منها المصلحون والمنتشرة بين أوساط الشباب الجامعي على وجه الخصوص، من أين تعلمها؟ من هذه هذه الأفلام التي تقدم النساء الداعرات الفاسقات الفاجرات لإفساد شباب الإسلام، وكذلك الدعاية وما أكثرها في كل قناة من القنوات المتلفزة العربية، تجد أن نسبة ثلاثين في المئة منها للدعاية في الإعلانات التي تقدم لإفساد الشباب لأن 90 من هذه الإعلانات إنما تقدمها المرأة بكل إثارتها الجنسية، والهدف المقصود من وراء ذلك معلوم، فقام أحد الباحثين بدراسة حول أحد البرامج المتلفزة فتوصل إلى النتائج الآتية: ثمانية وتسعون وستة من عشرة في المئة من الأطفال يشاهدون من الإعلانات التي تقدمها النساء بإثارة جنسية، يشاهدون أطفال المسلمين بصفة دائمة ويجدون استمتاعاً ولذة على مرأى ومسمع من الوالدين، ستة وتسعون في المئة من الأطفال يحبون الإعلانات التي فيها حركات المرأة المثيرة بحركات مقصودة جنسية، بل يحفظون نفس النصوص التي تقدمها هذه المرأة المثيرة جنسياً، وأحد الباحثين اعتمد على تحليل يتضمن 356 إعلاناً تلفزيونياً من كثير من القنوات العربية بلغ إجمالي تكرارها أي تكرر على مدار تسع مرات في اليوم من خلال تسعين يوماً فقط، أي على مدار ثلاثة أشهر كررت هذه الإعلانات المثيرة جنسياً في كل القنوات العربية بمعدل 3409 مرة، إذ الهدف المقصود مخطط رهيب من قبل اليهود والنصارى لإفساد أجيال الأمة الإسلامية، وتوصل إلى الآتي استخدمت صور المرأة وصوتها في 300 إعلان من بين 356 إعلان، 42 من الإعلانات التي قدمتها المرأة لا تخصها، مثال على ذلك إطار سيارات تقدمه امرأة، جزمة من جزمات الرجال تقدمه امرأة، عمامة أو شماع أو ثوب رجالي تقدمه المرأة، هل يخصها هذه الأشياء؟ لا يخصها، إنما القصد من وراء ذلك استخدامها سقط متاع لكي تصطاد الرجال بحبائل الشيطان.
51 من الإعلانات تعتمد على حركة جسد المرأة المثيرة بحركة تنم عن خبث لا تفعله إلا العاهرات الفاجرات.
12 من الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ خبيثة مبتذلة القصد منها كذلك نشر الإباحية والفوضى الجنسية بين أوساط المسلمين.
هذه هي دعوة تحرير المرأة فهل نعيها ونتنبه لها؟ إننا إن سكتنا عن هذه الدعوات ولم نقاومها، ولم نتصدى لها بقوة فإن النتيجة الحتمية ستكون معروفة كما قال تعالى واتقوا فتنة لا تصدَّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب [الأنفال: 25].
أقول ما تسمعون وادعوا الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن هذا الداء الذي يسري في الأمة الإسلامية كسريان النار في الهشيم داء عضال، وسم زعاف قاتل لا بد أن نبحث عن العلاج الناجع لهذا الداء ومثله من الأدواء، حتى نكون على حصانة من أمرنا وبينة من أمر ديننا، حتى لا نؤخذ على غرة من أمورنا فإن المحافظة على الدين واجب على كل مسلم آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، إن العلاج لمقاومة هذه الدعوات الماجنة التي تأتينا بعبارات مبهرجة وبألفاظ براقة، وكشعائر مزيفة، هذه الدعوات إنما يكون علاجها وعلاج تلك الظواهر السيئة في المجتمع يكون بالعودة الصادقة إلى الإسلام إن المرأة كما قال الله سبحانه وتعالى مبيناً علاجها في القرآن حفاظاً لها وصوناً لكرامتها وعفتها حتى لا يخدش حياءها قال تعالى آمراً للمرأة وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لاْولَى? وَأَقِمْنَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتِينَ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِعْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 33]. ويقول الله لنبيه يأَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لاِزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً [الأحزاب: 59]. ويقول الله سبحانه وتعالى ي?نِسَاء ?لنَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ?لنّسَاء إِنِ ?تَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [الأحزاب: 32] يطمع الذي في قلبه مرض أي مرض الشهوة بفساد القلب فإذا فسد القلب وتعلق بالمرأة فإنه لا ينظر إلى أي شيء إلا عن طريق المرأة الماجنة الفاسدة، ولذلك صيانة للمجتمع وضع الإسلام بعض القيود التي تحصن المجتمع من عوامل التخريب والفساد منها:
غض البصر من الجنسين قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 30، 31]. وليضربن بخمرهن على جيوبهن أي محتجبات محتشمات لا يخرجن من بيوتهن إلا لضرورة وقال تعالى وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53]. أطهر للجميع الرجال والنساء هذه القيود التي وضعها رب العالمين، خلقنا وهو أعلم بأنفسنا من أنفسنا أعلم بما يصلحنا من أنفسنا والله يعلم وأنتم لا تعلمون، الإنسان بطبيعته لا يعلم ما ينفعه وما يضره إنما جاء الإسلام ليبين له النفع والضرر أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك: 14]. ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ?للَّهُ [البقرة: 140]. ثم بعد ذلك يأتي أفراد ممن هم امتسخوا عن الدين فيرفعون هذه الشعارات فيجدون بعد ذلك رواجاً وتأييداً لهم من بين المسلمين أو الذين ينتسبون إلى الإسلام إنها والله لكارثة فادحة ومصيبة عظمى وما نملك إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
لكن المسؤولية تقع على الجميع.
أولاً:تقع على الآباء والأمهات فإنهم الذين يرعون أبناءهم، الطفل سواء كان ذكراً أو أنثى رعايته يجب أن يكون من البيت ولذلك قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته.والإمام المراد به الحاكم والرجل راع في بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).أخرجه البخاري ومسلم.
الثاني:كلنا أفراداً وجماعات مسؤولون فإننا إذا لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر عمنا الله بعقاب من عنده مهما دعوناه لا يستجاب لنا، فلذلك الاستجابة لله ورسوله فيما فيه نفع لنا وحياة لنا وخير لنا أمر مطلوب كما قال تعالى يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ?لْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال: 24، 25].
الثالث: مسؤولية العلماء النصح والتوجيه والصدع بالحق وإرشاد الناس إلى الدين وتبصيرهم بما أمر الله به حتى يقفوا عند الحدود التي أمر بها الله ورسوله، كي يعيش الناس جميعاً يتفيّؤون تحت ظلال رحمة الكتاب والسنة، هذه هي مسؤولية العلماء لو سكتوا عنها أي جناية تلحق البشرية بسكوت العلماء
يا معشر القراء يا ملح البلد.. ما يصلح الملح إذا الملح فسد
الرابع : إليك أيتها الأخت المسلمة أوجه ندائي، فإنك أنت المعنية، أنت الهدف، أنت المقصد الذي من ورائه يصيب عدونا أكباد أجسامنا، بهذه السهام الخبيثة يستطيع أن يقضّ من مضاجع الأمة الإسلامية العدو عن طريقك أيتها الفتاة المسلمة، صوني عرضك، ولا تكوني مغفلة يخدعونك بكلمات معسولة، هؤلاء الذئاب البشرية هدفهم أن يخرجوك من بيتك لكي تكوني متعةً لهم يستخدمونك حتى تكوني وسيلة من وسائل هدم الدين الإسلامي والأسرة والمجتمع في كل مجتمع طاهر نظيف.
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
فلا تغتري بالثناء.فإن الثناء كل الثناء أن تكوني بحشمتك وعفافك، وصوني عرضك واحتجابك واحتشامك وتمسكك بكتاب ربك وسنة نبيك ، هذا هو الخير لك، واعلمي أيتها الأخت المسلمة أنك أم لأجيال، زوجة للرجال الأفذاذ، أخت للعظماء، كذلك أنت بنت للصالحين في كل مجتمع فإن من السوء والعار عليك أن تكوني أمة للفساق وزوجاً للمفسدين في الأرض فأنت كما قال الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
فتمسكي بما أمرك الله به وصوني نفسك، فإنك بصيانتك لنفسك تصونين المجتمع من كل عوامل الهدم والتخريب والفساد.
(1/1757)
آداب المجالس
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
15/10/1420
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آداب الجلوس في الطريق. 2-صور من أذى الجلوس في الطرقات. 3- آداب المجالس.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الإنسان اجتماعي بطبعه، لا مفر له من مخالطة الناس والاجتماع بهم.
ولقد جاءت في السنة المطهرة آدابٌ ينبغي على كل مسلم أن يعيها ويعمل بها، فمن ذلك أن يتخير المسلم مجلسه فلا يقعد في مكانٍ بحيث يكون جزء منه في الظل والآخر في الشمس لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس بين الضِّحِّ والظل، وعلل ذلك بقوله: ((مجلس الشيطان)).
ولقد نهى نبينا صلى الله عليه وسلم المسلمين عن الجلوس في الطرقات فقال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) ، وفي رواية: ((ما لكم ولمجالس الصعدات؟ اجتنبوا مجالس الصعدات)) ، فقالوا: يا رسول الله ما لنا بُدٌ من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: ((إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) ، قالوا: وما حقه؟ قال: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
فلا يجوز للمسلم أن يكون مجلسه على الطريق إلا بالشروط التي ذكرها نبينا صلى الله عليه وسلم، فالمجلس يكون محرماً إن لم يغض المسلم فيه بصره، وكم نرى في البيوت والمنتزهات والأماكن العامة بل وفي الطرقات من يضع جهاز التلفاز لضيوفه أو مرتادي ذلك المكان فيطلقوا أبصارهم بالنظر إلى ما حرم الله، ومنهم من يشرب في مجلسه الدخان أو الشيشة ونحوها وكل ذلك من الحرام، وكم من مجالس الشباب على الطرقات-هداهم الله- ما هي إلا للنظر في النساء وأذيتهن والسخرية من المارين والغيبة والبذيء من القول ونحو ذلك.
ولا شك أن هذه المجالس تؤذي الجيران، فلا تستطيع النساء الحييات الخروج لوجود ذلك المجلس أمام البيت يراقب كل شاردة وواردة، وبالمقابل فإن من النساء من تخرج من بيتها متعطرة متزينة، متجاهلة حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ((كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي زانية)).
ويسن للمسلم عباد الله إن هو دخل مجلساً أن يسلم عند قعوده وقيامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم، فليست الأولى أحق من الآخرة)) ، فليس من السنة إذا ما يفعله البعض من مغادرتهم المجلس خفية ودون إلقاء السلام.
ويسن لمن دخل أن يجلس حيث انتهى به المجلس، وأن لا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)) ، ولا يجوز أن يقيم أحداً من مجلسه ليجلس هو، فعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)) قال البخاري رحمه الله: كان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه، والعلة في ذلك أنه من سبق إلى مكان مباح فهو أحق به، ولو قام الرجل من مجلسه لحاجة كأن يقوم للوضوء أو لقضاء حاجته، فإنه إن عاد إلى مجلسه فهو أحق به ممن جلس فيه، ويحق له أن يطلب من الثاني أن يقوم من مكانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام الرجل من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به)) ، وهذا أدب قد فرط فيه كثير من المسلمين لجهلهم بهذا الحديث.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
إن من آداب المجالس أن لا يتحدث اثنان بصوت لا يسمعه الثالث وهو معهم في المجلس وذلك كي لا يدخله خوف مما يظنه تآمراً عليه، أو حزن لظنه أنهما يخفيان عنه سراً، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان ثلاثة جميعاً فلا يتناجى اثنان دون الثالث)) ، أما إن كانوا أربعة وتناجى اثنان فلا بأس في ذلك، ويدخل في النهي عن التناجي أن يتكلم اثنان بلغة لا يفهمها الثالث، فهذا من التناجي المحرم.
كما أن حفظ الأسرار وما دار في تلك المجالس من السنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما المجالس بالأمانة"، فما ينبغي أن يخرج المسلم فيحدث أهله أو أصحابه بما جرى في مجلسه، لأن ذلك يسوء بعض من حضر ذلك المجلس، كما أنه من السنة إذا أراد المسلم أن يقوم من مجلسه أن يقول دعاء كفارة المجلس، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه:سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك،إلا غُفر له ما كان في مجلسه ذلك)). وقلَّ من يفطن إلى هذا الحديث ممن يجلسون في مجالس الغفلة والضحك واللهو.
عباد الله: إن آداب المجالس كثيرة ومتنوعة، يجمع بينها الأثر الطيب الذي تتركه بين المسلمين من ألفة ومحبة وإخاء، فينبغي على كل منا أن يطبق ما سمعه وأن يعلمه أبناءه، كي تكون مجالسنا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه.
وإن من المؤسف أن أكثر مجالس المسلمين اليوم يجمع بينها أنها في معصية وغفلة وحديث لا يقرب من الله تعالى، وقديما قيل: العمر ساعة فاجعلها في طاعة، فاتقوا الله عباد الله واعمروا أوقاتكم ومجالسكم بالعلم والذكر والحديث المباح الذي ينفع في الدنيا، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل مجالسنا: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان ذلك المجلس حسرة عليهم يوم القيامة)).
فلنتق الله عباد الله قبل أن نتحسر على تلك المجالس وتلك الأوقات والأعمار التي أهدرناها على غير طاعة، اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعفو عنا.
(1/1758)
أركان مهجورة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
19/11/1420
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض صور الجاهلية. 2- حضارة الإسلام تنير الدنيا. 3- الضعف والذل في بعض فترات التاريخ الإسلامي. 4- أسباب ذلة المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن رحلة الإسلام رحلة طويلة وذات شجون، إذ كان الناس على الإسلام منذ بدأ الخليقة مدة عشرة قرون، ما بين آدم ونوح عليهما السلام، قال تعالى: كَانَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً فَبَعَثَ ?للَّهُ ?لنَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]. ثم بدأ الشرك يتسلل إلى القلوب والأقوال والأفعال، ولم يدخر رسل الله وسعاً ومن معهم من الصالحين في الدعوة إلى الله ومحاربة الشرك، حتى كان العصر الجاهلي الذي بعث الله فيه نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن جاهليتهم أنهم كانوا يصنعون معبودهم بأيديهم، فإذا جاعوا أكلوه، وكانوا يقتلون أولادهم ويئدونهم خشية العار وخشية الفقر وأن يطعموا معهم.
ولقد كانت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم واضحة لا لبس فيها، وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فجاهد المشركين ودعا الناس إلى الله رب العالمين حتى استقر الدين وأتاه اليقين، فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
ولقد فارق نبينا صلى الله الدنيا وقد خلف رجالاً حملوا هذا الدين إلى الدنيا وقاموا بحقه خير قيام، فكانوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، يضع أحدهم روحه على كفه يطلب الموت أينما كان هنالك جهاد في سبيل الله، فكانوا أطول الناس أعماراً وأبقاهم ذكراً، كما قال الصديق رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وما هي إلا سنوات معدودة حتى كانت كنوز كسرى وقيصر تملأ خزائن المسلمين، غنموها وغنموا أرضهم وديارهم لأنهم قاموا بحق الله، وهذه هي سنة الله تعالى القائل: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. والناظر في تاريخ المسلمين يجد فيه صفحاتٍ ناصعةً مضيئةً، كما يجد فيه بعض صفحات سوداء قاتمة، تدل على ذلهم وضعفهم وهزيمتهم، فتاريخ الإسلام على مر العصور بين مد وجزر، يعلو تارة ويهبط أخرى، حتى إنه في فترة من فترات الضعف والذل هجم بعض الكفار على مكة أثناء الحج فقتلوا الحجيج وردموا بئر زمزم بجثثهم واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وأخذوه معهم فمكث عندهم قرابة العشرين عاماً حتى أفلح المسلمون في إقناعهم سلمياً بإرجاعه، فأي ذل كان فيه المسلمون في ذلك الوقت؟
لقد مر على المسلمين زمان كان التتري يلقى المسلم فيقول له: مكانك حتى أعود لأقتلك، فيمكث المسلم في مكانه يرتجف خوفاً، فيذهب التتري ليحضر سيفه، والمسلم واقف ينتظر موته ذليلاً خاضعاً.
عباد الله: لقد كان الكفار يحاربون المسلمين بالسيف والرمح، أما اليوم فتعددت أساليبهم وتنوعت طرقهم وكثرت بين المسلمين أعوانهم، وما أشبه الليلة بالبارحة، فالمسلمون أذلة لا يأبه العالم بما يقولون ولا يستشيرهم أحد، كما يقول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تَيْمٌ ولاَ يستأمرون وهم شهود
كل هذا لأننا أصبحنا بلا هدف ولا غاية، إذ أفلح المستعمر في استعمارنا ثقافياً واقتصادياً وإعلامياً، وزرعت فينا فئاماً من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، نفوسهم ضعيفة ترعرعت في كنف الكفار وتربت تحت عينه حتى صارت أبواقاً رخيصة وأقلاماً مأجورة، تبث سمومها كل يوم لتفتّ في عضد الإسلام وأهله، وجعلوا أكبر همهم هدم ثلاثة من أركان الإسلام الشامخة، فهم يهاجمونها ليل نهار، وهذه الأركان هي فريضة الجهاد وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعقيدة الولاء والبراء، ولا شك عند أحد من العقلاء أن الأمة، أي أمة كانت: تموت إن لم يكن لها هدف أو غاية في الحياة، فكيف وأمة الإسلام قد نُزِعت هذه الأركان العظيمة من قلوب شعوبها، ومن أجل ماذا يعيش المسلم وأي إسلام يبقى في قلبه بعد هدم هذه الأركان؟
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لقد بَعُدَ العهد بيننا وبين الجهاد في سبيل الله، فكانت العقوبة أن أذلنا الله بعد عز، وأفقرنا بعد غنى، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
وأي ذل أعظم مما المسلمون واقعون فيه؟ انظر حولك من البوسنة وكوسوفا غرباً إلى كشمير شرقاً، وبين ظهرانينا شرذمة من يهود احتلت المسجد الأقصى وتفعل بأمة الإسلام الأفاعيل، فتغتصب الحقوق وتحتل الأراضي وتقتل الأبرياء، والعالم بعد ذلك كله ينادينا بضبط النفس واللجوء إلى الحوار، أما من ينادي إلى الجهاد فهو إرهابي متطرف عدو للسلام.
وجراحات الإسلام ما زالت تنزف الدم ولسان حالها يقول:
ما كنت جرحاً جديداً فألف جرح إزائي لست الأخيرة لكن أخرى وأخرى ورائي
عباد الله: إنا ندعو الله وندعو، ولا نستعجل الإجابة ولكن لا شك أن هنالك موانع تحول بين دعواتنا المرفوعة واستجابة الله لنا، لقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)) ، وسنة الله في خلقه أنه متى قلّ الإنكار زادت المنكرات وانتشرت، وكم نسمع ونقرأ من يندد بمن ينكر المنكرات بحجة أن في ذلك تعرضاً للحريات الشخصية، فجعلوا التعري والتفسخ الخلقي والفواحش من الحريات الشخصية، فكانت العقوبة عامة على الجميع، فالناس يستسقون ويدعون فلا يستجيب الله لهم.
وأما الركن الثالث من الأركان التي هجرها المسلمون فهي عقيدة الولاء والبراء، الولاء للمؤمنين والصالحين والبراءة من الكافرين والفاسقين، وهذا الركن الركين من لوازم شهادة التوحيد، قال تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]. ونحن اليوم نسمع عن مؤتمراتٍ، الهدف منها المطالبة بزمالة الأديان، والدعوة إلى العالمية والتطبيع مع الكفار، والغرض منها توسيع دائرة الولاء بحيث يدخل فيها جميع الأوطان والأديان والأقوام، فلا يشعر المسلم بالفارق بين ملة الإسلام الحق وبين ملل الكفر الأخرى، ولا يخفى علينا الحفاوة البالغة التي يلقاها كبير النصارى وإمام الضلالة في البلاد الإسلامية التي يزورها في هذه الأيام، والترخيص له بإقامة قداسه الكافر ليجذب ما استطاع من أبناء المسلمين المضللين، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) ، وما أزياء المسلمين اليوم من شباب وفتيات وقصات الشعر واحتفالهم بأعياد الكفار وتشبههم بهم في ما يسمعون وما يشاهدون وولعهم بكل ما يُصَدِّرُونَه إلينا من عادات وتقاليد إلا أكبر دليل على ضعف عقيدة الولاء والبراء في صدور المسلمين.
فاتقوا الله عباد الله، وعودوا إلى هذه الأركان المهجورة، أحيوا ما اندثر منها ولو بتذكير الناس بها وبفضلها عند الله تعالى، لا تنسوا الجهاد ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعاهدوا عقيدة الولاء والبراء في صدوركم وصدور أبنائكم، وأقل القليل أن لا تعينوهم بالمال والمصروف على التشبه بالكفار لئلا تكونوا سبباً في دخولهم النار، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/1759)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
3/7/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمانة من صفات المتقين. 2- التحذير من الخيانة. 3-صور من الأمانة. 4- صور من الخيانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أُمرنا أن نتأسى به، أنه كان يُعرف في الجاهلية بالصادق الأمين، فالأمانة من صفات المتقين كما قال عنهم عز وجل: وَ?لَّذِينَ هُمْ لاِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المعارج:32]. ونحن كمؤمنين مأمورون أن نؤدي الأمانة لقول الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [النساء:58].
ومن لم يؤد الأمانة كان خائناً، والله تعالى نهانا عن الخيانة إذ يقول: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن عدم أداء الأمانة من صفات المنافقين بقوله: ((وإذا ائتمن خان)) ، وللمسلم أن يعاقب من أساء إليه بنحو إساءته دون تعد وإفراط، يقول تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـ?بِرينَ [النحل:126]. إلا أنه لا تجوز مقابلة الخيانة بمثلها لعظمها، ولأنها لا تنبغي لمسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)).
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي الأمانة؟ يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ?لاْمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. فالأمانة هي كل ما ائتمن الإنسان عليه وأُمر بالقيام به، فتكون الأمانة بين العبد وربه، كالصلاة والصيام والزكاة وسائر العبادات، وكذلك ترك المحرمات، وتكون الأمانة أيضاً بين العبد والمخلوقين، كالوَلايات والودائع والأموال والأسرار، فحق على كل مؤمن أن لا يغش أو يخون مؤمناً أو كافراً في حقير أو كثير.
ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم محذراً أمته ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) ، وأداء الأمانة لا يكون بإرجاع الأشياء إلى أصحابها فحسب، بل يكون في أمور كثيرة، فمن زوج ابنته أو اخته فاسقاً لا يصلي مع المسلمين في المسجد ويتعاطى الحرام أكلاً ولباساً ومشاهدة واستماعاً، فقد ظلم مولاته وخان الأمانة التي وضعها الله تعالى عنده من دون الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، وكتم الأسرار أيضاً من الأمانة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت، فهي أمانة)) ، فالتفات محدثك خشية أن يسمعه أحد غيرك، يجعل حديثه معك أمانة يحرم عليك نقلها بدون إذنه، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إنما المجالس بالأمانة)).
وكم من المشاكل تحدث بين المسلمين بسبب نقل الكلام الذي ائتمنك عليه صاحبك فلم تؤد الأمانة بل خنتها، وإتقان العمل الذي لا معصية فيه من الأمانة أيضاً، جاء في صحيح مسلم أن أبا ذر أتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يجعله عاملاً له وأميراً على بعض المناطق، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم منكبه وقال له: ((يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) ، فيدخل في هذا الوعيد النبوي كل من ولي أمراً للمسلمين، سواء كان مديراً أو وزيراً أو أميراً، فالذي يقدم مصلحة نفسه على مصلحة العمل أو مصلحة المسلمين فقد خان الأمانة.
والمنصب عباد الله وإن كان جميلاً وذا سمعة وجاه، إلا أنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم خزي وندامة يوم القيامة، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)).
وكم من الوظائف يُعين عليها من ليس لها بكفء إلا لقرابته أو معرفته بالمسئول أو المدير، فهذا أيضاً من تضييع الأمانة، أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، جاء في صحيح البخاري عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأن الأمانة نزلت في جذور قلوب الرجال، وأنه أخبر عن رفعها من القلوب، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل ما أعقلَه وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حية خردل من إيمان، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من النادر من يتعامل بالأمانة في هذه الأيام، إذ هدف الجميع الكسب والربح ولو بطريق غير مشروع، وأصبح الناس يأتمنون الكفار على أعراضهم وأموالهم، فالخدم والسائقون من الكفار، وكذلك العاملون في الشركات والمؤسسات، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من أشراط الساعة تخوين الأمين وائتمان الخائن، ونحن نرى في هذه الأيام تعظيم أقوام لا يساوون عند الله جناح بعوضة من العلمانيين والحداثيين الذين يتصدرون الفن والأدب والاقتصاد وغير ذلك، ومن سمعهم أو قرأ لهم علم أنهم من المفسدين في الأرض الداعين إلى نشر الفاحشة وأنه لا أمانة لهم.
عباد الله: إن شأن الأمانة عظيم وهام، إذ تفطن له الكفار فأصبحوا يتعاملون بالأمانة لعلمهم أنها تُصلح لهم دنياهم، لذلك أتقنوا صناعاتهم وأمور دنياهم، بينما نحن المسلمون الذين يأمرنا ديننا بالأمانة، فقد فرطنا في الأمانة، فلم نصلح دنيانا ولا آخرتنا، ولذلك تجد معظم أمورنا الدنيوية مغشوشة خربة، ونجد السرقات والاختلاسات والغش في التعامل، ونظرة واحدة إلى شوارعنا وعمائرنا ومحلاتنا ومدارسنا، يتبين لنا الغش والخيانة وانعدام الأمانة إلا من قلة قليلة باقية، نسأل الله أن يبارك فيها ويكثرها، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أول ما تفتقدون من دينكم الأمانة، وأول ما يرفع من الناس الأمانة، وآخر ما يبقى من دينهم الصلاة، ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى)).
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا الأمانات التي ائتمنتم عليها، وربوا أولادكم على الأمانة والصدق تكونوا من المفلحين، نفعني الله وإياكم بالقرآن الحكيم.
(1/1760)
الأمراض والسقام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, المرضى والطب
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
29/10/1420
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار امتحان. 2- الابتلاء قد يكون بما يحبه الناس وقد يكون فيما يكرهون. 3- المرض رحمة من الله. 4-الصبر على المرض. 5- التداوي بما هو محرم. 6-صبر أيوب عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الدنيا دار امتحان وابتلاء، خلقها الله لكي يتبين فيها المؤمن من الكافر، والجاحد من الشاكر، والقانط من الصابر، قال تعالى: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:2].
والابتلاء قد يكون بما يحبه الناس، كالصحة والغنى والأمن، وقد يكون بما يكرهه الناس كالمرض والفقر والجوع والخوف، قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]. ولا خلاف بين العقلاء أن الصحة من نعم الله تعالى على عباده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة والفراغ)) ، فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى ، إلا أن هذه النعمة قد تزول ويعقبها مرض وسقم يختبر الله تعالى عبده بها، فإن صبر العبد واحتسب أجره عند ربه كان ذلك خيراً له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
والمرض كفارة للذنوب والمعاصي إذا صبر العبد عليه ولم يتذمر أويتشكى أو يتسخط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبشري يا أم العلاء، فإن مرض المسلم يذهب خطاياه، كما تذهب النار خبث الحديد)).
ومن الناس من يسب الأمراض ويلعنها ظناً منه أنها تتصرف بمحض إرادتها، وهذا خطأ، فإن الله تعالى هو الذي يقدر هذه الأمور، وما الحمى والأمراض إلا جند مأمورة من جند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة عادها من حمى بها: ((لا تسبي الحمى، فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الحديد)) ، فالسرطان والسكر وأمراض القلب وغيرها من الأمراض كلها من أقدار الله تعالى، فما ينبغي سبها ولعنها، ولقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذي لا تصيبه الأمراض والأوجاع ولا يبتليه الله بها ناقص الإيمان، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)) ، روى الإمام أحمد بإسناد حسنه الهيثمي وأعله آخرون عن أبي هريرة قال: دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل أخذتك أم ملدم؟)) قال: وما أم ملدم؟ قال: ((حر بين الجلد واللحم)). قال: ما وجدت هذا قط. قال: ((فهل أخذك هذا الصداع؟)) قال: وما الصداع؟ قال: ((عرق يضرب على الإنسان في رأسه)). قال: ما وجدت هذا قط!! فلما ولى قال: ((من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)).
ولا يظن ظان أن المرض أمر مطلوب أو محمود لذاته، بل هو من قدر الله على خلقه، فمن صبر أُجر، ومن جزع ناله الوزر، ولا يجوز للمسلم أن يتمنى المرض، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيّاهُ؟)) قَالَ: نَعَمْ. كُنْتُ أَقُولُ: اللّهُمّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الاَخِرَةِ، فَعَجّلْهُ لِي فِي الدّنْيَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ((سُبْحَانَ اللّهِ لاَ تُطِيقُهُ أَوْ لاَ تَسْتَطِيعُهُ أَفَلاَ قُلْتَ: اللّهُمّ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ)) ، قَالَ: فَدَعَا اللّهَ لَهُ. فَشَفَاهُ.
فالمؤمن عباد الله لا يتمنى المرض ولا يحبه، ولكن إذا نزل به كان من الصابرين الراضين، قال بعض السلف: لأن أُعافى فأشكر أحب إلى من أن أُبتلى فأصبر.
وإن من نعم الله تعالى على عباده أنه إذا ابتلى أحدهم وأقعده عن ما كان يحبه من الصلاة والصيام وأعمال الخير، فإنه يرزقه من الأجر ما كان يفعله في صحته وعافيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً)).
أقول قولي واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من حق المسلم على أخيه أن يعوده إذا مرض، وأرشدنا عليه الصلاة والسلام إلى جمع من الأدعية التي يدعو بها المسلم عند أخيه المريض، ينبغي للمسلم أن يحفظها وأن يدعو بها لأخيه المريض، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتدواي فقال: ((تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم)) ، إلا أنه لا يجوز أن يتدواى المسلم بالذهاب إلى المشعوذين والسحرة والدجالين، كما لا يجوز له أن يتداوى بالأغاني والموسيقى ولو أشار عليه بذلك الأطباء النفسيين الذين لم يؤتوا حظاً من العلم الشرعي والإيمان، لأن ذلك من الأمور المحرمة، والله تعالى لم يجعل شفاءنا في ما حرم علينا.
ويجب على كل مسلم أن يعلم أن الصلاة لا تسقط عن المكلف، فلا يجوز للمسلم أن يترك الصلاة حال مرضه، ولو كان مقعداً أو جريحاً أو لا يستطيع الوضوء ولا استقبال القبلة، لأن الله تعالى يقول: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. فالصلاة لا تسقط عن المكلف بأي حال من الأحوال، ولا يظن ظان أن الابتلاء بالمرض دليل على هوان الإنسان على ربه، كلا والله، فكم من كافر صحيح معافى في بدنه، وكم من مؤمن سقيم مبتلى في جسده.
هذا نبي الله أيوب عليه السلام، ابتلاه الله في جسده بالأسقام والأوجاع ثمان عشرة سنة، حتى نبذه الناس ورفضوه وألقوه على مزبلة تقذراً منه، وهو مع ذلك كله صابر ذاكر محتسب، وهذا يعقوب عليه السلام ابتلاه الله في بصره فعمي حزناً على يوسف وأخيه، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم، كان يوعك كما يوعك الرجلان، قال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه،فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه،فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما به من خطيئة)).
فيا أيها المبتلى احمد الله على ما أصابك واصبر، فإن التشكي والجزع لا يذهبان البلاء، ولكن الصبر والرضى يزيدان في الجزاء.
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا.
(1/1761)
الركن الثاني: الصلاة
فقه
الصلاة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
9/3/1422
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام. 2- حكم تارك الصلاة. 3- النار مصير تاركي الصلاة. 4-دعوة لدحر الشيطان بالمحافظة على الصلوات جماعة. 5- أهمية صلاة الجماعة ، وحال الناس معها.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا يخفى على أحد من المسلمين أن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وللصلاة مكانة عظيمة في الإسلام لا يشاطرها فيها غيرها من العبادات، فمن شدة أهميتها فرضها الله تعالى في السماء السابعة ولم يفرضها على الأرض كسائر العبادات الأخرى، وأنه تعالى فرضها من غير واسطة، حيث أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم مباشرة ولم يأمر بها جبريل عليه السلام، ومن فضلها أنها خمس صلوات ولكن بأجر خمسين.
ولقد جعل الله تعالى الصلاة من الأمور التي تجعل المشرك أخاً لنا في الإسلام فقال تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11]. فيفهم من هذه الآية أن تارك الصلاة ليس أخاً لنا في الدين، وهذه أيضاً من الأمور التي تتميز فيها الصلاة عن بقية العبادات، فمن ترك عبادة تهاوناً وكسلاً فهو فاسق معاقب على ذلك، إلا الصلاة: فمن تركها تهاوناً وكسلاً فهو كافر كفراً أكبر، جاء في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، ولذلك فإن أهل النار عند ما يُسألون يوم القيامة: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ [المزمل:42-43]. فكل من لا يصلي فهو من أهل النار وليس من أهل الإسلام، إذ أهل الإسلام هم أهل الصلاة، روى البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاكم المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله)).
بل إن نبينا صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن آخر أهل النار خروجاً منها فقال ((حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله تعالى أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله. فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)) ، وفي هذا دليل على أن تاركي الصلاة لا يخرجون من النار لأنهم ليس لديهم آثار السجود التي بها تعرفهم الملائكة وتخرجهم من النار، وللأسف فإن نسبة كبيرة جداً من المسلمين في بلادنا لا يصلون البتة، ولا أكون مبالغاً لو قلت إنها أكثر من ثلاثين بالمائة، وأكثر تاركي الصلاة يتعذرون بأن أهليهم لم يعودوهم عليها عند صغرهم، مخالفين بذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم: ((علموا أولادكم الصلاة إذا بلغوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً)).
والحقيقة أن من تاركي الصلاة من غلبت عليه الغفلة، فإن وُعظ وذُكِّر وخُوِّف بالله تعالى قام للصلاة، ولكن مِنْ تاركي الصلاة من لا يمنعه من الصلاة إلا الكِبر الذي منع إبليس من السجود لآدم، فاستحق بذلك أن يكون معه يوم القيامة في نار جهنم، فهذه النوعية من البشر تأبى لتكبرها أن تمرغ جبهتها في التراب ذلاً وخضوعاً لله تعالى، ولن تنفعه عباداته من صيام وصدقة وحج إن مات على تركه للصلاة وإصراره على ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة: الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) ، جنبنا الله وإياكم حال العصاة والمتكبرين، أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، إن الله تعالى قد حمى هذه الصلاة المكتوبة بأمور لو حافظ عليها المسلم لكانت سبباً في عدم تركه للصلاة، فصلاة الجماعة والسنن الرواتب من تلك الأمور، فالمسلم الذي يحافظ على السنن الرواتب لو أراد الشيطان أن يزين له ترك الصلاة فإنه يتهاون في صلاة السنة لا الفرض، ثم لا يلبث أن يعود للحفاظ عليها مرة أخرى، بينما ذلك الذي لا يصلي السنن الرواتب فإنه من الطبيعي أن يفوته فرض ولا يقضيه، فكم من تاركي السنن نام عن صلاة العشاء والفجر والعصر لتعبه أو لنعاسه.
وكذا صلاة الجماعة، فيكاد يكون من المستحيلات أن تجد رجلاً يحافظ على الصلوات الخمس في المسجد يترك الصلاة بالكلية أو يفوته فرض فلا يصليه في بيته، فإن إبليس إذا أراد أن يوسوس له فإنه يحاول أن يؤخره عن تكبيرة الإحرام ثم عن الصف الأول ثم عن الركعة الأولى، وهكذا حتى يجعله يصلي مع الجماعة الثانية في المسجد بعد انتهاء الجماعة الأولى، فإن استمرأ العبد ذلك ولم ينكره زين له الشيطان صلاة الفجر والعصر في البيت، ثم ما يلبث أن يصلي كل صلواته في البيت هاجراً المسجد، وآنذاك يكون عرضة لترك صلاة أو أكثر أو لترك الصلاة بالكلية والعياذ بالله، لذلك نهانا الله تعالى عن اتباع خطوات الشيطان.
عباد الله إن صلاة المسجد فرض عين على كل ذكر بالغ عاقل مقيم خال من الموانع، ولقد جاء في صحيح مسلم أن عبد الله بن مسعود قال: (مَنْ سَرّهُ أَنْ يَلْقَى الله غَداً مُسْلِماً فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنّ. فَإِنّ الله شَرَعَ لِنَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَىَ وَإِنّهُنّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَىَ. وَلَوْ أَنّكُمْ صَلّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلّي هَذَا الْمُتَخَلّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنّةَ نَبِيّكُمْ. وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنّةَ نَبِيّكُمْ لَضَلَلْتُمْ. وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهّرُ فَيُحْسِنُ الطّهُورَ ثُمّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاّ كَتَبَ الله لَهُ بِكلّ خَطْوَةٍ يَخْطوَها حَسَنَةً. وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً. وَيَحُطّ عَنْهُ بِهَا سَيّئَةً. وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلّفُ عَنْهَا إِلاّ مُنَافِقٌ، مَعْلُومُ النّفَاقِ. وَلَقَدْ كَانَ الرّجُلُ يُؤْتَىَ بِهِ يُهَادَىَ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ حَتّى يُقَامَ فِي الصّف)، فصلاة الجماعة في المسجد واجبة، ولو لم تكن واجبة لرخص عليه الصلاة والسلام للأعمى الذي أتاه يستأذنه في الصلاة في بيته، ولقد قال للأعمى: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم، فقال: فأجب، لا أجد لك رخصة)) ولقد هم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أن يحرق بيوت رجال لا يشهدون الجماعة في المسجد، وأخبرنا أنه ما منعه من ذلك إلا ما في البيوت من ذرية ونساء، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحرق البيوت بمن عليها إلا لترك فرض أو واجب، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما وصف تاركي صلاة الضحى وصيام الاثنين والخميس بالنفاق كما فعل مع تاركي صلاة الفجر والعشاء، مما يدل كل ذي عينين على أهمية صلاة الجماعة، وللأسف فإن تسعين بالمائة تقريباً من أهل هذه البلدة لا يحافظون على الصلاة في المسجد، ولا أدري هل ضمن الجنة ذلك الذي ينام في بيته عن الصلاة ويتخلف عنها؟
إن الله تعالى لن يعيد لهذه الأمة عزتها حتى تراجع دينها، وإن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإن أردنا تحرير القدس والنصر على أعدائنا فإنه يجب علينا أن تذل رقابنا بالصلاة لله تعالى وحده، فإذا رأيت المسلمين يملئون المساجد في صلاة الفجر كما هم في صلاة الجمعة، فأبشر بنصر الله تعالى، فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، واتق الله في ابنك أيها الوالد فإنك القدوة له.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/1762)
العجلة والتأني
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
12/11/1420
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل التأني والأناة. 2- الاستعجال طبع في الناس. 3-الاستعجال في الدعاء. 4- مضار العجلة. 5-العجلة في الطاعات. 6- العجلة في المباحات.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج بن عبد القيس: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى: الحلم والأناة)).
عباد الله: إن الأناة والتأني من الأمور التي يحبها الله تعالى ، فيشرع في حق المسلم أن يتخلق بها وأن يتجنب ما يضادها، فالأناة التثبت في الأمور وترك العجلة، ولقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر والتأني وعدم الاستعجال، فقال تعالى: فَ?صْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ?لْعَزْمِ مِنَ ?لرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ [الأحقاف:35].
والعجلة في الأمور مفسدة لها في الغالب، إلا أن هذا الاستعجال طبع في الناس كما قال عز وجل: خُلِقَ ?لإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]. وقال أيضا: وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ عَجُولاً [الإسراء:11]. فيستعجل الأمور ولا يتأنى في معرفة أماكن الخير، وقد قيل: إن مع المستعجل الزلل.
فهذا نبي الله آدم عليه السلام، استعجل الخلود في الجنة فأكل من الشجرة المحرمة، فكان أن أُهبط هو وذريته إلى الأرض، قال تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً ، ولقد قرر علماء المسلمين قاعدة عظيمة فقالوا: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ولذلك عندما تعجل سيدنا موسى عليه السلام في سؤال الخضر مستنكراً عليه، لأنه لم يجد القدرة في نفسه السكوت على ما يرى، انتهت الرحلة العجيبة بفراق موسى الخضر عليهما السلام، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر لرأى من صاحبه العجب)) ، وكذا سيدنا يوسف عليه السلام، استعجل الخروج من السجن فأدبه الله بطول المكث فيه، قال عليه الصلاة والسلام: ((عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه، والله يغفر له حيث أُرسل إليه لِيُسْتَفْتَى في الرؤيا، ولو كنت أنا لم أفعل حتى أُخرج، وعجبت لصبره وكرمه والله يغفر له، أُتِي لِيُخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، لولا الكلمة لما لبث في السجن حيث يبتغي الفرج من عند غير الله)).
والعجلة تمنع من استجابة الدعاء، وأكثر الناس اليوم يستعجلون الإجابة، فإذا تأخرت تركوا الدعاء، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل، بقول دعوت فلم يُستجب لي)) ، ومنهم من لا يستعجل الإجابة ولكنه يجهل آداب الدعاء فلا يستجاب له، عن فضالة بن عبيد رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال سمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد اللَّه تعالى ولم يصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: ((عجل هذا)) ثم دعاه فقال له أو لغيره: ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، ثم يدعو بعد بما شاء)).
ومن مضار العجلة أنها قد تؤدي بصاحبها إلى ترك واجب أو فعل محرم، رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتّى إِذَا كُنّا بِمَاءٍ بِالطّرِيقِ. تَعَجّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ. فَتَوَضّأُوا وَهُمْ عِجَالٌ. فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ. وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسّهَا الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ)).
وليست العجلة كلها مذمومة عباد الله، فلقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بالاستعجال في أمور، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار)) ، وقال عليه الصلاة السلام: ((السفر قطعة من العذاب. يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه. فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه، فليعجل إلى أهله)).
فأمور الدنيا والمباحات ينبغي على المسلم أن يتريث فيها وأن لا يستعجل، وقد قيل: ما خاب من استشار وما ندم من استخار، بينما أمور الآخرة والعبادات والطاعات، لا يُسن تأخيرها، قال عليه الصلاة والسلام: ((التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة)) ، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم متأنياً متثبتاً في أموره كلها، إذ يقول: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان)) ، فينبغي على المسلم أن لا يستعجل في أمر قد يندم عليه بعد لحظات، فكم من كلمة متعجلة خرجت من فم زوج طائش هدمت بيتاً كانت السعادة عنوانه، ثم هو يطرق الأبواب ليجد من يفتيه ويعيدها إليه، وكم من صبي تحمس بكلام أصحابه وتشجيعهم له فسابق الموت بسيارته فكان الموت أسرع منه، وكم من شاب استعجل تحصيل لذاته عن طريق الحرام، فوقع في فاحشة الزنى أو اللواط فكانت عاقبة أمره خسراً، وكان ذلك بداية غرقه في مستنقع الرذيلة والأمراض والعياذ بالله، وكم من أب استعجل في زواج ابنته دون تثبت وسؤال عن حال المتقدم لها، فكانت النتيجة أنه رمى بفلذة كبده إلى بهيمة لا يعرف الصلاة ولا الطاعة، ولا يقيم للحياة الزوجية وزناً، يسهر الليالي خارج المنزل مع رفاق السوء، قد سام ابنته سوء العذاب فهي تبحث عن طريقة تفارق بها ذلك المسخ، ولو كان الثمن أن تحمل اسم المطلقة بقية عمرها، وكم من مغرور بقوته وعافيته أوقعه الشيطان في شراكه، فتورط في شجار أو عراك فنتج عنه إصابةٌ بعاهة أو جراحة أو ربما موت، كان ثمنها أن يعاني هو وأهله من ويلاتها أمداً طويلاً.
فاتقوا الله عباد الله وتأنوا فيما يجب التأني فيه، وتعجلوا فيما يجب التعجل فيه، تعجلوا بالتوبة ولا تأخروها طرفة عين، تعجلوا بالحج يا من لم تحجوا الفريضة، تعجلوا بالتبكير إلى المسجد في الجمعة والجماعات لإدراك الصف الأول، أنفقوا مما رزقكم الله ولا تُأخروا صدقة أو طاعة لله، وبادروا بالأعمال قبل نزول الموت، فإن الواحد منا لا يدري متى يكون أجله، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/1763)
الفطرة الظاهرة والباطنة
فقه
الطهارة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
11/5/1421
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1-خلق الإنسان وزوده بالفطرة الظاهرة والباطنة. 2- خصال الفطرة. 3- انقلاب الفطر الظاهرة والباطنة عند كثير من المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به قال: ((أُتيت بثلاثة أقداح،قدح فيه لبن وقدح فيه عسل وقدح فيه خمر، فأخذت الذي فيه اللبن فشربت فقيل لي أجبت الفطرة أنت وأمتك)).
عباد الله: لقد دلت آيات الكتاب والأحاديث النبوية على أن الفطرة نوعان، باطنة وظاهرة، فالفطرة الباطنة هي التوحيد والبراءة من الشرك والإيمان بالله وما يتبع ذلك من خوف ورجاء ومحبة وتذلل وإنابة إلى الله، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح أو أمسى: ((أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص)) ، وهذه الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها، يقول تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ [الروم:30]. وهو نفي بمعنى النهي أي لا تبدلوا دين الله، ومعنى هذا أن كل بني آدم خلقه الله موحداً، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) ، ولا يعني ذلك أن المولود يخرج من بطن أمه وهو يعلم تعاليم الإسلام، لأن الله تعالى يقول: وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]. إنما المراد كما يقول ابن القيم أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خُلِّي وترك لم يعدل عن ذلك لغيره.
أما الفطرة الظاهرة فهي ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته وإعطاء المظهرِ الكمالَ المطلوب حسب تعاليم الشرع المطهر، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عشر من الفطرة، قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء)) قال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وفي رواية أخرى زاد النبي صلى الله عليه وسلم: ((الختان)).
فقص الشارب هو أخذ الشعر الزائد عن الشَّفَةِ، وإعفاء اللحية تركها على ما هي عليه من دون حلاقة أو تقصير، والسواك وقص الأظافر معروف، واستنشاق الماء هو إدخال الماء إلى أعلى الأنفين، وغسل البراجم هو غسل الأماكن التي تتجمع فيها الأوساخ في الجسد، ونتف الإبط وحلق العانة هو إزالة الشعر عن هذين الموضعين بالنتف للإبط والحلق للعانة، وهي المنطقة التي تعلو الفرج، ومعنى أن هذه الخصال العشر من الفطرة أي أنها من سنن جميع الأنبياء حتى كأنها صارت خلقة وأمراً جِبلياً فُطروا عليه، ولقد أُمرنا بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأُمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهدي الأنبياء من قبله فقال تعالى: أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ ، ولقد أخبرنا الله تعالى أن هارون عليه السلام كان ذا لحية فقال تعالى: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى [طه:94].
عباد الله: هذه هي الفطرة الباطنة والظاهرة التي نهانا الله تعالى عن تغيرها بقوله: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ [الروم:30]. فكيف نحن من نهي الله تعالى لنا؟ إن الفطرة الباطنة قد تغيرت فخرج الناس من نور التوحيد والسنة إلى ظلمة الشرك والبدعة، فالمسلمون قلة وهم على قلتهم فإن في إسلامهم من الشوائب ما قد يخرجهم من الملة كما قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. فمنهم من يدعو الموتى أو يتمسح بالقبور ويذبح لها أو ينذر لغير الله، ومنهم من يتعامل مع السحرة والكهنة والمشعوذين، أو يتحاكم إلى غير شرع الله تعالى، ولقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً)).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
عباد الله: لقد تعهد إبليس بأن يغير فطرة الله الباطنة والظاهرة، يقول الله تعالى: وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ?لاْنْعَـ?مِ وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ ?للَّهِ [النساء:118-119]. لقد انتكست فطر الكثيرين من المسلمين اليوم، ولا أدل على ذلك من سرورهم بالمعصية واستبشارهم بحصولها لهم، فالفطرة السليمة تأبى وتخاف من المعصية، وتراها تتردد مرات ومرات قبل الإقدام عليها، أما الفطرة السقيمة فتجدها تتلذذ وتهوى المعصية حتى تصير أطيب على النفس من الماء البارد في اليوم الحار.
وكمثال: فإن الفطرة السليمة تبغض الدخان وتنفر منه، وكل من ابتلي بشرب الدخان إما أنه قاء ما في جوفه عندما شربه أول مرة أو انتابته نوبة عارمة من السعال مع احمرار عينيه وضيقٍ في التنفس، ولكن بعد مرات من المحاولة، إذ بالفطرة تنتكس وتصبح السيجارة أحب إليه من الطعام والشراب، فيجد فيها سلوته وراحته وطمأنينة قلبه، وقل الأمر ذاته في سائر الذنوب والمعاصي التي من شدة الغفلة أصبحت هي الأساس والأصل، فمن أجل تحصيلها يعيش الناس ويعملون وهم عن الآخرة هم غافلون.
ولقد كنت أتحدث مع أحدهم عن نتف الإبط وحلق العانة وأن ذلك من السنن الواجبة، فتمعر وجهه قائلاً: إن ذلك فيه تشبه بالنساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يلعب إبليس بالناس، لقد كان أكمل الرجال وسيدُهم صلى الله عليه وسلم ينتف إبطه ويحلق عانته، وكان أيضا يعفي لحيته ويأمر الناس بذلك، ولقد أجمع الأئمة الأربعة على تحريم حلق اللحية، فسبحان الله كيف لعب الشيطان بعقول الرجال وأبعدهم عن دين الفطرة دين الله، فزين لهم أن إزالة شعر الإبط والعانة أنوثة وأن حلق اللحية رجولة، كيف ضحك على شباب الإسلام فجعلهم يلبسون الثياب الغريبة ويقصون شعورهم متشبهين بأعداء الله؟ كيف انتكست الفطرة عند المرأة وهي التي جُبلت على الحياء والعفة، فأصبحت تخرج سافرة الوجه حاسرة عن يديها وأجزاء من شعرها، قد أطالت أظافرها كالوحوش الكاسرة وهو أمر منكر ومحرم، وصبغت وجهها وأظافرها بألوان منكرة تمجها النفوس السليمة والفطر المستقيمة.
فاتقوا الله عباد الله، واتبعوا خصال الفطرة الباطنة والظاهرة التي أمرنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فإني أخشى عليكم لعنة الله تعالى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن:المغيرات خلق الله)) ، فسبب اللعن أنهن بردن أطراف أسنانهن للتجميل فغيرن خلق الله، فيُخشى على من خالف خصال الفطرة أن تصيبهم لعنة النبي صلى الله عليه وسلم، ووالله إننا لفي أمس الحاجة إلى الحسنة الواحدة لنكفر بها عن ذنوبٍ الله بها عليم، فكيف يجعل الواحد منا نفسه عرضة للعنة النبي صلى الله عليه وسلم؟
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وتشبهوا بسيد الرجال صلى الله عليه وسلم لعلنا نُحشر معه يوم القيامة لتشبهنا بهديه واتباعنا لسنته، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا من أهل سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]. ولا تجعلنا ممن قال: سمعنا وعصينا.
(1/1764)
الميزان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
17/2/1422
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالميزان من عقائد أهل السنة والجماعة. 2- ما الذي يوزن يوم القيامة؟ 3-دعوة للاستكثار من الأعمال التي تثقل ميزان المؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في سنن الترمذي عن أنس بن مالك أنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة فقال: ((أنا فاعل، فقلت: يا رسول الله فأين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط، قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أُخطئ هذه الثلاث المواطن)).
عباد الله: إن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بالصراط والميزان والحوض، يقول القرطبي: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، يقول الله تعالى: وَنَضَعُ ?لْمَو?زِينَ ?لْقِسْطَ لِيَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى? بِنَا حَـ?سِبِينَ [الأنبياء:47].
ولقد دلت النصوص على أن الميزان ميزان حقيقي دقيق لا يزيد ولا يُنقص، له كِفتان ولسان، لا يقدُر قدره إلا الله، روى الحاكم في مستدركه عن سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُوضع الميزان يوم القيامة، فلو وُزن فيه السموات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول تعالى:لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة:سبحانك ما عبدناك حق عبادتك)).
وقد اختلف أهل العلم في الموزون الذي يوضع في الميزان، فمنهم من قال هي الأعمال، حيث أن الأعمال يوم القيامة تجسم ويكون لها عَرَض، واستدلوا بجملة من الأحاديث كحديث أبي الدرداء عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يوضع في الميزان يوم القيامة شيء أثقل من حسن خلق)).
ومن أهل العلم من قال: إن الذي يُوزن هو العامل نفسه، فقد دلت النصوص على أن العباد يوزنون يوم القيامة، فيثقلون أو يخفون بمقدار إيمانهم، لا بضخامة أجسامهم وكثرة ما عليهم من لحم وشحم، جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه لَيأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)) وقال اقرؤوا: فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَزْناً [الكهف:105]. وجاء في مسند أحمد أن عبد الله بن مسعود كان رجلاً رقيق الساقين، فجعلت الريح تُلقيه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مم تضحكون؟ فقالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحد)).
وأما القول الثالث فهو أن الموزون هو صحائف الأعمال، روى الترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اللّه عزَّ وجلَّ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، قال: أفلك عذر أو حسنة؟ قال: فبهت الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمداً رسول اللّه، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، قال: ولا يثقل مع اسم الله شيء)).
والذي رجحه أهل العلم كالحافظ الحكمي رحمه الله أن الموزون هو الأعمال والصحائف والعامل نفسُه، كلهم يُوضعون على الميزان ويوزنون، أقول قولي واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، عباد الله، إن العاقل الفطن هو الذي يأتي يوم القيامة وقد استكثر من الحسنات وأثقل موازينه بالأعمال الصالحة، وقلل ما استطاع من السيئات والأعمال الفاسدة، ومن الأعمال التي تُثقل الميزان يوم القيامة: حسن الخلق، فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامة:خلق حسن، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء)) ، كذلك فإن ذكر الله تعالى من الأمور التي تُثَقِّل كِفة الحسنات، ففي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) ، ولا شك أن ما كان في سبيل الله والجهاد، فإن للعبد النصيب الأوفر من الأجر والحسنات التي قد يعرف مصدر بعضها ويغفل عن المصدر الآخر ألا وهو فضل أكرم الأكرمين، ففي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتبس فرسا في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريُّه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة)).
ولهذا السبب عباد الله ينبغي علينا أن نستكثر من الأعمال الصالحة قدر الإمكان، لأننا خطاؤون مذنبون، فلعل هذه الأعمال الصالحة أن تستغرق أعمالنا الطالحة.
ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تتصدق بالصغير والكبير وبالقليل والكثير، وتصدقت ذات يوم بعنبة، فاستنكر عليها من عندها، وقالوا: وماذا يفعل المسكين بعنبة واحدة؟ فقالت لهم: كم فيها من مثقال ذرة؟ ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم مبشراً ومشجعاً فاعلي الخير: ((لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) ، وقال عليه الصلاة والسلام محذراً المذنبين العصاة الذين قد لا يرتكبون الكبائر ولكنهم منغمسون في الصغائر: ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، كرجل كان في أرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجيء بالعود والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا من ذلك سواداً وأججوا ناراً فأنضجوا ما فيها)).
فاتقوا الله عباد الله وثَقِّلوا بالصالحات كفة الحسنات، عسى إن نحن فعلنا ذلك أن ترجح حسناتنا على سيئاتنا، اللهم ثقِّل موازيننا بالأعمال الصالحة والحسنات الراجحة.
(1/1765)
حق الجار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
28/6/1420
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم حق الجار. 2- أنواع الجيران. 3- من هو الجار؟ 4- الإحسان إلى الجار. 5- حقوق الجار. 6- صور من أذى الجيران.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها كلمة لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء من الإيمان)).
عباد الله: إن المسلم يسعى جاهداً ليكون ممن استكمل هذه الشعب وصار مؤمناً خالصاً كامل الإيمان، وإن من شعب الإيمان التي فرط فيها المسلمون: حق الجار.
عباد الله: إن حق الجار عظيم، ومن عظم حق الجار أن الله تعالى قرنه مع حق الله والوالدين والأرحام، يقول الله عز وجل: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ [النساء:36].
والجيران كما يقول العلماء ثلاثة، فالجار الأول له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم ذو الرحم، الذي له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة، أما الجار الثاني فهو الذي له حقان: حق الإسلام وحق الجيرة، وأما النوع الثالث فهو الجار الكافر، فهذا له حق واحد وهو حق الجوار.
واسم الجار كما يقول ابن حجر يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والبلدي والغريب والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب داراً والأبعد.
وأما حد الجار فاختُلِف فيه، فعن علي رضي الله عنه من سمع النداء فهو جار، وقيل من صلى معك الصبح في المسجد فهو جار.
ولقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجار من أسباب السعادة والشقاوة فقال: ((أربع من السعادة:المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء:المرأة السوء والجار السوء والمركب السوء والمسكن الضيق)) ، ولقد عَظَّم الإسلام حق الجار أيما تعظيم، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) ، ولقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الجار كما في الآية الماضية، وكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأكد على الإحسان إلى الجار إذ قال: ((خير الجيران عند الله خيرهم لجاره)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)) ، ولقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أبا ذر فقال له: ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) ، فالهدية بين الجيران تورث الألفة والمحبة بينهم، فما ينبغي لمسلم أن يحقر أي هدية تهدى إليه، فإن الهدية لا تدل على قدر المُهْدَى إليه ولا على مقدار المحبة التي في القلوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) ، بمعنى فلتهدها ما تيسر ولا تستهن أو تستصغر شيئاً.
ولا شك أن الإحسان إلى الجار من أفضل الأعمال والقربات، كيف لا وهو سبب من أسباب نيل محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم واصدقوا إذا حدثتم وأحسنوا جوار من جاوركم)) ، والجامع لإكرام الجار هو أن ترجو له الخير وأن تقدم له ما استطعت من معروف وأن تمنع عنه الأذى أياً كان نوعه، قال العلماء: وجملة حق الجار أن يبدأه بالسلام ويعوده في مرضه ويعزيه في مصيبته ويخدم أهله بصنع الطعام فترة العزاء، ويهنئه في أفراحه ويصفح عن زلاته، وأن لا يتطلع من السطح على عوراته، وأن لا يصب الماء أو يضع القاذورات أمام داره، وأن يستر ما ينكشف له من عيوبه وأخطائه، وأن لا يغفل عن ملاحظة داره حال سفره وغيابه، وعليه بغض البصر عن حريمه والتلطف مع أولاده في الكلام مع إرشادهم إلى أمور دينهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
ويعظم ويتأكد حق الجار إن كان الجار مسكيناً أو يتيماً أو مسناً أو أرملة لا عائل لها، أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، كما أكد الإسلام على الإحسان إلى الجار، فكذلك توعد بالعقوبة من أساء إلى جاره، ولقد أقسم نبينا ثلاثاً مبيناً عظم ذنب أذية الجار فقال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن.. من لا يأمن جاره بوائقه)) ، وفي رواية لمسلم: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) ، ولقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكيه من أذية جاره، فقال له: اذهب فاصبر، فأتاه الرجل مرتين أو ثلاثاً، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((اذهب فاطرح متاعك في الطريق)) ، ففعل ذلك، فجعل الناس يمرون به ويسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنون جاره وينالون منه، فجاء إليه الجار قائلاً: ارجع، لا ترى مني شيئاً تكرهه.
عباد الله إن حق الجار عظيم في الإسلام، ولقد تقدم معنا أن من حقوق الجار أن يغض الطرف عن محارمه، سواء عبر السطح أو النافذة أو من عين الباب السحرية، ولكن للأسف الشديد فإن شكوى الناس من تعديات جيرانهم في تزايد والعياذ بالله، ذلك لأن وسائل الإعلام الهدامة تزين للناس قيام العلاقات الآثمة مع بنت الجيران وأن ذلك أمر فطري طبيعي، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيب من سأله أي الذنب أعظم؟ فيقول: ((أن تزاني حليلة جارك)).
فاتقوا الله عباد الله وصونوا حرمات جيرانكم كما تصونوا حرمات أمهاتكم وأخواتكم، تفقدوا جيرانكم وتعاهدوهم بالصلة والسؤال، واتقوا الله فيهم ولا تؤذوهم، فليس بمؤمن من آذى جاره، وإن من أذية الجار أن يرفع المرء صوت المذياع أو المسجل بالموسيقى التي تغضب الله وتؤذي الجار المسلم.
ومن الأذية رمي القاذورات أمام بيت الجار وهو أمر كان يفعله المشركون مع نبينا صلى الله عليه وسلم، كذلك من الأذية تجمع الصبية والشباب مع أصحابهم أما بيت الجار، مع ما يصحب ذلك من ضجيج وإزعاج وربما كلمات نابية قذرة وهيئات وأشكال مزرية قبيحة تؤذي أعين الناظر إليها فضلاً عن أذية الجيران، ومن الأذية كذلك خروج النساء سواء كن ربات البيوت أو الخادمات من البيوت وهن متبرجات متهتكات، فذلك أيضاً يؤذي المؤمنين ويغضب الله رب العالمين، فاستروا بناتكم وزوجاتكم والخادمات اللاتي تحت أيديكم، ولا تؤذوا جيرانكم وعباد الله بمناظرهن، ولا تجعلوهن عرضة لأذية الفساق، والله تعالى يقول: ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/1766)
حقوق الفرد في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
20/7/1420
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرد هو اللبنة الأساسية للمجتمع. 2- صون الإسلام لعرض الفرد المسلم. 3- صور من اهتمام الإسلام بالفرد المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد أولى الإسلامُ الفردَ عناية خاصة لا يكاد يوجد لها مثيل في أي نظام أو دين آخر، ذلك لأن الفرد هو اللبنة الأساسية للمجتمع، فإن صلح الفرد صلح بصلاحه المجتمع، وهذا مشاهد على نطاق الأسرة، فكم من أب مهتد كان سبباً في صلاح أهل بيته كلهم، وكم من أسرة عادت إلى الله والتزمت بشرعه تعالى بسبب ابن لها في حلقات تحفيظ القرآن الكريم، أو بنت شرح الله صدرها للإسلام فارتدت الحجاب ونبذت حياة الغفلة والعصيان.
ومن عناية الإسلام بالفرد قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام:دمه وماله وعرضه)) ، وهذا الحديث أصل في منع أذية المسلم أو التعرض له، فلا يجوز أن يسفك دمه ولا أن يُؤخذ ماله ولا أن يُتعرض له في عرضه بالأذى لا بالقول ولا بالفعل، إلا إذا أتى بمخالفة شرعية كأن يقتل أو يسرق، فإن للإمام آنذاك أن يطبق شرع الله تعالى فيه ويقيم عليه الحد، ومن الحقوق التي كفلها الإسلام للمسلم أن يدافع عن هذه الأساسيات الثلاث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)) ، فيشرع للإنسان أن يقاتل دفاعاً عن ماله ونفسه ودينه وأهله.
ولقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم الدفاع عن العرض وذلك عندما رآه ذات ليلة رجلان من الأنصار يمشي مع أم المؤمنين صفية، فما إن رأياه مع امرأة حتى أسرعا في طريقهما، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((على رسلكما، إنها صفية)) ، فأخبرهما صلى الله عليه وسلم أنها زوجه لكي لا يلقي الشيطان في نفوسهما شيئاً، وبذلك برأ النبي صلى الله عليه وسلم عرضه عن التهمة؟
وهكذا ينبغي على كل مسلم أن ينفي التهمة عن نفسه وأن لا يرتاد أماكن الشبهات أو يفعل ما قد يؤدي إلى إساءة الظن به.
ولقد جعل الإسلام أفراده متساوين، فلا فرق بين عربي وعجمي ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى، كما قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]. جاء في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر يوماً على بلال وصهيب وسلمان، وذلك قبل أن يسلم فقالوا: والله ما أخذت سيوفُ الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ((يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك)) ، فأتاهم يهرول قائلاً: يا أخوتاه، أغضبتكم؟ فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخي، لقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أبا بكر صراحة أنه بإغضابه لهم قد أغضب ربه عز وجل، وهنا لم يشفع لأبي بكر أنه عربي قبلي قرشي شريف، وأنه خير هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشفع له أنه كان يخاطب فارسياً ورومياً وحبشياً، وكم أدت هذه النعرات الجاهلية إلى التفريق بين الأخوة وأفراد الأمة الواحدة، وكل من يذكي نار هذه الفتنة بين المسلمين فلا شك أنه من جند إبليس.
ومن اعتناء الإسلام بالفرد أنه شدد على اختيار المرأة الصالحة وعلى قبول الرجل الصالح ذي الأخلاق الحسنة، لأنهما نواة المجتمع، ومنهما تأتي الذرية الصالحة بإذن الله تعالى، أما إن تزوجت الصالحة بفاسق أو الصالح بفاسقة، فإن هذا الزواج في الغالب لن ينتج إلا المشاكل، وكم من أب قضى على ابنته ومستقبلها عندما قبل أن يزوجها بفاسق لا يحافظ على الصلاة ولا يمتنع عن المحرمات، قد ملأ بيته بالمنكرات ويريد من امرأته أن تخلع حجابها لتسافر معه ولتجالس أصحابه والعياذ بالله، وهذا موجود ومنتشر بين المسلمين للأسف الشديد، وهم يزعمون أن الإيمان في القلب فقط، وهذا ضلال مبين، أن يخالف المرء شرع الله تعالى ثم يزعم أنه مؤمن كامل الإيمان.
عباد الله: إن الإيمان في القلب وتظهر آثاره على الجوارح، وهؤلاء لم يأتوا بالإيمان القلبي أيضاً، فأي إيمان هذا وهم لا يخشون الله، مع أن الخشية من أعمال القلوب؟ وأي إيمان هذا وهم قد تركوا التوكل على الله وتوكلوا على الدرهم والدينار وتعلقت قلوبهم بالمادة والدنيا؟ أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله وبعد، عباد الله، إن الله تعالى قد وضع في الإنسان طاقات وقدرات خارقة، لو استغلت لكانت النتائج باهرة مدهشة، ولا شك أن الفرد لو تربى على القرآن والسنة المطهرة ومنهج السلف الصالح، لكان بإمكانه ودون مبالغة أن يغير الدنيا، إذ أن ذلك ما حصل مع الصحابة ومن تبعهم، ولقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم من قبل: ((لن يُغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)) ، فالخلل عباد الله ليس في أعداد المسلمين، وليس في نقص الموارد المادية والمالية، إنما مكمن الخلل في تربيتهم ونظمهم وإيمانهم، فإن كنا نريد فلاح أمتنا فإنه يجب علينا أن نعتني بالفرد وأن نرد له كرامته وأن نحسن تنشأته.
وصلاح الفرد لا يكون بإرسالهم إلى بلاد الكفار لينبهروا بهم، ولا يكون باحترافهم كرة القدم أو بتعليمهم التمثيل والموسيقى وما شابه ذلك من الأمور التافهة، إنما يكون صلاح الفرد بإنشاء جيل كجيل الصحابة التابعين، وهذا أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فينبغي علينا أن نبذل وسعنا وجهدنا في تنشئة أبنائنا وطلابنا على الإسلام الحق، وأن نجعل لهم أنموذجاً يقتدون به، أما ذلك الذي يركض خلف الغرب الكافر وخلف سراب الحضارة الزائفة تاركاً حضارته وتراثه ودينه وراءه، فلا شك أنه قد خسر الدنيا والآخرة.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا بيوتكم تصلح مجتمعاتكم، وتصلح لكم دنياكم وآخرتكم، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/1767)
علامات محبة الله للعبد
التوحيد
الأسماء والصفات
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
26/4/1421
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة المحبة من صفات الله. 2-أعمال يحب الله أصحابها. 3- علامات محبة الله للعبد. 4- من أحب الله أطاعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يُحِبُّ ويُحَبُّ، ومن نفى أن الله تعالى يُحِب فقد كذَّب القرآن، لأن الله تعالى ذكر في مواضع كثيرة أنه يحب المتقين والتوابين والمتطهرين والمحسنين والصابرين، والله تعالى يحب الأمور الطيبة الكريمة، كما قال نبينا صلى لله عليه وسلم: ((إن الله يحب معالي الأخلاق)).
والله تعالى لا يحب من المسلم الكسل والإهمال وعدم إتقان العمل، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)) ، والله تعالى يحب العبادات التي يتذلل بها العباد ويتقربون إليه بها، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله يحب الوتر)) ، وهذا يعني أن من لم تكن أخلاقه حسنة ولا يتقن الأعمال والمهام الموكلة إليه ولا يوتر بالليل فإن الله لا يحبه المحبة الكاملة التي يحب بها عباده المتقين.
ومحبة الله تعالى لعبد من عباده مرتبة عالية سامية، فمن أحبه الله فقد فاز في الدنيا والآخرة وحظي بالخير كله.
واعلموا عباد الله أن لحب الله تعالى علاماتٍ، ينبغي لكل منا أن يعرض نفسه عليها كي يعرف قبل فوات الآوان: هل هو ممن يحبهم الله أم لا، فمن تلك العلامات ما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعامَ والشرابَ تخافون عليه)) ، فمن أحبه الله حفظه من متاع الدنيا وحال بينه وبين شهواتها ونعيمها، ووقاه التلوث بزهرتها لئلا يمرض قلبه ويتعلق بها وبمحبتها.
وهذا لا يعني أن من أحبه الله أفقره ومن أبغضه أغناه، لكن المقصود أن الله يعصمه من التعلق بالدنيا ويصرف قلبه عن حبها والانشغال بها، وانظروا عباد الله على سبيل المثال في حال من ينفق مئات الألوف على رخام منزله كيف يتمزق فؤاده وتكاد أن تذهب نفسه حسرات على مائة ريال أخرجها على مضض لصالح المجاهدين الشيشان أو للمتضررين من زلزال أو فيضان أو مجاعة، فهذا قلبه متعلق بالدنيا غافل عن الآخرة.
ومن علامات حب الله تعالى لعبده أن يرزقه الرفق في تعامله مع العباد، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق)) ، فإذا رأيت الرجل ليناً لطيفاً رفيقاً مع الناس عامة ومع زوجته وأهل بيته خاصة، فهذا من علامات حب الله له، وكم نرى ونسمع عن أناس يكثرون من إهانة زوجاتهم أمام أولادهم وأقاربهم، بل إن منهم من يتعمد إذلال زوجته ورفع صوته عليها أمام أهلها تحقيراً لها وتكديراً لخاطر أهلها الذين أكرموه وائتمنوه على فلذة كبدهم، وما هذا من أخلاق الرجال ولا من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن العلامات الدالة على محبة الله لعبد أن يحبه أهل الخير والصالحون، وأن يرضوا عنه ويثنوا عليه خيراً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول:إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض)) ، فالعبرة بحب أهل الصلاح والدين، أما من يحبه الفساق والجهال فإن أولئك لا وزن ولا قيمة لحبهم، لأنهم يحبون الكفار والفساق كالممثلين والمغنيين أكثر من حبهم للعلماء والصالحين.
ومن علامات حب الله للعبد: الابتلاء، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)).
والمطلع على السنة المطهرة يجد جلياً كيف كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خليل الرحمن كثير البلاء، ففي الصحيحين أن عبد الله بن مسعود دخل عليه في مرضه فقال له: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، ذلك أن لك أجرين؟ فقال: ((أجل، ذلك كذلك)) ، وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)).
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
عباد الله: كل طوائف الكفر وملله على اختلافها وتنوعها وتباينها، يجمع بينها أن كل منها يدعي حب الله والعمل ابتغاء مرضاته، ولقد ادعت اليهود والنصارى أنهم أحباب الله كما قال الله تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ وَ?لنَّصَـ?رَى? نَحْنُ أَبْنَاء ?للَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]. وكثيراً ما نسمع من الناس من يقول: إن الله يحبني ولذلك أعطاني كذا أو استجاب دعائي أو حقق لي ما أتمناه، فالكل يدعي محبة الله له وكرامته عليه، إلا أن الله تعالى امتحنهم بآية عظيمة فقال: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. فمن كان منصاعاً لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ومجتنباً لنواهيه، ومتبعاً لسنته في مظهره وملبسه وتعاملاته وأخلاقه وسريرته، فهو ممن يحبهم الله تعالى، ومن أحبه الله هانت عليه المشاق، وانقلبت مخاوفه أمناً وطمأنينة، وانقشعت عنه سحائب الظلمات، وعمر قلبه بالأفراح والسرور، فيصير مستجاب الدعوة لكرامته على الله، فإن سأل الله أعطاه وإن استعاذه من شيء أعاذه، فبالله يهون كل صعب ويسهل كل عسير.
عباد الله: كل منا يزعم أنه يحب الله محبة هي أعظم من حبه لوالده وولده والناس أجمعين، وتلك دعوى تحتمل الصدق والكذب، وحب الله أمر فطري جبلي، فالعادة جرت أن تُحب من أحسن إليك وأكرمك وأنعم عليك بنعمه السابغة، الظاهرة منها والباطنة، وليس الشأن أن تُحب الله، ولكن الشأن كل الشأن أن يُحبك الله عز وجل، وكما جاء في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه وإن استعاذني لأعيذنه)) ، فهل تقربنا إلى الله بالنوافل حتى يحبنا؟ أم ضيعنا الفرائض التي أوجبها علينا؟ هل تقربنا إلى الله تعالى بما يحبه من معالي الأخلاق وإتقان الأعمال والرفق مع الأهل والأولاد والأقارب؟ هل اتبعنا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا أم أننا رددنا بعضها بحجة أنها من القشور والمظاهر عياذاً بالله من قول أهل الضلال؟ فاتقوا الله عباد الله وبادروا كي تكونوا ممن يحبهم الله ويحبونه، وإياكم والاغترار بنعم الله من مال وبنين وعافية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراج)) ، اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبك والعمل الذي يبلغنا حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين.
(1/1768)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
2/3/1422
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى شهادة أن محمداً رسول الله ، ومقتضياتها. 2- تقصير المسلمين في محبة النبي صلى الله عليه وسلم. 3- علامات محبة النبي. 4- التحذير من بدعة المولد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من الأمور البدهية عند كل مسلم أن مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، ومعنى شهادة أن محمداً عبد الله ورسوله طاعته في ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
فيدخل تحت طاعته فيما أمر: كل أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، كبر الوالدين والإحسان إلى الزوجة وصلة الأرحام وطاعة الزوج والصلاة في المساجد وغيرها.
ويدخل تحت اجتناب ما نهى عنه وزجر: اجتناب المحرمات صغيرها وكبيرها، كأكل الربا والرشوة وشرب الخمر والزنا والنظر إلى النساء وسماع المحرم من غناء وغيبة وغيرها، وهو باب واسع يصعب حصره ويطول الكلام فيه.
ويدخل تحت تصديقه فيما أخبر أن تصدق بخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وبعلامات القيامة الصغرى والكبرى، وبعذاب القبر والشفاعة والجنة والنار، وبالصراط والميزان والحوض.
ويدخل تحت أن لا يعبد الله إلا بما شرع: أن يتبع الإنسان وأن لا يبتدع، إذ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم.
والحق أيها الكرام أننا مقصرون في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، فحب النبي صلى الله عليه وسلم واجب وليس أمراً مستحباً، فقد توعد الله تعالى أقواما قد نكون منهم ونحن لا نشعر بقوله: قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْو?نُكُمْ وَأَزْو?جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْو?لٌ ?قْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـ?رَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـ?كِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى? يَأْتِىَ ?للَّهُ بِأَمْرِهِ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [التوبة:24]. والواحد منا لو قصر ابنه في حقه أو أساء الأدب معه لأقام الدنيا ولم يقعدها، ولربما ضربه أو طرده من البيت، ولو أن الزوجة قصرت في أمر من أمور البيت أو حقوق الزوج، لهاج الزوج وغضب ولما قبل منها عذراً، ولربما سب وشتم كما يفعل بعض الجهال أو حتى ضرب أو طلق، وهكذا الناس مع حقوقهم، إذ لا أحد يقبل أن يقصر الناس في حقه، فكيف نحن مع حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم علينا؟ وهل نحن نحبه حقيقة واعتقاداً وعملاً، أم هو حب بارد لا طعم له ولا رائحة؟
لقد جعل نبينا صلى الله عليه وسلم حبه من شروط تذوق الإيمان فقال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)).
وكم نسمع من يشتكي أنه لا يجد حلاوة للعبادة ولا خشوعاً في الصلاة، فلعل السبب في ذلك أنهم ما صدقوا في حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فحرمهم الله تعالى حلاوة الإيمان، وأكثر الناس لو سألته أتحب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأجابك بنعم، ولو قلت له: إنك لا تحب الرسول صلى الله عليه وسلم، لغضب منك.
ولكن ما هي علامات حب العبد لنبيه صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أنه كثيرة ولكننا نذكر أهمها، فمن ذلك الإكثار من ذكره، لأن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وانظر في حال المغرمين بالكرة، لا تكاد تمر عليهم دقيقة إلا ويتحدثون فيها أو يشترون الجرائد الخاصة بها أو يشاهدونها على الفضائيات.
أما المسلم المحب فإنه يذكر نبيه صلى الله عليه وسلم لا بالصلاة عليه فقط كلما ذُكر اسمه، بل باستحضار سنته في كل موقف وحادثة، فإن أراد أن يسب أحداً تذكر أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا طعاناً ولا لعاناً، وإذا أراد أن يغش في الاختبار تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس ما)) ، وكلما أكل أو فرغ من أكله أو دخل البيت أو خرج منه أو ركب سيارته قال الأذكار التي علمنا إياها نبينا صلى الله عليه وسلم، فذكرك النبي صلى الله عليه وسلم واتباعك سنته من أكبر الدلائل على حبك له، كما أن هجرك لذكره وجهلك بسيرته ونبذك لسنته في عبادتك وتعاملك ومظهرك دليل على جفائك وقلة حبك.
أقول قولي واستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، ومن علامات حبه الشوق للقائه والرغبة الشديدة في رؤيته صلى الله عليه وسلم، يُحكى أن رجلا اشتكى لشيخه أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في منامه على الرغم من شدة حبه له ورغبته القوية لذلك، فدعاه شيخه ذات يوم إلى العشاء ووضع له طعاماً كثير البهارات والملح، فلما فرغا من الطعام، طلب ذلك الطالب ماء، فتعذر الشيخ بأعذار شتى حتى أوى الطالب إلى فراشه، وبعد أن استيقظا لصلاة الفجر، سأل الشيخ طالبه عما رأى في نومه، فأخبره الطالب بأنه رأى أنهاراً وبحاراً وأمطاراً غزيرة، فقال له شيخه: لقد صدق عطشك فصدقت رؤياك، ولو صدق شوقك وحبك للنبي صلى الله عليه وسلم لرأيته.
ومن علامات حبه أن تحب المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وأن تبغض من يبغضهم ويشتمهم ويطعن فيهم ويكفرهم كالرافضة والشيعة أخزاهم الله.
ومن علامات محبته التكافل مع المسلمين والتفاعل مع مصائبهم وجراحاتهم، فإنه من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ولقد جاء في الحديث المتفق على صحته: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)).
هناك بعض من بلاد الإسلام يحصل فيها من الظلم والاضطهاد بل حتى التقتيل والإيذاء ، في الأبدان والأعراض للمسلمين ما الله به عليم، لا يرقب الأعداء في مؤمن إلاً ولا ذمة، وهؤلاء الضعفاء من المسلمين يصرخون ليل نهار ، ويطلبون النُصْرة والمساعدة منكم ومن غيركم، فاسأل نفسك يا من تدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم :ماذا قدمت لهؤلاء المنكوبين المعذبين ؟ ماذا قدمت لهؤلاء الضعفة من النساء والولدان والشيوخ والعجائز؟ إن كونك مسلماً فقط، يوجب عليك وجوباً أن تقدم النصرة والمساعدة لهم، فكيف وأنت تدعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟
عباد الله: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) ، فيجب على كل من يدعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبذ البدع، لأن من أحيى بدعة فقد أمات سنة.
ومن أهم تلك البدع التي ينبغي علينا محاربتها بدعة المولد النبوي والتي يروج لها الصوفيون والخرافيون والقبوريون، وكفى ذماً لها أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان لم يفعلوها، والشر كل الشر أن يعتقد المرء أنه أفضل من تلك القرون المفضلة وأنه يعلم أكثر منهم، فاتقوا الله تعالى، وأعلنوا حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعكم لسنته وإحيائكم ذِكره في مجالسكم، وبنبذكم البدع كلها، عسى إن نحن فعلنا ذلك أن يكرمنا الله بجعلنا ممن يردون حوضه.
(1/1769)
مقتل عمر
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
27/5/1419
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة مقتل عمر. 2- أهمية الصلاة. 3- كلمة في استقدام الكفار. 4- عمر ينصح وهو في كربات الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن في تاريخ الإسلام صفحات عظيمة مضيئة، وفيه أيضا صفحات مظلمة، ذلك أنه على مر التاريخ قد أصاب المسلمين مصائب كثيرة أعظمها موت النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يقول: ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب)).
والمؤمن عباد الله لا يدع تلك الصفحات المضيئة أو المظلمة تمر إلا ويستنبط منها الفوائد والدروس التي كان السابقون يلقونها علينا بفطرتهم وقوة إيمانهم، ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون أنه قال: إني لقائم ما بيني وبين أمير المؤمنين إلا ابن عباس – غداة أُصيب – وكان إذا مر بين الصفين قال استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، ثم نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه فصلى بهم صلاة خفيفة، فلما انصرف قال عمر: يا ابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة فقال غلام المغيرة، فقال: الصَّنَع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجل يدعي الإسلام، فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، فدخل عليه الناس فجعلوا يثنون عليه.
وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقِدَمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثم وَلِيتَ فعدلت، ثم شهادة، فقال عمر: وددت أن ذلك كفاف، لا لي ولا علي، فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض، فقال ردوا علي الغلام، فقال له: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
ثم أرسل عبد الله بن عمر إلى عائشة يستأذنها في أن يُدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في حجرتها، فوجدها تبكي، فاستأذنها في دفن عمر فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي.
فلما مات دُفن رضي الله عنه مع صاحبيه، وطويت بموته صفحة من صفحات تاريخنا العظيم.
عباد الله: إن القصة أطول مما سمعتم، والفوائد التي فيها لا يتسع لها الوقت، فمن تلك الفوائد أن الصلاة كانت الهم الذي يشغل بال الصحابة في زمن العزة والقوة، لذلك عندما طُعن رضي الله عنه، كان أول ما فعله أن استخلف عبد الرحمن بن عوف ليصلي بالناس، ثم إنه أُغمي عليه، فحملوه إلى بيته فلما أفاق وقد أوشكت الشمس على أن تطلع نظر في وجوههم فقال: هل صلى الناس فقالوا: نعم، فقال: إنه لا إسلام لمن ترك الصلاة فأعانوه على الوضوء فصلى الفجر ركعتين خفيفتين.
أيها المسلمون: إن من آخر وصايا نبينا صلى الله عليه وسلم قبل موته أن قال: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، وهذا عمر وقد طعن بخنجر مسموم، يأبى التفريط في الصلاة لعلمه أنها لا تسقط عن أحد من المسلمين أبداً حتى يموت، إذ هذه الصلاة هي عماد الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَتُنْقَضَنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً: الحكم، وآخرهن: الصلاة)).
والذي ينظر إلى حال مساجدنا وحال أبنائنا ونسائنا وتفريطهم في الصلاة، ليظهر له جلياً أن آخر عروة من عرى الإسلام توشك أن تذهب وتزول، فالمساجد خالية من المصلين في صلاة فجر الجمعة، بينما هي تمتلئ بهم الآن، فأين كانوا في صلاة الفجر؟ وإنك لتمر على المسجد وقد شرع المصلون في الصلاة، بينما ترى من لا يزال يلعب الكرة أو يتسكع أمام المحلات التجارية أو هو قابع في سيارته غير آبه بالصلاة والمصلين، ولا شك أن التناسب طردي بين التفريط في الصلاة وانتشار المنكرات، فهل من متعظ قبل فوات الأوان، أقول قولي وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
إن الذي قتل أمير المؤمنين علج كافر، وذلك بعد أن فتح الله فارس، فكانوا يُدخلون الرقيق والعبيد إلى المدينة، فكان ذلك سبباً في مقتل عمر، واليوم نحن نرى أن بلادنا مليئة بالكفار والمشركين، وهم ليسوا رقيقاً يملكه الإنسان، فمن الناس من يأمنهم على أمواله وتجارته، ومنهم من يأمنهم على عرضه وأهله وأطفاله، وكم أدخل هؤلاء الكفرة علينا من الشرور والفتن، وكم فعلوا من مصائب وسرقات وهتك للأعراض، ولكن المسلمين لا يتعظون، فهل من رجل رشيد يطرد ذلك الكافر الذي تحت يده، الذي يرسل راتبه إلى أهله كي يقتات به عشرة أو أكثر ممن يشركون بالله ويضطهدون المسلمين في بلادهم؟
عباد الله: إن عمر الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وطعن وهو يصلي بالمسلمين، لم يطغه الفرح بأسبقيته إلى الإسلام ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، بل قال عندما بشره ذلك الشاب بالجنة: وددت أن ذلك كفاف، لا لي ولا علي، وقارن حالك يا عبد الله بأمير المؤمنين وأعماله وقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قارن خوفك من الله تعالى مع خوفه، وذنوبك مع ذنوبه، كي تعلم مقدار الغفلة التي نحن نعيشها.
وأخيراً فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن لشغله جرح أو مصيبة عن الهم الذي يحمله بين جنبيه، هم الإسلام، فهو ما إن رأى ذلك الشاب الأنصاري وقد أسبل إزاره حتى أمر من عنده أن يرجعوه لينكر عليه ذلك المنكر، فقال له: ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك، وكم من المنكرات يا عباد الله تمر علينا ونحن لا ننكرها خوفاً من الناس لا خوفاً من الله، وصدق الله تعالى إذ يقول: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَ?للَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ [التوبة:13].
(1/1770)
مكائد الشيطان وسبل الوقاية منها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الدعاء والذكر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/3/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداوة الشيطان لآدم وذريته. 2- التعوذ بالله من شر الشيطان. 3- الذكر عند دخول البيت والتسليم على الأهل. 4- تلاوة القرآن في البيت. 5- التحذير من الصور والتماثيل. 6- التحذير من اقتناء الكلاب. 7- ذكر الله تعالى عند الدخول والجماع. 8- فضل الكلمة الطيبة. 9- ذكر الله عند الأكل والشرب وعند النوم وعند الخلاء وعند الخروج من البيت. 10- صلاة النافلة في البيوت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله:
إن الله جل جلاله بين لنا في كتابه العزيز عداوة الشيطان لنا، وأن تلك العداوة، عداوةٌ قديمة، عدوٌ لأبينا آدم عليه السلام، وعدو لذريته، وعدو الله لما أيس من رحمة الله، سعى في إضلال بني آدم، فوسوس لأبينا آدم، حتى زين له الأكل من تلكم الشجرة التي نهاه الله عنها، فأحبط آدم وزوجته إلى الأرض، كل ذلك بأسباب وسوسة عدو الله.
وقد بين الله لنا في كتابه عدواته لنا، وأنه طلب من رب العالمين أن ينظره إلى يوم الدين، وأقسم بعزة رب العالمين ليغوينَّ بني آدم، قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ (1/1771)
الدَّين: تحذير ووصايا
فقه
الديون والقروض
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
23/3/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الشريعة لحقوق العباد. 2- حرمة مال المسلم. 3- تحذير الإسلام من الدَّين. 4- ترك النبي الصلاة على صاحب الدين. 5- مطل الغني ظلم. 6- وصايا للمدنيين. 7- وصايا للمحسنين والدائنين. 8- فضل التيسير على المعسرين. 9- التحذير من التهاون لحقوق العمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام:
إن المستقرئ لموارد الشريعة المحمدية الغرّاء كليات وجزئيات، يستبين له أن المقصد الأعلى من التشريع هو حفظ نظام الأمة وحياتها، واستدامة صلاحها واستقامتها، ابتداءً بصلاح العقيدة والعمل، وانتهاءً بصلاح أحوال الناس وشؤونهم، بشتى أنواعِها، ومختلف صورها، في انتظام كامل لجلب الصلاح وتكثيره، ودفع الفساد وتقليله.
ألا وإن من وسائل شريعة الإسلام في تحقيق ذلك، أنها جاءت معطيةً حقوقَ العباد مكانتَها الأسمى من الاعتناء والاهتمام، ومنزلتها العظمى من التقدير والاحترام.
ومن ذلك ما قامت به شريعة الإسلام من تأمين أصحاب الحقوق، وكيفية انتفاعهم بها على طريق فطري عادل، لا تجد فيه النفوس نفرة، ولا تحسّ في حكمِه بهضيمة.
ومن هذا المنطلق حرصت تعاليم الإسلام الخالدة وتوجيهاته السامية على حقوق العباد حفظاً وصيانةً وتقديراً وإكراماً، حتى قرر أهل العلم قاعدتهم المشهورة: "حقوق العباد مبنية على التضييق والمشاحة، وحقوق الله مبنية على التيسير والمسامحة".
وإلى جانبٍ من جوانب تعظيم حقوق العباد ينبّه المولى جل وعلا في موضعين من كتابه على ذلك، فيقول: يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]. ويشير إلى ذلك رسوله حيث يقول: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه)) [رواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما] [1]. ويقول في قاعدة التشريع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) [2] ، ويؤكد أيضاً هذا المعنى بقوله الجامع: ((فعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه)) [صححه الحاكم] [3]. وهو متأيِّد بحديث رسول الله : ((أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) [4] [حديث صحيح عند المحققين].
عباد الله:
وإن من مضامن حقوق العباد التي أرسى الإسلام أصولها، ونظم قواعدها، وجعل لها من الأسس والضمانات ما يكفلها، قضية الديون الخاصة بالآدميين.
نعم، إن الإسلام حذر كل الحذر من التهاون في أداء الدين، أو المطل والتأخير في قضائه، أو التساهل وعدم الاكتراث في أدائه.
إن دين الآدمي في نظر الإسلام أمانة عظمى، ومسؤولية كبرى، يقول جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
بوب البخاري في صحيحه قائلاً: "باب أداء الديون" ثم ساق هذه الآية بكمالها، والله جل وعلا يقول آمراً عباده أمراً جازماً: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ?لَّذِى ?ؤْتُمِنَ أَمَـ?نَتَهُ [البقرة:283]. يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1].
بل ويجيء التشديد من الشرع في آثار انتهاك تلك الحقوق أو الإخلال بها، يقول نبي الإسلام محمد فيما يرويه البخاري [5] عنه: ((من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلل منها، فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات أخيه، فطرحت عليه، فطرح في النار)).
إن نظرة الإسلام لدَيْن الآدمي عظيمة، ولآثاره كبيرة، حتى استثناه الله جل وعلا من قاعدة المكفرات، وأصول الماحيات، يقول : ((يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَّين)) [رواه مسلم] [6]. وفي رواية له: ((القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين)) [7].
وفي حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قام فيهم فذكر [لهم] أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: [يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفَّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله : ((نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر)) ثم قال رسول الله : ((كيف قلت؟)) قال:] أرأيت إن قُتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر [إلا الدين] فإن جبريل قال لي ذلك)) [رواه مسلم] [8].
ومن منطلق هذا المنهج الرباني، والوحي الإلهي، كان رسول الله لا يصلي على جنازة من عليه دين، عن جابر قال: توفي رجل منا، فغسلناه وحنطناه وكفّناه، ثم أتينا رسول الله فقلنا له: تصلي عليه، فخطا خطًى ثم قال: ((أعليه دين؟)) قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: هما عليّ، فقال رسول الله : ((حقَّ الغريم، وبرئ منهما الميت)) قال: نعم، فصلى عليه رسول الله. [حديث صحيح] [9].
وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل : ((هل ترك لدينه قضاء؟)) فإن حُدِّث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: ((صلوا على صاحبكم)) ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: ((أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه)) [متفق عليه] [10].
قال أهل العلم: وامتناعه من ذلك لأن صلاته شفاعة، وشفاعته لا تردّ، بل هي مقبولة، والدَّين لا يسقط إلا بالتأدية.
إخوة الإسلام:
المماطلة من الغني في أداء الدين ظلمٌ شنيع، والتسويف والتأخير في توفية الحق عند الوجدان اعتداء فظيع، قال : ((مطل الغني ظلم)) [متفق عليه] [11]. وفي حديث آخر: ((لَيُّ الواجد [12] يحلّ عرضه وعقوبته)) [13].
قال أهل العلم: المطل هو المدافعة، والمراد في الحديث تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر من قادر على الأداء.
إخوة الإسلام:
إن ثمة توجيهات ربانية ووصايا نبوية في قضايا الدين، تنظر من واقعية لا مثالية، وتنطلق من قاعدة الإحسان والرحمة والشفقة، وتنبثق من أصل اليسر والمرونة والسعة:
منها الحرص على أن ينطلق العبد في الدين عند الحاجة إليه من مقاصد حسنة، وعزيمة صادقة على الوفاء، ومن نية طيبة في القضاء، لا يبيِّت نية سيئة، ولا يخفي مقصداً خبيثاً، قال : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) [رواه البخاري] [14].
قال أهل العلم: وتأدية الله عنه تشمل تيسيره تعالى لقضائه في الدنيا، وأداءه عنه في الآخرة بأن يرفع دينه بما شاء الله إذا تعذَّر على العبد القضاء.
أخرج ابن ماجه وابن حبان والحاكم مرفوعاً: ((ما من مسلم يدَّانُ ديناً، يعلم الله أنه يريد أداءه، إلا أداه الله عنه في الدنيا والآخرة)) [15].
والحذر الحذر - أمة محمد - من تبييت نية سيئة أو مقاصد خبيثة، بعدم الوفاء بحقوق العباد، فمن وقع في ذلك عرض نفسه للإتلاف الوارد في الحديث الآنف: ((ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)).
قال أهل العلم: والإتلاف هنا يشمل إتلاف النفس في الدنيا بإهلاكها، ويشمل أيضاً إتلاف طيب عيشه وتضييق أموره، وتعسّر مطالبه، ومحق بركته، فضلاً عما يحصل له من العذاب في الآخرة.
عباد الله:
ومن تلك التوجيهات أمر الشريعة النبيلة بحسن الأداء، والإكرام للدائن عند القضاء، جاء في حديث أبي رافع، أن النبي استسلف من رجل بكراً [16] ، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فلم يجد إلا خياراً [17] ، قال : ((أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً)) [رواه مسلم] [18].
معاشر المحسنين:
وإن من وصايا الشريعة المحمدية التيسير على أهل الإعسار والفاقة، والتسهيل لأهل الفقر والحاجة، فمن واجبات الإسلام إمهال المعسر عن أداء الدين، والإلزام بإنظار المدين إلى ميسرة، قال تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]. والعسرة هي ضيق الحال من جهة عدم المال.
إخوة الإسلام:
التيسير على المعسرين فضله كبير، وأجره عظيم، جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) [19].
ومن أعظم أنواع التيسير الحط من الدين كلا أو جزءاً، قال تعالى: وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:280]. جاء في الصحيحين [20] عن النبي : ((كان تاجر يبايع الناس، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)) ، وفيهما [21] عن حذيفة وأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله يقول: ((مات رجل، فقيل له: بم غفر الله لك؟ فقال: كنت أبايع الناس، فأتجاوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر)) ، وعند مسلم [22] من حديث أبي قتادة عن النبي قال: ((من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه)) ، وفيه [23] أيضاً في حديث أبي اليسر الطويل عن النبي قال: ((من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
إخوة الإسلام ، معاشر الأغنياء:
تفقدوا المساكين، وتفحصوا المزامين، واسوهم بما أعطاكم الله، ويسروا عليهم بما حباكم الله جل وعلا، فعند مسلم [24] عن النبي قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) ، وفي المسند [25] : ((من أراد أن تستجاب دعوته، وتكشف كربته، فليفرج عن معسر)).
فالتزموا تلكم الوصايا – رعاكم الله –، وانهجوا نهجها تسعدوا وتفوزوا، وتنتظم أحوالكم، ويستقم مجتمعكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والفرقان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] لفظ ابن حبان [5978- الإحسان-] : ((لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه)) ، أخرجه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه ، وأخرجه أيضاً أحمد (5/425) ، والبزار [1373] ، والبيهقي (6/100). وقال الهيثمي في المجمع (4/171): "رجال الجميع رجال الصحيح". وصحح سنده الألباني في الإرواء (5/280).
ولفظ الحاكم (1/93) : ((ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس)). أخرجه من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما وصححه. وحسنه الألباني في الإرواء (5/281).
[2] أخرجه البخاري في كتاب العلم [67] ، ومسلم في كتاب القسامة [1679] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (5/8 ، 12 ، 13) ، وأبو داود في كتاب البيوع [3561] ، والترمذي في كتاب البيوع [1266] ، والنسائي في الكبرى (3/411) وابن ماجه في كتاب الأحكام [2400] ، وابن الجارود في المنتقى (ص256) من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح" ، وصححه الحاكم (2/47). وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه بين المحدثين ، وبناء على ذلك اختلفوا في الحكم على الحديث. وقد رجح الألباني ضعفه في الإرواء [1516].
[4] أخرجه أبو داود في كتاب البيوع [3535] ، والترمذي في كتاب البيوع [1264] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب". وصححه الحاكم (2/46) على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة [423] ، وانظر: الإرواء [1544].
[5] أخرجه في كتاب الرقاق من صحيحه [6534] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه في كتاب الإمارة من صحيحه [1886] من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] المصدر السابق ، الموضع نفسه.
[8] أخرجه في كتاب الإمارة من صحيحه [1885].
[9] أخرجه الطيالسي في مسنده (ص233) ، وأحمد في المسند (3/330) وقال في مجمع الزوائد (3/39) : "إسناده حسن". وأصل القصة في صحيح البخاري [2295] من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في كتاب الحوالات [2297] ، ومسلم في كتاب الفرائض [1619].
[11] أخرجه البخاري في كتاب الحوالات [2287] ، ومسلم في كتاب المساقاة [1564] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] الليّ هو المماطلة والتأخير من لوى يلوي ، والواجد هو الغني.
[13] علقه البخاري في كتاب الاستقراض ، باب لصاحب الحق مقال ، ووصله أحمد (4/389) ، وأبو داود في كتاب الأقضية [3628] ، والنسائي في كتاب البيوع [4689 ، 4690] ، وابن ماجه في كتاب الأحكام [2427] من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه ، وصححه ابن حبان [5089- الإحسان-] ، والحاكم (4/102) ، ووافقه الذهبي ، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62).
[14] أخرجه في كتاب الاستقراض [2387] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه النسائي في كتاب البيوع [4686] ، وابن ماجه في كتاب الأحكام [2408] من حديث ميمونة رضي الله عنها ، وصححه ابن حبان [5041]. وفي السند زياد بن عمرو وشيخه عمران بن حذيفة لم يوثقهما غير ابن حبان ، ولم يرو عن كل منهما إلا واحد. ولذا ضعف الألباني الحديث في ضعيف الترغيب [1126].
[16] البكر الفتي من الإبل.
[17] أي لم يجد إلا إبلاً أفضل من الذي استسلفه منه.
[18] أخرجه في كتاب المساقاة من صحيحه [1600].
[19] أخرجه مسلم في كتاب الذكر [2699] في حديث طويل.
[20] أخرجه البخاري في كتاب البيوع [2078] ، ومسلم في كتاب المساقاة [1562] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، واللفظ عندهما : ((كان رجل يداين الناس)) الحديث.
[21] أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض [2391] ، ومسلم في المساقاة [1560] بنحوه.
[22] أخرجه في كتاب المساقاة من صحيحه [1563].
[23] أخرجه مسلم في كتاب الزهد [3014] ، وليس عنده: ((يوم لا ظل إلا ظلّه)).
[24] أخرجه في كتاب الذكر من صحيحه [2699] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[25] أخرجه أحمد في المسند (2/23) ، وعبد بن حميد (ص262) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وفي سنده زيد العمي وهو ضعيف. وقد ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [538].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبيناً محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
إخوة الإسلام:
ومن الحقوق الواجبة التي أكد الإسلام على الحرص عليها، والعناية بشأنها، وأكد على عدم المطل بها، أو التسويف في أدائها عند استحقاقها، أجرة الأجراء، وحقوق العمال الضعفاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي قال: ((قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) [رواه البخاري] [1].
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) [حديث صحيح له شواهد] [2].
فالتزموا – رعاكم الله – تلك الوصايا.
ثم اعلموا أن الله جل وعلا أمركم بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة، والسلام على النبي الكريم.
[1] أخرجه في كتاب البيوع من صحيحه [2227].
[2] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام [2443] ، وفي سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف ، لكن له شواهد يتقوى بها ، ولذا ذكره البغوي في المصابيح في قسم الحسان ، وقال الألباني في صحيح الترغيب [1878] : "صحيح لغيره".
(1/1772)
الحث على الزواج وتيسير أموره
فقه
النكاح
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
23/3/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طريق السعادة. 2- نعمة الزواج. 3- الترغيب في الزواج. 4- اختيار الزوجة الصالحة. 5- التحذير من المرأة السوء. 6- اختيار الزوج الكفء. 7- التحذير من عضل النساء. 8- الحث على تسهيل أمور النكاح. 9- بركة الزواج في صلاح الزوجين. 10- بركة الزواج في يسر المؤونة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فإن في تقواه السعادة في الدنيا، والفلاح في الأخرى، فاتقوا الله تعالى في أنفسكم وأهليكم وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1].
عباد الله:
السعادة في هذه الحياة مطلب عظيم، ومقصد جليل، يسعى إليها كل حي، ينشدها بكل وسيلة، ويطلبها في كل سبيل، غير أن السعادة والطمأنينة في هذه الحياة لا تحصل إلا بما شرع الله عز وجل لعباده، وما أرشدهم إليه من طاعته ومرضاته، والأخذ بما وضع الحق جل وعلا من سنن، وما شرع من أسباب.
وإن مما شرع الله عز وجل من أسباب السعادة وجبل النفوس عليه الارتباط برباط الزوجية، فإنه من أعظم أسباب السعادة في هذه الحياة، وحصول الطمأنينة والسكينة، وهدوء البال وراحة النفس، متى ما تحقق الوئام بين الزوجين، وكتب التوفيق لهما، ولذا امتن الله تعالى على عباده بهذه النعمة فقال سبحانه: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
وفي الحديث عند الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح أن رسول الله قال: ((أربع من السعادة)) وعدّ منها ((الزوجة الصالحة)) [1] ، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) [2].
فالنكاح من سنن المرسلين، وهدي الصالحين، وقد أمر به ربنا جل وعلا في كتابه بقوله: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَو?حِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَلاَّ تَعُولُواْ [النساء: 3]، كما رغب فيه سيد المرسلين بفعله، وحث عليه بقوله: ((وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [3] ، ووجه شباب الأمة إلى المبادرة بالزواج حيثما يجد أحدهم القدرة على تحمل المسؤولية، والقيام بشؤون الحياة الزوجية، حيث قال : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) رواه البخاري ومسلم [4].
وأرشد مريد النكاح إلى اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين القويم، والخلق الكريم، والمنشأ الطيب، الودود الولود، فقال : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) أخرجاه في الصحيحين [5].
وروى أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم)) [6].
وما عناية رسول الهدى ، وحثه على اختيار المرأة الصالحة إلا لما يؤمل منها من قيام بالحقوق الزوجية، ورعاية شؤون الزوج، وتربية الأولاد، وبناء الأسرة على أسس من التقوى والإيمان.
أما حين تكون الزوجة ضعيفة الديانة، سيئة الخلق، فإنه لا يؤمَّل منها بناء أسرة صالحة، ولا يتحقق بسببها هناءٌ ولا سعادة، بل قد تكون سبب عناء وبلاء على الزوج، ولذا جاء التحذير من الانخداع بجمال المرأة الظاهر، دون نظر إلى الجمال الحقيقي، والمتمثل في الدين ومكارم الأخلاق، وطيب المعشر، فقد روي عنه قوله: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين)) رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما [7].
فما هذه التوجيهات النبوية ـ يا عباد الله ـ إلا مظهر من مظاهر عناية الإسلام بأمر النكاح، وتوجيه الزوج نحو ما يحقق له حياة هنيئة، وسعادة زوجية.
أما فيما يتعلق بالزوجة فإن من عناية الإسلام بأمرها ما وجه إليه أولياء أمور النساء من ترغيبهن في النكاح، والحرص على تزويجهن بالأكفاء، وقبول الخاطب إذا خطبهن، والحذر من ردّه متى كان صالحًا في دينه، مستقيمًا في أخلاقه، فقد جعل رسول الله ذلك هو المعيار للقبول أو الردّ، دون اعتبار لغير ذلك من معايير تواطأت عليها بعض المجتمعات، وتعارف عليها بعض الناس، مما لا أصل له في دين الإسلام، بل ربما ترتب عليها من المفاسد والأضرار ما لا يعلمه إلا الله، ولذا قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه [8].
وإن مما يُؤسَى له ـ يا عباد الله ـ أن يَعمَد بعض الأولياء إلى عَضْل [9] من تحت ولايته من النساء، من بنات وأخوات، لأطماع مادية، أو لعادات اجتماعية، لا أصل لها في شريعة الإسلام، فيلحق بمولياته من عظيم الضرر، وشديد الحسرة والألم ما الله به عليم.
ألا يتقي الله أولئك الأولياء بهذا الصنيع الذي يستوجب غضب الله تعالى عليهم، ومساءلتهم عنه يوم القيامة، فقد قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) [10].
أيها المسلمون:
لقد شرع الله عز وجل النكاح لمصالح الخلق، وعمارة هذا الكون، ففي النكاح مصالح عظمى، ومنافع كبرى، وإنه بقدر عناية المجتمع وحرص الأمة على أمر النكاح، والسعي في تزويج الناشئة، وتسهيل سبل النكاح، وتيسير أسبابه، يتحقق للأمة ما تؤمل من سعادة أبنائها، وحصول الأمن والطمأنينة في مجتمعاتها.
غير أن الواقع المؤلم أن كثيرًا من المجتمعات المسلمة اليوم قد ابتعدت عن هدي الإسلام، وتشريعاته الداعية إلى تسهيل سبل النكاح، وتيسير أسبابه، حيث يغالي البعض في طلب المهور العالية، والتكاليف الباهظة، ويسرفون في إقامة الولائم والحفلات، ويبذلون في سبيل ذلك الأموال الطائلة، التي تبدد مال الأغنياء وتثقل كاهل الفقراء، مما كان عائقًا لكثير من الشباب عن الإقدام على الزواج، لعجزهم عن أعبائه وتكاليفه، ومما ترتب عليه أيضًا حرمان كثير من الفتيات عن حقهن المشروع في الزواج، وعضلهن عن النكاح بالأكفاء، فكم في المجتمعات المسلمة ـ يا عباد الله ـ من فتيان وفتيات قد حيل بينهم وبين ما جبلوا عليه من الرغبة في النكاح، وبناء الأسرة، والعيش تحت ظلها الوارف [11] ، بسبب تكاليف الزواج الباهظة، أو بسبب ما للعوائق من العادات والتقاليد الاجتماعية المخالفة لهدي الإسلام وتعاليمه، مما أدى إلى مفاسد وأضرار عظمى في بعض المجتمعات المسلمة، وانحراف بعض الناشئة عن طريق العفاف والفضيلة.
ألا فلتتقوا الله ـ عباد الله ـ ولتتضافر منكم الجهود، ولا سيما من ذوي التأثير في المجتمع من العلماء والوجهاء، والمصلحين والمفكرين، وحملة الأقلام ورجال الإعلام، في الحث على تسهيل أمور النكاح، وتيسير أسبابه ووسائله، ونشر الوعي العام بذلك في المجتمعات المسلمة، تحقيقًا لمصالح الأمة، ودرءًا للأضرار والأخطار عنها، فقد قال الله عز وجل: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور: 32].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في صحيحه [4032] والبيهقي في الشعب (7/82) من حديث سعد بن أبي وقاص، وصحح الألباني سنده على شرط الشيخين: السلسلة الصحيحة [282]. وأما لفظ أحمد في المسند (1/168) فهو: ((من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة...)) إلى آخر الحديث، وصححه الحاكم (2/162).
[2] أخرجه مسلم في كتاب الرضاع [1467].
[3] أخرجه البخاري في كتاب النكاح [5063]، ومسلم في كتاب النكاح [1401] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الصوم [1905]، ومسلم في كتاب النكاح [1400] من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في النكاح [5090]، ومسلم في كتاب الرضاع [1466] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أبو داود في كتاب النكاح [2050]، والنسائي في كتاب النكاح [3227]، وصححه ابن حبان [4056، 4057 ـ الإحسان ـ]، والحاكم (2/162)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (9/111)، والألباني في صحيح سنن أبي داود [1805].
[7] أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح [1859]، والبيهقي في السنن الكبرى (7/80)، والبزار في مسنده (6/413) وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وهو ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [1209].
[8] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح [1084]، وابن ماجه في كتاب النكاح [1967] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164ـ 165)، وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: كان غير ثقة، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف. ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها. ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [1022].
[9] العضل هو التضييق ومنع المرأة من الزواج ظلمًا.
[10] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة [893]، ومسلم في كتاب الإمارة [1829]، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] أي الواسع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى في كل ما تأتون وتذرون، وتلمسوا أسباب الخير والبركة في كل ما تريدون وتقصدون.
ولتعلموا أن أقوى الأسباب في حلول البركة في الزواج، وحصول التوفيق فيه صلاح الزوجين واستقامتهما على طاعة الله ومرضاته، وتحليهما بآداب الإسلام وشمائله، وتيسير مؤونة النكاح وتكاليفه، والبعد عن مظاهر الإسراف فيه، فذلك كله من أقوى العوامل، وأجدى الوسائل في حصول السعادة والتوفيق في الحياة الزوجية، فقد قال في معرض التوجيه للأمة للأخذ بأسباب البركة والتوفيق في النكاح: ((أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)) رواه الإمام أحمد وغيره [1] ، وروى أهل السنن عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم به رسول الله ) [2].
فاتقوا الله عباد الله، ولتعلموا على العناية بتزويج الناشئة، وتيسير أسباب النكاح عليهم، كي يقدموا عليه بارتياح وطمأنينة، ويقيموا أسرًا صالحة، تكون لبنة عاملة في الأمة، إذ بهذا تصلح المجتمعات وتسعد الأمة، ويتحقق لها ما تؤمل من عزّ أبنائها، ورقي مجتمعاتها، واستقامة شؤونها وصلاح أحوالها.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك يا أكرم الأكرمين.
[1] أخرجه أحمد (6/145)، والنسائي في الكبرى (5/402) والبيهقي في السنن (7/235)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الحاكم (2/178)، ووافقه الذهبي، وفي سنده ابن سخبرة لا يدرى من هو. ولذا ضعف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة [1117].
[2] أخرجه أحمد (1/40 ـ 41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح [2106] والترمذي في كتاب النكاح [1114]، والنسائي في كتاب النكاح [3349]، وابن ماجه في كتاب النكاح [1887]، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" وصححه ابن حبان [4620 ـ الإحسان ـ]، والحاكم (2/175 ـ 176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود [1852].
(1/1773)
التواضع وذم الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
أمراض القلوب, الشمائل, مكارم الأخلاق
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
24/6/1421
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكبرياء صفة لا تنبغي إلا لله. 2-صور من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. 3-فضل التواضع وذم الكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: قال لي صاحبي وهو مهموم لماذا لا تتحدث عن التواضع وذم الكبر، فإنني أرى في بعض القوم كبراً وتيهاً ظاهراً لا يخفى على من له أدنى بصيرةٌ.
قلت: إي والله: وقد رأيت ما رأى صاحبي أمراً ظاهراً جلياً، ولخطورة هذا الأمر البالغة ولتعلقه بالتوحيد نتحدث فيه، لأن من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر إنما هو في الحقيقة معتد على مقام الألوهية لأن الكبرياء والعظمة لله وحده، ولا يجوز للعبد أن يتصف بهما أو بأحدهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري. فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في جهنم)) فليسَ بغريب إذاً أن نجد التواضع من سيماء الصالحين. ومن أخص خصال المؤمنين المتقين ومن كريم سجايا العاملين.
قال الله تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [المائدة:54]. وقال الله لنبيه والخطاب عام له ولأمته: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال تعالى: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]. وقال جل وعلا: كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. في آيات كثيرة جداً في كتاب اللهِ العظيمِ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه اللهُ)).
الله أكبر: إن المتواضع يرفع الله سبحانه وتعالى منزلته ومكانه وقدره فطوبى للمتواضعين.
إخواني يا من تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من تعتقدون أن لا سعادة ولا عزة ولا طريق إلى الجنة إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا بأن تكون محبته مقدمة على كل محبوب من البشر.
لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إنه سيد ولد آدم. ليس فوقه أحد من البشر - حاشاه صلى الله عليه وسلم - إنه أحب الخلق إلى الله وأعظمهم جاهاً وقدراً عند رب العالمين. إنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، منزلةٌ واحدةٌ ليست إلا له صلى الله عليه وسلم. إن الأرض ما وطئ عليها ولن يطأ عليها إلى يوم القيامة أكرم ولا أجل ولا أرفع منه صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك تأمل أخي المؤمن إلى تواضعه العجيب صلى الله عليه وسلم.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبر بطنه يقول: ((ولا تصدقنا ولا صلينا والله لولا الله ما اهتدينا
وثبت الأقدام إن لا قينا فأنزلن سكينة علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا إن الأُلى قد بغوا علينا
ويرفع بها صوته: أبينا، أبينا)).
رعيه الغنم وتحدثه بذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بعث الله نبينا إلا وقد رعى الغنم وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط)) قال أهل العلم: رعى الغنم وظيفة ارتضاها الله لأنبيائه.
فما السر في ممارسة الأنبياء لها؟
قالوا: إن من أسرارها أنها تربي النفوس على التواضع وتزيد الخضوع لله تعالى. ومن أسرارها أنها تربي على الصبر وتحمل المشاق إلى حكم كثيرة وهو الحكيم العليم.
وأيضاً تواضعه مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان.
عن سهل بن حنيف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم)) يأتي ضعفاء المسلمين. فلم تشغله النبوة عن ذلك. ولم تمنعه مسؤولية أمته، ولا كثرة الارتباطات والأعمال: أن يجعل للضعفاء والمرضى نصيباً من الزيارة والعبادة واللقاء.
فأين أنتم يا أصحاب الجاه والسلطان من هذا الخلق العظيم؟ أين أنتم أيها الأغنياء من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم.
إذا أردتم حلاوة الإيمان أن تطعموها. فهذا هو السبيل إليها فلا تخطئوه.
أيها المسلمون: كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وفي رواية: ((كان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم)).
إنك ترى - في عصرنا هذا - من يترفع عن المتقين من الرجال فكيف يكون شأنه مع الصبيان والصغار؟
إنك لتجد بعض ضعفاء الإيمان يأنف أن يسلم على من يرى أنه أقل منه درجة أو منصباً، ولعل ما بينهما عند الله كما بين السماء والأرض!
ألا فليعلم أولئك أنهم على غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخي المسلم تأمل يا رعاك الله في هذين الحديثين:
عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: سأل رجل عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: (نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته).
وعن عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: (كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة).
ماذا يقال عمن يفعل مثل هذا اليوم؟ محكوم للمرأة. ولكنه النور الذي جعله الله سبحانه وتعالى في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبان في سلوكه وفعاله وتواضعه وخدمة أهله. وبه كانت تسمو نفسه صلى الله عليه وسلم وتعلو، فليقل السفهاء ما يحلو لهم أن يقولوا.
ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا من فراغ في وقته ولكنه كان يحقق العبودية لله سبحانه بجميع أنواعها وأشكالها وصورها.
اللهم يا كريم يا منان أكرمنا باتباع رسولك صلى الله عليه وسلم واجعلنا ممن يعظم هديه وسنته إنك سميع عليم قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: قال الله تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. قال عكرمة: العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: بغير حق: وقال ابن جريج: لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ تعظماً وتجبراً وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس)).
وبطر الحق: هو دفعه ورده على قائله، أما غمط الناس: فهو احتقارهم وازدراؤهم.
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر)).
كان علي بن الحسن يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء.
قال الحسن رحمه الله: هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً.
ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه، وينزلها تلك المنزلة؟ بل البعض يأخذه العجب والتيه والتكبر على عباد الله لدنيا أو منصب أو علم أوجاه.. وكلها منح وعطايا من الله عز وجل. ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين.
وقال أبو علي الجوزجاني: النفس معجونة بالكبر والحرص على الحسد، فمن أراد الله هلاكه منع منه التواضع والنصيحة والقناعة، وإذا أراد الله تعالى به خيراً لطف به في ذلك. فإذا هاجت في نفسه نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى، قال سفيان بن عيينة: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة فإن آدم عليه السلام عصي مشتهياً فاستغفر فغفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخش عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن.
أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضع له. ومن تكبر كان فاقداً لتقواه. ركيكاً في دينه مشتغلاً بدنياه.
فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعاً على الخلق، والمتواضع وإن رؤي وضيعاً فهو رفيع القدر.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع
ومن استشعر التواضع وعاشه. وذاق حلاوته كره الكبر وبواعثه ورحم أهله ورأف لحالهم نعوذ بالله من حالهم.
وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يمشي في حُلة تعجبه نفسه، مرجل رأسه، يختال في مشيته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل - أي يغوص وينزل - في الأرض إلى يوم القيامة)).
أخي الحبيب: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها وقضهما وقضيضها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل.
أحلام ليل أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ينبغي لك هذا. فقال: (لما أتاني الوفود سامعين مطيعين - القبائل بأمرائها وعظمائها - دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها).
أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:139]. فتارة فقر، وتارة عنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة منصب، وهكذا.
فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال. وهو تقوى الله عز وجل والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه، والله المستعان.
مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين؟ فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة، فانكسر وقال: الآن عرفتني حق المعرفة.
وأخيراً: اعلم أخي المسلم: أن الكبر من أخلاق الكفار الفراعنة، والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين لأن الله تعالى وصف الكفار بالكبر فقال: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ ?للَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. وقال: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين..
(1/1774)
الذكر زاد المحبين
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
11/5/1421
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الذكر للمسلم. 2- ذكر القلب واللسان. 3-الذكر في كل وقت وحين. 4-أحاديث في فضل الذكر. 5- فضل بعض الأذكار. 6-من فوائد الذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: الذكر منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنها صارت بوراً.
وهو منزل القوم الذي منه يتزودون وفيه يتجرون، وإليه دائماً يترددون، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم التي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
به يستدفعون الآفات. ويستكشفون الكربات. وتهون عليهم به المصيبات. إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم. وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون. ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون. يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذكر مذكوراً.
وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة. بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال. قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور خراب، وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالها. ودواؤها إذا غشيها اعتلالها.
وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقاً ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقاً. وإذا واطأ في ذكره قلبه لسانه نسي في جنب ذكره كل شيء. وحفظ الله عليه كل شيء. وكان له عوضاً من كل شيء.
زين الله بالذكر ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، وفي القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب. بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبعاً له. فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة ويغني الفاقة.
عباد الله: العلاقة بين العبد وربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح. أو في المساء فحسب. ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا غافلاً لا هياً. يفعل ما يريد دون قيد ولا حَكم، كلا. هذا تدين مغشوش.
العلاقة الحقة. أن يذكر المرء ربه حيثما كان. وأن يكون هذا الذكر مقيداً مسالكه بالأوامر والنواهي ومشعراً الإنسان بضعفه البشري ومعيناً له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه.
لقد حث الدين الحنيف على أن يتصل المسلم بربه ليحيا ضميره. وتزكو نفسه. ويتطهر قلبه، ويستمد منه العون والتوفيق، ولأجل هذا جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ما يدعو إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال. فقال عز وجل: ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْراً كَثِيراً o وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42]. وقال سبحانه: ?لذكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]. وقال جل اسمه: وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. وقال جل شأنه: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. قال ابن القيم رحمه الله: ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها، لكفى بها فضلاً وشرفاً. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: ((من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)).
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله)).
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقكم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)).
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله) وقد صحح بعض العلماء هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن امرأة من الأنصار. قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه؟ فإن لي غلاماً نجاراً. قال: ((إن شئت)) فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع. فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه. فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت. قال: ((بكت على ما كانت تسمع من الذكر)).
وقد كان إمامكم العظيم صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه، لا يفتر لسانه من الذكر، فكان للجمادات معه هذا النبأ العجيب، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا روى هذا الحديث يبكي ويقول: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله، فأنتم عباد الله أحق أن تشتاقوا إليه.
عن عبدالله بن بسر رضي الله عنه. أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به. فقال: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط)).
وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: ((أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان. فقال: ((سيروا هذا جمدان)) (سبق المفردون) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)). يا أهل الإيمان أين علاة الهمم.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب ألي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل. ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب ألي من أعتق أربعة)).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت)).
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت)).
فكيف يضيع العاقل لحظات العمر والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال سبحان الله وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي. فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام. وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا جنتكم)) قالوا: يا رسول الله أمن عدو وحضر؟ قال: ((لا، ولكن جنتكم من النار. قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فإنهن يأتين يوم القيامة معقبات مجنبات، وهن الباقيات الصالحات)).
وعن سعد رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)).
وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على باب من أبواب الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز الجنة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه)).
هذه بعض فضائل الذكر، وقد تركنا الكثير والكثير والتوفيق بيد الله وحده.
فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطوي المراحلا
عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك [والله إني لأحبك]. فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس: استمعوا رعاكم الله إلى كلام من بارك الله في أعمارهم وأعمالهم، إلى من ذاقوا طعم المحبة ولذة العبودية، تأمل أخي الحبيب كلام من كانت ألسنتهم رطبة بذكر الله لسان حال أحدهم: كما قال القائل ولله دره:
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي
قال أبو بكر رضي الله عنه: (ذهب الذاكرون الله بالخير كله)، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لكل شيء جلاء. وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل)، قال ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما. فجلاؤه بالذكر. فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء. فإذا ترك صدئ، فإذا ذكره جلاه).
وصدأ القلب بأمرين، بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء.
قال ابن القيم رحمه الله: (الذكر باب المحبة وشارعها الأعظم وصراطها الأقوم)، وقال: (وأفضل الذكر وأنفعه، ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده).
وقد ذكر رحمه الله في كتابه ا لنافع المستطاب المسمى: (الوابل الصيب من الكلم الطيب) ذكر أن في الذكر أكثر من مائة فائدة، منها:
أنه يطرد الشيطان ويقمعه، وأنه يرضي الرحمان عز وجل، وأنه يزل الهم والغم عن القلب، وأنه يجلب للقلب الفرح والسرور والبسط.
أنه يقوي القلب والبدن [ويلاحظ أن كل ما يذكره من فوائد الذكر مدعوم بدليله من نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة].
ومن فوائده أنه ينور الوجه والقلب، وأنه يجلب الرزق.
أنه يكسب الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، وأنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة.
أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان. كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.
ومن فوائده: أنه يورثه الإنابة وهي الرجوع إلى الله عز وجل وكذلك يورثه حياة القلب. وأنه يحط الخطايا ويذهبها وينجي من عذاب الله تعالى، وهو سبب تنزيل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بحلقات الذكر.
وأنه أي الذكر مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه. وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمان عز وجل. والذكر غراس الجنة، والذاكرون هم السابقون يوم القيامة.
وفي الذكر وإدمانه اشتغال عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة واللغو ونحو ذلك من حيث إن اللسان لا يسكت البتة. وهو إما لسان ذاكر وإما لسان لاغ. ولا بد من أحدهما، والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
أخي الحبيب: الذكر أيسر العبادات وهو من أجلها وأفضلها. والتوفيق بيد الله.
قيل لابن عون رحمه الله: ألا تتكلم فتؤجر؟. فقال: أما يرضى المتكلم بالكفاف؟
وروى مسعر عن ابن عون قال: ذكر الناس داء، وذكر الله دواء.
قال الذهبي رحمه الله: إي والله، فالعجب منا ومن جهلنا كيف ندع الدواء ونقتحم الداء؟ قال الله تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. وقال: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]. ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله. ومن أدمن الدعاء ولا زم قرع الباب فتح له. وقد كان ابن عون قد أوتي حلماً وعلماً ونفساً زكية تعينه على التقوى فطوبى له. (انتهى كلامه رحمه الله).
وما دام الحديث عن الذكر وفضله فلا يفوتنا أن نذكر بهذا الفضل العظيم فعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه. فإن صلاتكم معروضة علي))، قال: فقالوا: يا رسول الله. وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: يقولون بليت. قال: ((إن الله تبارك وتعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء صلى الله عليهم)).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً)).
وعند النسائي من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات)).
(1/1775)
إلى عشاق الشهادة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
بندر بن خلف العتيبي
الدمام
26/11/1420
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية ذكر الموت وفوائده. 2-خوف السلف من سوء الخاتمة. 3-الشهادة في سبيل الله نوع من حسن الخاتمة. 4-منزلة الشهيد عند الله. 5-حور العين بعض نعيم أهل الجنة. 6-نبذة تعريفية بالبطل (أبو ثابت) صالح الدهشي رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) - يعني الموت -، قال أهل العلم رحمة الله عليهم، قوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة. ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل.
ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ [الأنبياء:35]. ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويوديى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والإنس والجن فيما بينها تردُ
أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يوماً كما وردوا
اعلم رحمنا الله وإياك أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية. والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ولا زمن معلوم. ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك مستعداً لذلك. قال إبراهيم التميمي رحمه الله: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه: يجمع العلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
وقال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاث أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات. وهادماً للذات وقاطعاً للأمنيات. فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر.
أيها الناس: قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه. وحان للغافل أن ينتبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه. وقبل سكون حركاته وخمود أنفاسه ورحلته إلى قبره ومقامه بين أرماسه. فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك، إلى لوح مغتسلك، فغسلك الغاسل وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران ،وبكى عليك الأصحاب والإخوان. فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين فما لنا من ذكره مشغولون؟ وعن الاستعداد له متخلفون؟ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:67-68].
أيها الأخوة الكرام: خاف السلف من الخاتمة لأن الأعمال بالخواتيم، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء سبحانه كما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. فكم سمعنا عمن آمن ثم كفر، وكم رأينا من استقام ثم انحرف، ولذلك كان كثيراً ما يردد عليه الصلاة والسلام: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
يقول ابن القيم رحمه الله: "أما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم، فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته". فنحن والله العظيم أجدر بالخوف منهم، وإنما أمِنا لغلبة جهلنا وقسوة قلوبنا، فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنمُ عنه كل المواعظ. فنسأل الله قلباً خاشعاً وعيناً باكية ولساناً ذاكراً إنه جواد كريم.
وحديثي إليكم أيها الأخوة عن علامة عظيمة من علامات حسن الخاتمة ألا وهي الشهادة في سبيل الله. وللموت في سبيل الله عشاق كثير، مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وهذا مجاهد ينتدب نفسه للمهمة الجسيمة ويمضي نحو همته ويلح سائلاً مولاه:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن قبري بطن نسر مقيله بجو السماء في نسور عواكف
وأمسي شهيداً ثاويا في عصابة يصابون في فجع من الأرض خائف
فوارس من عدنان ألف بينهم تقى الله نزالون عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
إن مما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم وأن الرزق مقسوم وأن ما أخطأ لا يصيب. وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفسه ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحتوف. وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، وأن الشهداء عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبداً لا ينقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها أجمع، وأنه يؤمَن من فتنة القبر وعذابه وأن الله يكرمه يوم القيامة بحسن مآبه.
فوا عجبا والله كيف أنه ذروة السنام قد درست آثاره فلا ترى، وطمست أنواره بين الورى، وأعتم ليله بعد أن كان مقمراً، وأظلم نهاره بعد أن كان نيرا،ً وذوى غصنه بعد أن كان مورقاً، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقاً، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفنت خيوله فلا تركض وربضت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تقبض، وأغمدت السيوف من أعداء الدين إخلاداً إلى حضيض الدعة والأمان وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان. وآمت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعاً من القتل وهلعاً. أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل أو رضي بالحياة الدنيا من الآخرة وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
وقد أخبرنا الله عن حياة الشهداء عنده فقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]. هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات. وسكنوا بأجل المحال في أعلى الغرفات، وكرعوا من النعيم أكواباً. وأدرعوا من التنعيم أثواباً. ومتعوا بجنان الفردوس مستقراً ومآباً. وتمتعوا بحور عين كواعب وأتراباً. أرواحهم في جوف طير خضر تجول في الجنان، تأكل وتشرب وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمان، يتمنون الرجوع إلى هذه الدار ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات لما بهرهم من ثواب الله الجزيل، فما أقبح العجز عن انتهاز هذه الفرص، وما أنجح الاحتراز بالجهاد عن مقاساة تلك الغصص. وليت شعري بأي وجه يقدم على الله غداً من فر هذا اليوم من أعدائه، وماطله بتسليم نفسه بعد عقد شرائه، ودعاه إلى جنته ففر وزهد في لقائه، وبأي عذر يعتذر بين يديه من هوى عن سبيله ناكب، وعما رغبه فيه من الفوز العظيم راغب. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه)).
سبعين منهم كما في مسند حصروا إن الشهيد شفيع في قرابته
وفي كتاب أبي داود معتبر والترمذي أتى باللفظ في سنن
في ضمن ست خصال ساقها الخبر مع ابن ماجة والمقدام ناقله
إن الشهادة مجد دونه حفر ما كل من طلب العلياء نائلها
لن تبلغ المجد حتى يلعق الصبر وقد تردد في الأمثال من زمن
نعم المبيع ورب العرش ما خسروا ربي اشترى أنفساً ممن يجود بها
كما موت البهائم في الأعطان تنتحر هل من يموت بميدان الجهاد
قد قالها خالد إذ كان يحتظر كلا وربي فلا تشبيه بينهما
من فتنة وابتلآت إذا قبروا أهل الشهادة في الآثار قد أمنوا
والناس قائمة من هوله ذعروا ويوم ينفخ صور ليس يزعجهم
على الشهيد فعند الله مغتفر وما سوى الدين من ذنب وسيئة
تأوى القناديل تحت العرش تزدهر أرواحهم في علا الجنات سارحة
طير معردة ألوانها خضرُ وحيث شاءت من الجنات تحملها
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة تحت العرش. تسرح من الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا. فيفعل بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيل مرة أخرى. فلما رأى أنه ليس لهم حاجة تركوا)).
فتيقظ لنفسك يا أخي قبل الهلاك وأطلق نفسك من أسرها قبل أن يعسروا الفكاك، وانهض على قدم التوفيق والسعادة عسى الله أن يرزقك من فضله الشهادة ولا يقعدك عن هذا الثواب سبب من الأسباب، فذو الحزم السديد من جرد العزم الشديد، وذو الرأي المصيب من كان له في الجهاد نصيب. ومن أخلد إلى الكسل وغره الأمل زلت منه القدم. وندم حيث لا يغني الندم، وقرع السن على ما فرط وفات. إذا شاهد الشهداء في أعلى الغرفات وَ?للَّهُ يَقُولُ ?لْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ?لسَّبِيلَ [الأحزاب:4]. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إن الشهيد لما بذل حياته لله أعطاه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته ((من بذل شيئاً لله أعطاه الله خيراً منه)) ، حياة غير الشهيد شوب النغص ممزوج بالغصص. إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أحزنت شهوراً، أولها مخاوف، وآخرها متالف. أما الشهيد فقتل آخره حياة.ولكن أي حياة ؟ غير الشهيد يحيا مع من؟ والشهيد يحيا عند من؟ فارق أهل الدنيا الذين يموتون. فمن الله عليه بالحياة عند الحي الذي لا يموت. لما مزقت أجسادهم في دار الدنيا لله عز وجل فمنّ الله عليهم بحواصل طير خضر، حبست أقدامهم عن السعي فمنّ الله عليهم بأن يسرحوا في الجنة حيث شاءوا.
انظر وتأمل: لما ترك المجاهد الفراش والأزواج جاد عليه الملك الوهاب بكثرة الأزواج من الحور العين والجزاء عند الله من جنس العمل. فاز بوصال من خلقت من النور، ونشأت في ظلال القصور مع الولدان والحور. في دار النعيم والسرور، والله لا يجف دم الشهيد حتى تلقاه. وتستمتع بشهود نورها عيناه، حوراء عيناء. جميلة حسناء، بكر عذراء، كأنها الياقوت لم يطمثها إنس قبله ولا جان. كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر. كحيل طرفها، جميل ظرفها، عذب نطقها. عجب خَلقها، حسن خُلقها. زاهية الحلي، بهية الحلل. كثيرة الوداد، عديمة الملل. قد قصرت طرفها عليك، فلم تنظر سواك. وتحببت إليك بما وافق هواك، لو برز ظفرها لطمس بدر التمام. ولو ظهر سوارها ليلاً لم يبق في الكون ظلام، ولو بدى معصمها لسبى كل الأنام. ولو أطلعت بين السماء والأرض لملأ ريحاً ما بينهما. كلما نظرت إليها ازدادت في عينيك حسناً، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسناً، أيجمل بعاقل أن يسمع بهذه ويقعد عن وصالها، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها؟
اللهم إليك يا من بيده أزمة القلوب نرغب في ثباتها. وعليك يا علام الغيوب نعتمد في تصحيح قصدها وإخلاص نياتها. وإلى غناك نمد أيدي الفاقة أن ترزقنا شهادة ترضاها، وأن تنيل نفوسنا من ثبات الأقدام في سبيلك، فالحراك والسكون إليك، والمعول في كل خير عليك، وأنت على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
قال تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران:140]. يقول ابن القيم رحمه الله: فإنه سبحانه يحب الشهداء من عباده وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها وقد اتخذهم لنفسه فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة، إنها اصطفاء واختيار.
وداعا أيها البطل [صالح الدهشي أبو ثابت رحمه الله] هذا البطل له مشوار حافل بالعطاء، والبذل بصمت وخفاء، تقي خفي، إذا رأيته أحببته من القلب، يأسرك بصفاته العظيمة التي جبل عليها وتربى عليها من طول الصمت وعلو الهمة والتضحية لنصرة هذا الدين والخلق الجم.
صموت إذا ما الصمت زين أهله وفتاق أبكار الكلام المختم
وعى ما وعى القرآن من كل حكمة وسيطت له الآداب باللحم والدم
هذا البطل كان من أوائل المشاركين في الجهاد أشرب حب الجهاد فكان حباً مفعماً.
طالب علم، خريج شريعة، أثر العلم النافع، تراه على محياه، وبالعلم والجهاد قوام هذا الدين وَكَفَى? بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:13]).
أكرمني الله بصحبة هذا الشيخ ومعرفته قبل أشهر في ألبانيا إبان محنة المسلمين في كوسوفا. رأيت منه العجب العجاب، نفس تضيء، وهمة تتوقد، سافرت معه من قرية إلى قرية، وجدته يحترق ويكاد يذوب كمداً على واقع المسلمين هناك.
آثار جهوده هناك في ألبانيا وكوسوفا، الكل يشهد بها، كان يحث الخطى ليل نهار يسبق أعداء الله من النصارى. قبل أن يصلوا إلى ضعفاء المسلمين المنكوبين فيسارع إلى كفالتهم وتعليمهم ومواساتهم بأموال المحسنين. تمثلتُ فيه قول الله تعالى: وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31]. فهو كالغيث حيثما وقع نفع. لقد رأيت بعض إخوانه يدفعونه ويلزمونه إلزاماً أن يذهب للمبيت مع أهله لشدة انهماكه في العمل الدؤوب لنصر المسلمين، أرغم أعداء الله كثيراً، وهذه مرتبة عالية وهي عبودية المراغمة، ومن أخذ من الصديقة بحظ وافر، ومن جرب لذتها بكى على أيامه الأول، وقد وصف الله به أصحاب نبيه لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ [الفتح:29].
نشر الشيخ الحبيب الدعوة إلى منهج السلف بحماس منقطع النظير. تراه بجسمه النحيل وبساطة مظهره فتزدريه، وإذا جالسته رأيت أمراً يدعو إلى العجب والإعجاب، ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)).
عاد الشيخ إلى بلاد الحرمين ثم انتقل بصمت عجيب وإخفاء للعمل إلى أرض الشيشان الجريحة، حيث الملاحم والبطولات والثبات العجيب والمحن العظيمة. هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:11].
وصل أبو ثابت رحمه الله إلى المرابطين ورأى ما هم فيه من الرباط والجهاد فقال بلسان الحال: مكانك تحمدي أو تستريحي.
بعث بالرسائل الحارة من هناك، رسائله كانت تهز نياط القلوب، لأن ما خرج من القلب فإنه يصل إلى سويداء القلوب، وصف حال إخوانه المرابطين في ليلهم ونهارهم بوصف عجيب دل على أن الرجل عشق الشهادة حتى الثمالة. وقد كنت أتوقع استشهاده صباح مساء لما بدا عليه عياناً من علامات الاصطفاء والسرائر علمها عند الله.
قتل الشيخ أبو ثابت مقبلا ًغير مدبر بعد أن نكل هو وإخوانه بأعداء الله وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ [آل عمران:169]. أكمل الآية ياعبد الله مع الآية التي بعدها، وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157]. تردى ثياب الموت.
حدثني أحد مشائخنا هاتفياً وقد زار والده بالأمس فرآه راضياً مستبشراً بفضل الله أن أكرم ولده بالقتل في سبيله فهنيئاً لوالديه، هنيئاً لك أبا صالح ذلك البطل الهمام، والله أسأل أن يجمعنا به في دار الشهداء، إنه جواد كريم بَرٌ رؤوف رحيم.
(1/1776)
ترشيد الإجازة الصيفية
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة, السياحة والسفر
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
1/4/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ضرورة تمسك الأمة بعقيدتها. 2 ـ ظاهرة السفر والسياحة. 3 ـ المحور الأول: الغاية
من خلق الإنسان. 4 ـ المحور الثاني: استثمار الوقت. 5 ـ المحور الثالث: نعمة الفراغ
وخطورته. 6 ـ المحور الرابع: الترفيه البريء والترويح المباح. 7 ـ المحور الخامس:
مع السفر والمسافرين. السفر إلى بلاد الكفر. 8 ـ المحور السادس: السياحة ومفهومها الصحيح
9 ـ المحور السابع: أهمية الشباب ووجوب تربيتهم واستثمار أوقاتهم. 10 ـ نصائح لأصحاب الأفراح والزواجات. 11 ـ المحور الثامن: استحضار مراقبة الله تعالى. 12 ـ المحور التاسع: شدة الحر من فيح جهنم. 13 ـ المحور العاشر: مشاركة المسلمين المضطهدين في شعورهم وإحساسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
فاتقوا الله عباد الله، فما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة؟!! وما للهِمَم عن ركب المتقين فاترة؟!! وما للألسن عن شكر نعم الله قاصرة؟! وما للعيون إلى زهرة الدنيا الفانية ناظرة؟!! وعن طريق الهداية الواضحة حائرة؟!! ألا فاتقوا الله ربكم، وعظموا نواهيه وأوامره، وتدبروا آياته، فكم فيها من موعظة وعبرة زاجرة.
أيها المسلمون:
متى ما استمسكت الأمة بعقيدتها وثوابتها صلحت أحوالها، واستدبّت أوضاعها، وتلاشت عن مجتمعاتها الظواهر المخالفة لدينها.
ومتى فرطت في إسلامها، وأرخت الزمام لأبنائها، يخبطون خبط عشواء في دخيل الأفكار وهزيل المناهج ومستورَد الثقافات وانفتاحٍ على العالم دون ضوابط شرعية وآداب مرعية، تفشت بينها الظواهر المخالفة لشريعتها، مما يترك آثارًا سلبية على أفرادها ومجتمعاتها، ويحتاج إلى التصدي والعلاج من قبل الغيورين عليها، والمهتمين بشؤونها وأوضاعها.
معاشر المسلمين:
ظاهرة اجتماعية مؤرقة وكبيرة، وقضية تربوية مهمة وخطيرة، هي برسم الخطط والمناهج، وإعداد الدراسات والبرامج لتأصيلها والعناية بها حفية وجديرة.
تلكم هي ما يحصل في مثل هذه الأيام من كل عام، حينما تشتد حرارة الصيف، ويلقي بسمومه اللافع على بعض أقطار المعمورة، مما يحمل كثيرًا من الناس على الهروب إلى المصائف والمنتزهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشدِّ الأحزمة للتنقل والرحلات، يوافق ذلك فراغ من الشواغل، وتمتع بإجازة صيفية يقضيها الأبناء، بعد عناء عام دراسي كامل.
وحيث قد أعدَّ كثير من الناس برامج لشغل إجازاتهم، وقضاء وقت فراغهم، وكثير منهم قد حزم حقائب السفر أو سافر فعلاً، يترجم ذلك الكمّ الهائل المتهافت على مكاتب الحجوزات والمطارات، للسفر عبر الأجواء والمحيطات، في مراكب تمخر عباب الجو والبحر والفيافي لشتى القارات.
وقد أعدَّ هؤلاء وأولئك أمتعة الترحال إلى هنالك وهناك، لذا أستلطفكم ـ يا رعاكم الله ـ لنضع هذه القضية على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله ، مع إلماحة يسيرة إلى واقع بعض الناس فيها، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية، في هذه القضايا الواقعية، وذلك عن طريق هذه المحاور الموجزة المهمة:
الأول: مهمة الإنسان في هذه الحياة، فهي سر وجوده ووسام عزه، وتاج شرفه، وإكسير سعادته، تلكم هي عبوديته لربه عز وجل، وتسخيره كل ما أفاء الله عليه للقيام بها، وعدم الغفلة عنها طرفة عين، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
وإن أمارة المسلم الحق بقاؤه ثابتًا على مبادئه، وفيًا لدينه وعقيدته، معتزًا بأصالته وشخصيته فخورًا بمبادئه وثوابته، لا يحده عن القيام برسالته زمانٌ دون زمان، ولا يحول بينه وبين تحقيق عبوديته لربه مكان دون آخر، فمحياه كله لله، وأعماله جميعها لمولاه، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163].
فحيثما كان وحلَّ، وأينما وُجِد وارتحل، فإنه يضع العبودية لله شعاره، وطاعته لربه دثاره.
هذا هو منهج المسلم الصادق في إسلامه، القوي في إيمانه، الإيجابي في انتمائه.
ومن أسوأ ما أصيبت به الأمة في أعقاب الزمن، انتشار الانتماء السلبي، وغلبة الفكر الهامشي، الذي طغى على كثير من جوانب الحياة، مما أفرز أجيالاً تسيء فهم الإسلام على حقيقته، وتجعل للوثات الفكر المنحرف ومظاهر السلوك المحرم رواجًا في تكوين شخصيتها، في انهزامية ظاهرة، وتبعية ممقوته، وانسياق محموم، ولهث مذموم، خلف سراب موضات [1] التشبه والتقليد، وبهارج العلمنة والتغريب، المنتشرة في بعض صفوف المسلمين مع شديد الأسف حتى ضاعت عندهم الهوية الدينية، وفقدت معالم الشخصية الإسلامية، مما يتطلب إذكاء [2] روح العزة الإيمانية في نفوس أبناء الأمة المحمدية، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون: 8].
المحور الثاني يا إخوة الإيمان: الوقت، فهو مادة الحياة؛ والزمن، فهو وعاء العمر، فالواجب استثماره في مرضات الله، وشغله بطاعته سبحانه، فإن الإنسان مسؤول عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر ، خرجه الترمذي وغيره من حديث أبي برزة رضي الله عنه [3].
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: "السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يَتبين حلو الثمار من مرها" [4].
ألا فليعلم ذلك من أهدروا أوقاتهم، وبدَّدوا أعمارهم، في غير مرضات مولاهم.
المحور الثالث: الفراغ، فهو نعمة من نعم الله، يجب شغله بكل وسيلة شرعية، وذلك بالقيام بالعبادة بمفهومها الواسع، أو على أقل تقدير بالأمور المباحة شرعًا دون ما هو محرم، ففيما أحلَّ الله غنية عما حرم، وقد أرشد المولى نبيه بقوله سبحانه: فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [الشرح: 7، 8].
وفي الصحيح أن رسول الله قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) خرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما [5].
ويقول : ((اغتنم خمسًا قبل خمس))، وذكر منها: ((وفراغك قبل شغلك)) خرجه الإمام أحمد والبيهقي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما [6].
وكم كان الفراغ سببًا في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره، عند عدم استثماره، فهو منَّة ونعماء، لكن إذا استغِلَّ في معصية الله فهو نقمة وبلاء.
المحور الرابع ـ يا إخوة العقيدة ـ: الترفيه البريء، والترويح المباح، لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوبًا أحيانًا لأغراض شرعية، كما في حديث حنظلة: ((ولكن ساعة وساعة)) [7].
لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباح شرعًا، فالإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروِّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم، وأن يقوموا بالوسائل المباحة في ذلك شرعًا.
أما أن يُستغَل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويهزُّ العقيدة، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل والمبادئ، فلا وكلا، وإن رغمت أنوفُ أناسٍ، فقل: "يا ربِّ لا ترغِم سواها".
المحور الخامس: مع السفر والمسافرين، فالسفر في هذا الدين لا بأس فيه، بل قد يكون مطلوبًا لمقاصد شرعية، يقول الثعالبي رحمه الله: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى، ويدعوه شكرًا على نعمه" [8].
تلك الطبيعة قف بنا يا سارِ حتى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لروائع الآيات والآثار
وقد قيل: "لا يصلح النفوسَ إذا كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال".
فالماء الدائم يأسن، والشمس لو بقيت في الأفق واقفة لمُلَّت.
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب [9]
وهلمَّ جرا.
لكن السفر في الإسلام له حدود مرعية، وضوابط شرعية، منها أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة، وبؤر مشبوهة، فلا، ما لم يكن ثمَّ ضرورة، مع القدرة على إظهار شعائر الإسلام، وهل يُلقى الحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة، والسباع الضارية، أخرج الترمذي وأبو داود بسند صحيح، أن رسول الله قال: ((أنا بريء من رجل يبيت بين ظهراني المشركين)) [10].
وقد استثنى أهل العلم من ذلك الداعية إلى الله، والمضطرَ لعلاج أو نحوه.
المحور السادس ـ يا رعاكم الله ـ: مع السياحة، وما أدراكم ما السياحة، لفظة براقة، وعبارة أخَّاذة، لها دلالاتها الشرعية، فكم كان أسلافنا يجوبون الأرض شرقًا ومغربًا جهادًا في سبيل الله، ودعوة إلى دين الله، بأفواههم وأفعالهم وسلوكهم وحسن تعاملهم.
نعم لاستثمار السياحة في هذا المقصد الشرعي النبيل، إننا جميعًا مع السياحة بمفهومها النقي النظيف المنضبط بالضوابط الشرعية، غير أن مما يبعث على الأسى أن في الأمة منهزمين كُثر، عبّوا من ثقافة الغير حتى ثملوا [11] ، وزعموا وبئس ما زعموا أن السفر والسياحة لا يمكن أن تتحقق إلا بأيام سوداء، وليال حمراء، ومجانبة للفضائل، ونبذ للحياء، وإعلان بالفضائح، ومجاهرة بالقبائح، إن الولوغ في هذه المياه العكرة، والانسياق وراء أمراض الأمم المعاصرة، وأدواء المجتمعات المنحرفة، وإفرازاتها المنتنة، لا يمكن أن يقبله ذوو النفوس المؤمنة، والمجتمعات المحافظة.
نعم لسياحة التأثير لا التأثّر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفلات، كيف وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أعداء الإسلام يستهدفون أفواجًا من السياح المسلمين، للوقيعة بهم، فيبهرونهم عن طريق الغزو الفكري والأخلاقي ببلادهم، ويستغلون كثيرًا من السائحين اقتصاديًا وأخلاقيًا، ويجرّونهم رويدًا رويدًا، إلى حيث الخنا والفجور، والمخدرات والخمور، والتبرج والاختلاط والسفور، بل قد يرجع بعضهم متنكّرًا لدينه ومجتمعه، وبلاده وأمته.
أين العقول المفكرة عن الإحصاءات المذهلة من مرضى الهربس والإيدز، ومن عصابات وشبكات الترويج للمسكرات والمخدرات.
إننا نناشد المسافرين والسائحين أن يتقوا الله في أنفسهم وأسرهم، ومجتمعاتهم وأمتهم، ونذكرهم قبل أن ترفعوا أقدامكم: فكروا أين [تضعونها]، فمن مشى غِرّة في موضع زلق.
نعم، سافروا للخير والفضيلة، والدعوة والإصلاح، فلا حجر عليكم، وكونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم، داعين إلى مبادئه السمحة، حيث يتخبط العالم بحثًا عن دين يكفل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام.
فكونوا أيها المسافرون سفراء لدينكم وبلادكم، مثلوا الإسلام أحسن تمثيل، كونوا دعاة لدينكم بأفعالكم وسلوككم، لا تبخلوا على أنفسكم باصطحاب رسائل تعريفية بالإسلام ومحاسنه وتعاليمه السمحة، ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)) [12].
حذار أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات، وصرعى ملذات، بل أفهموهم بسلوككم أنكم حملة رسالة، وأرباب أعلى هدف وأشرف غاية، وأصحاب شخصية فذة، وشريعة خالدة، ودين يرعى العقيدة والمبادئ والقيم، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل والسلام، ويبحث عما يكفل للعالم الرقي والتقدم والحضارة.
أمة الإسلام:
ومما ينبغي التحذير منه، براءةً للذمة، ونصحًا للأمة ما تعْمِد إليه بعض الشركات والمؤسسات السياحية من الدعوة إلى السفر إلى بلاد موبوءة، وإظهارها بدعايات مزركشة، وإعلانات مزخرفة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، إنها تمثل قنابل موقوتة، وألغامًا مخبوءة، لنسف المبادئ، ودوس القيم والأخلاق والفضائل.
ألا وإن من التحدث بنعم الله، وشكر آلائه سبحانه، ما حبا الله بلادنا المسلمة المباركة ـ حرسها الله ـ من مقومات شرعية وتاريخية وحضارية، تجعلها مؤهلة لتكون بلد السياحة النظيفة النقية، فهي ـ بإذن الله ـ قادرة على إعطاء مفهوم صحيح، ووجه مشرق للسياحة، التي خُيل لبعض المفتونين المنهزمين، أنها صناعة الفجور والإباحية والانحلال.
أوليس الله قد منَّ على بلادنا بالحرمين الشريفين، مهوى أفئدة المسلمين، ومحط أنظارهم؟! أوليست بلادنا تنعم ـ بحمد الله ـ بالأجواء المتنوعة التي تشكل منظومة متآلفة ومجموعة متكاملة، يقلّ نظيرها في العالم؟! فمن البقاع المقدسة إلى الشواطئ الجميلة، والبيئة النظيفة السليمة من أمراض الحضارة المادية وإفرازاتها، إلى الجبال الشُمَّ الشاهقة، ذات المنظر الجميل، والهواء العليل، والأودية الخلابة، والسهول الجذابة، والجداول المنسابة، مرورًا بالمصائف الجميلة، والصحارى البديعة، والقمم الرفيعة، والوهاد الواسعة، والبطاح الشاسعة، ذات الرمال الذهبية العجيبة، وأهم من هذه المقومات المادية والحسية المقومات المعنوية، والميزات الشرعية، والخصائص الإسلامية والحضارية، والآداب العربية الأصيلة، التي تحكي عبق التأريخ والحضارة، المعطّرة بالإيمان، النديّة بالمروءة والإحسان، فهل بعد ذلك يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، في تأثيرات عقدية وثقافية، وانحرافات أخلاقية وسلوكية، ومخاطر أمنية، وأمراض صحية ووبائية، مما لا يخفى أمره على ذوي العقول والحجى؟!
وبذلك يتحقق لمن ينشدون الطهر والعفاف والنقاء، والفضيلة والخير والحياء، التمتع بأجواء سياحية مباحة، ويُسَدّ الطريق أمام الأبواق الناعقة، والأقلام الحاقدة، التي تسعى لجرِّ هذه البلاد المباركة وأهلها إلى ما يفقدها خصائصها ومميزاتها، ويخدش أصالتها وثوابتها، فماذا يريد هؤلاء؟ وماذا يقصد أولئك؟
فلنشكر الله على نعمه وآلائه، ولنحافظ عليها بطاعته واتباع أوامره.
حَفِظ الله لهذه البلاد عقيدتها وقيادتها، وأمنها وإيمانها، من كيد الكائدين وسائر بلاد المسلمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف: 100]، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
[1] جمع موضة، وهي كلمة لاتينية معرّبة، ومعناها الطريقة الجديدة، أو الشيء الجديد.
[2] إذكاء أي إيقاد.
[3] لفظ الحديث: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة [2417]، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [126]. وانظر تخريجه في السلسلة الصحيحة [946].
تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي والله أعلم.
[4] الفوائد (ص 164).
[5] أخرجه في كتاب الرقاق من صحيحه [6412].
[6] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 306)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [3355]، وأخرجه ابن المبارك في الزهد، ومن طريقه البغوي في شرح السنة [4022] عن عمرو بن ميمون مرسلاً، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234)، ولم أقف عليه في مسند الإمام أحمد.
[7] أخرجه مسلم في كتاب التوبة من صحيحه [2750].
[8] الغرر السافر (ص 291).
[9] ديوان الشافعي (ص 34).
[10] أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد [2645]، والترمذي في كتاب السير [1604] من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، ولفظه عندهما: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)). وخرجه الترمذي أيضًا والنسائي (2/245) مرسلاً، وقال الترمذي: "هذا أصح" ونقل عن شيخه البخاري ترجيح المرسل، ورجح غير واحد من الحفاظ إرساله. وانظر تخريج الحديث في إرواء الغليل [1207].
[11] أي سكروا.
[12] هذا لفظ حديث نبوي أخرجه البخاري في كتاب الجهاد [3009]، ومسلم في فضائل الصحابة [2406] من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أعاد وأبدا، وأنعم وأسدى، أحمده تعالى وأشكره على آلائه التي لا نحصي لها عدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهًا واحدًا أحدا فردًا صمدًا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، أكرم به رسولاً وعبدا.
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين أكسبهم شرفًا ومجدًا، والتابعين ومن تبعهم بأمثل طريقة وأقوم سبيل وأهدى.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله:
ومحور سابع: مع الشباب، من الأبناء والبنات.
أهدي الشباب تحية الإكبار هم كنزنا الغالي وسر فخاري
هل كان أصحاب النبي محمد إلا شبابًا شامخ الأفكار
الشباب عماد الأمة، قلوبها النابضة، شرايينها المتدفقة، عقودها المتلألئه، هم جيل اليوم، ورجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصناع الأمجاد، وثمرات الفؤاد، وفلذات الأكباد، فلا بد من تربيتهم تربية صحيحة شاملة، وشغل أوقاتهم بطريقة متوازنة، فهذه الأشهر التي يمرون بها في فراغ من المشاغل الدراسية النظامية، لا بد أن يستثمرها أولياء أمورهم ببرامج حافلة، تكسبهم المهارات، وتنمِّي فيهم القدرات، تقوِّي إيمانهم، وتصقل فكرهم، وتثري ثقافتهم، فأين الآباء والمربون من إعداد البرامج الشرعية المباحة، وهي كثيرة بحمد الله، كحفظ كتاب الله عز وجل، واستظهار شيء من سنة رسوله ، وتعلم العلم النافع، وكثرة القراءة في كتب أعلام الإسلام قديمًا وحديثًا، والاطلاع على السير والتآريخ والآداب ونحوها، وإدخال السرور عليهم بالذهاب بهم إلى بيت الله الحرام في عمرة، أو إلى مسجد رسول الله في زيارة، أو إلى أحد مصائف هذه البلاد في سياحة بريئة، في محافظة على دينهم وأخلاقهم، وصلة لأقاربهم وأرحامهم، حتى لا يقعوا فريسة في دهاليز الإنترنت، وشبكات المعلومات، وضحايا في سراديب القنوات والفضائيات، وأرصفة البطالة واللهو والمغريات.
ومما يسرّ المسلمَ أن تشغل الإجازة بالزواجات للشباب والفتيات، وتلك قضية مهمة، لكننا نوصي المسلمين بالتزام منهج الإسلام في ذلك، وعدم الخروج على تعاليمه بالإسراف والبذخ والمغالاة والسهر، والتكاليف الباهظة، والحذر من منكرات الأفراح التي يفعلها بعض ضعيفي الديانة هداهم الله.
ومن المحاور المهمة في هذه القضية أن يعلم العبد أنه مراقب من قبل ربه ومولاه، فلا يراه حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1].
ومنها ـ أحبتي في الله ـ أن شدة الحر في هذه الدنيا يجب أن تذكر بالآخرة، فشدة الحر من فيح جهنم [1]. عياذًا بالله، فهل اعتبرنا؟ وهل تذكرنا ـ ونحن مشغولون في هذه الدنيا عن هذه النار ـ فعملنا على الأخذ بأسباب الوقاية منها؟ فرحماك ربنا رحماك.
أمة الإسلام:
وعاشر هذه المحاور وتمامها أن المسلم المرتبط بإسلامه وإيمانه وأخوة الإسلام يكون شعوره مع شعور إخوانه المسلمين، يتذكر أحوالهم ومآسيهم، لا سيما الذين يعيشون حياة القتل والتشريد والاضطهاد، فهل من الإحساس بشعورهم إهمال قضاياهم؟!!
أين الأحاسيس المرهفة، والمشاعر الفياضة؟ فأناس يفكرون بأحوال إخوانهم في العقيدة، ويهتمون بمقدسات الأمة، وما يمر به المسجد الأقصى المبارك، وما تضجّ به فلسطين المسلمة، حيث شلالات الدم المتدفقة هذه الأيام، وليس ما فعلته وتفعله الصهيونية العالمية، واليهودية الدولية بخافٍ على ذوي النخوة والمروءة.
وقل مثل ذلك في الشيشان الصامدة، وكشمير المجاهدة، في الوقت الذي يفكر فيه كثيرون بالتمتع بإجازاتهم في منتجعات ليست للكرام ولا كرامة فالله المستعان.
فاتقوا الله عبد الله، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة: 281].
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير الورى طُرا، وأفضل الخليقة شرفًا وطهرًا، صلاةً تكون لكم يوم القيامة ذخرًا، فقد أمركم بذلك ربكم تبارك وتعالى، في تنزيل يتلى ويقرا، فقال تعالى قولا كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] هذا نص حديث نبوي، أخرج البخاري في كتاب مواقيت الصلاة [534]، ومسلم في كتاب المساجد [615] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) قال الترمذي: "وفي الباب عن أبي سعيد وأبي ذر وابن عمر والمغيرة والقاسم بن صفوان عن أبيه وأبي موسى وابن عباس وأنس رضي الله عنهم".
(1/1777)
غزوة أحد: دروس وعبر
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
1/4/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعداد المشركين للثأر من غزوة بدر. 2- خروج المسلمين للقتال وانسحاب المنافقين. 3- أحداث المعركة. 4- معاناة النبي وأصحابه في هذه الغزوة. 5- نتائج المعركة. 6- تضحية الصحابة من أجل هذا الدين. 7- دروس وعبر من هذه الغزوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، وتقوى الله تزيد النعم، وتزيل النقم.
أيها المسلمون:
لقد بعث الله نبينا محمداً على حين فترة من الرسل، والحياة مليئة بظلماء جهالاتها، ودهماء ضلالاتها، فأخذ النبي ومعه صحبٌ كرامٌ بنشر هذا الدين في الآفاق، وتصدى أهل الكفر والعناد لدعوته، وأشهروا الأسياف لمقابلته، فالتقوا في بدر، وتحقق النصر بعون الله، فارتفعت راية الإسلام، وعاد المشركون إلى مكة بالثبور، كلٌّ يبكي قتلاه، ويشكي بلواه، وعظم عليهم المصاب، فعزمت قريش على إعداد العدّة لملاقاة المسلمين، وأمضوا عاماً كاملاً في الاستعداد، فاجتمع جمعهم، واتجه جيشهم إلى المدينة النبوية في شوال من السنة الثالثة، ليأخذوا بثأرهم [من] يوم بدر، ونزلوا عند جبل أحد على شفير الوادي، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، فأشاروا على النبي بالخروج لملاقاتهم، وعزم المسلمون على الخروج إليهم، وبعد أن صلى النبي بالناس يوم الجمعة دخل بيته، وخرج متهيئاً للقتال، لابساً لأمة الحرب [1] ، وقال: ((ما ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)) [2].
ثم خرج في ألف من الرجال، فلما كانوا بين المدينة وأحد، انخذل عنه عبد الله بن أبيّ رأس النفاق بثلث الجيش، فتركهم رسول الله ومضى حتى نزل الشعب من أحد، في عدوة الوادي من الجبل، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، فصار جيش المشركين فاصلاً بين المسلمين وبين المدينة، وجعل على الرماة خمسين رجلاً، أمّر عليهم عبد الله بن جبير، وأمرهم أن يلزموا مكانهم، وأن لا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطفهم، وقال: ((إن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا)) [3].
فلما كان صبيحة يوم السبت، استعدَّ للقتال، وظاهر بين درعيه، واستعرض الشباب، وردّ من استصغره على القتال، وأجاز آخرين، وكان ممن أجاز سمرة بن جندب ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة.
واستعدت قريش أيضاً للقتال، المشركون قوامهم ثلاثة آلاف رجل، فيهم مائتاً فارس، يقودهم أبو سفيان، يريدون أن يطفئوا نور الله، وإضلال العباد، والمسلمون سبعمائة رجل، يبتغون النصر أو الشهادة.
وحرّض النبي أصحابه على القتال، وحضَّهم على الصبر والمجالدة، وتقابل الجيشان، وتقارب الجمعان، وأصبحت السيوف مصلتة، والرماح مبرزة، والسهام منتثرة، حزب الرحمن، وحزب الشيطان.
ثم أذن النبي بالقتال، ودنا بعضهم من بعض، وتلاحم الفرسان، وحمي الوطيس، وكانت الديرة للمسلمين، وأنزل الله نصره على المؤمنين، وانكشف المشركون، وسقط لواؤهم، وولوا مدبرين، فلما رأى الرماة هزيمتهم، ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فنزل من نزل منهم في طلب الغنيمة، وتركوا مكانهم الذي أمرهم رسول الله بحفظه، وذكرهم أميرهم بلزومه، فنزلوا وخلا الثغر، فالتفّ خالد بن الوليد – وهو على الشرك يومئذ – من وراء جبل الرماة، فقتل العشرة الباقين من الرماة الذين على الجبل، وأصبح جيش المسلمين بين خيالة المشركين من الخلف، وبين مشاتهم من الأمام، وأحاطوا بالمسلمين، وانهزمت طائفة من المسلمين، وتفرق سائرهم، ووقع القتل فيهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وثاب المشركون إلى رئيسهم، واضطربت صفوف المسلمين، فكان ما أراد الله كونه، فأكرم من أكرم بالشهادة، وثبت النبي حين انكشفوا عنه، وهو يدعوهم في أخراهم حتى رجع إليه بعضهم، وخلص المشركون إلى النبي يريدون قتله، فشجوا وجهه، وكسروا رَباعيّته بحجر، ووقعت حلقتان من حِلق المغفر في وجهه، وهشموا البيضة على رأسه، وهي الخوذة التي يضعها الفارس على رأسه، ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق حفرها ليكيد بها المسلمين، فأخذ علي بن أبي طالب رضي الله بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وقتِل مصعب بن عمير بين يديه، وأدرك المشركون الرسول ، فحال دونهم نفر من المسلمين، نحوٌ من العشرة، حتى قتِلوا جميعاً، ثم جالدهم طلحة بن عبيد الله حتى أبعدهم عنه، فشلت يده رضي الله عنه، وترَّس أبو دجانة عليه بظهره، والنبال تقع عليه وهو لا يتحرك، وقايةً لرسول الله ، وصرخ الشيطان بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرهم، وَكَانَ أَمْرُ ?للَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً [الأحزاب:38].
وأقبل الرسول نحو المسلمين، فرأوه واجتمعوا به، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، واستندوا إلى الجبل، وغسل علي بن أبي طالب الدم عن وجه النبي ، وصبّ ماء على رأسه، ولما رأت ابنته فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم، وأجهد النبي غاية الإجهاد، ولما أراد أن يعلو صخرة هناك لم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها، وفزع الناس لقتلاهم، ثم نزل رسول الله فرأى الشهداء قد مثّل بهم، وقد مثل بهم أقبح تمثيل، وتلمّس عمه حمزة فوجده في الوادي، مبقورَ البطن، مجدوعَ الأنف والأذنين.
ومال المشركون إلى رحالهم، وفي الأرض أشلاء، وأرواح تحتضر، وكان هذا كله يوم سبت، ووضعت الحرب أوزارها، حصادها سبعون شهيداً من المسلمين، واثنان وعشرون هالكاً من الكافرين، قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار.
وبعد أيها المسلمون:
فأحدٌ نصر لا هزيمة، معركة فياضةٌ بالعبر والعظات، أحداثها صفحات ناصعة، يتوارثها الأجيال بعد الأجيال، وأنزل الله فيها ستين آية في كتابه المبين، كان لها أثر عميق في نفس النبي ، ظل يذكره إلى قبيل وفاته.
إن هذا الدين وصل إلينا بعد كفاح مرير من الصحابة والأسلاف، ذاقوا فيه مرارة المصائب والمحن:
أنس بن النضر يصاب في هذه الغزوة ببضع وثمانين جراحة، ثم مثّل به بعدها، فلم يعرفه أحد سوى أخته عرفته ببنانه.
وفي سعد بن الربيع سبعون طعنة.
فماذا قدمنا لديننا؟؟ وللصحابة الكرام الصحبة والسبق والإقدام، تقطعت منهم الأشلاء، وتمزقت الأجساد، وترمل النساء، قدموا أرواحهم فداء لهذا الدين، حتى وصل إلينا كاملاً متمّماً، فاقدر لهم قدرهم، واشكر لهم سعيهم، وترض عنهم، فقد أحبهم ربهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وبالمعاصي تدور الدوائر، ففاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب خطيئة، وخرج آدم من الجنة بمعصيته، و((دخلت امرأة النار في هرة)) [4] ، فالزم الطاعة والعبودية، يؤخذ بيدك في المضايق، وتفرج لك الشدائد، ولا تجعل أعمالك جُندا عليك، يزداد بها عدوك قوة عليك.
في هذه المعركة، قاتل سمرة ورافع وهما ابنا خمس عشرة سنة، على دماء فتيان من الصحابة علا هذا الدين، لا لهوٌ في الأوقات، ولا مرح في الشهوات، سعى الآباء لإصلاحهم، فجنوا ثمرة صلاحهم، فماذا قدّم شبابنا لدينهم؟ وما هي همتهم؟ وما همهم؟ وما تطلعاتهم؟ وبم تعلقهم؟
وتجنب صحبة السوء، فهم يخذلونك في أحوج ما تكون إليهم، هم في النعماء لك أصدقاء، ولكنهم في الشدائد أعداء، وقد انخذل أهل النفاق عن الصحابة في أحلك المواقف.
والزم الصحبة الصالحة، فهم حافظون لك في الغيب والشهادة، لنفعك يسعون، وعنك يذودون.
وللحق جولة، وللباطل صولة، والعاقبة للتقوى، فلا تيأس من إصلاح المجتمع، ولا تقنط من هدايته، فصبر النبي على الأذى والجراح، حتى دخل الناس أفواجاً في دين الله، إن عواقب الأمور كلها بيد الله، فامض في الدعوة، وداوم على الدعاء، وهداية البشر بيد خالق البشر.
أبو سفيان في أحد يقود المشركين، وشعاره: "اعلُ هُبل"، وفي فتح مكة يقول: "لا إله إلا الله".
ووحشي يقتل حمزة، ثم يسلم ويقتل مدعي النبوة مسيلمة الكذاب.
فاحذر على نفسك التقلب، ((فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء)) [5].
واسأله دوماً دوام الثبات، والعبد وإن استغرق في العصيان، فالتوبة تحط الأوزار وإن بلغت العنان.
خالد بن الوليد يقود خيَّالة الكفر، وقتِل على يديه فضلاء الصحابة، ولما شرح الله صدره للإسلام، أتى يبايع النبي ، وقال: يا رسول الله، إني أشترط أن تغفَر زلتي، فقال: ((يا خالد، أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجُبُّ ما قبلها؟!)) [6].
فأنقذ نفسك من وحل الأوزار، وأقبل على ربك بعيداً عن الآثام، فالحسنات يذهبن السيئات، ولا تستنكف عن التمسك بهذا الدين، فحوله سالت الدماء.
والمرء قد يبتلى بذوي القربى والأرحام، فاصبر على ما تلاقيه منهم، فأقارب النبي تركوا أوطانهم وأموالهم، وقدموا إلى المدينة لقتل النبي ، وفعلوا ما لم يفعله غالب الكفار، من تمثيلهم بالقتلى، مع أنهم بنو عمه، وفي الفتح عفا عنهم وصفح، وقال: ((أنتم الطلقاء)) [7].
فاتخذ النبي قدوة لك في الحلم والعفو، وصل رحمك، وغض الطرف عما يسوؤك منهم.
وفي الفرقة والنزاع تبعثَر الجهود، وفي الألفة والاتفاق صفاء القلوب، فاحذر من تفرق الكلمة والاختلاف في الرأي، فهي الهزيمة، وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ [الأنفال:46].
ولا تأمن المعصية من جانب المسرة، وحلاوة الفرح قد تختلط بمرارة الحزن، والصحابة الكرام رضي الله عنهم فرحوا بالغنيمة، ونزل الرماة لجمعها، فلحقتهم الهزيمة.
والدنيا لا تدوم على حال، فكن صابراً عل لأوائها، شاكراً لله في نعمائها.
والأنبياء عبيد مخلوقون، يعتريهم ما يعتري البشر، لا يُرفعون فوق منزلة العبودية، ولا يحَطُّ من شأنهم، والنبي ظاهر بين درعين، ولبس لأمة الحرب، وكافح معه الصحابة، وقاتل عنه جبريل وميكائيل أشد القتال، ومع هذا شُجَّ في وجهه، وكسرت رَباعيته، والأمر لله من قبل ومن بعد، وهو سبحانه وحده النافع الضار، ولو كان يملك لنفسه شيئاً ما سال الدم منه.
فاصرف عبادتك للجبار، وتذلل بين يدي القهار، تتحقق لك - بإذن الله – المسارّ.
وأحُد لا يتبرَّك بترابه، ولا تلتقَط حصياته، فعنده قتِل سبعون، وبجانبه جرِح الرسول ، ولو كانت تغني شيئاً لما حل المصاب، ففوّض أمرك إلى الله، والجأ إليه في كشف الملمات.
ومن مروآت الأفعال العرفان لمن خدم الدين، ومن جميل الخلال الوفاء للأصحاب، ودماء شهداء أحد بقيت في نفس الرسول إلى السنة التي مات فيها، فصلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع لهم [8].
فأجلّ نبلاء هذا الدين، واحفظ ودَّ خِلاَّنك، وارع حق صحبتهم، واحفظ سرهم، يقول أبو سفيان: (ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً، كحب أصحاب محمد محمداً) [9].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ذ?لِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] اللأْمة بسكون الهمزة هي الدرع، أو هي الآلة من درع وبيضة وغيرهما من السلاح.
[2] علقه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه، باب قول الله تعالى: وأمرهم شورى بينهم ، ووصله أحمد (3/351)، والدارمي في سننه [2159] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفيه عنعنة أبي الزبير. وأخرجه ابن هشام (2/126-127) عن الزهري مرسلاً، والطبري (7/372) عن قتادة مرسلاً، وصححه الألباني في تخريجه فقه السيرة (ص269).
[3] أخرجه أحمد [2604] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (2/296)، ووافقه الذهبي.
وله شاهد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، أخرجه البخاري في المغازي [4043] بلفظ: ((إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)).
[4] أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق [3318]، ومسلم في كتاب السلام [2242 ، 2243]، من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما، ومعنى ((في هرة)) أو بسبب هرة؛ لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض.
[5] أخرج مسلم في كتاب القدر من صحيحه [2654] من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء))، ثم قال رسول الله : ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)).
[6] المنقول في كتب الحديث والتراجم والتاريخ أن خالد بن الوليد قدم هو وعمرو بن العاص على رسول الله ليسلما، فتقدم خالد فأسلم وبايع، ثم دنا عمرو بن العاص فقال: يا رسول الله، إني أبايعك على أن يغفر الله لي، فقال : ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها))، وأصل القصة في كتاب الإيمان من صحيح مسلم [121].
[7] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية لابن هشام (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:" فذكره في حديث طويل ، وهذا سند معضل. وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[8] عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات. أخرجه البخاري في كتاب المغازي [4042]، ومسلم في الفضائل [2296].
[9] أخرجه الطبري في تاريخه (2/79)، وانظر: السيرة النبوية (2/172).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أيها المسلمون، الجنة لا تنال إلا على جسر من المشقة والتعب، والطريق طويل شاقّ حافل بالمتاعب والعقبات، وفي الامتحان بالغلبة والانهزام ذلّ وخضوع، يوجب العز والنصر، وهو سبحانه إذا أراد أن يعزَّ عبده كسره أولاً، ومن ثم تكون رفعته على قدر خضوعه وانكساره لله، والله هيَّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحن، فقيَّض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، لتمحيص السرائر، وكشف الخبايا، فارض بالمحتوم، وسلِّم لأمر الله المقدور، يقول بعض السلف: "لولا المصائب لوردنا الآخرة مفاليس" [1].
والأيام في الحياة دول، لا تبقى على حال، نصر وهزيمة، عزّ وذلّة، سقم وصحة، فقر وغنى.
فاغتنم فيها نعماءك ما تدخره لأخراك، ومن آثر دنياه أضرَّ بدينه ودنياه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماًً [الأحزاب:56].
[1] انظر: عدة الصابرين (ص73).
(1/1778)
توجيهات ونصائح للمسافرين إلى ديار الكفر
موضوعات عامة
السياحة والسفر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإيمان. 2- حياة المسلم وحياة الكافر. 3- الثبات على الإيمان. 4- وصايا للذين يسافرون إلى الخارج. 5- الإسراف والتبذير. 6- الأموال الطائلة التي يستفيدها أعداء الإسلام من السياح المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله، الإيمان خير حلةٍ ارتداها العبد، وخير لباسٍ لبسه، يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]. فالإيمان أعظم نعمة منَّ الله بها على عبده، فأعظم النعم أن منّ الله عليك بالإيمان، وشرح صدرك لقبول الإيمان، والتزام الإيمان، فتلك نعمة عظيمة منّ الله بها عليك، فاشكر الله عليها، بقلبك ولسانك وجوارحك، قال تعالى: وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لراشِدُونَ [الحجرات:7].
فإذا حبّب الله إليك الإيمان، وزينه في قلبك، فتمكن الإيمان من قلبك، فتلك من أعظم نعم الله عليك.
ومن فضله أن كرَّه إليك الكفر، وكرَّه إليك الفسوق والعصيان، ترك الأوامر وفعل المناهي، أُوْلَئِكَ هُمُ ?لراشِدُونَ ، الذين هدوا إلى الخير، هدوا إلى الطريق المستقيم.
أيها المسلم:
تأمل في نعمة الإيمان، تراها النعمة العظمى، والمنة الكبرى من الله عليك، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
أيها المؤمن:
نعمة الإيمان شرُفتَ بها، وفضلتَ بها على كثير ممن خلق الله، ممن حرموا نعمة الإيمان، وحيل بينهم وبين الهدى، نعمة الإيمان مُيّزتَ بها عن مشابهة الحيوان، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]. فمن حُرِِمَ نعمة الإيمان فمنزلته منزلة بهيمة الأنعام، بل الأنعام أهدى منه سبيلاً، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأَنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
أيها المؤمن:
حياتك ليست كحياة من يقول: مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ?لدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ ?لدَّهْرُ [الجاثية:24]، حياتك تخالط إيمانك، فحياتك حياة من يعلم أنه ميّت وأنه ملاقي الله، وموقوف بين يدي الله، وأن الله مجازيه على أعماله، لِيَجْزِىَ ?لَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ?لَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِ?لْحُسْنَى [النجم:31].
حياتك – أيها المؤمن – ليست بمجرد التمتع بالملذات، وقضاء الوقت في تناولها من غير استعداد لما أمامك، فأنت تخالف من قال الله عنهم: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
بل حياتك حياة تسمو فيها للدرجات العلى، وتعمل على مصالح ترجو من الله أن يثيبك على ذلك العمل، وَعَدَ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ أَكْبَرُ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:72].
أيها المؤمن:
حياتك ليست كحياة أولئك التائهين في حياتهم، الضالين عن سواء السبيل، المتخبطين في كل أحوالهم، بل حياتك حياة المؤمن المخلص، الذي آمن بالله، رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً رسولاً، فهو يعمل الأعمال الصالحة، ويجدّ ويجتهد، ويسأل ربه أن يثبته على الطريق المستقيم، فدائماً يقول: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:8].
عرف الإيمان حقاً، وعرف فضل الإيمان، وخالطت بشاشة الإيمان قلبَه، فهو يسأل الله أن يثبته على هذا الإيمان، وأن لا ينزعه منه، حتى يلقى الله وهو على الإسلام ما بدّل ولا غير.
أيها المؤمن:
إن إيمانك بالله ورسوله، إيمان ملازم لك في حياتك كلها، إلى أن تفارق الدنيا، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
إذاً أخي، لا تكن حالك كحال الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، ولتكن حالك حال من يرجو ما عند الله، ويستعد للقاء الله، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ?للَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ?للَّهِ لآتٍ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [العنكبوت:5].
أخي المؤمن:
إن إيمانك لا يتخلى عنك في حياتك، وفي أي أرض الله كنت، فالإيمان ملازم لك، لا يتخلى عنك أبداً، لأن إيمانك إيمان صادق، ولهذا لا يمكن أن تتخلى يوماً عن الإيمان.
فتوحيدك لربك، وتعلق قلبك بربك محبة وخوفاً ورجاءً، دائماً على نفسك، محافظتك على الصلوات الخمس، وعنايتك بها وقتاً وجماعةً، دائماً أنت تحافظ عليها، وقائم بها خير قيام.
أخلاق الإسلام ملازمة لك، فأنت على خلق عظيم من دينك، إذاً فأنت ملازم لِذلك الخلق، امتثال الأوامر، والبعد عن النواهي.
هكذا يكون المؤمن، ليس المؤمن مذبذباً، ولكنه صادق مستقيم، الإيمان الصادق واليقين الجازم، فلا تنفك شريعة الإسلام عنك يوماً من الأيام، وإنما أنت مستقيم عليها إلى أن يوافيك الأجل، هكذا حال المؤمن الذي هداه الله، وشرح للإيمان صدره، فقبل الحق وآمن به.
أخي المؤمن، أختي المؤمنة:
في هذه الأيام قد يبتلى من يبتلى بمفارقة ديار الإسلام، والذهاب لقضاء الإجازة هنا وهناك، وكل يذهب إلى ما يريد، وكلٌّ يختار من البقاع والأماكن ما يهوى، ويذهب إلى أي مكان شاء، على قدر هوايته، وعلى قدر ماله، وعلى قدر رغبته.
ولكن يا أخي المسلم ويا أختي المسلمة، وصيتي للجميع بتقوى الله في السر والعلانية، وصيتي للجميع أن يلزموا الإيمان، ويحافظوا عليه، وأن لا يكونوا شماتةً لأعداء الإسلام.
إن بعض أبنائنا وبعض بناتنا، هدى الله الجميع لكل خير، إذا فارقوا ديار الإسلام، ألقوا جلباب الحياء، ونزعوا جلباب الحياء، وكأن دينهم الذي كانوا يعملون به تركوه في ديارهم، فلا حاجة لهم به.
لماذا؟ ترى كثيراً منهم يتهاونون بالصلاة، ويستخفون بها، إن لم يضيعوها والعياذ بالله، ترى البعض من أولئك، ينفقون نفقات طائلة، ويبذلون أموالاً طائلة، في أمور ما شرع لهم الإنفاق فيها، بل بعض ما ينفقون فيه أمور تخالف شرع الله، ترى بعضهم يخجل أن يقيم شعيرة الصلاة أمام الآخرين، بل يستحي أن يقول: هو مسلم، يخجل أن يقول: هو مؤمن، أو يخجل أن يقيم صلاته وغيره ينظر إليه، لماذا؟ لأنه لم يتمكن الإيمان من قلبه، ويرى أنه إذا فارق ديار الإسلام فلا التزام بصلاة، ولا التزام بأخلاق، ولا محافظة على كرامة، ولا قيام بالواجب.
فيا أخي المسلم:
اتق الله في نفسك، واتق الله فيمن يصحبك من زوجتك وأبنائك وبناتك، واتق الله في دينك، اتق الله في إسلامك.
أيتها الأخت المسلمة:
اتقي الله في دينك، اتقي الله في أخلاق إسلامك، الزمي الحجاب، فإنه عزك وشرفك، الزمي الحجاب وابتعدي عن مخالطة الرجال، وتمسكي بدينك، فإن ذلك عنوان صدق الإيمان.
يا أيها المسلم:
اتق الله، ولازم دين الإسلام، فوالله إنه العزة والكرامة، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]. مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
فيا أهل الإسلام:
عارٌ على المسلمين أن يكونوا في بلاد أعداء الإسلام متجردين من أخلاقهم وقيمهم، وفضائلهم وكرامتهم، عار على أهل الإسلام ذلك، الواجب على المسلم أن يكون قدوة صالحة، وأسوة حسنة، إذا رآه غير المسلمين رأوا فيه الخلق الكريم، والعمل الصالح، والاستقامة على دينه، والمحافظة عليه، والبعد عن كل أماكن السوء والفجور.
يا أيها المسلم:
اتق الله في إسلامك، إياك أن تغشى مجالس العقار، موائد القمار، وأماكن اللهو واللعب والباطل، وأماكن الفساد وسوء الأخلاق، الزم دينك، واحفظ إسلامك، واستقم عليه، لعل الله أن يمنَّ عليك بالثبات.
إن أيَّ مال تنفقه في أمر غير مشروع لك، فإنك آثمٌ بذلك، وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]. والتبذير حقيقته إنفاق المال فيما حرم الله، ولو كان يسيراً، فإذا أنفقت مالاً في غير ما أحل الله، أنفقته في الحرام، فأنت آثم بذلك.
فكن يا أخي المسلم داعياً إلى الله، بسيرتك وأخلاقك، بتعاملك، حتى تثبت للآخرين أن دين الإسلام هو الدين الحق، وهو الدين العدل، وهو الدين الصدق.
إن تخليك عن إسلامك، وعن أوامره ونواهيه دليل على انهزام شخصيتك، وضعف إيمانك، فاتق الله أخي المسلم، واستقم على الطاعة، لتكون من المؤمنين حقاً، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14].
فالمسلم في أي أرض الله، هو متمسك بدينه، ثابت عليه، لا يزداد مع رؤية المغريات إلا ثباتاً على دينه، وتمسكاً بهذا الإسلام، وشكراً لله على نعمة الهداية، إذا رأى ضلال من ضل، وانحطاط من انحطّ عن الأخلاق، ورأى تلك المجتمعات المنحلة في أخلاقها وقيمها، المُشبِهين لبهائم الأنعام، حمد الله على أن هداه للإسلام، ومنَّ عليه بالإسلام، وجعله مؤمناً حقاً.
فيا أخي المسلم:
أوصيك بالثبات على دينك، أوصيك بالاستقامة على هذا الدين، أوصيك بتقوى الله في سرك وعلانيتك، ليعلم الله منك حبّك للإسلام، ولزومك له، واستقامتك عليه، حتى تكون من المؤمنين حقاً.
زوَّد الله الجميع بالتقوى، وحفِظ الجميع من كل سوء، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، تتحدث الصحف أحياناً عن تقارير: ماذا ينفقه السائحون في هذه البلاد أو غيرها، ماذا ينفق السياح من أهل هذا البلد، أو ما ينفقه السياح من هذا البلد أو ما جاورها من البلاد الغنية، مقدار ما ينفقون في دول العالم الخارجي، وأنها تقدر أحياناً بما يزيد على عشرين مليار دولار، أي ما يقارب من ستين أو سبعين [مليار] ريال سعودي.
هذه الأموال ينفقها أبناء المسلمين إذا خرجوا عن ديار الإسلام للعالم الخارجي، ينفقونها بسخاء وطيب نفس، ربما حرموا أنفسهم وأولادهم بعض ملذاتهم، وجمعوا تلك الأموال لكي تكون منفقة خارج البلد في شهر أو شهرين معاً، ثم يرجع مفلساً فكأنه ما أنفق شيئاً، هذه الأموال تنفق بسخاء، وسواء كان المنفق لها غنياً، أو كان متوسط الحال، أو كان فقيراً.
المهم أنها أموال طائلة، تنفق بسخاء في تلك المجتمعات، وأهل تلك المجتمعات إذا رأوا من أبنائنا تلك النفقة المتجاوزة للحد، ماذا يقال عنا؟ يقال عنا أننا قوم لا نفقه ولا ندري، وليس للمال عندنا قدر أو قيمة، وإنما نحن أناس مترفون، ننفق أموالنا في كل أمر حسن أو سيئ، لا نبالي به.
هكذا يقال عنا، فلماذا لا يتعقل المسلمون؟ ولماذا لا يرجعون إلى أنفسهم، ويحاسبون أنفسهم، ما هذه النفقات الطائلة؟ لماذا؟! هل هي ضرورية أم غير ضرورية؟ لا والله، ليس كثير منها ضرورياً.
أعداء الإسلام، إذا نظموا السياحة لأنفسهم، وقضاء إجازاتهم، ترى نفقاتهم نفقات محدودة، بقدر ما يمكن، لا يمكن أن يجاوز حده في هذه النفقات، وإنما نفقاتهم على قدر حاجاتهم الضرورية، لأنهم يرون من السياحة تنقلاً واطلاعاً فقط، فترى النفقة محدودة إلى آخر سبيل، ولكن أبناء المسلمين يضيِّقون على أنفسهم في معظم عامهم، ويتعاون الرجل وامرأته، مدرسة ومدرس، وموظف وموظفة، يتعاونون لكي يجمعوا تلك الأموال، ثم تنفق في سبيل الشيطان.
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله في أنفسكم، وفي نفقاتكم، وفيما تأتون وتذرون، اتقوا الله في أنفسكم، واستقيموا على طاعة ربكم، واحرصوا أن تكونوا قدوة في الصبر، والأعمال الصالحة، لا قدوة في الإسراف، وقدوة في التبذير، وقدوة في إضاعة الأموال فيما لا يحل.
إن المسلمين لو عادوا إلى أنفسهم، لرأوا أن كثيراً من تصرفاتهم خاطئة جداً، ولا سيما في إنفاق الأموال، وإخراجها من بلاد الإسلام، وبذلها بالسخاء في سبيل الباطل، وفيما لا يحل للمسلمين أن ينفقوا فيه.
أسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في دنيه، والتبصر في الأحوال كلها، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا - رحمكم الله - أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا رحمكم الله...
(1/1779)
الانتفاضة وبشائر النصر
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
هيثم جواد الحداد
لندن
24/2/1422
المنتدى الإسلامي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض جرائم اليهود على أرض فلسطين. 2- الصراع بيننا وبين يهود ديني تأريخي حضاري. 3-معركة اليهود معنا متعددة الوسائل والأشكال. 4- كل مسلم معني بهذه المعركة. 5-مقتل الطفلة إيمان حجو إحدى جرائم اليهود. 6-معاصينا أحد أسباب الهزيمة. 7-صور من الجهاد يستطيعها كل مسلم. 8-بشائر النصر في الانتفاضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
فلقد تقرحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجري في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة على وجه العموم وفي ثالث المساجد التي تشد إليها الرحال والتي تضاعف فيها الصلاة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، طفل قتل بطريقة وحشية تفوق تلك الطريقة التي قتل بها محمد الدرة، لكن الله لم يشأ أن تصوره عدسات مصور، لم يتجاوز الثانية عشرة من عمرة يصاب في إحدى الواجهات فلا يستطيع الكر والفر، فيأتي وغد فيركله بقدمه ويطرحه أرضاً ويدوس بحذائه القذر على رقبته، والطفل يستغيث ثم ماذا؟ يصوب ذلك الحقير بندقيته على رأس الطفل ويتلذذ بإطلاق النار عليه، ليتشحط الطفل في دمائه البريئة، لينتقل إلى علييين ولتسيل دماؤه على ثرى فلسطين مسجلة شهادة على تخاذل الأمة، وهوانها.
مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال، بأيد قذرة،... محمد الدرة، قبل أشهر، والآن إيمان حجو ذات الأشهر الأربع، وغيرهم من لم يقدر الله عز وجل تسجيل أسمائهم في صفحات التاريخ، وما ضرهم ذلك، إذا كانوا عند الله من الخالدين..
لم يكفهم القتل، بل جاوزه إلى كل ما يهلك الحرث والنسل، كما هو دأبهم وديدنهم، صورة متعددة وآلام تصرع كل الجبابرة فضلاً عن الإنسان العادي.
أيها الإخوة، معاناة تصفها لنا إحدى الأمهات التي دمر بيتها "ثوان معدودة وتحول البيت وكل ما يحتويه من أثاث وملابس إلى كومة رماد, وأصبحت أنا وأطفالي بلا مأوى سوى من خيمة صغيرة نصبت لنا على قارعة الطريق لا تتسع لمكان جلوسنا، فكيف بها وقد أصبحت المكان الوحيد الذي يضمنا, وعليّ أن احتمل سبل الحياة البدائية, وأصبِّر زوجي وأطفالي حتى لا تتكرر الهجرة مرة ثانية ويضيع ما تبقى من أرضنا"
ثم تتابع قائلة " لقد اضطررت إلى توزيع أولادي وبناتي على بيوت أقاربي بالتناوب وخاصة أن إحدى بناتي تدرس في الصف الثالث الثانوي، وهي بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة لتذاكر دروسها وتنجح وان كنت لا ادري إلى متى سنبقى مشردين وموزعين على البيوت".
بهذه الكلمات وصفت سيدة حال أسرتها المكونة من 14 فرداً بعدما هدم جيش الاحتلال منزلها الواقع في منطقة المواصي واضطرت أسرتها إلى العيش في تلك الخيمة.
المراقبون يصفون ما يجري الآن بأنه حالة حرب حقيقية، حولت ما يسمى بمناطق السلطة الفلسطينية إلى ساحات قتال حقيقية، المدفعية الثقيلة تمطر حممها فوق رؤوس العزل، وطائرات الأباتشي تصب جام غضبها على الرضيع، والشيخ، والمرأة والعجوز، المجنزرة الحديدية تعارك الجسد البشري المجرد.
شهيد تلو شهيد، أرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أم، وأم خلف رضيع، ومنزل مهدم، وشيخ حزين، وعجوز بائسة، وإلى متى..؟؟؟
مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في ثنايا قلب كل مسلم، ملاحم تسطرها أشلاء الرجال، بألوان الدم القاني، وجماجم الشهداء.
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرةٌ تواقة لجنان الحور والعين
يا غيْرتي أين أنت أين معذرتي ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزة الإسلام من خلدي ما بالها لم تعد تغذو شراييني
أيها المؤمنون: الحديث عن الانتفاضة متشعب، طويل بطول هذه الانتفاضة، عميق في الجذور، بعمق هذه الانتفاضة، لكنه واجب كما هذه الانتفاضة واجبة.
إن كل نفس مؤمنة أبية حرة حق لها أن تتساءل إلى متى هذا الذل؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل نصرة لإخواننا الفلسطينيين, ومتى يأتي الوقت الذي يخلى بين المسلمين وعدوهم ليشفي الله صدور قوم مؤمنين.
هذه أحد أهم القضايا التي لا بد لأهل العلم والدعاة من التركيز عليها في مثل هذه الأيام المأساوية التي تعيش فيها الأمة بأسرها مخاضاً صعباً.
حتى تتضح الإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من بيان حقيقة الصراع بيننا وبين يهود أعداء الله، وأحفاد القردة والخنازير.
أيها الإخوة إن الصراع بيننا وبين يهود ديني تأريخي حضاري، متشعب، لا يحده زمان ولا مكان، ولا يتخذ طبيعة واحدة.
نعم أيها الإخوة هذه طبيعة الصراع، ليس الصراع صراعاً عسكرياً في مدة محدودة على أرض فلسطين، ما المعركة في أرض فلسطين، سواء التي تجري الآن، أو التي تجري من قبل سوى جزء صغير من هذا الصراع.
لا أدلّ على ذلك أيها الاخوة من إقرارنا بناء على استقراء الواقع، من أن يهود لا يحتلون أرضنا في فلسطين، بل في وقت من الأوقات سيطروا على أجزاء من البلاد العربية بصورة غير مباشرة قد تكون أقبح من الاحتلال العسكري، فمثلاً: كانت لهم سيطرة سياسية، اقتصادية، وبذلوا كل ما يستطيعون من أجل السيطرة الثقافية، وما لهثهم وراء التطبيع إلا جزء من إدارتهم لهذه المعركة التي أدركوا كنهها وجهلناه نحن.
إننا نعلم أن يهود يستخدمون كل ما يمكن استخدامه من أجل إدارة هذا الصراع لينتهي لصالحهم، خابوا وخسروا، إنهم جند من جند إبليس الذي ذكره الله عز وجل بقوله: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].
ألم يأمرنا الله عز وجل بالاستعاذة من شياطين الإنس والجن، إن شياطين الإنس متمثلين كل التمثل في هؤلاء اليهود، ألم تقل بروتوكلاتهم: علينا إغواء العالم بالنساء والخمر، والقمار واللهو، وإن لم يصح نسبة هذا إليهم فواقعم يشهد بذلك.
أيها الإخوة: من أسلحتهم في هذه المعركة كما هي أسلحة إبليس، الشهوات بأنواعها، المال، النساء، الخمور، اللعب، الإعلام، ما يسمى بالرياضة، الفن، كل هذه أسلحة من أسلحتهم.
أيها المؤمنون: وعليه، فلا بد لنا من إدارة هذه المعركة بطريقة تتناسب مع زمانها الممتد في عمق التاريخ، ومكانها الذي يتجاوز بقعة واحدة إلى نواحي الأرض كلها، في جميع بلاد العالم، بطريقة تتناسب مع طبيعتها التي تتناول جميع جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية وغيرها.
إن جنود هذه المعركة ليسوا هم الفلسطينيون وحدَهم، بل المسلمون، كل المسلمين، في جميع بقاع الأرض، في أرض الحرمين، وفي الجزائر، وفي مصر، وفي الشيشان، وفي أندونيسيا، وفي السودان، بل وفي بلاد أوروبا، وفي غيرها من بقاع العالم.
أنت أيها المسلم في هذا البلد جزء من هذا الصراع، نعم جزء من هذا الصراع، شئت أم أبيت، حتى ولم تكن على أرض فلسطين، بل حتى ولو لم تقل: إنك من الأصوليين، أو الإرهابيين، أو في أقل الأحوال من الإسلاميين، نعم يا أخي، كن من تكن، فأنا منك وأنت مني، وأنا وإياك جنود في هذه المعركة، حياتي حياتك، ونصرك نصري، وهزيمتنا هزيمة للأمة جميعاً.
أيها الأخ المبارك: لست أقول ذلك اعتباطاً، ولا حماساً، ولا أقول ذلك كي أقحمك في ما لا شأن لك به؟
ألست مسلماً؟ ألا تعبد الله؟ إذاً الشيطان عدوك، وأنت عدو للشيطان، ألم يقل هذا اللعين لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]. ألست تمتنع عن الزنا؟ عن الربا؟ ألست تحاول غض بصرك عن الحرام، ألست تحاول أداء الصلاة في أوقاتها؟ ألست تسجد لله وحده؟ إن هذا كله يغيظ عدوك اللدود الشيطان الرجيم، أليس الشيطان من جند إبليس؟
ألا يتقطع قلبك حينما يتلى عليك هذا الوصف لجنازة الطفلة إيمان حجو؟
(كانت إيمان ترقد في كفنها الصغير في بيتها في مخيم دير البلح تعلو قسمات وجهها نصف صرخة لم تكتمل بعد، في الكفن كانت صغيرة وآثار شظايا القذيفة التي قتلتها واضحة للغاية، لم يأخذ جسدها الغض من النعش سوى مساحة صغيرة في وسط تلك الأكفان البيضاء النقية بنقاء من تحمل).
جاء أطفال المخيم، أمس تركوا مدارسهم وألعابهم واصطفوا في طابور طويل لا لكي يداعبوها ولكن لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة وهي تستعد لرحلة الجنة.
أطفال صغار بعمر الورد هتفوا لإيمان التي قتلتها قذيفة إرهابية صهيونية وهي في حضن أمها, جاء الأطفال لوداعها وهم لا يعرفون معنى الموت، والقذائف والدبابات التي تحاصر مخيماتهم وتحيل السعادة إلى حزن كبير.
توقفوا أمامها في فناء المنزل محدقين في وجهها الصغير، بعضهم سالت دموعهم غزيرة وآخرون ارتجفوا من هول المشهد، بينما انحنى بعضهم وطبعوا على جبينها الغض قبلة بريئة ومضوا يكفكفون دموعهم, جاءت جدتها (أم والدتها) وربتت بكفيها على رأسها وقبلتها , نظر الرجال فهالهم المشهد وبكوا بصمت أفسح المدى لصيحات الأطفال مكبرة في الخارج: الله أكبر الله أكبر.
إيمان هي بكر والديها، طالما حلما كما يحلم كل عروسين رزقا بمولوة تملء حياتهم مرحاً وسرورا بأن يرياها عروساً تزف إلى عريسها وسط الزغاريد، ولكنه اليوم يودعها رضيعة حتى قبل أن تنطق بكلمة (بابا).
كان الأب يكتم أزيزاً في صدره، لم تكتمه الدموع التي لم تفارق عينيه، وعند رأسها توقف قليلاً قبل أن يخر باكياً على وجهها قبل أن يلثمها بعشرات القبل لآخر مرة وقال باكياً: إن استشهاد ابنتي هدية لكل العرب، وأضاف ساخراً: كانت تحمل قنابل ومدافع وصواريخ ضد إسرائيل، لهذا قتلها جيش الإرهابي شارون.
وأضاف أن العدو الصهيوني دمر أسرتي بقتل ابنتي وجرح زوجتي، وأنا مازلت أعاني من جراحي برصاصة صهيونية غادرة بانتظار عمليات جراحية أخرى.
تواصلت مراسم الوداع الاخيرة وانتظر آلاف الرجال والنساء في أزقة المخيم تحت حرارة الشمس للمشاركة في تشيع جثمانها. حضر الأطفال واصطفوا ثم حملوها على أكتافهم تماماً مثل الرجال وهتفوا: "بالروح بالدم نفديك يا شهيد" وأخذ أحد الأطفال يبكي وهو يحتضن صورة لإيمان ويقول: شارون قتل إيمان وغداً نلتقي في الجنة , وهتف مئات الأطفال: يا شارون يا سفاح ليش تقتل الأطفال".
نظر كثيرون في وجوه عشرات الأطفال الذين لم ينتعل بعضهم أحذيته فشاهدوا مسحة الحزن الذي تسلل بوضوح من أعينهم الصغيرة وصرخ شاب: من سيكون الضحية القادمة من بين الأطفال؟
بغي ُ الطغاة ِ وذل ٌ منْ ذوي الرحمِ أحل ّ سفكَ دمي في الأشهر الحرم ِ
يا نادب الحظ أقصرْ والتمس عوضاً إن ّ الأماني َ طوع ُ السيف ِ والقلم ِ
لولا العزائم ُ ما سادت بها أمم ٌ بالعز ترفل ُ لا بالعجز والسقم
الله أكبر ما كانت لذي َوهن ٍ ولا تأتت لذي خور ٍ وذي صمم ِ
يهتز منها طغاة الأرض إن برقت فوق َ السيوف بأيد ٍ حرة ٍ وفم
عذراً إليك صلاح الدين في رهط ولو تولوك وانتسبوا لمعتصم ِ
أيها المؤمنون: ألا تتحرك مشاعركم لهذه المشاهد، إن تحرك مشاعركم دليل على أنكم خضتم المعركة من حيث لا تدرون.
وعليه، فإني أختصر عليك الجواب أيها الأخ وأقول لك: إن اقترابك من الله بأداء ما افترضه عليك اقتراب من النصر، وإن ابتعادك عن الله باقتراف ما حرمه عليك ابتعاد عن النصر، ولأنك جزء من جسد هذه الأمة، وجندي في معسكرها، وواحد من قواتها، فإني أقول لك: لا بد أن تدرك أن اقترابك من النصر إنما هو زحف من قبل الأمة كلها نحو النصر، وأن ابتعادك عن الله إنما هو نكوص من قبل هذه الأمة نحو الهزيمة.
هل تعلم أيها الإخ المبارك أن كل معصية تقترفها إنما هي طعنة نجلاء توجهها نحو جيشك المرابط في ساحة المعركة، لتزيده وهناً وتقوي شوكة العدو عليه.
ألم تقرأ قول الله عز وجل: أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165].
ألم تسمع إلى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة).
ألا تقرأ قول الله عز وجل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لاْشْهَـ?دُ [غافر:51].
أيها الأخ المبارك: ولا بد لنا أن نقول إنك على ثغر من ثغور هذا الرباط، فكل ما تقدمه يمثل نوعاً من أنواع الرباط، وصوراً من صور القتال، وإعداداً للمواجهة الكبرى.
قل لي بربك: ألست قادراً على بذل شيء ولو يسير من أموالك لتدعم به إخوانك المرابطين هناك، ألست قادراً على اقتطاع شيء ولو من مصروف أولادك الذين يتمتعون بأكل الحلويات هنا، لإنقاذ حياة أطفال يأكلون الثرى، ويلعقون الحنظل، ويكرون ولا يفرون أمام مجنزرات العدو ودبابته وأسلحته الخفيف منها والثقيل.
إن تربيتك لأبنائك ليكونوا أناساً صالحين، وإعدادك لهم حتى يكونوا جنود المستقبل جزء من الصراع في هذه الملحمة.
امتناعك عن أكل الربا مع بعض صوره المحببة إلى النفس، وكفك عن النظر المحرم الذي يشق على النفس لا سيما في هذه البلاد ومع هذه الأجواء، وسعيك نحو الله، كل هذا كثير يمكن أن تفعله، في أي زمان ومكان.
أيها الإخوة: لا يأتينكم الشيطان فيقول لأحدكم: شبعنا من الكلام، ولا حاجة له، نريد أفعالاً، وهذا حق، لكنه يريد أن يتوصل به إلى باطل، ألا وهو الإلقاء بك في أغلال الحسرات والآهات، ولوم الآخرين، فلا أنت تكلمت، ولا استمعت إلى كلام، ولا أنت فعلت.
أيها المؤمنون: لا يأتينا الشيطان فيصور لنا أن الفعل يقتصر على الخروج للجهاد في أرض فلسطين فقط، ويهون كل ما عداه، حتى يصور أن من لم يذهب إلى الجهاد فكأنه لم يعمل شيئا، لا وألف لا.
إن هذه الخدعة تنطوي على من لم يفهم طبيعة هذه المعركة وحقيقة هذه الملحمة، نعم إن الجود بالنفس هو أسمى غاية الجود، لكن من لم يستطعه فلا يعني هذه أنه عاجز عن تقديم أي شيء.
لقد ذكرنا أن المال يمكن أن يقدم، والله عز وجل قدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في بعض المواطن قال الله عز وجل: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَأُخْرَى? تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ?للَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينََ [الصف:10-13].
هذا نوع من الجهاد كذلك، وهناك أنواع أخرى كثيرة، الكاتب يجاهد بقلمه، والمتحدث بكلامه، بل ومهندس الحاسب الآلي بآلته، ربة البيت في بيتها وتربيت أبنائها على الصلاح والتقى، الكل له جهاده.
أيها الأخ: ها قد وضح لك الجواب، فلا بعد إلا العمل، وترك القعود.
أمة الإسلام:
بعد هذا البيان المتقدم لطبيعة هذه المعركة، وماهو دورنا تجاه ما يجري، يبرز هنا سؤال آخر؟
متى النصر، وربما يقول قائل: هل من سبيل إلى النصر، أم هي هزائم متلاحقة؟ ومتى ننتقل إلى النصر؟
أيها المؤمنون: هذا سؤال كبير تحتاج إجابته إلى وقفات طويلة، ومحاور عديدة، لكني هنا أريد أن أضع نقاط على بعض الحروف التي لا تقرأ بدونها؟
إن معركة بهذه الشراسة، وهذا الامتداد التاريخي، لا يكون النصر فيها محدوداً بزمان أو مكان أو صورة من الصور.
نعم أيها الإخوة لا زلنا نعيش صوراً متتالية متتابعة من الهزائم، لكننا منذ فترة، وبعد أن أطلت علينا هذه الصحوة المباركة بظلالها، حولنا بعض هزائمنا لانتصارات لا يتسع المجال لذكرها.
لكنني هنا سأقتصر على الانتصارات التي حققتها هذه الانتفاضة المباركة، والتي هي امتداد لهذه الصحوة العارمة التي جاوزت الأغلال والحدود الزمانية والمكانية.
أيها الإخوة لقد قلبت هذه الانتفاضة صوراً من الهزائم إلى انتصارات مشرفة.
إن إبراز هذه الانتصارات أمر في غاية الأهمية، لأمور:
أولها: إن عدم إدراكنا لها،يصورنا ويصور هذه الدماء التي سالت وما زالت تسيل، وهذه الأشلاء التي مزقت وما زالت تمزق، يصورها كأنها تضيع هباء منثوراً، وهنا يأتي المثبطون فيقولون: لا داعي لضياع هذه الأرواح البريئة، وهذه الممتلكات الثمينة بدون مقابل.
ثانياً: إن شعورنا بعدم تحقيق أي نوع من أنواع النصر، يصيبنا بالإحباط، والإحباط أيها الإخوة هو أكبر عائق لبني البشر عن التقدم إلى الأمام ولو خطوة واحدة.
ثالثا: إن معرفة طبيعة انتصاراتنا التي حققناها يزيدنا تمسكاً بل حماساً في المضي إلى الأمام، بل إن له أثراً كبيراً على هزيمة عدونا النفسية قبل العسكرية.
رابعا: إن هذه المعرفة تبصرنا بمواطن قوتنا فنزيد منها، ومواطن إخفاقنا فنتجنبها، ونتجنب الصراع حولها ريثما نصحح فيها مسيرة الجيش.
أيها الإخوة: إن الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية أسوء مراحل الهزيمة، كم من جيش هزم في المعركة العسكرية لكنه قلب هزيمته نصراً، لأن نفوس أبنائه ما زالت مستعلية منتصرة.
وعليه فلا بد لنا في حديثنا ومجالسنا وكتاباتنا وأدبياتنا بل وحتى حديثنا مع أنفسنا ومع أبنائنا أن يكون لنا إيمان عميق بهذه الانتصارات التي حققناها وما زلنا نحققها، وبعد هذه الإيمان بها لا بد من إبرازها للعيان.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
أيها المؤمنون: الحديث حول بشائر النصر يطول، وحتى لا تأخذني نشوة هذه الانتصارات والحديث عنها فأتجاوز حدود الوقت، سأقتصر على واحد فقط من بشائر هذا النصر من خلال هذه الانتفاضة المباركة
أمة الإسلام: وحتى لا يكون الكلام مجرد حماس أجوف ليس له رصيد من الواقع، أو لا يكون من قبيل قلب الحقائق أو تزوير التاريخ، فإني سأحاول إبراز الأدلة الواقعية على كل سيأتي:
أولاً: حب الموت، واسترخاص الدنيا، والاستعلاء على خور النفس، وتحطيم رهبة العدو في النفوس.
أيها الإخوة، إن حب الدنيا وكراهية الموت، هي من أهم أساب هزيمة أي أمة من الأمم، وهي سبب هزيمة الأمة المسلمة في كثير من عصورها.
قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في حديث الإمام أحمد وأبي داود عن ثوبان رضي الله عنه: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله ! فمن قلة يومئذ؟ قال : لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت)) [1].
لقد انتصر الفلسطينيون على حب الدنيا وكراهية الموت، وهذه نقلة كبيرة في حياتهم، تجعلهم يطرقون أبواب النصر بإذن الله.
الشواهد على استعلاء الفلسطينين على حب الدنيا وكراهيتهم للموت، بل الشواهد على حبهم للموت أصبحت أكثر من أن تحصى.
في مثل هذه الأيام أي قبل ثلاث وخمسين سنة، وفي هذا الشهر، الذي سموه شهر النكبة، كانت قوات العدو تمارس أبشع المجازر وأفظعها، وتتلذذ بقتل الرجال والنساء على حد سواء، مما ذكرنا بعض صوره في مذبحة دير ياسين، لكني هنا أذكر شواهد أخرى لم يعرفها إلا القليل من الناس.
إحدى المجازر التي ارتكبتها عصابات اليهود، تدعى مجزرة الطنطورة قام بها الجنود الصهاينة [2] ، لم يكشف عنها إلا مؤخراً، ارتكب اليهود مجزرة تشبه مجزرة دير ياسين، حيث قتلوا أكثر من 200 فلسطني بدم بارد - كما يقال -، يروي أحد شهود العيان الذي حضر هذه المجزرة وقد طعن في السن الآن بأن الجنود اليهود بعد أن جمعوهم في مكان واحد، كانوا يأخذونهم عشرة، عشرة، ويطلقون النار عليهم، ثم يأمرون أصحابهم بتنظيف المكان ليذبحوا العشرة التالين وهكذا.
قال بعض الرواة في هذه القرية: حاصروا بعض الرجال في المقبرة وأمروهم بحفر الحفر حتى إذا قاربوا من الانتهاء من حفرها أطلقوا على النار ليقبروهم فيها وبعض الباقين يتفرج، لدرجة أن بعض الجنود كان يضحك ويقول لصاحبه: انظر إلى هؤلاء الحمقى يحفرون قبورهم بأيديهم.
راو آخر يقول: كان لي أخوان يحضران هذه المذبحة، علموا أن الدور سيأتيهم فتعانقا قبل الذبح.
شاهد آخر يقول: اقتادوا مجموعة من الناس كان فيهم فتاة جميلة لا تتجاوز السبعة عشر عاماً أخذها أربعة من الجنود، حاول عمها الدفاع عنها لكنهم أجهزوا عليه، ثم يقول الراوي عن الفتاة التي يعرفها، لا أعرف بعد ذلك إلا أنها لم تتزوج في حياتها أبداً.
كرامة الأمة العصماء قد ذبحت وغيبت تحت أطباقٍ من الطين
لكنّها سوف تحيا من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايينِ
قارن هذه المشاهد بما يحدث الآن:
نشرت جريد الحياة [3] قبل أشهر والانتفاضة على أشدها، عن سامي سكر أحد الفلسطينين الذي يعيشون في إحدى قرى الضفة الغربية أنه يحاول الانتقال بأولاده الثلاثة إلى عمان، وكان سبب طلب انتقاله عجيباً غريباً، فليس طلبه ذلك خوفاً على نفسه من الموت لأجل الرعب الذي دب في قلبه.
لا، لقد أصيب ابنه الأكبر ثائر في عيار ناري في قدمه، ثم أصيب ابنه الأصغر، ثم الثالث الذي يبلغ من العمر عشر سنوات بعيار مطاطي في قدمه، وما إن تماثل الأكبر للشفاء حتى عاود محاولة رشق الجنود بالحجارة مرة أخرى، تقول والدتهم: لا نتستطيع أن نثينهم عن الخروج، لما سمعوا أن الذي يموت في المواجهات مع اليهود يموت شهيداً فهم يطلبون الشهادة منذ ذلك الحين، وفقدنا السيطرة عليهم.
الله أكبر أيها المؤمنون بهؤلاء الفتية وبهذه الدماء تقرع الأمم أبواب النصر.
هتف الجهاد بإخوتي فمضوا بلا استئذاني
سأعيد أرضي بالدم القاني وبالنيراني
والله لن يطأوا الثرى إلا على جثماني
صورة أخرى فتاة مقدسية تتلقى تعليمها في دار الحديث في المسجد المقدسي، تدفع نعمة بصرها ثمنا لرفضها خلع خمارها بطلب من جنود الاحتلال.
استوقفها ثلاثة جنود، بعد ذلك قال لها أحدهم: اخلعي الخمار عن وجهك الآن، فرفضت، قالت: فمد يده بقوة ومزقه عن وجهي، وفوراً بصقت في وجهه، وأضافت تقول في تلك اللحظة: انهال الجنود عليّ وضربوني بأعقاب البنادق على رأسي فقدت الوعي وصحوت لأجد إلى جانبي مجموعة من الأطفال الصغار يرشون الماء على وجهي وعدت إلى البيت.
بهذه الكلمات تروي الفتاة شفاء تيسير الهندي من بلدة الجديرة المقدسية تروي قصتها مع نازية جنود الاحتلال في القدس المحتلة، وتكون النتيجة أنها تفقد بصرها، لنبشرها بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما في جامع الترمذي عن أبي هريرة: ((يقول الله تعإلى: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة)) [4] فكيف بالله عليكم، وقد أصابها ما أصابها ثمناً للدفاع عن كرامة أمتها ودينها.
أصدرت محكمة عسكرية إسرائيلية حكماً بالسجن لمدة ستة سنوات ونصف بحق أصغر أسيرة فلسطينية في السجون الإسرائيلية وهي سعاد حلمي غزال من بلدة سبسطية قضاء نابلس والبالغة من العمر 17 عاماً.
وكانت قوات الاحتلال قد اعتقلت تلك الفتة قبل سنتين [5] على خلفية محاولة طعن مستوطنة إسرائيلية، وتم اعتقالها ونقلها إلى مركز التوقيف حيث تعرضت هناك لتعذيب شديد رغم صغر سنها إذ لم تكن تتجاوز في حينه 15 عاماً.
وأكدت مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان أنه وفور صدور الحكم بحق الأسيرة غزال رفعت نسخة من القرآن الكريم عالياً وهتفت ضد المحكمة الإسرائيلية قائلة " الحكم لله والبقاء لله، وسوف ينتقم الله منكم " وقامت بتحقير قضاة المحكمة والبصق عليهم [6].
الله أكبر والحمد لله أنها لم تستغث بأحد من رؤسائنا فقد علمت كيف سيكون الجواب.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أألقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمْسك المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عاتبًا ببقايا كبرياءِ الألمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظلِّ الحرمِ
كيف أغضيتِ على الذلِّ ولم تنفضي عنك غبار التهم
أو ما كنت إذا البغيُ اعتدى موجةٌ من لَهَبٍ أو من دميِ
اسمعي نوحَ الحزانا واطرَبي وانظريِ دمع اليتامى وابسمي
رُبَّ وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تُلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحملُ طهر الصنم
لا يلامُ الذئبُ في عدوان إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
أيها الإخوة:
من كان يصدق أن ينفجر الغضب الفلسطيني علي النحو الذي رأيناه في القدس ورام الله وابلس وغزة , وأن يخرج ألوف الشباب بالحجارة , متحدين المجنزرات والصواريخ والرشاشات الإسرائيلية.
أيها المؤمنون: إن الرد علي الحجارة بالصواريخ ليس علامة قوة , وحشد أرتال الجنود أمام المصلين في المسجد الأقصي تأكيد للهشاشة والضعف. ودخول شارون إلى الحرم الشريف في حراسة ثلاثة آلاف جندي هو إعلان رسمي عن الخوف. واستخدام عشرات القناصة المتمرسين وراء الجدران العالية دليل علي العجز عن المواجهة.
إن الخلل في ميزان القوة العسكرية بين العرب وإسرائيل وهم كبير , تخلص منه أولئك الشبان الشجعان في الأرض المحتلة وجنوب لبنان , لذلك فإنهم لم ينهزموا قط , وإنما ثبتوا وصمدوا حينا وانتصروا في حين آخر , وظلوا مرفوعي الرأس دائما ً. ولا خشية علي هؤلاء , وإنما الخشية كل الخشية علي عناصر النخبة الذين عجز أكثرهم حتى الآن عن إدراك الحقيقة , ولايزالون أسرى الأسطورة الزائفة.
لولا الحجارة في أيد ٍ تلت قسماً وايم ُ اللهِ من قسم ِ
لقلت ُ ضاعت وكانت أخت أندلس يوم استبيحت وكانت أول َّ الذمم ِ
قبضاً على الجمر يا أبطالها ولكم في الله عون لا من أمة هرم
والفجر آذن بالإبلاج ِ من ظلم ٍ والنصر وعد ٌ وحق الوعد ُ في الكلم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران139-142].
وَلاَ تَهِنُواْ فِى ?بْتِغَاء ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104].
أيها الفلسطينيون:
يا أيها الأسد الكواسر أبشروا النصر لاح مع الصباح فكبروا
لبيك إسلامنا إنا هنا فلتفدك الأرواح منا والدماء
أيها المؤمنون: كما ذكرنا من قبل: بواشر النصر كثيرة، وشواهدها أكثر، لكن ضيق الوقت يمنعنا من الإتيان عليها في هذه العجالة، وإن كتب الله في العمر بقية أتمممناها لاحقاً.
[1] رواه أحمد وأبو داود، وانظره في صحيح الجامع للألباني رقم: 8183.
[2] كشف النقاب عنها بحث ميداني للحصول على درجة الماجستير من جامعة حيفا قام به يهودي يدعى ثيودور كاتس.
[3] عددها الصادر يوم الأحد 15 شعبان 1421 نوفمبر 2000 أي في قلب الانتفاضة.
[4] (صحيح) انظر الحديث رقم: 8140 في صحيح الجامع.
[5] بتاريخ 13/12/1998 مستوطنة " شافي شمرون " سالم " القريبة من مدينة جنين
[6] فلسطين – خاص : 7-11-2000م.
(1/1780)
عقبات في طريق الزواج
فقه
النكاح
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
8/4/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ مكانة الزواج وأسراره وفوائده. 2 ـ الزواج من سنن المرسلين. 3 ـ مشكلات الزواج.
4 ـ تيسير أمور الزواج. 5 ـ الظاهرة الأولى: ظاهرة العنوسة، أسبابها وعواقبها.
6 ـ الظاهرة الثانية: عضل النساء. 7 ـ الظاهرة الثالثة: غلاء المهور.
8 ـ الظاهرة الرابعة: الإسراف والتبذير. 9 ـ الظاهرة الخامسة: منكرات الأفراح.
10 ـ الإشارة الأخيرة: نصائح للعروسين وأقاربهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فإنها أعظم الوصايا درّا، وأنعِم بها عدَّة وذخرًا.
أيها المسلمون:
لقد اقتضت حكمة الحكيم الخبير سبحانه حفظ النوع البشري، وبقاء النسل الإنساني، إعمارا لهذا الكون الدنيوي، وإصلاحا لهذا الكوكب الأرضي.
فشرع بحكمته وهو أحكم الحاكمين ما ينظم العلاقات بين الجنسين الذكر والأنثى، فشرع الزواج بحِكَمه وأحكامه، ومقاصده وآدابه، إذ الزواج ضرورة اجتماعية لبناء الحياة، وتكوين الأسر والبيوتات، وتنظيم أقوى الوشائج وأوثق العلاقات، واستقامة الحال، وهدوء البال، وراحة الضمير، وأنس المصير، كما أنه أمر تقتضيه الفطرة، قبل أن تحث عليه الشرعة، وتتطلبه الطباع السليمة والفطر المستقيمة، إنه حصانة وابتهاج، وسكن وأنس واندماج، كم خفَّف همًّا، وكم أذهب غمًا، به تتعارف القبائل، وتقوى الأواصر، فيه الراحة النفسية، والطمأنينة القلبية، والتعاون على أعباء الحياة الاجتماعية، ويكفيه أنه آية من آيات الله، الدالة على حكمته، والداعية إلى التفكر في عظيم خلقه وبديع صنعه، وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
وفي الحديث عن النبي : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) خرَّجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه [1].
ويقول : ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) خرَّجه أبو داود والنسائي وغيرهما [2].
الزواج من سنن المرسلين، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد: 38]، يقول عمر لقبيصة رضي الله عنهما: (ما يمنعك عن الزواج إلا عجز أو فجور) [3] ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، ولي طول على النكاح لتزوجت، كراهية أن ألقى الله عزبًا) [4] ، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام" [5].
معاشر المسلمين والمسلمات:
إذا كانت هذه شذرة في مكانة الزواج وآثاره، وتلك بعض حكمه وأسراره، فما بال كثير من الناس يشكو ويتبرم؟! وما بال المشكلات الاجتماعية تزداد وتتفاقم؟! والأدواء الأسرية تكثر وتتعاظم؟! حتى لقد أضحى أمر الزواج من كونه قضية شرعية وضرورة بشرية إلى مشكلة اجتماعية خطيرة، من حيث ما أحدث فيه مما لا يمتّ إليه بصلة، ولا يرتبط به شرعًا ولا عقلاً.
لقد كثر الحديث عن مشكلات الزواج، وطفحت فيه الكتابات والمقالات، وبُحّت حناجر الغيورين على مجتمعهم من التحذير مما يصاحب كثيرًا من الزيجات [6] من المشكلات والتعقيدات، بله المحرمات والمخالفات، ناهيكم عن الطقوس والشكليات، والتفاخر والمباهاة، والإغراق في الكماليات.
إخوة الإسلام:
ولما كانت هذه المشكلة من صميم الحياة الاجتماعية، وتتعلق بحياة كل فرد وأسرة في المجتمع على مختلف الظروف والمستويات، وحيث إنها كذلك لا تزال موجودة متجددة، تتقدم الأعوام وتزداد العراقيل، وتمضي السنوات وتكثر العقبات، وكأن الطرق قد سدت أمام الراغبين في الزواج، والحواجز قد وضعت في طريقهم، والعوائق تنوعت وتعددت في دروبهم، حتى ظهر الحال بمنظر ينذر بخطر العواقب وسوء المنقلب، وحتى غدت قضايا الزواج ملحة تحتاج لعلاج فوري، وتَصَدٍّ جدِّي من المسلمين جميعًا، لا سيما من ذوي المسؤولية ودعاة الإصلاح.
لذا كان لا بد من طرحها بإلحاح، قيامًا بالواجب الإسلامي، وشعورًا بمأساة كثير من الشباب العاجزين عن الزواج، والفتيات العوانس في البيوت، الذين أصبحت تكاليف الزواج تمثل شبحًا مخيفًا لهم، وعقبة كَأْدَاءَ في حياتهم، وهم لا يزالون يصطلون [7] بنار الشهوة، ويكتوون بلظاها، ويئنُّون من لأوائها.
إخوة العقيدة:
لقد أبانت شريعتنا الغراء، المنهج الواضح في هذه القضية المهمة، فقد جاءت بتيسير أمور الزواج والحث على الاقتصاد فيه، روى الإمام أحمد رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)) [8] ، فالذين يخالفون هذا المنهج بالتأخير والتسويف، والإثقال والتعقيد، إنما يخالفون شرع الله، وسنة رسوله القولية والفعلية.
وأستميحكم ـ يا رعاكم الله ـ أن أشير إشارات عاجلة إلى بعض الظواهر في هذه القضية المهمة، مع عدد من المشكلات والعقبات في طريق الزواج، مع إلماحة يسيرة إلى آثارها السيئة على الفرد والمجتمع، وبيان المنهج السليم والعلاج القويم، علَّها تجد آذانا صاغية، وقلوبًا واعية، وعلَّ فيها تشخيصًا للداء، ووصفًا للدواء، ومن الله أستلهم العون والتوفيق:
الظاهرة الأولى: وهي أول هذه المشكلات، ألا وهي ظاهرة العنوسة، وعزوف كثير من الشباب من الجنسين عن الزواج، بتعلقهم بآمال وأحلام، وخيالات وأوهام، وطموحات ومثاليات، هي في الحقيقة من الشيطان، فبعضهم يتعلق بحجة إكمال السلم التعليمي مثلاً، زاعمين أن الزواج يحول بينهم وبين ما يرومون من مواصلة التحصيل، وتلك شبهة واهية، فمتى كان الزواج عائقًا عن التحصيل العلمي؟! بل لقد ثبت بالتجربة والواقع أن الزواج الموفق يعين على تفرغ الذهن، وصفاء النفس، وراحة الفكر، وأنس الخاطر، ثم ونقولها بصراحة: ماذا تنفع المرأةَ بالذات شهاداتها إذا بقيت عانسًا قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيِّمًا لم تسعد في حياتها بزوج وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة، وذخرًا لها بعد الوفاة، وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها، لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، ولكن "ليتَ وهل ينفع شيئًا ليتُ؟!" [9] ، فدالها داؤها، وكم هي الصيحات والزفرات الحرَّاء التي أطلقت من المجربات، فأين المتعقلات؟!
إن هذه المشكلة ومثيلاتها مردّها إلى غبش في التصور، وخلل في التفكير، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها إفراز ضعف المعتقد، وقلة الديانة، والخلل في الموازين، وسوء الفهم لأحكام الشريعة، إنه النظر المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مبرر له، والاعتماد على المناصب والماديات، والتعلق بالوظائف والشهادات، وتأمين فرص العمل زعموا، مما يزعزع الثقة بالله، والرضا بقضائه، ويضعف النظر المتبصر، والفكر المتعقل.
إن حقًا على الشباب والفتيات أن يبادروا عمليًا إلى الزواج متى ما تيسر لهم أمره، وأن لا يتعلقوا بأمور مثالية، تكون حجر عثرة بينهم وبين ما ينشدون من سعادة وفلاح، ويقصدون من خير ونجاح، وأن لا يتذرعوا بما يسمونه تأمين المستقبل، فالله عز وجل يقول: وَأَنْكِحُواْ ?لأَيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]، وصديق هذه الأمة رضي الله عنه يقول: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى) [10] ، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح) [11].
أمة الإسلام:
إن ظاهرة العنوسة في المجتمع، وعزوف كثير من الشباب من الذكور والإناث عن الزواج له مضاره الخطيرة، وعواقبه الوخيمة على الأمة بأسرها، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه أسباب الفتن، وتوفرت فيه السبل المنحرفة لقضاء الشهوة، فلا عاصم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة، والفساد الأخلاقي إلا التحصن بالزواج الشرعي.
فالقضية ـ أيها الغيورون ـ قضية فضيلة أو رذيلة، ومن المؤسف أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين والأربعين، وهو لم يفكر بعد في موضوع الزواج، وما انفتحت أبواب الفساد إلا لما وضعت العراقيل أمام الراغبين في الزواج، بل لم ينتشر الانحلال والدعارة وما وراء ذلك وقبله من المعاكسات والمغازلات والعلاقات المشبوهة والسفر إلى بيئات موبوءة, ومستنقعات محمومة إلا بسبب تعقيد أمور الزواج، لا سيما مع غلبة ما يخدش الفضيلة، ويقضي على العفة والحياء، مما يُرى ويُقرأ ويُسمع، مع ألوان الفساد الذي قذفت به المدنية الحديثة، وحدِّث ولا كرامة عما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية التي تفجر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتوَجَّه ضد قيم الأمة وأخلاقها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إخوة الإيمان:
وهذه إشارة ثانية إلى مشكلة أخرى، وعقبة كَأْدَاءَ، ألا وهي عضل النساء [12] من زواج الأَكفاء، والرسول يقول: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) خرَّجه الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح [13].
فهناك بعض الأولياء ـ هداهم الله ـ قد خانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم وفتياتهم، بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، عن وظيفته، عن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته.
بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته الحرة المسلمة الكريمة سلعة للمزايدة، وتجارة للمساومة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضل وظلم وخيانة، وقد تكون مدرِّسة أو موظفة فيطمع في مرتبها، فأين الرحمة في هؤلاء الأولياء؟! كيف لا يفكرون بالعواقب؟! أيسرُّهم أن يسمعوا الأخبار المفجعة عن بناتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟! يا سبحان الله، كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد في بيته إلى ما شاء الله، ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين [14] ، وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله يزوج تلميذه أبا وداعة [15] ، وهذا ديدن السلف في عصورهم الزاهية.
إن تضييق فرص الزواج علّة خراب الديار، به تُقضّ المضاجع، وبه تكون الديار بلاقع [16] ، وبه يقتل العفاف وتوأد الفضائل، وتسود الرذائل، وتهتك الحرمات، وتنتشر الخبائث والسوآت.
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله فيمن تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الخُطَّاب الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، ((إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
وعضل النساء ورَدُّ الأكفاء فيه جناية على النفس، وعلى الفتاة، وعلى الخاطب، وعلى المجتمع برمّته، والمعيار كفاءة الدين، وكرم العنصر، وطيب الأرومة [17] ، وزكاء المعدن، وسلامة المحضن، وحسن المنبت، وصدق التوجه.
أوصى بعض الحكماء بنيه عند الزواج فقال: "يا بَنِيَّ، لا يحملنكم جمال النساء عن صراحة النسب، وكرم العنصر، فإن المناكح الكريمة مدارج الشرف"، وأبلغ من ذلك قول المصطفى : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [18].
فيا أيها الأولياء، اتقوا الله عز وجل في مسؤولياتكم.
أمة الخير والفضيلة:
وإشارة ثالثة إلى مشكلة من المشكلات المستعصية، ألا وهي مشكلة غلاء المهور والمبالغة في الصداق في بعض الأوساط، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور الشاقة والمستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهلَ الزوج.
ويؤسف كلَّ غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهرًا باهظًا من أناس يعلم الله حالهم، لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله، ءَإلى هذا المستوى بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟! وكيف تعرض المرأة المسلمة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟! حتى غدت كثيرات مخدرات في البيوت، حبيسات في المنازل، بسبب ذلك التعنت، والتصرف الأرعن [19].
إن المهر في الزواج ـ يا عباد الله ـ وسيلة لا غاية، وإن المغالاة فيه لها آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات، لا تخفى على العقلاء من تعطيل الزواج، أو الزواج من مجتمعات أخرى، مخالفة للمجتمعات المحافظة، مما له عواقب وخيمة، فربّ لذة ساعة تعقبها حسرات إلى قيام الساعة.
ولم يقف الجشع ببعض الناس عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أبعد من ذلك مما هو خروج عن منهج السلف الصالح رحمهم الله، يقول الفاروق رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، لكان النبي أولاكم بها؛ لم يصدق امرأة من نسائه ولم تُصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية) [20] ، ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على مائة وعشرين ريالاً فقط، وقد زوج المصطفى رجلاً بما معه من القرآن [21] ، وقال لآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) [22] ، وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواه من ذهب [23] ، وقد أنكر على المغالين في المهور، فقد جاءه رجل يسأله فقال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأة على أربع أواق من الفضة ـ يعني مائة وستين درهمًا ـ فقال النبي : ((أوّه، على أربع أواق من الفضة؟!! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك)) [24].
الله المستعان، كيف بحال المغالين اليوم؟! أما علم أولئك أنهم مسؤولون أمام الله عن أماناتهم ورعاياهم؟! هل نزعت الرحمة من قلوبهم والعياذ بالله؟!
أمة الإسلام:
وإشارة رابعة إلى مشكلة المشكلات في موضوع الزواج، ألا وهي ما أحيطت به بعض الزيجات من تكاليف باهظة، ونفقات مذهلة، وعادات اجتماعية فرضها كثير من الناس على أنفسهم، تقليدًا وتبعية، مفاخرة ومباهاة، إسرافًا وتبذيرًا، لماذا كل هذا يا أمة الإسلام؟! إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27].
إنه لمما يندى له الجبين أن تصرف أموال طائلة على مناسبة واحدة، في أي سبيل ذلك؟ أغرّ هؤلاء وجود المال بين أيديهم؟!! ((إن أناسًا يتخوّضون في مال الله بغير حقه لهم النار يوم القيامة)) [25] ، ألا تعتبرون ـ يا عباد الله ـ بأحوال إخوان لكم في العقيدة، في بقاع شتى من العالم، ممن لا يجدون ما يسدّ رمقهم، ولا ما يواري عوراتهم، نعوذ بالله من الكفر بنعمه، ونسأله تعالى أن لا يؤاخدنا بما فعل السفهاء منا، إننا ـ والله ـ نخشى عقوبة الله العاجلة قبل الآجلة، وهنا لفتة إلى ضرورة التعاون مع الجمعيات الخيرية لتلقي فائض الأطعمة والولائم، لتوزيعها على فقراء المسلمين، بدل رميها في أماكن النفايات والعياذ بالله.
فاتقوا الله رحمكم الله، وتناصحوا فيما بينكم، وتعقلوا كل التعقل في أمور الزواج، ولا تتركوا الأمر بأيدي غيركم من السفهاء والقاصرات، والدعوة موجهة للمصلحين، والوجهاء والعلماء والأثرياء، وأهل الحل والعقد في الأمة أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المجال، فالناس تبع لهم، وعلى وسائل الإعلام بصفة خاصة بكافة قنواتها نصيب كبير في بث التوعية والتوجيه في صفوف أبناء المجتمع، لعلاج هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، وكان الله في عون العاملين المخلصين لما فيه صلاح دينهم ومجتمعهم وأمتهم.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم [1905]، ومسلم في كتاب النكاح [1400].
[2] أخرجه أبو داود في كتاب النكاح [2050]، والنسائي في كتاب النكاح [3227]، وصححه ابن حبان [4056، 4057 ـ الإحسان ـ]، والحاكم (2/162)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (9/ 111). والألباني في صحيح سنن أبي داود [1805].
[3] أخرجه عبد الرزاق (6/170) ، وابن أبي شيبة (3/ 453)، وسعيد بن منصور في السنن [491]، والفاكهي في أخبار مكة (1/329)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 6)، كلهم من طريق إبراهيم بن مسيرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد، فذكره. وصحح الحافظ سنده إلى إبراهيم بن ميسرة في الإصابة (11/ 148) في ترجمة أبي الزوائد، وطاوس لم يسمع من عمر، فهو منقطع.
[4] أخرجه عبد الرزاق (6/170) عن معمر عن أبي إسحاق عنه، وسعيد بن منصور في سننه [493] عن أبي عوانة عن المغيرة عن إبراهيم عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/251) إلى الطبراني وقال: "فيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح"، فالأثر بهذه الطرق ثابت والله أعلم
[5] انظر: المغني لابن قدامة (9/ 341).
[6] الزيجات أي: الزواجات.
[7] يصطلون: أي يحترقون.
[8] أخرجه أحمد (6/145)، والنسائي في الكبرى (5/ 402)، والبيهقي في السنن (7/235)، وصححه الحاكم (2/ 178)، ووافقه الذهبي، وفي سنده ابن سخبرة لا يدرى من هو. ولذا ضعف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة [1117].
[9] هذا صدر بيت شعري وتمامه: ليت شبابًا بوع فاشتريت.
[10] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره فقال: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد الأزرق، حدثنا عمر بن عبد الواحد، عن سعيد يعني ابن عبد العزيز قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: فذكره، انظر: تفسير ابن كثير (6/54).
[11] أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 126) فقال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن أبو الحسن، وكان إسماعيل بن صبيح مولى هذا، قال: سمعت القاسم بن الوليد عن عبد الله، فذكره.
[12] العضل: هو التضييق ومنع المرأة من الزواج ظلمًا.
[13] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح [1084]، وابن ماجه في كتاب النكاح [1967] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164 ـ 165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجع انقطاعه. ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [1022].
[14] القصة أخرجها البخاري في كتاب النكاح من صحيحه [5122]، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[15] انظر القصة في الحلية لأبي نعيم (2/167 ـ 168)، والسير للذهبي (4/233 ـ 234).
[16] البلاقع جمع بلقع وهي الأرض القفر.
[17] الأرومة بفتح الهمزة وضمها الأصل.
[18] أخرجه البخاري في كتاب النكاح [5090]، ومسلم في كتاب الرضاع [1466] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] الأرعن: الأهوج والأحمق.
[20] أخرجه أحمد (1/ 40 ـ 41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح [2106]، والترمذي في كتاب النكاح [1114]، والنسائي في كتاب النكاح [3349]، وابن ماجه في كتاب النكاح [1887]، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان [4620 ـ الإحسان ـ]، والحاكم (2/175ـ 176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود [1852].
[21] أخرجه البخاري في كتاب النكاح [5121]، ومسلم في كتاب النكاح [1425] من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[22] أخرجه البخاري في كتاب النكاح [5150]، ومسلم في كتاب النكاح [1425]، وهو نفس حديث سهل بن سعد رضي الله عنه المتقدم.
[23] أخرجه البخاري في كتاب النكاح [5167]، ومسلم في كتاب النكاح [1427] من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[24] أخرجه مسلم في كتاب النكاح [1424] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[25] هذا لفظ حديث مرفوع، أخرجه البخاري في كتاب فرض الخمس [3118] من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها. ومعنى يتخوّضون أي يتصرفون فيه بالباطل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، شرع لنا النكاح، وحرم علينا السفاح.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالق الإصباح، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام الدعاة وراشد الإصلاح.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم بإيمان، ما تعاقب المساء والصباح، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين، واشكروه على نعمه الباطنة والظاهرة، وآلائه ومننه المتكاثرة، اتقوه جل وعلا في السر والعلن، واحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيها الأحبة في الله:
وإشارة خامسة إلى ما أحدثه بعض الناس في حفلات الزواج، من الأمور المنكرة في الشرع، فعلاوة على الإسراف والتبذير، والتفاخر والمباهاة عند بعضهم، توجد أمور أخرى توسع بعض الناس فيها، بسبب ضعف الإيمان وقلة العلم والإغراق في المادة.
فمن ذلك أن يجعل بعضهم من حفلات الزواج موسمًا للاختلاط بين الرجال والنساء، وإظهار الزوج مع زوجته أمام الحاضرين، وهم بكامل الزينة، وتُلتقط الصور المحرمة لهم، وفي هذا من الفتن والفساد ما لا يعلمه إلا الله.
ومنهم من يجعله موسم سمر وسهر على اللهو واللعب، إلى هزيع من الليل، فيفوِّت فريضة الله عليه، وصنف يضيِّع الحياء من الله، ومن عباد الله، فيجعل فرصة الزواج فرصة للعلاقات المشبوهة، واللقاءات المحرمة، وبعضهم يؤذي جيرانه وإخوانه المسلمين.
وفئة تجعله فرصة للسماع المحرم، للأغاني الخليعة، ورفع أصوات المعازف والمزامير المنكرة، التي تذكي [1] الشهوة، وتصد عن ذكر الله، وتكون ذريعة إلى الفساد والعياذ بالله.
أيها الإخوة في الله:
وهاكم سادس هذه الإشارات وتمامها، فبعد أن أزيلت العقبات وحُلَّت المشكلات في هذه القضية المهمة، وبنى الزوج بزوجته، يدعى لهما: "بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير"، وتلك دعوة الإسلام التي خالف بها دعوة الجاهلية وقولهم: "بالرفاء والبنين"، ويهمس في آذانهما: الله الله في الحياة الزوجية الجديدة، لتؤسسوا بنيانها على تقوى من الله ورضوان، ولتحذروا من الذنوب والخطايا والعصيان، وليحذر الوالدان والأقارب من التدخل في حياتهما الأسرية الخاصة، فكم قوّضت بيوت وهدمت أسر بسبب التدخلات الخارجية، وكم تعتصر القلوب أسى نتيجة الشكاوى الكثيرة التي تعصف بالأسرة وتهدد المجتمع بالتخبيب [2] بين الزوجين، والتفريق بين المتحابين، والله حسب المخبَّبين، وحسيب المخبِّبين.
ألا ما أجدر الأمة الإسلامية أن تسير على منهج الإسلام لتحقق الحياة الاجتماعية السعيدة الموفقة، التي ترفرف عليها رايات المحبة والوئام، وحينها قل على مشكلات الفراق والطلاق السلام، بعدما وصلت إحصاءاتها أرقامًا مذهلة، تنذر بخطر كبير، وشر مستطير، فهل نحن فاعلون؟! وأخواتنا الفضليات فاعلات؟!!
هذا الأمل والرجاء، وعلينا الصدق في التأسي والاقتداء، والله المسؤول أن يوفقنا جميعًا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يعصمنا مما يسخطه ويأباه، إنه أعظم مسؤول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] تذكي: أي توقد.
[2] التخبيب بين الزوجين هو إفساد أحدهما على الآخر.
(1/1781)
شرح حديث ((من عادى لي وليا))
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ نص حديث: ((من عادى لي وليا)). 2 ـ المولاة في الله، والمعاداة في الله.
3 ـ من هو ولي الله؟ 4 ـ حقيقة معاداة أولياء الله. 5 ـ موقف المنافقين من المؤمنين.
6 ـ الاستهزاء بالمؤمنين. 7 ـ التقرب إلى الله بالفرائض. 8 ـ التقرب إلى الله بالنوافل.
9 ـ من ثمار محبة الله تعالى إجابة الدعاء. 10 ـ كراهية المؤمن للموت.
11 ـ جبن المنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت من شيء أنا فاعله ترددي من قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه)) [1].
أيها المسلمون، المؤمن حقًا يحب الله، ويحب رسوله، ويحب أولياء الله، المحبين لله ورسوله، يحبهم لكونهم محبين لله، يحبهم لكونهم قائمين بشرع الله، يحبهم لأنهم منفذون أوامر الله، مجتنبون لنواهي الله، فلمحبتهم لله وقيامهم بحق الله هو يحبهم لأجل ذلك وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة: 71].
فمن أحب الله ورسوله أحبه المؤمن، ومن أبغض الله ورسوله، وعادى الله ورسوله أبغضه المؤمن، فهو محبته لله ولأجل الله، لا لسوى ذلك.
وفي الحديث: ((أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله، وتوالي في الله، وتعادي في الله)) [2] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقد صارت مؤاخاة الناس اليوم على أمر الدنيا وذاك لا يجزي على أهله شيئًا) [3].
أيها المسلم، فقوله جل جلاله فيما رواه عنه نبيه : ((من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب)).
أولاً: من هو الولي لله؟ الولي لله هو المتقي لله، لا تُنال ولاية الله بمجرد الدعوى، ولكنها حقيقة الأعمال الصالحة يقول جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ?للَّهِ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [يونس: 62ـ 64] ، فما نالوا ولاية الله بالدعوى المجردة، وإنما نالوها بتقواهم لله وقيامهم بما أوجب الله عليهم، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ.
إذًا فكيف العداوة لأولياء الله؟ يقول الله: ((من عادى لي وليًا)) ، كيف يعادي ولي الله؟ هل هذه العداوة لأمور الدنيا؟ وما بين الناس من أحوال وخصام ونزاع وتنافس في الدنيا؟ لا, هذا أمر ممكن مع كل أحد، فلا يخلو المؤمن من أن يكون بينه وبين أخيه شيء من الخصومة والنزاع، وقد يكرهه لشيء ما، لكنها كراهة لا تؤدي إلى العداوة، إنما قوله تعالى: ((من عادى لي وليًا)) معاداة أولياء الله، معاداتهم بغضهم وكراهيتهم لأجل اتباعهم لشرع الله، يعادي أولياء الله معاداة منطلقة من قلب ممتلئ كفرًا ونفاقًا وعداء لله ورسوله، فهو يعادي أولياء الله لكونهم يحكمون شرع الله، يعادي أولياء الله لكونهم يطبقون أوامر الله ويجتنبون نواهي الله، يعادي أولياء الله لكونهم يقدمون أمر الله على هوى النفوس ومشتهياتها، هذه العداوة تصدر من قلب مليء كفرًا ونفاقًا، تتفوه ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم من الخبث والبلاء.
قال تعالى مبينًا حال أعداء الرسل مع الرسل، وأن العداوة لأولياء الله قديمة جدًا منذ بعث الله الرسل:
فقوم نوح يقولون لنوح عليه السلام: مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ?تَّبَعَكَ إِلاَّ ?لَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ?لرَّأْى وَمَا نَرَى? لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـ?ذِبِينَ [هود: 27]، وقال الله عنهم أنهم سخروا منه عند صنع السفينة قال الله: إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود: 38]، وقال الله عنهم: قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَ?تَّبَعَكَ ?لأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111].
وقوم موسى يقولون لموسى: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ?لْكِبْرِيَاء فِى ?لأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس: 78].
وإبراهيم يقول له أبوه: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَ?هْجُرْنِى مَلِيّاً [مريم: 46].
وقوم محمد كم قالوا له ما قالوا، قال الله عنهم: وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ هكذا يستهزئون.
إن العداء لأولياء الله عداء المنافق والكافر يتفوه لسانه بما انطوى عليه قلبه من عداء لهذه الشريعة وعداء للمتمسكين بها، والعاملين عليها، والمنفذين لأحكامها، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ ?للَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى? بِهِ إِثْماً مُّبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ ?لْكِتَـ?بِ يُؤْمِنُونَ بِ?لْجِبْتِ وَ?لطَّـ?غُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً [النساء: 49ـ 51]، يقول الكافرون: هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ، ففضلوا طريقة اليهود والنصارى على شريعة الله ورسوله، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً [النساء: 60،61]، فهؤلاء المعادون لأولياء الله، المستهزئون بهم، الساخرون بدينهم، المنتقصون من شريعتهم، العائبون لأخلاقهم وآدابهم، هؤلاء شابهوا إخوانهم المنافقين والكافرين السابقين، شابهوهم في هذه الآراء الباطلة، والتصورات الخاطئة، يقول الله جل وعلا عن المنافقين: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ [الأنفال: 49]، لما رأوا أصحاب رسول الله وجهادهم وتضحيتهم في سبيل الله لإيمانهم بالله واليوم الآخر، قالوا عنهم ما قالوا: إِذْ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ يقولون: هؤلاء صدَّقوا بالآخرة، وصدَّقوا بالجنة والنار، غرَّهم دينهم، أي بمعنى أن كل شيء لا حقيقة له، هكذا يقول المنافقون.
فيا أخي المسلم، احذر أن تكون عدوًا لله من حيث لا تشعر، احذر أن تكون عدوًا لدين الله، عدوًا لكتاب الله، عدوًا لسنة رسول الله، قف عند أي كلمة تقولها، وأي مقالة تنشرها، وأي قضية تحاول حلَّها، فكر قليلاً وتدبر، هل أنت تقصد بقلمك وتخط بقلمك ما فيه نصرة للإسلام وأهله، أو ما فيه عداء للإسلام وأهله؟
((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) ، ومن يقوى على حرب الله إنه المخذول الذليل، فاتق الله ـ أيها المسلم ـ في دينك، اتق الله فيما تقول، فكم كلمات يطلقها الإنسان ولا يدري أنها أوقعته في عذاب الله.
أناس في عهد النبي استهزؤوا بالمسلمين فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فأنزل الله تكذيبهم، وبيان ضلالهم: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة: 65، 66] [4].
قال الله عنهم: ?لَّذِينَ يَلْمِزُونَ ?لْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـ?تِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ?للَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79]، وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] أي في الدنيا، وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ [المطففين: 30ـ 32]، هكذا يقول الكافرون في المؤمنين، يضحكون، ويتغامزون، ويقولون: هؤلاء ضالون، وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَـ?فِظِينَ ثم العاقبة: فَ?لْيَوْمَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ ?لْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (1/1782)
تحريم الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
8/4/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ السعادة في دين الله تعالى. 2 ـ عكوف كثير من الناس على الغناء.
3 ـ اشتمال الغناء على المفاسد. 4 ـ أدلة تحريم الغناء. 5 ـ ظهور الغناء والملاهي من
أسباب سخط الله. 6 ـ ما يشتمل عليه الغناء. 7 ـ نعمة السمع. 8 ـ جرم الدعوة إلى الغناء
وتعظيم المغنين. 9 ـ واقع الأمة الأليم. 10 ـ رخصة الغناء في النكاح. 11 ـ منكرات
الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
يعيش أهل الإسلام في ظل هذا الدين حياة شريفة كريمة، يجدون من خلالها حلاوة الإيمان، وبرد اليقين والاطمئنان، وأنس الطاعة، ولذة العبادة، وتقف تعاليم هذا الدين حصنًا منيعًا ضد نوازع الانحراف وأهواء المنحرفين، تصون الإنسان عن نزواته، وتحميه من شهواته، وتقضي على همومه وأحزانه، فما أغنى من والى دين الله وإن كان فقيرًا، وما أفقر من عاداه وإن كان غنيًا.
أيها المسلمون:
وإن مما يحزن المسلمَ الغيورَ على دينه أن يبحث بعض المسلمين عن السعادة في غيره، وينشدون البهجة فيما عداه، يضعون السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين العافية والشفاء في عاجلات الشهوات والأهواء.
ومن ذلك عكوف كثير من الناس اليوم على استماع آلات الملاهي والغناء، حتى صار ذلك سلواهم وهجيراهم، متعللين بعلل واهية، وشبه داحضة، وأقوال زائفة، تبيح الغناء ليس لها مستند صحيح، يقوم على ترويحها قوم فُتنوا باتباع الشهوات، واستماع المغنيات، وقد أخبرنا بذلك الصادق المصدوق فقال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري معلقًا مجزومًا به داخلا في شرطة، ورواه أحمد وأبو داود موصولاً من طرق متعددة [1].
أيها المسلمون:
إن من أبطل الباطل، وأبين المحال أن يقول أحد من أهل العلم والإيمان بإباحة الغناء المعروف اليوم، المشتمل على كل مفسدة، الموقع في كل مهلكة، غناءٌ يضجُّ بوصف العيون، ومحاسن المعشوق، وألوان العتاب، ولواعج الاشتياق، وآثار القلق والفراق، صوت شيطاني، يتغلغل في القلوب، يثير كامنها، ويحرك ساكنها، إلى شهوات الغي والردى، زهزهة وفرقعة، تهييج وتشويق، ضحك وصخب، رقص وتكسر وتثني، عفن يزكم الأنوف، وفجور يملأ الآذان ويصك الأسماع.
أيها المسلمون:
كيف يدسّ العاقل نفسه الشريفة في خلاعة ماجنة، تأنف منها النفوس المؤمنة، وتنفر منها الطباع السليمة، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إني لم أنه عن البكاء، ولكني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمةٍ، لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوتٍ عند مصيبة، لطم وجوه وشق جيوب ورنة شيطان)) رواه الحاكم [2] ، وعن أنس رضي الله عنه، قال رسول الله : ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة)) أخرجه البزار [3].
أيها المسلمون:
جاءت الآيات القرآنية بتحريم الغناء وتقبيحه، يقول الله جل جلاله: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان: 6]، يقول النبي : ((لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، ولا تجارة فيهن، وثمنهن حرام، إنما نزلت هذه الآية في ذلك)) أخرجه الطبراني في المعجم [4].
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنه الغناء، إنه الغناء، والذي لا إله إلا هو) [5].
أيها المسلمون:
الغناء صوت الشيطان، يستفزّ به بني الإنسان، إلى الفجور والعصيان، فالواجب على كل مسلم تجنبه والإعراض عنه، يقول تبارك وتعالى: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء: 64].
عباد الله:
اهجروا الأغاني وآلات الملاهي؛ فإنها رائدة الفجور، وشَرَك الشيطان، ورقية الزنا، يقول يزيد بن الوليد: (يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر) [6] ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: (ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينب العشبَ الماء) [7] ، وكتب لعمر بن الوليد كتاب جاء فيه: (وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجزُّ جمّتك جمة السوء) أخرجه النسائي [8].
أيها المسلمون:
احذروا أسباب سخط الله وغضبه، وإن ظهور الأغاني وآلات الملاهي من أسباب سخط الله وحلول عقابه، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)) رواه ابن ماجه [9].
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) قيل: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور)) أخرجه الترمذي [10] ، ويقول الضحاك: (الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب) [11].
عباد الله:
إن مادة الغناء وحقيقته، وباعثه وغايته، وأثره وثمرته، كلها تدور حول أشعار الفساق والفجار، المشتملة على مدح ما يبغضه الله ويمقت عليه، والافتخار بنيله والتبجح بالوصول إليه، وربما تعدَّوا ذلك إلى الغناء بالأشعار الكفرية التي تحادّ ما أنزل الله على رسوله محمد ، وانظر ما جرَّت هذه الأغاني والملاهي على أربابها من الشر والفساد، ينكشف لك قناعها، ويسفر لك عن وجهها، آثارٌ سيئة، وعاقبةٌ وخيمة، يراها كل صاحب بصيرة في صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم، وحركاتهم وأحوالهم، وَمَن يُرِدِ ?للَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ?للَّهِ شَيْئاً [المائدة: 41].
وحين سئل مالك بن أنس رحمه الله تعالى عما يترخص فيه بعض أهل زمانه من الغناء قال: (إنما يفعله عندنا الفساق) [12].
أيها المسلمون:
إن استماع الأغاني والعكوف عليها من أعظم مكائد الشيطان ومصائده التي صاد بها قلوب الجاهلين، وصدهم بها عن سماع القرآن الكريم، يقول الشافعي رحمه الله تعالى: (خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن) [13].
الله أكبر، إذا كان هذا القول في التغبير، وهو شعر يزهّد في الدنيا، يغنِّي به مغنِّي، فيضرب على توقيعات غنائه ضارب بقضيب على نطع أو جلد يابس أو نحوهما، فما القول في غناء هو صنو الخمر ورضيعه، يسمونه فنًا، وليس سوى شهوة ونزوة، وكلمات قذرة، لا يقِرّ معها قلب، ولا يسكن معها عصب؟! فيا سبحان الله، كيف ضلت العقول، وغارت [14] الفهوم فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لأَبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج: 46].
عباد الله:
السمع أمانة عظمى، ومنة كبرى، امتن الله على عباده بها، وأمرهم بحفظها، وأخبرهم بأنهم مسؤولون عنها، وإن استماع الأصوات المطربة، وما يصحبها من المزامير والطنابير جحود لهذه النعمة، واستخدام لها في معصية الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) رواه مسلم [15].
أيها المسلمون:
إن تعظيم الأغاني وآلات الملاهي، وإظهار أصحابها بمظهر السيادة والريادة دعوة للناس إلى الغي والضلال، وصدّ لهم عن كتاب الله، وسنة رسول الله ، وقد قال عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) رواه مسلم [16].
أيها المسلمون:
عجبًا من أمة تغني طربًا في حين أنها أمة مثخنة بالجراح والدماء، مثقلة بتلال الجماجم والأشلاء، يُنال من كرامتها، ويُعتدى على أرضها وعرضها، ومقدساتها في الصباح والمساء، تغني طربًا، وكأن لم يكن ثمّ حروب شديدة، ووقائع مبيدة، وقتال مستعر، وأمم من المسلمين تحتضر، نعوذ بالله من موت القلوب وطمس البصائر.
أيها المسلمون:
نزهوا أنفسكم وأسماعكم عن اللهو ومزامر الشيطان، وأحلوها رياض الجنان، حلق القرآن، وحلق مدارسة سنة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، تنالوا ثمرتها، إرشادًا من غي، وبصيرة من عُمي، وحثًا على تقى، وبُعدًا عن هوى، وحَياةَ القلب، ودواء وشفاء، ونجاة وبرهانًا، وكونوا ممن قال الله فيهم: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً [الفرقان: 72]، وممن قال فيهم جل وعلا: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون: 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري معلقًا في كتاب الأشربة [5590]، ووصله أحمد (5/ 342)، وأبو داود [4039] وغيرهما، وهو حديث صحيح، انظر: تحريم آلات الطرب للألباني، وأحاديث ذم الغناء والمعازف في الإسلام لعبد الله الجديع.
[2] أخرجه الحاكم (4/ 40)، وسكت عنه هو والذهبي، وأخرجه أيضًا الطيالسي [1683]، والترمذي [1005] وقال: "هذا حديث حسن"، وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف لسوء حفظه، وقد اختلف عليه فيه، فأخرجه ابن سعد (1/138) وأبو يعلى [438 ـ المقصد ـ ]، والحاكم (4/40)، من طريق ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر، عن عبد الله الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال الحافظ في المطالب (1/225): "ابن أبي ليلى سيئ الحفظ والاضطراب فيه منه والله أعلم".
[3] أخرجه البزار [795 ـ كشف الأستار ـ] من طريق شبيب بن بشر عن أنس، وشبيب هذا صدوق يخطئ، وتابعه عيسى بن طهمان عن أنس، ولذا صححه الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 51 ـ 52).
[4] أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 212) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وفي سنده الوليد بن الوليد، قال فيه الدار قطني وغيره: "متروك".
[5] أخرجه ابن جرير (21/ 62)، وابن أبي شيبة (6/ 309)، والبيهقي (10/223)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه أيضًا الألباني في تحريم آلات الطرب (ص 143)، ونقل تصحيح ابن القيم له.
[6] أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (ص 41)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (4/ 280).
[7] أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (ص 40 ـ 41)، وانظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (ص 296).
[8] أخرجه النسائي في كتاب الفيء من المجتبى (7/129 ـ 130)، وصححه الألباني في صحيح السنن [3855].
[9] أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن [4020]، والطبراني في الكبير [3419]، وصححه ابن حبان [1384 ـ موارد ـ ] وابن القيم في الإغاثة (1/ 261)، وكذا الألباني في صحيح السنن [3247].
[10] أخرجه الترمذي في كتاب الفتن [2212] وقال: "وقد روي هذا الحديث عن الأعمش عن عبد الرحمن بن سابط عن النبي مرسل، وهذا حديث غريب" وقد صححه الألباني في صحيح السنن [1801].
[11] أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (ص 60).
[12] رواه أحمد عن إسحاق الطباع عن مالك، كما في العلل ومعرفة الرجال (2/ 70)، وانظر: تفسير القرطبي (14/ 55).
[13] انظر: آداب الشافعي (ص 310)، وحلية الأولياء (9/ 146)، ومناقب الشافعي للبيهقي (1/ 283)، وتلبيس إبليس (ص 230) والسير (10/ 91).
[14] غارت الفهوم: أي ذهبت.
[15] رواه مسلم في كتاب القدر من صحيحه [2657].
[16] أخرجه مسلم في كتاب العلم من صحيحه [2674] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله:
اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
شرع الله في النكاح الضرب بالدف مع الغناء الذي ليس فيه دعوة ولا مدح لمحرم، للنساء خاصة، لإعلان النكاح والتفريق بينه وبين السفاح، يقول النبي : ((فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح)) أخرجه الترمذي وغيره [1] ، وفي صحيح البخاري تقول الرُبيِّع بنت معوّذ بن عفراء حين البناء عليها والدخول بها: (فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر) [2].
يقول ابن حجر في فتح الباري: "والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلتحق بهن الرجال، لعموم النهي عن التشبه بهن" [3].
أيها المسلمون:
وإن مما يؤسف له أن يتجاوز كثير من الناس ما شرع لهم إلى ما حرّم عليهم، وذلك باستئجارهم المغنين والمغنيات، والمطربين والمطربات، الذين يتغنون بأشعار الفسقة والكلام الهابط، وإحضارهم الآلات الموسيقية والطبول وغيرها، ودفعهم المبالغ الكثيرة الباهظة في مثل هذه المحرمات، واستعمالهم مكبرات الصوت بالغناء، وإيذائهم المسلمين من الجيران وغيرهم، والتشبه بالراقصات العاهرات في رقصهن وإمالتهن، واختلاط الرجال بالنساء، وإضاعة الأوقات والصلوات، إلى غير ذلك من الفتن العظيمة، والعواقب الوخيمة، التي سرت في صفوف كثير من المسلمين، بطريق العدوى والتقليد الأعمى.
فالحذر الحذر ـ يا عباد الله ـ وإياكم وحضور مثل هذه المجالس، يقول الإمام الأوزاعي رحمه الله: (لا تدخل وليمة فيها طبل ومعازف) [4].
عباد الله:
توبوا وأنيبوا، والتزموا بآداب دينكم، وأصلحوا ما فسد من أحوالكم، وتمسكوا بكتاب ربكم، وسنة نبيكم محمد تفلحوا وتنجحوا.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه أحمد (3/ 18)، والنسائي في كتاب النكاح (6/127)، والترمذي في كتاب النكاح [1088]، وابن ماجه في كتاب النكاح [1896] من حديث محمد بن حاطب رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 184)، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وحسنه أيضًا الألباني كما في الإرواء [1994].
[2] أخرجه البخاري في كتاب النكاح من صحيحه [5147].
[3] فتح الباري (9/ 226).
[4] صححه الألباني في آداب الزفاف (ص 166).
(1/1783)
استعد من الآن (2)
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
8/8/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل صاحب أمر يستعد له فكيف نستعد لرمضان. 2- رمضان لحظة عابرة ينبغي أن نبدأ
بالإعداد قبل وصوله ثم فواته. 3- عباداته شهر شعبان. 4- الصيام في شهر شعبان. 5- ما
جاء في ليلة النصف من شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أرأيتم قط طالباً مجداً يقتحم لجة الامتحانات دون استعداد مسبق؟
أرأيتم قط تاجراً ناجحاً يقبل عليه موسم حي دون أن يتهيأ له من قبل؟
أرأيتم قط مزاراعاً يذر البذر ويرجو الحصاد؟
إنها سنة الله ألا يدرك إلا المجد، ولا يحصل إلا الباذل.
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمت على التفريط في زمن البذرِ
وإذا كان الإنسان حريصاً أن يستعد لأمور دنياه ويتهيأ لها: فيذاكر الطالب، ويحتشد التاجر، ويبذر الزارع، إذا كان ذلك كذلك أفلا يستعد المسلم للطاعة ويتهيأ للعبادة؟
هانحن الآن على أبواب رمضان، لا تفصلنا عنه إلا أيام معدودة تمر مر البرق، وتنقضي انقضاء الحلم، فمن منا فكر في الاستعداد له، والتهيؤ لاستقباله؟
أتدرون ما مشكلتنا أيها الأحباب؟
مشكلتنا أننا في كل عام يأتينا رمضان ونحن غافلون، فنبدأ في الطاعة والعبادة من الصفر، ثم نرقى شيئاً فشيئاً فلا نكاد نجد طعم العبادة وحلاوة الطاعة إلا وقد انقضى رمضان، وانطوت صحائفه بما فيها من إحسان المحسن وإساءة المسيء! فنندم ونتحسر ونتألم، ونقول: نعوض في العام القادم، ويأتي العام القادم فلا يكون أحسن حالاً من سابقه، وهكذا حتى يحق الحق ويغادر الإنسان دنياه وهو كما هو!!! فإلى الله المشتكى.
ولو أننا تذكرنا ما كان يقال عن أسلافنا، وأنهم كانوا يستقبلون رمضان قبل مجيئه بستة أشهر، لو تذكرنا هذا لعرفنا لماذا كانوا يجدون لرمضان طعماً لا نجده نحن، أو لا يجده على الأقل كثير منا.
القضية إذا قضية الاستعداد لهذا الشهر بالعبادة والطاعة والبر.
القضية إذا قضية اغتنام أوقات شهر شعبان المبارك حتى لا يأتي رمضان إلا وقد ارتقى الإنسان منازل عالية من الطاعة والعبادة.
إننا يجب أن نفهم جيداً أن رمضان ليس فرصة لتعويد النفس على الطاعة والعبادة، ليس هو مجالاً للاستعداد، هو كلحظات الاختبار إما أن تنجح فيه أو تفشل، وليست دقائقه الغالية الثمينة بمحتملة للكسل حيناً والنشاط حيناً، ينبغي أن تجعل هذا التدريب وهذا التذبذب بين الطاعة والفتور في شعبان، أما رمضان فيجب أن يكون عبادة خالصة، وبراً خالصاً، وإنابة كاملة، إنه شهر الجنات أيها الأخ فهل ستضيع أيامه في البحث عن تذكرة الدخول فلا تحصل عليها إلا وقد غلقت الأبواب؟
هذا ما ينبغي أن نعيه جيداً...
ولقد كان الواجب أن يكون الاستعداد سابقاً لهذا الوقت، ولكن لا بأس ما تزال هناك فرصة...
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المباركْ
فيامن ضيع الأوقات جهلاً بقيمتها أفق واحذر بواركْ
تدارك ما استطعت من الخطايا فخير ذوي الفضائل من تداركْ
تدارك أيها الأخ قبل ألا يكون تدارك.
أتدري لم كان للعبادة في شعبان فضل على غيرها؟
لأنه مقدمة لرمضان، فاكتسب فضلا من هذه الجهة، والعلماء يقولون: إن لكل عبادة مفروضة مقدمة ومؤخرة، فالتقدمة يستعد بها لها، والمؤخرة يرقع بها ما حصل في العبادة من خروق.
ثم إن شهر شعبان شهر تكثر فيه الغفلة وذلك لبعده عن مواسم الخيرات، إذ أن آخر عهد الناس بأزمنة البركة عشر المحرم، فيكون الذي يعبد الله في زمن الغفلة هذا أعظم أجراً، وفي الحديث الذي رواه أسامة بن زيد وأخرجه أحمد والنسائي [2317] بسند حسن [الترغيب:1511]. يقول صلى الله عليه وسلم عن شعبان: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)).
والنصوص الدالة على فضيلة الطاعة زمن الغفلة كثيرة متوافرة وحسبنا قوله عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله، فرجل أتى قوماً فسألهم بالله عز وجل ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلفه رجل بأعقابهم فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله عز وجل والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له...)) [النسائي:2570].
ولهذا المعنى كان يريد النبي أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل وإنما علل ذلك لخشية المشقة ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: ((ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم)) [البخاري: باب النوم قبل العشاء]، [وانظر لطائف:282].
وكان بعض السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين ويقولون هي ساعة غفلة [لطائف:282].
وفي إحياء الوقت المغفول عنه فوائد: منها أنه يكون أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، ومنها أنه أشق على النفوس لقلة الموافقين، ومنها أن المنفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس فكأنه يحميهم ويدفع عنهم. [لطائف:283-287].
وهكذا أيها الإخوة يكون العابد المجد في هذا الشهر قد حاز فضيلتين: حسن الاستعداد لرمضان، والذكر زمن الغفلة.
ولعلك أن تقول: وما عساي فاعلاً؟ فأقول لك: اعلم أن كل عبادة متأكدة في رمضان فإنه يحسن بك أن تكثر منها في شعبان استعداداً وتهيؤاً.. ومن هذه العبادات:
1ـ الصوم: وهو من أعظم ما يفعل في هذا الشهر. قال ابن رجب رحمه الله: قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. [لطائف المعارف:289].
تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثرمنه صياماً في شعبان. [البخاري:1969].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان فإنه كان يصوم شعبان كله وكان يقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) [البخاري:1970]. قال ابن المبارك: هو جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله ويقال قام فلان ليله أجمع ولعله تعشى واشتغل ببعض أمره. [الترمذي حديث رقم:736].
ويؤيد قول ابن المبارك رواية أخرى للحديث عند مسلم تقول فيها عائشة رضي الله عنها: كان يصوم حتى نقول: قد صام ويفطر حتى نقول: قد أفطر، ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً. [مسلم:1156].
وتقول عائشة رضي الله عنها: كان أحب الشهور إليه أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان. [ابن خزيمة ـ صحيح الجامع:4628].
وعلى هذا يسن صيام هذا الشهر، ويتأكد صوم الأيام المستحبة في غيره كالاثنين والخميس والأيام البيض. ويستحب أن يعم بالصيام أول الشهر وأوسطه وآخره.
وأما حديث أبي هريرة: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان)) [رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه والدارمي وصححه الألباني في صحيح الجامع:397].
فيجاب عنه من ثلاثة وجوه:
الأول: أن جهابذة من أهل الفن قد ضعفوا هذا الحديث كالإمام أحمد وابن مهدي وابن معين وابن المديني وأبي زرعة والأثرم وعدوه من الأحاديث المنكرة، بل قال أحمد: لم يرو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أنكر من هذا الحديث، وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه، وقال ابن رجب: أكثر العلماء على أنه لا يعمل بهذا الحديث.
والثاني: أنه منسوخ، ذكره الطحاوي. [لطائف:292].
والثالث: أن يجمع بين الأحاديث بأن يقال: إن أحاديث الصوم تدل على صوم نصفه الثاني مع ما قبله، وعلى الصوم المعتاد في النصف الثاني، وحديث العلاء يدل على المنع من تعمد الصوم بعد النصف لا العادة ولا مضافاً إلى ما قبله. [انظر عون المعبود:6/461، حاشية ابن القيم].
قال الترمذي رحمه الله: ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجل مفطراً فإذا بقي من شعبان شيء أخذ في الصوم لحال شهر رمضان. [انظر كلامه عند الحديث رقم:738].
لكن على المسلم ألا يتعمد صيام آخر يومين من شعبان مالم تكن عادة لأن تخصيصهما قد يوهم الزيادة في رمضان، وفي الصحيحين: ((لا تتقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوماً فليصم)).
وللنهي عن تقدم صوم رمضان بصوم يوم أو يومين عدة حكم منها: الاحتياط لرمضان لئلا يزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، ولهذا نهي النبي أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ولهذا شرع للمصلي أن يغير مكانه إذا قام للنفل، ومنها التقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض. [لطائف:307-309].
ومن رحمة الله بنا أننا في زمن الشتاء الذي هو ربيع المؤمن، وفي الحديث الحسن عن عامر بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) [صحيح الجامع:3868]. قال بعض السلف: الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن الأعمال التي يمكن للمؤمن أن يعملها في شعبان.
2ـ قراءة القرآن: لأن القرآن نزل وعورض في رمضان وشعبان تقدمة له.
قال أنس: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبوا على المصاحف فقرؤوها وأخرجو زكاة أموالهم تقوية لضعيفهم على الصوم.
وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القرآن.
وكان قيس بن عمر الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وأكب على قراءة القرآن.
وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء. [انظر في قراءة القرآن لطائف:290].
3ـ ذكر الله تعالى.
4ـ قيام الليل.
5ـ الصدقة.
أما ليلة النصف من شعبان/ فقد وردت فيها عدة أحاديث منها:
1ـ ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) رواه ابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم في السنة وقال الألباني [الصحيحة:3/135]. حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضاً. وصححه بعضهم بشواهده، وضعفه البعض.
2ـ ومنها: ((إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه)) [البيهقي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع:771].
وكان لبعض السلف اجتهاد في إحياء هذه الليلة، فكان خالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة، بل كانوا يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المساجد ليلتهم تلك، وقد قيل إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية. [لطائف:295].
وذهب طائفة من أهل الشام إلى أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي رحمه الله، وقد أنكر ذلك عليهم أكثر علماء الحجاز ومنهم عطاء وابن أبي مليكة، وقال فقهاء المدينة وعلى رأسهم أصحاب مالك: هذا كله بدعة.
وهذه الفضيلة لليلة النصف ـ وإن صحت ـ لا تدل على مشروعية تخصيص هذه الليلة بعبادة زائدة بدليل يوم الجمعة فقد ثبت فضله ولا يشرع تخصيصه بعبادة غير العبادات التي دلت عليها النصوص، قال أبو بكر الطرطوشي: ما أدركنا أحداً من مشايخنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان، ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ولا يرون لها فضلاً على ما سواها. وقيل لابن أبي مليكة: إن زياداً النميري يقول: إن أجر النصف من شعبان كأجر ليلة القدر! فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته!!
وليس يفوتني أن أشير في آخر الحديث إلى ظاهرة عجيبة تشيع في مجتمعاتنا، وهي انطلاق الشباب في شهر شعبان في لهوهم وغفلتهم من مباح ومحرم بحجة أنهم ينفسون عن رغباتهم وشهواتهم في شعبان احتراماً لشهر رمضان! وهم يسمون هذه الظاهرة (الشعبنة)!
وأحب أن يعلم الإخوة أن هذه الشعبنة موجودة من قديم، وقد ذم الإمام ابن رجب أصحابها في كتابه البارع [لطائف المعارف:310] حيث قال: ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام! وذكرو ا أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه، وربما لم يقتصر بعضهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات، وهذا هو الخسران المبين.. وقد أنشد بعضهم:
إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار فإن الوقت ضاق عن الصغار
قال رحمه الله: ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه وله نصيب من قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لانْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]. أهـ.
وبعد:
وبعد أيها الأخ العزيز:
أما زلت مصراً على تكرار مأساة كل عام؟
أما زلت مصراً على أن تقابل رمضان وأنت في غفلتك؟
أما تحب أن تذوق طعم الخشوع والخضوع وحلاوة الإيمان منذ أول ليلة؟
إني أعظ نفسي وإياك... وأقول لك: الله الله في هذه الأيام أن تتفلت من بين يديك، أعلم أنك قد تكون مشغولاً بالدراسة أو غيرها ولكن ذلك لا يمنع أن تمحض جزءاً من وقتك للطاعة والعبادة والذكر.
والله يرعاك.
(1/1784)
الخشوع
فقه
الصلاة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
28/3/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الخشوع في الصلاة. 2- شرف الخشوع كما دلت عليه النصوص. 3- دلائل
الخشوع وأحوال السلف في ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ألا نعجب من رجلين صلى أحدهما إلى جوار الآخر، ركع كما ركع وسجد كما سجد، فلما انصرفا من صلاتهما كتب أحدهما في عليين، ورُدت صلاة الآخر في وجهه؟
ثم ألا نعجب من أنفسنا نقف بين يدي ربنا وخالقنا نتلو كتابه ونكثر دعاءه حتى إذا جاوزنا باب المسجد رجعنا إلى لهونا وغفلتنا، ولربما رأيت الرجل ينفتل من صلاته فما يجاوز باب مسجد حتى يشعل دخانه أو يطلق بالغيبة والنميمة لسانه؟
أوليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ فما لبعضنا لا تصده صلاته عما هو فيه؟
أي شيء فقدناه ففقدت صلاتنا أثرها؟
لقد فقدت صلاتنا روحها! أتدرون ما روحها؟ إنه الخشوع والخضوع والتذلل بين يدي رب كريم، قال المقدسي: واعلم أن للصلاة أركاناً وواجبات وسنناً، وروحها النية والإخلاص والخشوع وحضور القلب. [مختصر المنهاج].
إن الخشوع في الصلاة هو آية قبولها، ومقياس حسنها، وميزان جودتها، وفي الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عباد بن كثير - وقد ضعف - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((من صلى الصلوات لوقتها وأسبغ لها وضوءها وأتم لها قيامها وخشوعها وركوعها وسجودها خرجت وهي بيضاء مسفرة تقول: حفظك الله كما حفظتني، ومن صلاها لغير وقتها ولم يسبغ لها وضوءها ولم يتم لها خشوعها ولا ركوعها ولا سجودها خرجت وهي سوداء مظلمة تقول: ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق ثم ضرب بها وجهه)) !! [الترغيب:572]. فانظر أي حسرة أعظم من أن ترد صلاتك في وجهك.
وأشد من هذا وقعاً في القلب ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع)) !! [رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب بسند رجاله ثقات]. [الترغيب:739].
فتوهم نفسك هذا الرجل، تصلي ستين عاماً ثم لا تلقى في ميزانك شيئاً!!
وقد شبه عليه الصلاة والسلام العجِل غير الخاشع الذي لا يتم ركوعه وسجوده بالجائع يأكل ما لا يشبعه، فعن أبي عبد الله الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا تغنيان عنه شيئاً)) رواه الطبراني وأبو يعلى بسند حسن [الترغيب:737].
وجعل عليه الصلاة والسلام عدم الطمأنينة والخشوع في الصلاة ضرباً من السرقة، بل عده شر أنواع السرقة، قال عليه الصلاة والسلام: ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) قالوا: وكيف يسرق من الصلاة؟ قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)) [رواه أحمد بسند صحيح، الترغيب:734].
وانظر لتدرك عظم الأمر قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) [أبو داود والنسائي وابن حبان وهو حديث حسن، الترغيب:750].
وقال طاووس: إن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم فيقولون: فلان نقص من صلاته الربع، ونقص فلان الشطر، وزاد فلان كذا وكذا. [مصنف عبد الرزاق:2/371 برقم 3741].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن وجه دينكم الصلاة فزينوا وجه دينكم بالخشوع) [الأساس في السنة:2/781].
فقد تبين إذن أن روح الصلاة وجمالها وكمالها إنما هو في الخشوع، وهذا ما يفسر لنا قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1-2].
وقد تكاثرت النصوص الدالة على شرف الصلاة الخاشعة وجليل منزلتها وأنها ترفع الإنسان درجات وتغفر له ذنبه، روى مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) [مسلم:228].
وفي حديث عمرو بن عنبسة الطويل: ((فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك. [مسلم:1374].
فتأمل ما ذكرت لك وقلّب الطرف فيه وأعمل فيه فكرك وقلبك ثم عد من بعد إلى صلاتك لتقيسها بهذا الميزان الذي لا يكذب، قال الحسن: مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان، من أوفى استوفى [الترغيب:761]. فزن صلاتك أيها الحبيب وانظر أين ستكون حينئذ؟ أين ستكون صلاتك؟ سؤال يحتاج إلى جواب صريح وإن كانت الصراحة مرة في بعض الأحيان.
لقد عاتب الله الصحابة وهم في صدر الإسلام على قسوة قلوبهم فقال سبحانه: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلا أربع سنين) [مسلم:5352].
قال أبو الدرداء: (لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً) [الترمذي].
فما نقول نحن وقد طال بنا الأمد وتشتتنا في أودية الدنيا إلا من رحم الله.
إن للخشوع أيها الإخوة علامات ودلائل وآيات بينات.
فمن دلائل الخشوع السكون والخضوع وعدم الحركة والالتفات، قال الأعمش: كان ابن مسعود إذا صلى كأنه ثوب ملقى. [الترغيب:765]. وكان منصور بن المعتمر أسكن الناس في صلاته وكان ربما صلى في سطح داره، وبلغ من سكونه أن غلام جاره ظنه جذعاً منتصباً، فلما مات قال لأمه: يا أمه أين الجذع الذي كان في سطح آل فلان؟ قالت: يا بني ليس ذاك جذعاً، ذاك منصور قد مات. [الهمة:2/400 نقله عن الحلية]. وقال أحمد بن سنان: ما رأينا عالماً قط أحسن صلاة من يزيد بن هارون، يقوم كأنه اسطوانة [الهمة:2/417].
وقال بعض السلف وقد رأى مصلياً يعبث في صلاته: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه [الخشوع في الصلاة لابن رجب: 25].
ومن دلائله وآياته تعلق القلب بالصلاة وحبه لها ووجدانه الأنس والسرور فيها، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أرحنا بها يا بلال)) ! قال سعيد بن المسيب: ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل علي فرض إلا وأنا إليه مشتاق. [الحلية:2/162 عن صلاح الأمة:2/375]. وكان الإمام عاصم بن أبي النجود قارئ الكوفة محباً للصلاة وكان ربما ذهب لحاجة فإذا رأى مسجداً قال: مِل بنا، فإن حاجتنا لا تفوت ثم يدخل فيصلي! [السير:5/259 عن الهمة:2/397].
وقال ابن شبرمة: صحبت كرزاً في سفر، وكان إذا مر ببقعة نظيفة نزل فصلى. [الحلية:5/89 عن الهمة:2/402]. وبلغ من حب ثابت البناني للصلاة أنه كان يدعو فيقول: اللهم إن أذنت لأحد أن يصلي في قبره فائذن لثابت أن يصلي في قبره. [السير:5/222، عن الهمة:2/394].
ومن أمارات الخشوع كذلك: رقة القلب ودمع العين وأزيز في صدر المصلي كأزيز المرجل من البكاء، قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتنا وما فينا نائم إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. [الترغيب:763]. وقال ابن عجلان: بت ليلة عند الربيع بن خثيم فقام يصلي فمر بهذه الآية: أَمْ حَسِبَ ?لَّذِينَ ?جْتَرَحُواْ ?لسَّيّئَـ?تِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ سَوَاء مَّحْيَـ?هُمْ وَمَمَـ?تُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]. فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها ببكاء شديد.
وكان بكاء سفيان في صلاته يكاد يمنعه من القراءة، وهذا الفاروق رضي الله عنه ثبت في ترجمته أنه كان يصلي بالمسلمين أيام خلافته ويقرأ في صلاة العشاء وصلاة الفجر سورة يوسف، فيبكي حتى يسمع الناس نشيجه من آخر الصفوف، وكان في وجهه رضي الله عنه خطان أسودان من كثرة بكائه. وقال إسحاق: كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبد العزيز على الحصير في الصلاة. [الهمة:2/414].
ومن أماراته أن يأنس الإنسان بصلاته حتى ليكون فقده الدنيا أهون عليه من قطع صلاته والخروج منها، صلى الإمام البخاري يوماً في بتان فلما فرغ رفع قميصه وقال لبعض من معه: انظر أترى شيئاً؟ فإذا زنبور قد لسعه في سبعة عشر موضعاً وقد تورم من ذلك جسده، فقال له بعض القوم: كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أبرك؟ قال: كنت في سورة فأحببت أن أتمها! [الهمة:2/421].
وصلى عباد بن بشر رضي الله عنه ليلة وهو يحرس المسلمين فرماه كافر بسهم فنزعه واستمر في صلاته فرماه بثان فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد فانتبه صاحبه، فلما رأى ما به، قال: سبحان الله أفلا أنبهتني أول ارمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها! [أبو داود، عن الهمة:2/438].
ومن علامة الخشوع أن يستغرق المصلي في صلاته فلا يشعر بما حوله ولا بمن حوله، ولقد كان مسلم بن يسار إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا! وكان يقول لهم: إذا صليت فتحدثوا فلست أسمع حديثكم! وصلى يوماً فانهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق، وإنه لفي صلاته ما التفت! [الهمة:2/387].
وصلى أبو زرعة الرازي إماماً عشرين سنة وفي محرابه كتابة، فسئل عن الكتابة في المحراب فقال: كرهه قوم ممن مضى، فقالوا له: هو ذا في محرابك كتابة أما علمت بها؟! فقال: سبحان الله رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه؟!! [الهمة:2/422].
وسرق رداء يعقوب الحضرمي وهو في صلاته فلم يشعر ثم رد إليه فلم يشعر لشغله بالصلاة. [السير:10/172، عن الهمة:2/418].
ولقد كان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم على الخشوع حساباً شديداً، ويعدون الغفلة في الصلاة والسهو فيها أمراً جللاً حتى لقد قيل لعامر بن عبد قيس: هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا في الصلاة؟ فقال: لأن تختلف الأسنّة فيّ أحب إلي من أن أجد هذا [الأساس:2/789].
وروى مالك في موطئه أن رجلاً من الأنصار كان يصلي في حائط له في زمان الثمر والنخل قد ذللت وهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبته ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لم يدر كم صلى؟ فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة، فجاء عثمان رضي الله عنه وهو يومئذ خليفة فذكر ذلك له وقال: هو صدقة فاجعله في سبل الخير، فباعه بخمسين ألفاً.
"يصلي ماكتب الله له صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه لا صلاة مدل بها عليه يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن استزاره وطرد غيره وأهله وحرم غيره فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة فهو يتمنى طولها ويهتم بفراقها كما يتمنى المحب الفائز بوصول محبوه ذلك، فهو كما قيل: يود أن ظلام الليل دام له، وزيد فيه سواد القلب والبصر" [طريق الهجرتين].
"فواأسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفد العمر، والقلب محجوب، ما شم لهذا رائحة وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً" [ طريق الهجرتين:205].
يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟
قال حذيفة: إياك وخشوع النفاق! قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع.
رأى عمر بن الخطاب رجلاً طأطأ رقبته فقال: يا صاحب الرقة ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب.
قال حذيفة: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً) [تهذيب المدارج:276].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1785)
الهجرة وصناعة الأمل
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
23/12/1420
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رسول الله يعرض نفسه على القبائل. 2- الأنصار يستجيبون للرسول صلى الله عليه وسلم.
3- الفجر يولد من الظلام. 4- أعظم دروس الهجرة صناعة الأمل. 5- حماية الله نبيه في
طريق الهجرة. 6- وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
من كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟
ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيماً تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟
يا سبحان الله... إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا يقدر، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييداً، كان يقول صلى الله عليه وسلم في كل موسم: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)) ، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك!
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
"إنها التقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله".
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا... ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه ـ وكان أحد النفر الستة ـ: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعاً فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة)) ، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه [مسند أحمد].
أرأيتم... يعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتسد الأبواب... ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة.
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟
وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها؟
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء وعلينا أن نعمل أن نحمل دعوتنا إلى العالمين ألا نحتقر أحداً ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلم الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه مخاض العزة والتمكين؟
عباد الله: ونحن على أبواب عام هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مودع يمضي بما استودعناه نقف متذكرين هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم... إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة خطه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبراتها (صناعة الأمل) نعم. إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق للا إله إلا الله. الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم. مع ذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكان هذا التراب المذرور رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء.
ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرتقيه فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا! فيقول صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)).
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عناية الله عباده المؤمنين إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38].
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروع سابغات لا قنا مشرعات لا سيوف منتضاه
قوة الإيمان تغني ربها عن غرار السيف أو سن القناة
ومن الإيمان أمن وارف ومن التقوى حصون للتقاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعاً في جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئاً لم يكن يقول له أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يحتسب. وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ماههنا، فكان أول النهار جاهداً عليهما وآخره حارساً لهما!
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل. الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطباً لجهنم. يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة. كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات؟ قال الزبير: فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل نم يهود أطماً من آطامهم لينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا صاحبكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهر الحرة. تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحاً... وتأمل مظاهر الفرحة الغامرة:
ـ قال أنس: (شهدت يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوماً أحسن منه ولا أضوأ منه) [الحاكم].
ـ قال أبو بكر: (ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله) [الحاكم].
ـ قال أنس: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحاً بذلك لعبوا بحرابهم) [أبو داود].
وصدق من قال:
أقبل فتلك ديار يثرب تقبل يكفيك من أشواقها ما تحمل
القوم مذ فارقت مكة أعين تأبى الكرى وجوانح تتململ
يتطلعون إلى الفجاج وقولهم أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها وتدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة وكأنما في كل مغنى بلبل
وهكذا أيها الإخوة الكرام تعلمنا الهجرة في كل فصل من فصولها كيف نصنع الأمل، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل.
فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب باباً إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ؟ [البقرة:216].
لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة.
وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة، وظن الظانون أن الإسلام زائل لامحالة، فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض.
وهاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لاقرار لها ثم عادت المياه إلى مجراها.
وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد سرة الدنيا وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم وقيل: ذهبت ريح الإسلام فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها.
وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيأس ضعيف الإيمان نهد صلاح الدين فرجحت الكفة الطائشة وطاشت الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد.
وقويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والفاطميون على مصر وكتبت مسبة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السنة ضاحكاً.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم... فلم اليأس والقنوط؟
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله).
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها الفرج القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام.. يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبكم لدينكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأس مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعاداً وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبين قادر على أن يمزق شمل الروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت.. يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك.
أنت.. يا من جهدك الفقر وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابك وعدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لايقبله أحد.
أنت.. يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال.
أنت.. هل نسيت رحمة الله وفضله؟
(1/1786)
اليهود وأوهام السلام
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
أديان, جرائم وحوادث
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
24/7/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة أبي عزة الجمحي مع النبي صلى الله عليه وسلم. 2- غدر اليهود والتواصل عبر
التاريخ. 3- وثيقة هامة لحاخام يهودي عن مخططات اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
للمرة الألف تفقد هذه الأمة ذاكرتها، وتجلس مع عدوها تبحث عنده عن سلام وعهود ومواثيق.
يذبحها عدوها بالأمس فتمد له اليوم ذراع المصافحة!!
يصفعها بالأمس وتدير له اليوم خدها الآخر تظنه سيقبلها!!
يكذب عدوها ألف مرة ولا تزال ترجو أن يصدق!
يخون لها ألف ميثاق ولا تزال تثق بمواعيده!
يخدعها ألف مرة ولا تزال قابلة لأن تخدع!!
أين هذه الأمة من هدي رسوله صلى الله عليه وسلم لما أسر أبا عزة الجمحي وكان شاعراً قد هجا المسلمين وآذاهم فتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستعطفه ليطلق سراحه شاكياً فقره، وقال: لي خمس بنات ليس لهن شيء، فتصدق بي عليهن، وإني أعاهدك أن لا أقاتلك وأن لا أكثر عليك أبداً، فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحه، فلما كانت غزوة أحد خرج مع قريش يدعو العرب إلى محاربة المسلمين، ووقع أسيراً مرة أخرى، فتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعطفه مرة أخرى وقال: يا محمد إني خرجت مكرهاً ولي بنات فامنن علي، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أين ما أعطيتني من العهد والميثاق؟ لا والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: سخرت بمحمد مرتين)) وفي رواية أخرى: ((إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، يا عاصم بن ثابت قدمه فاضرب عنقه)) فقدمه عاصم فضرب عنقه!
هكذا إذن هي الأمة الواعية اليقظة، لا يخدعها عدوها مرتين، ولا تلدغ من جحر مرتين.
فما لنا اليوم؟ ما لنا لا تعظنا أحداث التاريخ وتقلبات الأيام؟
إن اليهود أنفسهم لا ينسون ثاراتهم وأحقادهم... وهم إلى اليوم يطنطون في كل مكان بأكذوبة (الهولوكوست) يزعمون أن هتلر قتل ستة ملايين يهودي في عنابر الغاز، وعلى أن هذا كذب محض إلا أنهم عدوه جزء من تاريخ آلامهم، وروجت له آلتهم الإعلامية الضخمة، وابتزوا من خلاله دول العالم، وحصلوا من ألمانيا على تعويضات ضخمة، ومازالوا يتهمون كل من ينكر هذا بعداء السامية ويؤلبون العالم ضده، وما خبر جارودي عنا ببعيد!
إني أسائل كل من مد للسلام يده: كم مرة عض اليهود يداً امتدت إليهم بالسلام؟ كم مرة نقض اليهود عهودا أبرموها ومواثيق عقدوها؟ ألم يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وظاهروا المشركين عليه؟ ألم يغدروا بالدولة العثمانية ويتسببوا في سقوطها وانطواء الخلافة الإسلامية؟ ألم يتجاوزوا كل العهود والمواثيق المعاصرة ابتداء من أوسلو وانتهاء بشرم الشيخ؟ ألم يكن ذلك كافياً ليفيق الغفاة، ويستيقظ الحالمون بأوهام السلام؟
بل ألا تكفي شهادة القرآن العظيم:
?لَّذِينَ عَـ?هَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ [الأنفال:56].
أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].
إن اليهود ينظرون إلى العهود والمواثيق التي يوقعونها على أنها للضرورة ولغرض مرحلي، فإذا استنفد الغرض وتحقق المراد نقض اليهود الميثاق والعهد غير آبهين لشيء. إن اللجوء إلى العهود والمواثيق بالنسبة لهم حالة اضطرارية يلجؤون إليها حين يضعف موقفهم ويشعرون بالخطر. "وانظر شاهد ذلك في كتاب الله: وَإِذ نَتَقْنَا ?لْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَ?ذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171]. قال ابن عباس: "أمرهم موسى بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم، وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، قال: رفعته الملائكة فوق رؤوسهم" وفي رواية أخرى: أن موسى قال لهم: هذا كتاب من الله أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم. فقالوا: انشر علينا ما فيها فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلناها. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لا، حتى نعلم ما فيها، فراجعوه مراراً، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في الماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي عز وجل: لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل، فلما نظر نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجداً على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى فرقاً من أن يسقط عليه! قال الحسن البصري: فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون: هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة. [انظر ابن كثير:2/250].
أرأيتم كيف أن اليهود لا يخضعون إلا تحت تأثير القوة؟ ومن أجل هذا المعنى جاء الأمر الكريم: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]. وأنت أيها الأخ الكريم أنزل هذا الذي سمعته على واقع القوم اليوم وتأمل ـ على سبيل المثال ـ قمة شرم الشيخ الأولى والثانية متى تداعى إليها القوم؟ ألم يكن ذلك بعدما اصطلت يهود بنيران المجاهدين، وهزتها تكبيرات المجاهدين؟
ولعل من طريف ما نبه إليه القرآن وبتنا نراه في واقعنا أن اليهود حين ينقضون العهود لا ينقضها جميعهم في وقت واحد، وإنما ينقضها فريق دون آخر، فإن أصابه سوء تظاهر الفريق الآخر بالمحافظة على العهد، وإن استقام لهم الأمر تتابعوا في النقض ومشى بعضهم وراء بعض، قال سبحانه: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم [البقرة:100].
وانظر اليوم إلى الواقع اليهودي لترى صدق ما أقول: فثم حزب العمل وحزب الليكود، يدعو أحدهما إلى السلام ويجاهر الآخر بالعداوة، ويجلس هذا على مائدة المفاوضات والآخر يعمل سلاحه، فإذا أمنوا تهالكوا جميعا في الحقد والبطش والمكر.
هكذا هم اليهود فتبا لمن لم تعظه صروف الزمان...
ومن لم تعظه صروف الزمان وكيد الليالي يعيش مستضاما
أيها الإخوة الكرام... أما إني سأروي لكم اليوم خبر وثيقة نادرة كفيلة بأن تحرق كل أوهام السلام، لأنها تكشف بوضوح عن نوايا يهود وتخطيطهم وكيدهم ومكرهم، فليرعني كل امرئ سمعه، فإن فيها شهادة شاهد من أهلها...
نشرت دورية (الصليب والعلم) التي تصدرها جمعية أمريكية وطنية تعنى بالأمن القومي في عددها الصادر عام 1955م تصريحات هائلة لحاخام يهودي ثري، يقول: "أنا أحد أثرياء اليهود الذين جاؤوا إلى هذه البلاد من أوروبا، وكنت في بلدي سعيداً في حياتي، وذا مكانة طيبة، ولكن المجلس الأعلى اليهودي قرر الإطاحة باقتصاد ذلك البلد، ولما كنت من تجاره، وكانوا حريصين على أن لا يصاب أثرياء يهود بما سيصاب به أغنياء النصارى أمروني أن أغادر البلاد بأموالي إلى أمريكا، وأصيبت اقتصاديات ذلك البلد بالانهيار، وسلمت أنا وأمثالي من أثرياء يهود. وكنت سعيداً إلى أن أكرهت إلى الانضمام إلى المجلس اليهودي الأعلى، وهناك ظلوا ينفثون في صدورنا مبادئ اليهودية، ويؤكدون لنا أنه ليس لليهود أصدقاء سوى أبناء قومهم، ولهذا يطلبون إلينا عدم الثقة بغير يهود.
وفي بعض الأيام سمعت همساً عن وجود خطة سرية اسمها الخطة ( p ) وهي خطة في مظهرها تافهة جداً، ولكنها في مراميها في غاية الخطورة! إن الحرف ( p ) مقتطع من كلمة ( PEASE ) بمعنى السلام، نعم إنها خطة السلام السرية أو عملية السلام القاتلة! أو خطة إفناء الشعوب! لقد عرفنا ذلك عندما دعينا إلى اجتماع وتحدث لنا حاخام كبير قائلاً: لقد اتفقنا من إخواننا يهود روسيا على مخطط موحد اسمه (مخطط السلام)، والعمل لتحقيقه لا يتطلب منا سوى الإلحاح والمثابرة على الدعوة للمحافظة على السلام، والقصد منه ذو شقين: أحدهما الحصول على الوقت للازم لنا ولحلفائنا لكي نتمكن من تسليح جيوشنا وتقوية أجهزتنا الحربية. وأما الشق الآخر: فهو وقف سباق التسلح السائد الآن لدى الدول المعادية لنا ولحلفائنا، وإرغام الدول على تدمير أسلحتها الذرية، وتخفيض جيوشها الجرارة، وقتل الروح العسكرية في الأوساط الشعبية، ودفع الجماهير إلى غير الجندية وتنفيرهم منها، بينما سنثابر نحن وحلفاؤنا على التسلح إلى أبعد مدى مستطاع.
ولنتوصل إلى تحقيق هذه الأهداف فعليكم العمل دون وادة على دعوة الناس إلى مناصرة السلام، وتسفيه كل منهاج أو رأي يدعو إلى التسلح، والهجوم على كل من يناصر الجندية، وإثارة الأفكار على كل مشروع دفاعي، وتحريض الناس على الامتناع عن الإسهام في الأغراض العسكرية، والتنديد بكل ما ينفق في أمور الحرب.
وإذا أجدنا القيام بدورنا في هذا المضمار فسترون في المستقبل القريب أن جميع الدول ستنساق وراء هذه الدعوة، وتنبذ مشروعاتها الحربية، وتقلص عدد فرقها العسكرية، كما ستشاهدون الشعوب وقد جرفها هذا التيار، وتصدت للجندية والتسلح بالإنكار والمناوأة، ودب الفساد الخلقي في أفرادها، وتنكرت لمبادئها وتقاليدها، وضربت بمفاهيم الوطنية والقومية عرض الحائض، وألقت بنفسها في متاهات الصراع الطبقي والحزبي، وأضاعت مقوماتها الوطنية والقومية، وحينئذ نكون نحن قد اقتربنا من النصر المحقق!
أيها الإخوة: ربما استغرب أحدكم انقلابنا المفاجئ، وسأل عن الأسباب التي دفعتنا إلى أن نكون دعاة سلم بعد أن كنا دعاة حروب وثورات، واعلموا أن الأسباب التي حملتنا في الماضي على إشعال نار الثورة الفرنسية، ثم الثورة الروسية، وافتعال الحربين العالميتين هي نفسها التي تدفعنا إلى الدعوة إلى السلام لأول مرة في التاريخ، وما هذه الأسباب بخافية عليكم، فهي ما تعرفون من أهدافنا الخاصة، والتي يتطلب تحقيقها تجريد خصومنا من أسلحتهم ريثما نتمكن من التسلح والتأهب لجولاتنا القادمة.
والآن بعد أن شرحت لكم الأمر أرجو أن يعمل كل فرد منكم بكل قدرته على الدعوة إلى السلام... انقشوا على مصنوعاتكم ما يرمز إلى السلام، ولتقم أجهزة إعلامكم بالإصرار على الدعوة إلى السلام، والتنديد بالحرب، وتعداد مساوئها وويلاتها كي نخوف الناس منها، وفي الوقت نفسه نكون قد أتممنا استعداداتنا ووسعنا شبكات تجسسنا في أجهزة الدول المعادية لنا، وأوصلنا أتباعنا إلى مراكز النفوذ والجاه في كل مكان، واستولينا على إدارات المؤسسات المختلفة. وهكذا تصبح جميع أسرار أعدائنا في متناولنا، كما ستكون مقدرات بلادهم في أيدي أنصارنا، وعندها سنختار الزمان والمكان لزج العالم في حربه الثالثة، إذ يكون ميزان القوى قد اختل تماماً.
والجدير بالذكر أنا أوعزنا إلى عملائنا في أروقة الأمم المتحدة أن يعملوا ضمن هذا المخطط، وبما أن أكثرهم يمثل المراكز الرفيعة في المؤسسة فإنهم جميعا الآن على أتم الاستعداد لنشر مبادئنا الجديدة والعمل على إنجاحها.
ويبدو أنهم خطوا في هذا المضمار خطوات واسعة لأن البوادر تشير إلى أن الأمم المتحدة أصبحت تحبذ الاختلاط بين الشعوب وتعمل على صهر القوميات وتدعو إلى قيام الدعوة العالمية الواحدة... ومع ذلك لم يتنبه أحد إلى سلوكها... هؤلاء الأغبياء يظنون أن الدعوة لإقامة الدولة العالمية والسعي لبسط نفوذ مؤسسة الأمم المتحدة سيقودهم إلى إنشاء دولة أممية، وأن الدعوة إلى السلام السبيل الوحيد لإنشائها. مع أن الدولة العالمية التي ينشدونها ليست إلا دولتنا، والدعوة للسلام هي السلاح الخطير الذي سيخضعهم في النهاية إلى سيادتنا لأنهم لا يعلمون أن هذه الدعوة هي المخدر الذي نستعمله لتنويمهم لنتمكن من إكمال استعداداتنا، وسيدفعون ثمن غفلتهم هذه غاليا.
يا بني إسرائيل إنني أرى وأشعر بقرب مجد عجلنا الذهبي، فلترتفع أصوات أبواقنا لتنهار قلاع الأعداء أمامنا. أهـ.
هكذا اعترف هذا الحاخام اليهودي وكشف الحقائق... وأظن أن كل حرف مما قال له في الواقع شاهد، وأحسب أن كل متابع منكم لقضايا أمته، كان يضع بإزاء كل جملة حدثاً مر به، وكانت كل كلمة تفسر له جوانب كانت غامضة في بعض ما رأينا وسمعنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم تكن تلك الوثيقة الشاهد الوحيد على أن الدعوة إلى السلام مكيدة يهودية الصنع، إسرائيلية الطابع.
لقد جاء في نشرة يهودية سرية لجمعية (القبالا) اليهودية، وهي جمعية قد سبق لبعض الصحف الإسلامية فضحها منذ زمن قريب، جاء في هذه النشرة: "واعملوا أيها الإخوة أننا أعددنا لكل شيء عدته، وبفضل فرية السلام العامة التي جعلناها بمنزلة الصلاة اليومية للإنسانية جمعاء لكثرة ما تحدثت عنها إذاعاتنا سوف نحطم أعصاب البشرية برمتها، وسنركز جهدنا على تذكير الناس بالأهوال المرتقبة من الحروب لنرهبهم، ونجعلهم يلتمسون تجنبها مهما كان الثمن، عندها سنخرج عليهم بفكرة الدولة العالمية الواحدة بحجة أنها الوسيلة الفريدة للحيلولة دون قيام الحرب، بينما سيكون هدفنا الحقيقي منها التمهيد لإزالة الفوارق العنصرية والدينية لتنصرف الشعوب المعادية لنا عن مراقبتنا والتحري عن خفايا مناهجنا، ومن ثم إضعاف النزعات القومية والوطنية بين أفرادها، ولإيهامها بنبل مقاصد دعوتنا سنروج لفكرة التعاون الاقتصادي بين الدول بحجة السعي لرفع مستوى الشعوب المختلفة، وسنشجع الدول الرأسمالية الخاضعة لنا على منح القروض للدول الأخرى، ولإغفالها عن مراقبتنا سنبادر إلى الإسهام بقسم من هذه القروش، ومن المؤكد أن الدول الكبرى ستلبي دعوتنا لتظهر بمظهر المحبة للخير والإنسانية، ومن جهة ثانية لتسيطر بزعمها على الدول التي ستتلقى منها القروض، وإن صح زعمها هذا فتكون في الواقع قد أخضعت تلك الدول لمشيئتنا بصورة غير مباشرة، باعتبارها هي خاضعة لنا.
أيها الإخوة: لم نعد نخشى أحداً، ولن يجرؤ أحد بعد اليوم على مناصبتنا العداء، ولو قدر لأحد الأغبياء أن يتصدى لنا لما احتجنا إلى أكثر من الإيعاز لصحافتنا لتشهر به وتصفه بأنه نازي وتتهمه باللاسامية ولا يلبث أن يجد نفسه منبوذاً محتقراً !!... كل ذلك لأن الأغبياء لا يرون إلا بأعيننا ولا يفكرون إلا بما نوحيه إليهم.
وبعد أيتها الأمة المسلمة:
هل بقي مجال للانخداع؟ وهل يظن في أمة هذه عقائدها حب للسلام أو حرص عليه؟
(1/1787)
أنوار الليل
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
12/9/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الصالحين الليل. 2- أحوال السلف في الليل. 3- فضل قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
إذا أقبل الليل بظلامه وسواده أقبل عليه الصالحون يستنبطون من داجية حلكته أنوار الصباح، وينسجون من سواده بُرُد الضياء الوضَّاح، ويصنعون من وحشته الأنس والانشراح، وينطقون صمته المهيب بألسنة فصاح.
واعجباه... كيف أخرجوا النور من قلب الظلمة، وصاغوا حلل الفجر من خيوط الليل؟!
واعجباه... كيف حولوا الوحشة إلى أنس، والانقطاع إلى صلة؟
يا ترى.. أيَّ سر كشفوه في الليل حتى أحبوه وعشقوه وفضلوا ظلمته على وضح النهار؟ حتى إن سليمان الداراني ليقول: لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. ويقول علي بن بكار: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر. ويقول السري: رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل.. ويقول الأوزاعي: كان السلف إذا انصدع الفجر أو قبله بشيء قليل كأن على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حميماً لأحدهم قد غاب عنه حيناً ثم قدم ما التفت إليه.
ترى أي أسرار كانت لهم في الليل؟
أي نجاوى كانت تحملهم على بساطه إلى آفاق رحبة ينقطعون فيها عن دنيا الناس ليعيشوا مع رب الناس؟
قلت لليل كم بصدرك سر أخبرني ما أروع الأسرار؟
قال:
ما ضاء في ظلامي سر كدموع المنيب في الأسحار
نعم هذه هي أسرار الليل التي هدوا إليها...
إنها صلاة المصلين ودموع الباكين ومناجاة الخاشعين.
إنها زفرات المذنبين وآهات التائبين وأنين المستغفرين.
إنها دعاء المخبتين ومناجاة المحبين ووجد المشتاقين.
بكى أبو سليمان يوماً فقال له ابن أبي الحواري ما يبكيك؟ قال: ويحك يا أحمد كيف لا أبكي وقد بلغني أنه إذا جن الليل وهدأت العيون وخلا كل خليل بخليله واستنارت قلوب العارفين وارتفعت هممهم إلى ذي العرش وافترش أهل المحبة أقدامهم بين يدي مليكهم في مناجاته ورددوا كلامه بأصوات محزونة جرت دموعهم على خدودهم وتقطرت في محاريبهم خوفاً واشتياقاً، فأشرف عليه الجليل جل جلاله فنظر إليهم فأمدهم مهابة وسروراً، وقال: يا جبريل ناد فيهم ما هذا البكاء الذي أسمع؟ وما هذا التضرع الذي أرى منكم؟ هل سمعتم أو أخبركم عني أحد أن حبيباً يعذب أحباءه؟ أو ما علمتم أني كريم؟ فكيف لا أرضى؟ أيشبه كرمي أن أرد قوماً قصدوني؟ أم كيف أذل قوماً تعززوا بي؟ أم كيف أحجب غداً أقواماً آثروني على جميع خلقي وعلى أنفسهم وتنعموا بذكري؟ فبي حلفت لأبعدن الوحشة عن قلوبهم ولأكونن أنيسهم إلى أن يلقوني فإذا قدموا علي يوم القيامة فإن أول هديتي إليهم أن أكشف لهم عن وجهي حتى ينظروا إلي وأنظر إليهم، ثم لهم عندي ما لا يعلمه غيري!! ثم قال الداراني: يا أحمد إن فاتني ما ذكرت لك فيحق لي أن أبكي دماً بعد الدموع. [رهبان:520].
فياحسنهم والليل قد أقبل بحنادس ظلمته وهدأت عنهم أصوات خليقته وقدموا إلى سيدهم الذي له يأملون، فلو رأيت أيها البطال أحدهم وقد قام إلى صلاته وقراءته فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله!
قد هدّ أجسامهم الوعيد وغير ألوانهم السهر الشديد يتلذذون بكلام الرحمن، ينوحون به على أنفسهم نوح الحمام. يرون أن من أعظم نعم محبوبهم عليهم أن أقامهم وأنام غيرهم واستزارهم وطرد غيرهم وأهلهم وحرم غيرهم.
قد يئسوا من الدنيا ويئست منهم، فلو رأيتهم لرأيت رجالاً إذا جنهم الليل مزقوه بسكاكين السهر، إن القوم أعطوا المجهود من أنفسهم فلما دبرت المفاصل من الركوع وقرحت الجباه من السجود وتغيرت الألوان من السهر ضجوا إلى الله بالاستغاثة فهم أحلاف اجتهاد لا يسكنون إلى غير الرحمن. تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:16].
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا
بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليها يسجدونا
فلما علم الله صدق همتهم وصفاء نيتهم جعل لهم نوراً يمشون به في الناس، قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بنور الرحمن فألبسهم نوراً من نوره. عبد العزيز بن عمير: إن الرجل لينقطع إلى بعض ملوك أهل الدنيا فيرى أثره عليه، فكيف بمن ينقطع إلى الله عز وجل كيف لا يرى أثره عليه؟
لقد سمعوا نداء الله حين يتنزل في الثلث الأخير ويقول: ((هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من داع حتى ينفجر الفجر)) [البخاري]. فاستحوا ألا يجيبوا خالقهم ومولاهم، أخذ الفضيل بن عياض بيد الحسين بن زياد وقال: ياحسين، ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول الرب: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني؟ أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟ ها أنذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل، غدا أقر أعينهم في جناتي.
وقال سفيان الثوري: بلغنا أنه إذا كان أول الليل نادى مناد: ألا ليقم العابدون، قال: فيقومون فيصلون ما شاء الله ثم ينادي في وسط الليل: ألا ليقم القانتون، قال: فيقومون كذلك يصلون إلى السحر. قال فإذا كان السحر نادى مناد أين المستغفرون؟ قال: فيستغفر أولئك ويقوم آخرون يصلون، فإذا طلع الفجر نادى مناد ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم. وقال ابن مسعود: حسب الرجل من الخيبة والشر أن ينام حتى يصبح وقد بال الشيطان في أذنه.
لقد أبوا أن يبول الشيطان في آذانهم وقالوا مع نبيهم: ((مضى عهد النوم يا خديجة)) !! وشمروا عن ساعد الجد ليزاحموا أصحاب النبي عليه بالركب، وجعلوا من دموعهم رسائل إلى ربهم.
كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لاْسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].
إذا ما الليل أظلم كآبدوه فيسفر عنهم وهم ركوعُ
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود أنين منه تنفرج الضلوع
قال أبو الزناد: كنت أخرج من السحر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلا أمر ببيت إلا وفيه قارئ، وكنا نحن فتيان نريد أن نخرج لحاجة فنقول: موعدكم قيام القراء.
قال الحسن بن عرفة ليزيد بن هارون: يا أبا خالد: ما فعلت العينان الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار!
وقال الحسن: كان عمر رضي الله عنه يمر بالآية من ورده بالليل فيبكي حتى يسقط ويبقى في البيت يعاد للمرض.
وكان ابن عمر يحي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فيقول: لا، فيعاود فإذا قال: نعم، قعد يستغفر الله حتى يصبح.
وكان عتبة الغلام يقول في ليله على ساحل البحر: إن تعذبني فإني لك محب، وإن ترحمني فإني لك محب، فلم يزل يرددها ويبكي حتى يصبح.
رجع أبو ريحانة من بعث غزا فيه، فلما انصرف أتى أهله فتعشى ثم دعا بوضوء فتوضأ ثم قام إلى مسجده فقرأ سورة ثم أخرى فلم يزل مكانه حتى أذن المؤذن فأتته امراته فقالت: قد غزوت فتعبت ثم قدمت إلي ولم يكن لي منك نصيب! فقال: بلى، لو ذكرتني لكان لك علي حق. قالت: فما الذي يشغلك يا أبا ريحانة؟ قال: لم يزل يهوى قلبي فيما وصف الله في جنته حتى سمعت المؤذن!
قدم عبد الرحمن الأسود وهو معتل الرجل فقام يصلي الليلة حتى أصبح شاغراً رجلاً قائماً على رجل واحدة وصلى الفجر بوضوء العشاء.
كان ثابت يقوم من الليل فإذا أصبح يأخذ قدميه فيعصرهما ويقول: مضى العابدون وقطع بي! والهفاه!
ثابت بن أسلم البناني: كان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السحر قال في دعائه: اللهم إن كنت أعطيت أحدا من خلقك الصلاة في قبره فأعطنيها.
وكانت لداود ركعة من الليل يبكي فيها نفسه، ويبكي ببكائه كل شيء، ويصرف بصوته الهموم والأحزان.
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عينا لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عينا للبكاء تعار؟
وقال محمد بن عوف قال: رأيت أحمد بن أبي الحواري فلما صلى العتمة قام يصلي فاستفتح بالحمد لله إلى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. فطفت الحائط كله ثم رجعت فإذا هو لا يجاوزها ثم نمت ومررت في السحر وهو يقرأ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فلم يزل يرددها إلى الصبح!
وكانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت فقالت: إلهي غارت النجوم ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها وبابك مفتوح، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تصلي فإذا كان السحر قالت: اللهم هذا الليل قد أدبر وهذا النهار قد أسفر فليت شعري هل قبلت مني ليلتي فأهنى أم رددتها علي فأعزى؟
وروي عن طلق أنه كان إذا قام من الليل لا يركع إذا افتتح سورة البقرة حتى يبلغ العنكبوت، وكان يقول: أشتهي أن أقوم حتى يشتكي صلبي!
هكذا إذا عرفوا أسرار الليل وعاشوا صفاءه وجماله. فكانوا يتهيأون له ويستقبلونه بأحسن ما عندهم.
كان لعمرو بن الأسود حلة بمائتي درهم يلبسها إذا قام إلى صلاة الليل.
كان أبو حنيفة إذا أراد أن يصلي من الليل تزين حتى يسرح لحيته.
كان تميم الداري إذا قام من الليل تطيب بالغالية واشترى حلة بألف كان يصلي فيها.
وهكذا عرفوا أسرار الليل وعاشوا صفاءه وجماله فلم يعدلوا به شيئاً، ولئن توهم متوهم جنته في دنياه ومتاعه فإن جنة المؤمن في محرابه كان عبد العزيز بن أبي رواد: يفرش له الفراش فيضع يده عليه ويقول: ما ألينك ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته.
قيل لحسان بن أبي سنان في مرضه: ما تشتهي؟ قال: ليلة بعيدة ما بين الطرفين أحيي ما بين طرفيها.
بكى أبو الشعثاء عند موته فقيل له ما يبكيك؟ فقال: لم أشتف من قيام الليل!!
فيا لشوق عَمَر قلوبهم، ويا لأسرار تكشفت لهم في ذلك الليل فأسهرتهم حين نام الغافلون، وأشجتهم حين غفل الخليون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عن أسماء بنت يزيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة فينادي مناد فيقول: أين الذين كانوا تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يؤمر بسائر الناس إلى الحساب)) [البيهقي].
وعن إياس بن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لابد من صلاة بليل ولو حلب شاة)) [الطبراني].
وفي الحديث الحسن أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل)) [الطبراني بسند حسن].
واسمع لتعجب، عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم... والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن فيقوم لله، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا فقام من السحر في سراء وضراء)) [الطبراني بإسناد حسن].
أي أخي...
لو سرت عن هواك خطوات لاحت لك الخيام.
ولو هجرت فراشك من الليل لاستقبلتك الحور العين.
ولو صدقت العزم لأقامك الله بين يديه في الليل.
ففي بعض الآثار: يقول الله عز وجل في كل ليلة: يا جبريل أقم فلاناً وأنم فلاناً.
غفلنا عن دأب الصالحين فضاع علينا ثواب الصالحين، وغلفنا قلوبنا بالمعاصي النكر، فضاعت علينا أسرار الليل ونسائم السحر.. سأل داود عليه السلام جبريل: أي الليل أفضل؟ قال ما أدري إلا أن العرش يهتز من السحر.
ويا أيها الشاب... وهبك الله القوة والعزم فأين جزاء الشاكرين؟ قال محمد بن يوسف: كان الثوري يقيمنا الليل فيقول: قوموا يا شباب، صلوا ما دمتم شباباً، إذا لم تصلوا اليوم فمتى؟
عن سالم عن أبيه قال: أول ما ينقص من العبادة التهجد بالليل ورفع الصوت فيها بالقراءة.
كان مخلد بن الحسين يقول: ما انتبهت من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله فأغتم! ثم أتعزى بقوله: ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [المائدة:54].
(1/1788)
في استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
29/8/1419
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس في استقبالهم شهر رمضان. 2- استقبال النبي شهر رمضان. 3- خطبة
النبي صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان. 4- خصائص شهر رمضان. 5- فضل
عبادة الصوم. 6- الاختبارات وشهر رمضان. 7- بعض أحوال المسلمين في رمضان. 8-
دعوة لاغتنام شهر رمضان قبل فواته.
_________
الخطبة الأولى
_________
قفوا يا رجال!
وسط سواد الدخانْ
هنا بذرة الوعد تنمو، وإشراقة الفجر تبدو
ويهوي الهوانْ
وما بين حر اللهيب ونزف الحريق يكون الأمانْ!
إذا لم ترد الحقوق الخطبْ
فلن يفهم الخصم إلا كلام اللهبْ
نعم وحده كلام اللهب يفهم المعتدين.
ومع اقتراب هذا الشهر المبارك شهر الفداء والجهاد تجددت صور التضحيات والبطولة، كأنما جاء رمضان ليهز الأمة من غفوتها ويذكرها بمجدها وواجبها.
مع اقتراب هذا الشهر العظيم الذي تنزل فيه القرآن تنزلت الصواعق على رؤوس يهود تقول لهم: نحن هنا، في كل ذرة رمل، وتحت كل شجرة ليمون، وفوق كل غصن زيتون.
مع اقتراب هذا الشهر بدأ إخواننا ينشدون بأفعالهم قول من قال:
لغة الخصوم من الرجوم حروفها فليقرؤوا منها الغداة فصولا
لما أبوا أن يفهموا إلا بها رحنا نرتلها لهم ترتيلا
فلله دره من شهر مبارك...
إيه يا شهرنا العظيم شموخا قد تنسمت من شميم الوادي
ضمنا ضمنا إليك فإنا لم نزل من بنيك والأحفاد
أطلق الروح من عقال التوابيت وزين أيامنا بالجهاد
يا أخوتاه...
لم يعد يفصل بيننا وبين رمضان غير ساعات معدودات تمر مر البرق وتنقضي انقضاء الحلم، ويا للعجب العجاب كيف تصرم عام كامل بكل مافيه فإذا بنا مرة أخرى نستقبل هذا الشهر العظيم.
فهنيئاً لي ولكم ولأمة الإسلام هذا الموسم العظيم والشهر الكريم.
وحيهلا بأيامه المباركات وساعاته الطيبات.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادماً يوم الحصاد
وأريدك أيها الأخ الحبيب أن تقف مع نفسك قليلاً.
ذلك أن الناس في استقبال هذا الشهر العظيم على ثلاثة أصناف:
فمنهم من هو إليه بالأشواق، يعد الأيام والساعات شوقاً ورغبة إلى لقاء رمضان، الشهر الذي أحبه وأنس به، ولسان حاله يقول:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبا زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مفعم كل حب في سوى المولى حرام
إن بالقلب اشتياقاً كاللظى وبعيني أدمع الحب سجام
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب يقول: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)) ، وقال المعلى بن الفضل يقول: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان!! وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلاً.
ومن الناس ناس لا فرق عندهم بين رمضان وغيره فهم يستقبلونه بقلب بارد ونفس فاترة لا ترى لهذا الشهر ميزة عن غيره إلا أنها تمتنع فيه عن الطعام والشراب. فهم يصبحون فيه ويمسون كما يصبحون ويمسون في غيره، لا تتحرك قلوبه شوقاً ولا تخفق حباً، ولا يشعرون أن عليهم في هذا الشهر أن يجدوا أكثر مما سواه.
ومن الناس ناس ضاقت نفوسهم بهذا الشهر الكريم، ورأوا فيه حبساً عن المتع والشهوات، فتبرموا به وتمنوا أن لم يكن قد حل، وقد روت لنا كتب الأدب خبر واحد من هؤلاء أدركه شهر رمضان فضاق به ذرعاً فجعل يقول:
أتاني شهر الصوم لا كان من شهر
ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلوكان يعديني الأنام بقوة
على الشهر لاستعديت قومي على الشهر
فابتلاه الله عز وجل بمرض الصرع فصار يصرع في كل رمضان.
وصدق عليه الصلاة والسلام إذ قال عن شهر رمضان: ((بمحلوف رسول الله ما أتى على المسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه؛ وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، وغنم للمؤمن ونقمة للفاجر)) [رواه أحمد وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، وضعفه الألباني، وهو عند البيهقي وصدره عند ابن خزيمة].
فتأمل حالك أيها الأخ المسلم، وانظر من أي الأقوام أنت!
لقد كان الرسو ل صلى الله عليه وسلم يهنئ أصحابه بحلول هذا الشهر الكريم، ويعلن لهم عن فضائله شحذاً لهممهم وعزائهم، وتشويقاً لهم لاستغلال أيامه وساعاته فعن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال: ((يا أيها الناس قد أظلكم شهر مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن ومن فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً)) قالوا يا رسول الله: ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم! قال: ((يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائماً على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائماً سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة... وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة ألا إله إلا الله وتستغفرونه. وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار)) [رواه ابن خزيمة والبيهقي بسند فيه مقال].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة)) [رواه الشيخان].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) [النسائي والبيهقي بسند حسن، صحيح الترغيب:418].
قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمان زمان" [لطائف المعارف].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يبق منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) [الترمذي والنسائي والحاكم].
عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب واحد الشهر كله، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب الشهر كله، وغلت عتاة الجن ونادى مناد من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي الخير يمم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل من مستغفر نغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفاً، فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفاً ستين ألفاً)) [البيهقي، وهو حديث حسن لا بأس به، الترغيب:1476].
وعن أنس بن مالك: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ماذا يستقبلكم وتستقبلون؟)) ثلاث مرات، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله وحي نزل؟ قال: لا. قال: عدو حضر؟ قال: لا. قال: فماذا؟ قال: ((إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة)) وأشار بيده إليها. [ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي، الترغيب:1478].
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة (يعني في رمضان) وإن لكل مسلم في يوم وليلة دعوة مستجابة)) [البزار].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [الشيخان].
بمثل هذه الأحاديث العظيمة كان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه إذا أظلتهم بشائر شهر رمضان ليحرك من هممهم إلى الطاعة والعبادة، وليصرفهم عن دنياهم إلى أخراهم، ومن متاع فان إلى تجارة رابحة دائمة.
فهل لنا في ذلك متعظ؟
إن كثيرا من المسلمين اليوم لا يعرفون هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب، فيبالغون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي ويكثرون من شراء الكماليات التي لا داعي لها.
والبعض الآخر لا يعرف من رمضان إلا أنه وقت السهر في الليل على اللهو واللعب والغفلة، ووقت النوم والبطالة في النهار فتجده معظم نهاره نائماً، فينام حتى عن الصلاة المفروضة.
والبعض لا يعرف من رمضان إلا انه موسم للتجارة وعرض السلع فينشطون في البيع والشراء ويلازمون الأسواق ولا يحضرون المساجد إلا قليلاً على عجل، فصار رمضان عندهم موسماً للدنيا لا للآخرة، يطلب العرض الفاني ويترك النافع الباقي.
وآخرون لا يعرفون من رمضان إلا أنه وقت التسول في المساجد والشوارع فيمضي أوقاته بين ذهاب وإياب ويظهر نفسه بمظهر الفاقة والفقر وربما كان مخادعاً.
وبعض إخواننا وأحبابنا لا يعرفون عن رمضان إلا أنه شهر الأرصفة والشلل والتجمعات الرصيفية! فهم أبداً من رصيف إلى رصيف، ومن مباراة إلى أخرى، ومن ملعب إلى أخيه.
وبعض الأحباء ظنوا أن مجيء الاختبارات في شهر رمضان يرخص لهم في التفريط في صلاة التراويح والجماعة في المسجد وقراءة القرآن، ومادروا أن المؤمن الجاد يجد في دروسه حتى يتفوق، ويجد في عبادته حتى يتألق وإنه لقادر على الجمع بينهما بإذن الله.
ورحم الله المناوي إذ يقول: "رغم أنف من علم أنه لو كف نفسه عن الشهوات شرها في كل سنة، وأتى بما وظف له فيه من صيام وقيام غفر له ما سلف من الذنوب، فقصر ولم يفعل حتى انسلخ الشهر ومضى".
يا عباد الله: السنة شجرة، والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها وأنافس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشهر شعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها، إن هذه الأشهر الثلاث كالوقفات الثلاث فرجب أولاها تحمى فيها العزائم، وشعبان ثانيتها تذوب فيها مياه العيون، ورمضان ثالثتها تورق فيها أشجار المجاهدات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب، فيامن قد ذهبت عنه هذه الأشر وما تغير أحسن الله عزاءك!
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أي أخي...
أتذكر كم كانت ندامتك وحسرتك حين تصرمت آخر ليلة من رمضان الفائت؟
أتذكر كم من عبرة سكبتها، وأنت تتندم على أوقات من شهر رمضان ضاعت، وليال لم تحسن استغلالها؟
أتذكر أنك عاهدت نفسك يوم ذاك أن تستقبل رمضان القادم بنفس عازمة، وهمة قائمة؟
فها أنت ذا أمام رمضان جديد، وها قد كتب الله لك الحياة لتدرك فرصة أخرى تختبر فيها صدقك ورغبتك في الخير، فماذا ستفعل؟ هل ستبادر؟ أم تفرط في أوقات شهرك حتى يغادر؟ ثم تندم ولا ينفع الندم؟
يا إخوتاه... هل أدركنا مقدار النعمة العظيمة حين من الله علينا ببلوغ هذا الشهر؟ ماذا لو طويت أعمارنا قبله؟ أكنا قادرين على الطاعة والعبادة؟ أكنا قادرين على الركوع والسجود؟
إن الله أعطانا فرصة عظيمة حرمها غيرنا ممن فارق الحياة وأفضى إلى ما قدم... وكم من رجل صلى معنا في هذا المسجد في رمضان الماضي، وسمع حديثاً كهذا الحديث عن فضائل رمضان، ثم هاهو الآن موسد في الثرى يتمنى لحظة يسبح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.
لقد وقفت طويلاً عند حديث عجيب رواه أحمد وابن ماجه، وقفت عنده طويلاً لأنه أشعرني جلال نعمة إدراك رمضان جديد، وأشعرني أيضا بعظيم المسؤولية الملقاة على كل مسلم يكتب الله له عمراً ليدرك شهر رمضان.
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بلي قدما على رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشد اجتهاداً من الآخر فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي قال طلحة فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنه لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وحدثوه الحديث فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله!! فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)) [ابن ماجه:3925].
أفرأيت كيف سبق أقل الرجلين اجتهاد لما أتيح له من فرصة العمل في العمر الممتد؟
"فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي" [نداء الريان:1/169].
(1/1789)
رمضان والقرآن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, القرآن والتفسير, فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
6/9/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبوة النبي في رمضان وهو في الغار. 2- تنزلات القرآن الكريم. 3- ليلة القدر. 4- حال
النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن في رمضان. 5- حال السلف مع القرآن في رمضان. 6-
أيهما أفضل الإكثار من التلاوة أم الاقتصاد مع التدبر. 7- اختصاص رمضان بالقرآن دون
سائر الشهور.
_________
الخطبة الأولى
_________
بشرى من الغيب ألقيت في فم الغار...
في ليلة السابع عشر من رمضان والنبي صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره أذن الله عز وجل للنور أن يتنزل، فإذا جبريل عليه السلام آخذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اقرأ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لاْكْرَمُ [العلق:1-3]. فرجع بها رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرجف فؤاده)) [البخاري:3].
وهكذا نزلت أول آية من هذا الكتاب العظيم على النبي الرؤوف الرحيم في هذا الشهر العظيم.
وهكذا شهدت أيامه المباركة اتصال الأرض بالسماء، وتنزل الوحي بالنور والضياء، فأشرقت الأرض بنور ربها وانقشعت ظلمات الجاهلية الجهلاء.
ومن قبل ذلك شهد هذا الشهر الكريم نزولاً آخر، إنه نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]. إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ [الدخان:2]. قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة [النسائي والحاكم]. وقال ابن جرير: نزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه.
إنها تلك "الليلة الموعودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وانبهار، ليلة الاتصال بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً.
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود نور الله المشرق في قرآنه إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]. ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]. ونور الفجر سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [القدر:5]." [في ظلال القرآن].
"وأي نعمة أعظم من نعمة نزول القرآن؟ نعمة لا يسعها حمد البشر فحمد الله نفسه على هذه النعمة ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى أَنْزَلَ عَلَى? عَبْدِهِ ?لْكِتَـ?بَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف:1].
أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل؟ إنها منة الله على الإنسان في هذه الأرض، المنة التي ولد الإنسان معها ميلاداً جديداً ونشأ بها الإنسان نشأة جديدة، المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعدة إلى القمة السامقة على المنهج الرباني الفريد" [الظلال].
وهكذا إذن، شهد شهر رمضان هذا النزول الفريد لكتاب الله، ومن يومذاك ارتبط القرآن بشهر رمضان شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ومن يوم ذاك أصبح شهر رمضان هو شهر القرآن.
عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى اللهم عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) [البخاري:6، مسلم:2308].
لقد كان القرآن أنيسه وسميره في رمضان.
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفتر من عجب إلا إلى عجـ،ب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتنيها كل ذي أدب وحكمة أودعت في أفصح الكتب
قال ابن رجب: دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له. [لطائف المعارف:354]. وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان، وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها أنه أخبرها أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين. [البخاري:3624، ومسلم:2450]، [لطائف المعارف:355].
قال رحمه الله: وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلاً مما يدل على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً فإن الليل تنقطع فيه الشواغل ويجتمع فيه الهم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر كما قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ ?لَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6]. [لطائف المعارف:355].
وقد كان للسلف رحمهم الله اجتهاد عجيب في قراءة القرآن في رمضان بل لم يكونوا يشتغلون فيه بغيره.
وكان الزهري إذا دخل رمضان يقول: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
وقال ابن الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم.
وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه.
وكان لهم مجاهدات من كثرة الختمات رواها الأئمة الثقات الأثبات رحمهم الله.
فقد كان الأسود يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان كل ست ليال.
وكان قتادة يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة.
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث.
وقال ربيع بن سليمان: كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمة ما منها شيء إلا في صلاة.
وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الرجوي يختم كل يوم.
وروى ابن أبي داود بسند صحيح أن مجاهداً رحمه الله كان يختم القرآن في رمضان فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل.
وكان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء في كل ليلة من رمضان.
قال مالك: ولقد أخبرني من كان يصلي إلى جنب عمر بن حسين في رمضان قال: كنت أسمعه يستفتح القرآن في كل ليلة. [البيهقي في الشعب].
قال النووي: وأما الذي يختم القرآن في ركعة فلا يحصون لكثرتهم فمن المتقدمين عثمان بن عفان، وتميم الداري، وسعيد بن جبير رضي الله ختمة في كل ركعة في الكعبة. [التبيان:48].
قال الذهبي: قد روي من وجوه متعددة أن أبا بكر بن عياش مكث نحواً من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة، ولما حضرته الوفاة بكت أخته فقال: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة. [سير أعلام النبلاء].
قال القاسم عن أبيه الحافظ ابن عساكر: كان يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم. [سير أعلام النبلاء].
فإن قلت أي أفضل؟ أن يكثر الإنسان التلاوة أم يقللها مع التدبر والتفكر؟
قال النووي رحمه الله: والاختيار أن ذلك يختلف بالأشخاص فمن كان من أهل الهم وتدقيق الفكر استحب له أن يقتصر على القدر الذي لا يختل به المقصود من التدبر واستخراج المعاني وكذا من كان له شغل بالعلم وغيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة يستحب له أن يقتصر منه على القدر الذي لا يخل بما هو فيه، ومن لم يكن كذلك فالأولى له الاستكثار ما أمكنه من غير خروج إلى الملل، ولا يقرؤه هذرمة. [الفتح:8/715].
ومعنى ذلك أن الإكثار ـ وإن كان مطلوباً لذاته ـ لا ينبغي أن يطغى على الفهم والتدبر، فلايكن هم المرء كثرة الختم دون أن يعقل مما قرأ شيئاً.
وأما حديث ابن عمر: ((ما فقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)) فقد أجاب عنه الأئمة رضي الله عنهم.
قال ابن رجب: إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان، خصوصاً في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره. [لطائف].
وقال ابن حجر: وكأن النهي عن الزيادة ليس على التحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب، وعرف ذلك من قرائن الحال التي أرشد إليها السياق... وقال النووي: أكثر العلماء على أنه لا تقدير في ذلك، وإنما هو بحسب النشاط والقوة، فعلى هذا يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والله أعلم. [الفتح:8/716].
وإن قال قائل: هذا الذي ذكر لا يقبله عقل ولا يقره منطق، فإنني أقول له ما قاله الإمام اللكنوي رحمه الله. قال: فإن قلت بعض المجاهدات مما لا يعقل وقوعها؟ قلت: وقع مثل هذا وإن استبعد من العوام فلا يستبعد من أهل الله تعالى، فإنهم أعطوا من ربهم قوة وصلوا بها إلى هذه الصفات، ولا ينكر هذا إلا من ينكر صدور الكرامات وخوارق العادات.
وإن الذاكرين لهذه المناقب ليسوا ممن لا يعتمد عليه أو ممن لا يكون حجة في النقل بل هم أئمة الإسلام وعمد الأنام... كأبي نعيم وابن كثير والسمعاني وابن حجر المكي وابن حجر العسقلاني والسيوطي والنووي والذهبي ومن يحذو حذوهم. [إقامة الحجة:101].
وقد سبق أن ذكرت كلمة الإمام ابن رجب التي قرر فيها أن مثل هذا الاجتهاد سائغ في الأزمنة المفضلة والأماكن المفضلة وأما طوال العام فالأولى للمؤمن ألا يختمه في أقل من ثلاث وإن لم يكن ذلك ممنوعاً، قال الذهبي رحمه الله: ولو تلا ورتل في أسبوع ولا زم ذلك لكان عملاً فاضلاً، فالدين يسر، فوالله إن ترتيل سبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة والضحى وتحية المسجد مع الأذكار المأثورة الثابتة والقول عند النوم واليقظة ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصاً لله مع الأمر بالمعروف وإرشاد الجاهل وتفهيمه وزجر الفاسق ونحو ذلك... لشغل عظيم جسيم ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب فمتى تشاغل العبد بختمة في كل يوم فقد خالف الحنيفية السمحة ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه. [السير:3/84-86].
قال نافع: لما غسل أبو جعفر القاري نظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف فما شك من حضره أنه نور القرآن. [معرفة القراء الكبار].
وفي رمضان يجتمع الصوم والقرآن، فتدرك المؤمن الصادق شفاعتان، يشفع له القرآن لقيامه، ويشفع له الصيام لصيامه، قال صلى الله عليه وسلم: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان)) [أحمد]. وعند ابن ماجه عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول: أنا الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك)).
"واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه، جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وُفي أجره بغير حساب" [لطائف المعارف:360].
ومن صور اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم صلاة التراويح، فهذه الصلاة أكثر ما فيها قراءة القرآن، وكأنها شرعت ليسمع الناس كتاب الله مجوداً مرتلاً، ولذلك استحب للإمام أن يختم فيها ختمة كاملة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره [لطائف المعارف:356]. ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة من رمضان فقام يصلي، فلما كبر قال: الله أكبر، ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف عندها ثم ركع يقول: ((سبحان ربي العظيم)) مثل ما كان قائماً ثم رفع رأسه فقال: ((سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد)) مثل ما كان قائماً ثم سجد يقول: ((سبحان ربي الأعلى)) مثل ما كان قائماً ثم رفع رأسه فقال: ((رب اغفر لي)) مثل ما كان قائماً ثم سجد يقول: ((سبحان ربي الأعلى)) مثل ما كان قائماً ثم رفع رأسه فقام، فما صلى إلا ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة [أحمد، مسند باقي مسند الأنصار رقم:22309].
وكان عمر قد أمر أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس في شهر رمضان فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر، وفي رواية أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها [لطائف المعارف:356]. وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال وبعضهم في كل سبع منهم قتادة، وبعضهم في كل عشرة منهم أبو رجاء العطاردي. [لطائف المعارف:358].
كل هذا التطويل والقيام من أجل تلاوة القرآن وتعطير ليالي شهر القرآن بآيات القرآن.
وإذا كان هذا شأن القرآن في رمضان فما أجدر العبد المؤمن أن يقبل عليه، ويديم النظر فيه، وإني أقترح على الأخ المؤمن الصادق أن يجعل له مع القرآن في هذا الشهر ثلاثة مسارات:
المسار الأول: مسار الإكثار من التلاوة وتكرار الختمات، فيجعل الإنسان لنفسه جدولاً ينضبط به، بحيث يتمكن من ختم القرآن مرات عديدة ينال خيراتها وينعم ببركاتها.
المسار الثاني: مسار التأمل والتدبر، فيستفتح الإنسان في هذا الشهر الكريم ختمة طويلة المدى يأخذ منها في اليوم صفحة أو نحوها مع مراجعة تفسيرها وتأمل معانيها، والتبصر في دلالاتها واستخراج أوامرها ونواهيها ثم العزم على تطبيق ذلك ومحاسبة النفس عليه، ولا مانع أن تطول مدة هذه الختمة إلى سنة أو نحوها شريطة أن ينتظم القارئ فيها ويكثر التأمل ويأخذ نفسه بالعمل، ولعل في هذا بعض من معنى قول الصحابي الجليل: (كنا نتعلم العشر آيات فلا نجاوزهن حتى نعلم ما فيهن من العلم والعمل).
المسار الثالث: مسار الحفظ والمراجعة، فيجعل لنفسه مقدارا يومياً من الحفظ ومثله من المراجعة، وإن كان قد حفظ ونسي فهي فرصة عظمى لتثبيت الحفظ واسترجاع ما ذهب، ولست بحاجة إلى التذكير بجلالة منزلة الحافظ لكتاب الله ورفيع مكانته، وحسبه أنه قد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى له.
أخي الكريم... ها قد عرفت من فضل القرآن ما قد عرفت، وعلمت من ارتباط هذا الشهر الكريم بالقرآن العظيم ما قد علمت، فلم يبق إلا أن تشمر عن ساعد الجد، وتأخذ نفسك بالعزم، وتدرع الصبر، وتكون مع القرآن كما قال القائل:
أسرى مع القرآن في أفق فذ تبارك ذلك الأفق
وسرى به في رحلة عجب من واحة الإيمان تنطلق
وارتاد منه عوالماً ملئت سحراً به الأرواح تنعتق
يامن يريد العيش في دعة نبع السعادة منه ينبثق
"عباد الله هذا شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع ولاعين تدمع ولا صيام يصان عن الحرام فينفع ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع". [لطائف المعارف:364ا/365].
فهل للنفس إقبال؟ وهل للقلب اشتياق؟ وهل نملأ شهر القرآن بتلاوة القرآن؟
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1790)
سلامة الصدر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
2/7/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على سلامة الصدر. 2- سلامة الصدور أمان للمجتمع
من كل عاصفة ومكر. 3- فضائل سلامة الصدر. 4- صور من تمثل السلف بهذه الفضيلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أرأيت لو كانت لديك آنية من زجاج نظيفة لامعة ثم تعرضت للأتربة حتى اغبرت وانطفأ بريقها فعاجلتها بالمسح والتنظيف فعاد إليها رواؤها ورونقها، ما كان أسهل ذلك عليك.
ثم أرأيت لو أنك أهملتها حتى تراكمت الأتربة وتحجرت واستمسكت فصار من العسير عليك حينئذ تنظيفها إلا أن تقسو عليها في التنظيف قسوة قد تحدث فيها خدشاً لا تمحوه الأيام.
كذلك هي القلوب... تحمل على من حولها الشيء بعد الشيء من الغضب أو الحقد أو الحسد فإذا بادر أصحابها بتنقيتها زال كل كدر وعم الصفاء وسلم الصدر، وإذا أهملوا ذلك تراكمت المواقف وتتابعت المآخذ حتى يصبح في كل قلب على أخيه بغضاء لا تزول إلا بمعالجة شديدة ربما تركت خدشاً لا يمحوه الزمان...
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يشعبُ
إن سلامة الصدر أيها المؤمنون سلامته من كل غل وحسد وحقد وبغضاء على المسلمين، وهي من أعظم الخصال وأشرف الخلال، ثم هي من بعد خلة لا يقوى عليها إلا الرجال.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على سلامة قلبه فكان يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ)) [النسائي:1287 عن شداد بن أوس].
وكان يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود: ((لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ)) [أبو داود، الأدب: 4218].
إن سلامة الصدر ونقاءه مفتاح المجتمع المتماسك الذي لا تهزه العواصف ولا تؤثر فيه الفتن، وكيف يا ترى يكون مجتمع تسوده الدسائس والفتن، وتمتلئ قلوب أفراده غشاً وحسداً وأمراضاً؟ أفذاك مجتمع أم غابة وحوش وذئاب؟
لقد قرأت في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم موقفين يستحقان التأمل والتبصر...
الأول منهما: في غزوة الأحزاب حين أحكم الأعداء قبضتهم وأحاطوا بالمدينة ونقضت قريظة عهدها ولم يكن يحول بينها وبين المسلمين شيء، وكان الأمر كما قال الله: إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً [الأحزاب:10-11]. في ذلك اليوم العصيب خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وبطنه معصوب وهو متطلق الوجه فأخذ المعول وقال: ((بسم الله)) وضرب صخرة في الخندق ضربة وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة)) ! ثم ضرب الثانية فقال: ((الله أكبر أعطيت فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الآن)) ، ثم ضرب الثالثة فقال: ((الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني)) !!!! [الرحيق:342].
وأما الموقف الآخر فهو عندما مر شاس بن قيس وكان شيخاً قد عتا شديد الحسد للمسلمين على نفر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم فغاظه ما رأى من ألفتهم فأمر فتى يهودياً أن يجلس معهم ثم يذكرهم يوم بعاث وما تقاولوا فيه من الأشعار ففعل فتفاخر القوم حتى تواثب رجلان فاختصما، وتعصب لكل قومه حتى توعدوا أن يقتتلوا عند الحرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مغضباً يعرف الغضب في وجهه حتى جاءهم فقال: ((الله الله يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فبكى القوم واصطلحوا)). [الحركي:2/225].
أليس عجيباً أن يخرج الرسول راضياً متبسماً يوم الخندق رغم شدة الموقف وصعوبته، ويغضب كل هذا الغضب لمجرد تواثب بين حيين من المسلمين بل يصف ذلك بأنه كفر؟
إنه الدرس النبوي البليغ: إذا كانت القلوب سليمة، والصف واحداً فليعصف الباطل وليجلب الكفر بخيله ورجله فإن البناء متين، أما إذا اختلفت القلوب وذهب صفاؤها، فهذا نذير الشر وأول البلاء ويجب حينئذ الوقوف بحزم أمام هذا الداء.
سلامة الصدر.. نعمة ربانية، ومنحة إلهية.
وسلامة الصدر.. من أسباب النصر على العدو، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِ?لْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ " فائتلاف قلوب المؤمنين من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله" كما قال الإمام القرطبي. [فتح القدير:2/322].
وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال، ففي الحديث: ((تعرض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظِروا هذين حتى يصطلحا)) [الصحيحة:1144]. فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن.
وسلامة الصدر علامة فضل وتشريف روى ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَان)) ِ قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْب؟ِ قَال:َ ((هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَد)) َ [ابن ماجه:4206 الزهد].
وسلامة الصدر صفة من صفات أهل الجنة وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ?لأنْهَـ?رُ [الأعراف:43]. وفي الحديث في وصف أول زمرة تلج الجنة ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد)).
وسلامة الصدر طريق إلى الجنة أيضاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء)) ، تكرر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام، فسأله فَقَالَ: (مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيق.ُ [أحمد:12236]. أفرأيت كيف سمت به سلامة صدره حتى بشر بالجنة ثلاث مرات؟!!
وانظر رعاك الله إلى عظم الأمر فإذا كان مثل ابن عمرو وهو من هو،وكان جلداً في العبادة يقول: وهي التي لا نطيق، فما يقول من دونه؟
وما كانت هذه الكلمة من ابن عمرو تثبيطاً عن هذا الخلق العظيم وإنما كانت بياناً لعظم منزلته وحاجته إلى المجاهدة العظيمة.
نعم فالنفوس الكبيرة وحدها هي القادرة على تجاوز الإساءة ومقابلتها بالإحسان ومن ثم المحافظة على القلب نقياً والصدر سليماً.
ضرب الإمام أحمد في زمن المعتصم ضرباً شديداً فلما كان زمن المتوكل أحس الإمام بأذى في ظهره فإذا هي لحمة فاسدة التأم عليها الجرح، ولم يكن بد من شق الظهر وإخراجها، قالوا: فلما أحس الإمام بألم المبضع وحر الشق قال: اللهم اغفر للمعتصم... فياسبحان الله يستغفر لمن كان سببا في ألمه!!! إنه منطق عظيم لا تعرفه القلوب الضيقة والنفوس الصغيرة.
لا يحمل الحقد من تسمو به الرتب ولاينال العلا من طبعه الغضب
ومن قبله كان يوسف عليه السلام مثلاً فذاً في سلامة الصدر، فبعد أن فعل به إخوانه ما فعلوا، وبعد أن صار في منزلة يقدر فيها على الانتقام أبى أن يثأر لنفسه ووفى لإخوته الكيل ثم قال لهم: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ?لْيَوْمَ يَغْفِرُ ?للَّهُ لَكُمْ [يوسف:92]. فعفا عنهم ثم استغفر لهم، وأعجب من هذا أنه التمس لهم العذر فيما فعلوه مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ?لشَّيْطَـ?نُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى [يوسف:100].
ومن قبل ذلك قال هابيل لأخيه وقد هم بقتله وتوعده لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المائدة:28].
وحضرت الوفاة أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه وكان وجهه يتهلل فقيل له في ذلك فقال: (ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً) [نزهة الفضلاء:1/42].
ووقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على طلحة بن عبيد الله بعد مقتله ـ وقد كان بينهما في موقعة الجمل ما كان ـ فجعل يمسح عن وجهه التراب ويقول: يعز علي يا أبا محمد أن أراك مجدلاً تحت نجوم السماء! [حياة الصحابة:2/430].
ودخل على عليّ عمران بن طلحة بن عبيد الله فقال له علي: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47]. [أسد الغابة:2/470].
ولج خصوم ابن تيمية في خصومته حتى أودعوه السجن وضيقوا عليه فلما مات أحد كبار أعدائه كان ابن تيمية أول من عزى أهله بل قال لهم: أنا أكون لكم مكانه!! وحين قال له محبوه: ألا تأذن لك فنؤذي من آذاك؟ قال لهم: إني قد أحللت كل من آذاني ولا أحل أحداً آذى أحداً بسببي!!
ومرض الشافعي فعاده بعض أصحابه فقال له: قوى الله ضعفك! فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني! فقال: يا إمام والله ما أردت إلا الخير، فقال: أعلم أنك لو شتمتني ما أردت إلا الخير.
واعجباه!! إنها قلوب تسامت عن ذاتها، وتعالت عن الغضب لنفسها.
فأين من هؤلاء من يحمل على أخيه لمجرد أنه نسي دعوته إلى وليمة؟
وأين من هؤلاء من يحمل على أخيه لكلمة خرجت من غير قصد فيحملها على الشر وهو يجد لها في الخير محملاً؟
وأين من هؤلاء من يتميز غيظاً على أخيه لأنه سبقه بسيارته.
وأين من هؤلاء من يجعل من ذهنه حاسوباً يسجل فيه كل صغيرة وكبيرة من هفوات إخوانه حتى إذا غضب على أحدهم أخرج له قائمة طويلة فيها الحوادث والأرقام والتواريخ؟
وأين من هؤلاء من لا يكاد يصفو قلبه لأحد فهو يحسد هذا، ويحقد على ذاك، ويغضب على الثالث، ويسيء الظن بالرابع، ويتهم الخامس وهكذا؟
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
صلى عليك وسلم الله الذي أعلاك مالبى الحجيج وأحرموا
وعلى قرابتك المقرر فضلهم وعلى صحابتك الذين هم هم
قال صديق لابن السماك: موعدنا غداً نتعاتب، فقال له ابن السماك: بل موعدنا غداً نتغافر.
وهو جواب يأخذ بمجامع القلوب، فلماذا التعاتب المكفهر بين الإخوة كل منهم يطلب من صاحبه أن يكون معصوماً؟
أليس التغافر وسلامة الصدر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟
أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: رب اغفر لي ولأخي هذا، ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟
بلى والله. ولله در شاعر راح يمرح ويتغنى ويقول:
من اليوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا
فلا كان ولا صار ولا قلتم ولا قلنا
وإن كان ولابد من العتبى فبالحسنى
هكذا إذا صفاء وود، إخاء وحب، قلب سليم ونفس صافية، وصدر يحتمل الزلات ويغفر الخطايا، ويمحو بالإحسان الإساءة، ومنطق كمنطق الشاعر الذي يقول:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيعِ
(1/1791)
يوم عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصيام في شهر محرم. 2- سبب تعظيم يوم عاشوراء. 3- حكم صيام عاشوراء
ودليله. 4- صيام يوم السبت إذا وافق عاشوراء. 5- بدع الرافضة في عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون:
بارك الله لي ولكم ولأمة الإسلام في هذا العام الجديد، وإنا لنسأل الله أن يجعله عام خير وعز ونصر.
ونسأله أن يجعل من هلال المحرم فاتحة توفيق لهذه الأمة المحمدية.
يا ليت شعري يا هلال أعائد للمسلمين بنصر دين محمد؟
أتعيد للجمعات سابق عهدها أتعيد للإسلام مجد المسجد؟
أدركت عهد الراشدين بيثرب وحسدتها بين النجوم الحسد
وشهدت دولة عبد شمس عندما بلغ الوليد بها عنان الفرقد
قالوا: عجبنا ما لشعرك نائحاً في العيد ماهذا بشدو معيد
ما حيلة العصفور قصوا ريشه ورموه في قفص وقالوا غرد!
ولقد جعل الله فاتحة العام شهراً مباركاً تشرع فيه الطاعة والعبادة، وكأنه يعلم عباده أن يستفتحوا كل أمر بطاعته وتقواه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) [مسلم:1163].
فهذا الحديث صريح الدلالة على تفضيل الصوم في هذا الشهر المحرم، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من شعبان أكثر مما يصوم من المحرم، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة منها:
1ـ أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم بفضله إلا متأخراً ويشهد لذلك قوله: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) ثم لم يدرك عاشوراء القابل.
2ـ أنه كانت تعرض له فيه الأسفار والأشغال. [ذكرهما النووي في شرح مسلم].
3ـ أن المقصود بالفضل في المحرم الفضل المطلق، فأفضل الصيام المطلق صيام المحرم، وأما صوم شعبان فهو متصل برمضان، فهو منه كالراتبة من الفريضة وكذلك شوال، ومعلوم أن الرواتب أعظم قدرا من النافلة المطلقة. [لطائف المعارف:82].
وكانوا يسمون شهر المحرم شهر الله الأصم لشدة تحريمه. [لطائف:83]. قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم. [لطائف:84]. وقال قتادة: إن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السَنة. [فتح القدير:5/429].
ومن عظيم فضل الله أن جعل آخر شهر في العام شهر عبادة وطاعة، وأول شهر في العام شهر عبادة وطاعة ليفتتح المرء عامه بإقبال ويختتمه بإقبال، قال ابن رجب: من صام من ذي الحجة وصام من المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين. [لطائف:85].
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشهر شهر الله المحرم فاختصه بإضافته إلى الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله وكان الصيام من بين الأعمال مختصاً بإضافته إلى الله ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختص به وهو الصوم. [انظر لطائف:86].
ومما اختص به شهر الله المحرم يومه العاشر وهو يوم عاشوراء.
قال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة. [الفتح:4/245].
وهذا اليوم يوم مبارك معظم منذ القدم.
فاليهود ـ أتباع موسى عليه السلام ـ كانوا يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه ويتخذونه عيداً لهم، ويلبسون فيه نساءهم حليهم واللباس الحسن الجميل ،، وسر ذلك- عندهم - أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. [البخاري].
وعند الإمام أحمد بسند فيه مقال [8360 ] عن أبي هريرة قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا من الصوم)) قالوا هذا اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى شكرا لله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم)) فأمر أصحابه بالصوم.
وعن أبي موسى قال: (كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم) [فتح الباري:4/287].
وكذلك النصارى كان لهم حظ من تعظيم هذا اليوم، والظاهر أنهم في هذا تبع لليهود، إذ أن كثيراً من شريعة موسى عليه السلام لم ينسخ بشريعة عيسى بدليل قوله تعالى: وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ ?لَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50]. وتأمل كيف قال: بعض إشعاراً بأن الكثير من الشرائع ظل كما هو عند موسى عليه السلام، قال ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن بني إسرائيل هم أولو العلم الأول والكتاب الذي قال الله فيه: وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ?لاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء [الأعراف:145]. ولهذا كانت أمة موسى أوسع علوماً ومعرفة من أمة المسيح، ولهذا لا تتم شريعة المسيح إلا بالتوراة وأحكامها، فإن المسيح عليه السلام وأمته محالون في الأحكام عليها، والإنجيل كأنه مكمل لها متمم لمحاسنها، والقرآن جامع لمحاسن الكتابين) [جلاء الأفهام:103].
وحتى قريش فإنها على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه! تقول عائشة رضي الله عنها: (كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية) [مسلم].
وأما سر صيامهم هذا، فلعله مما ورثوه من الشرع السالف، وقد روى الباغندي عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: (أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل: صوموا عاشوراء يكفر ذلك).
وحين جاء الإسلام، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأى اليهود يصومون هذا اليوم فرحاً بنجاة موسى قال: ((أنا أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه. [متفق عليه]. وكان ذلك في أول السنة الثانية، فكان صيامه واجباً فلما فرض رمضان فوض الأمر في صومه إلى التطوع، وإذا علمنا أن صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة تبين لنا أن الأمر بصوم عاشوراء وجوباً لم يقع إلا في عام واحد، تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صامه ـ أي عاشوراء ـ وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) [البخاري].
وصوم عاشوراء وإن لم يعد واجباً فهو مما ينبغي الحرص عليه غاية الحرص، وذلك لما يأتي:
صيامه يكفر السنة الماضية: ففي صحيح مسلم أن رجلا سأل رسول الله عن صيام عاشوراء فقال: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
تحري الرسول صلى الله عليه وسلم صيام هذا اليوم: روى ابن عباس قال: (ما رأيت النبي يتحرى صوم يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء) [البخاري]. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ليوم فضل على يوم في الصيام إلا شهر رمضان ويوم عاشوراء)) [رواه الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات].
وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد صيام رمضان شهر الله المحرم)) ا[لترمذي وقال: حديث حسن].
كان الصحابة رضي الله عنهم يصومون فيه صبيانهم تعويداً لهم على الفضل فعن الربيع بنت معوذ قالت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم)) قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار. [البخاري:1960].
كان بعض السلف يصومون يوم عاشوراء في السفر، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري، وكان الزهري يقول: رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر. [لطائف:121].
والسنة في صوم هذا اليوم أن يصوم يوماً قبله أو بعده، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) [مسلم].
وقد ذكر بعض الفقهاء أن صيام عاشوراء ثلاث مراتب:
1ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
2ـ صوم التاسع والعاشر.
3ـ صوم العاشر وحده. [فقه السنة:3/127]، [زاد المعاد:2/76]. ولا يكره ـ على الصحيح ـ إفراد اليوم العاشر بالصوم كما قاله ابن تيمية رحمه الله.
ويوم عاشوراء من هذا العام موافق ليوم السبت، وقد ورد النهي عن صومه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه)) [أبو داود في كتاب الصوم].
وعليه فإن على المسلم أن يحرص على صوم يوم قبله أو بعده احتياطاً لنفسه، فقد نص العلماء على أن المكروه إفراد يوم السبت بالصيام، فإن صام معه غيره لم يكره، وذلك لحديث جويرية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها: ((أصمت أمس؟)) قالت: لا. قال: ((أتريدين أن تصومي غداً؟)) قالت: لا. قال: ((فأفطري)) [البخاري باب صوم يوم الجمعة].
فقوله: أتريدين أن تصومي غداً؟ صريح في جواز صوم يوم السبت إذا صيم معه يوم آخر، وعلى هذا يحمل النهي على إفراد يوم السبت وحده.
ومن الطريف أن يوم الجمعة وحده يكره صيامه وكذلك السبت وحده فإذا اجتمعا زالت الكراهة! [الممتع:6/478].
وإن لم يتمكن الإنسان من صوم يوم قبله أو بعده وصام عاشوراء وحده فلا حرج عليه وإن وافق يوم السبت، قال صاحب الشرح الكبير: وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره. [الشرح:7/533].
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من استحباب الاختضاب والاغتسال والتوسعة على العيال في يوم عاشوراء فكل ذلك لم يصح منه شيء، قال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء في من وسع على أهله يوم عاشوراء فلم يره شيئاً. [لطائف:125]. وقال ابن تيمية: لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين... ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً... لا صحيحاً ولا ضعيفاً... ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. [مجموع الفتاوى:25/299-317].
قال ابن رجب: وأما اتخاذه مأتما كما تفعل الرافضة لأجل قتل الحسين فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن هو دونهم. [لطائف:126].
ولنا مع هذا اليوم وقفات:
1ـ خداع اليهود وتحايلهم: فهؤلاء اليهود الذين قالوا لموسى: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [الأعراف:129]. والذين خذلوا موسى فعبدوا العجل لمجرد أنه غاب عنهم أربعين يوماً، والذين قالوا لموسى ـ ولما تجف أقدامهم من ماء البحر الذي نجاهم الله منه وأغرق فرعون ـ قالوا له: ?جْعَلْ لَّنَا إِلَـ?هًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ [الأعراف:138]. والذين شهد الله عليهم بأنهم آذوا موسى من قبل، هؤلاء اليهود هم الذين كانوا يصومون عاشوراء احتفاء بذكرى نجاة موسى عليه السلام!! فانظر أعاجيب هؤلاء، إنهم كما قال ابن عباس لأهل العراق لما سألوه عن حكم قتل البعوضة للمحرم فقال لهم: (يا أهل العراق تقتلون الحسين وتسألون عن حكم دم البعوضة!).
واليهود كانوا يتحايلون على أمر الله، ودونك هذه القصص:
1ـ لما أمرهم الله ألا يصيدوا يوم السبت، صاروا يضعون شباكهم يوم الجمعة ويرفعونها يوم الأحد!.
2ـ لما نهاهم الله عن شحوم الإبل، أذابوها وصيروها زيتا ودهنا فباعوه وأكلوا ثمنه!.
3ـ لما أمرهم الله أن يدخلوا بيت المقدس ويأكلوا منها حيث شاؤوا رغداً ويقولوا: حطة (يعني ربنا حط عنا ذنوبنا)، لما أمروا بذلك دخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: حنطة في شعير!.
فانظر كيد هؤلاء وتحايلهم على أمر الله.
ولنحذر نحن أيضاً من مثل هذا التحايل، فإن بعضنا ربما وقع فيه، فبعضنا يقع في الحرام فإذا نبهته وحذرته قال لك: لا يا أخي ليس هذا من الحرام إنما هو كذا وكذا، فيسمي الربا فوائد والزنا والفسوق فناً والغناء المذموم رقياً وطرباً وهكذا..
وربما وقع بعضنا في المنكر واحتج بأن أكثر الناس يفعلون هذا، أو بأنه مضطر وليس له حيلة أو.. أو..
المهم أنك ياأخي لن تخدع الله، والله مطلع على الحقائق والخفايا والنوايا.
2ـ المسلم والتميز:
حين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون عاشوراء، ورأى أنه عمل صالح، المؤمنون أولى به، حين أراد ذلك أمر بصيام يوم قبله أو بعده، هل تدري لماذا؟ اسمع كلام النووي رحمه الله حين يقول: قال بعض العلماء ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل للاحتياط في العبادة والأول أولى، والله أعلم. اهـ.
فانظر ـ رحمك الله ـ كيف يريد الإسلام منا أن نتميز، أن تكون لنا شخصيتنا المستقلة، ألا نذوب في غيرنا.
وبلية كثير من المسلمين اليوم في هذه التبعية المفرطة للأفكار والمذاهب والأزياء والعادات والتقاليد، حتى كاد أحدهم ينسلخ من شخصية.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1792)
عرفات وتنزل الرحمات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذلة الشيطان في يوم عرفة. 2- رحمة الله الخلائق يوم عرفة. 3- أحوال السلف في يوم
عرفة. 4- فضل يوم عرفة. 5- صيام يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
هاهو ذا قد اسود وجهه، وخاب سعيه، وأهوى يحثو الترب على رأسه ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور!!
إنه الشيطان اللعين يغيظه ما يرى من اجتماع المسلمين في عرفات، وما يتنزل عليهم من مولاهم من رحمات، فتغلي مراجل غضبه، وينكسر خاسئاً ذليلاً.
روى في المسند الإمام أحمد [15618]. عن العباس بن مرداس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء... فلما كان من الغد دعا غداة المزدلفة فعاد يدعو لأمته فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم فقال بعض أصحابه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها فما أضحكك أضحك الله سنك؟ قال: ((تبسمت من عدو الله إبليس حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي وغفر للظالم، أهوى يدعو بالثبور والويل ويحثو التراب على رأسه فتبسمت مما يصنع جزعه)).
إن عدو الله إبليس ما رؤي في يوم أحقر ولا أصغر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وذلك لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر. [مالك في الموطأ من مراسيل طلحة بن عبيد الله].
إن يوم عرفة يوم تنزل رحمة الله وما أدراك ما رحمة الله... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)) [البخاري].
فإذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدنيا الإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به، فكيف الظن بمئة رحمة في الدار الآخرة وهي دار القرار ودار الجزاء؟
وعن عمر بن الخطاب أنه قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) [مسلم].
إن رحمة الله عز وجل سابغة عامة لا تضيق بذنب، وحسبك أن الله عز وجل دعا المسرفين من عباده ليتعرضوا لرحمته بالغة ما بلغت ذنوبهم قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
وما من كيوم عرفة ترجى فيه مغفرة الذنوب ورحمة علام الغيوب فهو يوم من أيام العتق من النار، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) [مسلم:1348].
وفي رواية أنه سبحانه يقول: ((أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يارب فلان مرهق ( أي مثقل بالذنوب ) فيقول: قد غفرت لهم)) [ابن خزيمة:4/2840].
قال المناوي رحمه الله: وهذه المباهاة تقتضي الغفران وعموم التكفير لأنه لا يباهي بالحاج إلا وقد تطهر من كل ذنب، إذ لا تباهي الملائكة وهم مطهرون إلا بمطهر. [الرياض:178].
وأخرج ابن ماجه عن بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع: ((يا بلال أنصت الناس)) ثم قال: ((إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى محسنكم ما سأل، ادفعوا باسم الله)) [ابن ماجه بسند صحيح].
وكان في دعائه صلى الله عليه وسلم إذا دعا يوم عرفة دعا رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين. [زاد:2/236].
وكان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مئة بدنة مقلدة ومئة رقبة فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء ويقولون: ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيده ونحن عبيدك فأعتقنا.
ورأى الفضيل تسبيح الناس وبكاءهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً أكان يردهم؟ فقالوا: لا، فقال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق!
وقال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم!
ووقف بعض الخائفين بعرفة فمنعه الحياء من الدعاء! فقيل: لم لا تدعو؟ قال: ثَمَ وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً!.
فلله تلك المواقف المشرفة، والبقاع المطهرة، والأزمنة المباركة!!
كم فيها اليوم من ضارع منكسر؟ كم فيها من حزين أسيف؟ كم فيها من نائح على ذنوبه باك على عيوبه؟ كم فيها من رجل بادر الله بالتوبة فبادره بالغفران؟ وخط بدموعه كتاب رجوعه فحط عنه وزر العصيان؟ ليت شعري.. كم ينصرف من هذا الموقف من رجال ما عليهم من الأوزار مثقال ذرة! قد ملأت قلوبهم الأفراح وعلت وجوههم المسرة؟
رفعوا الأكف وأرسلوا الدعوات وتجردوا لله في عرفات
شعثا تجللهم سحائب رحمة غبراً يفيض النور في القسمات
وكأن أجنحة الملائك عانقت أرواحهم بالبر والطاعات
هذي ضيوفك يا إلهي تبتغي عفواً وترجو سابغ البركات
تركوا وراء ظهورهم دنيا الورى أتوك في شوق وفي إخبات
فيامن رأى هذه الجموع وقد استدبرت دنياها واستقبلت أخراها، واستوحشت من الأرض وحريقها، وطمعت في الجنان ورحيقها، جعلت بكاءها طريقاً إلى نجائها، وعبرتها سبيلاً إلى عبرتها.. مئات الآلاف تجأر إلى الله بمختلف اللغات، والله سبحانه السميع البصير لا تختلف عليه الألسنة ولا يشغله سؤال عن سؤال.
أواقع ما أرى؟ أم خانني البصر أم هذه من رؤى أحلامنا صور
هذي الجموع يهز الشوق همتها إلى الجنان وخلد ثم ينتظر
فهل سمعت بكاهم يوم وقفتهم وهل رأيت دموع الشوق تبتدر
وهل سمعت أنين المذنبين على ماض تضج به الآثام تستعر
إن يوم عرفة كالمقدمة لعيد النحر، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقالة، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة، ولذا سمي طوافه طواف الزيارة لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ثم أذن لهم ربهم يوم النحر في زيارته والدخول إلى بيته، فيوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم. [زاد:1/55].
وكفى يوم عرفة شرفاً أن الله أقسم به في كتابه، فقال عز من قائل: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَ?لشَّفْعِ وَ?لْوَتْرِ [الفجر:1-3].
ويوم عرفة هو يوم أخذ الميثاق على ذرية آدم بتوحيد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قال: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى? [الأعراف:172] )) [أحمد عن ابن عباس بسند صحيح وهو في صحيح الجامع:1697].
فإذا وافق يوم عرفة يوم الجمعة كان له مزية على سائر الأيام من وجوه متعددة: منها أنه اجتماع اليومين الذين هما أفضل الأيام، ومنها أن الجمعة هو اليوم الذي فيه ساعة محققة الإجابة وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفون للدعاء والتضرع، ومنها أن فيه اجتماع الخلائق من أقطار الأرض للخطبة وصلاة الجمعة، ويوافق ذلك اجتماع أهل عرفة بعرفة فيحصل من اجتماع المسلمين في مساجدهم وموقفهم من الدعاء والتضرع ما لا يحصل في يوم سواه، ومنها أن الجمعة يوم عيد، ويوم عرفة عيد لأهل عرفة فيجتمع العيدان. [انظر الزاد:1/60 وما بعدها]. ومنها اجتماع الشاهد والمشهود فعن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا أنه قال في قوله تعالى: وَشَـ?هِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة. [زاد:1/412]. فإذا وقع يوم عرفة في يوم جمعة فقد اجتمع الشاهد والمشهود. [لطائف:555]. ومنها أن ذلك يوافق حجة النبي صلى الله عليه وسلم. [زاد:2/102].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله:
من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بالحق الذي عرفه.
ومن عجز عن المبيت بمزدلفة فليبيت عزمه على طاعة الله الذي قربه وأزلفه.
ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا.
ومن لم يصل إلى البيت العتيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد.
وقد جعل الله لنا عوضاً هو العمل الصالح في هذا اليوم، ولا سيما صيامه، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم [1162] عن أبي قتادة أنه قال: ((صيامه [أي يوم عرفة] يكفر السنة الماضية والباقية)) ، ولا يكره إفراد يوم عرفة بالصوم حتى لو وافق يوم جمعة [زاد:2/86].
أما أيام التشريق وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة فيحرم إلا لمن لم يجد دم متعة أو قران، روى البخاري [1998] عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي.
وهذا الحكم عام لأهل منى وغيرها عند جمهور العلماء. [لطائف:577].
ومن السنة في هذه الأيام التكبير مطلقاً ومقيداً، والمقيد هو الذي يكون أدبار الفرائض، وهي الصلوات الخمس والجمعة، ويبدأ التكبير المقيد لغير الحاج من فجر يوم عرفة، وللحاج من ظهر يوم النحر، ويمتد في حقهما التكبير مطلقاً ومقيداً إلى آخر أيام التشريق. [الممتع:5/217ـ222].
(1/1793)
على أبواب العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
19/9/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتهاد النبي في العبادة في العشر الأخير من رمضان. 2-عبادة السلف في العشر الأواخر.
3- فضل ليلة القدر. 4- تحديد ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
جرت السنون وقد مضى العمر والقلب لا شكر ولا ذكرُ
والغفلة الصماء شاهرة سيفا به يتصرم العمرُ
حتى متى يا قلب تغرق في لجج الهوى، إن الهوى بحرُ
ها قد حباك الله مغفرة طرقت رحابك هذه العشر
إنها العشر الأواخر من رمضان، ذات الفضل والمنزلة، والأجر والثواب.
كنا قبل أيام قلائل نستقبل رمضان، ونهنئ الأمة بمقدمه وهانحن الآن نستقبل عشره الأخيرة وعما قليل يطوى سجله بما فيه من إحسان المحسن وإساءة المسيء، وتسفح من بعد العبرات على فراق أيام الخيرات والبركات.
عباد الله هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منا حاسب نفسه وانتصف؟ من منا قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف؟ من منا عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبنى له فيها غرفا من فوقها غرف؟
ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر عسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟
تصرم الشهر والهفاه وانهدما واختص بالفوز بالجنات من خدما
وأصبح الغافل المسكين منكسرا مثلي فياويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما تراه يحصد إلا إلهم والندما
أحبائي...
هانحن ذا في الشوط الأخير من السباق، فليت شعري من السابق الفائز ومن المخذول الخاسر؟ من الذي سينفض عنه سنة الغفلة ويشمر عن ساعد العزم؟ من الذي سيرفض ظلام التواني ويستقبل فجر العمل؟
كان عليه الصلاة والسلام يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. [مسلم عن عائشة].
وكان عليه الصلاة والسلام يخص هذه العشر بمزيد من الأعمال الصالحات، لا يعملها في سائر الشهر.
فمن ذلك إحياء الليل كله، واجتناب النساء، روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الشعر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وشد المئزر كناية عن اعتزال النساء، وقيل بل كناية عن الجد في العبادة، ويحتمل أن يراد الأمران معا وهذا هو الظاهر.
قال ابن رجب: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
وقال سفيان الثوري: أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده للصلاة إن أطاقوا ذلك.
هكذا كان عليه الصلاة والسلام في هذه العشر تفرغا للعبادة وإقبالا عليها، بل لقد كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في هذه العشر لينقطع عن الدنيا ومشاغلها ويتفرغ لطلب ليلة القدر.
ومن بعده عليه الصلاة والسلام سارت قوافل الصالحين المقربين على الطريق ذاته، تقف عند العشر وقفة جد وصرامة تمتص من رحيقها وتنهل من معينها، وترتوي من فيض عطاءاتها، وتعمل فيها ما لا تعمل في غيرها... قال أبو عثمان: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأول من محرم، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان.
وكان قتادة رحمه الله يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم في كل ليلة مرة.
ومن شدة تعظيمهم لهذه الأيام كانوا يتطيبون لها ويتزينون، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل كل ليلة!
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين ويلبس ثوبين جديدين ويستجمر. وكان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويطيبان المسجد بالنضوح في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر! قال ثابت: وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
هكذا كانوا تعظيما لهذه العشر، وهكذا كانوا اجتهادا في العبادة وانقطاعا لها في هذه الليالي المباركات.
وحق لهم ذلك، فإن فيها ليلة تفضل ليالي الدنيا، ليلة العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها مثل هذه الليلة.
إنها ليلة القدر... ليلة نزول القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم: ((إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر)).
قال الوراق: سميت ليلة القدر لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر على لسان ملك ذي قدر على رسول ذي قدر وأمة ذات قدل، قال الزهري: سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر أي منزلة.
إنها الليلة التي تتنزل فيها الملائكة حتى تكون أكثر في الأرض من عدد الحصى.
إنها الليلة التي من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدمن من ذنبه.
إنها الليلة التي من حرم خيرها فقد حرم.
فكيف لا يجدون في طلبها؟ ولا سيما أن الله أخفى موعدها وستر عن عباده زمانها ليرى جدهم في عبادته وتذللهم بين يديه.
وأرجح الأقوال أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأنها تنتقل، وأرجى أوتار العشر عند الجمهور ليلة سبع وعشرين [فتح الباري]. وكان أبي بن كعب يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين.
غير أن القول بتنقلها بين ليالي أوتار العشر قول قوي ظاهر جمعا بين الأخبار، ففي السنة التي رأى فيها أبو سعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين كانت ليلة إحدى وعشرين، وفي السنة التي رآه فيها ابن أنيس كانت ليلة ثلاث وعشرين، وفي السنة التي رأى فيها أبي بن كعب علاماتها من ليلة سبع كانت في تلك الليلة، وهكذا.
والواجب على الإنسان أن يجتهد في العشر كلها، فإن من أهل العلم من أحصى ليالي الوتر باعتبار نهاية الشهر، أي لليلة بقيت أو ثلاث ليال بقين أو خمس ليال بقين وهكذا... وقد جاء في الحديث: لتاسعة تبقى، لخامسة تبقى لثالثة تبقى، وعليه فلو كان الشهر ثلاثين يوما فإن الليلة التي هي لسابعة تبقى ليلة أربع وعشرين، والتي هي لتاسعة تبقى ليلة اثنين وعشرين وهكذا.
وإنما أخفى الله عز وجل موعد هذه الليلة ليجتهد العباد في العبادة وكيلا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها فأراد منهم الجد في العمل أبدا ويدل لذلك ما في معجم الطبراني الكبير بسند حسن عن عبد الله بن أنيس أنه قال: يارسول الله أخبرني أي ليلة تبتغي فيها ليلة القدر فقال لولا أن يترك الناس الصلاة إلا تلك الليلة لأخبرتك.
وفي حديث أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أذن لي لأنبأتك بها وذكر كلمة أن تكون في السبع الأواخر)) [ابن خزيمة في صحيحه].
وقال الفخر الرازي رحمه الله:
إن الله أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها أنه أخفاها كما أخفى سائر الأشياء فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة.
ثانيها: أنه أخفاها ليجتهد المكلف في طلبها فينال أجر الاجتهاد.
ثالثها: كأن الله يقول لو عينت ليلة القدر وأنا عالم بتجاسركم على المعصية فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب فكانت معصيتك مع العلم أشد من معصيتك لا مع علمك.
إخواني... هذه أيام العشر كالتاج على رأس الزمان، فراعوا حق هذه الأيام، والله ليلة القدر ما يغلو في طلبها عشر، لا والله ولا شهر، لا والله ولا الدهر.
ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب ويرد الجواب. ليلة ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غدا بأعمالكم، فياليت شعري ماذا أودعتموها وبأي الأعمال ودعتموها؟ أتراها ترحل حامدة لصنيعكم أم ذامة تضييعكم؟ هذا أوان السباق فأين المسابقون؟ هذا أوان القيام فأين القائمون؟
يا رجال الليل جدوا رب صوت لا يرد
لا يقوم الليل إلا من له عزم وجد
أليس من عجب أن الناس أغفل ما يكونون في زمان الجد والاجتهاد؟
أليس من عجب أن الكثيرين لا يحلو لهم التسوق والشراء إلا في هذه الأزمنة الغالية النفيسة؟
أليس من عجب أن الكثيرين يكونون أكثر ولعا بمشاهدة القنوات في هذه الأيام العظيمة والليالي الشريفة؟
أين نحن من قوم كانوا أنضاء عبادة وأصحاب سهر؟
غدا توفى النفوس ما كسبت ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1794)
في وداع الحبيب
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
3/10/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مضى رمضان بما حملناه من أعمال. 2- نحتاج إلى وقفة محاسبة. 4- علامة قبول العمل.
5- مداومة السلف على العمل الصالح. 6- التذكير بصيام الأيام الستة ، وذكر فضلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هاهنا كان مثل زهر الأقاحي ينشر العطر في الربا والبطاح
هاهنا كان كالربيع ائتلاقاً كبدور الدجى كنور الصباح
هاهنا كان سلسبيل صفاء يتحف الصحب بالنمير القراح
هاهنا كان غير أن الليالي نسخت حسنه فأدمت جراحي!
نعم... بالأمس القريب كان معنا، كنا نستنشق عطره، ونسعد في أفيائه، ونتقلب في ضروب نعمائه.
بالأمس القريب كنا نغترف من بركاته، ونخوض في بحار حسناته، ونرجع كل ليلة بجر الحقائب بما حملنا من خيراته.
بالأمس القريب كنا نقطف من روضه زهور الإيمان، ونجد في رحابه الأنس والاطمئنان، كانت تحلق فيه الأرواح، وتطير من غير ما جناح!
واليوم، "أين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا؟ ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا؟ زينة منائرنا، بضاعة أسواقنا ومادة موائدنا وسمر أنديتنا، وحياة مساجدنا؟ فأين هو الآن؟" [وداع رمضان: محمد دراز، عن نداء الريان:2/207].
"أين حرق المجتهدين في نهاره، أين قلق المتهجدين في أسحاره" [لطائف المعارف:440]. أين خشوع المتهجدين في قيامهم، ورقة المتعبدين في صيامهم؟ أين أقدام قد اصطفت فيه لمولاها، حين دعاها للهو واللعب هواها؟ أين أعين جادت فيه بجاري دمعها، حين تذكرت قبيح صنعها؟ أين قلوب حلقت فيه بجناحين من خوف ورجاء، وسارعت إلى مرضاة ربها تلتمس النجاء؟
أين أيام كانت حياة للحياة، وليال كن قلائد في جيد الزمان؟
لقد تولت كما تولى غيرها، وتقضت بما فيها ولم يبق إلا الندم والأسى.
تذكرت أياما مضت وليالياً خلت فجرت من ذكرهن دموعُ
ألا هل لها يوماً من الدهر عودة وهل لي إلى يوم الوصال رجوعُ
وهل بعد إعراض الحبيب تواصل وهل لبدور قد أفلن طلوعُ؟
[الأبيات: لطائف المعارف:440]
أتذكر أيها الأخ الكريم سويعات كانت من الصفاء أصفى، ومن الشهد أحلى؟
أما يحن فؤادك إلى دمعات كنت سكبتها؟ وعبرات من خشية الله قد أذريتها؟
أما يهتز قلبك شوقاً إلى لحظات صفت فيها نفسك وحلقت روحك حتى كأنك تجاوزت الأرض وطينها وتنشقت روائح الفردوس؟
أما يعظم أسفك على أيام رفعت فيها يديك مناجيا مولاك، فأطرق رأسك ذلاً واغرورقت بالدمع مقلتاك؟
لقد مضى ذلك كله، وطوي بساطه، ومر كأن لم يكن، وعاد ذكرى في النفس بعد أن كان واقعاً يشهده الحس. وبقيت في النفس حزازات أسى وألم على فراق راحل عزيز.
أترحل لا الصحب منك ارتووا ولا امتلأت منكم المقلتان
أترحل والقلب بعد مشوق له لغة من هوى وحنان
فيا لفؤادي إذا حركته رؤى ذكريات لطاف حسان
وأصداء ماض تولى حبيب وأطياف شهر طواه الزمانْ
لقد كان ما كان وانقضى الشهر، وخرج الناس من رمضان وهم فريقان:
فريق نصح فيه لنفسه، وقام بحق ربه، فصامه إيماناً وقامه احتساباً، وتحرى فيه مراضي مولاه، وتجنب مظان سخطه، لم يفرط في دقائقه، ولا أرخى لنفسه زمام هواها، قد اغتسل فيه من ذنوبه وتطهر من أوزاره وخرج منه يترنم:
اليوم ميلادي الجديد وما مضى موت بليت به بليل داجي
إني سريت إلى الهداية عارجاً يا حسن ذا الإسراء والمعراج
وفريق آخر تمنى على الله الأماني واتبع نفسه هواها، فأمضى نهاره في سهو وليله في لهو، أطلق لبصره العنان، وأرهف سمعه لمساخط الديان، لم يرع للشهر حرمته، ولا عرف له حقه "وكم نصح فما قبل النصح، ودعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، شاهد الواصلين فيه وهو متباعد، ومرت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت، وخاف المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم" [لطائف المعارف:440]. وهيهات هيهات.
وما أحوج الفريقين أيها الإخوة الكرام إلى المحاسبة الدقيقة والوقفة الصادقة.
فأما المفرط المقصر فيندم ويتوب، ويستغفر ويؤوب، فعساه إن لم يدرك الخير كله أن يدرك بعضه، وعسى أن يعيش قابل أيامه في طاعة وبر منتظراً عاماً جديداً ورمضان آخر.
وأما المطيع المجد فيهتم لقبول عمله، ولقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:60]. روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب الهمداني أن عائشة زوج النبي صلى اللهم عليه وسلم قالت سألت رسول الله صلى اللهم عليه وسلم عن هذه الآية: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات)) [الترمذي:3175].
وعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل أم لا؟
وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر فيقال له: إنه يوم فرح وسرور فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً فلا أدري أيقبله مني أم لا.
ومثل هذه المحاسبة، ومثل هذا الشعور مما ينبغي أن يكون لدى المسلم الصادق، وإن العجب كل العجب أننا ما إن نخرج من شهر رمضان حتى نكون كالذي ضمن القبول، فلا يفكر أحد في عمله ولا يراجعه ولا يتأمل مدى إخلاصه فيه ولا يلح على ربه أن يتقبل منه، حتى ذلك الدعاء الذي كنا نقوله كل ليلة في رمضان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، حتى هذا الدعاء لم يعد له نصيب وحظ، وشتان ما بيننا وبين أسلافنا في هذا، فلقد كانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يتقبل منهم!.
رأى وهيب بن الورد أقواماً يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين. إنها ليست دعوة للقنوط واليأس، ولكنها دعوة إلى محاسبة النفس لأن محاسبة النفس على العمل والخوف من عدم قبوله من سيماء المؤمنين وسمات أهل الصلاح المتقين، ومما ينبغي أن يكون في مثل هذه الأيام.
ولئن كان قبول العمل من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فإن لكل أمر علامة، ولكل تجارة أمارة، ولقبول العمل علامات تدل عليه، وإن من علامة قبول العمل الصالح الاستمرار عليه والمداومة على أدائه، فقد قال بعض السلف: ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
وفي الحديث: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)). وعن علقمة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختص من الأيام شيئاً؟ قالت: (لا كان عمله ديمة وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق) [البخاري:1987]. وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. [مسلم].
واعلموا يا عباد الله أن للمداومة على العمل الصالح فوائد عظيمة منها:
أن هذا كان من دأبه عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة)) [مسلم]. ومنها: دوام اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله.
ومنها: تعهد النفس عن الغفلة وترويضها على لزوم الخيرات حتى تسهل عليها وتصبح ديدناً لها.
ومنها: أن المداومة سبب لمحبة الله، وفي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) [البخاري:6502].
ومنها: أن المداومة سبب للنجاة من الشدائد، وفي الحديث: ((احفظ الله يحفظك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)) [أحمد].
ومنها: أن المداومة سبب لحسن الختام، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العكبوت:69].
ومنها: أنها صفة عباد الله المؤمنين، ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]. [انظر في فوائد المداومة: المختار للحديث في شهر رمضان:418-431].
وكان السلف رحمهم الله في غاية الحرص على دوام العمل وإثباته وعدم تركه.
كانت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول: (لو نشر لي أبواي ما تركتهن) [مالك:361، صححه الألباني في المشكاة].
وحين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ما يقوله عند نومه، قال علي: (والله ما تركتها بعد، فقال له رجل: ولا ليلة صفين؟ قال علي: ولا ليلة صفين) [الحاكم].
وقال عفان: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه. [النزهة:1/603].
ولما عزم سعد الزنجاني على المجاورة عزم على نيف وعشرين عزيمة أن يلزمها نفسه من المجاهدات والعبادات، فبقي أربعين سنة لم يخل بعزيمة منها. [النزهة:3/1301].
ومرض علي المصري مرضاً شديداً نحو أربعة أشهر فلم ينقص من أوراده شيئاً! [المختار المصون:2/797].
أما إنه يقبح بالمسلم أن يبني في رمضان صرح إيمانه، ويجمله ويزينه ثم إذا انقضى الشهر عاد فهدم ما بنى، وأفسد ما شيد!! وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـ?ثًا [النحل:92]. فالله ينهانا أن نكون كهذه المرأة الحمقاء التي تنسج غزلها حتى إذا أبدعته وأحكمته نقضته، ثم عادت تغزل من جديد!!
وهذا وللأسف حال أكثرنا في كل عام، يعمل ويعمل ويعمل في رمضان حتى إذا بلغ من الخير مبلغاً، وبدأ يحس طعم العبادة ولذة الخشوع، هدم كل ذلك بعد رمضان، فإذا جاء رمضان آخر شرع يبني من جديد فلا يكاد يبلغ منزله الأول حتى ينتكس!
والتأمل في هذا كله يقتضي من المؤمن أن يستمر على ما كان عليه من طاعة في رمضان وأن يواصل كفه عما كف عنه من معاصي في ذلك الشهر الكريم، وما أقبح الحور بعد الكور، وما أقبح أن يتدنس بذنوب المعاصي من قد تطهر منها، وما أشنع أن يرجع التائبون إلى حمأة الرذيلة، وأن يتلطخوا بأوحال المعصية بعد أن توضؤوا بنور الطاعة.
"يا رجال التوبة لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع يصلح للأطفال لا للرجال، ولكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام، فإن صبرتم تعوضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب، ومن ترك شيئاً لله لم يجد فقده" [لطائف:454].
((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) [البخاري:1152، ومسلم:1159].
يا من وفى في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال.
يا من صلح في رمضان، وعزم على الزلل في شوال، ويحك رب الشهرين واحد! [نداء الريان:2/359].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
لقد ندبنا في شهرنا هذا إلى أمرين:
أولهما: إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد طهرة للصائم وعوناً للفقير المعدم.
وثانيهما: صيام ستة أيام منه يتم بها أجر الصائم، وتعظم منزلته عند ربه.
عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) [مسلم:1164]. وذلك أن الحسنة بعشرة أمثالها فيكون صيام رمضان كصيام عشرة أشهر، وصيام الأيام الستة كصيام شهرين فذلك صيام العام.
وقد بين هذا المعنى الحديث الصحيح الذي رواه ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة)) [صحيح الجامع الصغير:3851].
ولا فرق في ذلك بين أن يكون شهر رمضان ثلاثين أو تسعاً وعشرين. [لطائف:446].
هذا وفي معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة:
ـ منها أن صيام ستة من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله، كما سبق بيانه.
ـ ومنها أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل المفروضة وبعدها فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص.
ـ ومنها أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله إذا تقبل عمل عبد وفقه لعلم صلاح بعده.
ـ ومنها أن صيام رمضان يوجب مغفرة الذنوب، والصائمون يوفون أجورهم يوم الفطر فتكون معاودة الصيام بعد الفطر شكراً لهذه النعمة، كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائماً ويجعل صيامه شكراً للتوفيق للقيام [لطائف:447-448].
عباد الله:
لقد علمنا شهر رمضان أننا نستطيع أن نبكي من خشية الله، وأن نذرف الدمع بين يديه، وأن نجهش في صلاتنا بالبكاء، وعلمنا أننا نستطيع أن نقوم الليل ونصوم النهار ونكثر من قراءة القرآن، وعلمنا أننا نستطيع أن نديم المكث في المساجد، وعلمنا أننا نستطيع أن نترك كثيراً من شهواتنا ورغباتنا.
باختصار... لقد فضحنا هذا الشهر، وكشف كذب دعاوى الكثيرين ممن يزعم أنه لا يستطيع البكاء أو الصلاة أو قراءة القرآن أو البقاء في المسجد... الخ. فهل نتعلم هذا الدرس؟ هل ندرك أننا نقدر على فعل الكثير عندما نريد فعله؟ هل نتذكر أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وأن في وسعنا أن نفعل الشيء الكثير؟
عباد الله:
ما أسرع ما يتقضى الزمن، وما أعجل ما تمضي الأيام، كنا بالأمس نستقبل رمضان ونحن اليوم نودعه ونبكي عليه، ولم يكن بين استقبالنا ووداعنا إلا أيام قلائل مرت مرور الطيف ولمعت لمعان البرق الخاطف ثم غادرتنا مقربة إلينا آجالنا مقصرة من آمالنا.
وعما قريب تتقضي الأيام المقدرة، وتدنو الآجال المكتوبة، ويفارق المرء دنياه، غير حامل زاداً إلا زاد العمل الصالح، ولا لابس لباساً إلا لباس التقوى... فأينا أعد لذلك اليوم عدته، واتخذ له أهبته؟
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78].
قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ [الجمعة:7].
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:185].
فالله الله في ساعة لا شك في مجيئها.واجعلوا في تصرم شهركم عبرة تذكركم بتصرم عمركم.
(1/1795)
كلمة التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة بها عز الدنيا والآخرة. 2- أهل مكة يدركون مقتضيات كلمة التوحيد. 3- بعض
فضائل كلمة التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاعلموا أن خير الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
حين ضجرت قريش من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ويئست من استجابته لها بعد أن جربت حصاره في الشعب ثلاث سنوات كاملات فلم يلن لهم ولم يتخل عن دعوته... حين رأت قريش ذلك شكلت وفداً رفيع المستوى من ملئها وأشرافها، وتحرك ذلك الوفد إلى أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى ـ يعنون من كبر السن وقرب الموت ـ وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه!.
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فعرض عليه مقالة القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أرأيتم إن أعطيتكم كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب والعجم؟ فقال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشراً من أمثالها قال: تقولون: لا إله إلا الله)) فصفقوا بأيديهم وقالوا: أتريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً وانصرفوا مستكبرين فأنزل الله قوله: ص وَ?لْقُرْءانِ ذِى ?لذّكْرِ بَلِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:1-2].
إنه لأمر عجيب غاية العجب، غريب غاية الغرابة.
لقد بذلت قريش كل وسعها لحرب محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت مستعدة ـ إذ جاءت لأبي طالب ـ أن تبذل كل ما يمكنها من مال وعطاء مقابل أن يبقى لها كبرياؤها وتظل لها سيادتها.
فهل كان يشق عليها أن تتلفظ بما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما معنى أن ترفض قريش قول كلمة وترضى ببذل المال والجاه والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم؟
ليس لذلك إلا معنى واحد هو أن قريشاً: أدركت ـ على كفرها ـ خطر: لا إله إلا الله وعلمت أنها منهج حياة، ودستور للبشرية.
لقد أدركت أن نطقها بهذه الكلمة معناه أن تتخلى عن كبريائها وغطرستها واستعلائها، وتعطي مقادتها صاغرة لهذا الدين الجديد الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وهلم معي إلى قصة أخرى تصور لك جانباً من وعي العرب ـ رغم جاهليتهم ـ بخطر هذه الكلمة، وإذا كان فهم أبي جهل ومن معه لكلمة التوحيد صرفهم عنها، فإن فهم ضمام بن ثعلبة قاده إلى موقف آخر...
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ)) قَالَ: فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ قَالَ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ فَبَايَعَهُ. [مسلم].
إن معنى لا إله إلا الله أنه لا معبود بحق إلا الله، وفي هذه الكلمات القلائل هدم لبنيان الوثنية من أساسه، وإقامة لصرح التوحيد على أمتن أساس وأقواه، فمن ثم شرقت بهذه الكلمة كل قوى الكفر والطغيان على مر العصور، ومن ثم أيضاً أنست بها النفوس النقية التي ما زالت على فطرتها.
ولنشر هذه الكلمة العظيمة، ولبث مضمونها تعاقب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36].
إن لا إله إلا الله ركن الإسلام الأول كما صح بذلك الحديث عند البخاري ومسلم.
وإن لا إله إلا الله عصمة للدماء، فعند البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إلا إلا الله وأن محمداً رسول الله)) [البخاري:24].
ولا إله إلا الله يسأل عنها جميع الخلق، قال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الحجر:91-92]. أي عن قول: لا إله إلا الله.
وهي الطريق إلى شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ)) [البخاري:99].
وهي القول الثابت الذي يثبت الله به المؤمن في القبر حين يسأله الملكان [البخاري:4699].
وهي أفضل ما يعده الإنسان لملاقاة ربه، كما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو يجود بنفسه. [مسلم:173].
وهي أفضل شعب الإيمان وأعلاها. [مسلم:51].
وهي أفضل الحسنات، قال أبو ذر: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: ((هي أفضل الحسنات)) [أحمد:20512].
وهي كلمة التقوى، فعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى)) قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ الترمذي هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. [3188].
وهي المنجاة من الشيطان، فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاذَا يُنْجِينَا مِمَّا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِي أَنْفُسِنَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْهم: قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ((يُنْجِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولُوا مَا أَمَرْتُ عَمِّي أَنْ يَقُولَهُ)) [أحمد:36].
وليس بين هذه الكلمة العظيمة وبين الله حجاب. روى عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه)) [الترمذي:3440].
وهذه الكلمة العظيمة بعد ذلك كله مفتاح دخول الجنة...
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) [أحمد].
روى مسلم عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)) [مسلم:38].
وبها يخرج الموحدون من النار بعد أن يعاقبوا بقدر ذنوبهم، فقد روى الإمام مسلم [278] عن جابر بن عبد الله أنه قال: ((ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ حَتَّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشَّيْءِ فِي السَّيْلِ وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ ثُمَّ يَسْأَلُ حَتَّى تُجْعَلَ لَهُ الدُّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا)).
بل إذا كان آخر كلام المرء من الدنيا شهادة التوحيد فإن ذلك يوجب له الجنة. [أحمد:21024]. عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كُنْتُ أَكْتُمُكُمُوهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)).
وعند أحمد أيضا [182] أن معاذاً رضي الله عنه قال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمَوْتِ إِلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رَوْحًا حِينَ تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ وَكَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَمْ أَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا وَلَمْ يُخْبِرْنِي بِهَا، فَذَلِكَ الَّذِي دَخَلَنِي، قَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْهم فَأَنَا أَعْلَمُهَا قَالَ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَمَا هِيَ؟ قَالَ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا لِعَمِّهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: طَلْحَه صَدَقْتَ)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.
وبعد:
دونك أيها الأخ هذين الحديثين العجيبين:
1ـ روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة... فأخذ الرسول بمجامع لبته وقال له: ((آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ)).
2ـ وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ)) [رواه الترمذي:2563، وقال حسن غريب].
ويبقى لنا بعد ذلك سؤال مهم لا بد أن نسأله أنفسنا هل مجرد القول ينفع؟
وهل يكفي الإنسان أن يلفظ بهذه الكلمة العظيمة دون أن يتبع ذلك بعمل جاد؟
إننا نجد طرفاً من جواب هذا السؤال في كلمة وهب بن منبه رحمه الله، قال الإمام البخاري: بَاب مَا جَاءَ فِي الْجَنَائِزِ وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. [البخاري].
إن معنى ذلك إذن أنه لا بد مع القول من عمل، وهذا معنى قول السلف: الإيمان اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، ولذلك جعل السلف لـ (لا إله إلا الله) شروطاً منها المحبة والاتباع والانقياد والتصديق واليقين.
وبهذا يصل الإنسان إلى مراده وينال رضا خالقه ويحقق توحيده.
(1/1796)
لماذا الجفاف يا عين؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
17/5/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قلة البكاء والخشوع. 2- بكاء السلف وخشوعهم. 3- فوائد البكاء من خشية الله. 4- لماذا
بكى السلف وجفت مآقينا. 5- مواطن البكاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
لقد غاب عن حياة الكثيرين منا سمت جليل وسمة ربانية.
أنستنا الدنيا ومشاغلها ولهونا بها في الليل والنهار هذه الخصلة الكريمة الشريفة. لقد فقدنا البكاء من خشية الله.
نعم، إن غياب هذا السمت البكائي وندرته حتى صار يقال: إن فلاناً يبكي!! وحتى صار من المستغرب أن تجد من يخشع في الموعظة، وحتى صار صف الملتزمين في الصلاة أشح بالدمع من الصخر... إن هذا كله مؤذن بخلل خطير، ومنذر بشرٍ وبيل.
لا نريد المخادعة، ولا الضحك على النفس، فربما التمس الإنسان لنفسه ألف عذر، وربما قال ما قال إياس لأبيه: إنما هي رقة في القلوب، يريد أن إن المسألة طبائع فهناك من في قلبه رقة، وهناك من في قلبه قسوة!! وكل هذه مبررات واهية وحجج ساقطة، واجعل نصب عينيك أبداً قول من قال: إذا لم تبك من خشية الله، فابك على نفسك لأنك لم تبك!! وما أشبه هذا القول بالصواب. وقد روى وهب بن منبه أن عابداً لقي عابداً وهو يبكي،...، فقال: ما يبكيك؟ فقال: وما لي لا أبكي؟ أبكي والله على ألا أكون لم أزل أبكي!!! [ابن أبي الدنيا:259].
وحسبنا هذا التهديد الإلهي المخيف: فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الزمر:22].
وحسبنا ما ذكره علي رضي الله عنه في وصف الصحابة الكرام، فقد جاء في ترجمته رضي الله عنه كأنه صلى صلاة الفجر وجلس حزيناً مطرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وجعل يبكي ويقول: (لقد رأيت أصحاب محمد، فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع، والله لكأن القوم باتوا غافلين! وما رؤي رضي الله عنه بعد ذلك متبسماً حتى لحق بربه! [صفة الصفوة:1/138].
وعلي هذا رضي الله عنه ذكر عنه ضرار بن ضمرة أنه رآه في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا، يا دنيا، أبي تعرضت؟ أم لي تشوفت؟ هيهات هيهات غري غيري، قد بتتك ثلاثاً، لا رجعة لي فيك.... آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. [صفة الصفوة:1/132].
ويقول سعيد الجرمي: "شباب مكتهلون في حداثة أسنانهم... قد نظر الله إليهم في جوف الليل محنية على أجزاء القرآن أصلابهم، سابلة على الخدود دموعهم، كلما مروا بآية من ذكر الجنة بكوا شوقاً إليها، وكلما مروا بآية من ذكر النار صرخوا منها فرقاً..." [ابن قدامة:56].
ويا بؤس من حرم ذلك الخير، وفاتته تلك المنقبة، ودخل تحت الوعيد الإلهي المخيف: فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الزمر:22].
ولقد وعى أسلافنا خطر هذه الخصلة فكانوا عجباً في البكاء وغزارة الدمعة.
كان يحيى بن مسلم البكاء قد اعتم بعمامة وأدارها على حلقه، وجعل لها طرفين، فكان يبكي وينتحب حتى يبل هذا الطرف، ثم يبكي وينتحب حتى يبل الطرف الآخر، ثم يحلها من رأسه ويبكي وينتحب حتى يبل العمامة بأسرها، ثم يبكي وينتحب حتى يبل أردانه [أي أكمامه]، [ابن أبي الدنيا:224].
وكان لمحمد بن عبد الوهاب صديق من بني تميم فربما زاره فيبتدئان في البكاء حتى ينادى لصلاة الظهر. [ابن أبي الدنيا:236].
وكان سمتهم يذكر البكاء، قال عبد الواحد بن زيد: لو رأيت الحسن إذا أقبل لبكيت لرؤيته قبل أن يتكلم، ومن ذا الذي كان يرى الحسن فلا يبكي؟ ومن كان يملك نفسه عن البكاء عند رؤيته؟ ثم بكى عبد الواحد بكاء شديداً. [ابن أبي الدنيا:240].
وكان الدمع لا يفارق مآقيهم.. فهذا سعيد الطائفي لا تكاد تجف له دمعة، إنما دموعه جارية دهره، إن صلى فهو يبكي، وإن طاف فهو يبكي، وإن جلس يقرأ في المصحف فهو يبكي، وإن لقيته في الطريق فهو يبكي. [ابن أبي الدنيا:242].
وكان أحدهم يبكي دماً من شدة حرقته... قال جِسَر بن الحسن: ذاكرنا عمر بن عبد العزيز شيئاً مما كان فيه، فبكى، حتى رأينا خلل الدم في الدموع، فقال الأوزاعي قد سمعنا عن بكاء داود فما دونه، فما بلغنا أن أحداً صار إلى هذا غير عمر بن عبد العزيز. [ابن أبي الدنيا:424].
ـ بل لقد بكوا وبكوا حتى فسدت أعينهم من طول البكاء.
بكى هاشم الدستوائي حتى فسدت عينه، فكانت مفتوحة، وهو لا يكاد يبصر بها [ابن أبي الدنيا:195].
وبكى يزيد الرقاشي أربعين عاماً حتى تساقطت أشفاره، وأظلمت عيناه، وتغيرت مجاري دموعه. [ابن أبي الدنيا:197].
وبكى أسيد الضبي حتى عمي. [ابن أبي الدنيا:202].
وعلى هذا جرت سنة الأولين... بكاء وحزن ودموع، بل لقد روى ابن للفضيل بن عياض أن الفضيل قد ألف البكاء حتى ربما بكى في نومه حتى يسمعه أهل الدار!!! [ابن أبي الدنيا:230]. فما الخير فينا إذا لم نكن مثلهم؟ وما نفع أعيننا إذا لم ترطبها الدموع؟... ولقد اشتكى ثابت البناني عينه، فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرأ عينك، قال: وما هي؟ قال: لا تبك، قال: وما خير في عين لا تبكي؟ [ابن أبي الدنيا:210].
ولاغرو في كثرة بكائهم وغزارة دمعهم، فكم لهذا البكاء من فضائل وكم يرفع من درجات!!
إن البكاء من خشية الله طريق إلى الاستظلال بظل العرش:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) [البخاري ومسلم].
وإن البكاء من خشية الله سبب من أسباب التحريم على النار.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) [الترمذي وقال: حسن غريب].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) [رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وفي سنده مجهول].
وإن البكاء من خشية الله من أحب الأعمال إلى الله.
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله)) [الترمذي:1669، وقال حسن غريب].
وعند الطبراني أن الله قال لموسى: ((... ولم يتعبد إلي المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي)) [صحيح الترغيب:4874].
والبكاء من خشية الله أمان يوم الفزع
عن أبي الجلد (عبد الملك بن حبيب) قال: قرأت في مسألة داود صلى الله عليه وسلم قال: إلهي ما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجنتيه؟ قال: جزاؤه أن أحرم وجهه على لفح النار، وأن أؤمنه يوم الفزع. [ابن أبي الدنيا:7].
وجزاء البكاء من خشية الله جزاء مطلق غير مقيد. قال فرقد السبخي: بلغنا أن الأعمال كلها توزن إلا الدمعة تخرج من عين العبد من خشية الله، فإنه ليس لها وزن ولا قدر، وإنه ليطفأ بالدمعة البحور من النار. [ابن أبي الدنيا:11].
والبكاء سبب حصول الخشوع ونور القلب.
قال خالد بن معدان: إن الدمعة لتطفئ البحور من النيران فإذا سالت على خد باكيها لم ير ذلك الوجه النار، وما بكى عبد من خشية الله إلا خشعت لذلك جوارحه، وكان مكتوبا في الملأ الأعلى باسمه واسم أبيه، منوراً قلبه بذكر الله. [ابن أبي الدنيا:15].
وعن المفضَّل بن مهلهل قال: بلغني أن العبد إذا بكى من خشية الله ملئت جوارحه نوراً، واستبشرت ببكائه، وتداعت بعضها بعضاً: ما هذا النور؟ فيقال لها: هذا غشيكم من نور البكاء. [ابن أبي الدنيا:35].
والبكاء سبب حصول الرحمة من الله.
وعن الحسن قال:... لو أن باكياً بكى في ملأ من الملأ لرحموا جميعاً ببكائه. [ابن أبي الدنيا:10].
وفي حديث ضعيف مرسل رواه البيهقي عن الهيثم بن مالك أنه خطب يوماً فبكى رجل بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو شهدكم اليوم كل مؤمن عليهم من الذنوب كأمثال الجبال لغفر لهم ببكاء هذا الرجل، وذلك أن الملائكة تبكي وتدعو له وتقول: الله شفع البكائين فيمن لم يبك)) [الترغيب والترهيب:4877].
ومن هنا سنت مصاحببة البكائين، وحضور مجالسهم، وقد روى رِشد بن سعد عن بعض أصحابه قال: قرأت في بعض الكتب: قل للمؤيدين من عبادي فليجالسوا البكائين من خشيتي فلعلي أصيبهم برحمتي إذا رحمت البكائين. [ابن أبي الدنيا:27].
وبالبكاء يكون غفران الذنوب.
عن مالك بن دينار قال: البكاء على الخطيئة يحط الذنوب كما تحط الريح الورق اليابس. [ابن أبي الدنيا:25].
وقال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب أن العبد إذا بكى من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كيوم ولدته أمه، ولو أن عبداً جاء بجبال الأرض ذنوباً وآثاماً لوسعته الرحمة إذا بكى، وإن الباكي على الجنة لتشفع له الجنة وتقول: يا رب أدخله الجنة كما بكى علي، وإن النار لتستجير له من ربها فتقول: يا رب أجره من النار كما استجارك مني وبكى خوفا من دخولي. [ابن أبي الدنيا:41].
ـ قال مالك بن دينار: والله لأن أبكي وتسيل دموعي على خدي أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار. [موعظة القلوب:18].
أخي... لماذا بكى هؤلاء الناس ولم نبك نحن؟
لقد توافرت فيهم صفات افتقدناها. ومنها:
1ـ الصدق مع الله:
قال أبو معاوية الأسود: من أكثر لله الصدق ندِيت عيناه، وأجابته إذا دعاهما. [ابن أبي الدنيا:71].
2ـ تألم القلب:
حدث أبو سهل قال: قلت لسفيان بن عيينة: أترى إلى أبي علي ـ يعني فضيلاً ـ لا كاد تجف له دمعة؟!
فقال سفيان: إذا قرح القلب نديت العينان! [ابن أبي الدنيا:72].
3ـ قلة الذنوب:
عن مكحول قال: أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً. [ابن أبي الدنيا:66].
مواطن ينبغي فيها البكاء:
1ـ عند قراءة القرآن:
قال علقمة بن وقاص: صليت خلف عمر بن الخطاب، فقرأ سورة يوسف، فكان إذا أتى على ذكر يوسف سمعت نشيجه من وراء الصفوف. [417].
وقال فضل الرقاشي: ما تلذذ العابدون ولا استطارت قلوبهم بشيء كحسن الصوت بالقرآن. وكل قلب لا يجيب على حسن الصوت بالقرآن فهو قلب ميت. [ابن أبي الدنيا:80].
2ـ عند الأذان:
كان أبو خالد المؤذن إذا أذن بكى، وربما صرخ الصرخة في إثر الأذان! فقال له بعض أولياء الأمور: ما الذي يغشاك عند النداء؟ فبكى ثم قال: إنني لأشبهه بالقيامة. ثم غشي عليه! وكان يقول: لولا ما أؤمله من الفرج والراحة بعد الأذان لظننت أن روحي ستخرج فرقاً من الموت! [ابن أبي الدنيا:145].
3ـ عند الطهور:
حدث أبو سعيد قال: رأيت منصوراً (هو ابن زاذان) توضأ يوماً، فلما فرغ دمعت عيناه، ثم جعل يبكي حتى ارتفع صوته، فقلت: رحمك الله ما شأنك؟ قال: وأي شيء أعظم من شأني؟ إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم. [ابن أبي الدنيا:149].
4ـ عند الصلاة:
لما رفع عمر بن عبد العزيز رأسه من السجود خلف المقام، نظروا إلى موضع سجوده مبتلاً من دموع عينيه! [ابن أبي الدنيا:128].
وقال محمد الزراد: صليت إلى جنب رياح القيسي، فكنت أسمع وقع دموعه على البواري أمثال الوكف: طق طق. [ابن أبي الدنيا:131].
وصلى يوماً مالك بن دينار العصر، فلما سلم عضّ على إصبعه، فلم تزل عيناه تدمعان حتى غابت الشمس. [ابن أبي الدنيا:244].
5ـ تذكر الذنوب:
قال صالح المري: سمعت يزيد الرقاشي يقول: إذا أنت لم تبك على ذنبك فمن يبكي لك بعدك؟ ثم بكى صالح وقال: يا إخوتاه ابكوا على الذنوب، فإنها ترين القلب حتى تنطمس، فلا يصل إليها من خير الموعظة شيء. [ابن أبي الدنيا:186].
يا إخوتاه... سبق أهل الليل بليلهم، وسبق أهل البكاء ببكائهم، وبقينا مخلفين!!! فإلى متى الغفلة؟
ومتى يكتب لهذه العين أن تجود بالدمع...
ومتى يكتب لهذه العين أن تجود بالدمع...
إلهي بقلبي يطيف العناء ونفسي غدت مسرحاً للشقاء
أتمضي الحياة كذا مرة فلا من خشوع ولا من بكاء
وألمح حولي ألوف العباد وأدمعهم من سنا وسناء !!!!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1797)
ماء زمزم
فقه, موضوعات عامة
المساجد, مخلوقات الله
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفجر زمزم تحت قدمي إسماعيل عليه السلام. 2- بعض فضائل ماء زمزم. 3- ماء زمزم
لما شرب له.
_________
الخطبة الأولى
_________
مرت آلاف السنين ومع ذلك لا زال طيفها يرتسم أمام الناس وهي تركض لاهثة فزعة.
ولازال صوت يخترق حجب الزمان وهي تنادي بأعلى صوتها وتقول: لقد أسمعت إن كان عندك غوث.
كانت قلقة مضطربة، كيف لا وهي ترى صغيرها يتضور أمام عينيها، يكاد يقتله الجوع والعطش.
وكأني بمكة وربوعها وبالحرم الشريف يتألم لمصابها ويبكي على حالها.
وما أنس لا أنس هاجر لما سعتْ صادعا قلبها جزع الأمْ
وتجري ومن خلفها طفلها يصيح يعالج موتاً محتَّمْ
وترفع نحو السماء يديها أيا رب من غيرك اليوم يرحمْ
بكى كل شيء لها وبكيتُ فمن دمع عيني تفجر زمزمْ
نعم... تفجرت عين زمزم تحت قدمي إسماعيل عليه السلام بضربة من عقب جبريل عليه السلام لتكون استجابة لدعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
وجعلت هاجر تغرب الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت زمزم عيناً معيناً)) [البخاري].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن جبريل لما ركض زمزم بعقبه جعلت أم إسماعيل تجمع البطحاء، رحم الله هاجر لو تركتها كانت عيناً معيناً)).
كانت عاقبة التفويض المطلق لأمر الله هذا النبع العذب الذي لا يغيض.
وكان مآل الخضوع لأمر الله هذا الماء المبارك.
إن زمزم رمز الجزاء الرباني لكل من صبر وصابر في سبيل الله، وإن كان الله قد فجر لهاجر هذا النبع في قلب الصحراء حين صبرت وقالت بإيمان: ((فلن يضيعنا الله)) فإنه سبحانه يفجر في قلب كل مؤمن صابر مخلص نبعا ثرا من اليقين والطمأنينة يجد برده بين جنبيه.
بدأ هذا الماء غياثاً وظل غياثاً، ظلت بركته باقية...
فبه غسل قلب النبي صلى الله عليه وسلم.. عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر رضي الله عنهم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء)) [البخاري:3342].
ولو لم يكن لزمزم من فضل إلا هذا لكفى، يغسل بها أطهر قلب، فتزيد طهراً على طهر.
قال ابن أبي جمرة: وإنما لم يغسل بماء الجنة لما ادتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنة ثم استقرب في الأرض، وقال السهيلي رحمه الله: لما كانت زمزم هزمة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم ناسب أن يغسل بمائها عند دخول حضرة القدس ومناجاته، وصح عن شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني أنه قال: إن ماء زمزم أفضل من الكوثر لأنه غسل صدر النبي صلى الله عليه وسلم به. [الرياض النضرة:144].
ومن فضائل هذا الماء أنه خير ماء على وجه الأرض، فقد روى الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان بسند قال عنه الهيثمي: رجاله ثقات وصححه ابن حبان، رويا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم وشفاء من السقم)).
فقد ثبت بهذا الحديث أن زمزم طعام، وشراب، ودواء.
قال ابن القيم رحمه الله: ماء زمزم سيد المياه وأشرفها وأجلها قدراً وأحبها إلى النفوس وأغلاها ثمناً وأنفسها عند الناس وهو هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل. [زاد4/392]، ماء زمزم للجائع طعام، وللمريض شفاء من السقام، قد فضل ماؤها على الكوثر حيث غسل منها القلب الشريف الأطهر. [الرياض 145].
وكون زمزم طعام طعم أمر متعالم معروف، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه كما رواه عنه عبد الرزاق في مصنفه: كنا نسميها (يعني زمزم) شباعة، وكنا نجدها نعم العون على العيال.
وانظر رحمك الله إلى خبر أبي ذر يوم جاء مكة، قال: أتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها، وقد لبثت ثلاثين بين يوم وليلة ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع !! وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((متى كنت هنا؟)) قال: منذ ثلاثين، قال: ((فمن كان يطعمك؟)) قال: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنها مباركة. إنها طعام طعم)) [مسلم].
قال ابن القيم رحمه الله: وشاهدت من يتغذى به الأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر ولا يجد جوعاً ويطوف مع الناس كأحدهم وأخبرني أنه ربما بقي عليه أربعين يوماً وكان له قومة يجامع بها أهله ويصوم ويطوف مراراً. [زاد4/393].
وأما كونه شفاء فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل ماء زمزم في الأداوي والقرب وكان يصب على المرضى ويسقيهم. [الترمذي وصححه الألباني].
وعن أبي جمرة الضبعي قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة فأخذتني الحمى فقال: أبردها عنك بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((هي الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء أو قال: بماء زمزم)) [البخاري:3261].
قال ابن القيم رحمه الله: وقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه وفقدت الطبيب والدواء فكنت آخذ شربة من ماء زمزم وأقرأ عليها الفاتحة مرارا ثم أشربه فوجدت بذلك البرء التام، ثم صرت أعتمد ذلفك عند كثير من الأوجاع فأنتفع بها غاية الانتفاع. [زاد 4/178].
وقال رحمه الله: جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله. [زاد4/393].
وكلنا قد سمعنا خبر المرأة المغربية التي اشتد بها السرطان وحار الأطباء في أمرها وعجز الدواء عن تخفيف آلامها، فسافرت إلى مكة واعتمرت وداومت على الشرب من ماء زمزم، واكتفت برغيف وبيضة واحدة كل يوم وجعلت تدعو وتتعبد وتبكي.. وفجأة ذهب كل شيء، ذهب المرض وما بقي له من أثر، لقد قهر زمزم السرطان بإذن الله الواحد الأحد.
ومن فضائل هذا الماء أنه لا يفسد بمرور الأعوام، فقد ذكر بعضهم أنه حمله إلى بلاده فظل في الصحائف اثنتي عشرة سنة لم يفسد ولم يتغير!!
ومن فضائله أنه تحفة للضيفان، وإكرام لهم، وأنه يهدى إلى الآفاق فيكون من أكرم الهدايا روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إذا نزل به ضيف أتحفه من ماء زمزم وكان لا يطعم قوماً طعاماً إلا سقاهم من ماء زمزم. [الدر المنثور].
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمل ماء زمزم. [الترمذي والحاكم في المستدرك وصححه الألباني].
وكان يرسل وهو بالمدينة قبل أن تفتح مكة إلى سهيل بن عمرو أن أهد لنا من ماء زمزم ولا تترك، فيبعث إليه بمزادتين. [البيهقي بإسناد جيد].
وزمزم بعد ذلك لا يتضلع منها منافق، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال كنت عند ابن عباس جالساً فجاءه رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم، قال فشربت منها كما ينبغي، قال: وكيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل القبلة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثاً وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله عز وجل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن آية ما بيننا وبين المنافقين إنهم لا يتضلعون من زمزم)) [ابن ماجه:3061، والحاكم في مستدركه، وهو صحيح لغيره].
والتضلع هو الإكثار من الشرب حتى يتمدد الجنب والأضلاع، فيقال: شرب فلان حتى تضلع أي انتفخت أضلاعه من كثرة الشرب.
وكان السلف يستحبون إذا ودعوا البيت أن يأتوا زمزم فيشربوا منها.
_________
الخطبة الثانية
_________
حديث ماء زمزم لما شرب له صحيح، وقد صححه الحاكم والمنذري والدمياطي وحسنه ابن حجر. [زاد4/393].
مجاهد: ماء زمزم إن شربته تشتفي به شفاك الله. إن شربته لشبعك أشبعك الله به. ماء زمزم إن شربته لقطع ظمئك قطعه الله.
قال الشوكاني: فيه دليل أنه ماء زمزم ينفع الشارب لأي أمر شربه لأجله، سواء كان من أمور الدنيا أو الآخرة. ولذلك فقد شربه طائفة من أهل العلم كلهم يريد أمراً من شربه لزمزم.
فكان ابن المبارك يشربه لعطش القيامة.
وكان الحاكم يشربه لحسن التصنيف.
وكان ابن خزيمة يشربه للعلم النافع.
وكان ابن عيينة يحدث من شرب زمزم بمئة حديث!
وأما ابن حجر شربه ليبلغ حالة الذهبي في حفظ الحديث.
وكان السيوطي يشربه ليصل رتبة السراج البلقيني في الفقه وابن حجر في الحدث.
وأما الشافعي يشربه للرمي، فكان يصيب من كل عشرة تسعة.
وأما والد الحكيم الترمذي شربه للحصر.
وأما الخطيب يشربه لثلاث حاجات.
(1/1798)
مدرسة الطريق
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
1/5/1417
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة إفتراش الشباب بالأرصفة. 2- حق الطريق. 3- بعض مفاسد الجلوس في
الطرقات. 4- ضرورة زجر الوالدين أبناءهما عن الجلوس في الطرقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
من هؤلاء التائهون؟
الخابطون على التخوم؟
الغافلون اللاعبون؟
أفهؤلاء المسلمون؟
أبدا تكذبني وترجمني الحقائق والظنون!!!
من هؤلاء الجالسون على الطريق؟
السالكون الموت دربا رغم إنذار الصديق!
الغافلون عن الحريق وقد أظلهم الحريق!
أفهؤلاء المسلمون؟ أبدا تكذبني وترجمني الحقائق والظنون!!!
من هؤلاء على الرصيف؟
سيماهم لهو، وملء حديثهم هذر سخيف.
يتسابقون إلى الحتوف وما دروا خطر الحتوف!
أفهؤلاء المسلمون؟ أبدا تكذبني وترجمني الحقائق والظنون!!!
من هؤلاء؟
إنها ظاهرة أصبحت تؤرق كل مسلم غيور، وتقض مضجع كل أبي ذي مروءة.
ظاهرة أبنائنا وإخواننا الذين يفترشون الشوارع والطرقات، ويمضون فيها سحابة نهارهم، وعامة ليلهم على غير شيء.
وإنك لتجد بعضهم في قيظ الهاجرة، ولفح الشمس اللاهب، تجده قد ترك بيته، وأوى إلى رصيف يقله، أو جدار يستند إليه، وكأنه مشرد لا دار له ولا مأوى!!!
وإنك لتجد أيضا كثيرا من التجمعات (الرصيفية) تضم أشكالا شتى، وأمزجة متباينة، لا جامع لها إلا حب الطريق، وهوى الرصيف!!!
حتى ليصح لنا أن نسمي هذه الظاهرة مدرسة الطريق.
وابتداء أقول: إننا لا نعني إحدا بعينه، وإن الحديث عن هذه الظاهرة لا يعني بحال احتقار أصحابها أو الحط من شأنهم، لا والله بل هم ـ علم الله ـ في سواد قلوبنا، وما نريد لنا ولهم إلا الخير، ولكننا هنا نعالج قضية ونناقش ظاهرة، فلا يفهمن أحبابنا وإخواننا غير ذلك، وليعلم كل من له صلة بهذه الظاهرة أن الحديث موجه إليه أولا ليدرك خطر ما هو فيه، وسوأة ما يأتيه، فلعله أن يذر ويدع، ولعله أن يكف ويرتدع.
وأول ما يحسن التنبيه عليه هنا: نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في الطرقات... روى البخاري في صحيحه. [ك:7 ـ ب 2 رقم:6229]. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) ، فقالوا: يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: ((فإذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه)) ، قالوا: وما حق الطريق يارسول الله؟ قال: ((غض البصر، وكف الإذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
وقد بين ابن حجر على علة هذا النهي فقال: وقد اشتملت ـ أي الأحاديث ـ على علة النهي عن الجلوس في الطرق لما فيه من التعرض للنساء الشواب، وخوف ما يلحق من النظر إليهن من ذلك، ومن التعرض لحقوق الله والمسلمين مما لا يلزم الإنسان إذا كان في بيته، ومن رؤية المناكير وتعطيل المعارف، فيجب على المسلم الأمر والنهي عند ذلك فإن ترك تعرض للمعصية، وكذا يتعرض لمن يمر عليه ويسلم عليه فإنه ربما كثر ذلك فيعجز عن الرد على كل مار، ورده فرض فيأثم، والمرء مأمور بأن لا يتعرض للفتن وإلزام نفسه ما لعله لا يقوى عليه، فندبهم الشارع إلى ترك الجلوس حسما للمادة. [الفتح:11/11-12].
هذا طرف مما يتعلم في مدرسة الطريق، وثم دروس أخرى يتعلمها الدارس في هذه المدرس هي شر وأنكى مما ذكره الإمام ابن حجر، فهلموا نتذاكر بعض هذه الدروس المفسدة:
أولا/ الألفاظ البذيئة: فأول ما يصافح سمع الداخل إلى وسط أبناء الطريق قاموس طويل من السب والشتم والتجريح والعياذ بالله، وإنك لتجد أسهل شيء على لسان هؤلاء السب والشتم واللعن، حتى إن ذلك ليغلب عند طلاب هذه المدرسة على الذكر والتسبيح والاستغفار، بل إنك تجدهم ـ لإلفهم هذه الألفاظ ـ لا يحي بعضهم بعضا إلا بالسب والشتم، وإذا كان الذي يحييك في هذه المدرسة يشتمك فكيف بالذي يخاصمك أو يعاديك؟!
وأطم من ذلك أنك تسمع شتم الوالدين وسبهما، بل ربما تجرأ بعضهم على سب الله أو الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا ما فيه من الخروج عن الإسلام.
أين هؤلاء من قول الله تعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. ومن قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا؟)).
ثانيا/ العادات القبيحة: فانظر رعاك الله كيف أن الطالب في هذه المدرسة يتعلم منذ الصغر التدخين والعادة السرية والمظاهر الشاذة سواء في اللباس أو الشعر، ويتعلم الكثير من العادات الرذيلة التي لا يرضاها دين ولا عقل.
ثالثا/ إلف المعصية: فتلميذ الطريق ـ لكثرة ما يرى من المعاصي والمنكرات ـ يألف قلبه ذلك كله، فيصبح كا لكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، بل ربما زاد البلاء فسمى المعروف منكرا والمنكر معروفا! بل ربما زاد الأمر سوءا فصار يفتخر بالمعصية ويتباهى بها، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها!!! وكل من عايش بيئة الشارع عرف أن هذا التباهي بالمعصية مما لا يكاد يخلو منه مجلس.
أين هؤلاء من حديث المصطفى: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الإجهار: أن يستر الله على العبد ثم يصبح يفضح نفسه ويقول: يافلان، عملت يوم كذا كذا وكذا، فيهتك نفسه، وقد بات يستره ربه)) [رواه البخاري:5721، ومسلم:2990].
رابعا/ الميوعة والتخنث: وهذا درس جديد صار يلقى في مدرسة الطريق، فلقد أرباب هذه المدرسة ـ على ما هم عليه من الخطأ ـ كانوا في الماضي أصحاب نخوة، وفيهم من رجولة العرب والمسلمين بقايا، أما اليوم فقد ذهب ذلك كله، وعم التخنث والميوعة، ترى ذلك أوضح ما يكون في ظاهرة كشف العورات ولبس القصير، هذه الظاهرة التي بدأت تشيع وتنتشر بشكل فظيع، بعد أن كان فاعلها منبوذا حتى في أوساط أبناء الطريق، ولا يخفى عليك ما يتبع هذا الكشف من إثارة للشهوات وإغراء بالفاحشة والعياذ بالله.
خامسا/ التعود على البطالة: فابن الطريق يمضي يومه كله في الشارع وليس عنده إلا الكلام واللعب واللهو، أما تحمل المسؤولية، أما قضاء حوائج البيت، أما حمل هم الإسلام والعمل له، فذلك آخر ما يفكر فيه إلا من رحم الله.
فكيف يرجى من مثل هذا أن يتحمل في المستقبل مسؤولية، أو يقوم بأداء واجب، أو يسهم في بناء وطنه؟
سادسا/ الاستهانة بالوقت: فأرخص شيء في مدرسة الطريق هو الوقت، ساعات تهدر، وأيام تضيع، وأعمار تذبح على مذبح اللهو واللعب... وما أكثر ما تسمع على لسان أبناء الطريق عبارات مثل : نريد أن نقتل الوقت، فارغون ماذا نفعل؟ نحن في أجازة! ونسوا أن الله أمر الفارغ بغير هذا فقال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ [الشرح:7].
وهكذا يدرج الإنسان في هذه المدرسة فيتبلد في حسه الشعور بالوقت وأهميته، ولا يفكر كيف يستغله في الطاعة... وإذا ضاع وقت المرء فقد ضاع عمره، وإذا ضاع عمره فقد خسر والعياذ بالله.
إذا العمر لم يعمر ببر وطاعة فلا خير في عمر يكون كذلك
سابعا/ التمرد على المجتمع: فهذه المدرسة تعلم تلميذها أنه لكي يكون رجلا فيجب أن يفرض رأيه ويتمرد على من حوله.
فهو يتمرد على أبويه ولا يسمع كلامهما، بل ربما رفع صوته عليهما، وزجرهما وتوعدهما.
وهو يتمرد على مجتمعه وأعرافه وتقاليده، فلا يبالي بلبس الشاذ من اللباس الذي لا يقره عرف مجتمعه، ولا يبالي بالظهور بالمظهر الذي يخالف الشرع والعرف، المهم أن يحقق رغبته، ويثبت ـ في زعمه ـ وجوده.
وأصغ إلى مجالس هؤلاء لتسمع التندر بالآباء والأمهات والتضجر منهم، وكأنهم قيد للحرية، وكبت للرغبة الشخصية.
وأصغ إليها لتسمع اللوم لهذا المجتمع الطاهر الذي لا يسمح بالفساد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ثامنا/ ضعف الولاء للوطن: فأرباب مدرسة الطريق يرون أن بلادنا هذه ـ التي قامت منذ أن قامت على التوحيد وإقامة شرع الله وتعاقب حكامها على ذلك ـ يرون أن هذه البلاد بلاد معقدة لأنها لا تسمح للحريات بالانطلاق، ولا للشهوات بالانفلات، فكل شيء ممنوع، وكل شيء حرام... وهكذا يضعف لديهم الولاء لوطنهم، وتنظر أبصارهم وتطمح نفوسهم إلى البلدان الأخرى التي لا ضوابط فيها ولا قيود... وإذا لم يحب الإنسان بلاده ويرج لها الخير فأي خير فيه؟
تاسعا/ التهيؤ للجريمة: ففي هذه المدرسة يتعلم مرتادها ـ منذ صغره ـ فنون الجريمة والاحتيال.
يبدأ الأمر باحتيال على صاحب البقالة أو صاحب سيارة الأجرة وينتهي إلى السرقة المنظمة المدروسة!
ويبدأ الأمر بشفط البنزين أو الغراء ونحوه وبالتدخين وينتهي إلى إدمان المخدرات.
يبدأ الأمر بسماع الأغاني الخليعة الفاجرة، ثم مشاهدة الأفلام العارية وينتهي إلى فعل الفاحشة!
نعم، وأنا والله لا أبالغ... وكل من عايش مدرسة الطريق وأبناءها يدرك أن اللواط والفاحشة من أبسط الدروس فيها، ولقد عرفت بنفسي شبابا في عمر الزهور، بل في سن الصبا، في المرحلة المتوسطة قادتهم مدرسة الطريق إلى فاحشة اللواط والعياذ بالله!!!
فيا أيها العقلاء!!!
يا أيها الحكماء!!!
ما تقولون في هذه المدرسة؟ أما ترون وجوب إخراج أبنائنا منها، وهدمها على رؤوس من يصر على البقاء فيها؟
أما ترون لزاما أن يسعى الساعون للقضاء على شرها أو التخفيف منه على الأقل؟
أين الآباء والأمهات والأقارب والجيران والمربون ومدرسو التحفيظ ورجال التربية والتعليم والأئمة والخطباء ورجال الأمن أين هؤلاء من هذه المدرسة وطلابها؟
أما على كل أن يقوم بدوره، ويؤدي واجبه؟
ويا أيها الذي درج في هذه المدرسة وتجول في فصولها... يا أيها الأخ الحبيب ماذا جنيت منها؟ ماذا استفدت؟
أما شعرت أن هذه المدرسة (مدرسة الطريق) سلبتك إيمانك وضيعت زهرة شبابك وقادتك إلى الفشل في دنياك وأخراك؟
فلماذا تصر على البقاء فيها؟ ولماذا لا تستدرك باقي عمرك؟ وتبيض بقية صفحات كتاب حياتك؟
أما والله إننا لنحبك، ولنهذا نخاطبك، ونعزك ولهذا نحذرك، ونرحمك ولهذا نقسو عليك...
فقسا ليزدجروا ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم
فتبرأ منذ الساعة من هذه المدرسة، واسحب ملفك منها والتحق بمدرسة المسجد تنل خير الدنيا والآخرة.
(1/1799)
مصعب بن عمير وصياغة الحياة
سيرة وتاريخ
تراجم
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
23/12/1419
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال مصعب بن عمير قبل الإسلام. 2- تغير أحوال مصعب بعد إسلامه. 3- من سمات
مصعب الجديدة الثبات على البدأ. 4- من سمات مصعب الجديدة الدعوة والمثابرة عليها. 5-
مقتل مصعب ودفنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله.. إن خير الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار..
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أتراه لو كان حيا يرضى عن كثيرين ممن ينتسبون إلى الإسلام بأقوالهم ثم تتبرأ منه أفعالهم؟
أكان يرضى عن هؤلاء الذين ينطقون بالشهادتين في الصباح والمساء ثم لا يبالون أن يهلكوا في أي واد من أودية الدنيا أو يسقطوا في أي مستنقع من مستنقعات الذنوب؟
إن هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ويتسمون بأسماء أبنائه ثم لا يبالون أن يخالفوا أوامره ويقعوا في نواهيه، إن هؤلاء لم يفهموا من الإسلام ما فهمه مصعب بن عمير رضي الله عنه.
لقد كان مصعب رضي الله عنه وأرضاه في يوم من الأيام فتى مكة المدلل، كان ذلك الأنيق الحليم الذي تفتح له القلوب والأبواب.
كان ذلك المرفه الذي يلبس أغلى الثياب، ويتعطر بأطيب العطر.
كان ذلك الشاب الذي يعب من الحياة ومتعها لا يكدر صفوه شيء ولا يحول دون رغباته أمر.
وكان مصعب معطرا.
بأندر العطور.
وكان يلبس الحرير.
وكان شامة أحبت الحياة.
وزهرة تنفست روائح النعيم...
وفجأة... تغير كل شيء... انقلبت الموازين.
ولمحت أمه على وجهه آثار وجوم عجيب وتفكير عميق.
زهد مصعب في الزينة، أعرض عن فتيات مكة، أمعن في الجد والوقار.
و تعجبت أمه..
نادت أباه.
يا عمير صغيرنا الحبيب مثقل بسره لا بد أنه أحب!!
هكذا ظنه أبواه، ظنا أنه أسير هوى ورهين حب!!
ولكنه كان في واد آخر، في عالم جديد!!
أمي أبي: لقد عشقت نوره!
عيناي تبصران حينما أراه وحينما يردد الحديث مشرقا أحس أنه يقدم الحياة، يحرر القلوب كي تسبح الإله!.
لقد كانت لحظات أمضاها مصعب رضي الله عنه في دار الأرقم بن أبي الأرقم مستمعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يغسل عن وجه الأرض قذاها بآيات القرآن ودعوة الحق.
وأعطاك هذا الكتاب المجيدا مثاني يغزو الفضاء البعيدا
على لحنه العذب تهمي الدموع ونور المليك يعم الوجودا
ويعلو ولا شيء يعلو عليه يجوب الدهور ويبقى جديدا
استمع مصعب إلى الآيات تنساب مشرقة من النبي صلى الله عليه وسلم فأخذت طريقها إلى قلبه الغض.. وكان فؤاده في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود... فنطق بأعظم كلمة في الوجود (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومن يومها أدرك مصعب رضي الله عنه أن هذه الكلمة منهج حياة، وأنها صياغة جديدة لشخصية، وأنها نظام آخر لذاته التي بعثرها الكفر وشعثها الضلال، فقرر أن يغير كل شيء في حياته، وأن يصوغ حياته كما يحب الله ورسوله.
ولقد كان...
تحول الشاب المرفه الغارق في متعه إلى رجل يحمل المهام العظام.
وتحول المنطلق وراء شهواته إلى رجل يحزم أمره.
وتحول الذي كان لا يفكر إلا في نفسه إلى داعية يحمل هم الإسلام.
خرج مصعب من دار الأرقم بنفس جديدة، وروح جديدة، وقلب جديد، خرج يكتم إيمانه، وظل يتردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعبد الله في سر وخفية حتى بصر به عثمان بن طلحة وهو يدخل دار الأرقم ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي فطار بالخبر إلى أمه، (فوقف مصعب أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة المجتمعين يتلو عليهم في يقين الحق وثباته القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهمت أمه أن تسكته بلطمة قاسية ولكنها ما لبثت أن تراخت أمام النور الذي شع به وجه مصعب).. لقد كانت أمه خناس بن مالك كثيرة المال مليئة وكانت تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، ولم يكن مصعب ليحاذر على وجه الأرض سوى أمه.. ومع ذلك أعلن إيمانه أمامها، فأخذته إلى ركن قصي من أركان دارها وهناك حبسته وحرمته من كل النعيم الذي كانت تغدقه عليه...
وهنا برزت أول سمات الشخصية الجديدة، شخصية مصعب الصحابي التي صاغها الإسلام، برز الثبات المبدأ، والتمسك بالعقيدة حتى لو اجتمعت الدنيا كلها على حربه، ترى.. هل كان يتصور أحد أن مصعبا فتى مكة ثراء وجمالا سيصبر على الحبس والحرمان؟ لو كان مصعب قبل إسلامه فقيرا لهان عليه الأمر، ولكن أن يتحول من أغنى الناس إلى أفقرهم؟ وأن ينتقل من دنيا الحرية الواسعة إلى السجن الضيق ثم هو مع ذلك يصبر ويحتسب؟ إن هذا لشيء عجيب!
وتأمل ثباته على مبدئه أيضا وهو في آخر لقاء له مع أمه بعد رجوعه من الحبشة حين حاولت حبسه مرة أخرى فآلى على نفسه ليقتلن كل من تستعين به على حبسه.. فزجرته وقالت له: اذهب لشأنك لم أعد لك أما.. فما زاد على قوله: يا أمه إني لك ناصح، وعليك شفوق فاشهدي ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فقالت: قسما بالثواقب لا أدخل في دينك فيزرى برأيي ويضعف عقلي!
إصرار عجيب على الكفر من جانب الأم وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الابن!!!.
لقد أحس مصعب نور الإيمان ينبعث من النبي صلى الله عليه وسلم فما كان ليرجع عنه.
أمي.. أبي.
لقد عشقت نوره.
عيناي تبصران حينما أراه.
وحينما يردد الحديث مشرقا أحس أنه يقدم الحياة.
يحرر القلوب كي تسبح الإله.
وحينما تحركت خطى الوداع في الطريق.
لم تكتم العيون دمعها، لأنه أحبهم، لأنه إذا ابتدا المسير لن يعود!
وتدور الأيام لنرى سمة أخرى من سمات مصعب بن عمير الذي فرغ من إعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجه المختار.. إنها سمة الدعوة إلى هذا الدين وحمل هم الإسلام.
فحين انصرف أهل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى بعث معهم مصعب بن عمير ليفقههم ويعلمهم القرآن ويصلي بهم. [أسد الغابة:5/181]. فتحمل بذلك مسؤولية من أخطر المسؤوليات، وألقي بين يديه بمصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة ومنطلق الدعوة والدعاة، وحمل الأمانة... وإذا بالمدينة التي لم يكن فيها عند مجيء مصعب إلا اثني عشر مسلما، إذا بها تخرج للنبي صلى الله عليه وسلم في العام التالي مباشرة وفدا مبايعا عدته سبعون مؤمنا ومؤمنة. وظل مصعب رضي الله عنه بالمدينة حتى لم تبق دار من دورها إلا وفيها مؤمن أو مؤمنة!
أفكان فتى مكة المدلل قادرا على حمل هذا العبء، وأداء هذه الأمانة لو لم يكن قد صاغ شخصيته من جديد وفق دين الله؟
وتبقى السمة الثالثة العظيمة، التي رسخها الإسلام في نفس مصعب، إنها التضحية، التضحية بكل شيء من أجل العقيدة والمبدأ، التضحية بالمال والجاه والنعيم بل وبالنفس والروح...
عن علي بن أبي طالب قال: إنا لجلوس مع رسول الله صلى اللهم عليه وسلم في المسجد إذ طلع مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو فلما رآه رسول الله صلى اللهم عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو اليوم فيه. [الترمذي:2476، وقال حديث حسن غريب].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا قوما يصيبنا ظلف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصابنا البلاء اعترفنا ومررنا عليه فصبرنا، وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة وأجوده حلة مع أبويه ثم لقد رأيته جهد في الإسلام جهدا شديدا حتى لقد رأيت جلده يتحشف. [أي يتقبض ويتقلص]. كما يتحشف جلد الحية! [أسد الغابة:5/182].
وعن خباب بن الأرت قال هاجرنا مع رسول الله صلى اللهم عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها (يقطعها ويجتنيها) [مسلم:940].
هكذا إذا ضحى مصعب بماله ونعيمه لله.. لهذا الدين.
ثم أراد أن يقدم تضحية أعظم.. فضحى بنفسه في سبيل الله..
خرج مصعب رضي الله عنه في أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه اللواء، فلما جال المسلمون ثبت به، فأقبل ابن قميئة فضربه على يده اليمنى فقطعها ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. وأخذ اللواء بيده اليسى وحنا عليه فضرب يده اليسىر فقطعها، فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه ووقع مصعب وسقط اللواء.. [رجال حول الرسول:44].
عن عبيد بن عمير قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير وهو منجعف على وجهه يوم أحد شهيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) ، لقد رأيتك بمكة وما بها أرق حلة وأحسن لمة منك ثم ها أنت ذا شعث الرأس في بردة؟ إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله. [أسد الغابة:5/184].
نعم لقد مات مصعبا مصعب ثابتا مضحيا لم يلتفت للإغراء ولا للتهديد، بدأ مسيرته إلى الله ولم يتوقف حتى لقي ربه... وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1800)
معذرة يا رمضان!!
فقه
الصوم
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
1/9/1417
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صورة مخزية لاستعداد الناس لرمضان. 2- صور من صنيع السلف في رمضان. 3-
رمضان شهر المواساة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فقد أمرنا الله بذلك في قوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
وبعد:
معذرة يا رمضان!!!
معذرة يا شهر الخير والعزة والبركة والانتصارات!!!
معذرة إليك إذا لم تجد عندنا ما كنت تأمل وترجو...
لقد كنت تشرق على أمة الإسلام وهي عزيزة لم تقف على الأبواب، ولم تستعطف الأعداء ولم تخضع للكافرين.
كنت تشرق عليها وإن في كل أرض منها أذانا يعلو، ومنائر ترتفع، وشعائر يعالن بها الناس.
كنت تشرق عليها وإنها لسيدة العالم، وقائدة الدنيا.
واليوم على ماذا تشرق؟؟
على جرح فلسطين الدامي؟ أم على آلام أفغانستان؟ أم على مذبحة الإسلام في البوسنة والهرسك؟ أم على فجيعة الشاشان؟ أم على مصيبة كشمير؟
معذرة يا رمضان لقد أطرقت رؤوسنا خجلا، وعدت إلينا وقد غرقنا في ذلنا..
رمضان عدت وهذه أوطاننا عم الفساد بها وزاد وطالا
ضاعت مقاييس الفضيلة بيننا وتبدلت أحوالنا أوحالا
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد كانوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟
معذرة يا رمضان!!!
كنت تأتي قوما أعدوا العدة لاستقبالك، وفهموا سرك، وعرفوا مغزاك، فهم ينتظرونك ويترقبونك، ويتهيأون لك بالصلاة والصيام والتهيئة العبادية، كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يدركوا فضيلتك، ثم يدعونه باقي العام أن يتقبل، كانوا يقولون: اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا.
لقد علم هؤلاء أنك جئت لتعلمهم كيف يترفعون عن المظاهر الحيوانية التي غاية أكلها الأكل والشرب وإشباع الغريزة، وعلموا أنك جئت لتعلمهم كيف يخرجون من شهواتهم النفسانية.
هذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يؤتى له بإفطاره وقد كان صائما وفيه نوعان من الطعام، فيبكي! فيسأله أهله: ما يبكيك؟ فيقول: تذكرت مصعب بن عمير مات يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إذا غطينا رأسه بدت قدماه، وإذا غطينا قدميه بدا رأسه، ونحن اليوم نأكل من هذه الأنواع، وأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا!!!
واليوم يا رمضان إلى من تأتي؟
إلى قوم ما عرفوا عنك إلا أنك شهر الجوع في النهار والشبع في الليل؟ إلى قوم ما عرفوا عنك إلا أنك شهر التنويع في الأطعمة والإكثار منها؟ إلى قوم لم يكن زادهم لاستقبالك إلا طعاما وشرابا؟ وكأنك يا رمضان جئت تعلمهم فنون الطبخ، وطرائق الأكل !!!
معذرة يا رمضان!!!
كنت تطل على قوم أسهر لك ليلهم، وأظمأوا نهارهم، وأدركوا أنك موسم لا يعوض فبذلوا الغالي والنفيس.
سمعوا قول الله: أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ [البقرة:184]. فأرادوا ألا تضيع منهم.
كنت تنظر إليهم، وهم بين باك غلبته عبرته، وقائم غفل عن دنياه، وساجد ترك الدنيا وراء ظهره، وداع علق كل أمله في الله.
ـ سجد مرة بن شراحيل لله حتى أكل التراب جبهته. [نزهة:335].
ـ كان صفوان بن سليم يقوم من الليل حتى ترم قدماه وتظهر فيها عروق خضر. [نزهة:498].
ـ وصلى عبد الله بن الزبير في الحرم وإن حجارة المنجنيق لتتساقط بين يديه وخلفه م يشعر بها!
ـ وبكى عمر رضي الله عنه حتى صار في خديه خطان أسودان من أثر الدمع!
ـ وسمع عبد الله بن الفضيل قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى? إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ?لنَّارِ فَقَالُواْ ي?لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَـ?تِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]. فبكى حتى غشي عليه، ثم حمل ميتا!
لقد صدق فيهم قول الله تعالى: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17].
واليوم على من تطل يا رمضان؟
هل تطل إلا على مساكين ليس في ليلهم إلا اللهو واللعب.
هل تطل إلا على حمقى تركوا الصلاة وانشغلوا بهذه القنوات الفضائية؟
هل تطل إلا على كسالى غاية جهد أحدهم أن يصلي مع الإمام ثمان ركعات ثم ينصرف معجبا مزهوا وكأنه قضى حق العبادة، وفرغ من واجب الله عليه؟
هل تطل إلا على قساة القلوب، الذين يتولج القرآن سمعهم بكرة وعشية فلا تهتز له قلوبهم ولا تدمع له أعينهم؟
سامحنا يا رمضان... لقد قست قلوبنا! تحجرت أفئدتنا! قحطت أعيننا! لم نعد نحس بحلاوة الطاعة، ولا بجمال العبادة، ولا بأنس المناجاة!!!
معذرة يا رمضان!!!
لقد كنت تفد إلى قوم تآخوا على غير أرحام بينهم، عرفوا قيمة الإخاء فلزموه، وفهموا قدره فقاموا بحقوقه وواجباته، وعرفوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم)) فكانوا بحق إخوة وأحبابا.
كانوا جسدا واحدا، يرحم الكبير الصغير، ويحترم الصغير الكبير، يعيشون بالود، ويتعاملون بالحب، حياتهم صفاء، وعيشهم وفاق، لا تباغض، ولا تحاسد، ولا حقد.
يألم أحدهم لألم أخيه، ويأسى لأساه، يقضي حوائجه، ويسد خلته، ويتلمس مصالح ليقضيها.
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو معتكف يسأله قضاء حاجة له، فقام ابن عباس ليخرج معه، فقالوا له: إنك معتكف! فقال: لأن أسعى في قضاء حاجة أخي أحب إلى من اعتكاف شهرين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واليوم يا رمضان... هل تفد إلا على قوم استبدلوا العداوة بالإخاء، والخصومة بالصفاء، ورضوا بالتباغض والشحناء؟! وكأنه لم ينته إليهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ترفع الأعمال إلى الله كل اثنين وخميس فيغفر لمن شاء إلا رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا)).
هل تفد إلا على قوم ضمر فيهم حس الأخوة الإيمانية، والرابطة الربانية، فهم لا يشعرون بمصاب إخوانهم في شرق الأرض وغربها، ولا يهتزون للأعراض المنتهكة والأراضي المغتصبة، والحقوق المهدرة، وكأنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).
هل تفد إلا على مجتمع لا يكاد يعرف فيه الجار جاره، والقريب قريبه؟
معذرة يا رمضان...
هذه جراحنا... هذا واقعنا الذي نعيشه.
هكذا تبدلت الدنيا، وتغير الناس، واستحال الزمن زمنا آخر.
هكذا نحن...
فهل نجد في أيامك هذه المباركات ما يغير الحال؟
وهل تكون لنا محطة نخرج منها بوجه غير الوجه الذي دخلنا به؟
نرجو ذلك...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1801)
من خصائص الأمة المحمدية
الإيمان
الإيمان بالرسل
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
6/2/1420
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خيرية هذه الأمة وفضلها على سائر الأمم. 2- بعض خصائص هذه الأمة. 3- بعض
التشريعات الشاقة التي كانت عل الأمم السابقة. 4- واقع المسلمين اليوم. 5- شهادة هذه الأمة
على الأمم يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يا أمة يبس الزمان وعودها ريان من نبع النبوة أملدُ
تسري بأعماق السنين جذوره وتشد أذرعه النجوم فيصعد
يا أمة القرآن لم يذبل على شفتيك هذا اللؤلؤ المتوقد
إنها أمة القرآن، أمة الإسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه الأمة التي فضلها الله عزوجل على سائر الأمم واختصها بكرامات كثيرة في الدنيا ليست لغيرها، وإنما نالت من ذلك مانالته باتباعها لرسولها محمد صلى الله عليه وسلم.
إنها خير الأمم وأكرمها، وحسبنا شهادة الله في كتابه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]. قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) [الترمذي:3001، وقال حديث حسن].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي)) ، وفيه: ((وجعلت أمتي خير الأمم)) [البزار بإسناد جيد].
وهذه الأمة المحمدية العظيمة التي حازت شهادة الخيرية جعل الله لها جملة من الخصائص امتازت بها على غيرها من الأمم.
فمن خصائصها: حل الغنائم.
فقد كانت الأمم قبلنا على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له في الجهاد فكانوا يغزون ويجاهدون ويأخذون أموال أعدائهم ولكن لا يتصرفون فيها بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم أن تنزل نار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم القبول ألا تنزل.
وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنائم فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـ?لاً طَيّباً [الأنفال:69]. وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)) وذكر منها: ((وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي)) [البخاري ومسلم].
ومن خصائص الأمة المحمدية أن جعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماء ولا مسجدا فعنده طهوره ومسجده فيتيمم ويصلي بخلاف الأمم من قبلنا فإن الصلاة أبيحت لهم في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع.
وعن عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عام غزوة تبوك ـ قام يصلي فاجتمع وراءه رجال يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم وقال: ((أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي)) ، وفيه: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظِّمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)) [أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله وضع عنها الأغلال والأثقال والآصار التي كانت على الأمم قبلها فأحل لها كثيراً مما حرم على غيرها، ولم يجعل عليها في أحكامها عنتاً وشدة كما قال الله: هُوَ ?جْتَبَـ?كُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. فكانت شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكمل الشرائع وأيسرها وأسهلها، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((إني أرسلت بحنيفية سمحة)) [أحمد].
وفي الحديث الذي رواه أحمد عن حذيفة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا من حرج)).
وحسبك حتى تدرك رحمة الله بهذه الأمة وتيسيره عليها أن تعلم ما يلي:
1ـ كان بن وإسرائيل إذا أصاب أحدهم البول قرضه بالمقراض، فلا يطهر إلا بذلك، ونحن نكتفي بغسله. [أحمد].
2ـ كان اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيت. [أي لم يجلسوا وإياها تحت سقف واحد]. ونحن أحل لنا الاستمتاع بالحائض فيما دون الفرج. [مسلم:302].
3ـ كان في بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم تكن فيهم الدية فخفف الله عنا بتشريع الدية فذلك قوله تعالى: فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فَ?تِبَاعٌ بِ?لْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَـ?نٍ ذ?لِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:178].
4ـ كانت بن وإسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح مكتوباً على بابه ذنبه وكفارة ذلك الذنب. [أثر عن ابن مسعود رواه ابن جرير].
5ـ كان صوم من قبلنا من الأمم إمساك عن الكلام مع الطعام والشراب فكانوا في حرج، ورخص الله لنا بحذف الإمساك عن الكلام. [قال ابن العربي وأورد ابن كثير أثراً عن مالك بمعناه].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله هداها ليوم الجمعة سيد الأيام وخير يوم طلعت فيه الشمس.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوت والكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)) [البخاري ومسلم:855].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله تجاوز عنها الخطأ والنسيان وحديث النفس ما لم تعمل أو تتكلم.
روى أب وهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أ ويعملوا به)) [البخاري ومسلم:127].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها محفوظة من الهلاك والاستئصال فلا تهلك بالسنين ولا بجوع ولا بغرق ولا يسلط عليها عد ومن غيرها فيستبيح بيضتها ويستأصلها. فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض (أي كسرى وفارس)، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة (أي قحط) وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ول واجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضا)) [مسلم:2889].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها لا تجتمع على ضلالة فهي معصومة من الخطأ عند اجتماعها على أمر، كما أنها لا تخل ومن وجود طائفة قائمة بالحق في كل زمان لا يضرها من خالفها.
عن كعب بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة)) [ابن أبي عاصم وقال الألباني: الحديث بمجموع طرقه حسن].
وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) [البخاري ومسلم:1920].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله قبل شهادتها وجعل أهلها شهداءه في أرضه، فقد جاء في حديث أنس بن مالك أن جنازة مرت فأثني عليه خيراً فقال النبي: ((وجبت وجبت)) ثم مرت أخرى فأثني عليها شراً فقال النبي: ((وجبت وجبت)) فلما سأله عمر عن ذلك قال: ((من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) [البخاري:1367، ومسلم:949].
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة، ولم يكن هذا لأمة قبلها، فقد جاء في الحديث الذي رواه حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلنا على الناس بثلاث)) ، وذكر منها: ((جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة)) [مسلم:522].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن تمام شرف هذه الأمة أن الله اختصها بخصائص في الآخرة كما اختصها بخصائص في الدنيا.
فمن هذه الخصائص الأخروية أن الأمة المحمدية تأتي يوم القيامة غراء محجلة من آثار الوضوء وبهذه الصفة يعرف النبي صلى الله عليه وسلم أمته من غيرهم عندما يكون منتظرهم على الحوض، قال ابن حجر رحمه الله: ثبت أن الغرة والتحجيل خاص بالأمة المحمدية. [11/458].
وحين قال عليه الصلاة والسلام: ((وددت أنا قد رأينا إخواننا)) قال له أصحابه: ((أولسنا إخوانك يا رسول الله؟)) قال: ((أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: ((إنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء)) [مسلم:249].
ومن خصائص الأمة المحمدية الأخروية أنها تشهد لكل نبي أنكر قومه أنه قد بلغ، تشهد له بأداء الرسالة وتبليغها فيقبل الله شهادتها.
روى أب وسعيد عن النبي قال: ((يجيء النبي ومعه الرجلان ويجيء النبي ومعه الثلاثة وأكثر من ذلك وأقل. فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال: هل بلغكم ؟ فيقولون: لا. فيقال: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فتدعى أمة محمد فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم. فيقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه. قال: فذلك قوله تعالى: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] )) [أحمد وابن ماجه وصححه الألباني].
ومن خصائصها أنها أول من يجتاز الصراط، وأول من يدخل الجنة وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأكون أنا وأمتي أول من يجيز)) ـ يعني الصراط ـ [البخاري:6573]. وفي الحديث الآخر عند البخاري [876] يقول عليه الصلاة والسلام: ((نحن أول من يدخل الجنة)).
ومن خصائصها أنها أقل عملا من الأمم قبلها وأكثر ثواباً وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((... إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذي يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال الله: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت)) [البخاري:3459]. قال ابن حجر رحمه الله: فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه وعظمته.
ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها أكثر أهل الجنة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)) قال: فكبرنا. ثم قال: ((أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟)) قال: فكبرنا. ثم قال: ((إني لأرج وأن تكونوا شطر أهل الجنة)) [البخاري:6528].
بل جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وقال عنه حديث حسن وصححه الألباني: ((أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم)).
وهكذا تتألق هذه الأمة المباركة، ويترادف عليها فضل الله وكرمه، وتتقلب في إنعامه وإحسانه.
فيا فوزنا ويا سعدنا أن كنا من أمة هذا النبي الكريم العظيم.
ولكن مهلاً... هل شكرنا الله حق شكره أن جعلنا من هذه الأمة؟ هل كنا على مستوى هذا التكريم؟ هل أعطينا العالم صورة حسنة عن هذه الأمة المحمدية؟
يا شباب العالم المحمدي ينقص الكون شباب مهتدي
فأروه دينكم ليهتدي دين عزم وضمير ويد
أليس من المأساة أن يقول بعض من أسلم من الغربيين: أحمد الله أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين وإلا لما أسلمت!!! يريد أنه قرأ عن الإسلام فسره ما فيه فاعتنقه، فلما رأى المسلمين هاله البون الشاسع بين المقروء والمشاهد، وظن أنه ل ورأى المسلمين وحالهم قبل أن يقرأ عن الإسلام لما فكر في اعتناقه!!!
لا بد أن نحقق في أرض الواقع هذه الخيرية ونحمل هذا الإسلام فنبشر به العالمين ونحيي به موات الدنيا فإن الأرض عطشى إلى مطر المسلمين، مشتاقة إلى وقع أقدامهم وهتاف تكبيرهم.
(1/1802)
نحن والاختبارات
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
8/2/1418
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاختبارات وما يصاحبها من جد تكشف قدرات الإنسان العالية. 2- صورة من صبر
العلماء. 3- كيفية الاستذكار الصحيح. 4- التوكل على الله بعد الجد والاجتهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
في هذه الأيام يغرق الطلاب إلى آذانهم في زحمة الاختبارات، وخضم الامتحانات، ويعيشون أياما لو سألتهم عنها لزعموا أنها أبغض أيامهم إليهم، ولصارحوك بأنهم ودوا لو لم تكن من أعمارهم!
نعم، وإنهم ليستبطئون أيامها، ويستطيلون ساعاتها، حتى لكأن ساعتها يوم، ولكأن يومها شهر!
ولهم في ذلك شيء من العذر، فإن ما يقاسيه الطالب ويجده من شدة المذاكرة والاعتكاف على الكتب والانهماك وسط الأوراق ليس بالشيء القليل، فكيف إذا أضفت إلى ذلك النفسية القلقة، والخوف الدائم من ألا يوفق الإنسان في إجابته؟
فنسأل الله أن يعينهم ويسددهم ويرشد خطاهم ويحقق مأمولهم.
بيد أني أحب دائما ألا يمر بالإنسان شيئ دون أن ينفذ فيه ببصره وبصيرته ليرى ما وراءه، وليستنبط درسه وعبرته، وإنك بمثل هذا النفاذ بالبصر قد تجني من الشوك العنب، وقد تستنبط الماء العذب من الصحراء الموحشة، وقد تفوز بالنبتة الخضراء في صم الجبال.
والاختبارات برغم عنائها وجهدها مدرسة حقيقة لو تأملنا فيها، وفهمنا ما ترشدنا إليه بلسان صامت يفوق فصاحة المتكلمين.
رويدك قد يكون الصمت شعرا يعبر عن أحاسيسي وفكري
فهل لكم في وقفات عاجلات مع دروس الاختبارات؟
لا: الاختبارات وكشف الحقيقة.
كثيرا ما تطلب من إنسان أن ينجز بعض الأعمال ويقوم ببعض المهمات فيعتذر إليك بأن هذا فوق طاقته، وبأن هذا من المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه، ولاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].
فحين ترجو منه أن يقرأ كتابا يزعم أنه لا يستطيع أن يقرأ أكثر من عشر صفحات، وحين تريده أن يسهر قليلا لعمل خير يقول: لا يمكن أن أجاوز العاشرة، وحين ترغب منه أن يبذل جهدا في صلاة أو عبادة أو عمل صالح يحتج بأن قوته وإمكاناته تقعد به عن ذلك، وحين ترغبه في حفظ القرآن يشكو إليك أنه لا يكاد يحفظ.
نعم، وتجيء الامتحانات وإذا بهذا الشخص عينه يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات، ويسهر إلى الفجر، ويحفظ عشرات المعلومات، وينجز أشق المهمات.
فهل يتغير الإنسان؟ وتزداد طاقاته وتعظم مواهبه في أيام الاختبارات؟
لا والله، كل ما في الأمر أنه في أيام الاختبارات يستثير همته الكامنة، ويبرز مواهبه المدفونة، ويخرج طاقاته التي غطاها ركام الكسل والفتور والتواني.
نعم يا أخي... إن عند من الطاقات والمواهب والملكات والقدرات مالا يمكن الاستهانة به، وما تستطيع به لو استثمرته أن تحقق أقصى درجات النجاح، ولكن المشكلة أننا نكسل ونتوانى ونفتر.
لقد كشفت بعض الدراسات الحديثة أن الإنسان لا يستغل أكثر من 30 من طاقته، وأن نحوا من ثلث عمره يذهب في النوم، أي أنه لو عاش ستين عاما لكان نصيب النوم منها عشرون عاما.
وتصور يا أخي لو أنك بذلت في حياتك كلها مثل الجهد الذي تبذله في الاختبارات أو حتى نصفه، إلى أين كنت ستصل؟ أما كنت سترتقي ذرى المجد وتحقق من الطموحات ما لعلك تعده الآن من قبيل الخيال؟
إننا نعرف أناسا تفوقوا في أعمالهم، وتميزوا في عباداتهم، ونجحوا في حياتهم، وبرعوا في العلم، وبرزوا في العمل، وحازوا أطراف الخير، وجمعوا خلال البر، فمن أين لهم هذا؟ هل هم مخلوقون من طينة غير طينتنا؟ أم أن الله خلقهم خلقا خاصا؟ لا والله ما هو إلا استثمار الطاقات، وإحياء المواهب.
ثانيا: الاختبارات وصعوبة العلم.
وقديما قالوا: العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك، وقال يحيى بن أبي كثير لا يستطاع العلم براحة الجسد. [صفحات من صبر العلماء:111].
إن كثيرين يتمنون أن يكونوا علماء، وأن يطلبوا العلم، ولكنهم للأسف ينسون أحيانا أو يتناسون أن العلم صعب، بحاجة إلى بذل واجتهاد وتعب، وأظن أن ما يعانيه الطالب من المشقة والنصب لتحصيل قدر محدود من العلم ولمدة محدودة لا تتجاوز الاختبار، أظن أن هذا يشعرنا ويذكرنا أن طلب العلم ليس أماني وأحلام وإنما هو بذل واجتهاد، والراغب فيه لا بد له أن يتنازل عن كثير من مرغوباته ومحبوباته.
ـ ذكر أبو محمد اللباد أن محمد بن عبدوس صلى الصبح بوضوء العتمة ثلاثين سنة، خمس عشرة سنة من دراسة، وخمس عشرة سنة من عبادة. [صفحات:124].
ـ قال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشترناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة لم نتفرغ نشويها _، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد. [صفحات:127].
دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ولئن كان هذا هو شأن العلم، فإنه شأن كل شيء سام في الحياة، نعم لا تحقق الأهداف والآمال إلا بالبذل والجهد والنصب، ومن يظن أنه يحقق ما يريد بدون أن يقدم ثمنه فهو واهم.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)).
وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن رآه يلعب بالحصى ويقول: الله زوجني من الحور العين،: ياهذا لقد أعظمت الخطبة وأسأت المهر.
فيا أيها الراغبون في الجنة، ويا أيها الراغبون في العلم، ويا أيها الراغبون في النجاح... لن تبلغوا آمالكم إلا بالجد والنصب، فهل أنتم باذلون؟.
ثالثاً: الاختبارات ونسيان العلم:
من الملاحظ دائما أن الطلبة ما يكادون يخرجون من قاعة الامتحان حتى ينسوا كل ما درسوه ولا يكاد يبقى في أذهانهم منه شيء البتة، فما سرهذا؟
لعل مرد هذا إلى أن هذه المعلومات جاءت جملة وبسرعة، فهي كلها من محفوظات ليلة الامتحان.
وهكذا كل ما لم ينل حظه من الإتقان والوقت يذهب هباء.
وحين لا يعطي الإنسان العلم حظه من المراجعة والإعادة فإنه سرعان ما يتفلت منه.
ـ قال الإمام إلكيا الهراسي: كانت في مدرسة سرهنك بنيسابور قناة لها سبعون درجة، وكنت إذا حفظت الدرس أنزل القناة وأعيد الدرس في كل درجة مرة في الصعود والنزول، وهكذا أفعل في كل درس حفظته. [صفحات:198].
وبهذا صاروا أئمة يقتدى بهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
رابعاً: الامتحانات والاهتمام:
من الملاحظ أنه ما تكاد تقترب الامتحانات حتى يتأهب الناس، ويسود القلق والتوتر، وتغدو هذه الامتحانات هم الناس وشاغلهم، فعنها يتحدثون، وعن أخبارها يسألون، وتجد الأب والأم يلزمان أبناءهما بالمذاكرة، ويشددان عليهم في ذلك، وتضبط الساعات حتى لا تأخذ الطالب نومة فيفوته الامتحان، فتكون الطامة.
وهذا كله حسن لا بأس به، ولكن أين مثل هذا الاهتمام بامتحان الآخرة؟
ألا تستحق صلاة الفجر مثلا أن نضبط لها الساعة ونتواصى بالاستيقاظ لها؟
ألا تستحق العبادات والطاعات أن يهتم بها الأبوان، ويربيا أبناءهما عليها؟
ألا تستحق الآخرة أن تشغل نصيبا من اهتمامنا وحيزا من تفكيرنا؟
ألا يستحق امتحان الآخرة أن يهتم له بأكثر من امتحان الدنيا؟
لماذا نقدم هم الدنيا على هم الآخرة؟
خامسا: الامتحانات واللجوء إلى الله
من الظواهر الواضحة التي تكون في هذه الأيام حرص الطلاب على الصلاة في المسجد، وأداء النوافل، وربما قراءة شيء من القرآن.
إنهم يريدون بذلك التقرب إلى الله سبحانه، عله أن يأخذ بأيديهم فيما هم مقبلون عليه.
وهذا بلا شك أمر حسن، فليس كاشفا للكرب، ولا قائدا للنجح إلا الله سبحانه.
ولكن المشكلة أن بعض هؤلاء المصلين الذاكرين أيام الاختبارات لا يعرفون المسجد قبلها ولا بعدها!
ولا أدري كيف غفل هؤلاء عن قوله عليه الصلاة والسلام: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
وكيف غفلوا أن دعاء الله ورجاءه عند الشدة، والغفلة عن ذلك في الرخاء، إنما هو من سمة المشركين هُوَ ?لَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ حَتَّى? إِذَا كُنتُمْ فِى ?لْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ ?لْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـ?ذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لشَّـ?كِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:22-23].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: إن العبد إذا كان يدعو الله في الرخاء ثم نزلت به شدة فدعا الله قالت الملائكة: يارب هذا صوت معروف فيشفعون فيه، فإذا كان لا يدعو من قبل ودعا زمن الشدة قالت الملائكة: يارب هذا صوت غير معروف، فلا يشفعون فيه!
فاحذر أخي أن تكون ممن بدعو الله عند شدته وينساه عند رخائه. وكن كما قال الله: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء:90].
(1/1803)
ورحلت يا زين الشيوخ
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
17/10/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمات في رثاء الشيخ محمد الصالح العثيمين. 2- مصيبة فقد العلماء. 3- فضل العلماء.
4- بعض فضائل الشيخ ابن عثيمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
ورحلت يا زين الشيوخ ...
رحلت والأيام يسكنها الحزنْ
وقلوب من يهواك غلفها الشجنْ
بكت المحاريب التي شهدت سناكْ
وبكاك حتى عود منبرك الذي يهوى صداكْ
وبكتك أرض كان يطربها حفيف من خطاكْ
ورحلت يازين الشيوخ...
رحلت مثل الطيف سلم ثم آذن بالرحيلْ
كالشمس تشرق ثم يبكي نورها شفق الأصيلْ
كالبدر بعد التم يأكله الأفولْ
كالزهرة الفيحاء أرهقها الذبولْ
وتركتنا في لجة الإعصار في رجف الزلازلْ
وتركتنا في وحشة كبرى
هي وحشة الروض الندي تغربت عنه البلابلْ
هي وحشة الأغصان غادرها الحيا فالغصن ذابلْ
هي وحشة النهر الذي جفت مشارعه فأقفرت المنازلْ
هي وحشة الأيتام ضاعوا في الفلا والليل لائلْ
ورحلت يا زين الشيوخ...
ها إننا يا شيخ في حلقات درسك قاعدون
ما بال صوتك لا يجيء؟
ما بال طلعتك البهية لا تضيء؟
ما بال مجلسك البهي العذب يغشاه السكونْ
يا شيخُ إنا هاهنا...
يا شيخ إنا هاهنا في طهر مكة في بريدة جالسونْ
فعلام لا تأتي إلينا؟
أين ابتسامتك الرضية أين ذاك الشرح أينا؟
يا شيخ قد بحت حناجرنا فلا تبخل علينا.
مهلا... لقد مات الذي تدعون فانصرفوا جميعاً
لن تبصروا من بعد هذا اليوم صبحه
لن تسمعوا يا قوم شرحه
عودوا فليس سوى الصدى والذكرياتْ
وصراخ محزون يقول: الشيخ ماتْ
ونداء مكلوم يقول: الشيخ ماتْ
وبكاء مجروح: يقول الشيخ ماتْ
ماذا تقول؟ لقد جرحت فؤادي وقدحت من ألمي أحر زناد
ماذا تقول لقد أثرت مواجعي ونثرت في عيني جمر سهاد
رفقا بقلبي أيها الناعي فقد ألقيت غصن الشوك فوق وسادي
مات الحبيب أراك حين نقلتها أذكيت نار الحزن بالإيقاد
رفقاً بوجدان المحب فإنني بشر وما حسي بحس جماد
أحقا يا تلاميذ ابن عثيمين ومحبيه لن تروه بعد اليوم يحيي المجالس بذكر الله، ويؤنس الجلاس بوجهه المتهلل، ويدير على الطلاب كأساً من العلم روية؟
أحقا يا تلاميذ ابن عثيمين ومحبيه لن تسمعوه بعد اليوم يؤصل المسائل، ويبني الفرع على الأصول، ويرجع كل مسألة إلى دليلها، وكل قضية إلى بابها؟
أحقاً عباد الله سكت البلبل، تحطم الجام، وتقوض المجلس، وانفض السامر وتفرق الشمل وأقفر الربع، وأصبح العلامة العثيمين خبراً وأثراً وذكرى؟
قد استوى الناس ومات الكمال وصاح صرف الدهر أين الرجال
هذا العثيمين في نعشه قوموا انظروا كيف تسير الجبال
عليك سلام الله يا شيخ محمد ورحمته ما شاء أن يترحما
كيف وسع قبر هذا العلم كله وهذا المجد كله؟
فيا قبره قد كنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة مضجعا
ويا قبره كيف واريت علمه وقد كان منه البر والبحر مترعا
فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
رباه هل مات الذي تحيا برؤيته القلوب؟
رباه هل مات الطبيب؟
لا يا ابن العثيمين... أنت لم ترحل، أنت باق في كل كلمة هدى خطتها يمناك، باق في كل لفظ حق فاه به فاك، باق في كل موقف صدق تجلى فيه إيمانك وتقاك.
باق أنت يابن العثمين في سويداء القلوب، وفي حدقات الأعين.
باق أنت ياابن العثيمين... وهل يموت العالم الداعية؟
صبرا فؤادي فموت الحر مدرسة فيها يلقى دروس البذل أحرار
مامات من ذكره باق وسيرته في كل قلب لها فيض وأنوار
حسب الدعاة فخارا أن عيشهم بذل وموتهم خصب وإثمار
يبقى العظيم عظيما لو تضمنه لحد وهال عليه الترب حفار
لقد كان الشيخ رحمه الله نسيج وحده، وكان طرازاً فريداً نادراً من العلماء، فلم يكن عجباً أن تبكيه الأرض والسماء، قال ابن عباس رضي الله عنه: (إذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء فقده فبكى عليه، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عليها بكت عليه، وإن العالم إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً).
كان عالما حقاً، وفقد العلماء بلية البلايا...
قال الآجري رحمه الله: ما ظنكم رحمكم الله بطريق فيه آفات كثيرة ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم فسلكوه على السلامة والعافية ثم جاءت طبقة من الناس لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، بينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح فبقوا في الظلمة فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض ولا كيف اجتناب المحارم ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبده به خلقه إلا ببقاء العلماء فإذا مات العلماء تحير الناس ودرس العلم بموتهم وظهر الجهل.
إن ما قاله الآجري رحمه الله دليل بين على أن أهل العلم في كل أمة هم قلبها النابض، وشريانها الحي.
ولا ينتظم أمر أمة إلا إذا وجد فيها العلماء العاملون، قال الإمام أحمد: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت.
وقد روى أحمد بسند مختلف فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أو شكت أن تضل الهداة)) ، فقد شبه عليه الصلاة والسلام العلماء بالنجوم، والنجوم لها فوائد ذكر الله منها في القرآن ثلاثة:
1ـ علامات: وَعَلامَـ?تٍ وَبِ?لنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16].
2ـ زينة السماء: وَلَقَدْ زَيَّنَّا ?لسَّمَاء ?لدُّنْيَا بِمَصَـ?بِيحَ [الملك:5].
3ـ رجوم للشياطين: وَجَعَلْنَـ?هَا رُجُوماً لّلشَّيَـ?طِينِ [الملك:5].
والعلماء تجتمع فيه هذه الأوصاف الثلاثة.
ومثل العالم كمثل الماء والغيث، انتفاع الناس بهما غير محدود، قال ميمون بن مهران: إن مثل العالم في البلد كمثل العين العذبة في البلد.
بعض الحكماء: مثل العلماء مثل الماء حيثما سقطوا نفعوا.
والعلماء هم المبلغون عن الأنبياء.
والعلماء هم ورثة الأنبياء، أي أنهم ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته والنهي عن معاصيه والذود عن دينه.
والعلماء أبصر الناس بالشر ومداخله.
والعلماء أهل الخشية من الله.
ولذلك كانت نجاة الناس منوطة بوجود العلماء..
((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) [البخاري].
وليس يغني عن العلماء وجود الكتب وإلا لأغنت اليهود والنصارى.
عن أبي أمامة عن رسول الله قال: ((خذوا العلم قبل أن يذهب)) ؟ قالوا: وكيف يذهب العلم يا نبي الله وفينا كتاب الله؟ قال فغضب ثم قال: ((ثكلتكم أمهاتكم أو لم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئا؟ إن ذهاب العلم أن يذهب حملته)).
وعن أبي الدرداء قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخض ببصره إلى السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)) فقال زياد بن لبيد: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فو الله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا، فقال رسول الله: ((ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟)).
فذهاب العلم بذهاب العلماء: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أتدرون ما ذهاب العلم؟) قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء.
وذهاب العلماء معناه هلاك الناس، عن أبي جناب قال: سألت سعيد بن جبير قلت: يا أبا عبد الله: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.
ابن عباس: لا يزال عالم يموت وأثر للحق يدرس حتى يكثر أهل الجهل وقد ذهب أهل العلم، فيعلمون بالجهل ويدينون بغير الحق ويضلون عن سواء السبيل.
ولما كان العلماء في الأمة بهذه المنزلة، كان فقدهم خسارة عظيمة لا عوض لها البتة، وموت عالم عامل هو موت لجزء من هذه الأمة لا يمكن تعويضه، وقد سمع عبد الله ابن الإمام أحمد أباه يدعو للشافعي كل يوم، فسأله عن ذلك فقال الإمام أحمد: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للناس، فهل لهذين من عوض؟
_________
الخطبة الثانية
_________
لم يكن العثيمين مجرد عالم، بل كان حقيقة يحمل هم هذه الصحوة المباركة لشباب الأمة ليلاً ونهاراً، حتى باتت شغله الشاغل، واحتلت في عقله وقلبه المكان اللائق بها من عالم سلفي فذ مثله، وقد تجلى اهتمامه بالصحوة وشبابها في مظاهر عدة تتركز في عنصرين:
أولهما: اهتمامه بإنسان الصحوة وهم الشباب الذين تفتحت قلوبهم على الحق وامتلأت نفوسهم بالحماسة فانطلقوا يطلبون العلم وينشرون الدعوة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... لقد كان الشيخ محباً لهؤلاء الشباب لصيقاً بها حانياً عليهم مرشداً لهم، بل كان رحمه الله من أكثر العلماء قربا من هموم الشباب وقضاياهم، ولعل عدم اشتغاله بمنصب رسمي أتاح له فرصة التفرغ للشباب، وقد أكسبه هذا القرب قدرته على معايشة هموم الشباب والتعرف على قضاياهم، وساعده على اكتساب محبتهم وتعلقهم به.
أما العنصر الآخر الذي اهتم به الشيخ من عناصر الصحوة فهو المنهج، منهج الصحوة لأن الصحوة إذا لم تقم على أساس متين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كانت صحوة هوجاء عاصفة، ربما تدمر أكثر مما تعمر.
هكذا إذا كان الشيخ للصحوة وشبابها، فمن ثم كان حبيباً إلى قلوبهم، قريبا إلى نفوسهم، ومن ثم كان فقده عليهم جد عصيب، إن شباب الصحوة بعد غياب شيخهم العثيمين أيتام حزانى لا يخفف عنهم سوى أنه علمهم ـ كما علمه الإسلام ـ ألا يقولوا إلا ما يرضي ربهم.
والواجب على شباب الصحوة أن يستوعب تراثه العلمي، وحذار حذار من أن نتعامل معه بانتقائية، فلا نتيح للناس ولا ننشرالمسائل التي أخذوا فيها بالعزيمة والحيطة وسد الذرائع، أما المسائل التي رجح فيها الرخصة ورفع الحرج فنطويها ولا نرويها، إن الواجب أن نتعامل مع تراثه بكل أمانة، ونرويه كما هو فإنه حق الأمة كلها وليس حق فئة بعينها.
وبعد:
فلم يكن الشيخ رزء أهله ولا طلابه ولا بني وطنه، بل كان رزء الأمة جمعاء، لأنها كان شيخاً لها جميعاً.
فما كان شيخي هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
ودونك لتعلم صدق ما أقول هذا الخبر: يقول الشيخ الداعية أحمد بن عدب العزيز الحمدان حفظه الله: "في حج عام 1416هـ كنت مرافقاً لسماحته وهو يزور الحجاج ـ كعادته كل سنة ـ ويسلم عليهم ويحدثهم ويجيبهم عن أسئلتهم في مطار الملك عبد العزيز، ودخلنا صالة استقبال كان فيها حجاج من جمهورية من الجمهوريات الإسلامية التي كانت تحت الحكم الروسي، وكان أصغرهم سناً قد بلغ الستين، وليس فيهم من يتكلم العربية، فسأل الشيخ إن كان معهم من يترجم كلامه إليهم، فلم نجد إلا شاباً سعودياً كان في استقبالهم ويتحدث بلسانهم، فطلبنا منه أن يترجم فوافق، وفي أثناء ذلك دخل شاب يركض علمنا فيما بعد أنه مرشد الحملة، وإذا به يتحدث العربية بطلاقة فتولى هو الترجمة، حتى إذا فرغ الشيخ من حديثه أقبل الشاب مسلماً، فقلنا له: هذا الشيخ محمد العثيمين، وإذا بالشاب ينظر إلى الشيخ باستغراب وقد اتسعت حدقتا عينيه وقال: الشيخ محمد بن صالح العثيمين، فاستغربنا من معرفته لاسم الشيخ، وقلنا نعم، وإذا به يضم الشيخ بين ذراعيه ويبكي، ويكرر اسم الشيخ فرحاً، ثم أخذ مكبر الصوت ونادى في أفراد الحملة بكلام لم نفهم منه سوى ترديده لاسم الشيخ، وكانت المفاجأة أن أفراد الحملة أخذوا يبكون ويرددون اسم الشيخ، وقال الشاب: يا شيخ هؤلاء كلهم طلابك، كانوا يدرسون كتبك في الأقبية تحت الأرض لما كان تعليم الإسلام عندنا ممنوعاً، وهم في شوق للسلام عليك فهل تأذن لهم؟ فأقبلوا يقبلون رأس الشيخ ويديه وهم يبكون ويرددون اسمه، فكان هذا الموقف من أشد المواقف تأثيراً، وما أعلم أحداً بقي في ذلك المكان إلا بكى تأثراً بما سمع".
(1/1804)
وزلزت الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض الصور المريعة من زلزال تركيا. 2- ضعف الإنسان أمام مقادير الله. 3- الذنوب
سبب قدري الزلازل. 4- زلزلة القيامة العظمى. 5- أوعية في الكرب والبلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ثمان وأربعون ثانية كانت كافية لتدمير كل شيء.
ثمان وأربعون ثانية تململت فيها الأرض ومادت بأهلها واضطربت بمن عليها فكانت الكارثة وجاءت الأخبار المفجعة المؤلمة.
أكثر من 12000 قتيل، ونحو من ثلاثين ألف جريح.
آلاف الأحياء تحت الأنقاض لا يدرون أيعودون إلى الحياة أم تكون هذه نهايتهم.
آلاف الجثث لا يعرفها أحد.
المقابر الجماعية تفتح لصعوبة دفن كل واحد في قبر!
بعض العلماء هناك يفتون بجواز دفن الموتى دون غسلهم لشح المياه وقلتها!
مصافي النفط تحترق وترسل سحابها الأسود يلوث الأجواء.
محطات المياه تنفجر ويخشى من اختلاطها بجثث القتلى لما يسببه ذلك من وباء عام خطير.
ملايين البشر يبيتون في الشوارع والطرقات خشية من هزة أخرى.
فرق الإنقاذ تقف حسيرة عاجزة لا تدري ماذا تصنع؟
ونقلت لنا عدسات المصورات صوراً مؤلمة محزنة.
هذه أم تبكي على ابنها القتيل.
وهذه عائلة تحيط بعائلها المسجى وقد فارق الحياة.
وهذان زوجان يقفان على أطلال منزلهما يبكيان وقد صارا بغير مأوى.
وهذا طفل يخرج من تحت الأنقاض لا تكاد تميز وجهه من قفاه من كثرة الدماء.
وأولاء نفر يجرون كالمجانين بين الأنقاض يصيحون بأسماء أقاربهم وأحبابهم.
ثوان أذلت رقابا عواتي كم ارتقب الناس إذلالها
بها ذهل الأب عن ولده ولم تذكر الأم أطفالها
وكم فئة في العوالي تمنت لو الكوخ قد كان سكنى لها
هكذا كان... وذهبت ثوان قلائل بجهد عشرات السنين، وأدرك الإنسان بعدها حقيقة حجمه في هذا الكون.
لقد اغتر الإنسان في هذا العصر بما عنده من العلم والقدرة، وظن أن لن يقدر عليه أحد، وتوهم أنه سيطر على الأرض وامتلك مقاليدها... غره علمه، وغرته قوته، وغرته سطوته... فأراد الله أن يعلمه الدرس وأن يبصره بحقيقته وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء:28].
"الإنسان الذي صنع الكمبيوتر وغزا الفضاء ووصل إلى القمر ووقف على سطحه، لم يستطع أن يفعل شيئاً"، لم يقدر على منع الزلزال ولا على تخفيف آثاره، ولقد تقاطرت فرق الإنقاذ من أنحاء الأرض بعددها وعتادها فكم روحاً أنقذت؟ وكم حياة حفظت؟ ولقد رآها الراؤون تتنقل بين الأنقاض تتنصت إلى نأمة جريح أو غياث مستغيث فما تزال تردد النظر ثم ينقلب إليها البصر خاسئاً وهو حسير. "وصدق علي رضي الله عنه: مسكين ابن آدم تؤلمه البقة (البعوضة) وتقتله الشرقة وتُنْتِنُه العرقة! وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ?للَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ [العنكبوت:22]".
أراد الله أن يبين للعالم أنه مالك الملك، العزيز القهار الجبار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، وهل يقدر غير الله أن يأمر الأرض فتهتز فتدك ما عليها؟
إن المؤمن الصادق يعلم أن في الكون أسباباً وأن لأحداثه عللاً، ولكنه يؤمن أن الله خالق هذه الأسباب وأنه موجد هذه العلل، ولو لا الله لما أثرت شيئاً... " الله هو الذي يزلزل الأرض، والله هو الذي يجري الأنهار، والله هو الذي يرسل الرياح. يتحرك كل شيء أراد الله له أن يتحرك ويسكن كل شيء أراد الله له أن يسكن" إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [يس:82].
ليت شعري... أي شيء أهاج الأرض فأخرجها عن وقارها وسكونها؟ أي شيء أغضبها حتى ماجت ومادت؟ أعافت طول السكون والهدوء؟
أم الأرض تحتج في ثورة فما عهدت هكذا آلها
غلا مرجل الغيظ في صدرها فأرعشها بعض ما هالها
هي الأم غضبى لفعل بنيها وقد تنذر الأم أطفالها!
نعم أيها الإخوة إن الأرض تتزلزل غضباً لمحارم الله...
"لقد تحملت الكثير الكثير، سكبت المسكرات على ظهرها وبنيت الخمارات عليها. سلبت نور الإيمان فعمها الظلام. يسير عليها المرابي ولا يبالي، وتلقي الفتاة حجابها هاتكة عفتها، وتنتهك الأعراض وكأن شيئاً لم يكن. وترى الظلم والغش والخداع وأمام ذلك لم تجد إلا أن تخضع لأمر ربها فأهلكت القوم" واهتزت وتزلزلت.
روى ابن أبي الدنيا عن أنس بن بمالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنا وشربوا الخمور وضربوا بالمعازف غار الله عز وجل في سمائه فقال للأرض: تزلزلي بهم فإن تابوا ونزعوا وإلا هدميها عليهم. قال: يا أم المؤمنين أعذاباً لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالاً وعذاباً وسخطاً على الكافرين. [الجواب الكافي:73].
وقال كعب: إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فرقاً من الرب جل جلاله أن يطلع عليها. [الجواب الكافي:73].
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار: إن هذا الرجف شيء يعاتب الله عز وجل به العباد. [الجواب الكافي:73]
إن المعاصي يا إخوتاه تزيل النعم وتحل النقم وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
بل إن الدواب والخلائق تتأثر لمعصية العاصي... قال أبو هريرة: (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)، وقال مجاهد: إن البهائم تلعن عصابة بني آدم إذا اشتدت السِنة وأمسك المطر وتقول هذا بشؤم معصية بني آدم، وقال عكرمة: دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم. [الجواب الكافي:94].
إن عصيان الإنسان سبب لكل ما يحل به من بلاء وكرب.
"فما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعاً؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً؟" [الجواب الكافي:65-67].
كل هذا كان بمعصية الله، روى أحمد بسند جيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده)).
لقد وقف رجال من هذه الأرض المنكوبة في وجه الإسلام منذ عام 1924م حين أسقطت الخلافة الإسلامية وغابت عن العالم الإسلامي للمرة الأولى الخلافة التي كانت تجمع شتاتهم وتلم شعثهم. واستمر مسلسل الحرب.. منع الأذان بالعربية وحورب الناس في لباسهم الإسلامي وضيق على المصلحين ونزع حجاب المرأة قسراً ومنعت المحجبة من حقوقها، وقطعت الروابط الأصيلة المتينة مع العالم الإسلامي واستبدل بها روابط هشة مع قوم لا خلاق لهم قد لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم.
فكيف كان انتقام الله لأوليائه؟ وكيف كانت غيرة الله على محارمه؟
أفلا يعتبر المعتبرون؟ أفلا يتعظ الناس؟ لقد لقينا أقواماً شهدوا هذا الحدث وكادوا يهلكون فيه لولا أن أراد الله لهم الحياة فما عساهم فعلوا؟
وأنت يا أيها الآمن في داره يتابع الأخبار ويتفرج على الصور أأمنت مكر الله؟ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف:99].
وأنت يا أيها العاكف على المعصية المصر عليها أأمنت عذاب الله وعقوبته؟ أفأنت أكرم على الله من أولئك الذي هلكوا وفيهم الصالح والعابد والعالم؟ أفعندك صك من الله ألا يعذبك؟ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ?للَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ ?للَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:80].
إن الله عز وجل في مواطن كثيرة من كتابه يحذر أولئك الذين عادوا إلى العصيان بعد أن نجاهم الله من كربهم، بل يحذر حتى أولئك الذين لم يمسهم الكرب بعد وَإِذَا مَسَّكُمُ ?لْضُّرُّ فِى ?لْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّـ?كُمْ إِلَى ?لْبَرّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ?لْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى? فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ ?لرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [الإسراء:67-69].
فمتى يعي العصاة المجاهرون والطغاة المتكبرون أنهم إنما يحاربون الله؟ متى يعون أنهم ليسوا في صراع مع الدعاة ولا مع الأخيار ولا مع العلماء وإنما هم في صراع مع الملك الجبار؟ في حرب مع العزيز القهار؟ ومن يقوى على حرب الله؟
فهل يتعلم الناس من هذا الزلزال العظيم التوبة من العصيان، والتطهر من الذنوب والرجوع إلى الرؤوف الرحيم؟ أم أنهم يريدون أن يكونوا ممن قال الله فيهم: وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]. فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـ?كِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [الأنعام:43].
وهل تتعلم الأمة من هذا الزلزال كيف تعدل موازينها وتقوم رجالها؟
وهل تفقه الدرس أم ياترى تظل تقدم طبالها
و يبقى أبو الجهل أستاذها ويبقى أبو الذنب قوالها؟
أيها الإخوة: إذا كانت زلزلة ثوان عملت هذا كله فكيف بزلزلة يوم يجعل الولدان شيباً؟ ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].
إنها زلزلة هائلة تخفض وترفع وترج الأرض رجاً وتبس الجبال بساً فتجعلها هباء منبثاً.
إنها زلزلة ضخمة تتحول الجبال معها إلى عهن منفوش. وتصير الأرض قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً.
إنها زلزلة مرعبة تحمل فيها الأرض والجبال فتدكان دكة واحدة.
إنها زلزلة مذهلة تنفض الأرض بسببها كل ما فيها نفضاً وتخرج أثقالها.
وإذا نجونا من زلازل الدنيا فليس أحد منا بناج من زلزلة يوم القيامة فما أعددنا لها؟ لحظة تفكر أيها الأخ لتقلع عن غيك وترجع عن ضلالك. زلزل بناء العصيان والإثم في نفسك قبل أن تزلزل بك الأرض ويقال لك: مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ [الانفطار:6].
إنها والله لآية لو كان يعقلها العاقلون...
فليت قلوب القساة تفيق عليه وتفتح أقفالها
وليت عقول عبيد القيود تثور وتكسر أغلالها
لقد أفزعتنا شروخ المباني فقمنا نعالج أخطالها
أليست شروخ الضمائر أنكى إذا استمرأ الناس إهمالها
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله، إن المؤمن لا يلجأ في كربه إلا إلى ربه... وقد علمتنا الآيات والأحاديث كثيراً من الأذكار والأدعية يقولها الإنسان عن الكرب والبلاء منها: دعاء يونس في بطن الحوت أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87].
وجاء في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب الأرض رب العرش الكريم)).
وفي الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)).
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال: ((سبحان الله العظيم)) وإذا اجتهد في الدعاء قال: ((يا حي يا قيوم)) [الترمذي].
وهذه الأمة جسد واحد يتألم أقصاها لأدناها، وأدناها لأقصاها، وكرب إخواننا هناك كربنا، وهمهم همنا، فلا بد أن ندعو لهم.
(1/1805)
وقرآن الفجر
فقه
الصلاة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
4/4/1421
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قلة عدد المصلين في صلاة الفجر. 2- اجتماع الملائكة في صلاة الصبح. 3- فضل صلاة
الفجر. 4- حال السلف مع صلاة الفجر. 5- سنة الفجر الراتبة. 6- الجلوس في المسجد إلى
طلوع الشمس. 7- فوات صلاة الفجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنها الزاد إذا عدم الزاد، والنجاة يوم المعاد.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
بعد ظلمات الليل الحالك يتنفس الصبح بضيائه ويرسل إلى الكون خيوط الصباح الأولى مؤذناً ببدء يوم جديد بهيج.
وكأنما تمتد خيوط النور هذه فتهدهد الأطيار في أوكارها فإذا هي تتغنى فرحاً وتشدو بأعذب ألحانها.
ويشهد الكون في تلك اللحظات المهيبة صراع النور والظلمة واعتراك الليل والنهار ، ويبصر ميلاد يوم جديد.
ويقبل الفجر في زهوه وبهائه يتهادى اختيالاً، ملء عينيه أسرار وأخبار.
بادر الفجر واشتمل بإزاره وتمتع بالحسن في أغواره
ودع الهيكل الترابي حينا واسر بالروح في مدى مضماره
وتأمل فيض الجمال على الوا دي نضيراً يشع في أسحاره
سترى غرة ليوم جديد كان في الغيب وانبرى من ستاره
وفي هذا الوقت البديع المبارك يدوي في سماء الكون النداء الخالد، نداء الأذان... فتهتف الأرض كلها: الله أكبر الله أكبر.
وتكون صلاة الفجر فاتحة اليوم في حياة المسلم، لكأنما يعلم الإسلام أهله أن يبدأوا كل أمر بطاعة الله والإقبال عليه والإنابة إليه، وكأنما هي شكر لله على نعمة الإصباح بعد الإظلام.
ويبدأ وقت صلاة الفجر من ظهور الفجر الصادق الذي هو عبارة عن بياض ممتد من الشمال إلى الجنوب إلى طلوع الشمس، والسنة فيها التعجيل فيصليها بغلس قبل الإسفار. [الممتع:2/112ـ115].
أيها الإخوة الكرام: ما من جديد سآتي به عن صلاة الفجر، وربما سمع أكثركم مني أو من غيري حديثاً يشبه هذا أو يقاربه، غير أن خطر الأمر وجلاله دفع بي إلى الإلحاح عليه والتنبيه إليه، فنحن نعيش أيام الصيف حيث يقصر الليل ويطول النهار، وحيث يتمتع قطاع عريض من مجتمعنا بإجازة لا عمل فيها، فيكثر السهر ومن ثم يكثر النوم عن صلاة الفجر.
وإنه لو وازنت بين عدد المصلين هذه الأيام في صلاة الفجر وفي غيرها من الصلوات لرأيت عجباً! هل لي أن أطالب نفسي وإياكم بأن يحصي كل فرد مقدار ما فاته من صلاته الفجر في جماعة في شهره الفائت؟ هل حاولت إحصاء ذلك؟ كيف كانت النتيجة؟ أليست محزنة؟ وإذا كنت أدركت الفجر جماعة فهل لي أن أسأل عن سنتها القبلية؟
لقد أجريت مرة استفتاء محدوداً شمل عدداً ممن نحسبهم راغبين في الخير فكانت النتيجة مرعبة، ستة عشر في المئة فقط هم الذين لم تفتهم صلاة الفجر خلال أسبوعين!
فهل يسوغ لنا ويقبل منا مثل هذا التفريط؟
لقد سمى الله هذه الصلاة العظيمة قُرْءانَ ?لْفَجْرِ [الإسراء:78]. فقال سبحانه: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء]. قال ابن كثير: يعني صلاة الفجر [تفسير ابن كثير:3/53]. وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح. يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [البخاري:4717].
وفي حديث آخر عند البخاري بيان أوفى لهذه الشهادة العظيمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يصلون وأتيناهم يصلون)) [البخاري:3223].
وهكذا تكون صلاة الفجر مجتمعاً للملائكة ومحفلاً من محافل الخير والطاعة والعبادة. لا يحضره إلا كل طاهر مطهر من الأبرار يستحق أن يكون في ضيافة الرحمن، فعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار وكتب في وفد الرحمن)) [رواه الطبراني بسند حسن، الترغيب والترهيب:595]. بل قد صح في الحديث عند أبي نعيم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه ميثم أنه قال: بلغني أن الملك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله، وإن الشيطان ليغدو برايته إلى السوق مع أول من يغدو فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخلها منزله [الترغيب والترهيب:601]. وهذا موقوف له حكم المرفوع.
وليست هذه فضيلة صلاة الفجر الوحيدة، بل قد تكاثرت النصوص بما لهذه الصلاة من فضائل.
فصلاة الفجر تعدل قيام الليل، روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله)) [مسلم:656].
وروى مالك بسند صحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثْمة في صلاة الصبح... فمر على الشِّفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟ فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. فقال عمر: (لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة). [موطأ مالك:1/131، الترغيب والترهيب:601].
وصلاة الفجر وصية النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده لأمة الإسلام، فعن رجل من النخع قال: سمعت أبا الدرداء حين حضرته الوفاة قال: أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((... ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين: العشاء والصبح ولو حبواً فليفعل)) [رواه الطبراني في الكبير، وهو حديث حسن/الترغيب والترهيب:1/344].
وصلاة الفجر نور لصاحبها يوم القيامة، عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [ابن ماجه:870 بسند حسن، وابن خزيمة، الترغيب والترهيب:603]. وعند الطبراني بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة)) [الترغيب والترهيب:602].
وصلاة الفجر أمان وحفظ من الله، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عيه وسلم قال: ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله تعالى)) [ابن ماجه:3946، بسند صحيح].
وصلاة الفجر ضمان للجنة، عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى البردين دخل الجنة)) [البخاري:574، مسلم:635]. والبردان: هما الصبح والعصر. قال الخطابي: سميتا بردين لأنها تصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء وتذهب سورة الحر. [فتح الباري:2/53].
وصلاة الفجر حاجز عن النار، عن أبي زهير عمارة بن رويبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني الفجر والعصر [مسلم:634].
ولما كانت صلاة الفجر بهذه المنزلة العظيمة كان التفريط فيها جرماً كبيراً، وغفلة غير يسيرة.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن. [البزار والطبراني وابن خزيمة. الترغيب والترهيب:591].
وعن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا. قال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا. قال: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموها ولو حبوا على الركب)) [أحمد وأبو داود بسند حسن، وقد جزم ابن معين والذهبي بصحة هذا الحديث، الترغيب والترهيب:340، 596].
ولقد تعلقت قلوب السلف رضي الله عنهم بهذه الصلاة لما علموا من جليل فضلها وسوء عاقبة التخلف عنها، فكانوا أحرص الناس عليها، حتى لقد قال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. ولقد كان الرجل يؤتى به يتهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وهاديها يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: ((الصلاة يا أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ?لرّجْسَ أَهْلَ ?لْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33] )) [الترمذي:3206]. إنه يربي ابنته على الحرص على صلاة الفجر في وقتها.
وكان علي بن أبي طالب يمر في الطريق منادياً: الصلاة الصلاة يوقظ الناس لصلاة الفجر وكان يفعل ذلك كل يوم. [صلاح الأمة:2/367].
وحين اشتكى الإمام سعيد بن المسيب عينه قالوا له: لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة! يدعونه للتنزه في ضواحي المدينة حيث الخضرة والجو الطليق، فقال لهم: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟ [نزهة الفضلاء:1/376].
وتزوج الحارث بن حسان رضي الله عنه في ليلة من الليالي فحضر صلاة الفجر مع الجماعة، فقيل له: أتخرج وإنما بنيت بأهلك الليلة؟ فقال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء! [صلاح الأمة:2/362].
وقام عبد الرحمن بن مهدي ليلة حتى جهد فلما طلع الفجر رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال: هذا مما جنى علي الفراش، فجعل على نفسه ألا يجعل بينه وبين الأرض شيئاً شهرين. [صلاح الأمة:2/416].
ومكث الإمام مدين بن أحمد الحميري دهراً إلى حين وفاته لا تفوته التكبيرة الأولى من صلاة الصبح ويمكث في مصلاه وهو على طهارة إلى أن يركع الضحى وربما جلس بعد ذلك [المختار المصون:1/576].
وبقي الشيخ الحفار الغرناطي نحواً من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يهادى بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول: الحفار حجة الله على من لم يحضر الجماعة. [المختار المصون:1/206].
وكانوا يرون فوت صلاة الفجر في الجماعة خطباً جللاً يستحق العزاء. قال حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا! [صلاح الأمة:2/420].
وبلغ من منزلة صلاة الفجر أن خصت راتبتها القبلية دون سائر الرواتب بالمحافظة عليها حضراً وسفراً قال ابن القيم: وكان في السفر يواظب عل سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى سنة راتبة غيرها، وكان ابن تيمية رحمه الله يقول: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل والوتر خاتمته. [زاد المعاد:1/315، 316]. بل وصفها عليه الصلاة والسلام بأنها خير من الدنيا وما فيها. [مسلم:725]. وبأنها أحب إليه من الدنيا جميعاً. [مسلم:725]. ولم يكن صلى الله عليه وسلم إلى شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. [مسلم:724]. هذه منزلة النافلة فكيف بالفريضة؟
وسنة الفجر هذه تختص بأمور منها:
1ـ أنه يسن تخفيفها بشرط أن لا يخل المصلي بواجب، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر فيخفف حتى إني أقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن؟ [مسلم:724].
2ـ أنه يقرأ في الركعة الأولى منها بـ قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ [الكافرون:1]. وفي الثانية بـ قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. [مسلم:726]. أو في الأولى يقرأ بـ: قُولُواْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136]. وفي الثانية: تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] [مسلم:727].
3ـ أنه يسن بعدها الاضطجاع على الجنب الأيمن. [البخاري في التطوع ومسلم:736]. ولا سيما لمن كان يقوم الليل لأنه يحتاج إلى أن يستريح إلا إن كان ممن إذا وضع جنبه على الأرض نام ولم يستيقظ فهذا لا يسن له الاضطجاع. وكذا لا ينبغي الاضطجاع في المسجد أمام الناس، وكان ابن عمر يحصب من يراه يضطجع على يمينه. [زاد المعاد:1/319]. وإنما إذا استن الإنسان في بيته وبدا له أن يضطجع دقائق وأمن عينيه أن تناما فحسن.
وليس للمرء أن يصلي الركعتين إذا قامت الصلاة، فعند الإقامة لا صلاة إلا المكتوبة، وقد مر صلى الله عليه وسلم على رجل يصلي وقد أقيمت صلاة الصبح فكلمه بشيء فلما انصرف أحاط به الناس ليسألوه عما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قال لي: ((يوشك أحدكم أن يصلي الفجر أربعاً)) [ابن ماجه:1150].
وإذا لم يتمكن الإنسان من أداء راتبة الفجر قبلها فإنه يقضيها بعدها باتفاق، إلا أن الإمام أحمد اختار أن يقضيها من الضحى ورأى غيره أن يقضيها بعض الصلاة، وفي المسألة نزاع.. قال ابن قدامة: وإذا كان الأمر هكذا كان تأخيرها إلى وقت الضحى أحسن، لنخرج من الخلاف، ولا نخالف عموم الحديث، وإن فعلها فهو جائز لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز. [المغني:2/532، وانظر رأياً للعثيمين في الشرح الممتع:4/102].
وأداء هذه الراتبة أعني ركعتي الفجر مشروع حتى لمن فاته وقت الصلاة لنوم ونحوه، فلو أن امرءاً غلبه النوم فلم يقم إلا بعد طلوع الشمس فإنه يصلي ركعتي النافلة ثم الفريضة، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذته عيناه في السفر فلم يستيقظ هو وصحبه إلا بعدما ضربتهم الشمس أمر بلالاً فأذن فصلى ركعتي الفجر ثم الفجر [أبو داود:437]. بل جاء في رواية أخرى لأبي داود: فركع ركعتين غير عجل ثم قال لبلال: ((أقم الصلاة)) ثم صلى الفرض وهو غير عجل [أبو داود:444]. أما إذا قام النائم وبينه وبين خروج الوقت دقائق لا تسع إلا لفرضه فإنه يبدأ به.
ومن خصائص هذه الصلاة المباركة فضيلة الجلوس بعدها إلى أن تطلع الشمس.. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسنا [مسلم:670]. وفضائل هذا الجلوس عظيمة مباركة، فهو يعدل حجة وعمرة تامة تامة تامة، وهو أحب من النبي صلى الله عليه وسلم من عتق أربعة من ولد إسماعيل، وهو إلى ذلك كفارة للذنوب ماح لها بإذن الغفور الرحيم.
ـ روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)) [الترمذي:586، وقال حسن غريب].
ـ وصح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من بعد صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل)) [أبو داود:3667، وإسناده حسن].
ـ وعند أبي يعلى بسند حسن عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى الفجر فقعد في مقعده فلم يلغ بشيء من أمر الدنيا ويذكر الله حتى يصلي الضحى أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا ذنب له)) [الترغيب:1/370].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن من الظواهر الخطيرة التي شاعت في مجتمعنا حتى في أوساط طلبة العلم وأهل الخير التخلفَ عن صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة، وقضاءَها بعد فوات وقتها، وإنك لترى المسجد في الحي المزدحم يمتلئ في الصلوات كلها حتى إذا جئته صلاة الفجر ألفيته شبه خاو ليس فيه إلا صفوف قليلة! وهذه والله بلية يعجب لها المرء.
كيف يفوت المسلم على نفسه هذا الخير العظيم؟
كيف يهنأ بالنوم والناس في المساجد مع قرآن الفجر يعيشون، وإلى لذيذ خطاب الله يستمعون، وفي ربيع جناته يتقلبون، "كأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبطل باطلها فلم يبق على الأرض إلا الإنسانية الطاهرة ومكان العبادة" [وحي القلم:3/31]؟
كيف يطيب له الفراش وأرباب العمل قد صفوا أقدامهم في المساجد، بين سجود وركوع، وخشوع ودموع؟
كيف يحرم نفسه بركات الفجر المتنزلة، وخيراته المتواترة؟
بل كيف يرضى المسلم أن يتلاعب به الشيطان فييول في أذنه؟ عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنهم قال ذكر عند النبي صلى اللهم عليه وسلم رجل، فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح ما قام إلى الصلاة فقال: ((بال الشيطان في أذنه)) [البخاري:1144]. قال ابن حجر: واختلف في بول الشيطان فقيل هو على حقيقته، وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر. وقيل: معناه ملأ سمعه بالأباطيل. وقيل هو كناية عن ازدراء الشيطان به. وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول... وخص البول لأنه أسهل مدخلاً في التجاويف وأسرع نفوذا في العروق فيورث الكسل في جميع الأعضاء. [فتح الباري:3/28-29]. وهذه معان كيفما قلبتها وجدت بعضها شراً من بعض.
ترى هل أدرك المتخلف عن صلاة الفجر متعمداً أن فعلته أشنع من السرقة والزنا والقتل وغيرها من الموبقات؟ قال ابن حزم رحمه الله: لا ذنب بعد الكفر أعظم من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها ومن قتل امرئ مسلم بغير حق.
وهل علم هذا النائم عن صلاته أن من ترك صلاة واحدة عمداً حتى يخرج وقتها فقد كفر عند جمع من أهل العلم؟
وهل غفل هذا المضيع لجماعة الفجر عن قوله تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ ؟ وويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الأرض لذابت من شدة حرارته وهل نسي قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59]. وإضاعتها تأخيرها عن وقتها.
أين هو من ذلك الحديث العظيم الرهيب الذي رواه البخاري في صحيحه والذي أخبر فيه أنه أتاه آتيان فانطلقا به ((فمروا على رجل مضطجع وآخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى)) فلما سأل عليه الصلاة والسلام الملكين عن خبره قالا: ((أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)) [البخاري:7047].
وبعض الناس يتعمد ضبط المنبه على وقت العمل ولو كان وقت العمل في السابعة أو الثامنة ولا يصلي الفجر إلا في هذا الوقت، وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن ذلك فقال: من يتعمد تركيب الساعة إلى ما بعد طلوع الشمس حتى لا يصلي فريضة الفجر في وقتها هذا قد تعمد تركها وهو كافر بهذا عند جمع من أهل العلم لتعمده ترك الصلاة... وقد أتى منكراً عظيماً عند جميع العلماء، لكن هل يكفر أو لا يكفر فهذا فيه خلاف بين العلماء... وأيضا ترك صلاة الجماعة منكر لا يجوز، والواجب عليه أن يصلي في المسجد [أربح البضاعة:26]. وقال الشيخ العثيمين في هذا: صلاته هذه غير مقبولة ولا تبرأ بها ذمته وسوف يحاسب عنها.
وبعد هذا كله كيف نحمي أنفسنا من هذا الوعيد؟ وكيف نمنع الشيطان من البول في آذاننا؟
لعل أول خطوة في طريق العلاج استشعار أهمية هذه الصلاة وإدراك قيمتها، فلو شعر الإنسان بذلك وأدرك أن يفوته بفوتها خير كثير لتحركت همته وانبعثت عزيمته، كما تتحرك وتنبعث لكل محبوب لديه.
ولابد بعد ذلك من اتخاذ الأسباب المعينة من نوم باكر وضبط للمنبهات واستعانة بالأقارب والإخوان وتقليل الأكل والشرب وإبعاد للفرش المغرية بمزيد من النوم، ومبادرة للوضوء عند الاستيقاظ وعدم التسويف.
وثمة أمور إيمانية مجربة تعين المرء على القيام لصلاة الفجر، منها الحرص على أذكار النوم، ودعاء الله في الوتر أن يوفق للقيام، ومنها البعد عن المعاصي جملة فإن المعاصي تقيد المرء عن الطاعة، ومنها عمارة القلب بالإيمان والطاعة فإن ذلك يدفع إلى الخير دفعاً.
وعلينا أن نعود أبناءنا على أداء الصلاة في المسجد منذ سن باكرة، ليألفوا هذا ويعتادوه، وليحذر الأب كل الحذر من التساهل الشائع في إيقاظ الأبناء بحجة صغر سنهم، فيتراخى الابن ويعتاد النوم فإذا جاء أبوه يقومه من بعد وجد ذلك عسراً شديداً.
وبعد... فما غرك بربك وألهاك عن صلاة فجرك؟
أهو السهر أمام القنوات الفضائية؟ أم على الأرصفة؟ أم في الشواطئ والمنتزهات؟
ترى أي خير فاتك؟ وأي موت للقلب ابتليت به؟
هل لك من عودة؟ هل لك من رجوع؟ المسجد يفتح أبوابه وداعي الرحمن يدعوك فأقبل تكن من الفائزين.
(1/1806)
وقفة أمام بوابة الزمن
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة المحاسبة. 2- الإنسان يحاسب يوم القيامة على الصغير والكبير. 3- عظة وعبرة
في انصرام الأيام ومرور السنين. 4- التفاؤل بمستقبل مشرق للإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وهكذا في لمح البصر يطوى تاريخ طويل طالما عشنا فيه آلاماً وآمالاً، وطالما كانت لنا فيه ذكريات وطموحات، وطالما جئنا فيه وذهبنا، وعملنا وتركنا، وفعلنا ولم نفعل.
إننا نقف الآن على مفترق الطرق، ننظر هنا فنرى عاماً كاملاً قد شد رحاله وطوى صفحته وتهيأ للرحيل... الرحيل الذي لا عودة بعده.
وننظر هناك فنرى عاماً جديداً، جاء محملاً بحوادثه، ووقائعُه محجوبة بحجاب الغيب، مستورة بستار القدر... ثم ما تلبث أن تنكشف شيئاً فشيئاً.
ماذا حدث في العام الماضي؟ وما ذا سيحدث في العام الجديد؟
كم من فقير مسلم ـ في عامنا الماضي ـ هام على وجهه؟!
كم من مشرد كان له بيت فصار بلا مسكن ولا مأوى؟!
كم من بريء مسكين قتلته رصاصات الغدر والكفر؟!
كم من حرة عفيفة هتك سترها كافر عتل غليظ؟!
كم من بلد استبيحت حرمته وسلبت أراضيه؟!
كم من أرض أحرقت ظلماً لا لشيء إلا لأن أهلها يقولون: ربنا الله؟!
كم وكم من الصور المؤلمة حملها عامنا الذي سيرتحل في حقيبته؟
أيها العام قد طويت جناحاً وتهيأت للرحيل البعيد
سوف تمضي وقد تركت قروحاً داميات بقلبي المجهود
أنا مازلت أنشد الشعر لكن نغم الحزن لم يفارق قصيدي
هكذا كان.. وانطوى عام كامل من عمر أمة الإسلام.
لست أنكر أنه كانت فيه نقاط مضيئة مشرقة، ولكنها كادت تضيع في وسط ركام الأحزان والآلام.
ولئن انقضى هذا العام أو كاد، فهذه دعوة للمسلمين أن يفكروا في حال الإسلام والمسلمين.
دعوة إلى أن يحققوا في الواقع قوله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
دعوة إلى أن يعوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
نعم... إن الإسلام اليوم لم يعد يشغل حيزاً ولو صغيراً من أذهان كثير من المسلمين..
وإلا فأخبرني يا أخي...
كم مرة فكرت في حال المسلمين فاغتممت ففاضت عيناك؟
كم مرة احترق قلبك وأنت تقرأ ما حل بالمسلمين؟
كم مرة رفعت يديك في ضراعة وخشوع تدعو لألئك المساكين المستضعفين؟
بل أخبرني... كم مرة حرصت على متابعة حال إخوانك المسلمين؟ ما أكبر الفضيحة ! وما أعظم المأساة!
نحن مدعوون إلى أن نتخذ من هذه اللحظة التاريخية منطلقاً نحو وعي أكبر بقضايا أمتنا، وتفاعل أفضل مع مشاكلها وبداية لنمط جديد من التفكير يكون للإسلام ولأمة الإسلام حظ كبير منه غير مبخوس ولا منقوص.
وكما ينبغي أن تكون بداية العام بداية لعهد جديد مع أمتك، فيجب أن تكون بداية لعهد جديد مع نفسك. نعم لا بد من وقفة محاسبة وتأمل.
قال الحسن البصري: "لا ترى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر ليمضي قدماً ما يعاتب نفسه".
إنها إذاً المحاسبة التي قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر)، فهل تزينا للعرض الأكبر بمحاسبة أنفسنا؟
وانظر إلى قول المولى عز وجل: لِّيَسْأَلَ ?لصَّـ?دِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ [الأحزاب:8]. فإذا سئل الصادقون عن صدقهم وحوسبوا عليه فما الظن بالكافرين؟
وانظر إلى قوله تعالى: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [الأعراف:6]. يا لله حتى المرسلون يسألون.
إن الله عز وجل يحاسب الإنسان على كل صغيرة وكبيرة، يدون عليه كل شيء حتى إذا جاء يوم القيامة نشرت الدواوين وكشفت المخبآت، ولا تسل يوم ذاك عن حال الغافلين الذين لم يحاسبوا أنفسهم في الدنيا، لا تسل عن حالهم حين تجبههم صحائف أعمالهم وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
نعم كل شيء مكشوف، كل شيء مسجل وقد أحصاه الله أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [المجادلة:7].
كل شيء يسأل عنه الإنسان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك؟ ونروك من الماء البارد)) [الترمذي].
وحكي عن الإمام أحمد أنه كان في سكرات الموت يئن فسمع أن الأنين يكتب فسكت حتى فاضت روحه رحمه الله.
هكذا إذن يحاسب الإنسان يوم القيامة على كل صغيرة وكبيرة من أمره، على أقواله وأفعاله ونياته، وتقام عليه يومذاك الشهود وأي شيء أعظم من أن يشهد بعضك على بعضك، روى الإمام مسلم [2969]. عن أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فضحك فقال: ((هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام قال: فيقول بعداً لكنّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)).
مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً مستوحشا قلق الأحشاء حيراناً
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته اقرار من عرف الأشياء عرفاناً
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي امضوا بعبد عصى للنار عطشاناً
فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها، وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها، وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً، فياحسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك.
يا إخوتاه... هل من محاسب نفسه في دنيا ليخفف على نفسه في أخراه؟
وحين أقف أنا مع نفسي وتقف أنت مع نفسك وتمحص أيامك السالفات في عامك الماضي فتنظر ما كان من حسن فتثبت عليه وما كان من سيء فتجتنبه، حين نفعل ذلك نكون قد خطونا الخطوة الصحيحة للإصلاح، وأخذنا بيد أنفسنا للخير والفلاح.
فماذا يا ترى أودعنا في عامنا الماضي؟
هل أودعنا فيه صلاة وصياماً وذكراً ودعوة وبكاء وخشية وتوبة وصبراً على المكاره وقياماً بأمر الله؟ أم أودعنا فيه لعباً ولهواً وقضاء للشهوات واغتراراً بمتاع الدنيا الفاني؟
هل رآنا الله نتهجد في ظلمات الأسحار ونحني أصلابنا على القرآن الكريم، ونبلل الأرض بالدمع في خشوع؟ أم رآنا ساهرين على مشاهدة الحرام وسماع الحرام، لا هين عما أمرنا الله به، مقبلين على ما نهانا عنه؟
أسئلة كثيرة يجب أن نجيب عنها بصدق وصراحة وإن كانت الصراحة مرة في بعض الأحيان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الأخ ألا ترى أن انقضاء العام بهذه السرعة العجيبة مؤذن بانقضاء عمرك كله ورحيلك إلى الدار الآخرة؟ أليس عمرك بضعة سنوات كلما انقضت سنة دنوت إلى قبرك؟
كل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي
أفلا تذكرت واعتبرت بدنو الأجل وقرب الرحيل! كم ودعت في عامك الماضي من حبيبب؟ وكم فارقت من غال؟ وكم حملت من جنازة إلى قبرها، ونفس تزجى لأمر ربها؟
أما كان لك في ذلك موعظة؟ أما تخشى اليوم الذي تكون فيه محمولاً لا حاملاً، ومغسولاً لا غاسلاً، ومدفوناً لا دافناً؟ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
إنه الموت الذي ينتهي إليه كل حي، والذي لا يدفعه عن نفسه ولا عن غيره أحد، الموت الذي يفرق بين الأحبة ويمضي في طريقه لا يتوقف ولا يلتفت ولا يستجيب لصرخة ملهوف ولا لحسرة مفارق ولا لرغبة راغب ولا لخوف خائف.
سبيل الخلق كلهم فناء فما أحد يدوم له بقاء
يقربنا الصباح إلى المنايا ويدنينا إليهن المساء
أتأمل أن تعيش وأي غصن على الأيام طال له النماء
يا أخوتاه... بلغنا أن زاهداً كان كثير النصح والوصية لأصحابه، فقال له أصحابه يوما: لو أوجزت لنا معناك في جملة تكون لنا شعاراً! فقال: نعم، فقام وكتب على الجدار بخط كبير: لا تمضوا في طريق اليأس ففي الكون آمال، ولا تتجهوا نحو الظلمات ففي الكون شموس!
إنه شعار جميل نضعه نصب أعيننا ونحن نودع ذلك العام المحمل بالجراح.
إنها دعوة للتفاؤل والإيجابية والبذل والعمل، وعدم الاكتفاء بالبكاء والنحيب وتعداد المصائب.
لسنا يا أخي في مناحة نعدد فيها المصائب ونبكي ثم لا يكون شيء، لا إنما نحن في لحظة اعتبار وادكار، نتخذ من عرض هذه الآلام طريقاً إلى الآمال، ونجعل ذكر هذه الجراح سلماً للفلاح.
ولقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم التفاؤل والأمل حتى في أحلك اللحظات، أوليس هو الذي كان يبشر أصحابه بفتح بلاد كسرى وقيصر واليمن وهم محاصرون يوم الأحزاب في المدينة؟
وكيف لا نتفاءل ونرجو الخير ونحن نرى كثيراً من المبشرات تلمع خلال الظلام وتؤذن إن شاء الله بفجر جديد.
هذا الجيل المبارك من شباب الصحوة الذي يملأ المساجد.
هذه العاطفة الدينية القوية لدى الشعوب الإسلامية.
هذا الجهاد الحي المؤمن في أنحاء كثيرة من أرض الإسلام.
هذا التداعي والهبوط لكثير من القوى الكافرة.
كل هذه وأمثالها مبشرات على الطريق.
المهم ما هو دورك أنت؟
ابدأ بنفسك فأصلحها، ثم بأهلك، ثم بإخوانك، ثم بمن حولك، ثم ارفع يديك إلى السماء وقل يا رب.
"حتى إذا وجدت تلك القلوب التي لا تطمع إلا فيما عند الله ولا تنتظر ثوابا في الدنيا تنزل عليها نصر الله".
آه ما أكثر الجراح ولكن أمتي أمة الثبات العنيد
لم تزعزع يقيننا الصرصر القر ولم تثننا صلاب السدود
لم يزل في دمائنا ألف سعد يتلظى وألف قطز جليد
إن مضى عامنا ببؤس فإنا نلمح الخير ملء عام جديد
(1/1807)
خطبة في التوحيد
التوحيد
الألوهية
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد. 2- الإقرار بالربوبية لا يكفي للدخول في الإسلام. 3- أهمية توحيد الألوهية
(العبادة). 4- بعض صور الشرك. 5- من آثار التوحيد عزة المسلم الموحد. 6- ضرورة
تربية الأبناء بل والنفس على توحيد الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، إن المقصود الذي من أجله خلق الله السماواتِ والأرض والجنةِ والنار، وبه أنزلتِ الكتب، وبه أرسلتِ الرسل، وبه قامتِ الحدود، وبه شرعتِ الشرائع وبه شرع الجهاد، وبه انقسمتِ الخليقة إلى السعداءِ والأشقياء، وبه حقتِ الحاقة ووقعتِ الواقعة، وبه وضعتِ الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنةِ والنّار، وبه عبِد ربّ العالمين وحمِد، وعنه السؤال في القبرِ ويوم البعثِ والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة. إنه التوحيد الذي هو حق الله على العبيدِ: قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا ?لسَّمَاء وَ?لأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـ?هُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَـ?عِلِينَ [الأنبياء:16-17]. أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36]. قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]. وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. ومعنى الآيةِ: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فهذا هو مقصود خلقهم والحكمة منه، ولم يرِدْ منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانةِ لهم بالرِّزقِ والإطعامِ، بل هو الرزّاق ذو القوةِ المتين، الذي يطعم ولا يطعم، كما قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ ?للَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُشْرِكَينَ [الأنعام:14].
عباد الله، إن العبد إذا علِم أن الله هو مالك الملكِ ومدبِر الأمر، وأنه خالق السماواتِ والأرض وأنه ينزِّل من السماء ماء فينبت به حدائِق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها وأنه جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرينِ حاجزا وأنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض، وأنه يهديكم في ظلماتِ البرِ والبحرِ ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده ويرزقكم من السماء والأرضِ. إذا علمتم عباد الله ذلك كلِّه وأقررتم به فاعلموا أن ذلك لا يكفي فإن هذا الإقرار قد أقر به المشركون من قبل، قال تعالى في حقِ المشركين: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
إن مشركي العربِ كانوا يقرون بربوبيةِ الله، وأنه الخالق وأنه الرازق وأنه المانع والضار والنافع، ولكن جعلوا مع الله آلهة أخرى عبدوها من دونِ الله قربوا لها القرابين واعتقدوا فيها النفع والضر، وعبدوا الجن من دونِ الله وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ?لإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ?لْجِنّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً [الجن:6]. وجعلوا تقليد الآباءِ دينا يدينون به وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23].
فإن التوحيد المقصود عباد الله الذي من أجله أرسل الله رسله هو توحيد العبادةِ، والذي حقيقته هو انجذاب الروحِ إلى الله تعالى محبة وخوفا، وإنابة وتوكلا، ودعاء وإخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة.
وبالجملة فلا يكون في قلبِ العبدِ شيءٌ لغير الله، ولا إرادةٌ لما حرم الله ولا كراهةٌ لما أمر الله؟ وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله. فمن طاف بالقبرِ وقرب له وسأل صاحبه من دون الله فهو مشركٌ، وإن قال لا إله إلا الله، ومن أحب غير الله مع الله فقد أشرك في محبةِ الله قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ?للَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ ?للَّهِ [البقرة:165]. كمن يحب الآلهة ومن يقوم في قلبه إجلالٌ للمحبوبِ وتعظيمٌ له يقتضي أن يجتنب نهيه ويقوم بأمره، فهو شركٌ في المحبةِ وصاحبه مشرك، ولو قال لا إله إلا الله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِ?للَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ [يوسف:106]. ومن اعتقد في مخلوقٍ نفعٍ أو ضرٍ من دون الله فقد أشرك بالله، ومن اعتقد أن أحدا يعلم شيئا من الغيب غير الله فقد كفر، ومن أتى كاهنا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد.
فاحذروا من الشرك عباد الله بكلِ صوره وأشكاله، فقد يأتي الشرك في صورةِ كرةٍ أو في صورةِ شاشةٍ تعبد من دون الله، تصرف لها الأوقات وتعظم في القلوب وتصرف لها المحبة ويعادى فيها ويوالى فيها، وتقدم على طاعة الله والحقّ، إنها عبادةٌ الهوى قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لاْنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:43-44].
فالتوحيد التوحيد عباد الله: إنه أفضل طِلبة، وأعظم رِغبة، وأشرف نِسبة، وأسمى رتبة، هو وسيلة كلِ نجاح، وشفيع كلِ فلاح، يصيِّر الحقير شريفا، والوضيع غضريفا، يطِّول القصير، ويقدِّم الأخير، ويعلي النازل، ويشهر الخامل، ما عزت دولةٌ إلا بانتشاره، وما ذلت إلا باندثاره.
وإن معظم الشرورِ والنكبات التي أصابتِ الأمة الإسلامية، وأشد البلايا التي حلت بها، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس، فمن مفتونٍ بالتمائمِ والحروز، يعلقها عليه وعلى عياله، بدعوى أنها تدفع الشر وتذهب العين، وتجلب الخير، والله تعالى يقول: وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له)) وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)) ومن الناس من افتتن بالمشعوذين والدجاجلة الأفاكين، ومنهم من هو مفتونٌ بمستقبل الأبراجِ. جاء في الصحيحين عن ابن مسعودٍ قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندا، وهو خلقك)).. الحديث.
عباد الله، إن من تمام التوحيدِ محبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله. ومن حقق التوحيد الخالص نال السعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. والمقصود بالظلمِ في الآية كما فسره نبينا صلى الله عليه وسلم هو الشرك، فمن حقق التوحيد الخالص كان له الأمن والهداية التامّة في الدنيا والأمن والهداية التامة في الآخرة، ومن حقق التوحيد قولا وعملا دخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة)).
وإن من ثمراتِ التوحيدِ عباد الله أن الله يكون مع العبدِ يحفظه وينصره ويحوطه بعنايته، فمن كان مع الله كان الله معه. ومن حفظ الله في أوامره ونواهيه حفظه الله في نفسه وخاصته.
ولكم في ذلك حديث الثلاثةِ الذين أطبقتِ الصخرة عليهم الغار، فدعوا الله بصالحِ أعمالهم فكشف الله ضرهم.
وإن من آثارِ التوحيدِ عباد الله، العزة في الدنيا فيرى المسلم أنه عزيزٌ بما يحمل في قلبه من توحيدٍ لله، فهذا ربعي بن عامر يدخل على رستم وهو في أعظم حلةٍ له، ويأتي هذا الأعرابي الذي ما عرف رستم، ولكنه عرف الله ووحد الله، يأتي بثيابٍ صفيقة وسيف وفرسٍ قصيرة، لا ينزل من فوقها حتى يدوس بها بساط رستم، ثم يتقدم ويشق بعض الوسائد ليربط دابته ثم يتقدم يتوكأ على رمحه فوق النمارق، يخرقها برمحه المثلم، ويقول كلمته المشهورة، من مصدر العزةِ والرفعة، عظموا الله فعظم الله شأنهم، ووحدوا الله فوحد الله قلوبهم، قال له رستم وهو ينظر إليه مالذي جاء بكم ؟ فقال في عزةٍ وشموخ: (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادةِ الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ،ومن جور الأديان إلى عدلِ الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعودِ الله).
إنها العزة عباد الله، يرى المسلم الموحد أنّ الدنيا كلها رحابه وأنها موطن دعوتِه فهذا عقبة بن نافع يقول: بعد ما وقف على فرسه على شاطئ المحيط: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته بفرسي. قلوبٌ تعيش هم الإسلام وتحيا للإسلام وتموت للإسلام قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) لو ترك كل مولودٍ على فطرته لكان بطبيعته موحدا لله فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى فَطَرَ ?لنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ?للَّهِ ذَلِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30]. فربوا أبناءكم عباد الله على توحيد الله، لا يرون منكم ما يخالف التوحيد من الأقوال والأفعال، وعلموهم التوحيد واربطوهم بالله وخوفوهم به وحده، وعلموهم سؤال الله وطلبِ الحاجاتِ منه وحده، ربوهم على المحافظةِ على الصلوات، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث يقول مربيا وموجها عبد الله بن عباس: ((يا بني إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لواجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
ارقوا أنفسكم بأنفسكم، وارقوا أبناءكم، وتداووا بكلام الله، ففيه الشفاء، إذا خالط القلب توحيدٌ وإيمانٌ بالله ويقين، علقوا القلوب بالله ولا تعلقوها بأحدٍ غير الله، ولا تكثروا الشكوى والأنين،فإن كل ذلك مما يضعف التوحيد في القلوب، لقد كان الموحد يقرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَداً [الجن:18]. تحول هذه الآية بينه وبين الخلقِ جميعا، وتسد عليه طريق الرغبة فيما عند العباد، فترى المصائب تمر به جميعا، فلا يدل مخلوقا على مكان ألمه، ولا يكشف لغير الله عن موضع علته، ولا تسمع منه أذنٌ مخلوقةٌ قولة:آه، تى لقد كان تسقط من أحدهم عصاه، فلا يقول لأحدٍ: ناولنيها. كيف لا، وقد بايعهم المصطفى صلى الله عليه وسلم على ألا يسألوا الناس شيئا.
اللهم اجعلنا من عبادك الموحدين، الذين لا يدعون إلا إياك، ولا يرجون إلا إياك، وإياك نعبد، وإياك نستعين.
اللهم وفقنا لعمل الصالحات والإكثارِ من الطاعات، وارزقنا الإخلاص في النيات، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
(1/1808)
عيد الفطر 1421هـ: مفاهيم ينبغي أن تصحح
التوحيد
الألوهية
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
1/10/1421
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد فرحة لأهل الإسلام. 2- العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. 3- رسول الله
يعلم الصحابة أنواعاً من العبادة التي يذهل عنها الناس. 4- ضمور معنى العبادة عند بعض
المسلمين. 5- آثار المفهوم الخاطئ والقاصر للعبادة. 6- دعوة لتصحيح هذا المفهوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى واعتصموا بالله فإنه نعم المولى.
عباد الله: نحن نفرح بهذا اليوم لأن الله جعله فسحةً لنا أهل الإسلام، فعيدنا اتباعٌ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه ربه ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الذل لغير الله إلى العز والشرف والرفعة في التذلل والتعبد لله. خلق الله الخلق حنفاء على ملة مستقيمة، وفطرة سوية فاجتالتهم الشياطين وزينت لهم اتباع الهوى واللهث خلف الشهوات، فبعث الله الرسل مبشرين للمؤمنين بالجنات، ومنذرين للكافرين من الدركات، فصححوا المفاهيم وبينوا السبيل وأوضحوا الطريق للسالكين، فكان الناس فريقين: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.
ولذا - عباد الله - فإن البشرية إنما تسقط بسقوط مبادئِها، وإن المبادئ لا تنهار من قلوب الناس إلا عندما تنحرف مفاهيمها. فحينما ينحسر مثلاً مفهوم العبادة في نطاق الشعائر التعبدية وحدها فإن هذا انحراف في الفهم غريب وخاطئ وخطير.
ولذا لزاماً علينا عباد الله أن نفهم معنى العبادةِ كما فهمَها سلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم من أن العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك كله من العبادة. وكذلك حب الله وحب رسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادات لله.
بهذا الفهم الواسع الشامل نفهم معنى قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. إن مفهوم العبادة يشمل كل نشاط في حياة الإنسان قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
إن العبادة الصحيحة هي التي ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، رباهم عليها بسيرته العظيمة التي يرونها بين ظهرانيهم وقد تمثلت في عبوديةٍ لله عز وجل عبودية كاملة، فيتأسون بها كما قال الله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]. ويربيهم بتوجيهاته المباشرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [1] وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله)) ، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)). قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً أو تصنع لأخرق)) ، قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس فإنها صدقة)) [2].
وعن أبي ذر أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)) [3]. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك)) [4].
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو دابة إلا كان له صدقة)) [5]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجر ما أنفقت، ولزوجها أجر ما اكتسب، ولخازنه مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض)) [6] وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) [7] وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها)) [8] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) [9].
كل ذلك عباد الله من التوجيهات المستفيضة التي تدل على أن مفهوم العبادة يشمل جميع مجالات النشاط الإنساني، فلك يا عبد الله في كل وقت عبادة، وفي كل مكان لك عبادة، وكل حال وكل وصف يا عبد الله لك فيه عبادة. عبادات مختلفة متنوعة، بعضها شعائر مفروضة ذات أوقات محدودة، وبعضها معاملات مفتوحة تشمل كل نشاط الإنسان: السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والعلمي والحضاري.
هذا الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) [10].
فكانوا يرون أن النوم عبادة كما يرون أن القيام عبادة. فالعبادة عندهم إيثار مرضاة الله في كل وقت وحال. ثم جاء في أعقاب الزمان من أساء فهم العبادة، وجعلها محصورة في الشعائر التعبدية فحسب.
فيرى أن له أن يصلي، ولا يحكم بشرع الله.
وله أن يصوم، ويتعامل بالربا.
وله أن يحج، ويختلط بالنساء ويمازحهن وربما يزني.
وله أن يقول: لا إله إلا الله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله.
عباد الله، إن هذا الفهم العقيم الذي انتشر شره وتأججت ناره، أفرز لنا شرائح منتنة من الناس، شرائح وصفهم النفاق، واسمهم في عصرنا: العلمانيون، ذابت شخصياتهم في الغرب الكافر، وتخلل قلوبهم حبه وموالاته، وأعجبوا بما هم عليه من العلم بالمخترعات والإبداع في المصنوعات، فأصبحوا يرددون ما يقولون، ويتبعون ما به يأمرون رغبة ورهبة، حتى أصبح المعروف في أعينهم منكراً والمنكر معروفاً، فأصبحوا يرون أن تحكيم شرع الله رجعية، وأن الجهاد في سبيل الله إرهابٌ يجب القضاء عليه، وأن معاداة الكافرين وموالاة المؤمنين عنصريةٌ لا مبرر لها.
عباد الله، إن حصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية فقط أمرٌ خطير تسبب في أمور عظيمة من أهمها: أن الشعائر التعبدية صارت تؤدى بصورة تقليدية عديمة الأثر والفائدة حين عزلت عن بقية أمور الإسلام.
فالصلاة التي أخبر الله عز وجل عنها بقوله: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] لم تعد ذات أثر واقعي في حياة مؤديها من الناس حيث لم تعد تنهاهم عن الفحشاء والمنكر. وما كان لها أن تحدث ذلك الأثر لولا أنها حصرت العبادة في أداء الشعائر التعبدية فحسب.
ومن ذلك تهاون الناس في بقية جوانب العبادات الأخرى حتى أصبحت عند بعضهم ليست من العبادة في شيء.
حين ترى من المسلمين من يصلي الفروض جماعة في المسجد ثم يخرج ويحلف على عتبة المسجد كاذباً، ويغش في بيعه وشرائه ويحتال في معاملاته ويأكل الربا ويقع في أعراض الناس، ثم تراه سادراً في ذلك مرتاح الضمير قد أسكت وخزات ضميره وتأنيب نفسه بما نقره من ركعات.
ومن ذلك العناية بالجانب الفردي الشخصي وإهمال الجوانب الاجتماعية، فتجد من الناس من يعتني بالآداب الفردية المتعلقة بالذات أكثر من عنايتهم بالآداب الاجتماعية المتعلقة بالآخرين، فقد يكون في ذاته نظيفاً ولكنه لا يبالي أن يلقي القمامة في طريق المسلمين، ناسياً أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وقد يكون المسلم مراعياً لأحكام الطهارة وشروطها في نفسه، ولكنه لا يبالي أن يلوث للناس طرقهم وأماكن جلوسهم ويخل بالآداب الاجتماعية التي أمر بها الإسلام. وهذا الأمر طبيعي وقوعه حين ينحصر مفهوم العبادة في الشعائر وحدها.
وإن من آثار هذا المفهوم الخاطئ للعبادة إقامة العبادة مقام العمل، والاكتفاء برسومها وشعائرها وبما أحدث فيها من بدع. فقراءة القرآن وتلاوته لفظاً أصبح بديلاً عن العمل بما فيه من آيات الجهاد والحكم بما أنزل الله واستثمار ما في الكون من نعم الله، مع أن ذلك من العبادة. فأصبح القرآن للقراءة في المآتم وافتتاح الاحتفالات والبرامج وإغلاقها وأصبح يتكسب من ورائه.
عباد الله، إن عزل كثير من الناس أنفسهم داخل الدائرة الضيقة لمفهوم العبادة من أعظم البلايا، إنهم لم يعودوا يبالون بظهور المنكرات من حولهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، بل وصل الأمر إلى اتهام من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالتطفل وإقحام النفس في شئون الآخرين.
ومع خروج الأخلاق من دائرة العبادة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تفككت عرى الأخلاق وضعفت الروابط الاجتماعية كالتعاون على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي وصلة الأرحام، وتخلخلت الأسرة واهتزت القيم التي تقوم عليها، فلم يعد الشعور بالمسئولية عند رب الأسرة وربتها نابعاً من دائرة العبادة كما هو المفترض، بل إن تدبيرهما لأمر الأسرة ورعايتهما لها لا يمكن أن يخطر لأحد منهما على بال أنه من العبادة لله عز وجل. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) [11].
وحين خرجت عباد الله، حين خرجت الأخلاق وخرج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من دائرة العبادة كان ذلك سبباً جوهرياً في سقوط الأخلاق فيما بعد، فسقط في كثير من مجتمعات المسلمين الحجاب، وفشا فيهم الاختلاط، وظهر الفساد العريض نسأل الله السلامة والعافية.
وما هذه المجالس النسائية، والاختلاط في الأسواق والأماكن العامة والخاصة، والمطالبة بقيادة المرأة للسيارة، وإظهار مفاتن المرأة على الشاشات وصفحات الجرائد والمجلات واستخدامهن وسيلة لترويج أفكارهم المسمومة وسلعهم الموبوءة إلا أثر من آثار الانحراف لمفهوم العبادة.
أستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، ونعوذ به شرور النفوس ونزغات الشياطين.
[1] أخرجه مسلم في : الزكاة ، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في : الإيمان ، باب: بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (84).
[3] أخرجه الترمذي في : البر والصلة ، باب: ما جاء في صنائع المعروف (1956) ، والبخاري في الأدب المفرد (891) وصححه ابن حبان (2/286-529) ، والألباني في الصحيحة (2/112-572).
[4] أخرجه البخاري في : الدعوات ، باب : الدعاء يرفع الوباء والوجع (6373) بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في : المزارعة ، باب : فضل الزرع والغرس إذا أكل منه (2320) ، ومسلم في : المساقاة ، باب: فضل الغرس والزرع (1553) بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في : الزكاة ، باب : من أمر خادمه بالصدقة ولم يناول نفسه (1425) ، ومسلم في : الزكاة ، باب : أجر الخازن الأمين والمرأة إذا تصدقت (1024) من حديث عائشة رضي الله عنها. وهذا لفظ أبي داود في : الزكاة ، باب : المرأة تتصدق من بيت زوجها (1685).
[7] أخرجه الترمذي في البيوع ، باب : ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياهم (1209) ، والدارمي في البيوع ، باب : في التاجر الصدوق (2539) والدارقطني (291) ، والحاكم (2/6) من طريق الحسن عن أبي سعيد، قال الترمذي: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه" ، وحكم الحاكم بانقطاعه ، لكن له شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجه في التجارات ، باب: الحث على المكاسب (2139) ، والحاكم (2/6) ، قال الذهبي في الميزان (5/500) : "حديث جيد الإسناد صحيح المعنى". وأوردهما الألباني في صحيح الترغيب (1782-1783).
[8] أخرجه أحمد (3/191) واللفظ له ، والطيالسي (2068) ، وعبد بن حميد (1216) ، والبزار (1251- كشف الأستار) وصححه المقدسي في الأحاديث المختارة (7/264-2713) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/63): "رواه البزار ورجاله أثبات ثقات".
[9] أخرجه البخاري في : الجنائز ، باب : الأمر باتباع الجنائز (1240) واللفظ له ، ومسلم في : السلام ، باب : من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
[10] أخرجه البخاري في : المغازي ، باب : بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع ( 4342 ) واللفظ له ، ومسلم في : الإمارة ، باب : النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (1824) بنحوه.
[11] أخرجه البخاري في : الجمعة ، باب : الجمعة في القرى والمدن (893) ، ومسلم في : الإمارة ، باب : فضيلة الإمام العادل (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
عباد الله، إن ما سبق ذكره من الآثار السيئة لحصر مفهوم العبادة في النطاق الضيق غيض من فيض، ورحم الله من قال: "الواقع أنه لو كان حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر من جملة الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء" اهـ.
وهذا هو المعنى الشامل الذي وعاه سلف الأمة وطبقوه في حياتهم وعملوا به في واقع الأرض، فدانت لهم الممالك وخضعت أمامهم الطواغيت ومكن الله لهم في الأرض ورفعوا راية الإسلام خفاقة فوق بقاع شاسعة من المعمورة.
ويوم تغير ذلك المفهوم وانحصر في دائرة ضيقة فقد فترت الهمم وخارت العزائم عن القيام بأمور الإسلام كله فوقع الضعف والهبوط. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: "إذا تبين هذا فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم" اهـ [1].
عباد الله، إن ما حل بالمسلمين من تأخر حضاري وعلمي واقتصادي واجتماعي وفكري وسياسي... الخ لم يكن سببه أنهم مسلمون ولم يكن سببه حتميات تاريخية، إنما سببه ضعف السلوك ثم فساد التصور وإفراغ الإسلام من محتواه:
فيوم أن كانت وَإِنِ ?سْتَنصَرُوكُمْ فِى ?لدّينِ فَعَلَيْكُمُ ?لنَّصْرُ [الأنفال:72]. وكانت وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]. يوم أن كان ذلك عبادة، لم يجرؤ أحد على احتلال أرض المسلمين واستلاب خيراتها، ويوم أن غلف أعداء الله الجهاد بغلاف الإرهاب سلبت فلسطين، واعتدي على المسلمين في كشمير والشيشان وغيرها كثير، ولكن:
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الثكالى اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
ويوم كان طلب العلم عبادة لم يكن هناك تخلف علمي، بل كانت الأمة المسلمة هي أمة العلم التي تعلمت أمم الكفر في مدارسها وجامعاتها.
ويوم كانت فَ?مْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ [الملك:15] عبادة، كانت المجتمعات الإسلامية أغنى المجتمعات في الأرض.
ويوم أن كانت ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) عبادة، وكان من تولى أمر المسلمين يستشعر أنه راع ومسئول عن رعيته لم يكن للفقراء في المجتمع الإسلامي قضية لأن العلاج الرباني لمشكلة الفقر كان يطبق في المجتمع الإسلامي عبادة لله.
ويوم أن كانت وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء:19] عبادة، لم تكن للمرأة قضية، لأن كل الحقوق والضمانات التي أمر الله لها كانت تؤدى إليها طاعة لله وعبادة.
ولن يصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلا بد عباد الله من الرجوع للفهم الصحيح للعبادة، إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [الشرح:7، 8]. يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
فقوموا بما أمركم الله من توحيده ودعائه وحده، والكفر بالطواغيت والمعبودات من دونه، وجاهدوا في سبيل الله، ووالوا أولياء الله وعادوا أعداءه، واشكروا الله على ما منّ به عليكم من إكمال العدة، واستكثروا من الأعمال الصالحة صلوا الأرحام، وبروا الآباء، ووقروا الكبار، وارحموا الصغار، وأدخلوا السرور على المسلمين.
وصلوا العبادة بالعبادة، واستدركوا فضل صيام الدهر بإضافة صيام ستة أيام من شوال، قال صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) [2].
ولا تطغينكم فرحة العيد فتأتون فيه بالمنكرات من ممازحة غير المحارم من النساء أو مصافحتهن، أو الإسراف في المأكل والمشرب والملبس، وراقبوا أبناءكم وبناتكم فيما يلبسون ويقلدون، وقد انتشر في هذه المرة أنواع غريبة من الألبسة وقصات الشعر التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ومن ذلك القزع، وكذلك البنات اللاتي تجاوزت الواحدة منهن سن الثامنة والعاشرة والثانية عشرة وكأنها رضيعة، ملابسها فاضحة، وزينتها فاتنة، وأولياء أمرها يرون أنها لا تزال صغيرة، وقد جاء عن عائشة: (إذا بلغت البنت التاسعة فهي امرأة) [3].
وتخلصوا من المظالم قبل أن تزل الأقدام فلا يرى العبد أمامه إلا ما قدم، ووفوا الأجراء حقوقهم وأعطوا العاملين أجورهم، ولا تدخلوا الكفار جزيرة العرب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحلها لكافر، واستعملوا إخوانكم المسلمين تقوون به إخوانكم وتواسون به المسلمين.
اللهم اجعل عيدنا فوزاً برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا..
[1] مجموع الفتاوى (10/176).
[2] أخرجه مسلم في : الصيام ، باب : استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً (1164) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[3] أخرجه الترمذي في : النكاح ، باب : ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج (1109).
(1/1809)
الخمر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عاصم بن لقمان يونس الحكيم
جدة
3/2/1421
جامع جعفر الطيار
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العقل. 2- الشيطان يسعى في إفساد العقل. 3- جاهليون لكنهم لا يشربون الخمر! 4- عقوبة شارب الخمر في الدنيا والآخرة. 5- الملعونون في الخمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس، وهي النفس والعقل والمال والنسل والدين، وكل ما يتعدى على تلك الضروريات الخمس فهو من الكبائر، وحديثنا اليوم عن العقل، ذلك الذي فضل الله تعالى به البشر على الحيوانات والجمادات.
فالعقل جوهرة ثمينة يحافظ عليها العقلاء، إذ بدونه هم كالعجماوات والبهائم، بل إن من البشر من هم أدنى مرتبةً من تلك البهائم لأنهم فقدوا نعمة العقل كما قال الله تعالى عن الكفار: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لاْنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]. فهم لم ينتفعوا بأسماعهم ولا بعقولهم التي خلقها الله لهم، فصاروا كالأنعام: لا هَمَّ لهم إلا الأكل والشرب، فكان ذلك سبب دخولهم النار كما قال تعالى حاكياً عنهم: وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [الملك:10].
ومنذ قديم الزمان، تفطن إبليس إلى حيلة قذرة يُفقد بها الناس عقولهم ويجعلهم يتردون في أودية التيه والضلال، فزين لهم شرب الخمر وحببها إلى قلوبهم، كي يحول بينهم وبين دخول جنة ربهم، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91].
والخمر سُميت خمراً لأنها تَخْمُر العقل وتغطيه، كما تُغطي المرأة وجهها بخمارها، لذا كان المشركون في الجاهلية يعاقرون الخمر ويشربونها شرب المُغْرَمِ بها حتى الموت، لأنها تنسيهم الواقع المرير وتجعلهم في غفلة دائمة.
فهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه، كان يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول:
إذا مت فادفني إلى جنب كَرْمَةٍ تروي عظامي بعد موتي عروقُها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
وقد كان من المشركين من يمتنع عن شربها لما ظهر له من أبين الأدلة وأوضحها أنه ضارة خبيثة، فهذا قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه، كان شراباً للخمر مولعاً بها، ثم حرمها على نفسه وامتنع عن شربها، والسبب في ذلك أنه سكر ذات يوم في الجاهلية، فغمز عكنة ابنته وهو سكران، وشتم والديه وأعطى الخمار مالاً كثيراً، فلما أفاق وأخبروه بما فعل حرمها على نفسه وقال:
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفي بها سقيماً
ولا أعطي بها ثمناً حياتي ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها وتجنيهم بها الأمر العظيماً
والخمر محرمة بالقرآن والسنة والإجماع والعقل الصحيح، فلقد جاء تحريم القرآن للخمر تدريجياً وعلى ثلاثة مراحل، جاء في آخرها: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91]. فقال الصحابة انتهينا انتهينا، وجاء في صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسكر خمر وكل خمر حرام)) ، وقد أجمع المسلمون على تحريمها وعلى أن شاربها يُحد ثمانين جلدة وإن لم يسكر، سواءً شرب قليلاً أو كثيراً.
وأما العقل الصحيح فنحن نرى أن عقلاء العالم يمتنعون عن شربها كما فعل قيس بن عاصم المِنْقَري رضي الله عنه، وكيف لا يمتنع عنها العقلاء وهي تجعل منهم أضحوكة للناس؟ روى القرطبي في تفسيره أن رجلاً شرب الخمر فسكر فبال، فجعل يأخذ بوله ويغسل به وجهه ويقول: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، ويقول الحسن البصري رحمه الله: لو كان العقل يُشترى لتغالى الناس في ثمنه، فالعجب كل العجب فيمن يشتري بماله ما يفسده.
أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، تقدم معنا أن عقوبة شارب الخمر في الدنيا أن يجلد ثمانين جلدة، وأما عقوبته في الآخرة فهي أعظم وأشد، فمنها اللعن والطرد من رحمة الله تعالى، فعن ابن عمر والحديث متفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها، حُرمها في الآخرة)).
ومن العقوبات دخول النار، جاء في سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وِسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً. فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ. فَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ عَادِ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا رَدْغَةُ الْخَبَالِ؟ قَال: ((عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ)) ، ومن ذا الذي يضمن أن لا يتوفاه الله وهو سكران والعياذ بالله؟
عباد الله، لقد مر علينا في بلادنا هذه زمان كان الذي يشرب فيه الدخان يُقاطع ويُهجر ويُرمى بالفسق ولا تُقبل إمامته للناس، ثم أدخل أعداء الله أنواعاً وأشكالاً من المسكرات والخمور، فوقع فيها الغافلون البعيدون عن رب العالمين، فأصبح الناس يحذرون من الخمور وتساهلوا في الدخان حتى ترك المسلمون الإنكار على شاربيه، والآن تسلط أعداء الله على كل البلاد الإسلامية بلا استثناء، بمختلف أنواع السموم البيضاء من مخدرات ونحوها، حتى تساهل الناس في الخمر وشربها، فلم نعد نسمع من ينكر على شارب الخمر كما كنا نسمع من قبل، ولا شك أن المعاصي يرقق بعضها بعضاً.
والمخدرات كالخمر في التحريم إن لم تكن أعظم، يقول شيخ الإسلام: "إن الحشيشة حرام، يُحد متناولها كما يُحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تُفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد".
ولقد أمر الله تعالى باجتناب الخمر، واجتنابها أعظم من النهي عن شربها لأن الاجتناب يشمل النهي عن الشرب ويشمل أيضاً مخالطة من يشرب، وقد جاء في سنن الترمذي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدار عليها الخمر)) ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن كل من يتعامل مع الخمر فقال كما في سنن أبي داود من طريق ابن عمر: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)) ، فهل بعد هذا كله يشرب عاقل الخمر أو يتعاطى المخدرات؟
فاتقوا الله عباد الله وابتعدوا عن هذه القاذورات والنجاسات، وامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، بلغوا عن من يتعاطى أو يروج لشيء منها، تفقدوا أغراض أولادكم بين الفينة والأخرى، تفقدوا رفاقهم وأحوالهم، فإن تعاطي تلك الأمور لا يكون إلا عن طريق رفاق السوء، تجنبوا إعطاءهم أموالاً فوق حاجتهم لأن الترف وكثرة المال الزائد يؤدي بالشاب الذي لا يعرف خوف الله ولا يصلي في المسجد إلى الانحراف والعياذ بالله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
(1/1810)
فلسطين جراح تتجدد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
24/2/1422
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف المسلمين وتشتت دولتهم. 2- غياب كثير من المسلمين عن قضايا أمتهم. 3- فلسطين جرح في جسد الأمة على مدى ثلاث وخمسين سنة. 4- تآمر الغرب النصارى مع اليهود ضد المسلمين. 5- إرجاع فلسطين التي أخذت بالقوة لن يكون إلا بالقوة. 6- اليهود قتلة الأطفال. 7- يجب على المسلمين أن يوحدوا صفوفهم لنصرة إخوانهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، أيها الأخوة المؤمنون:
ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانسٌ متماسك، يشد بعضه أزر بعض، ويأرِز إلى عقيدته الجامعة كلما هدد كيانه خطر، أو أولهم عليه خطبٌ، منذ فقدان الأندلس، ومن ثَم ضعف وسقوط الخلافة العثمانية أخذت أرض الإسلام تنتقص من أطرافها، ففُقِدت أقطار وأمم، وانتهكت محارم ومقدساتها، ودارت رحى الحرب على المسلمين، وتداعت عليهم الأمم والشعوب، وصدق صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنت يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [أخرجه أحمد وأبو داود].
نعم إخوتي إنه الوهن!! إنه الوهن!! وهو سر الضعف الأصيل حين يعيش الناس عبيداً لدنياهمـ عشاقاً لأوضاعهم الرتيبة، تحركهم الشهوات وتموج بهم وتسيرهم الرغائب المادية، إنه الوهن حين يكره المسلمون الموت، ويؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، ويؤثرون حياة يموتون معها كل يوم موتات، على موت يحيون بعده حياة سرمدية، جبن في النفوس والقلوب، وانفعالية في الإرادة والتصرفات، وغرامٌ بالمتع الرخيصة في أدق الساعات وأحلك الأيام، وافتتان بالملاهي والرياضة والمعازف، وجبن عن المغامرة والإقدام، وشرع الحكم الإسلامي بالتراجع ومرتكزاته العلمية بالتداعي، فحلت البدع محل الإبداع، والتقليد محل التجديد، وزاحمت ظلمات الخرافة بدور التوحيد، وقامت رايات القومية العربية أو الاشتراكية أو الناصرية أو البعثية، تلكم باختصار إخوتي وصف لحال أمتنا العربية الإسلامية التي تبلّد حسّها بالرغم من كثرة مصائبها التي طالت شعوبها وأراضيها، بل وحتى مقدساتها، وتغيّب الأمة عن قضاياها لتفقد الخلق والإرادة، وتباع الأمة وحقها بمنافع شخصية سلطوية، وتزعزع روح التدين والأخلاق، فكيف كانت النتيجة؟ نعم كيف كانت النتيجة؟ لقد أصبحت الشعوب العربية والإسلامية غثاءً وركاماً لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة في مواجهة أعدائه، هذا إن عرف عدوّه حق المعرفة، ترى ما أسباب تبلد الشعور العربي، أحداث مأساوية، ودماء وأشلاء، أطفال تقتل في مهدها، ونساءٌ تنتهك حرماتها، وبيوت تهدم ليلاً فوق أهلها، أشجار الزيتون تقتلع من أرضها، بل أعظم من كل ذلك مقدسات على وشك الهدم بل دُنست، وأما سبيل المقاومة أمام المدرعة والدبابة والجند المدججين فهو الحجر، نعم لم يملك المسلمون سوى الحجر، إنها فلسطين حيث صور الدمار والدماء والجثث التي لا تملك وأنت تطالعها أو تسمع عنها إلا أن تتساءل ترى أين غابت نخوة المسلمين؟! أو نخوة العرب؟! أين غابت الثروات؟! هل تبلد الشعور في نفوسنا؟! ترى هل أمتنا غير تلك الأمة التي نطالع مجدها ونقرأ تاريخها الحامل بالانتصارات؟! إنها أسئلة بلا إجابة.
أمتي هل لك بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم
أتلقاك وطره في مطرق خجلا من أمسك المنصرم
كيف أغضيت على الذل ولم تنفضي عنك غبار التهم
رب وامعتصماه انطلقت ملئ أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يعرف طهر الصنم
لا يُلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
إنها نكبة النكبات، إنها فلسطين في زمن التخاذلات، فلسطين، التي يدمى جرحها كل يوم فماذا فعلنا لها، ماذا قدمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات ؟ حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبت ثم انطفأت، ثلاث وخمسون سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود مع نكبة فلسطين، ثلاث وخمسون سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نير احتلال الصهاينة اليهود، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا العربية من نكبة إلى نكسة إلى تشرذم إلى خلافات، ثلاث وخمسون سنة وأمتنا الإسلامية تنهش من أطرافها وأوساطها ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
ثلاث وخمسون سنة وإعلامنا العربي منشغل عن قضاياه المصيرية بالفن والرياضة ومسلسلات العهر والفجور، والاستهزاء بمسلمات ديننا الإسلامي، ثلاث وخمسون سنة وكل راية رفعت إلا راية الإسلام والجهاد في سبيل الله، ثلاث وخمسون سنة وأبناء فلسطين في رباط دائم، ثلاثة وخمسون عاماً وبلدٌ إسلامي في الأرض المباركة [فلسطين] يعيش آلاماً وجراحاً، يعيش نكبات لم ينكب مثلها المسلمون منذ قرون، يعيش طرداً وحشياً لشعب آمن في أرضه وعمرانه، يعيش جريمة دولية تسمح لعصابات يهود أن تمارس القتل والتشريد بلا تمييز، ثلاث وخمسون سنة تعرت فيها الفدائيات المهترئة والمنظمات المتخاذلة وانكشفت فيها أكذوبة السلام وخداع أوسلو ومدريد، وكل اللقاءات والمؤتمرات واللجان والمبعوثين ورعاة السلام المزعومين، ثلاث وخمسون عاماً والحكاية ما تزال في بدايتها، غربٌ متآمر جوارٌ متخاذل، وأموال تتدفق على المعتدي الصهيوني.
ثلاثة وخمسون عاماً والبرابرة اليهود مع الخونة، والمتخاذلين من أعوانهم ينفذون نكبات جديدة من دير ياسين إلى دير البلح، وكفر قاسم وإحراق المسجد الأقصى ومذبحة صبرا وشاتيلا وعناقيد الغضب في كانا، إنه حاضرٌ يرتد إلى الماضي فكيف بدأت القصة؟!
أيها المسلمون: كان اليهود شراذم وأقليات في بقاعٍ شتى من العالم فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدية، فأنشأو حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية وبدعم من قادتهم واجتمع هدف اليهود والنصارى اللذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين [كهرتزل ونوردو ووايز مان]، استطاعوا في مفصل تاريخي أن يعقدوا مؤتمر بازل قبل حوالي مائة سنة الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية التي نجحت بالتحالف من الغرب بعد أن سيطرت على غالب ثرواته وتحكمت في إعلامية بأن كثفت الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومن ثم استصدار وعد وزير خارجية بريطانيا بلفور عام سبعة عشر وتسعمائة وألف ميلادية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين المستعمرة حينذاك من بريطانيا، هذا الوعد بأرض مستعمرة في فلسطين لتجمع شتات اليهود، وزادت المصيبة وعظمت حين أسقطت دولة الخلافة الإسلامية في عام أربعة وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية.
وفي نهاية المطاف نجحت الصهيونية ليعلن بن غوريون إنشاء كيان دولة يهودية في فلسطين عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ميلادية، تسيطر على ثمانية وسبعين بالمائة من أرض فلسطين، هذه الدولة النشاز التي سارع إلى الاعتراف بها عدد من دول العالم الكافرة بمنظماته وهيئاته، وفي الوقت نفسه الذي يجتمع فيه اليهود شُرّد من مسلمي فلسطين حينذاك حوالي سبعمائة وخمسين ألفاً الذين ما زال معظمهم يعيشون في مخيمات بائسة بعد أن أصبح تعدادهم ثلاثة ملايين ونصف لاجئ، وفي سنة سبع وستين وتسعمائة وألف ميلادية استكمل الصهاينة احتلال باقي فلسطين مع عدد من الأراضي العربية.
ثم أصبحت إسرائيل دولة اعترف بها حتى بعض دول العالم الإسلامي وتعاملوا معها وتبادلوا معها السفراء والمكاتب التجارية في نفس الوقت الذي يقتل فيه المسلمون داخل فلسطين، تلكم هي قصة ثلاثة وخمسين عاماً من الصراع مع يهود، كان عدد اليهود في بدايته قليلاً وكان مشروعهم صغيراً، بإمكان المسلمين حينذاك القضاء عليه في مهده لو انتبهوا له وما انشغلوا عنه، لكن المشروع توسّع ولعله من قدر الله جل وعلا أن يضع هذه المنطقة في أكون الصراع لتجاهد في سبيل الله وتخرج العدو من الأراض المباركة، لقد استنجد أهل فلسطين في بدايات صراعهم مع اليهود بإخوانهم العرب والمسلمين وقامت التجارب الجهادية لأمة لا زال فيها عرق ينبض ورجال لا يقبلون الضيم، واشترك علماء وشباب ضحوا بأنفسهم في سبيل الله لمقاومة دولة يهودية، ودفاعاً عن المقدسات لكنها أُجهضت وحوربت من القريب قبل البعيد، وكان مسلمو فلسطين يصرخون ويستغيثون ويبيِّنون المؤامرة تلو المؤامرة فعقدت المؤتمرات الكثيرة وناقشوا القضية فتمخّض الدعم بالمال فقط إن وُجِد، واستجاب العالم العربي بدوله ومنظماته للجانٍ تأتي وتذهب ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، لجانٌ ومندوبون برعاية كافرة من هيئة الأمم أو مجلس الأمن، وكانوا يصدرون القرارات ويعدونه ويحاورون ويناورون، ويَعِدُون العرب ولا يفون، والعرب لا يزالون ينتظرون، واليهود يماطلون بل استفادوا تسليحاً وتدريباً ونحن في غفلة ضائعون، وفي الوقت ذاته الذي كان يزداد فيه العرب ضعفاً وتخاذلاً فإن اليهود الصهاينة يزدادون قوة وتمكيناً، وضعفت المقاومة تجاه اليهود بل أصبحت الشعوب العربية ممنوعة حتى من الهتاف ضد إسرائيل، وتقمع لذلك.
ذلكم هو تاريخ القضية التي ما زالت تتنقل من نكبةٍ إلى نكبة.
أيها الأخوة المؤمنون: إنها دعوة للتأمل ودراسة الحال بحثاً عن العلاج، فإن المتأمل في مسيرة هذا الصراع تصدمه حقائق كبيرة يراد تصغيرها، ومعالم خطيرة يراد تحقيرها، منها أن الكيان الصهيوني الذي جعل الدين ركيزتها تنطلق منها السياسة، ظل يتنقل خلال مراحل الصراع من إنجازٍ إلى إنجازٍ ومن قوةٍ وانتشار، إلى مزيد من القوة والانتشار، في الوقت الذي ظلت فيه أكثر الكيانات العلمانية التي تصدرت للمعركة تتخبط في سيرها متنقلة من فشلٍ إلى فشل، ومن تنازل وخسارة إلى مزيد من التنازل والخسارة.
إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم رايةً واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة، هي أرض الميعاد، فأسمحوا دولتهم باسم نبي هو يعقوب عليه السلام أو [إسرائيل]، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها شعاراً واحداً هو نجمة داود وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى كما يزعمون، إنها ثلاثةٌ وخمسون عاماً على قيام دولة يهودية أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع، والهزائم المنكرة، والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة من اشتراكيةٍ وقومية وتقدمية أو بعثية أو رافضية، إنّ الذي هُزم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسميات أخرى بعيدة عنه مشوّهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام بل العلمانية، الإسلام الذي لم يمكّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.
أيها الأخوة المؤمنون: بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟! هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟! هل لليل فلسطين من آخر؟ وهل لفجرها من موعدٍ؟! إن اليهود بما يملكون من قوى سياسيةٍ أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية أو نظام مؤسسات هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس، لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامنٌ في نفوسنا، والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا، وإعلامهم ونظامهم ينسج الحقيقة من وجهة نظرهم وحدهم.
إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر بإذن الله، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر، ومقومات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعاً موسمياً، بل بدأ صراعنا معهم مذ نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريظة وقينقاع وبني النضير وعبد الله بن سبأ وميمون بن ديصان القداح.
إن قضية فلسطين قضية إسلامية بالدرجة الأولى، وإن الصراع سيستمر، وهو صراع بين الإسلام والتحالف الغربي الصهيوني، والجهاد الذي بدأه الشيخ يوسف الجرار وعز الدين القسام وعبد القادر المظفر وفرحان السعدي سيستمر بإذن الله، ويجب أن يعلم المسلمون ألا ثقة بوعود الغرب وأمريكا راعية السلام المزعومة، وأنه من السذاجة وهزال الرؤية أن نستجدي الغرب ليساعدنا عند اليهود أو يوقفهم عن ارتكاب المجازر في حق شعب يعتبرونه [همجياً أو إرهابياً] وإن نكبة مثل فلسطين لا تسترد بالحلول السهلة أو بالمؤتمرات والخبط فقط أو بالجلوس مع يهود في مفاوضات سلامٍ لا تبحث إلا عن رضاء يهود ومصالح يهود، وإن البحث عن حل لهذا الواقع المتردّي هو أول الوسائل للنصر.
أيها الإخوة: لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرق الكلمة، واختلاف الأغراض، وتجاذب الأهواء، لقد برزت فيها الأحقاد، شُغل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قوميات، وتفرقوا في دويلات، لهم في عالم السياسات مذاهب، ولهم في الاقتصاديات مشارب، استولت عليهم الفرقة ووقعت عليهم الهزيمة، بل نهش بعضهم بعضاً وسلب بعضهم حقوق بعض، حتى صيح بهم من كل جانب، فانصرفوا عن قضاياهم الكبرى، واستغل الأعداء الأجواء، وفي هذه الأجواء المظلمة، والأحوال القاتمة يزداد الصهاينة في مقدساتنا عتواً وفساداً وتقتيلاً وتخريباً، يريدون في زعمهم أن يبنوا هيكلهم المزعوم على أنقاض ثالث المسجدين الشريفين، أو أن يجهضوا انتفاضة الحجر لأطفال فلسطين ورجالها ونسائها، ألا ساء ما يزعمون، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والمسكنة لمن وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60].
أيها المسلمون: والله ثم والله لا عز لهذه الأمة ولا جامع لكلمتها إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس بغير دين الله معتصم، به العز والمنعة، وعليه وحده تجتمع الكلمة، ولن يكون لهذه الأمة ذكرٌ ومجدٌ إلا به.
لقد تبين لكل ذي لب أن النزاع مع هؤلاء الصهاينة نزاع هوية ومصير، وعقيدة ودين، وإن حقوق الأمة لن تنال بمثل هذا الخور، لقد أوضحت الانتفاضة كما أوضحت أفغانستان والبوسنة والشيشان، أن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الأقوم والطريق الأمثل لأخذ الحق والاعتراف به، وأيقن المسلمون أن راية الدين إذا ارتفعت تصاغرت أمامها كل راية.
بالجهاد ترد عاديات الطغيان، ويكون الدين كله لله، ويبقى دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما بين يديه من الحق ومهيمناً عليه.
إن حقاً على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع، وتصقلهم الابتلاءات والمحن، وإن بلوى نكبة فلسطين وتكرار ذكرها ينبغي أن يكون دافعاً لنا لا محبطاً محركاً للجهود لا جالباً لليأس من عدم النصر فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ومن الابتلاء ما جلب عزاً، وخلّد ذكراً، وكتب أجراً، وحفظ حقاً، كيف تحلوا الحياة لمن يضيّع دياره، وإذا ضاع الحِمى فهل بعد ذلك من خسارة؟! ولتعلموا أن الكفاح في طريق مملوء بالعقبات الكئود عند أصحاب الحق والكرامة والصرامة ألذ وأجمل من القعود والتخلف من أجل راحة ذليلة وحياة حقيرة، لا تليق بهمم الرجال، وإن صاحب الحق لابد له من المدافعة عن حقه وتهيئة كل أسباب القوة لانتزاع حقه من أيدي الغاصبين، والانتصار لا يتحقق للضعفاء فلا حل إلا بالجهاد ولابد من الإعداد، وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
فاتقوا الله رحمكم الله وتناصروا بدين الله، وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بإخوة الإسلام فالولاء لله ولرسوله وأن يذله الشرك والمشركين واليهود والنصارى...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده... اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الشدائد والنوازل التي أصيب بها المسلمون خلال ثلاثة وخمسين عاماً بل أكثر في فلسطين تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات، وعندما تدلهم الخطوب والأحداث يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والثقة من القنوط، وإن التساؤلات التي تفرض نفسها في حال فلسطين ونكبتها لتبين لنا كيف جبنت الهمم، وضعفت العزائم، وخارت القوى عن تقديم أبسط وسائل النصرة لشعب فلسطين الذي يقصف صباح مساء على أيدي الصهاينة اليهود، والعرب لا يتكلمون بل علّقوا آمالهم على سلام مهترئ يسمى زوراً وبهتاناً سلام الشجعان، أو على مبادرات تؤخر ولا تقدم، وتَعِدُ ولا تنجز، فأي سلام هذا الذي يهدم البيوت ويزرع المستوطنات، ويشرد من الديار ويحاصر الشعوب، ويقتل الآلاف وينتهك المقدسات، سلامٌ يلغي الكرامة ويولي مجرمي الحرب رؤساء ومفاوضين، إنها صورٌ مأساوية للبغي على شعب فلسطين يراها العالم بكل فئاته فلا يحرك ساكناً، حتى الحس العربي تبلّد فما أصبح له أثر، "محمد الدرة" "أمل الخطيب" وغيرهم في فلسطين هل تعلمون من هم؟ إنهم الإرهابيون المتوحشون كما يزعم شارون حين يقصفهم وجنوده في منازلهم وفي طرقاتهم وعلى أسرتهم بدعوى مقاومة الإرهاب، وإنما هم أطفال لم يحركوا ساكناً، والعالم صامت..! إيمان حجو ذات الأربعة أشهر يقصفها اليهود بقذيفة تشق صدرها بدعوى مقاومة الإرهاب في فلسطين بأي ذنب قتلت.
وهي بطفولتها البريئة في مهد جنازتها إنما ترينا جبننا وخورنا عن نصرة قضية فلسطين ونحن صامتون، إنها أسماء أطفال لم تحارب، حتى الحجر لم تقذفه بل ماتت بالسلاح الصهيوني الذي لا زال حتى الآن يهدم البيوت ويقصف الآمنين ونحن عابثون لا هون عن نصرتهم.
إن الله سائلنا ولا شك عما قدمناه من نصرة لهؤلاء الضعفاء الذين خذلهم القريب قبل البعيد، أين أبسط أدوار المناصرة التي نقدمها إلى فلسطين؟! إنه ليس من عذرٍ لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك، ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في أسرتهم، ويهود متسلطون، ثم لا يدعم إخوانه هناك، ولا يتأثر لمصابهم، بل قد يتلهى عنهم بالنزهات والأباطيل فأين أخوة الإسلام؟! بل أين نخوة عرب مصر وعدنان؟ ألم ترووا جنائز الشهداء؟ وتسمعوا بكاء النساء؟ إنه لا عذر لأحد اليومّّ، إنه لا عذر لأحد اليوم.
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرة تواقة لجنان الحور والعين
يا غيرتي أين أنت أين معذرتي ما بال صوت المآسي ليس تشجيني
إن أبسط أدوار المناصرة هي الدعم بالمال للمسلمين في فلسطين، هذا الدعم الذي بدأه قادة هذه البلاد وشجعوه في حملة نصرة انتفاضة الأقصى المباركة، ونحن نسينا هذا الدعم وتغافلنا عنه، كذلك الشعور الدائم بالقضية عبر مقاطعة بضائع اليهود والنصارى التي تحمس لها المسلمون زمناً ثم تغافلوا عنها بالرغم من أثرها الكبير عليهم، ومع ذلك فقد نسيتها أكثر المسلمين، إن أشد ما يواجهه إخواننا في فلسطين من قصف وقتل هو هذه الأيام فهم أشد ما يكونون حاجة إلى نصرة إخوانهم، حتى الدعاء في القنوت الذي أمر به ولاة أمر هذه البلاد.. بخل به بعض الأئمة في مساجدهم، وتثاقله بعض الناس من المصلين، فأين الشعور بالجسد الواحد؟ لقد طالعت قبل قليل بعض صور الدماء والقتلى فلم يستثنوا أحداً، لا طفلاً ولا امرأة ولا عجوزاً، ولا بيتاً، إنها صور مؤثرة تبكي، وعجز الإنسان عن النصرة يقتل أكثر من هذه الصور التي يناشدوننا فيها بالنصرة ولا من مجيب، إن أملنا بالله عظيم في نصرة إخواننا في فلسطين، وأن يهيئ لهم النصر على سواعد الأبطال التي تقذف الحجارة.
إذا البغي يوماً طغى وانتشر فلابد من قذفه بالحجر
ولابد للظلم أن ينجلي ولابد للقهر أن يندحر
أيرضيك يا مبعث الأنبياء ومسرى الرسول الرحيم الأبر
نطأطئ ذلاً من الظالمين فمن ذلنا لا نطيق النظر
يعيث اليهود بأقدارنا ومن يغدرون عدو أشر
(1/1811)
الأسرة في الإسلام
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
15/4/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأسرة نواة المجتمع. 2- اهتمام الإسلام بالأسرة. 3- الأسس التي تقوم عليها الأسرة. 4- أسباب تفكك الأسرة. 5- رسالة الأسرة المسلمة ووظائفها. 6- دعاة تحديد النسل. 7- مسؤولية الأسرة المسلمة. 8- نتاج الأسرة المسلمة. 9- الحملات على الأسرة المسلمة. 10- الاستعداد لقيادة الأسرة. 11- حقيقة القوامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الأسرة المسلمة نواة المجتمع الصالح، فصلاح الفرد من صلاح الأسرة، وصلاح المجتمع بأسره كذلك من صلاح الأسرة.
اهتم الإسلام اهتماماً لا مزيد عليه بشأن الأسرة، وأُسُسِ تكوينها، وأسباب دوام ترابطها، لتبقى الأسرة المسلمة شامخة يسودها الوئام، وترفرف عليها المحبة، وتتلاقى فيها مشاعر المودة والرحمة، قال تعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، ولتعيش الأسرة المسلمة وِحْدة شعور ووِحدَة عواطف قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187].
بيَّن القرآن للأزواج أن كلا منهما ضروري للآخر ومتمم له، قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، ولا يتصور أن تقوم حياةٌ إنسانية على استقامة إذا هُدمت الأسرة، والذين ينادون بحلّ نظام الأسرة لا يريدون بالبشرية خيراً، وقد كانت دعوتهم ولا زالت صوتاً نشازاً على مرّ التأريخ.
تقوم الأسرة على أساس التفاهم، وتمارس أعمالها بتشاور، ويبني حياتها على التراضي، هذا بيان قرآني بليغ يجلي هذه المبادئ السامية؛ فعند رضاع الأولاد، وفطامهم ولو بعد الانفصال يقول تعالى: وَ?لْو?لِد?تُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـ?دَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَاد أَن يُتِمَّ ?لرَّضَاعَةَ ، إلى قوله: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233].
الأسرة التي تروم السعادة، وتبحث عن الاستقرار، تبني حياتها على أسس راسخة، أبرزها رعاية واحترام الحقوق بين الزوجين، المعاشرة بالمعروف، فتح آفاق واسعة من المشاعر الفياضة، ليتدفق نبع المحبة وتقوى الرابطة، وهنا يجد الأزواج السكن النفسي الذي نصّ عليه القرآن.
بمثل هذا الرسوخ تؤمّن الأسرة من التصدّع، وإذا نشأ خلاف فإن المحبة الصادقة والمودة ستذيبه.
إن الحكيم الخبير علم أن النفس قد تثور فيها أحياناً وفي أجواء الخلاف مشاعر الكراهية، فيجد الشيطان ضالته المنشودة لهدم كيان الأسرة، فكان التوجيه القرآني لتنقية المشاعر وليعود للحياة صفاؤها، وللأسرة بهاؤها، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]، ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهية فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة" [1].
قد يجني الجاهل على نفسه، ويدمّر حياته بطوعه واختياره، حين يستبدل المحبة والمودة والرحمة بالعناد والتحدي، وهذا نذير شؤم، وبداية تصدع، ولا يدمر الأسرة شيء كما يدمرها العناد والتحدي. فالخلافات الصغيرة تصبح بالعناد كبيرة، والخلافات الكبيرة تغدو باللين والصبر صغيرة.
كم نسمع ونشاهد تصدّع أسر وهي في مهدها، ولما يكتمل نباؤها، نتيجة لهذه الاعتبارات.
وقد قرر كثير من الباحثين أن التفكك الأسري سببٌ رئيس في انحراف الأهداف والسلوك من طريق الجنوح، ولهذا فإن الأسرة مطالبة بحماية نفسها قبل حدوث الشقاق، ولا يخفى أن الحياة لا تصفو دائماً، بل هي معرضة للسراء والضراء.
كل شيء في هذا الكون مهما صغر شأنه له حكمة ويؤدي وظيفة، فما رسالة الأسرة المسلمة؟
للأسرة المسلمة في المجتمع المسلم وظائف، أهمها: إقامة حدود الله، وتطبيق شرعه ومرضاته بتأسيس البيت المسلم، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ?فْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، تكثير نسل الأمة المسلمة، قال : ((النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم)) [أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها] [2].
تكثير النسل قوة للأمة، وعزةٌ، وحسن ذكر بعد الموت.
ودعاة تحديد النسل لا يرومون للأمة الخير، وحججهم الواهية تدل على أنهم قد أصيبوا بانهزامية نفسية مع ضعف يقين وتوكلٍ على الله.
إعداد النسل المسلم وتربيته من وظائف الأسرة، بل هي المدرسة الأولى التي يتلقى الولد في جنباتها أصول عقيدته، ومبادئ إسلامه، وقيمه وتعاليمه، ولا يقوم مقامها دور الرعاية والخادمات، فالطفل الذي يرضع حليب أمه، ويرضع معه حنانها ودفأها لن يساويه ذلك الطفل الذي يعيش بين أكناف المربيات والخادمات، دون عطف ولا رعاية ولا حنان ولا مشاعر.
الأسرة المسلمة مسؤولة أمام الله عن تنشئة الأبناء على الإسلام، فهل تمارس أسرنا اليوم رسالتها التربوية؟ هل هي من القوة والمكانة والرسوخ ما يؤهلها لمقاومة العلمنة والتغريب؟ هل يجلس أفراد الأسرة على موائد القرآن أم على مشاهد العصيان؟ هل يتلقى أولادنا في بيوتنا التذكرة النافعة، والعظة الرشيدة، والآداب الرفيعة؟
إن أي تقصير أو إخفاق في قيام الأسرة بدورها التربوي ستكون له عواقب وخيمة على سلوك الأبناء والبنات، ومن ثم على المجتمع في بنائه وفكره وأمنه.
القيام بالواجبات الأسرية أمانة سيسأل عنها الزوجان يوم القيامة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما] [3].
من الأمانة تطهير البيت من المنكرات، وإلزام أهل البيت بالفرائض والواجبات، وحثهم على الفضائل والمستحبات.
من الأهداف الرئيسة لأسرتك أيها المسلم إقامة رابطة قوية بين أبناء الأسرة والمسجد، ذلك أن المسجد في حياة المسلم جوهريّ وأساس، والتردد على المسجد عمل تربوي جليل القدر، عميق الأثر، يغرس في النفوس الفضائل والقيم والآداب.
لقد استطاعت الأسرة المسلمة التي قامت على الإيمان بالله، وتمسكت بأخلاق الإسلام، وتعقلت بالمساجد، استطاعت بنور القرآن أن تخرّج للحياة أبطالاً شجعاناً، وعلماء أفذاذاً، وعباداً زهاداً، وقادة مخلصين، ورجالاً صالحين، ونساء عابدات، كتبوا صفحة تأريخ مجيدة في حياة المسلمين.
وهي اليوم تواجه حملة شرسة لزعزعة أركانها، وإلغاء كيانها، بفكّ رباط الأسرة، وإفساد أخلاق المرأة، ونبذ قيم الأسرة، والدعوة الى العهر والاختلاط والإباحية.
وإذا تحطمت الأسرة، هل يبقى ثم أمة؟! وإن بقيت، فهل ستكون إلا على هامش الحياة؟!
لقد تفككت عرى الأسرة في بعض بلاد المسلمين نيتجة السقوط في حمأة التقليد الأعمى للغرب، والانسياق وراء كل نحلة ترد منه، فكثرت حالات الطلاق، وتدمرت الحياة، وأضاع المجتمع، وعزف كثير من الشباب عن الزواج، تبع ذلك انطلاق محموم وراء الشهوات البهيمية.
إن الدور القادم - عباد الله – دور خطير ومؤثر، فقد أسهمت التغيرات الاجتماعية في تقليص دور الأسرة، واستولت أجهزة البث الفضائي وغيرها على وقت الأسرة، وأثرت في مسارها، وخلخلت قيمها، ففقدت الأسرة في بعض المواضع تأثيرها، وشيئاً من فاعليتها.
إن هذه الأجهزة وغيرها، زاحمت الأسرة في توجيه الأبناء والبنات، داخل المعقل الحصين بجاذبية مدروسة، وغزو مستور ومكشوف، لتقطع صلتهم بأمتهم، وتضعف عقيدتهم، وتنسف غيرتهم.
لكن المؤلم حقاً أن بعض الأسر قد تخلت عن دورها في مهمة التربية العقدية والفكرية، وأسلمت أولادها لأجهزة البث الفضائي وغيرها، تصنع ما يحلو لها من هدم ومكر.
إخوة الإسلام:
بناء الأسرة على الوجه السليم الرشيد ليس أمراً سهلاً، بل هو واجب جليل يحتاج إلى إعداد واستعداد، كما أن الحياة الزوجية ليست لهواً ولعباً، وليست مجرد تسلية واستمتاع، بل هي تبعات ومسؤوليات وواجبات، من تعرض لها دون صلاح أو قدرة كان جاهلاً غافلاً عن حكمة التشريع الإلهي، ومن أساء استعمالها أو ضيّع عامداً حقوقها استحق غضب الله وعقابه، ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان صالحاً لهذه الحياة، قادراً على النهوض بتبعاتها، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (1/442).
[2] أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح [1846]، وفي سنده عيسى بن ميمون وهو ضعيف، وله شواهد تقوية، انظر : التلخيص الحبير (3/116-117).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة [853-البغا-]، ومسلم في كتاب الإمارة [1829].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ?لَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى? وَ?لَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى? [الأعلى:2-3].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3-4].
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الخير والوفا.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
إخوة الإسلام:
إن حياة الأسرة حياة عمل، وللحياة أعباؤها وتكاليفها، لذا فهي تحتاج إلى ربّان [1] يوجه حركتها ويشرف على سلامتها، هذه القيادة يسميها القرآن قوامة، وهي من نصيب الرجل، والرئاسة ليست للاستعباد والتسخير، وإنما هي رئاسة إشراف ورعاية، لا تعني إلغاء شخصية الزوجة وإهدار إرادتها أو طمس معالم المودة والألفة في الأسرة.
لقد هيأ الله المرأة لوظائف وأحالها لأدائها، وهيأ الرجل لوظائف وأحاله لأدائها، بحكم التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي، فإذا تحوّلت القوامة من الرجل إلى المرأة كلّفت المرأة ما لا تطيق، وانحرفت الأسرة عن مسارها.
إن سلب الرجل قوامته على زوجته وأسرته ليعرّض الأسرة لمتاعب ومشكلات، إن هناك فروقاً بين الرجل والمرأة تجعل كلا منهما صالحاً لأداء وظيفته التي هيئ لها دون سواها، وإن أي انتقاص من مفردات هذه القوامة سيضر بالأسرة، ثم بالمجتمع كله، والذين ينادون بسلب الرجل قوامته، إنما هم أصحاب هوى وهوس، وهم سفهاء لأنهم يتحدون شرع الله تبارك وتعالى.
إن القوامة أيها المسلم تعني أن رب الأسرة مسؤول عن كل ما يوفر سلامة الأبدان والأديان، يجنّب الأسرة مصارع السوء، يجنب الأسرة طرق الانحراف، يعطي من نفسه القدوة المثلى في الوقوف عند حدود الله وتعظيم شعائر دينه، مع سعة صدر وحسن خلق، فهو كالراعي الذي يحمي الحمى.
رب الأسرة – عباد الله – مطالب بالتوازن بين مهام العمل والعبادة والتفرغ لمهام الأسرة، ليعطي كل ذي حق حقه ؛ حق الزوجة، حق الأولاد، رعاية الأسرة، التربية.
وإذا كان رب الأسرة عاجزاً عن توفير الوقت الذي يجتمع فيه مع نفسه أو بأفراد أسرته، يوجههم، يحدثهم، يستمع إليهم، يربيهم، يهذب أخلاقهم، إذا كان عاجزاً عن توفير هذا الوقت فسيندم ولات حين مندم.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله : ((يا عبد الله بن عمرو، بلغني أنك تصوم النهار، وتقوم الليل، فلا تفعل فإن لجسدك عليك حظاً، ولعينك عليك حظاً، وإن لزوجك عليك حظاً، صم وأفطر، صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر)) [أخرجه البخاري ومسلم] [2].
[1] الربّان هو من يقود السفينة.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم [1874]، ومسلم في كتاب الصيام [193/1159]، وهذا لفظ مسلم.
(1/1812)
الجليس الصالح والجليس السوء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرية المصاحبة. 2- اختيار الجليس الصالح. 3- تحسّر الظالم يوم القيامة من اتخاذه الجليس السوء. 4- التحذير من جليس السوء. 5- تبرؤ الأخلاء يوم القيامة إلا المتقين. 6- إضلال جليس السوء لقرينه، قصة أبي طالب لما حضرته الوفاة. 7- صفات الجليس الصالح. 8- صفات جليس السوء. 9- مثل الجليس الصالح والجليس السوء. 10- خطر القنوات الفضائية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله:
إن من حكمة الله جل جلاله أن جعل في الإنسان ميولاً إلى مصاحبة غيره، ومجالسة غيره، وهذا الميول لمجالسة الآخرين يكون أحياناً أمراً يفرضه الواقع، بأن يكون يجالس أترابه ومن في مثله، ممن يلتقي بهم إما في منزل، أو في الحي الذي يعيش فيه، أو كذلك في مراحل الدراسة الأولى، فزملاؤه وأترابه هم أصحابه وقرناؤه، بحكم واقعه الذي يعيشه. ولكن بعدما يدرك الأمر ويتصور الواقع ويكون عنده ميول لفكر ورأي معين، يكون اختيار الجليس بعد إرادة الله راجعاً لاختياره، وما يميل إليه من فكر ورأي وغير ذلك.
ولهذا جاءت شريعة الإسلام لتبين للمسلم من هو الجليس الذي ينبغي أن تُلازَم مجالسته؟ من هو الصديق الذي ينبغي أن يتمسّك بصداقته؟ ومن هو الأخ الذي ينبغي أن يكون أخاً على الحقيقة؟ جاءت شريعة الإسلام لتبين للمسلم من هو الجليس، من هو الصاحب، من هو الصديق، من هو الأخ، من هو الذي ينبغي أن تلزَم صحبته ويعض عليها بالنواجذ؟ جاء الإسلام ليحدد ذلك للمسلم، ليكون المؤمن على بصيرة من أمره، فما كل شخص يُرتَضى أن يكون جليساً، ولا أن يكون صاحباً لك، ولا أن يكون موضعاً لسرك وكتمان أمرك.
إن شريعة الإسلام أرشدت المسلم من يكون جليسه، وحذرته من صحبة من لا خير في صحبته، ومن صحبته بلاء وشر وضرر، في الحاضر والمستقبل، اسمع الله يقول: وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
أخي المسلم:
تأمل هذه الآية حق التأمل، وأن ذلك كائن في يوم القيامة، وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ ندماً وحسرة، وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً يتمنى أن تكون له صلة برسول الله وبسنته وبشريعته، حتى يسير على الطريق المستقيم، ي?وَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً ، ذلك الفلان الذي اتخذه خليلاً هو الذي أضله عن سواء السبيل، هو الذي غير فطرته، هو الذي أفسد معتقده، هو الذي حرَف منهجه وسلوكه إلى غير هدى، بل إلى الضلال والعياذ بالله، لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ?لذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِلإِنْسَـ?نِ خَذُولاً [الفرقان:29] يخذله أحوج ما يكون إليه، فشيطان الإنس يخذل قرينه أحوج ما يكون إليه، إذ العلاقة ليست علاقة متينة، وإنما علاقة فساد وبلاء تنتهي بانتهاء مفعولها.
ذكر بعض المفسرين أن الآية نزلت في عقبة بن [أبي] معيط أسلم وله صديق وجليس غائب بالشام، فلما رجع إلى مكة، ما زال بعقبة حتى غيره من الإسلام إلى الكفر [1] ، وعلى كلٍّ فالآية عامة لكل من اتخذ قريناً وصاحباً وجليساً لا يدري عن حاله، يضله عن سواء السبيل، ويحول بينه وبين الهدى المستقيم [2].
إذاً فيا أخي، إياك وجليس السوء، إياك وجليس الشر والبلاء، احذر مجالسته فإنك لا تدري عن غوائله، ولا تدري ماذا سيمكر بك، وماذا سيوحي إليك من الشر، فكم من شيطان متلبس في صورة إنسان، يفسد على الإنسان دينه، ويفسد عليه خلقه، ويفسد عليه فضيلته، ويوقعه في الشر من حيث لا يعلم.
وقال جل وعلا: ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، الأصحاب الأخلاء يوم القيامة كل يتبرأ من صاحبه، كل يتبرأ من جليسه وخليله، وكل يقول: لست لك، ولم آمرك ولم أنهك، هكذا يوم القيامة يتبرأ كل من خليله، لكنِ المتقون خلَّتهم باقية لا انفصام لعراها، ولا تصَدُّع لبنيانها. لماذا؟ لأنها قائمة على أسس ثابتة من طاعة الله وطاعة رسوله، ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ فبعضهم ولي لبعض في ذلك اليوم، وكلهم على قلب رجل واحد، جمعتهم المحبة في الله، والأخوة في ذات الله.
أيها المسلم:
إن جليس السوء ما يزال بصاحبه إلى أن يحوله من كل خير، ويبعده عن كل فضيلة، لأنه لا يستأنس ولا يرتاح حتى يرى قرينه مشابهاً له في رذائله ودناءته.
يضيق ذرعاً إن يكن صاحبه على خلاف منهجه، وإنما يرتاح إذا رأى خليله على منهجه السيئ وعمله الفاسد.
أيها المسلم:
أبو طالب عم النبي ، آوى النبي ونصره ودافع عنه، وتحمل كل الأذى في سبيل الدفاع عن محمد ، وهو يعلم حقاً أن محمداً صادق فيما جاء به، ولا عنده ريب، لكن لم يوفَّق للعمل بهذا الدين، عرف الحق وأدركه، ولكنه ما وفِّق للعمل به، ولله الحكمة فيما يقضي ويقدر، عاش مع النبي عشر سنين بمكة، يدافع عنه، ويناضل عنه، وقريش تحترم أبا طالب فأذاها للنبي قليل، لأنهم يحترمون ذلك الشخص لمكانته وعلو شأنه، ومحمد يعيش في كنفه، وهو يدافع عنه، ولما مات سمي عام موته عام الحزن بالنسبة للنبي ، لأنه كان مدافعاً عنه، صبر معه في حصار الشعب ثلاث سنين، كان ينوّمه في فراشه خوفاً من أن يأتي أحد لاغتيال النبي، فيرى فراش أبي طالب، فيظن أنه أبو طالب، وبذل كل جهده في ذلك، ولكن حكمة الله اقتضت أن أبا طالب لم يسلم، والله حكيم عليم.
كان النبي حريصأ على هدايته، طامعاً في ذلك، فلما حضرت أبا طالب الوفاة، حضره الموت، وحان انتقاله من الدنيا، طمع النبي عسى أن ينطق بكلمة التوحيد في آخر حياته، فتكون حجة للنبي ليشفع له عند الله يوم القيامة، فأتاه النبي ، ولكن أراد الله أنه حضر عنده أبو جهل وأمية بن خلف [3] أئمة الكفر والضلال، فقال النبي له: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) ، هكذا النبي يقولها، فقال له أبو جهل ومن معه: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فأعاد النبي القول ثانيا: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) ، فقالا له ثانيا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! وكلما أعاد النبي القول قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فقال أبو طالب: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، ولكن النبي قال أيضاً: ((لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنك)) لأن معروفه كبير، فأنزل الله: ما كان للنبي والذين آمنوا.. الجحيم ، وأنزل الله في أبي طالب تسلية للنبي: إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِ?لْمُهْتَدِينَ [القصص:56] [4].
انظر كيف أثر جلساء السوء ودعاة الضلال على هذا الإنسان إلى أن فارق الدنيا على غير هدى.
فالحذر الحذر من جليس لا خير فيه، من جليس لا خير في مجالسته، ولا خير في مصاحبته.
أيها المسلمون:
ونبينا يقول: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) [5] ، فإن خاللت ذا تقوى وصلاح استفدت منه خيراً، وإن خاللت ذا فساد وسوء نية استفدت منه بلاء.
أيها المسلم:
انظر من تخالل، فخليل يدعوك إلى طاعة الله، وعبادته، وإخلاص الدين له، خليل يدعوك إلى المحافظة على الصلوات والعناية بها والاهتمام بها والقيام لها عند سماع داعي الله، خليل يؤمُّ المسجد فتقتدي به لأداء الصلاة، خليل تراه يؤدي الزكاة ويحصيها فتتخلق بأخلاقه، خليل تراه يحافظ على صومه وحجه فتقتدي به، خليل يدعوك إلى بر الوالدين، فأنت تقتدي به فهو دائماً يأمرك بالبر، ويأمرك بصلة الرحم، ويأمرك بكل خلق كريم، خليل ورع في معاملاته، في بيعه وشرائه وتعامله مع الآخرين، صدق، أمانة، وضوح، وأداء للحقوق، وعدم تضييع لها، خليل تشعر منه أنه يكشف لك عن عيوبك لينبهك على الأخطاء التي أنت مشتمل عليها، يكشف لك عيوبك وأخطاءك وزللك ويقول: فيك من العيب ما فيك، فيك كذا وفيك كذا، حتى يدعوك إلى إصلاح الأخطاء، وتدارك ما وقعت فيه من نقص وزلل، خليل إذا احتجت إليه رأيت ذا مروءة وصدق، وإن غبت عنه حفظك في غيبتك ودافع عن عرضك وحمى عرضك، خليل يكتم أسرارك ولا يفشيها للآخرين، خليل إن استنصحته نصحك، وإن استشرته أشار عليك بالخير، لا يكتمك نصحاً، ولا يألو جهداً في إصلاح وضعك، هذا الخليل النافع.
وأما خليل - والعياذ بالله - صحبته بلاء، لسانه بذيء؛ نميمة وغيبة وهمز ولمز وسخرية بالناس وسوء ظن بهم واحتقار لهم، لسانٌ لا ينفك عن فحش، وقول السوء، والطعن في الآخرين، لسانٌ يعمر المجلس بالسباب والشتام والأقوال الساقطة الهابطة التي لا خير فيها، خليل لا يأمرك بطاعة، ولا يحذرك عن معصية، إن تركت طاعةً ما أرشدك إليها، وإن فعلت معصيةً ما نهاك عنها، وإن تعاملت معه فإن تعامله بالغش والرشوة والخيانة وجحد الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل.
فيا أخي، ماذا تستفيد منه؟ إن صحبته في السفر دلَّك على طرق الغواية، ومسالك الفساد، ومجالس السوء، وأندية القمار، ودور العهر والفساد.
هكذا حال بعض الجلساء، فأنت لا تستفيد منهم خيراً، ولا تطمئن إليهم، إن قلَّ وإن كثر، إن لم يقلبوك على عقبك، فإنه ينقص من إيمانك ومروأتك وكرامتك وأخلاقك.
فيا أخي المسلم، تدبر واقعك، اختر من ترى فيه الخير والصلاح، وابتعد عمَّن ترى فيه الشر والفساد، وربك يقول: وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68]. ويقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ [النساء:140].
فالحذر الحذر أخي من رفقة بعض الناس، واختر من الأصحاب من تختاره بعد تجربة، وكشف لحاله، وتأكد من أخلاقه، ليعينك على الطاعة، ويبعدك عن المعصية.
أسأل الله أن يثبت الجميع على صراطه المستقيم، وأن يعيذنا وإياكم من جلساء السوء، ويحفظنا وإياكم بالإسلام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: تفسير الطبري (19/7-8).
[2] انظر: تفسير ابن كثير (6/116).
[3] اللذان كانا عنده هما أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة كما جاء في صحيح البخاري والله أعلم.
[4] أخرجه البخاري في تفسير سورة القصص [4494-البغا-] من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد [8010-المكتب الإسلامي-] وأبو داود في كتاب الأدب[4833]، والترمذي في كتاب الزهد [2378] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، ونقل التبريزي في المشكاة (3/1397) عن النووي أنه قال: "إسناده صحيح"، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان لابن تيمية (ص60).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى لله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله:
نبينا يضرب لنا الأمثال، ليكون هذا المثل مصوراً للواقع، وكاشفاً لنا عن الحقيقة، فهو يأتي بمثل حسي ليقرب به الحقائق المعنوية، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كبائع الطيب ونافخ الكير، فبائع الطيب إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه رائحة خبيثة)) [1].
أيها المسلم:
هذا مثل أراد به النبي التقريب، فيذكر أن الجليس الصالح ذو التقى والمروءة كمثل حامل الطيب، من يحمل طيباً، إما أن تطيب نفسك فيهدي لك ويحذيك من طيبه ما يكون منفعة لك، وإما يعجبك هذا الطيب فتشتريه بقيمته، وإن لم يحذيك، إن لم يهد لك، إن لم تشتر فأنت لا تسأم من طيب الجلوس في ذلك المكان، تستأنس بتلك الروائح الطيبة، فينشرح بها صدرك، وترتاح بها، وهذا مثل الجليس الصالح، هذا الجليس الصالح لا يخلو من خير؛ علم يعلمك إياه، نصيحة يهديها إليك، طاعة يحثك عليها، تراه مصلياً صائماً قانتاً داعياً ربه، تراه قليل الكلام فيما لا يعنيه، فأنت تقتدي به، يقل هذا الاقتداء أو يكثر، وإن لم يحصل فأنت لا ترجع بشر، أنت على خير قل الخير أم كثر.
أما نافخ الكير الذي ينفح بالمنفاخ النار لأجل إصلاح ما يصلح، فهذا إما شرارة تصعد من ذلك الكير فتحرق ثيابك، أو تفقأ عينك، وإما روائح كريهة تقع على ثيابك فتخرج وتشم رائحة الكير في ثوبك، وهكذا صاحب السوء، إما أن يقضي عليك، فيبدّلك بعد الإسلام كفراً وضلالاً، وإما أن يصيبك بنقص في إيمانك.
يا أيها المسلمون:
إن من المجالسة الإصغاءَ إلى بعض القنوات الضالة، بعض القنوات الضالة المنحرفة، التي تحمل في طياتها الشر والبلاء، بعض هذه القنوات - وللأسف الشديد - مركزة ضد الإسلام وأهله، قنوات مجعولة سهاماً في نحور أهل الإسلام، لتفسد عقائدهم، وتدمر قيمهم، وفضائلهم، وأخلاقهم، قنوات سمح أهلها بأن تعرض العلاقة الجنسية واضحة أمام الملأ، فلا خجل ولا حياء، قنوات تناقَش فيها قضايا من قضايا الإسلام التي يلتزمها المسلمون طاعة لله ورسوله، يناقشونها لكي يضعفوا قيمتها من قلوب المؤمن، قنوات مرتع وخيم لكل شر وفساد.
فيا أيها المسلم، اتق الله، واحذر مشاهدتها، فإنك إن لم تق نفسك يوشك أن تتعلق بها فيصيبك من شرها ما يصيبك، وحذّر أولادك من بنين وبنات، وبيِّن لهم مفاسدها وأضرارها وما اشتملت عليه من الشر والبلاء، حصنهم بالتوعية الإسلامية الصحيحة ليكونوا على ثقة بدينهم.
إن كثيراً من وسائل الاتصالات أصبحت - وللأسف الشديد - تُستغَل على غير خير، تستخدم فيما لا ينفع، بل فيما يضر.
فليتق المسلمون ربهم، بعض هذه القنوات ربما يسهر عليها البعض من الناس طول ليله أو معظم ليله، وما يرجع إلا بالخيبة والندم، يشاهد ويرى ما يفسد الأخلاق، كم سببت في التفريق بين الزوجين، وكم سببت في إفساد القيم والأخلاق، فليتق المسلم ربه، وليعلم أن مشاهدتها والإصغاء إليها مجالسة لأصحاب السوء والفساد.
فأسأل الله أن يثبت الجميع على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله..
[1] أخرجه البخاري في كتاب البيوع [1995-البغا-]، ومسلم في كتاب الأدب [2628].
(1/1813)
العقل في ميزان الشرع
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, مذاهب فكرية معاصرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
15/4/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ العقل من أعظم النعم. 2 ـ الحكمة في كون الإنسان يولد غير عاقل. 3 ـ العقل غريزي
وكسبي. 4 ـ حفظ الضروريات الخمس ومنها العقل. 5 ـ العقل لا يستقل بإدراك الحقائق.
6 ـ العقل الموفق والعقل المخذول. 7 ـ عقول الأجيال المتأخرة.
8 ـ ما وراء الدعوة إلى تمجيد العقل وإكباره. 9 ـ مفاسد تقديم الرأي على الوحي.
10 ـ أحاديث العقل كلها كذب. 11 ـ للعقول حدود. 12 ـ أصناف المخالفين للوحي. 13 ـ موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
جميل جدًا أن يتحدث المرء المسلم بنعمة الله عليه، وبآلائه التي أسبغها على عباده ظاهرة وباطنة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [ الضحى: 11].
ومما لا شك فيه أن نعم الله علينا تترى، بل كل النعم هي منه وحده، لا يشركه [فيها] غيره وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل: 53].
عباد الله:
قد لا تختلف أفهامنا جميعًا على أن من أعظم النعم التي أكرمنا الله بها هي نعمة العقل، العقل الذي وهبنا الله إياه، لنمتاز به عن الحيوان الأعجم، والصخر الصلب، فبالعقل يشرف الإنسان، وبالعقل يكلَّف المرء المسلم، وبه يعرف خالقه جل شأنه.
ذلكم العقل الذي يميز به بين الخير والشر، والهدى والضلالة، إذا استعمله الإنسان سببًا في سلوك طريق الهدى، والبعد عن موارد الردى. العقل الذي يُعدُّ من أكبر الطاقات البشرية طُرًّا، إنه لنعمة عظمى، وسمة جُلَّى، امتن الله بها علينا، قُلْ هُوَ ?لَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ?لسَّمْعَ وَ?لأَبْصَـ?رَ وَ?لأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الملك: 23].
إنه لا يعلم قدر العقل إلا من وُهبَه، وإلا كان هو وعَير في الفلاة سواء، ومن تأمل حكمة الله جل وعلا في أن يكون الطفل الوليد بلا عقل اكتسابي لأدرك أثر هذه النعمة عليه حينما يوهب شيئًا بعدما مُنِع منه، ليكون الإحساس به أشدّ وقعًا، وأجدى نفعًا، وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لأَبْصَـ?رَ وَ?لأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
يقول ابن القيم رحمه الله: "لو ولدت أيها الإنسان عاقلاً كحالك في كبرك، لتنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص، لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعًا، عاجزًا مسجونًا في المهد، أو كنت ممن ابتلي بفقد والديه، فكنت كالواله الحيران، ولكنها محض الحكمة، والرحمة بك، والتدبير" [1].
ثم اعلموا ـ أيها الناس ـ أن العقل إما أن يكون غريزيًا، وإما أن يكون اكتسابيًا:
فالأول كعقل الطفل الذي سبق ذكره.
والثاني ما يكتسبه الصبي على مرور الأيام، إلى أن يبلغ أربعين سنة، ثم بعد ذلك يأخذ في النقصان إلى أن يخْرف، بخلاف العلم فإنه يكون كل يوم في زيادة، ومنتهى تعلم العلم هو منتهى العمر، وهذا يدل على أن العقل أضعف من العلم.
فلأجل ذا ـ عباد الله ـ أجمعت الرسل قاطبة على حفظ الضرورات الخمس، والتي هي الدين والعقل والعرض والمال والنفس.
فالعقل إذًا ضرورة كبرى من هذه الضرورات، مرهونة بإيجاد ومنع، فالإيجاد إنما يكون من خلال استعماله في طاعة الله سبحانه واعتقاد دين الإسلام به، والمنع إنما يكون من خلال سد كل ذريعة مفضية إلى إفساد هذا العقل أو تعطيله عن الاتصال بنور الهداية، فلأجل ذا حرِّم كل ما من شأنه أن يكون سببًا في زواله، كشراب المسكرات والمخدرات ونحوها، بل لقد جعل الشارع الحكيم الدية كاملة في زوال العقل بسبب الاعتداء عليه.
ولو لم يكن من ذلك إلا كون العقل شرطًا في معرفة العلوم، وفي الأعمال وصلاحها، وبه يكمل دين الإنسان لكفى، غير أنه لا يستقل بذلك وحده، إذ هو غريزة في النفس، وقوة فيها، كقوة البصر إيجابًا وسلبًا، وما ذاك إلا بقدر اقتباسه من نور الإيمان، بيد أنه إذا انفرد عن النور، أو أبعد عنه بالكلية كانت أقواله وأفعاله أمورًا حيوانية، كما قال ذلك شيخ الإسلام رحمه الله [2].
ثم إن العقل البشري الذي يستطيع أن يؤدي وظيفته على أكمل وجه، هو ذلكم العقل الذي تجرد عن الهوى، وخلص من ربقة التقليد الأعمى، فلم يتأثر بالآراء والأفكار المنحرفة التي تدفعه للوقوع في الزيغ والضلال، كما أنه لم يُعطّل قواه باتباع أعمى، فينجرّ به على انحراف ذريع وزيع مُردٍ.
هذا هو العقل الذي يمكن أن يحمل رسالة الإسلام حملاً صحيحًا.
وأما الذين كبّلوا عقولهم، وعطلوها عن موارد النهل الصافي فهم الذين قال الله عنهم: إِنَّ شَرَّ ?لدَّوَابّ عِندَ ?للَّهِ ?لصُّمُّ ?لْبُكْمُ ?لَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ?للَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 22].
ولأجل ذلك كان جواب أمثال هؤلاء يوم القيامة وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ فَ?عْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَـ?بِ ?لسَّعِي رِ [الملك: 10، 11].
وجماع ما مضى ذكره ـ عباد الله ـ هو ما ذكره أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله بقوله: "العقل نوعان: عقل أعين بالتوفيق، وعقل كيد بالخذلان، فالذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض بالطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلب بتعمّقه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه وحجب أسرار الخلق عن فهمه، حكمةً منه بالغة".
عباد الله:
إنما قلنا ما قلناه في هذه العجالة كمدخل وتوطئة نشير بهما إلى أن جملةً من عقول هذه الأجيال المتأخرة ليخشى عليها مِن تسَلل ظلمات بعضها فوق بعض، أو أن تدب إلى عقولهم شبهات ومكابرات، لا يجد الوالغ في حمأتها بصيص نور يهتدي به إلى سواء الصراط، أو يخلص به من ضلالة، أو ينجو به من غواية، وذلك من خلال حلول شيء من الازدواجية الممقوتة غير يسير، عبر وسائل التلقي المختلفة، والتي يتعارك فيها الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والعقل والشرع، والزين والشين، يبرز الحق فيها مرة، والباطل فيها مرات، جُندت لمثله أقلام بعض الورقيين من ممتهني الصحافة أو الكتابة، عبر الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وهي خير شاهد على هذا حيث لم تسخر جملة منها للذبّ عن الإسلام، شريعةً وروحًا واعتقادًا، بل حبّرت بعض الأقلام لتقرير نزعة جديدة يُخلع من خلالها الجلباب الساتر لكاتبيها عن إبراز هذا المقصد، فراحوا يخوضون فيما يسمى: "تمجيد العقل وإكباره"، وجعله حَكمًا قهريًا على عدد ليس بالقليل من النصوص الشرعية الإسلامية، فعرضوا الحاكمية في الشريعة على العقل، وعرضوا الحدود والجنايات على العقل، وعرضوا الولاء والبراء في الإسلام على العقل، وعرضوا بعض المسلمات في قضايا المرأة المسلمة وشؤونها على العقل، حتى صار ذلك لوثة نعوذ بالله من تبعات قسماتها، وشماله نعوذ بالله من غوائلها، بل هي معرّة برمتها، لاكتها أفواه المعارضين بعقلانيتهم، حتى لفظتها أسماع أهل الشريعة.
ومثل هذا ـ عباد الله ـ ليس ببعيد على من أطلق العنان لعقله، يصول به ويجول في شرع الله بلا خطام ولا زمام، ولا غرو في ذلك فقد قال ابن القيم رحمه الله: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي" [3] ، "ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله وحيه الذي هُديَ به رسله، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل" [4].
فيا لله العجب ـ أيها الناس ـ كيف يكون الحق قريبًا وليس إليه وصول؟!! وكيف يكون أمثال هؤلاء كالعيس في البيداء، يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول، وإذا كان يسعى إلى الماء من يغص بلقمة واحدة، فإلى أي شيء سيسعى من يغصّ بالماء ذاته؟!
إن سنن الله جل وعلا وشريعته لا تخاصَم، ولا ينبغي لها أن تُتْبع بالعقل، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم واحد إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولعمرو الله إن بعض السنن لتأتي أحيانًا على خلاف الرأي ومجانبته خلافًا بعيدًا، فما يجد المسلمون بدًا من اتباعها والانقياد لها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله يمسح على ظاهر خفه) [5].
وقد قال بعض السلف كأبي الزناد وغيره: (وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار أوَّليَّة الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب، ويعيبون الأخذ بالعقل أشد العيب، وينهون عن لقائهم ومجالستهم، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف)، حتى قال الأصبهاني رحمه الله: "إذا رأيت الرجل إذا قيل له: لم لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة".
بل لقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى أبعد من هذا حيث جعل ترك السنة والاعتراض عليها وعدم الأخذ بها نوع جنون أو هو جنون وإن لم يكن حسيًا، فقد قال رحمه الله: (متى عرفتُ لرسول الله حديثًا ولم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب) [6].
ومن هنا وصف ابن تيمية رحمه الله العقل بالصنم إذا غلا فيه المرء وطغى، فقال رحمه الله: "والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلا، وما كان العقل وحده كافيًا في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل".
ولله ما أجمل كلامًا لابن القيم رحمه الله يشفي العليل ويروي الغليل في تقرير هذه المسألة فيقول: "كيف ينقدح في ذهن المؤمن أن في نصوص الوحي المنزلة من عند الله عز وجل ما يخالف العقول السليمة؟! بل كيف ينفك العقل الصريح عن ملازمة النص الصحيح؟! بل هما أخوان لا يفترقان، وصل الله بينهما في كتابه، وإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذنا بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطَّت حيث حطها الله وأصحابها، فكيف يُظن أن شريعة الله الكاملة ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعد محمد " [7].
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أن العقل في هذه العصور المتأخرة قد كبا كبوة خطيرة، وأُقحم في أمور ينبغي أن يكون العقل فيها تابعًا لا متبوعًا، والسلف الصالح رحمهم الله قد استعملوا الأقيسة والدلائل العقلية، ولم ينكروها بإطلاق، وإنما أنكروا ما كان منها فاسدًا مما يخالف الشرع، ويُعلم فساده، مما يتذرع به من يبطل بعض النصوص الشرعية، أو يحرّفها بحجة أنها تخالف القواطع العقلية، وهي في الحقيقة خيالات، وأوهام وشهوات، لا يميَّز فيها بين الشخص والصورة، ولا بين الطيف [8] والحقيقة، حتى ركبت بهم متن عمياء، وخبطت بهم خبط عشواء.
ثم نقول لأمثال هؤلاء: إن أردتم إقحام العقول في فرز الشريعة فعقل مَن مِن البشر نحكّم؟ أهو عقل زيد أم عقل عمرو؟ أعقل رجل أم عقل امرأة؟ أعقل متّزن أم عقل صاحب هوى؟.
ألا إن دلائل العقل قلما تتفق، بل عقل كل واحد يُري صاحبه غير ما يُري الآخر، وهذا بيّن والحمد لله، وقديمًا قيل: (لو سكت الذي لا يعلم لما كان هناك خلاف)، ومن لم ير الهلال فعليه أن يسلم لأناس رأوه بأبصارهم.
كيف يحتج العقل على خالقٍ، ثم كيف يحتج العقل على خالق من بعض مخلوقاته هذا العقل؟!!
وأما ما يسطره بعض الكتبة، وما يدندنون حوله من ذكر أحاديث عن الرسول وردت في تعظيم العقل وإكباره، فإنه خلاف الحق، فقد قال ابن القيم رحمه الله: "أحاديث العقل كلها كذب"، ونقل عن بعض السلف قوله: (لا يصحّ في العقل حديث) [9].
فصار فعل أمثال هؤلاء فيما يطرحونه من تحكيم العقل، والاستقلال به من القيود، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: "هو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب" [10].
فالواجب على كل مسلم ـ عباد الله ـ أن يتقي ربه جل وعلا، وأن يعلم أن شريعة الله ليست عُرضة للعقول لتخاصم بها، فقد حد الله للعقول حدودًا لا ينبغي تجاوزها، ولا الافتيات على الله بها، والله يقول: قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ?للَّهُ [البقرة: 140] ، ويقول: صِبْغَةَ ?للَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138]، وقال سبحانه: ومِنَ ?لنَّاسِ مَن يُجَـ?دِلُ فِى ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـ?بٍ مُّنِيرٍ [الحج: 8]، قال بعض أهل العلم: "وهذا دليل ظاهر في أن الذي نراه معارضًا للوحي، ويقدّم العقل عليه، ليس من الذين أوتوا العلم في شيء" كيف لا؟ والله سبحانه وتعالى يقول: وَتِلْكَ ?لأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ?لْعَـ?لِمُونَ [العنكبوت: 43].
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، فانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا، إنك أنت العليم الحكيم.
قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله، إنه كان غفارا.
[1] من مفتاح دار السعادة (2/186) باختصار وتصرف يسير.
[2] انظر: مجموع الفتاوى (1/6) و(19/96).
[3] إعلام الموقعين (1/68).
[4] الصواعق المرسلة (3/865).
[5] أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة [162]، والبيهقي في الكبرى (1/292)، وحسنه الحافظ في الفتح (13/ 289)، وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود [147]: "صحيح".
[6] أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن (ص 205)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 106)، وانظر: صفة الصفوة (2/ 256)، والسير (10/34).
[7] من الصواعق المرسلة (2/ 458 ـ 459) بتصرف.
[8] الطيف: خيال الشيء وصورته المترائي له في المنام أو اليقظة.
[9] المنار المنيف (ص 66).
[10] قال ذلك شيخ الإسلام في تائية ابن الفارض المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، انظر المجموع (4/ 73 ـ 74).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واقدروا الله حق قدره، وإياكم ومحدثات الأمور، والمخاصمة لنصوص الشارع بعقولكم وآرائكم، ولا تجعلوا شيئًا من ذلك مقدمًا عليها، فما وافق العقول قبلتوه، وما لا فلا، لأن هذه بلية عظمى، وهوّة كبرى، اتسع نطاقها في بقاع شتى من ديار الإسلام، وأصحابها يصفون أنفسهم بالعقلنة أو الاستنارة أو التحرر.
ثم لتعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن الذين يخالفون بعض النصوص بسبب أن عقولهم لا تحتملها، أو لا تقتنع بها، أو بأي حجة رجحوا فيها كفة العقل على كفة الشرع، فإنهم لا يخرجون عن خمس طوائف كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله:
فالطائفة الأولى: عارضت الوحي بعقولهم، وقدمت عليه العقل، فقالوا لأصحاب الوحي: لنا العقل ولكم النقل.
والطائفة الثانية: عارضته بآرائهم وقياساتهم، فقالوا لأهل الحديث: لكم الحديث ولنا الرأي والقياس.
والطائفة الثالثة: عارضته بأذواقهم وحقائقهم، وقالوا: لكم الشريعة ولنا الذوق والحقيقة.
والطائفة الرابعة: عارضت الوحي بسياساتهم وتدبيرهم، فقالوا: أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة.
والطائفة الخامسة: عارضته بالتأويل الفاسد، وادعوا أنهم يفهمون أكثر مما يفهمه أهل الحديث والفقه.
ثم إنه إذا رُدَّ على كل من هؤلاء باطلة رجع إلى طاغوته وقال: في العقل ما لا يقتضيه النقل، وقال الآخر: في الرأي والقياس ما لا يجيزه الحديث، وقال الثالث: في الذوق والحقيقة ما لا تسوغه الشريعة، وقال الآخر: في السياسة ما تمنع منه الشريعة.
وهكذا دواليك حتى لا يبقى من الشريعة إلا اسمها، فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له، بخلاف الوحي فإنه أمر مضبوط، مطابق لما عليه الأمر في نفسه، تلقاه الصادق المصدوق من لدن حكيم عليم [1].
وقد قال ابن تيمية رحمه الله: "ما عُلم بصريح العقل لا يتصوّر أن يعارضه الشرع ألبتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته" [2].
ويدل لذلك ـ عباد الله ـ أن الله تعالى ذم المنافقين الذين كانوا يرجعون في نفاقهم إلى عقولهم، فقال سبحانه وتعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَـ?مَ ?للَّهِ ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة: 75] ، أي من بعد ما قالوا: وقفنا على كلام الله تعالى بعقولنا، وهم يعلمون بطلان ما أدركوه بعقولهم.
ويؤكد هذا الأمر أن الله تعالى قال عن جهابذة كفار قريش وصناديدهم: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـ?مُهُمْ بِهَـ?ذَا [الطور: 32] أي عقولهم، فدل أن العقل لا يهدي إلى الدين استقلالاً.
فالله الله ـ أمة الإسلام ـ في دينكم، وحذار حذار أن يؤتى هذا الدين من قبل تسليط الأفهام والعقول القاصرة عليه، وليكن موقفنا من شريعة ربنا كلها سواء أدركنا ذلك بعقولنا معها أو لم ندركه أن نقول: ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لأَلْبَـ?بِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران: 7، 8].
[1] انظر: الصواعق المرسلة (3/ 1052)، ومدارج السالكين (2/ 70، 334).
[2] من درء التعارض (1/ 147) بتصرف.
(1/1814)
أصحاب الأخدود
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الكبائر والمعاصي
عبد الوهاب بن ناصر الطريري
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة أصحاب الأخدود والعبر فيها. 2- انتقام الله من أعدائه قد يكون في الآخرة. 3- ضآلة
الدنيا أمام الآخرة. 4- عقوبات الله في الدنيا متعددة الأنواع والصور. 5- وقفات وعبر في
قصة أصحاب الأخدود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لْبُرُوجِ وَ?لْيَوْمِ ?لْمَوْعُودِ وَشَـ?هِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لاْخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء اللذين فتنوا في ديِنهم..
هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم.
وما نقموا منهم إلا أن يأمنوا بالله العزيز الحميد.
وكان نكالاً دنيوياً بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهارِ إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم ليلقوا فيها لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا.
حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها تكعكعت، لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل.
فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيدا مثبتاً مصبراً: يا أمه اصبري فأنك على الحق.
فتتقحم المرأةُ الضعيفةُ والطفل الرضيع، تتقحمان هذه النار.
إنه مشهدُ مريعُ وجريمةُ عظيمةٌ يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصةُ مليئةُ بالدروسُ، مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟
ولكنا نطوي عبرَها كلها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، آية عظمى تومض من خلال هذا العرض للقصة، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ وذكرت تلك النهايةُ المروعةُ الأليمة لتلك الفئةُ المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفرُ التي أضرمت فيها النار.
بينما لم يرد خبرُ في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين اللذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات:
لم تذكرُ الآياتُ عقوبةُ دنيوية حلت بهم.لم تذكر أن الأرض خسفت بهم.
ولا أن قارعة من السماءِ نزلتَ عليهم.
انتهاء عرضُ القصةِ بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود.
والإعراض عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تُذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلما أغفل مصيرُ الظالمينَ؟
أهكذا ينتهي الأمر، أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود؟
بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهبُ ناجية؟
هنا تبرزٌ الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ الكتاب وأعادت، وكررت وأكدت وهي:
أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه.
ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية:
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ [البروج:7-8].
فهذا الذي جرى كلِه جرى في ملكِه ليس بعيداً عن سطوتِه، وليسَ بعيداً عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:9].
فهذا الذي جرى لم يجري في غفلةٍ من الله ولا في سهو من الله.
كلا... ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيدُ على ذلك، مطلعُ عليه.
إذا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟
كيف يقترفون ما قارفوا، ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟ يأتي الجوابُ، كلا لم يفلتوا.
إن مجال الجزاء ليس الأرضَ وحدَها.
وليسَ الحياةَ الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقيُ لم يجئ بعد.
وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة.
أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقةُ والجزاء الحقيقي فهناك:
إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:10].
هولا الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون ولكن أين؟
أين؟ في جهنم.
في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة.
وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق!
أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق، من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق ؟
أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات، من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟
أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله، من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟
هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة.
أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربةَ ماء.
إن الدنيا هينةُ على الله جل وعلا، مر النبيُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم، تلقى عليها النفايات، الفضلات، الجيف.
فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ينفردُ عن أصحابه ويتجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوهِ الخلقةِ قد مات، مشوه الخلقة، صغير الأذن قد انكمشت أذنه.
فأمسك النبيُ صلى الله عليه وسلم بهذا التيس الميتَ فرفعه.
ثم أقام مزاداً علنياً ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطباً أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم ؟)) من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟
وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر.ليس لها قيمة شرائية ولذا ألقيت مع الفضلات.
قالوا يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حياً لما ساوى درهماً. لأنه مشوه. فكيف وهو ميت؟
لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟
فألقاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).
إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة.
وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ جلا جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه.
وأيضاً لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه.
كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين.
استمع إلى هذه الآيات: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ?لنَّاسُ أُمَّةً و?حِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْو?باً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين.
كلا.. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه: وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة.
هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع.
ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلاءهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله جل وعل: متاع قليل [آل عمران:179].
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ [آل عمران:196].
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لنَّارِ [الزمر:8].
نعم قليلاً، تمتع بكفرك قليلاً، قد يكون هذا القليل ستون سنة.
قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟
كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء.
قَـ?لَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ?لأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ?لْعَادّينَ [المؤمنون:12-13].
قالوا يوماً..ثم تكاثروا اليوم، فرجعوا: أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ?لْعَادّينَ.
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [المؤمنون:14].
كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يوماً، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين.
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:14].
هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي.
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك:
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ?لَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ?للَّهُ شَهِيدٌ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].
قد ترى شيئاً من عقوبتهم، وقد يتوفاك قبل ذلك.
ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلقون رباً كان شهيداً على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافياً على الله، كان مطلعاً عليه:
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى? يُلَـ?قُواْ يَوْمَهُمُ ?لَّذِى يُوعَدُونَ [الزخرف:83].
حينها كيف سيكون حالهم؟
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ?لاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى? نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].
وطالما نظرت أبصارهم بجرائه.
وطالما اشمخرت أنوفهم بكبرياء.
أما اليوم فأبصارهم خاشعة، وكبرياؤهم ذليلة، لماذا ؟.... ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44].
لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.
وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا، فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه.
وما أسرع ما شاهدوه.
وما أسرع ما أحاطَ بهم أمره، ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44]. هنا أيها المؤمنون بلقاء الله جل وعلا تأثرُ هذه الحقيقةُ العظمى في نفسِ المؤمنِ ووجدانِه.
فيعلم أن من اجترأ على الله وإن عاش كما يعيشُ الناس.
بل ومات كما يموت الناس فإن الجزاء الحقيقيَ ينتظر هناك.
إن الدنيا ليست دارُ جزاء ولكن دارُ عمل، وأما الآخرةُ فهي دارُ جزاء، ولا عمل.
نعم قد يعجلُ اللهُ العقوبة لبعضِ المتمردين لحكمةٍ يعلمها.
فأهلك قومَ نوحٍ، وقوم هود وقوم صالح، أهلك أمماً، وأهلك أفراداً.
أهلك فرعون وقارون وهامان وأبا جهل وأبي بن خلف.
ولكن هذا تعجيل لبعض العقوبة، وقد يتخلف هذا التعجيل فتدخر العقوبةُ كلُها ليوفى المجرم يوم القيامة فإذا عقوبته كاملة لم يعجل له منها شيء.
ولكن كل ما قارفَه في الدنيا، وإن عاش في الدنيا كما يعيش الناس، وتمتع في الدنيا كما يتمتع الناس، ثم مات ميتة طبيعية كما يموت الناس فإن كل ما فعله لم يكن يتم في غفلة من الله:
وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لابْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42-43].
هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا.
ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة.
ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجتراءهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله،لم يجرِ في غفلةٍ من الله.
ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسري إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم - لمكر الله بهم - لا يشعرون.
قد يملي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثامه كلِها وجرائمهِ كلِها، ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعاً عليه، شهيداً عليه، رقيباً عليه.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ليزدادوا إثماً، وانظر إلى عقوبة أخرى:
وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـ?هَدَ ?للَّهَ لَئِنْ ءاتَـ?نَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ [التوبة:75-76]. فماذا كانت العقوبة؟
هل احترقت أموالهم؟
هل قصمت أعمارهم؟
هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟
هل ابتلعتهم الأرض؟
ماذا كانت العقوبة التي حلت بهم؟
استمع إلى العقوبة:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى? يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ?للَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:77].
كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقاً مستحكماً في القلوب إلى يوم يلقونه، فهو حكم عليهم بسوء الخاتمة.
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
بَلْ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].
هذه عقوبات تتسرب إلى القلوب في غفلة من الناس ومن الظالمِ نفسه، ولكنها عقوبات بالغة الخطورة.
ولكن العبرة بالمصير، بالمصير، يوم يفضي هذا الظالم إلى الله جل جلاله فيوافي عقوبة لا يستطيع أحد من البشر، من الخلق الذين كانوا في الدنيا يحبونه، ويوالونه وينصرونه، لا يستطيع أحد منهم أن ينصره أو يكفيه أو يتحمل عنه شيئاً من العذاب.
كانوا في الدنيا يقولون له: نحن فداك، نحن نكفيك.
لكن في الآخرة لا فداء لأن الفداء نار تلظى، لأن الفداء نار شديدة محرقة وخلود فيها، فمن الذي يفدي؟
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى ?لأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
يود ذلك! لكن يأتي الجواب..كلا:
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? [المعارج:15-17].
فمن الذي عنده استعداد للفداء.
أمة الإسلام، أيها المؤمنون بالله ولقائه نفضي من هذا كله إلى وقفات سريعة:
الوقفة الأولى:
أنا إذا رأينا إملاء اللهِ للظالمين وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم.
إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئاً قالوا الموت هو العقوبة.. كلا.
لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء.
الوقفة الثانية:
أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي اللهَ جل جلاله.
إن الرجل يتمتع بقوة نسبية على المرأة تلك التي لا تملك إلا الدموع تستنصر بها.
لكن عليه أن يتذكر أنه إن ظلمها فلم تستطع أن تنتصر منه في الدنيا ومشى أمام الناس بطوله ورجولته فهناك موعد تذهب فيه قوته وقوامته ويتم القِصاص منه للمظلوم ولو كان ضعيفاً.
يتذكر شرطي المرور أو الدوريات:
أنه عندما يأمر بمسكين إلى التوقيف، ثم يوقف ذلك المسكين دون أن يساءل هو، وإن سئل فهو المصدق، ثم يذهب هو إلى بيته ويجلس إلى أهله ويتناول طعامه.
وذاك في التوقيف يحاول الاتصال بأهله هاتفياً وقد لا يستطيع.
ليتذكر أن هذه القوة الدنيوية ستنمحي، ستنمحي، وسيوقف هو وهذا الذي ظلمه فلم يجد في الدنيا من ينتصر له، سيوقف هو وإياه بين يدي من ينتصر له.
ليتذكر الكفيل غربة العامل وحاجة العامل:
فيجور عليه ويكلفه بما ليس من عمله ويماطله في حقه، ليتذكر أن هذه الفوارق ستنتهي.
وهذه القوة الجزئية التي يتمتع بها ستنمحي.
وهذا الضعف الذي يهيمن على هذا العامل الآن سيذهب.
وسيوقفان جميعاً بين يدي رب لا يظلم أحداً، وليس أمامه تمايز في القوى.
إن القوة التي تستمدها من جنسيتك أو بلدك ستذهب لأنك ستحشر ولكن ليس في بلدك، وستوقف أمام الله وليست معك جنسيتك، ولكن بين يدي رب لا يظلم أحداً.
ليتذكر المسؤول الإداري مهما كانت منزلته، مهما كانت مسئوليته أنه عندما يجور على موظف بنقل تعسفي أو جور إداري وهو مطمئن إلى أن هذا الموظف لا يستطيع أن ينتصف منه في الدنيا، وأن المسؤول الأعلى مصدق له مكذب للموظف المسكين.
ليتذكر أن هذا يدور في أرض لا يعزب عن الله فيها شيء، وأن هذا التفاوت في القوة سينتهي وينمحي وستوقف أنت وإياه بين يدي رب لا يظلم أحداً.
قد لا تفضي إليك العقوبة في الدنيا، قد تنال ترقياتك كاملة ورواتبك موفاة وتنال تقاعدك أو تأمينك بانتظام، بل وتموت من غير عاهة مستعصية، ولكن كل ذلك لا يعني أنك قد أفلت من العقوبة.
التاجر الذي يستغل ذكاءه التجاري فيدلس على محتاج أتى إلى سلعة:
ويستغل عبارة ركيكة مكتوبة في آخر الوصفة (البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تستبدل).
ينبغي أن يتذكر أن هناك موقفاً لا تجديه فيه هذه الورقة، ولا ينفعه فيه الذكاء التجاري لأنه موقف بين يدي علام الغيوب المطلع على السر وأخفى.
ليتذكر كل من يتمتع بأي مظهر من مظاهر هذه القوة أن هذه القوة وإن كثرت وقويت فهي تنتهي سريعاً وتمضي جميعاً.
والعبرة بالمثول بين يدي رب تنتهي كل موازين القوى أمامه جل وتقدس وتعالى.
أما أنت أيها المظلوم فتذكر أن الله ناصرك لا محالةَ لأنك في ملكِ من حرم الظلمَ على نفسه، وحرمَه بين عباده، وسينتهي بك المصيرُ إلى يومٍ يقتصُ اللهُ فيه للشاة الجماء من الشاة القرناء، فكيف بك أنت!
لن يفوت شيء من حقك في الآخرة وإن فات في الدنيا.
الوقفة الثالثة:
أن هذا المعنى وهو انتظار الجزاء الأخروي كما هو دافع رهبة فهو دافع رغبة.
توفي زين العابدين على بن الحسين، فلما وضع على لوح الغسل وجد المغسلون في أكتافه ندوباً سوداء، فتفكروا ! مم أتت هذه الندوب في ظهر هذا الرجل الصالح؟
واكتشف الأمر بعد، لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحلكة الظلام ينقل أكياس الطعام إلى أسر فقيرة لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، عرفوا بعدما مات فانقطعت تلك الصلة من الطعام.
ما الذي يحمل زين العابدين على أن يتوارى بعمل الخير ويستتر به؟
إن الذي يحمله على ذلك انتظار الجزاء الأخروي، يريد أن يوافي ربه بأجره موفوراً.
وكذا كل منا عليه أن يجعل بينه وبين ربه معاملة خاصة، سر بينه وبين الله يجهد جهده أن لا يطلع عليه أحد من الخلق حتى يوافي ربه بعمل يستوفي جزاءه منه.
الوقفة الأخيرة:
وما هي بأخيرة: أن في استحضار هذا الأمر مدد للسائرين في طريق العمل للدين والدعوة إلى الله.
إن الذي يشخص ببصره إلى الجزاء الأخروي ينظر إلى العوائق فإذا هي يسيرة.
وإلى الصعوبات فإذا هي هينة.
وإلى الضيق فإذا هو سعة لأنه ينتظر جزاء أتم وأوفى.
قتل مصعب بن عمير، وقتل حمزة بن عبد المطلب فلم يوجد ما يوارى به أحدهم إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه، فأمر نبيك صلى الله عليه وسلم أن تغطى رؤوسهما وأن يوضع على أرجلهما من ورق الشجر.
هكذا انتهت حياة العمل للدين من غير أن يُتعجل شيء من أجورهم أو يروا شيئاً من جزائهم.
ولكن عند الله الموعد وعنده الجزاء الأوفى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، وأعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1815)
حياة أوقفت لله
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد الوهاب بن ناصر الطريري
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهداية أعظم نعم الله على المسلمين. 2- أمثلة من دأب الدعاة في الدعوة إلى الله. 3-
العطاء للدين لا يحده الزمان ولا المكان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.
أيها المؤمنون بالله ولقائه وبالرسول ورسالاته.
أيها الأخوة المتحابون بجلال الله.
إن رسالاتِ اللهِ إلى أهلِ الأرض، والدينَ الذي اختاره اللهُ لهم هو أثمنُ هبةٍ للبشرِ واعظمُ منةٍ عليهم، خيرةُ اللهِ للإنسانِ منهاجَ حياته، وطريقَه الموصلَ إلى جنته، هو النعمةُ التامةُ والفضلُ المبين.
?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة: 3].
أي نعمةٍ أعظمُ وأتمُ من أن تتنزلَ ملائكةُ الله بكلمات الله على رسول الله لتقول للإنسان: هذا طريقُك إلى الله. وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
إن هذا العطاءَ الإلهيَ والهبةَ الربانيةَ منةٌ تستشعرُ نفوسُ المؤمنين كِبرَ نعمةِ الله بها عليهم، فتتضاءلُ النفسُ أن تكونَ ثمناً لهذه النعمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان –فذكر منهن- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)).
ولذا حفلت مسيرة المؤمنين في التاريخ بصور من عطاء الحياة بسخاوة نفس ثمناً لهذا الدين.
ثمناً لعطاء الله من الهداية.
ثمناً لنعمة الله بالنور المبين.
أعطيت الحياة بسخاوة نفس يوم كان ثمنها هذه العقيدة وهذه الرسالة وهذه المنة الإلهية، يوم كان ثمنها خيرة الله للإنسان طريق حياته ومنهاجه، وثمنها الجنة ورضاء الله.
استمع إلى سحرة فرعون يتقبلون وعيده وهو يقول: فَلاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ?لنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى? [طه: 71].
فماذا كان الجواب على هذا التهديد؟ بل كيف استقبلوا هذا الوعيد وقد وصل فيه فرعون إلى كل ما يستطيعه من تنكيل؟
استمع إلى ثبات المؤمن المستشعر عظم المنة بالهداية المنتظرة من الله فضلاً، تحتقر له الحياة كلها.
استمع إلى جواب السحرة وهم يقدمون للدين أرواحهم بسخاوة نفس: قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى? مَا جَاءنَا مِنَ ?لْبَيّنَـ?تِ وَ?لَّذِى فَطَرَنَا فَ?قْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا [طه: 72]. نعم ما أقصر الحياة وما أهون الحياة الدنيا حين تكون ثمناً للإيمان بالله عز وجل، وإن عذابها مهما اشتد ونكالها مهما كاد وبطش أيسر من أن يخشاه قلب موصول بالله عز وجل ينتظر ثوابه وينتظر مغفرته وينتظر رضاه وجنته: إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـ?يَـ?نَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ ?لسّحْرِ وَ?للَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه: 73].
أيها الأحباب إنه الإيمان، إنه الإيمان إذا خالطت بشاشتُه القلوب، استحكَم الولاءُ له، وكان العطاءُ للدينِ سخياً، كان العطاءُ للدينِ سخياً غايةَ السخاء، لأنه معاملةٌ مع كريمٍ، وتلقٍِ لمننٍ من إله عظيم..
آيها المؤمنون بالله رب وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبرسالته الإسلام ديناً.
إذا كانت الحياةُ تقدمُ فداءً للدين، وثمناً للدين فهيَ كذلك تسخرُ لخدمةِ الدين، تسخرُ للعطاءِ للدين، إذاً كلُ ما فيها لله، وإذا هيَ حياةُ أوقفت كلٌها لله.
يقول نوح وهو يخاطب ربه: قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح: 5].
إنه الجهدُ الدائمُ الذي لا ينقطعُ ولا يمَلُ، ولا يفترُ ولا ييأسُ أمامَ الإعراضِ، ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً.
قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح: 5]. ثم يقولُ: ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جِهَـ?راً ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً [نوح: 8-9].
الله أكبر. ماذا بقيَ من حياةِ نبيَ اللهِ نوح لم يسخَره لدعوته ولم يبذَله لرسالتِه؟
الليلُ والنهار، الجهر والإسرار كلُها لله، حياةُ أوقِفَت كلُها لله.
ثم سرح طرفك في مسيرة أنبياء الله ورسله لتقف أمام نبي الله يوسف السجين الغريب الطريد الشريد الذي يعاني ألم الغربة وقهر السجن وشجى الفراق وعذاب الظلم، في هذا كله، وبين هذا كله في زنزانة السجن يسأله صاحبا السجن عن تعبير الرؤيا.
فلا يدع نبي الله يوسف الفرصة تفلت منه.
لا تنسيه مرارة المعاناة القاسية واجب العمل لله والعطاء لدينه فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للدعوة.
ويرى أن كونه سجيناً لا يعفيه أبداً من تصحيح الأوضاع الفاسدة والعقائد الفاسدة فإذا به ينادي في السجن: ي?صَاحِبَىِ ?لسّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ [يوسف: 39].
عذاب السجن وألم الغربة وقهر الظلم، كل ذلك لم يذهل ولم يدهشه ولم ينسه واجب الدعوة.
لأن العمل للدين رسالة في الحياة لا يمكن التحلل منها بحال.
وهكذا تسير ركاب المؤمنين برسالات الله، لا تدع فرصة للعمل للدين تفلت، ولا فرصة للعطاء للدين تضيع.
كل عطاء يقدم مهما كان قليلاً.
وكل جهد يبذل مهما كان يسيراً.
وكل فرصة تلوح للعمل للدين لا يمكن أن تفلت من يدي مؤمن بالعمل لهذا الدين.
هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ رضي اللهُ عنهما لما جهزت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ جهازهما للهجرة جمعت سفرةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي فيها طعامُه، والسقاءَ الذي فيه شرابُه، ثم جاءت لتحملَهما، فلم تجد ما تربطُ به السفرةَ والسقاء، فعمدَت إلى نطاقِها فشقته نصفين، فربطت بأحدهما السفرةَ وبالآخرِ السقاء.
امرأةُ تأبى إلا أن تقدم للدين، وتعطيَ للدين، ولو كانت لا تملكُ إلا نطاقها فليكن عطاؤُها هذا النطاق، وإذا لم يكن النطاقُ كافياً فليشقَ النطاقُ نصفين.
وترحلَت الأيامُ تُعطرُ سني التاريخِ بخبرِ أسماء، وتحملُ صفحاتُ التاريخ هذاِ الخبرَ، ومعهُ تشريفُ أسماء وتلقيبُها بذاتِ النطاقين، إن هذا اللقبَ يعبرُ عن العطاء للدين الذي لا يدعُ فرصةً تفلتَ دون أن يقدَم للدين مهما كان هذا العطاءُ قليلاً فهو الجهدُ وهو الطاقة.
ثم سر قليلاً لترى الرجل الكفيف الأعمى عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عذره الله في قرآنه: لَّيْسَ عَلَى ?لاْعْمَى? حَرَجٌ [النور: 61].
لم ير أنه يسعه أن يدع فرصة يخدم فيها الدين تفلت منه، ولتكن هناك في مواقع القتال وقعقعة السيوف وطعن الرماح وإراقة الدماء، ليكن له موقع.
فيصحب كتائب المسلمين ويطلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه وتليق به: “إني رجل أعمى لا أفر، فادفعوا إلي الراية أمسك بها".
يأبى إلا أن يشارك بنفسه على أي صورة كانت هذه المشاركة ممكنة.
حتى إذا كان يوم القادسية كان هو حامل الراية للمسلمين، الممسك بها، أعمى ضرير يرى أن في عماه مؤهل لحمل الراية: (إني رجل أعمى لا أفر).
وتحمل كتب التاريخ أنباء عبد الله بن أم مكتوم وأنه كان أحد شهداء القاسية يوم غشيته الرماح فلم تصادف فراراً ولا مولياً ولا معطياً دبره في قتال.
إن معنى العطاء لهذا الدين كان أمراً تشربته نفوس الصحابة مذ أن بسطت أيديهم إلى كف رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعة على الإسلام.
هذا ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف يسأله عن شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام.
حتى إذا عرفها آمن بها ثم رفع أصابعه الخمس قائلاً: يا رسول الله والله لا أزيد على هذه ولا أنقص.
لكنه لا يرى أن العمل للدين داخل في ما تحلل منه.
ولكنه رآه داخل في واجب عليه فإذا به ينقلب إلى قومه داعياً إلى الله يقول لهم: (يا قوم بئست اللات، بئست العزى).
فيظل بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيت من بيوتهم إلا دخله الإسلام، فيقول عمر رضي الله عنه: (ما رأينا قادماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أيمن من ضمام بن ثعلبة).
إن وضوح هذا المعنى للصحابة هو الذي دفع كتائبهم فانداحت بها الأرض، فإذا مائة سنة تشهد أعظم إنجاز يتحقق على الأرض، يوم طوي بساط المشرق إلى الصين، وبساط المغرب إلى المحيط الأطلسي تفتحه كتائب الصحابة والتابعين.
ما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي الرجال الذين يعلنون في كل موقعة قائلين: (الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد).
لم يكن هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي رجال أوقفت حياتهم كلها لله.
أمة الإسلام، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم:
إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين والبذل له وتسخير الحياة من أجله، بليلِها ونهارِها، والنفسُ بمشاعِرها ووجدانها وبكلِ طاقاتِها سخرةُ لهذا الدين.
هذا المعنى توارى أو خفتَ في نفوسِ كثيرٍ من المسلمين، بل ضعف في نفوس الشباب المتدين ذاته.
إنا نقلب الطرف،َ فتقرُ العينُ وتبتهجُ النفسُ، برُؤيةِ الوجوه العريضة الملتحية للشباب الواعد من شباب الصحوة.
إذ هيَ جموعُ تضيقُ بها المحافل، وتكتظُ بها المساجد، وتتزين بها ردهات الجامعات.
جموع أصبحت تواري التائهين، وتحجب الرؤيا عن الشاردين، فإذا هم الواجهة كثرة ووجوداً وحضوراً.
لكن هل يتناسبُ هذا العدد مع العطاء المنتظر؟
إن عدد شباب الصحوة الدافق المائج لا يتناسب مع ما ينتظر من عطاء.
لو أن كل نفس أشربت هذا المعنى وسخرت للدين هذا التسخير.
إن هذا المعنى أمر ينبغي أن يذكى في القلوب ويوقد في النفوس وتشحذ له العزائم وتسخر له الطاقات.
يبدأ من توتر القلب لهذا الدين.
توتر القلب وانفعاله وتوهج العاطفة وتلظيها ابتهاجاً بكل خطوة إلى الأمام يتقدمها أهل الخير.
ويعتصر ألماً وحرقة يوم يرى أي صورة من صور حجب الدين أو المضايقة لأهله أو المزاحمة لدعاته أو التضييق على الكلمة الهادفة أو حجب الكلمة الناصحة.
يتلظى القلب وتشتعل النفس ويلتهب الوجدان تفاعلاً مع مصاب الأمة في الكلمة الهادئة يوم يراد لها الحجاب والإطفاء.
فما مدى التفاعل مع الكلمة والدعوة والدعاة والغيرة لهم؟
نحن والله نعيش منة الله علينا بالهداية بدعوة دعاة مخلصين سخروا ليلهم ونهارهم وزاحموا ساعات حياتهم عطاء للدين، فما مدى امتناننا لله بهذه النعمة؟ ثم شكرنا لمن أهدانا الهداية وبذل الكلمة والوقت والنفس دعوة وجهاداً ومجاهدة.
ما حال القلوب، ما حال النفوس تعاطفاً مع الكلمة عندما يراد لها أن تطفأ أو تخبو؟
إن الغيرة على رسالة الله وعلى أنبياء الله منسحبة إلى ورثة أنبياء الله الذين يرثون عن الأنبياء علمهم ودورهم في الأمة، فهل أوقد في القلوب الحماس والتعاطف والتواصل والتوهج مع الدعوة والدعاة، والتوتر المنفعل مع قضايا الدعوة وآلام الدعاة؟
إن القلوب ينبغي أن لا تشح بمشاعرها، والعيون أن لا تبخل بدموعها وأن تقدّر أن مصابها في الدعاة وكلمتهم مصاب لقداسة الأمة في الصميم.
أيها الأحباب: أين العطاءُ للدين في حياتنِا؟
أين العطاء للدين، هل يعيشُ كلُ منا همَّ العطاءِ للدين فإذا به يحاول جهده أن يكون مؤثراً على قطاع يقل أو يكثر، يصغر أو يكبر في المجتمع؟
هل يسألُ كلُ منا نفسَهُ إذا غربَت شمسُ كلِ يوم، هل غرَبت وقد قدم لدينه شيئاً في ذلك اليوم؟
هل العطاءُ للدين همٌّ جاثمُ في القلوب يحركُها إلا أن تعطي، يبعثُها إلا أن تُقدم؟
لنتساءل بالتفصيل:
هل اشتريت كتاباً فأبى عليك حس الدعوة إلا أن تشتري بدل النسخة نسخاً، لنفسك منها واحدة، وللدعوة آخر؟
هل استمعت إلى شريط فلما أعجبك حملك حب الهداية إلى أن تهديه إلى غيرك؟
هل وجدت نفسك تهفّ وترفّ لجمع التبرعات لمساعدة الأنشطة الإسلامية والجهد الهادف والدعوة الخيرة؟
هل تفكرت في نفسك فرأيت أن من الواجب عليك أن تكفي الأمة مجتمعك، فإن عجزت فحيك، فإن قصرت فبيتك؟
هل وجدت أنه ينبغي أن يكون لك حضور لا يفقد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فاتضحت لك المشاركة والوجود.
أيها الأحباب:
إن الطاقة موجودة تحتاج إلى توظيف.
إن الطاقات كامنة تحتاج إلى تشغيل.
وصدق النية أيضا موجود، ولكن نحتاج إلى عزيمة وهمّ يخرج للوجود.
إن أعظم مؤسسة نشر قد تنشر من كتيب أو كتاب مائة ألف نسخة، وإن شئت فقل: مائتي ألف..
لكن لو قام كل متدين يعلم أنه يتحمل مسؤولية بلاغ رسالات الله بنشر الكتاب الموجه والشريط الهادف فأي طاقة نملكها في النشر؟ وأي جهد يقدم للدعوة من خلال ذلك؟
إننا سنجد أنفسنا أمام عملية نشر واسعة لا نظير لها توقظ الأمة من رقاد، وتفيقها من غفلة. بل تبعثها من ممات، وتحركها من همود..
أيها الأحباب:
إن واجبنا ن نتفقد أنفسنا، ما مدى العزيمة على العطاء في نفوسنا؟
ما مقدار الهم للعمل للدين في قلوبنا؟
ثم نحول ذلك إلى برنامج عملي في حياتنا.
برنامج يومي يعيشه كل منا في يومه، وهو أن يكون ذا عطاء لهذا الدين.
لقد مرِضَ المسلمون اليومَ بالتدينِ السلبيِ الجامدِ الهامد الذي لا يقدمُ ولا ينفعُ ولا يحرك،
إننا اليوم أمام خيار لا خيار لنا غيره؛ وهو أن نقدم لديننا وأن نعيش له حتى نلقى الله وقد قدمنا شيئاً لهذا الدين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله لا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسول الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1816)
أنذرتكم النار
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد الوهاب بن ناصر الطريري
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرسول يحذر أصحابه من النار. 2- بعض ما جاء في عذاب النار وأحوالها وطعامها
وشرابها. 3- صراخ أهل النار وبكاؤهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة في الله، لقد قست القلوب فهي ما بين شواغل الدنيا وصوادفها وملهياتها.
ثم إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، فإذا حديث الرقائق والرغائب.إذا الحديث المخّوف والحديث المرقق غريب عن القلوب، غريب على الآذان، قل ما تنصت إليه وقلّ ما تسمعه.
كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه بمواعظ توجل منها القلوب، وتذرف منه العيون، وترتعد منها الفرائص.
يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابه بكلمات قليلات يسيرات مباركات.
فيقول لهم أيها الناس: ((أُريت الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)).
فما أن يتتام هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخفض الصحابة رؤوسهم، ويكبوا بوجوههم، ولهم ضجيج وخنين بالبكاء.
أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر، ونذكرها بما خوف الله به عباده، وحذرهم منه، وقد حذر المولى جل وعلا وأنذر، حذر عباده أشد التحذير وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار ومن دار الخزي والبوار، فقال المولى جل جلاله وتقدست أسماؤه: فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى? [الليل:14]. وقال: إِنَّهَا لإِحْدَى ?لْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ [المدثر:35-36].
فوالله ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار. وصف لهم حرها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حميمها وغساقها، وصف أصفادها وسرابيلها.
وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، ويسمع وصف جهنم فكأنما أقيم على شفيرها فهو يراها يحطم بعضها بعضاً، كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها، ويجرجرون في أوديتها.
كل ذلك من المولى جل وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوف نبينا صلى الله عليه وسلم من النار وحذر وأنذر، وتوعد وحذر، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الإنذار، شديد التحذير من النار.
وقف صلى الله عليه وسلم على منبره فجعل ينادي ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)).
وعلا صوته صلى الله عليه وسلم حتى سمعه أهل السوق جميعاً، وحتى وقعت خليصة كانت على كتفيه صلى الله عليه وسلم، فوقعت عند رجليه من شدة تأثره وانفعاله بما يقول عليه الصلاة والسلام.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((أنا آخذ بحجزكم عن النار، أقول: إياكم وجهنمَ والحدود، إياكم وجهنم والحدود، إياكم وجهنم والحدود)).
فهو صلى الله عليه وسلم أخذ بحجز أمته يقول: ((إياكم عن النار، هلم عن النار، وهم يعصونه ويتقحمونها)).
أيها الأخوة في الله:
ثم أصبح الحديث عن النار وعذابها حديثاً خافتاً لا تكاد تتحرك به الألسنة ولا تستشعره القلوب ولا تذرف له العيون.
حديثاً غريباً عن المسامع، بعيداً عن النفوس.
مع أن ربنا جل جلاله قد ذكّرنا بها غاية التذكير، وحذرنا منها أعظم التحذير.
ألا فلنُشعر القلوب بشيء من أحوالها، ولنذكّر النفوس بشيء من أهوالها، عسى قسوة من قلوبنا تلين، وغفلة من نفوسنا تُفيق.
فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة، وعذاب شديد.
إن سألت عن حرّها وعن قعرها وحميمها وزقومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها؟
فما ظنك بحر نار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة.
ما ظننا بحر نار، نارنا هذه التي نوقدها جزء واحد من سبعين جزءً من نار الآخرة.
أما بُعد قعرها:فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفيرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها، والله لتملأن والله لتملأن والله لتملأن.
أما طعامها وشرابها؟ فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها:
إِنَّ شَجَرَةَ ?لزَّقُّومِ طَعَامُ ?لاْثِيمِ كَ?لْمُهْلِ يَغْلِى فِى ?لْبُطُونِ كَغَلْىِ ?لْحَمِيمِ [الدخان:43-46]. وقوله: أَذ?لِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ?لزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَـ?هَا فِتْنَةً لّلظَّـ?لِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ ?لْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ ?لشَّيَـ?طِينِ فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ?لْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى ?لْجَحِيمِ [الصافات:62-68].
أما شرابها، فاستمع إلى ما يقول ربنا وخالقنا: وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].
فهذا الطعام: ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:13].
وهذا الشراب: مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى? مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ?لْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16-17].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم)).
فكيف بمن تكون طعامه؟؟، فكيف بمن تكون طعامه؟؟
يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا أغيثوا بشجر الزقوم.
فإذا أكلوه غلى في بطونهم كغلي الحميم، فيستسقون فيُسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوى وجهه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره: وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد:15].
أما سلاسلها وأغلالها فاستمع إلى وصفها: ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:22]. فَيُؤْخَذُ بِ?لنَّوَاصِى وَ?لاْقْدَامِ [الرحمن:41]. أي أن ناصية رأسه تجمع إلى قدميه من وراء ظهره.
يُنشئ الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال لهم: يا أهل النار أي شيء تطلبون؟
فيقولون: الشراب، فيستسقون، فتمطرهم تلك السحابة السوداء أغلالاً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمراً يتلهب عليهم.
أما عذاب أهل النار وكل ما مضى من عذابها؟
فما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذاباً من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم.
أما حال أهلها فشر حال وهوانهم أعظم هوان وعذابهم أشد عذاب؟
ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أكبادهم جوعاً.
ثم انصرف بهم بعد ذلك إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها.
فلو رأيتهم وقد أسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:41].
فغطاؤهم من نار، وطعامهم من نار، وشرابهم من نار، ولباسهم من نار، ومهادهم من نار.
فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع، وجر السلاسل، يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها.
تغلي بهم كغلي القدور وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ?لْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَ?لْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [الحج:19-22].
يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَـ?هُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ?لْعَذَابَ [النساء:56].
أمانيهم فيها الهلاك، ومالهم من أسرها فكاك.
فما حال دارٍ أماني أهلها إذا تمنوا فيها، الموت؟
ما حال دار أماني أهلها إذا تمنوا فيها، أن يموتوا؟
كيف بك إذا رأيتهم وقد اسودت وجوههم فهي أشد سواداً من الحمم. وعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطئون حسك الحديد بأحداقهم. ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: ((يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتت من الكبود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود)).
فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقسى خطاب وأغلظ جواب: إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77].
فينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:106-107].
فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبه بتوبيخ أشد من العذاب: قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108].
فعند ذلك أطبقت عليهم النار وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزداد حسراتهم وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء.
يبكون على تضييع أوقات الشباب، ويتأسفون أسفاً أعظم من المصاب. ولكن هيهات هيهات، ذهب العمل وجاء العقاب.
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القيادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلا سرابيل قطران لباساً محرقا
إذا شربوا منها الصديد رأيتهم يذوبون من حر الصديد تمزقا
ويزيدهم عذابهم شدة، وحسرتهم حسرة تذكرهم ماذا فاتهم بدخول النار.
لقد فاتهم دخول الجنان، ورؤية وجه الرحمن، ورضوان رب الأرض والسماء جل جلاله.
ويزيد حسرتهم حسرة، وألمهم ألماً أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه للذة فانية، وشهوة ذاهبة، لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس، دراهم معدودة.
بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانوا وما كانت.
ثم لقوا عذاباً طويلاً، وهواناً مقيماً.
فعياذاً بالله من نار هذه حالها.
وعياذاً بالله من عمل هذه عاقبته.
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك.
اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك.
رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65-66].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1817)
الرقابة لمن؟
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الأسماء والصفات
علي بن عبد الخالق القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علم الله بكل شيء. 2- الخوف من الله المطلع على كل شيء. 3- ثمرة مراقبة الله.
4- الشهود يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ جل وعلا، وأن نقدمَ لأنفسِنا أعمالاً تبيضُ وجوهَنا يوم نلقى اللهَ، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـ?دِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [النحل:111].
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].
وَيَوْمَ يَعَضُّ ?لظَّـ?لِمُ عَلَى? يَدَيْهِ يَقُولُ ي?لَيْتَنِى ?تَّخَذْتُ مَعَ ?لرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27].
يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الزلزلة، يوم الصاخة
يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
ثم أعلموا يا عباد اللهِ أن رقابةَ البشرِ على البشرِ قاصرة، وأن رقابةَ المخلوقاتِ على بعضها قاصرة.
البشرُ يغفل، والبشرُ يسهو، ينام، يمرض، يسافر، يموت.
إذاً فلتسقطُ رقابةَ المخلوقين ولتسقط رقابة الكائنات جميعَها، وتبقى الرقابةُ الكاملة، الرقابةُ المطلقة آلا وهي رقابةُ اللهِ جل وعلا.
باري البرايا منشأ الخلائق مبدعهم بلا مثال سابق
حي وقيوم فلا ينام وجل أن يشبه الأنام
فإنه العلي في دنوه وإنه القريب جل في علّوه
لا إله إلا هو.
علمُ البشرِ، ما علمُهم؟ علمُ قاصر، ضعيف قليل.
ما وراءَ هذه الجدران؟ نجهلُ منه الكثيرُ لا نعلمه، بل لا نعلمُ أنفسَنا التي بين جنبينا.
لكن الله يعلم ذلك ويعلم ما هو أعلى من ذلك.
وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59].
إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَخْفَى? عَلَيْهِ شَىْء فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء [آل عمران:5]. يعلم ما تسره الآن في سريرتك ومن بجوارك لا يعلم ذلك.
يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.
إنه العلم الكامل، إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم، العليم الخبير. يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19]. يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء.
هو الذي يرى دبيب الذر في الظلمات فوق صم الصخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [المجادلة:7].
رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل، تحت جدارِ الكعبة، قد هدأت الجفون ونامت العيون، أرخى الليلُ سدوله، واختلط ظلامُه، وغارت نجومُه، وشاع سكونُه.
قاما يتذاكران، ويخططان ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلمُ كثيراً مما يعملون.
استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتونَ مما لا يرضى من القول.
تذاكرا مصابهم في بدر فقال صفوان وهو أحدُهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير.
فقال عمير: صدقت والله لولا دينُ علي ليس له قضاء، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة لركبتُ إلى محمد حتى أقتله.
صلى الله على نبينا محمد.
اغتنم صفوان ذلك الإنفعال، وذلك التأثر وقال: علي دينُك، وعيالُك عيالي لا يسعُني شيءُ ويعجزُ عنهم.
قال عمير: فأكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد. قال صفوانُ: أفعل.
فقام عمير وشحذ سيفَه، وسمَه، ثم انطلقَ به يغضُ السير به إلى المدينة.
وصل إلى هناك وعمرُ رضي الله عنه، أعني بنَ الخطاب في نفرٍ من المسلمين.
أناخَ عميرُ على بابِ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً سيفه.
فقال عمر: عدو الله، والله ما جاء إلا لشر.
ودخل عمر على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخلُه علي.
فأخذ عمرُ بحمائل سيفِ عُمير وجعلها له كالقلادة ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أرسله يا عمر.
ثم قال ما جاء بك يا عمير. وكان له أبنُ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم
قال جئت لهذا الأسير، فأحسنوا به.
قال صلى الله عليه وسلم: فما بالُ السيفِ في عنقك؟
قال: قبحها اللهُ من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً.
فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير، اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟
قال: ما جئت إلا لذاك.
فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له: كذا، وقال لك: كذا وتعهد لك بدينك وعيالك، واللهُ حائلُ بيني وبينك.
قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا أمرُ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، واللهِ إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.
جاء ليقتلَ النور ويطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور اقتبسَه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة، في ظلمة الليل لا يعلمُ بها أحد حتى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم الغيب. حُبكت المؤامرةُ سراً.
من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما؟ وهما يخططان، ويدبران ويمكران عند باب الكعبة.
إنه الذي لا يخفى عليه شيءُ في الأرض ولا في السماء.
كم تأمر المتآمرون في ظلام الليل، كم من عدو للإسلام جلس يخطط لضرب الإسلام وحدَه أو مع غيره سراً، ويظن أنه يتصرفُ كما يشاء، متناسياً أن الذي لا يخفى عليه شيءُ يسمع ما يقولون ويبطل كيدَهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
يا أيها العبدُ المؤمن: إذا لقيت عنتاً ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن ولا تأسَ إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقالُ لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.
يا أيها المؤمن إذا جُعلت الأصابع في الآذان: واستغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن وضاقت نفسك فلا تأسَ ولا تحزن، إن الله يعلم ويسمع ما تقول وما يقال لك.
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
يا أيها الشاب الذي وضع قدمَه على أول طريق الهداية، فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثاً يقاطعه، اثبت ولا تأسَ وأعلم علم يقين أنك بين يدي الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك، وسيجزي كل أمرء بما فعل.
لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
يا مرتكبَ المعاصي مختفياً عن أعينَ الخلق أين الله؟
أين الله ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين: إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت.
وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلمَ تجترئ عليه، وتجعلَه أهونَ الناظرينَ إليك؟
يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ وَكَانَ ?للَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [النساء:108].
يدخلُ بعضُ الناسِ غابةً ملتفة أشجارُها، لا تكادُ ترى الشمسَ معها، ثم يقول: لو عملتُ المعصيةُ الآنَ من كان يراني؟
فيسمعُ هاتفاً بصوت يملأ الغابة ويقول: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]. بلى والله.
فيا منتهكاً حرماتِ الله في الظلمات، في الخلوات، في الفلوات بعيداً عن أعين المخلوقات، أين الله؟ هل سألت نفسكَ هذا السؤال.
في الصحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه قال قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأعلمنَ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثوراً)).
قال ثوبان: صفهم لنا، جلّهم لنا أن لا نكون منهم يا رسول الله قال: ((أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها)).
إلى من يملأ ليله وعينَه وأذنه ويضيعُ وقتَه حتى في ثُلث اليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله، أين الله؟
فقد روى االثقاةُ عن خيرِ الملاء بأنه عز وجل وعلا
في ثلثِ الليل الأخيرِ ينزلُ يقول هل من تائبٍ فيقبلُ
هل من مسيء طالبٍ للمغفرة يجد كريماً قابلاً للمعذرة
يمن بالخيراتِ والفضائل ويسترُ العيب ويعطي السائل
فنسأله من فضله.
إن اللهَ لا يخفى عليه شيء فهلا اتقيتَه يا عبد الله.
عمرُ بن الخطاب رضي اللهُ عنه، يعسُ ليلةً من الليالي ويتتبع أحوال الأمة، وتعب فاتكأ على جدارٍ ليستريح، فإذا بمرأةٍ تقولُ لابنتها: امذقي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع.
فقالت البنت:ُ إن عمرَ أمرَ مناديه أن ينادي أن لا يشابُ اللبنَ بالماء.
فقالتِ الأم:ُ يا ابنتي قومي فإنك بموضعٍ لا يراكِ فيه عمرُ ولا مناديه.
فقالتِ البنتُ المستشعرةُ لرقابةَ الله: أي أماه فأين الله؟ وللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، وأعصيه في الخلاء.
ويمرُ عمرُ أخرى بامرأة أخرى تغيبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله عز وجل، قد تغيبت في ظلمات ثلاث، في ظلمة الغربةِ والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:
تطاول هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السريري جوانبه
ما الذي راقبته في ظلام الليل وفي بعد عن زوجها، وفي هدأة العيون؟
والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أنعم بها من مراقبة وأنعم بها من امرأة.
وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد ابن رجب، ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب.
فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟ أين الله يا رجل؟
أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول.
أخيرا اسمع لهذا الحدث ولم يقع في هذا الزمن وإنما وقع في زمن مضى لتعلم ثمرة مراقبة الله عز وجل، واستشعار ذلك الأمر.
رجل اسمه نوح بن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق، وكان له أبنة غاية في الجمال، ذات منصب وجمال. وفوق ذلك صاحبة دين وخلق.
وكان معه عبد اسمه مبارك، لا يملك من الدنياء قليلاً ولا كثيراً ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء.
أرسلَه سيده إلى بساتين له، وقال له: اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها، وكن على خدمتها إلى أن آتيك.
مضى الرجل وبقي في البساتين لمدة شهرين، وجاءه سيده، جاء ليستجم في بساتينه، ليستريح في تلك البساتين.
جلس تحت شجرة وقال: يا مبارك، ائتني بقطف من عنب.
جاءه بقطف فإذا هو حامض.
فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض.
فأتاه بآخر فإذا هو حامض.
قال: ائتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض.
كاد أن يستولي عليه الغضب، وقال: يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج، وتأتني بقطف لم ينضج.
ألا تعرف حلوه من حامضة؟
قال: والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته. والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة.
والذي لا إله إلا هو ما رقبتك، ولا رقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أعجب به، وأعجب بورعه وقال: الآن أستشيرك، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن.
وقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟
فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب. واليهود يزوجون للمال. والنصارى للجمال. وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوجون للدين والخلق. وعلى عهدنا هذا للمال والجاه. والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم.
أي نصيحة وأي مشورة؟
نظر وقدر وفكر وتملى فما وجد خيراً من مبارك، قال: أنت حر لوجه الله أعتقه أولاً.
ثم قال لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت.
قال: اعرض عليها. فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك.
قالت: أترضاه لي؟
قال: نعم.
قالت: فإني أرضاه مراقبة للذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فكان الزواج المبارك من مبارك.
فما الثمرة وما النتيجة؟
حملت هذه المرأة وولدت طفلاً أسمياه عبد الله، لعل الكل يعرف هذا الرجل.
إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد الذي ما من إنسان قلب صفحة من كتب التاريخ إلا ووجده حياً بسيرته وذكره الطيب.
إن ذلك ثمرة مراقبة الله غز وجل في كل شي.
أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامت الأمور.
فيا أيها المؤمن، إن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ما ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، وراء الحيطان، في الخلوات، في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم، هل علمتَ ذلك، واستشعرتَ ذلك فاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطناً، فكانَ باطنُك خيرُ من ظاهرِك.
إذا ما خلوت الدهرَ يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
عباد الله، اتقوا اللهَ في ما تقولون، واتقوا الله في ما تفعلون وتذرون.
اتقوا الله في جوارحكُم، اتقوا اللهَ في مطعمِكم ومشربِكم، فلا تدخلوا أجوافَكم إلا حلالاً فإن أجوافَكم تصبرُ على الجوعِ لكنها لا تصبرُ على النار.
اتقوا اللهَ في ألسنتِكم، اتقوا اللهَ في بيوتِكم، في أبنائِكم في خدمكم، في أنفسكم.
اتقوا اللهَ في ليلِكم ونهارِكم، اتقوا اللهَ حيثما كنتم.
وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أقول ما تسمعون واٍستغفر الله فأستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اعلموا علم يقينٍ أن اللهَ هو الرقيب، وأن الله هو الحسيب، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه.
هو الشهيدُ وكفى به شهيداً، ومن حكمتِه سبحانه وبحمده أن جعل علينا شهوداً آخرين لإقامةِ الحجُةِ حتى لا يكون للناس حجة، وتعدد الشهودُ علينا وكفى باللهِ شهيداً، من هؤلاءِ الشهودِ:
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حيثُ يقول اللهُ عز وجل: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].
فرسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيشهدُ على الأممِ وعلى هذه الأمة.
والملائكةُ أيضاً يشهدون وكفى باللهِ شهيداً، قال اللهُ عز وجل: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الإنفطار:10-12].
ويقول جل وعلا: إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18].
فالملائكة أيضا ستشهد. والكتابُ سيشهد. والسجلات ستفتح بين يدي الله فترى الصغيرَ والكبيرَ والنقيرَ والقطميرَ، تنظرُ في صفحةِ اليومِ الثامنُ من هذا الشهر فإذا هي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُوراً ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13-14].
والأرضُ التي ذللها الله عز وجل لنا ستشهدُ بما عمل على ظهرها من خيرِ أو شر: إِذَا زُلْزِلَتِ ?لاْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ ?لارْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى? لَهَا [الزلزلت:1-5].
ستحدث بما عمل على ظهرها من خير أو شر، بل إن هذه الأرض تحمل عاطفة، إذا مات المؤمن بكاه موضع سجوده، وبكاه ممشاه إلى الصلاة، وبكاه مصعد عمله إلى السماء.
وأما الذين أجرموا وكفروا ونافقوا: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ?لسَّمَاء وَ?لاْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29].
والخلقُ أيضا سيشهدون وكفى باللهِ شهيداً: لطالما تفكهُ الإنسانُ بين هؤلاءِ الخلقِ بالوقوعِ في أعراضِ المسلمينَ بذكرِ ما سترَه اللهُ عليه. وما علم أن الخلق سيشهدونَ.
في الصحيح أن جنازة مرت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه فيثني عليها الناس خيراً فيقول صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)).
وتمر أخرى فيثني عليها الناس سوء فيقول صلى الله عليه وسلم: ((وجبت)).
فيتساءل الصحابة؟
فيقول صلى الله عليه وسلم: ((أثنيتم على الأولى بخير فوجبت لها الجنة، وعلى الثانية بسوء فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه، أنتم شهداء الله في أرضه)).
وسيشهدُ ما هو أقربُ من هذا: ستشهدُ الجوارحُ فأيد تشهد، وأرجل تشهد، وألسن تشهد، وجوارح تشهد:
?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65].
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ?لْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].
فاتقوا الله يا باد واجعلوا هؤلاءِ الشهودِ جميعهم لكم لا عليكم.
وبادروا أنفسَكم وأعمارَكم بالأعمالِ الصالحةِ قبل حلولِ الآجالِ وبقاءِ الحسراتِ.
أيا من يدعّي الفهم، إلى كم يا أخَ الوهم، تعبي الذنبَ بالذنب، وتخطي الخطأ الجم.
أما بان لك العيب، أما أنذرك الشيب، وما في نصحه ريب، ولا تنعُ فقد صم.
أما نادى بك الموت، أما أسمعك الصوت، أما تخشى من الفوت، فتحتاطَ وتهتم.
فكم تسكرُ في السهو، وتختالُ من الزهو، وتنصبُ إلى اللهو، كأن الموتَ ما عم.
وحتى متى جافيك، وإبطاؤك لافيك، طباعُ جمعت فيك، عيوبُ شملُها انظم.
أتسعى في هوى النفس، وتختالُ على الأنس، وتنسى ظلمةَ الرمس، ولا تذكرُ ما تم.
ستذري الدمَ لا الدمع، إذا عاينتَ ولا دمع، يقي في عرصة الجمع، ولا خالٍ ولا عم.
كأني بك تنحط، إلى اللحدِ وتنغط، وقد أسلمك الرهط، إلى أضيق منسم.
هناك الجسمُ ممدود، ليستأكَله الدود، إلى أن ينخر العود، ويمسي العظمَ قد رم.
فبادرِ أيها الغمر، لما يحلُ به المر، فقد كاد ينتهي العمر، وما أقلعت عن ذم.
وزود نفسَك الخير، ودع ما يعقبُ الضير، وهيء مركب السير، وخف لجة اليم.
(1/1818)
الإخلاص
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الشرك ووسائله
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
4/8/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخلاص شرط في قبول العمل. 2- الرياء سبب في دخول النار. 3- الإخلاص ينجي من
الشدائد. 4- مفسدات النية والإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الواجب على المسلم أن يقصد الله سبحانه وتعالى وحده بالعبادة في قوله وعمله وجهاده ودعوته وسائر أعماله ويتبرأ من كل ما سوى الله، وذلك لا يكون إلا بإخلاص النية والقصد والإرادة لله وتخليصها من كل غرض دنيوي.
قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
وقال الله تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5].
وقال الله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110]. وهذه الآية بينت أن ركني العمل وشرطي صحتهما إنما هو في الإخلاص والمتابعة فقوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً أي صواباً على السنة وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا أي إخلاصاً لله عز وجل، فهذان ركنا العمل الصالح، لا يقبل الله أي عمل إلا بهما.
إن العمل إذا كان لله فهو مقبول، وصاحبه مأجور عليه، وإن كان لغير الله فهو مردود على صاحبه، وهو مأزور عليه، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل في العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم،وفي الحديث القدسي: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) [رواه مسلم].
ولن يقبل الله من العبد عملاً إلا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم قال الله تعالى: أَلاَ لِلَّهِ ?لدّينُ ?لْخَالِصُ [الزمر:3]. وقال: فَ?دْعُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [غافر:14].
وتصحيح النية لله شرط في صحة العمل وقبوله، فعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [متفق عليه].
والقتال في سبيل الله وهو من أفضل الأعمال وأعظمها لا يقبله الله من العبد إلا إذا كان مقاتلاً في سبيله عز وجل، فعن أبي موسى الأشعري قال: سئل رسول الله عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّة – أي غيرة وعاراً وأنفة- ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) [متفق عليه].
وإن العمل الصالح إذا أخلص فيه العبد لربه انتفع به في الدارين واستمعوا إلى حديث الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت في غار وهم في سفر، ففيه العبرة والعظة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار في خلوة فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق - أي لا أقدم عليهما أحداً في شرب اللبن، والغبوق هو ما يشرب بالعشي - قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً، فلم أرِح - أي لم أرجع إليهما – عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي – انتظر استيقاظهما حتى برق – أي ظهر الفجر، والصبية يتضاغون – أي يتباكون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه، قال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ، وفي رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فأردتها عن نفسها – أي الزنا – فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين – أي حل بها عام قحط وجفاف ومجاعة – فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها – وفي رواية – فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه – كناية عن النكاح – فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحدٍ ترك الذي له وذهب فثمرّت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أدِّ إلي أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك: من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي! فقلت: لا استهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) [متفق عليه].
فهؤلاء الثلاثة نجاهم الإخلاص لله وابتغاء وجه الله في أعمالهم من هلاك محقق، فلما عرفوا الله في الرخاء، ما نسيهم في الشدة وصدق رسول الله إذ يقول: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) [أخرجه الترمذي بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما].
فالواجب علينا أن نخص النية ونصحح الإرادة لله سبحانه وتعالى حتى يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
أقول ما تسمعون، ادعوا الله واستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن مفسدات النية والإخلاص كثيرة ومنها: حرص المرء على المال والشرف فقد يبيع الرجل دينه بعرض من الدنيا قليل، وقد يتطلع إلى الشرف في الدنيا والوجاهة بين الناس، فحرصه الشديد على ذلك يدفعه إلى ضياع دينه فيوبق دنياه بآخرته فعن كعب بن مالك قال: قال رسول الله : ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما في حرص المرء على المال والشرف لدينه)) [رواه أحمد والترمذي واسناده صحيح].
ومعنى الحديث أن حرص المرء على المال والشرف يفسد دينه أشد من إفساد ذئبين جائعين أرسلا في غنم، فليتعاهد المرء دينه وليحرص على إرضاء ربه وليخلص النية في القول والعمل.
وإن الحرص على المال قد أودى بكثير إلى الهلاك، فكم من مجاهد في سبيل الله وهو يقاتل فيقتل، ولكنه قد أذهب أجره غلوله للغنائم قبل قسمتها فعن عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد، فقال رسول الله : ((كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة)) [رواه مسلم]. والغلول: هو السرقة من الغنيمة قبل قسمتها، وقد حرم الله ذلك وتوعد فاعله فقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:161].
وبعض الناس دينه المال إن أعطي رضي، وإن لم يعط يسخط، وهؤلاء أضعف من المنافقين ومن كان فيه ذلك ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها، وقد أخبر الله عن هؤلاء المنافقين بقوله: وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ?لصَّدَقَـ?تِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58].
أيها المسلمون: إن المال فتنة، وإن فساد كثير من الناس إنما كان بسبب المال والحرص على الدنيا والتطلع إليها، وكم من أناس كانوا مثار إعجاب الناس، ففسدوا بسبب المال.
الحرص على المال والشرف هو الذي ضيع دين بعض الناس فراؤوا في أقوالهم وأفعالعهم ومنهم من نافق ليبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فهؤلاء وأمثالهم ممن تسعر بهم النار يوم القيامة، لأنهم لم يريدوا بعملهم وجه الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أذل الناس يقضي يوم القيامة عليه – أي يحكم عليه – رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته، فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك – أي في سبيل الله – حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار)) [رواه مسلم].
فاتقوا الله يا عباد الله وأخلصوا النية في القول والعمل واعلموا أنه لا ينجيكم عن عذاب الله وسخطه إلا ما قد قسموه من عمل صالح بين يدي ربكم، ولن يتقبل منكم أعمالكم إلا بإخلاصكم النية والإرادة منه وموافقتكم سنة نبيكم.
فاللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل واجعل كل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم آمين.
(1/1819)
الابتلاء في حياة الدعاة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, قضايا دعوية
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
13/7/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراع بين الشيطان والإنسان بدأ من لدن آدم. 2-أولياء الشيطان يحاربون أولياء الرحمن.
3- الداعية مخير بين البلاء أو المداهنة والمساومة. 4- الداعية المسلم مطالب الثبات والصبر.
5- ثبات الأنبياء رغم البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الصراع بين الحق والباطل قائم على أشده منذ أن خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة، فآدم عليه السلام وهو يمثل عنصر الخير في الأرض وتمثل الحق فيه، عاداه إبليس اللعين أصل كل شر وبلية، وذلك العداء من إبليس وجنده لآدم وذريته من المؤمنين قائم وسيظل قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وتاريخ الأنبياء حافل بالصراع بينهم وبين الكافرين أولياء الشيطان فمنذ أن بعث الله آدم عليه السلام ومن لدن نوح عليه السلام حتى ختم الله الرسالة والنبوة، بمحمد وهداه إلى الإسلام يشنون حرباً لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين، وستظل هذه الحرب وإلى يومنا هذا بل وإلى يوم الدين.
والأعداء لن يكفوا عن حرب المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وأولياء الشيطان من الجبابرة العتاة والطغاة والمتكبرين حين يصارعون أهل الحق يضعونهم أمام خيارين لا ثالث لهما، إما البطش والتعذيب والتنكيل بأولياء الله وحملة الدين، وإما أن يساوموهم للدخول معهم في دينهم، إما بأنصاف الحلول أو بأثلاثها وأرباعها قال الله تعالى: وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى? إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ ?لأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:13-14].
فهذان الخياران أحلاهما مر، إما القتل أو التنكيل والتعذيب، والتشريد وإما الدخول في ملة الكافرين، والقبول بالخيار الأخير معناه التخلي عن المبدأ والعقيدة، فإن التنازل ولو بقدر ضئيل معناه التخلي عن المبدأ، فإن من قبل أن يتنازل ولو بشيء بسيط عنده الاستعداد للتنازل إلى آخر المطاف، والذي ينتهي به إلى بيع الصفقة كلها، وهذا ما وعاه فتية الكهف فإنهم قالوا: إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً [الكهف].
فهذا هو منطق الطغاة والمتجبرين والطواغيت، لو ظفروا بالدعاة استخدموا معهم كل أساليب البطش والتنكيل، والتعذيب أو ساوموهم في الدخول معهم ومشاركتهم في كفرهم وباطلهم.
وإذا اختار الدعاة هذا الطريق طريق المساومة والدخول في ملة الكافرين فلن يفلحوا أبداً فإن دين الله إنما جاء لتحقيق التوحيد والقضاء على الشرك وأهله.
فيا عباد الله: إن الطريق الذي اختاره الله لنبيه محمداً وأصحابه في سبيل نشر هذا الدين كان هو طريق التوحيد والثبات على المبدأ، وهو الطريق الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، أن يفاصلوا المشركين في ملتهم ودينهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [الكافرون:1-6].
هذا الطريق تتطلب من المسلمين الثبات والصبر وإن ساورهم العدو على أنصاف الحلول لتمييع مبدئهم فليصبروا وليثبتوا على ما هم عليه من مبدأ الحق، فإن الله سبحانه وتعالى قد كتب التمكين لأوليائه، والاستخلاف لهم في الأرض، ولكن إلى أجل هو يعلمه سبحانه وتعالى قال الله سبحانه وتعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5-6].
أيها المسلمون: إن حرب الأعداء على حملة هذا الدين ودعاته قائم، وإذا أسفر الباطل عن وجهه الكالح السواد، فكشر عن أنيابه، واستخدم كل أساليب البطش والتنكيل والتعذيب والقتل معتقداً أنه بهذا الأسلوب سيقتضي على الحق وحملته، وهذه هي سنة الله في دعاة الحق وحملته وأنصاره، فإن جاء الابتلاء وأوذوا في سبيل الله فما عليهم إلا الصبر والثبات على الحق، وعدم المساومة في دين الله إلى أن يفتح الله بينهم وبين الكافرين، فعن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [رواه البخاري وأبو داود والنسائي].
إن الأنبياء وهم أكرم الخلق عند الله ما سلموا من الإيذاء والتعذيب بل إن منهم من قتل في سبيل الدين فقال الله تعالى عن اليهود وَيَقْتُلُونَ ?لنَّبِيّينَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
فعن عبد الله بن مسعود قال: كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربة قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه يقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) [متفق عليه].
هذا هو طريق الدعوة والتوحيد، هذا هو سبيل الله الذي اختاره لأوليائه فما على الدعاة وأتباعهم وحملة هذا الدين إلا أن يصبروا إلى أن يأذن الله لهم بالفرج.
_________
الخطبة الثانية
_________
يقول الله تعالى في محكم كتابه: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [القصص:26].
فهذا هو منطق فرعون ومنطق كل الفراعنة في كل زمان ومكان، ليس أمامهم خيار إلا أن يبطشوا بالصالحين وبأولياء الله المتقين، والعجيب أن يتظاهر هؤلاء الطواغيت المفسدون في الأرض أنهم أهل خير وصلاح، متهمين الدعاة وحملة الشريعة بأنهم مظهرون في الأرض الفساد. وهذا من قلب الحقائق والمعاني، فإن الدعاة والمصلحين وحملة الدين هم المصلحون والطاغوت وأعوانه وأنصاره هم المفسدون.
وتأملوا إلى قول فرعون اللعين حين قال: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ فللكفار دين غير دين الإسلام، فلهم دينهم ولنا ديننا، ولذلك وجب على جميع المسلمين إعلان المفاصلة والمفارقة للكفار وأن لا التقاء بيننا وبينهم لا في نقير ولا في قطمير، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [الكافرون:1-6].
أيها المسلمون: إن سنة الله القدرية الكونية والشرعية قاضية في أن يبتلي عباده المؤمنين، فكل من قال: لا إله إلا الله صادعاً بها في وجه الكفار والطواغيت فهو معرض للتعذيب والتنكيل به من قبل أساطين الكفر والاستكبار العالمي، وهذا هو الطريق الذي اختاره الله لأهل التوحيد ولعباده المؤمنين المتقين.
ولنا في قصة أصحاب الأخدود عبرة، فإنهم ساوموهم في دينهم، فما نكصوا ولا استكانوا، وفضلوا الموت في سبيل الله على أن يقدموا التنازل لكافر أو طاغية، واستمعوا إلى رب العزة عز وجل وهو يقول بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَ?لسَّمَاء ذَاتِ ?لْبُرُوجِ وَ?لْيَوْمِ ?لْمَوْعُودِ وَشَـ?هِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَـ?بُ ?لاْخْدُودِ ?لنَّارِ ذَاتِ ?لْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى? مَا يَفْعَلُونَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?لَّذِى لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ إِنَّ ?لَّذِينَ فَتَنُواْ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ?لْحَرِيقِ [البروج:1-10].
فانتقام الكفار والطواغيت بحملة الدين والمدافعين عن حمى الإسلام إنما هو بسبب إيمان المؤمنين بالله وتجريدهم التوحيد لله، ولذلك تأتي صنوف التنكيل وألوان التعذيب لتثني المسلمين عن الواجب المنوط بهم.
ولكن يأبى الله إلا أن ينصر أولياءه المؤمنين ويخذل أعداءه الكافرين، فالواجب على الفئة المؤمنة المجاهدة في سبيل الله أن تستمر في طريق دعوتها ولا يثنيها تكالب الأعداء عليها فإن الله مولى المؤمنين.
أيها المسلمون: لا تلتفوا إلى المرجفين المثبطين والمخذلين ولا تصغوا إلى المنافقين وأولياء الشيطان، فاعتصموا بالله وكونوا به معتصمين لا بسواه، واعلموا أن الله قادر أن ينصر دينه ويهلك أعداءه في أقل من ثانية، ولكنه شاء سبحانه وله الحكمة في ذلك أن يدفع الكفر بالإيمان، والشر بالخير، والكفار بأوليائه المؤمنين وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
(1/1820)
الاستقامة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
18/8/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة القرآن للاستقامة على الصراط المستقيم. 2- صور للذين حادوا عن هذا الصراط
وتاهوا عنه. 3- السعادة لا تتحقق إلا بالاستقامة. 4- الاستقامة هداية من الله الرحيم. 5- حسن
عاقبة الاستقامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان منهاجاً يسير عليه وطريقاً يستقيم عليه في حياته الدنيوية ليترسم الخطة التي رسمها الله له، ليكون على بصيرة وبينة من أمره، ليكون في سلوكه مع الله ومع خلقه في غاية الاستقامة على المنهج الذي ارتضاه الله لعباده، وجعله رسول الله مشاعاً بين الناس، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في محكم كتابه فقال: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
والانحراف عن هذا الصراط والاعراض عن هذا المنهاج يجعل الإنسان في حيرة وشك في تخبط واضطراب، ولذلك كان كثير من الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم في تيه وشك وفي حيرة وضلال.
فهذا واحد منهم بعد انحرافهم عن الكتاب والسنة ومناج سلف الأمة عبر عن سعيه بالضلال فقال:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستنفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال آخر:
لعمري لقد طفت العوالم كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن قارعاً سن نادم
وثالث يخبر عمن تاه في بيداء الظلام يقول مخبراً عن شكهم وعدم يقينهم بالبعث فيقول:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر وإن صح قولي فالخسار عليكما
ورابع ممن أشرب الضلال والزندقة يتردد في القطع والجزم أن دين الإسلام أصح من دين النصارى فيقول:
في اللاذقية ضجة بين أحمد والمسيح
هذا بناقوس يدق وذاك بمئذنة يصيح
كلاً يروم هداية والله أعلم بالصحيح
وخامس ممن أعمى الله بصيرته عن نور الحق لا يدري ما سر وجوده في هذه الحياة وما هي الغاية التي لأجلها خلقه الله فيقول في قصيدته التي عنون له بالطلاسم.
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري
أقديم أم جديد أنا في هذا الوجود
هل أنا حر طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري
ولماذا لست أدري... لست أدري
فهو لا يدري لماذا هو في الحياة، لكفره ولحيرته واضطرابه.
أما نحن المسلمون فنعلم الغاية التي لأجلها خلقنا وهو أن نكون عبيداً لله، عابدين له خاضعين لا نشرك به شيئاً، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فحيرة هؤلاء وشكهم نابع عن انحرافهم عن صراط الله وبعدهم عن أسباب الهداية الإلهية، فلما حادوا عن منهج الله وصراطه تفرقت بهم السبيل والأهواء فضلوا وأضلوا.
فعن عبد الله بن مسعود قال: خط رسول الله خطاً مستقيماً، وخط عن يمينه خطوطاً وعن شماله خطوطاً ثم قال مشيراً إلى الخط المستقيم: ((هذا سبيل الله)) ، وقال وهو يشير إلى الخطوط التي عن يمينه وعن شماله: ((وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ : وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ الآية [الحديث رواه الدارمي بإسناد صحيح].
فيا أيها المسلمون: إن الاستقامة على منهج الله الذي ارتضاه الله لعباده وجعله رسوله مشاعاً بين الناس هو الكفيل بتحقيق السعادة في الدارين والبعد عن أسباب الشقاء والضلال.
فمن أراد أن يحقق لنفسه الأمان من الزيغ والضلال فعليه بأن يستقيم على منهج الله ورسوله ويبتعد عن طرق أهل الزيغ والكفر والفساد، فعن النواس بن سمعان عن رسول الله قال: ((ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس: ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرجوا، وداع يدعو في جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه – أي تدخله-، والصراط: الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله تعالى، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم)) [رواه أحمد بإسناد صحيح].
أيها المسلمون: إن الاستقامة على منهج الله قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً من شأنها أن ترتقي بالإنسان إلى درجات التقوى والإيمان.
فبالاستقامة على منهاج الله وشرعه يحفظ الإنسان دينه ونفسه من كل عوامل الزيغ والإذلال والانحراف، فلا يتطرق إليه الشك ولا الفساد، فيصون نفسه عن كل الرذائل وسفاسف الأمور.
وإذا ضعفت الرغبة على الاستقامة عند العبد أدى به إلى ضعف الإيمان والانقياد الكامل لله في كل شؤون الحياة فلا تجده مقبلاً على الخير، نافراً من الشر إنما على العكس من ذلك تكون نفسه قابلة للشر والانحراف ضعيفة الاقبال على الطاعة والخير، ولذلك أولى الإسلام الاستقامة عناية فائقة، واهتم بها اهتماما بالغاً ولذلك قال الله تعالى: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112].
وإن من رحمة الله بعباده المؤمنين أنه يتولى هدايتهم إلى الاستقامة قال الله تعالى: وَإِنَّ ?للَّهَ لَهَادِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [الحج:54].
ورسول الله جعله الله هادياً إلى الاستقامة وذلك بسنته القولية والعملية قال الله تعالى عن نبيه: وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ صِر?طِ ?للَّهِ ?لَّذِى لَهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ أَلاَ إِلَى ?للَّهِ تَصِيرُ ?لاْمُورُ [الشورى:51-52].
ولذلك كان القرآن الكريم كتاب هداية إلى الصراط المستقيم ليحقق للمسلمين الاستقامة على المنهاج الرباني، كي يعيشوا في وئام وأمان وفي سعادة واطمئنان قال الله تعالى: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ ?للَّهِ ?لَّذِى لَهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَوَيْلٌ لّلْكَـ?فِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم:1-2].
فيا عباد الله: هذا هو منهج الإسلام ممثلاً بكتاب الله وسنة رسوله وسبيل الصحابة المؤمنين الأوائل، فاستقيموا عليه واتبعوه تنجوا من الزيغ والضلال ومن الفساد والانحراف فتمسكوا بالصراط المستقيم وعضوا عليه بالنواجذ، فإن الاستقامة عليه تقودنا إلى الفوز برضوان الله والجنة والنجاة من سخطه ومن النيران.
أسأل الله أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم في النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى، آمين، ادعوا الله واستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
فإن المسلمين في كل يوم وليلة على الأقل في سبعة عشر ركعة وهم في صلواتهم يسألون الله سبحانه وتعالى أن يهديهم الصراط المستقيم قال تعالى: هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:6-7].
فالمسلمون بهذا الدعاء الذي يهتفون به في كل صلواتهم ليلاً ونهاراً يسألون الله عز وجل أن يهيدهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، غير صراط المغضوب عليهم- وهم اليهود- ولا النصارى الضالين، ولذلك قال رسول الله : ((إن المغضوب عليهم اليهود، وإن النصارى الضالون)) [رواه أحمد والترمذي بإسناد صحيح].
فدعوة الإسلام إلى الاستقامة الهدف منها هو تهيئة الأجواء التي تجعل الإنسان يحيا حياة كريمة تظللها السعادة وتكسوها الطمأنينة وشعارها التوحيد، وطريقها متابعة رسول الله.
فيا أيها المسلمون: إن الإسلام قد دعا إلى الاستقامة وحث عليها وندب المسلمين جميعاً إلى التمسك بها، فجعلها الله سبحانه وتعالى في أعلى المقامات الإيمانية التي يتنافس فيها الصديقون والمقربون السابقون بالخيرات بإذن الله وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
ولذلك يتولى الله سبحانه وتعالى المستقيمين على صراطه المستقيم بعنايته ويظللهم برحمته الواسعة، ففي اللحظات العصيبة التي يفارقون فيها الدنيا وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة، يرون أثر الاستقامة وعاقبتها الحميدة فقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
فالمستقيمون على الإيمان، القائلون دائماً: ربنا الله الذي لا إله إلا هو عند الموت وهم في حالة الاحتضار ولحظات سكرات الموت تتنزل عليه الملائكة وتقول لهم: لا تخافوا مما تستقبلون من أهوال القبر والقيامة، ولا تحزنوا على ما تركتموه من أولاد وأموال، وأبشروا بالجنة دار القرآن التي أعدها الله للمتقين: ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم وهم فيها خالدون لا يزولون ولا يحولون.
ولما كان للاستقامة وأهلها هذه المنزلة المنيفة والدرجة العالية الرفيعة أوصى بها رسول الله سفيان بن عبد الله حين قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)) [رواه مسلم].
فيا أيها المسلمون: إننا أحوج ما نكون في هذه الأيام إلى الاستقامة على صراط الله ومنهاجه القويم، فالبشرية اليوم تشقى شقاء عظيماً نظراً لغياب الإسلام عن واقع الناس، وتغييبه من قبل أعداء الإسلام وأساطين الكفر كي لا يكون له دور في تغيير هذا الواقع المزري الأليم، والذي بسبب هيمن الكفر ورفرفت رايات الشرك وخسر العالم وانحط إلى أسفل سافلين.
وحتى تعود الإنسانية إلى السعادة التي أراد الله لها فلابد من الاستقامة ولن تتأتى إلا بالالتزام بما أمر الله به والانزجار عما نهى عنه فاستقيموا ترشدوا، وامتثلوا لما أمركم الله به تسعدوا وتظفروا بمرضات ربكم وتفوزوا بجنات الخلد إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14].
(1/1821)
الجهاد في أرض القوقاز
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
11/8/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجهاد ذروة سنام الإسلام. 2- بعض أخبار إخواننا في أرض الشيشان. 3- الواجب على
المسلمين تجاه هذه القضية. 4- حكم الجهاد في الشيشان.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الله سبحانه وتعالى فرض الجهاد على المسلمين، وجعله ذروة سنام الإسلام، وهو عز الإسلام والمسلمين، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلوا. ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بمقاتلة المشركين كافة فقال في محكم كتابه: وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]. وحث المؤمنين على القتال، وحذرهم من التقاعس عن الجهاد في سبيل الله والركون إلى الدنيا الفانية فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38-39].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بمقاتلة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين وكل من عادى الله ورسوله والمؤمنين، فقال تعالى: قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ?للَّهُ عَلَى? مَن يَشَاء وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:14-15].
ولفضل الجهاد في سبيل الله ومنزلته العظيمة عند الله، اشترى المولى سبحانه وتعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في أعظم صفقة بيع وشراء مقابل أن يكون للمجاهدين الجنة دار النعيم قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111].
وقد حث الإسلام على الغزو في سبيل الله حتى جعل أجر من جهز غازياً أو خلفه في أهله كأجر الغازي في سبيل الله، فعن زيد بن خالد قال: قال رسول الله : ((من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا)) [متفق عليه].
والجهاد ماض في هذه الأمة فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) [متفق عليه] وفي رواية: ((الأجر والغُنم)).
فيا أيها المسلمون: إن من البشارات التي تلوح في الأفق، استمرار الجهاد في سبيل الله وبقاؤه ودوامه، ومنه جهاد إخواننا المسلمين في داغستان والشيشان في أرض القوقاز الإسلامية.
فالمسلمون هناك يجاهدون في سبيل الله لإعلاء كلمة الإسلام والتوحيد، والعدو الروسي الملحد يحاول هناك استباحة بيضة الإسلام، ولقد أسفرت المعارك الطاحنة الجارية هناك عن قيام الروس الملحدين بالآتي:
1- قاموا بتدمير جميع الجسور والطرق الرئيسية.
2- يقومون بتفتيش جميع القرى التي يدخلونها وبصحبتهم أطباء عسكريون، فمن وجدوا به إصابة أخذوه بتهمة الإرهاب والإرهابيين.
3- اعتقلت القوات الروسية 30 رجلاً من قرية (دوكراويل) وغيبتهم.
4- كلما دخلوا بيتاً ووجدوا فيه القرآن أو أي كتاب إسلامي مزقوه وأهانوه.
5- يقصفون العاصمة الشيشانية (غروزني) بجميع أسلحة الدمار.
6- يتخذون سياسة الأرض المحروقة، فلا يتركون أخضراً ولا يابساً إلا أحرقوه تماماً.
7- قصف الروس مخيمات اللاجئين الشيشان على مشارف (أنجوشيا) فقتلوا عشرات الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال وخلفوا مئات الجرحى غالبيتهم من النساء والأطفال، والمستشفيات تعاني من نقص شديد للمواد الطبية.
8- لا يزال الطيران الروسي يقصف يومياً القرى الشيشانية ويتقصد المناطق الآهلة بالسكان.
9- يقصفون القرى والمدى الشيشانية مستخدمين القنابل المحرمة دولياً والتي تزن طناً ونصف.
10- أطلقت روسيا الإلحادية صواريخها البعيدة المدى على المدنيين فقتلت المئات فضلاً عن الجرحى والذين يعدون بالآلاف، حتى امتلأت المستشفيات بالجرحى، إصابات كثير منهم خطيرة.
11- قصفوا منطقة (سكريورت) فقصفوا سوقها العام، فمن جراء القصف تناثرت الجثث في كل مكان وكذلك الجرحى في مشهد دموي مروع!!.
12- شدة البرد وسياط الجوع يلهبان إخواننا المسلمين هناك.
13- تستخدم القوات الروسية القاذفات والصواريخ البعيدة المدى لتدمير كل شيء.
14- يستبيحون كل شيء بعد دخولهم أي مدينة أو قرية، ويبيعون كل ما يجدونه فيها من المتاع.
15- قطعت روسيا الإلحادية عن المدنيين التيار الكهربائي والماء.
فيا أيها المسلمون: هذه المآسي هي جزء من مئات المآسي والمشاهد المروعة التي تشهدها أرض الشيشان المسلمة، فهل في مجيب!!.
أهل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيب
فحق ضائع وحمى مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل لظفر في عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
فهذا ما يجري لأخواننا المسلمين في أرض القوقاز في الشيشان وداغستان، فالواجب علينا نحن المسلمين أن ننصر إخواننا بالمال والنفس والدعاء، فإن دماء المسلمين متكافئة، والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر كما أخبر بذلك الصادق المصدوق. أسأل الله العلي القدير أن ينصر إخواننا المجاهدين في الشيشان وينزل سكينته عليهم ويهلك عدوهم آمين، أقول ما تسمعون، ادعوا الله واستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
فإن من المعلوم ضرورة من دين الإسلام، أن العدو إذا استباح بيضة الإسلام، وداهم الثغور الإسلامية ونزل بأرض المسلمين، فالواجب على كل المسلمين في تلك البلاد ومن جاورهم أن يدفعوا عن أنفسهم وأرضهم العدو الصائل الذي يفسد الدنيا والدين معاً، ولذلك يتعين الجهاد على أهل تلك البلاد وينضم إليهم الأقرب فالأقرب، وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في ذلك فقال: (فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان، ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم، وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلاد الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن ولي ولا غريم، ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله، وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم، وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله: ?نْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41]. فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها كما تجب النفقات والزكاة، وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية، فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً) [انظر الاختيارات الفقهية ص308-311].
فيا أيها المسلمون: إن جهاد إخواننا المسلمين في الشيشان جهاد إسلامي، فالواجب على جميع المسلمين دعمهم وتأييدهم والوقوف معهم.
ومن قدر أن يلحق بالمجاهدين ليقاتل معهم في سبيل الله فذلك مما تقتضيه الضرورة والمصلحة، ومن لم يستطع فعليه بالدعاء لإخوانه المجاهدين، فالدعاء من أقوى الأسلحة، ولا تنسوا أن تعينوا إخوانكم بالمال والنفقة في سبيل الله عملاً بقوله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195].
فالجهاد بالمال والنفس من أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَأُخْرَى? تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن ?للَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ ?لْمُؤْمِنِينَ [الصف:10-13].
فاللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب سريع الحساب، اهزم الروس الكفرة الظالمين، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم رد كيدهم في نحورهم واجعل الدائرة عليهم.
وانصر اللهم المجاهدين في الشيشان وداغستان، واللهم سدد رميهم وثبت أقدامهم وانصرهم على عدوهم وأنزل السكينة عليهم، وافتح لهم فتحاً مبيناً من عندك يا رب العالمين.
(1/1822)
منكرات الأفراح
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
20/10/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1-أهمية النصيحة. 2- بعض منكرات الخطبة. 3- من منكرات الأعراس الغناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد اعتاد كثير من الناس في زماننا هذا أن يقيموا أفراح الزواج بعيداً عن شرع الله، وأن يقيموها حسب العادات التي تعارف عليها الناس اتباعاً لأهوائهم وصدوداً عن شرع الله.
وإن الواجب على المسلم أن يسأل عن حكم دينه، ولا يقدم على شيء إلا بعد أن يعرف موقف الشرع منه، فإن كان مما يرضي الله عز وجل أقدم عليه، وإن كان مما يغضب الله ابتعد عنه.
وإذا كان المنكر لا يخلو منه مجتمع، ومهما كان المجتمع من الطهر والعفاف والالتزام بالدين، فإنه لابد وأن يوجد مفسدون في الأرض، فإن واجب النصح يملي على المسلم أن يبين للناس ما هم واقعون فيه من المنكرات والمخالفات الشرعية، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي قال: ((الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [رواه مسلم]. وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: ((بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) [متفق عليه].
وقد أمر رسول الله المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم ويذكر بعضهم بعضاً، وأن يقوموا بتغيير المنكرات التي متى ما عمت وفشت بين الناس، فإن المسؤولية يتحملها الجميع، فعن أبي سعيد الخدري ، قال: سمعت رسول الله : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [رواه مسلم].
وإن الواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي تحدث في الأفراح والأعراس وأن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على تغيير تلك المنكرات.
ومن هذه المنكرات العزوف عن ذات الدين في الزواج فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه].
ومن منكرات الزواج أيضاً رفض تزويج صاحب الدين وقد قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [رواه الترمذي بإسناد حسن].
ومن هذه المنكرات كذلك التي شاعت في الزواج مسألة الخطبة ونظر الخاطبة إلى خطيبته والناس في الخطبة طرفان ووسط، فالطرف الأول وهم الذين تعصبوا ومنعوا الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته مع أن النبي قال للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) [أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه].
والطرف الثاني وهم على النقيض من الطرف الأول وهم الذين تركوا الحبل على الغارب للخاطب ومخطوبته فيخلو بها ويتفسح معها وقد يقع المحذور الشرعي بعد ذلك، ورسول الله يقول: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم، ولا تسافرن امرأة إلا مع ذي محرم)) [متفق عليه].
ومن المنكرات أيضاً لبس الدبلة من الذهب من قِبل الرجال، والذهب زينة النساء وهو حرام على ذكور أمة محمد ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله نظر إلى رجل وفي يده خاتم من ذهب فنزعه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل: خذ خاتمك وانتفع به فقال: والله لا آخذ شيئاً وضعه رسول الله [رواه مسلم].
وأما ما اعتاده الناس من أن يلبس الخاطب خطيبته الدبلة يوم إعلان الخطبة أو يوم إعلان النكاح أو الزواج فإنه من التشبه بالنصارى – لعنهم الله – وقد أشار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني إلى ذلك في كتابه آداب الزفاف ص212، فقال: "ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم ما كان العريس يضع الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الأب ثم ينقله واضعاً له على رأس السبابة ويقول: باسم الابن ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول: باسم الروح القدس، وعندما يقول: آمين، ويضعه أخيراً في الخنصر حيث يستقر.
فهذه مع كونها بدعة خبيثة أحدثها الفساق بين المسلمين هي أيضاً تشبه بالكفار، وقد نهانا عن التشبه بهم في الاعتقادات والعبادات والعادات.
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ولا تتشبهوا بالكافرين في عاداتكم وتقاليدكم، والواجب عليكم أن تجعلوا العادات موافقة لشرع الله، واعلموا أن مخالفة شرع الله نذير شؤم على المسلمين، وما حلت المصائب بالمسلمين إلا لمخالفتهم شرع الله في كثير من أمور دينهم ودنياهم.
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أقول ما تسمعون ادعوا الله واستغفره.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن من منكرات الأفراح كذلك - ما سموه: إحياء الأفراح - باستضافة المطربين والمطربات والمغنيين والمغنيات، ومن الناس من يتباهى بذلك، وقد عمت البلوى بالأغاني في هذا الزمان حتى صار ديدن كثير من الناس.
ومن المعلوم شرعاً أن الأغاني حرام ولا يجوز سماعها، قال الله تبارك وتعالى: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64].
(قيل: هو الغناء قال مجاهد: باللهو والغناء، أي استخفهم بذلك) [تفسير ابن كثير:3/70].
وقال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان:6]. فهذه الآية بيان لـ(لحال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ قال: هو والله الغناء، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ في الغناء والمزامير [تفسير ابن كثير:3/583].
فالغناء يورث النفاق في القلب وهو بريد الزنا، والواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي شاعت بينهم في هذه الأزمنة، فإنك لا تدخل محلاً ولا بيتاً إلا وتسمع فيه الطرب واللهو والغناء.
والعجب من هؤلاء الذين يستفتحون أول أيام حياتهم بمعصية الله فيرضون الشيطان الرجيم، ويغضبون الرحمن الرحيم.
ولذلك ما تفاقمت الشرور بين المسلمين إلا بسبب هذه المعاصي التي جاهروا بها، ولما كان الغناء والمزمار صوت الشيطان، ترى انتشار حالات الطلاق بشكل مذهل، ومن أراد أن يعلم صدق ما أقول فلينظر إلى المحاكم والدعاوى المرفوعة فيها، فإن أكثرها في المنازعات الزوجية، وسبب ذلك كله يكمن في هذه المعاصي والمنكرات التي يستفتح بها الناس حياتهم الزوجية في أول ليلة من ليالي حياتهم.
فيا أيها المسلمون: احذروا هذه المنكرات واتقوا الله في سركم وعلانيتكم، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى حرم عليكم الوقوع في المنكرات والمعاصي، فاقترافها وفعلها والمجاهرة بها سبب من أسباب الشقاء في الدارين، قال تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25].
(1/1823)
غربة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/4/1422
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الظروف التي بعث فيها النبي. 2- غربة الدين في بدايته. 2- ثبات النبي وصبره ومصابرته. 4- كمال الدين وتمام النعمة. 5- تقهقر الأمة الإسلامية. 6- غربة الإسلام في هذا الزمان. 7- غربة الإسلام في مجال التوحيد. 8- غربة الإسلام في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 9- غربة الإسلام في مجال الصلاة. 10- غربة الإسلام في مجال الحاكمية. 11- غربة الإسلام في مجال المعاملات. 12- غربة السلام في مجال الأخلاق والسلوك. 13- الغرباء. 14- وجوب التمسك بالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، في صحيح مسلم عنه قال: ((بدأ الدين غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)) [1] وفي بعض الألفاظ: قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس)) [2].
أيها المسلمون، بعث الله محمداً بالهدى ودين الحق، بعثه رحمةً للعالمين، بعثه وقد عمّ الأرض جهل عظيم، وضلال مبين، نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، بعثه على حين فترة من الرسل، واندراس من العلم والهدى، بعثه وأهل الأرض في ضلال، ما بين أهل كتاب قد حرّفوا كتبهم، وزادوا ونقصوا، وما بين عربٍ عبدة أوثان وأشجار وأحجار، وما بين عبدة النيران من المجوس وأمثالهم، بعث الله محمداً بهذا الدين الحنيف، بعثه بتوحيد الله وعبادته، كما بعث من قبله من الأنبياء والمرسلين، بعثه رحمةً للعالمين برسالة إلى عموم الخلق كلهم، عربهم وعجمهم، إنسهم وجنهم، واختار الله لمبعثه مكة أم القرى شرفها الله، فابتدأ دعوته بقومه العرب يدعوهم إلى توحيد الله، وإخلاص الدين لله، وإفراد الله بجميع أنواع العبادة، فما كان منهم إلا أن أنكروا دعوته، وردوا عليه دعوته وكذّبوه وقالوا: أَجَعَلَ ?لآلِهَةَ إِلَـ?هاً و?حِداً إِنَّ هَـ?ذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5]، مَا سَمِعْنَا بِهَـ?ذَا فِى ?لْمِلَّةِ ?لآخِرَةِ إِنْ هَـ?ذَا إِلاَّ ?خْتِلاَقٌ [ص:7].
نعم، إنه بعثه لقوم ما أتاهم من نذير من قبله، وما عرفوا الحق قبل أن يأتيهم، بعثه ليدعوهم إلى الله، فابتدأ دعوته، وما استجاب له إلا الواحد تلو الواحد، وقومه قد ناصبوه العداوة، لما رأوه عاب أصنامهم، عاب آلهتهم، سب أوثانهم، انتقد ما عليه أسلافهم، من الضلال المبين، فكان الإسلام إذ ذاك غريباً، كان غريباً وحُقَّ له أن يكون غريباً، فالأعداء كثيرون، والمستجيبون قليل، ومن استجاب تحمّل كل الأذى، وتعرّض لأنواع التعذيب من قريش، فمن أسلم آذوه وعذبوه، وألحقوا به أنواع العقوبة. كل ذلك لأنهم لم يؤمنوا بهذا الدين، ولم ينقادوا له، فكان الإسلام إذ ذاك بمكة غريباً، كان غريباً بقلة الأتباع، وقلة الأنصار، ومن يحمي هذه الدعوة ويؤيدها، ومحمد صابر محتسب يصبر على كل الأذى، والله يثبت قلبه ويقول له: وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ?لرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِى هَـ?ذِهِ ?لْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، ويقول له: فَ?صْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ?لْعَزْمِ مِنَ ?لرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ [الأحقاف:35].
فمضى في دعوته إلى الله سِراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، فما يستجيب إلا القليل، ومن منكر ومكذب، ومقابل بالسوء، وهو صابر محتسب، يرجو من الله هدايتهم وبصيرتهم، جاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق على أهل مكة أخشبيها، لما بلغ الأذى منهم ما بلغ، فقال: ((أتأنَّى بهم، فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً)) [3].
أذن الله له فهاجر إلى المدينة، وعند ذلك وجد النصرة والتأييد من الأوس والخزرج، فحموه وحموا دعوته، رضي الله عنهم وأرضاهم، وتلقوا المهاجرين، وواسوهم بأنفسهم وأموالهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فاستقر قراره بالمدينة. ففي المدينة كملت شرائع الإسلام من أول ما قدمها إلى آخر عام من حياته فقد أكمل الله له الدين، وأتم به النعمة، ورضي به الإسلام ديناً، ففرضت الفرائض، وشرعت الأحكام والحدود، وما توفي إلا وجزيرة العرب قد انقادت له بأسرها، وعمّها الإسلام، واختفى الشرك والضلال، وأصبح الإسلام قوياً عزيزاً، ثم حمله أصحابه بعده إلى أرجاء المعمورة، فنصر الله دينه، وأعلى كلمته، وتحقق قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
فعاش المسلمون بهذا الدين في قوة وعزة يحكمون شرع الله، ويتحاكمون إليه، ويقيمون حدوده، وينفذون أحكامه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والإسلام في عزة وقوة ومنعة، ولكن ما زال النقص يدب إلى المسلمين قرناً بعد قرن، إلى أن وقع في المسلمين ما وقع من التفريط في دين الله، وتضييع شرع الله، وعدم القيام بهذا الواجب، ولهذا قال : ((لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، قال: حتى تلقوا ربكم)) ، قال أنس: سمعته من نبيكم [4].
فما زال الضعف يسري في الأمة، قرناً بعد قرن، إلى أن وقع في الأمة ما وقع من الشرك بالله والكفر به والإعراض عن دينه، وابتغاء نظم غير نظام الإسلام، وقوانين غير أحكام شريعة الله، ولهذا قال : ((وسيعود غريباً كما بدأ)) ، أي يعود الإسلام غريباً بين أهله، كما بدأ غريباً في مبدئه؛ أولاً غربته لجهل الناس به، وغربته الثانية لإعراض الناس عنه، فلما أعرضوا عنه وتجاهلوه وانصرفوا عن أحكامه، صار الإسلام بينهم غريباً.
حقاً إنه غريب بين كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، الإسلام غريب في كثير من العالم المنتسب إلى الإسلام، الإسلام غريب بينهم، الإسلام لا قيمة له بينهم، الإسلام قد عُزِل عن نظم الحياة، فلا يلتفت إلى أحكامه، ولا يقام وزنٌ لنظمه وآدابه، وإنما اكتفوا بالانتساب إلى الإسلام اسما مع تعطيل أحكامه، وعدم المبالاة به في المعاني، ولا شك أن تلك المصيبة، فغربة الإسلام بين أهله أن لا يحكّم، أن لا تنفذ أحكامه، أن لا تقام حدوده، أن لا يتأدّب بآدابه، أن لا يتخلّق بأخلاقه، أن يبعد عن نظم الحياة وعن الأخلاق والسلوك.
إن المسلم وهو يتأمل حال كثير من المسلمين، للأسف الشديد يرى الإسلام غريباً بين أهله، إن جئت في باب توحيد الله وعبادته وإخلاص الدين له، وجدت كثيراً من عالمنا الإسلامي مخالفين لذلك، لو قام قائم يقول لهم: اعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، لآذوه، وقالوا: هذا المبتدع، وهذا الذي أتى بقول خارج عن الخير، وإلى آخر ذلك، ولذا يقول الله: وَإِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَحْدَهُ ?شْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45]، فإذا ذكرت توحيد الله، وإخلاص الدين لله، وأن أموات القبور لا ينفعون داعيهم، لا يسمعون دعاءه، ولو سمعوا ما استجابوا له ولا يعلمون حاله، لأنكروا عليك ذلك، وقابلوك بالعداوة والبغضاء، وقالوا: تسبّ الصالحين، وتعيب الصالحين، وتستنقص الأولياء، إلى غير ذلك مما زيّن لهم الشيطان، وحسّن لهم من الباطل، حتى رأوا الباطل حقاً والحق باطلاً، ولا شك أن هذه من غربة الإسلام.
إن الإسلام الذي جاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعله خلقاً لهذه الأمة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، إذا ذكرت ذلك عابوك؛ لأنهم يرون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، قد انقلبت الحقائق، انعكست الفطر، فصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً وتلك المصيبة العظيمة.
غربة الإسلام بين أهله، حتى في الصلوات الخمس، فكثير من عالمنا الإسلامي، الصلوات الخمس لا تقام على الحقيقة، مساجد معمورة، ولكنها خراب من قلة المصلين، لا بصيرة ولا علم عندهم بهذه الصلاة، إنما يصليها أفراد من الناس والمعظم معرضون عنها، ولا شك أنها من غربة الإسلام والعياذ بالله.
غربة الإسلام أيضاً - أيها المسلمون – غربة الإسلام بين أولئك، إذا نظرت إلى أحكام الشريعة، وقد عُطّلت أحكام الشريعة، وتحوكم إلى القوانين الوضعية، وعوديت أحكام الشريعة عن التحاكم إليها، وإنما يتحاكم الناس ويحكّمون نُظماً غربية، جاؤوا بها من أعدائهم، حكّموها وتحاكموا إليها، فلا حدود تقام، ولا قصاص يقام، ولكنها الأحكام الوضعية المشتملة على الظلم والعدوان، وأكل أموال الناس بالباطل.
غربة الإسلام في التعامل، فالمعاملات الإسلامية التي جاء بها محمد ، تلك النظم الخالية من الظلم والغرر والغش والخداع، المعاملات الشرعية المبنية على العدل والإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، رأيت الإسلام غريباً بين أولئك، رأيت المعاملات الربوية وما لها من الشأن الكبير، رأيت المعاملات الربوية وكيف سرت في عالمنا الإسلامي، حتى يتصور البعض أنه لا يمكن أن يعيش إنسان بلا ربا، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يقوم بلا ربا، ولا يمكن أي مجتمع أن يعيش بلا ربا، فأصبح الربا يرونه ضرورة من ضروريات الحياة، وإذا قلت لهؤلاء: هذا الربا حرمه الله، ولعن النبي آكله ومؤكله وآذن الله أكلته بالحرب، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وأن الربا ممحق للبركة يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276]، وحذرتهم من ذلك، قالوا: أنت إنسان تعيش في قرون ماضية، وقرون خالية، وعقول جامدة، لا تفهم الحياة، ولا تعرف قدرها. لماذا؟ لأنك قلت: الربا حرام، وقلت لهم: إن المعاملات يمكن أن تقوم بلا ربا، بل لو عطّل الناس الربا لرأوا في المعاملات الشرعية ما فيها من العدل والإنصاف، وعموم النفع لكل البشر، ولكن الإسلام غريب بين هؤلاء، يرون الربا أمراً ضرورياً لا بد منه، وأن التخلي عن الربا انعزال عن اقتصاد العالم، وهو [انفصال] عن العالم؛ لأن الإسلام غريب في هذه المعاملات، المعاملات الإسلامية المبنية على العدل والإنصاف تكون غريبة بين المجتمعات الذين لا يريدون إلا معاملةً ربوية قائمة على الظلم والعدوان.
إن أولئك إذا ناقشتهم في كل المعاملات الشرعية قالوا: إنك إنسان لا تفهم الحياة، صار الدين غريباً في تلك المعاملات لأنهم عزلوا الإسلام عن نظم الحياة، واستبدلوا بها نظماً جاهلية هي غربية من حيث تأسيسها، فهم لا يرون المعاملات الشرعية، لا يرونها حقاً، وإنما يرونها أموراً انتهت، فأصبح الإسلام غريباً في تلك المعاملات.
في باب الأخلاق والسلوك الإسلام غريب بين كثير من عالمنا الإسلامي، الإسلام جاء بالأخلاق الفاضلة، جاء بالفضائل، وقطع أسباب الشر والفساد، وحارب الفساد والمفسدين، ولكن أولئك الإسلام غريبٌ بينهم، إذا قلت لهم: الإسلام حرّم القمار، حرّم الميسر، حرّم القمار لما فيه من الظلم والعدوان، أنكروا عليك وقالوا: تلك أمور لا بد منها، فالإسلام غريب بينهم. إن قلت لهم: إن الإسلام أوجب على المرأة الحجاب لتكون امرأة مسلمة صيّنة عفيفة بعيدة عن الاختلاط بالرجال قالوا: هذا كلام لا يصلح، وأنت عزلت نصف المجتمع، وشللت المجتمع من نصفه، وإن المرأة لا بد أن تشارك الرجال، ولا بد أن تخالطهم، ولا بد أن تعيش معهم، وإن الحجاب يشوّه المرأة، ويقبّح منظرها، فلا بد أن تسفر عن وجهها، ولا بد أن تخالط الرجال، ولا بد أن تسافر وحدها، وتتنقّل وحدها، دون أي رقيب أو ملاحظ عليها؛ لأنهم يرون ما جاء به الإسلام من آداب المرأة المسلمة بإلزامها الحجاب، وحثها على ذلك، وأمرها بالصيانة والعفة والبعد عن هذه الرذائل، يرون ذلك منقصة في حق المرأة، وهواناً للمرأة، طاعةً لأعداء الإسلام الذين يريدون تجريد المرأة المسلمة من كل أخلاقها وقيمها وفضائلها، فالإسلام غريب بين هؤلاء.
من يقول إن اختلاط الجنسين ضرر وفساد في الحاضر والمستقبل هو غريب بين من تشبعوا بتلك الأفكار السيئة، والآراء المضللة، الذين يريدون منها مسخ فطرة المسلمة وتحويلها من امرأة مسلمة متمسكة بدينها إلى امرأة غربية منحلة من كل قيم وفضائل.
إذا قلت لهم: يا أمة، إن الأمة الإسلامية مطالبة بدين الله، مطالبة بالبعد عن كل لهو عن كل لعب وعن كل باطل، وعن كل ما تقضي الأوقات فيه بلا خير ولا فائدة، قالوا: إنك كتمت حرية الناس، كتمت حريتهم، ولم تعطهم حريتهم المطلوبة. ما هي حرية الناس؟ حرية كل فرد أن يعيش على ما يهوى كان باطلاً أو حقاً، لا رقيب عليه، ولا آمر ولا ناهي، والإسلام جاء بالأخذ على يد السفهاء وأطرهم على الحق أطراً، فالمنادي بهذا غريب بين من يرى تلك الأباطيل والأضاليل.
أيها المسلمون:
إن غربة الإسلام اليوم بين كثير من العالم الإسلامي بدت واضحة في عدم فهم الإسلام، أو الإعراض عنه مع العلم به، واستبداله بغيره، فتلك والله غربة الإسلام.
إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ولكن طوبى للغرباء، طوبى للمتمسكين به، إن فسد الناس فهم على صلاحهم وتقواهم، وهم ساعون في إصلاح المجتمع، ودعوته إلى الخير فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]، ولكن الله جل وعلا كفل لهذه الأمة المحمدية أنه لا يزال في هذا الدين باقية، ولا تزال أمة من هذه الأمة ينادون بالحق ويدعون إليه يقول : ((ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) [5] ، فلا يزال طائفة من هذه الأمة متمسكة بهذا الدين، مقيمة حجة الله على العالمين، وذلك فضله على هذه الأمة.
إنما الواجب على المسلم أن يتمسك بدينه، وأن يستعصم بهذا الدين ويتمسك به، ولا يصغي إلى آراء المضللين وآراء المفسدين، وآراء من يصدّون الناس عن دين الله، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـ?طِينَ ?لإِنْسِ وَ?لْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى? بَعْضٍ زُخْرُفَ ?لْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [الأنعام:112-113].
أما المؤمنون بالله حقاً، والمؤمنون بلقاء الله حقاً، فهم لا تروج عليهم تلك الشبه والأباطيل، ولا تخدعهم تلك الأفكار، بل موقفهم منها موقف من يعرف زيفها وباطلها، ويعرف مقصود أهلها، فهو متمسك بدينه، داع إلى الله محافظ على هذا الدين لا يهمّه كثرة المنحرفين وَمَا أَكْثَرُ ?لنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ?لأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنعام:116].
فالمسلم متمسك بهذا الدين ثابت عليه، مهما يسمع من أقوال وأفكار، ومهما يبلغه فهو متمسك بما عليه من الحق، وبما يعرفه من هذا الشرع، ثابت عليه، يسأل الله أن يثبته وأن لا يزيغ قلبه بعد إذ هداه، هكذا المسلم حقاً.
إن هذه الدعايات المضللة ضد الإسلام وأهله من أعداء الإسلام، كلها من حقدهم وبغضهم لهذا الدين، فهم أعداء له بكل ما يملكون من وسيلة، أعداء لهذا الدين، يشكّكون المسلم في عقيدته، يشككونه في قيمه وفضائله، يدعونه إلى التجرد من هذا كله، وصدق الله: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [145] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] هذا اللفظ أخرجه الآجري في صفة الغرباء من المؤمنين (ص19-20) ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وفي سنده أبو إسحاق السبيعي وقد عنعن ، ولكن له شواهد يتقوى بها ، انظر : تخريج بدر البدر لصفة الغرباء.
[3] أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق [3231] ، ومسلم في كتاب الجهاد والسير [1795] من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الفتن [7068].
[5] أخرجه البخاري في كتاب المناقب [3641] ، ومسلم في كتاب الإمارة [1037] من حديث معاوية رضي الله عنه. وورد أيضاً من حديث المغيرة بن شعبة ، وثوبان ، وجابر بن سمرة ، وجابر بن عبد الله ، وعقبة ، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم ، وكلها في الصحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن تمسك المسلم بدينه حينما يرى بعد الناس عنه، وانحرافهم عنه له فضل كبير فقد أخبر : أن الصابر على دينه في آخر الزمان [كالقابض] على الجمر، وأن له أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله، أمِنا أو منهم؟ قال: ((بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً، وهم لا يجدون على الحق أعوانا)) [1].
ولهذا المسلم عليه أن يتمسك بدينه ويسأل الله الثبات على دينه، فما عرف من الحق، فما عرف من الهدى فليتمسك به، وليدم عليه وليثبت عليه ولا يهولنّه ما يقال وما يقال، فإن كثيراً من الناس اغتروا بهذه الآراء الباطلة، وأصغوا إليها آذانهم، وتأثرت بها نفوسهم، أما المسلم فهو ثابت على الحق، لا يصغي للباطل، ولا يقبله، بل يتمسك بما عرف من الحق والهدى.
أسأل الله لي ولكم الثبات والاستقامة على دينه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله...
[1] أخرجه أبو داود في الملاحم [4341] ، والترمذي في التفسير [3058] ، وابن ماجه في الفتن [4014] بنحوه وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان [385] ، والحاكم (4/422) ، ووافقه الذهبي ، وانظر: السلسلة الصحيحة [494].
(1/1824)
الدفاع عن لغة القرآن
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
22/4/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ حب اللغة العربية. 2 ـ فضائل اللغة العربية وأهميتها. 3 ـ اللغة العربية عبر التاريخ الإسلامي. 4 ـ الهجوم على اللغة العربية. 5 ـ التعلق بالأجنبي والتبعية المشينة له. 6 ـ التبرر في استعمال اللغة الأجنبية بسوق العمل. 7 ـ خطورة تواجد الوافدين من الغربيين في
هذا البلد. 8 ـ تدريس العلوم باللغة الأجنبية. 9 ـ ما وراء الدعوة إلى تعليم اللغة الأجنبية للصغار. 10 ـ تحصين اللغة العربية والشموخ بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ أيها الناس ونفسي ـ بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والذخيرة النافعة، واستعدوا للمنايا فهي لا بدّ واقعة، واحذروا زخارف الدنيا المضلة، فمن استكثر منها فما ازداد إلا قلة، وليكن استكثارهم وازديادكم من التقوى، فهي خير زاد ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها المسلمون:
من أحب الله أحب رسوله محمدًا ، ومن أحب رسوله محمدًا أحب لغة القرآن الكريم، لغةٌ كريمة، نزل بها أفضل كتاب، ونطق بها أفضل مخلوق ، هي وعاء علوم الدين، وذخائر التراث، لا تكون معرفة القرآن والسنة إلا بها، ولا يتم فهم علومهما ومقاصدهما بدونها، تعلّمها وإتقانها من الديانة، فهي أداة علم الشريعة ومفتاح الفقه في الدين.
أيها الإخوة المسلمون:
لغة الأمة ميزان دقيق، ومعيار أساس في حفظ الهوية وتحديد الذات؛ فهي شريان الأمة، وأقنوم [1] الحضارة، ومصدر عظيم من مصادر القوة، وإذا أضاعت أمة لسانها أضاعت تأريخها وحضارتها كما تُضيِّع حاضرها ومستقبلها.
اللغة هي أهم ملامح الشخصية الإنسانية، إن لم تكن أهمها، اللغة هي التي تربط المرء بأهله وأمته ودينه وثقافته، فهي التأريخ، وهي الجغرافيا، اللغة مظهر من مظاهر قوة الابتكار في الأمة، فإذا ضعفت قوة الابتكار توقفت اللغة، وإذا توقفت اللغة تقهقرت الأمة، وإذا تقهقرت الأمة فذلكم هو الموت والاضمحلال والاندثار.
إن شواهد التأريخ قديمها وحديثها تظهر بجلاء أنه لم تتقدم دولة، ولم تُشَد حضارة ما لم تكن العلوم والتعليم بلغة الأمة نفسها، لا بلغة أجنبية عنها.
أيها المسلمون:
وفي شواهد التأريخ أيضًا: لقد استطاعت لغة القرآن الكريم أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات، الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية، في عصر النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما وافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم، والجيوش، والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس، وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي، في الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة، وغيرها.
الدولة الإسلامية على مرّ عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة، للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها، ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضارتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكًا وحرصًا.
والعجيب في هذا التأريخ الإسلامي العظيم، وهذا الدين الأخاذ أن أبناء الأمم الأخرى هم الذين كانوا يتسابقون إلى تعلم لغة القرآن، لغة الدين والعلم، بل هم الذين نبغوا فيها، وشاركوا على نحو مدهش في وضع قواعدها، وجمع معاجمها، انطلاقًا من الشعور الإسلامي الرائع، الذي أحل لغة القرآن أرفع المنازل؛ لأنها لغة الدين والتنزيل.
وفي كل أرجاء الأمة وأصقاعها تتردد أصداء هذا الحديث النبوي فيما يروى عنه أنه قال: ((إن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم، إنما هي اللسان، فمن تلكم العربية فهو عربي)) والحديث ضعيف في إسناده، ولكنه صحيح في معناه، كما يقرّر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [2].
أيها الإخوة في الله:
وإذا كانت لغة القرآن، ولغة الإسلام بهذه القوة، وبهذه المقدرة، وبهذه المنزلة، فلا غرابة أن تكون مستهدفة من أعدائها، فلقد علم المشتغلون بدراسات التاريخ المعاصر، والمتابعون لمسيرة الاستعمار، وسياساته أن التهجم على اللغة، والتهوين من شأنها، والسخرية من المشتغلين بها، والتهكم بها في وسائل الإعلام، والقصص، والروايات، والمسرحيات، في سياسات مرسومة، وحملات مكثفة، ثم تلقّف ذلك مِن بعدهم وعلى طريقهم أذناب وأجراء وعملاء.
نعم، ليس من المستغرب أن تتعرض لغة شعب من الشعوب في مرحلة الغزو والاحتلال إلى الإذابة والمحو؛ لأن اللغة معلم بارز في تحديد الهوية وإثبات الذات، فكيف إذا كانت اللغة هي لغة القرآن، ولسان الإسلام؟!
وقد يكون من غير الحصيف ـ أيها الإخوة ـ أن نلوم أعداءنا فيما يقومون من أجل مصالحهم، وتحقيق أهدافهم، وسعيهم في تحطيم غيرهم، ولكنَّ الأسف والأسى أن يصدر ذلك ويتبناه فئات من بني قومنا، تعلقوا بالأجنبي، وولّوا وجوههم شطره، ثقافيًا وفكريًا، وأصبحوا ينظرون إلى ثقافة الإسلام بازدراء، وإلى لغة القرآن باحتقار، والأجنبي لم يضمن ولاءهم اللغوي فحسب، ولكنه ضمن ولاءهم الفكري والسياسي.
لماذا هانت علينا أنفسنا؟ وهانت علينا بلادنا؟ وهانت علينا لغتنا، لغة ديننا ولغة قرآننا؟
إن ما أصاب الأمة من ظروف سياسية واقتصادية وضعف في الديانة أدى إلى ركود الفكر، وضعف الثقافة حتى آل الأمر إلى هذه التبعية المشينة.
إن الأزمة أزمة عزّة لا أزمة لغة، وأزمة ناطقين لا أزمة كلمات، لم تضعف اللغة ولم تعجز، ولكن ضعف أبناؤها، وقصَّر حماتها، إن من الظلم والحيف أن يتَّهم هؤلاء الأبناء العاقون الكسالى لغتهم من غير حجة ولا برهان، ضعافٌ في أنفسهم، مهازيل في طموحاتهم، يُرهبون أنفسهم بثورة المعلومات، وترتجف قلوبهم لتقدم التقنيات.
مسكين هذا المثقف الذي ضعف وتخاذل، فشرَّق وغرَّب، يفتِّش لعله يجد له ملجأ أو مدَّخلا.
ما الذي يريده هؤلاء المساكين؟ هل يريدون أن ينسلخوا من هويتهم فيهاجروا بألسنتهم وعقولهم إلى أعدائهم ويتحولوا إلى مخلوقات تفكر بعقول غير عقولها، ورطانة بلسان غير لسانها؟! هل يتخلون عن هويتهم ودينهم وعزهم بسبب نظرة ضيقة ومنفعة آنية هي في مآلها ومصيرها ضرر ماحق، وخطر داهم، وبلاء محدق؟!
أيها المسلمون:
ويزداد الضعف ويتجلى الهوان عند هؤلاء المشككين حين يتفوّهون بقولهم: إن استخدام لغة الأمة قد يسبب غزوف الطلاب عن إتقان اللغة الأجنبية، مما يؤدي إلى ابتعادهم عن الأبحاث الجديدة، والتطور السريع.
ويحدثك آخرون عن سوق العمل، فترى مخذولين مبهورين، يفاخرون في بعض كلياتهم وأقسامهم بأنهم يدرسون جميع العلوم لديهم بلغة الأجنبي، بحجة أن سوق العمل يتطلب ذلك.
وهي حجج يعلم الله، ويعلم المؤمنون، ويعلم العقلاء أنها واهية، بل هي ـ والله ـ أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
ولكنها أحوال تذكِّر بعهود التسلط والاستعمار، في بعض البلدان في الماضي، وما أشبه الأجواء الثقافية لعهد العولمة الحاضر بالأجواء الثقافية بعهد الاستعمار الغابر، من حيث تسويغ الاستلاب الثقافي والديني عن طريق الهجوم الشرس على اللغة وزعزعتها في حياة الأمة، وإحلال اللغة الأجنبية بمسوّغات بالية.
وحين يحدثونك عن اللغة وسوق العمل ليتهم يحدثونك عن مصطلحات علمية، وتقنيات متقدمة، واتصال بالجديد من العلم والتقنية، ولكنه مع الأسف ليس سوى إتاحة لعمالة وافدة متوسطة التأهيل، ومتدنية الكفاءة، تتربّع على مواقع العمل في المؤسسات والشركات، والأسواق والتجارة، مهمتهم عرض البضائع وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وقيد السجلات، وضبط المراسلات.
سوق عمل مخزي، تحولت فيه المستشفيات والفنادق وبعض أقسام الجامعات وبعض الأسواق ومعارض البضائع والتجارات واللوحات الإعلانية والتجارية، تحول كل ذلك إلى بيئات أجنبية، يتبادل فيها أبناء الأمة لغة أو لغات أجنبية، حتى تحولت قوائم الأطعمة والسلع والأسعار إلى اللغة الأجنبية، وفرضت وجودها وأنماطها على شرائح واسعة من أجيال الأمة، فاضطربت لغة التخاطب، وفسدت الألسن، وزادوا تخلفًا إلى تخلفهم، وضعفًا إلى ضعفهم، وامتلأت سوق العمل بالوافدين من غير حاجة حقيقية، ويريدون من أبناء الأمة أن يتحدثوا اللغة الأجنبية من أجل هؤلاء، زاعمين أنهم بهذا يهيئون لأبنائهم فرص العمل.
أيها المسلمون، أيها المخلصون:
إن وجود وافدين مهما كان عددهم، ومهما كانت الحاجة إليهم، بل مهما كان مستواهم العلمي والفني، لا يجوز أن يكون سبيلاً للتفريط في السيادة على أرضنا، وقد علم العقلاء والاجتماعيون، فضلاً عن العلماء والمربين أن اللغة من أهم مظاهر السيادة، وكم تمزقت بلاد حين تعددت لغاتها، بل لقد ظهرت مبادئ انشقاق وطني في بعض الشعوب، وتصدعت صفوفها، وتسببت في إثارة الفتن والنعارات من أبناء البلد الواحد مما تشاهد آثاره المدمرة ماثلة أمام العيان، والأعداء لنارها يوقدون.
إن من الغفلة الشنيعة الزعم بأن مصلحة السوق، ودواعي الاستثمار تتطلب لغة أجنبية، فكل بلاد العالم ولا سيما المتصدرة منها قائمة التقديمة لا يمكن أن تُؤثر شيئًا على لغتها مهما كانت الأسباب والدواعي والدوافع.
أما كان الأجدر بهؤلاء إن كانوا وطنيين مخلصين أن يجعلوا تحدث لغتها شرطًا في العمالة الوافدة، بدلا من إجبار أبنائنا أن يتحدثوا لغة أجنبية من أجل هؤلاء الوافدين؟! إن هذا ـ والله ـ لانتكاسة عجيبة.
وبعد أيها المؤمنون:
وفي محاسبة جادة، ومساءلة صادقة، إن كثيرًا من الشعوب الموصوفة بالنامية قد انزلقت في تعليم أو تعميم اللغة الأجنبية في أبنائها، فماذا أفادت وماذا استفادت؟ هل خرجت من قوس النامية هذا؟!
إن أعداءكم اليهود قد أحيوا لهم لغة مندثرة، لا حضارة لها ولا تاريخ، فأصبحت هي لغة العلم والأدب والحياة.
إن أي أمة تروم التقدم والقوة والعزة والاعتماد بعد الله على نفسها لا يمكن أن تمتلك زمام العلم والتقنية إلا حين تعلّم ذلك كلَّه بلغتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل. [الشعراء: 192ـ 197].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أقنوم الحضارة: أي أصلها.
[2] عزاه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/407 ـ 409) إلى السلفي من حديث الحسن بن رشيق، ثنا أحمد بن الحسن بن هارون، ثنا العلاء بن سالم، ثنا قرة بن عيسى الواسطي، ثنا أبو بكر الهذلي، عن مالك بن أنس، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً وقال: "هذا الحديث ضعيف، وكأنه مركب على مالك، لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على توفيقه وهدايته، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه لا منتهى لغايته، وأستغفر الله وأستهديه، وأسأله الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أسمائه وصفاته وربوبيته ووحدانيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اجتباه من خلقه واصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله في كل حال، وأخلصوا له في الأقوال والأعمال، والتزموا الطاعة والامتثال.
أيها الإخوة المسلمون:
لقد ظهرت دعوات تطالب بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال الصغار، من الصفوف الأولى، وعلت نداءات تدعو إلى تدريس لغة الأجنبي في جميع العلوم، وتعالت أصوات تريد جعل اللغة الأجنبية شرطًا لتحصيل الوظيفة أو العمل.
فيا أيها الإخوة المخلصون:
لا بد في الأمة من شموخ لا يحني هامتَه لإغراءات وضع اقتصادي طارئ، أو آليات سوق عابر، أو مكاسب وقتية، عاقبتها الهلاك والدمار، والذوبان والاندثار.
إن من التناقض الصارخ، والغفلة القاتلة أن يتحدث رواد الفكر والمثقفون عن توطين التقنيات، واستنبات العلوم في أرض الوطن، وهم في الوقت نفسه يصرّون على الدعوة إلى تدريس العلوم والتقنيات باللغة الأجنبية، والتي لن يتقنها المتعلمون من غير أهلها، ولو أتقنوها ـ عياذًا بالله ـ كما يتقنها أهلها، فقل: على الأمة وعلى لغتها، بل على وجودها السلام.
أيها المسلمون:
إن الحل والسلامة، والحصانة والمشاركة الحقيقية في البناء، وسلوك مسالك التقدم الصحيح والنظيف هو بالتصدي لخطر الإذابة بالعمل المنظم الجادّ، بعيدًا عن الشعارات الجوفاء، والكتابات الخرساء، عملٌ جاد يكسب المناعة ضد محاولات الإذابة، وطمس الهوية، ومن ثمَّ المشاركة في البناء، ومعطيات الحضارة الصالحة النافعة.
إن كان في الأمة غيرة، وإن كان ثمة صدق وجدّ في خدمة الدين، والأمة واللغة، فالطريق واضح والمحجة بينة.
الأمة تحتاج إلى سياسة لغوية، فليست المشكلة ولا القضية في المعرفة النظرية لقواعد اللغة وأصولها، بل الذي يحتاجه عموم الناس والمتكلمون هو الكفاءة اللغوية في النطق والكتابة والتعبير، نحتاج إلى سياسة لغوية تنسق عمل المؤسسات المعنية باللغة، وخطاب الناس، ولا سيما الإعلام بوسائله، والتعليم بمناهجه وطرائقه فتكون الفصحى الميسرة هي الهدف المنشود التحقيق، وحينئذ لا تكون اللغة مادة دراسية مجردة مفردة معزولة، محصورة بين حيطان قاعات الدراسة في ساعات محدودة، بل يجب أن تكون هي لغة الحياة في كل ميادينها. مطلوبٌ الاهتمام الخاص باللغة في التعليم العالي، في الأقسام العلمية والنظرية، وإلزام الالتزام بها تدريسًا وتحدثًا وكتابة. مطلوبٌ الغيرة الصادقة على اللغة في الوقفة الصارمة أمام هذه الأسماء التجارية والصناعية الوافدة، التي لا تعكس سوى الانهزام والتبعية، والشعور بالذلة والدونية.
وبعد أيها الأحبة في الله:
فإن قوة اللغة واستمرارها ـ بإذن الله ـ يعتمد بالدرجة الأولى على وعي الأمة وحرصها على رعايتها وحمايتها وانتشارها، واليقين الجازم بأنها صالحة لمقتضيات الحال، قادرة على متطلبات الوقت، ومعطيات التحضر، ومستجدات التطور.
وتلك أهداف كبرى تخطط لها الدولة المحترمة والأمة العظيمة فتقيم المؤسسات المتخصصة، وتبني مراكز البحوث المتقدمة، وتؤسس الهيئات الفنية لتعليم اللغة، وتطوير أساليب تدريسها، وترجمة المصطلحات الأجنبية.
لا بد أن يبقى للغتنا شموخها، ولا بد من تقوية المناعة الذاتية في جسم أبناء الأمة، والاعتزاز بالدين والدار، والتعامل مع اللغات الأجنبية ببصيرة، وحسن استفادة من غير ذوبان.
يجب أن نعلن ونلقن ونرسم أننا بحاجة إلى الأمن اللغوي، كما أننا بحاجة إلى الأمن الفكري، والغذائي، والمائي، وكل أولئك من ضروريات الحياة، والعيش الكريم.
هذا هو الطريق، وذلكم هم المسار، وعلى الله قصد السبيل، وَكَفَى? بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان: 31].
هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال عز قائلاً عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، نبي الرحمة والملحمة، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
(1/1825)
التحذير من الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
22/4/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ محاسن الإسلام. 2 ـ إقامة العفاف. 3 ـ العفة في عالمنا اليوم. 4 ـ الأمر بحفظ الفروج. 5 ـ جريمة الزنا. 6 ـ مفاسد الزنا وأضراره. 7 ـ عقوبة الزنا في الدنيا والآخرة. 8 ـ مراقبة الله تعالى والخوف منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام:
إن دين الإسلام جاء شاملاً لمجامع الخيرات كلِّها، ومتضمنًا لمعاني الفضيلة جميعها، أمر بمعالي الأمور وكريمها، وحذّر من سفاسفها وحطيطها، جاء بكلّ ما يجمّل العبد ويزيّنه، وما يبعده عما يشينه ويدنّسه، قال : ((إن الله كريم يحب الكرماء، يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها)) [رواه الطبراني ورجاله ثقات] [1].
لذا فمن أعظم مقاصد الإسلام، وأكثر أهدافه وأغراضه إقامة العفاف والنزاهة والطهارة في النفوس، وغرس الفضائل والمحاسن في المجتمعات، والبعد عن الرذائل والقبائح والموبقات، ومن هنا حرص الإسلام على أن ينأى الناس عن الشهوات الحيوانية، والأخلاق الشيطانية، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور: 33]، وقال سبحانه: وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ [النور: 60].
في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أبي سفيان مع قيصر، قال أبو سفيان رضي الله عنه: (ويأمرنا ـ أي النبي ـ أن نعبد الله وحده لا شريك له، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة) [2].
وعند الترمذي بسند حسن عن النبي قال: ((عُرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف مستعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)) [3].
إنها عفة الإسلام، التي تضبط سلوكيات الآدميين عن الانحراف إلى مهاوي الرذيلة والانحطاط، وتحفظ إراداتهم وشهواتهم عن الانخراط في الزلل وعدم الانضباط. عفةٌ تتجلى فيها مظاهر الكرامة الإنسانية، وتبدو فيها الطهارة والنزاهة الإيمانية. عفافٌ يمتزج بتحقيق المروءة والعزّة، فحينئذ تقوى النفوس على التمسك بالأفعال الجميلة والآداب النفسانية، التي تحمل مراعاتها على الوقوف عند محاسن العادات، وجميل الصفات، والترفع عن المحَقَّرات والدنيّات.
الإسلام ـ عباد الله ـ يركز على مبدأ العفة ليحافظ على الشرف والمجد، وليصون السمعة والعرض، وحينئذ يبقى الإنسان بإرادة قوية، ونفس شجاعة، فلا ينقاد للشهوة صاغرًا، ولا يطيعها ذليلاً، بل هو مرتق في سماء الفضيلة، متباعد عن حضيض الرذيلة، واقف بشهواته عند الحد الذي خلقت من أجله، وفق المنظور الشرعي، والمفهوم الأخلاقي.
إخوة الإسلام:
وإذ نتحدث عن تلك المعاني السامية في دين الإسلام، فإنه يتجلى للعاقل البصير والمنصف القدير عظم محاسن هذا الدين، وسمو تعاليمه، وهو ينظر في مواطن شتى من عالم اليوم، يفقد فيها العفاف، وتسود فيها الإباحية المطلقة، لا يعرف فيها المرء شرفًا، ولا يقيم للعرض وزنًا؛ أخلاقٌ بهيمية، وممارسات فاضحة لا تعرف عزة وشهامة، ولا تتصف بمروءة وكرامة، إطلاق للشهوات، واستباحة للأعراض، وضياعٌ للحياء والأذواق، لا غيرة على ذات محارم، ولا اشمئزاز من فاحشة وإجرام، فماذا جنت ـ يا ترى ـ تلك الإباحيات؟! وماذا جرّت تلك الأخلاقيات التي تركت العفاف ظهريًا، ونسفت الطهارة والحياء نسفًا جليًّا؟!
لقد جرّت شرورًا لا نهاية لها، وأضرارًا لا حدّ لمقدارها، جنت فسادًا لا تقف جرائمه عند حد، ولا تنتهي آثاره السيئة ونتائجه القبيحة إلى غاية؛ آلامٌ متنوعة، غمومٌ واقعة، هموم مستطيرة، وأمور مهلكة.
عباد الله:
ومن أجل تحقيق العفاف والطهارة، وبث الحياء والتزامه على مستوى الأفراد والمجتمعات جاءت الشريعة بما يكفل تلك المقاصد العظيمة، ويحقق هذه الأغراض النبيلة، بوسائل شتى، وطرق نبلى، ومن ذلك أوامره الجازمة، وتوجيهاته القاطعة، وتشريعاته الملزمة التي تأتي لعموم المؤمنين، ولكافة المسلمين، بحفظ الفروج وصيانتها عن الحرام والرذيلة ومواضع الآثام.
فحفظ الفروج عن الفواحش مما تزكو به النفوس، وتسلم به المجتمعات، ويحفظ به الأمن، وتصان به الأعراض، قال تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور: 30، 31].
ولقد امتدح الله جل وعلا الحافظين فروجهم والحافظات، وجعل ذلك من سمات الفلاح، وعلامات الفوز والنجاح قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المؤمنون: 1ـ 7].
جاء عن النبي في صحيح البخاري أنه قال: ((من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة)) [4].
وفي المسند بسند صحيح أنه قال: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت)) [5].
معاشر المؤمنين:
وأعظم ما يهدف سياجَ هذا الحفظ، وأبشع ما يهدم صورَ هذا المبدأ العظيم جريمة الزنا، لذا فهو من أكبر الفواحش وأعظم الموبقات، قال ابن القيم رحمه الله: "وَسَمَ الله سبحانه الشرك والزنا واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه دون سائر الذنوب ـ إلى أن قال: ـ فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين: الزنا واللواط، ولهما خاصية في إبعاد القلب عن الله جل وعلا، فإذا انصبغ القلب بهما بَعُد من الله الطيب الذي لا يصعد إليه إلا الطيب" [انتهى] [6].
وقد حذر الله جل وعلا من الزنا مبينًا وصفه المتناهي في القبح، وعاقبته المهلكة الموبقة، فقال جل وعلا: وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المعارج: 29 ـ 31]، وقال جل وعلا: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحاً [الفرقان: 68ـ70]، ويقول سبحانه: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء: 32].
أيها المسلمون:
الزنا مضاد لصفات المؤمنين، ومنافر لمسالك الأبرار والمتقين، قال جل وعلا: ?لزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ?لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذ?لِكَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) [7].
وعند أبي داود وغيره: ((إذا زنى العبد خرج منه الإيمان كالظلة على رأسه، فإذا انقلع منها رجع إليه الإيمان)) [صححه الحاكم، ووافقه الذهبي] [8].
عباد الله:
الزنا يجمع خلال الشر كلَّها، ويتضمن الأضرار جميعَها، به تعمّ الأمراض الفتاكة في المجتمع، وعن طريقه تحل البلايا والرزايا بشتى أنواعها ومختلف صورها، يخلط الأنسابَ، ويذهب بمعاني الأسرة الفاضلة، وينزع البركات، ويضيق الأرزاق، ناهيك عما يحدثه من وحشة وعداوة بين بني الإنسان، وما يوقعه من أمراض وأدواء متنوعة، أقلقت البشر، وأخافت الدول الصغار والكبار.
واستمع ـ يا رعاك الله ـ إلى مشكاة النبوة المحمدية، وهي تتحدث عن تلك الأضرار، وتنذر من تلك المخاطر والأشرار، قال : ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا، أوشك أن يعمهم الله بعذاب)) [رواه الإمام أحمد بإسناد حسن] [9].
وعند الحاكم وقال: "صحيح الإسناد" عن النبي قال: ((إذا ظهر الزنا والربا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عذابًا)) [10].
وفي حديث مرفوع عن النبي : ((ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط إلا سلط الله عليهم الموت)) [رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح] [11].
وفي حديث ابن عمر أيضًا رضي الله عنهما، قوله : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) [رواه ابن ماجه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي] [12].
أيها المسلم:
تذكر أن الزنا لحظة عابرة، وشهوة عارمة، ونزوة حيوانية بحتة، وأن عاقبتها عليك وخيمة، وآثارها المستقرة سيئة، لذةٌ تذهب سريعًا، وتضمحلّ عاجلاً، فيبقى العار والشنار، وغضب الخالق الجبار.
جاء في صحيح البخاري في حديث المنام الطويل أنه قال: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق، وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي صرخوا ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني)) [13].
فاتقوا الله عباد الله، والتزموا أوامره، وقفوا عند حدوده؛ تسعدوا وتفلحوا، وتفوزوا وتسلموا.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الطبراني في الكبير (6/181) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، وقال الهيثمي في المجمع (8/188): "رجال الكبير ثقات"، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في الحلية (3/255)، وصححه الحاكم (1/48)، وكذا الألباني في السلسلة الصحيحة [1378].
[2] أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي [7]، ومسلم في الجهاد والسير [1773].
[3] أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد [1642] من طريق يحيى بن أبي كثير، عن عامر العقيلي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به، وقال: "هذا حديث حسن"، وأخرجه أيضًا الطيالسي [2567]، وأحمد (2/425)، وصححه ابن حبان [4312]، والحاكم (1/387)، لكن عامر العقيلي لا يعرف هو ولا أبوه، ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب [1185].
[4] أخرجه البخاري في كتاب الرقاق [6474] من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[5] رواه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) إلى الطبراني في الأوسط، وقال: "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وقال الألباني في صحيح الترغيب [1932]: "حسن لغيره".
[6] إغاثة اللهفان (1/71، 77).
[7] أخرجه البخاري في كتاب المظالم [2475]، ومسلم في كتاب الإيمان [57] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أبو داود في كتاب السنة [4690]، وعلقه الترمذي في كتاب الإيمان [2625] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1/22)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة [509].
[9] أخرجه أحمد (6/333)، وأبو يعلى [7091] من حديث ميمونة رضي الله عنها، وعزاه الهيثمي في المجمع (6/ 257) إلى الطبراني، وقال: "فيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وثقه ابن حبان، وضعفه ابن معين، ومحمد بن إسحاق قد صرح بالسماع، فالحديث صحيح أو حسن"، وحسّنه أيضًا المنذري في الترغيب (3/ 238)، وقال الألباني في صحيح الترغيب [2400]: "حسن لغيره".
[10] أخرجه الحاكم (2/37) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه وصححه، ووافقه الذهبي، وهو من رواية سماك عن عكرمة، وفيها اضطراب، وقال الألباني في صحيح الترغيب [2401]: "حسن لغيره".
[11] أخرجه الحاكم (2/ 126)، والبيهقي (3/ 346) من حديث بريدة رضي الله عنه، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وكذا الألباني كما في السلسلة الصحيحة [107].
[12] أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن [4019]، والبيهقي في الشعب [3314]، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة [106].
[13] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز [1386] من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فتقواه خير وفوز وفلاح ونجاح.
إخوة الإسلام:
إذا ما يُسِرِّت للمسلم سبل الغواية وما أيسرها في عالم اليوم، وإذا ما كثرت طرق الفاحشة وتنوعت، فالمؤمن بحاجة ماسة إلى مراقبة خالقه، وإحياء الخوف منه جل وعلا، فليتذكر المسلم قول رسول الله فيما رواه الشيخان: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه)) وذكر منهم: ((رجل طلبته ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)) [1].
وتبصّر يا من بلغ الكبَر عِتيا، وفاته زمن الشباب وهو في المعاصي منكبًا، تذكر عظم الأمر، وسوء الخاتمة والمصير، قال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) [رواه مسلم] [2].
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أن الله أمركم بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأذان [660]، ومسلم في كتاب الزكاة [1031] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [107] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1826)
الأشهر الحرم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الأزمنة والأمكنة
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أشهر السنة الهجرية وسبب تسميتها بهذه الأسماء. 2- معنى قوله : إن عدة الشهور...
3- لم سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم. 4- تحريم الظلم وذمه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الكرام الأحبة، ونحن اليوم نعيش مع قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
أيها الإخوة الكرام: لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يفضل بعض الشهور على بعض، ففضل شهر رمضان على سائر الشهور، فهو شهر القرآن وشهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، وهو الشهر الذي كان يعظم في الجاهلية فلما جاء الإسلام زاده تعظيماً.
فالمحرم سمى المحرم لأن العرب كان يحرمون القتال فيه، وصفر سمي صفراً لأن العرب كان يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفر المتاع، وشهر ربيع الأول لأن العرب كانوا يرتبعون فيه أي لرعيهم فيه العشب فسمى ربيعاً، وجمادى لجمود الماء فيه، ورجب سمي رجباً لترجيبهم الرماح من الأسنة لأنها تنزع منها فلا يقاتلوا، وشعبان لأنه شعب بين رمضان ورجب، ورمضان لرموض الحر وشدة وقع الشمس فيه، وشوال لشولان النوق فيه بأذنابها إذا حملت، وذو القعدة سمي ذا القعدة لقعودهم في رحالهم عن الغزو لا يطلبون كلأًً ولا ميرة، وذو الحجة سمي ذا الحجة لأنهم يحجون فيه.
إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ ِ [التوبة:36]. ففي هذه الآية العظيمة أخبرنا الله تعالى أنه منذ خلق السموات والأرض وخلق الليل والنهار وجعل الشمس والقمر يسبحان في الفلك وينشأ منهما ظلمة الليل وبياض النهار، فمن حينئذ جعل الله تعالى عدة الشهور عنده اثنا عشر شهراً، وأخبرنا أيضا أنه جعل منها أربعةً حرم.
والأشهر الحرم ينبغي مراعاة حرمتها، والمقصود من ذلك اتباعُ أمر الله تعالى ورفضُ ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، ولذا بين رسول الله في خطبته في حَجّة الوداع: ((أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ َ [التوبة:36]. إنما قال: يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ [التوبة:36]. ليبيّن أن قضاءه وقدره كان قبل ذلك, وأنه سبحانه وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه يوم خلق السماوات والأرض, وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة.
وهو معنى قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً. وحكمها باقٍ على ما كانت عليه لم يُزِلها عن ترتيبها تغييرُ المشركين لأسمائها, وتقديمُ المقدّم في الاسم منها. وأن ما فعله أهل الجاهلية من جعل المحرّم صفراً، وصفرٍ محرّماً ليس يتغيّر به ما وصفه الله تعالى.
وهذه الاَية تدلّ على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب, دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقِبط، فلا يليق بالمسلمين أن يقدموا الشهور العجمية والرومية والقبطية على الشهور العربية. وقوله تعالى: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ الأشهر الحُرُم المذكورة في هذه الاَية ذو القعدة وذو الحِجة والمحرّم ورجب الذي بين جمادى الاَخرة وشعبان, وهو رجب مُضَر, وقيل له: رجب مضر، لأن ربيعة بن نزار قبيلة من قبائل العرب كانوا يحرمون شهر رمضان فيه ويسمّونه رجباً، وكانت مضر تحرّم رجباً نفسَه، فلذلك قال النبيّ: ((الذي بين جمادى وشعبان)) وبهذا رفع ما وقع في اسمه من الاختلال بالبيان.
وقوله تعالى: ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ أي ذلك الشرع والطاعة. ?لْقَيّمُ أي القائم المستقيم، وقوله تعالى: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ قيل: راجع إلى جميع الشهور. وقيل: إلى الأشهر الحُرُم خاصّةً لأنه إليها أقرب ولها مزية في تعظيم الظلم لقوله تعالى: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]. ولا يعني أن الظلم في غير هذه الأشهر جائز.
فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ : لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتال, ولا تظلموا فيهنّ أنفسكم بارتكاب الذنوب والآثام لأن الله سبحانه إذا عظّم شيئاً من جهة واحدة صارت له حُرمة واحدة, وإذا عظّمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعدّدة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيّء كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإنّ من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثوابَ من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثوابَ من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال.
وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله تعالى: ي?نِسَاء ?لنَّبِىّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ?لْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30].
وسميت هذه الأشهر الأربعةُ حرماً لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : اختص الله تعالى أربعة أشهر جعلهن حرماً وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم، وخصّ الله تعالى الأربعة الأشهر الحُرُم بالذكر, ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وإن كان منهيّاً عنه في كل الزمان. كما قال: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]. على هذا أكثر أهل التأويل. أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروى حماد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن يوسف بن مِهْران عن ابن عباس قال: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]. في الاثني عشر.
أيها الإخوة الكرام، لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يفضل بعض الشهور على بعض، ففضل الأشهر الأربعة وجعلها حراماً فإنه سبحانه تعالى يفعل ما يشاء. ويخص بالفضيلة ما يشاء، يفعل ما يريد بحكمته, وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى.
فاتقوا الله يا عباد الله في الأشهر الحرم وفي غيرها واحذروا من الظلم فيها وفي غيرها. إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـ?تِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:36].
_________
الخطبة الثانية
_________
يقول الله عز وجل : فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]. فأعظم الظلم الشرك بالله تعالى لقوله عز وجل: إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. فاحذروا يا عباد الله من الظلم، فإن الظلم ظلمات كما ثبت ذلك عند البخاري عن عبدِ الله بنِ عمرَ رضيَ الله عنهما عنِ النبيِّ قال: ((الظُّلمُ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ)). وروى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللّهَ قَالَ: ((اتَّقُوا الظُّلْمَ. فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)).
فاحذروا يا عباد الله من الظلم فإن الله تعالى جعله في هذه الأشهر أشد حرمة، واعلموا أن الله عز وجل كما حرم علينا الظلم فقد حرمه على نفسه عز وجل فهو سبحانه وتعالى تنزه وتقدس عن الظلم إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا ]يونس:44]. وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. بل إنه سبحانه وتعالى نفي عن نفسه إرادةَ الظلم وما الله يريد ظلماً للعالمين روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه والترمذي وابن ماجه عن عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ عَنْ أَبِي ذَرَ عَنْ النَّبِيِّ فِيمَا رَوَى عَنِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: ((يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي. وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً. فَلاَ تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ. فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ. فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ. فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي. وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ. كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. مَا زَادَ ذلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ. وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ. كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ. وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ. قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي. فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ. مَا نَقَصَ ذلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ. ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا. فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)).
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
(1/1827)
التقوى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما هي التقوى 2- كيف نتق اللهَ تعالى 3- ما هي صفاتُ المتقين 4- ما هي ثمارُ التقوى 5-نماذج من حياة المتقين
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوةُ الكرامُ الأحبةُ، أوصي نفسي وإياكم بتقوى اللهِ تعالى، التقوى، التقوى فإن أجسادنَا عَلى النَّارِ لا تقوى.
فإنَّ التقوى يا عبادَ اللهِ هي الغايةُ المرجوةُ من وراءِ العباداتِ التي فرضهَا اللهُ تعالى عَلينَا من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وحجٍ.
والتقوى هي التي تحرسُ القلبَ من إفسادِ العباداتِ، فكم فيها منَ الخير،ِ وكم وعدَ اللهُ تعالى عَليهَا من الثوابِ والأجرِ، وأهلُ التقوى هم ملوكُ الدُنيا والآخرة، وهم أهلُ السعادةِ في الدنيا والآخرةِ، كما أخبرَ بذلكَ عزَ وجلَ بقولِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]. وبقولِهِ: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
فما هي التقوى؟ وكيف نتقي اللهَ تعالى؟ وما هي صفاتُ المتقين؟ وما هي ثمارُ التقوى؟، وأخيراً أقدمُ بعضَ النماذجِ عن أثرِ التقوى في سلوكِ المتقين.
فالتقوى في اللغةِ تعنى المنعَ والحجزَ والكف، أي: كفُ النفسِ عن هَواهَا، وعن محارمِ اللهِ تعالى، والتوقي هَو الأخذُ بالوقايةِ مما تَخَافُه وتحذرُهُ، كتوقي البردَ بالثيابِ، وتوقي حرَ الشمسِ بالمظلةِ، والتقوى يقالُ أصلُهَا في اللغةِ قلةُ الكلامِ، والتقوى في عُرفِ الشرعِ عبارةٌ عن كمالِ تَوقي الإنسانِ عَمَا يَضرُهُ يومَ القيامةِ بأن يجعلَ بينَهُ، وبينَ عذابِ اللهِ تعالى وقايةٌ وذلك بفعلِ المأموراتِ التي تستوجبُ رضا اللهِ تعالى وثوابَهُ، واجتنابُ المنهياتِ التي تجلبُ غضبَ اللهِ تعالى وعقابَهُ، ولذلكَ فُسرت التقوى بامتثالِ أوامرِ اللهِ تعالى واجتنابِ مناهيه.
والمتقي فوقَ المؤمنِ والطائعِ، وهوُ الذي يَتقي بصالحِ عَملِهِ وخالصِ دُعائِهِ عذابَ اللهِ تعالى، مأخوذٌ من اتقاءِ المكروهِ بما تجعلُهُ حاجزاً بينكَ وبينَهُ.
عن ابنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنَهُ قالَ يوماً لابنِ أخيه: (يا ابنَ أخي تَرى النَّاسَ ما أكثرَهُم: قالَ: نعم قال: لا خيرَ فيهم إلا تائبٌ أو تقي، ثم قال: يا ابنَ أخي ترى النَّاسَ ما أكثرَهُم؟ قلت:ُ بلى: قال لا خيرَ فيهم إلا عالمٌ أو متعلمٌ). وقال أيضاً: عن تقوى اللهِ تعالى: (أن يُطاعَ فلا يُعصى، ويذكرَ فلا يُنسى، ويشكرَ فلا يُكفر)َ، وقال عليُ بنُ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه: التقوى الخوفُ من الجليلِ، والعملُ بالتنزيل، والقناعةُ بالقليل، والاستعدادُ ليومِ الرحيل، وسألَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنه أُبياً عن التقوى فقال أُبي: (هلَ أخذتَ طريقاً ذا شوكٍ؟ قال: نعم، قال: فما عَمِلتَ فيهِ؟ قال: تشمرتُ وحذرتُ. قال: فذاكَ التقوى).
فالتقوى يا عبادَ اللهِ صلاحٌ في القلبِ وحساسيةٌ في الضميرِ، وشفافيةٌ في الشعورِ، وخشيةٌ مستمرةٌ، وخوفٌ دائمٌ، وحذرٌ دائبٌ وتوقٍ لأشواكِ الطريقِ، من الرغباتِ والشهواتِ والشبهاتِ والمطامعِ والمخاوفِ والوساوسِ وغيرِهَا قال الشاعرُ:
خلِ الذنوبَ صغيرَهَا وكبيرَهَا ذاك التُقى
واصنعْ كماشٍ فوقَ أرضِ الشوكِ يحذرُ ما يرى
لا تحقرنَ صغيرةً إنَّ الجبالَ من الحصى
وقالَ طلقُ بنُ حبيب: إذا وقعتِ الفتنةُ فأطفئوُهَا بالتقوى، قالوا وما التقوى؟ قال: أن تعملَ بطاعةِ اللهِ تعالى على نورٍ من اللهِ تعالى، تَرجو ثوابَ اللهِ تعالى، وأن تَترُكَ معصيةَ اللهِ تعالى على نورٍ من اللهِ تعالى، تخافُ عقابَ اللهِ تعالى، وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال: قال للهِ، ومن إذا عَمِلَ عَمِلَ للهِ، وقال أبو سُليمانَ الداراني: المتقونَ الذينَ نزعَ اللهُ عن قلوبهم حبَ الشهوات. فالتقوى فيها جِماعُ الخيرِ كُلِهِ، وهي وصيةُ اللهِ في الأولينَ والآخرينَ قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً [النساء:131].
والتقوى هي وصيةُ الأنبياءِ لأقوامِهم، فَما من نَبيٍ إلا وصى قومَهُ بتقوى الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى? قَوْمِهِ فَقَالَ ي?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [المؤمنون:23]. وَإِلَى? عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [الأعراف:65]. ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [المؤمنون:31-32]. وكان رسولُ اللهِ إذا أوصى بوصيةٍ عَامةٍ بدأهَا بالتقوى، وإذا أوصى بوصيةٍ خاصةٍ بدأهَا بالتقوى، وإذا خطبَ خطبةً أوصى فيها بالتقوى: عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّه ِ مَوْعِظَةً، وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ. وَإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلاَفاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) [رواه أبو داود والترمذي].
قولُهُ: ((عَضوا عَليهَا بالنواجذِ)) : أي اجتهدُوا على السنةِ، والزموُهَا، واحرصُوا عَليها كما يَلزمُ العاضُّ عَلى الشيءِ بنواجذِهِ خَوفاً من ذهابِهِ وتفلّتِهِ، والنواجذُ: هي الأنيابُ، وقيلَ:الأضراسُ، هذا هو معنى التقوى.
وأما الأمرُ الثاني: كيف نتق اللهَ تعالى؟ فإذا أرادنا أن نظفرَ بالتقوى، وأن نكونَ من المتقينَ فعلينا أن نُراعِ الأعضاءَ الخمسة، فإنهنَ الأصولُ: وهي العينُ والأذنُ واللسانُ والقلبُ والبطنُ، فنحرصُ عَليهَا بصيانَتِها من كُلِ معصيةٍ وحرام، وأن نُقيدهَا بطاعةِ اللهِ تعالى.
وذلك يكونُ بخمسةِ أمور: الأول: محبةُ اللهِ عزَ وجلَ فمحبةُ اللهِ تعالى تحجزُ العبدَ عن ارتكابِ المعاصي، لأنَ المحبَ لمن يحبُ مطيعُ قال الشاعر:
تَعصي الإلهَ وأنت تَزعمُ حُبَهُ هذا لعَمري في القياسِ شنيعُ
لو كان حُبُكَ صَادقاً لأطعتَهُ إنَّ المحبَ لمن يحبُ مطيعُ
الأمرُ الثاني: أن نشعُرَ في قلوبِنَا بمراقبةِ اللهِ وأن نستحيّ منهُ ونعلمَ أنَهُ رقيبٌ عَلينَا شهيدٌ على أعمالِنَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]. فإذا شَعرت قُلوبُنُا بمراقبةِ اللهِ تعالى لم تفعل المعاصي قال الشاعر:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قل عَليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً ولا أن مَا يخفى عَليهِ يغيبُ
الأمر الثالث: مما يُعينُ عَلى تقوى اللهِ: معرفةُ ما في المعاصي والحرامِ من مفاسدَ وآلام قال تعالى: وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ [الكهف:59].
الأمر الربع: أن نَتعلمَ كيف نتغلبُ على أهوائِنَا فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-39].
الأمر الخامس: أن نعرفَ مكائدَ الشيطانِ: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:6].
وأما عن صفاتِ المتقينَ فلقد وصفهَمُ اللهُ تعالى بهذه الأوصاف، فهم يؤمنونَ بالغيبِ قال تعالى: ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]. ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]. والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.[البقرة:4].
ومن صفاتهم ما أخبر به الله تعالى: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَـ?هُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لاْسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [الذاريات:15-19].
ومن صفاتهم أنهم يعظمونَ شعائرَ اللهِ: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:22].
ومن صفاتهم أنهم يتحرونَ العدلَ ويحكمونَ بهِ في أقوالهم وأعمَاِلهم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
وأما عن ثمارِ التقوى فهي سببٌ للخروجِ من كلِ ضيقٍ وسببٌ لنيلِ الرزق قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
ومن ثمارِ التقوى تيسيرُ وسهولة كل أمر وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
ومن ثمارِ التقوى تيسيرُ تعلمِ العلمِ النافعِ: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ [البقرة:282].
ومن ثمار التقوى الظفرُ بمحبةِ اللهِ ومعيتِهِ فَإِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَّقِينَ [آل عمران:76]. وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:194].
ومن ثمار التقوى البركاتُ من السماءِ والأرض قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ [الأعراف:96].
ومن ثمار التقوى حفظُ الذريةِ الضعافِ بعد الموتِ قال تعالى: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
ومن ثمار التقوى قَبولُ الأعمالِ قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
ومن ثمار التقوى الفوزُ بكرامةِ الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرا:13].
ومن ثمار التقوى الفوز بالجنة إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَنَهَرٍ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:54-55].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وكفي وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولُهُ.
أيها الأخوة الكرام الأحبة: أقدمُ بعضَ النماذجِ عن أثر التقوى في سلوكِ المتقين:
هذا عمرُ رضي الله عنه في طريقهِ إلى مكةَ المكرمة مرَ براعٍ فقالَ له: يا أيها الراعي بعني شاةً من هذا الغنمِ فقال: إني مملوك، فأرادَ عمرُ أن يختبرَهُ، فقال له: قل لسيدكَ أكلَهَا الذئبُ، فقال الراعي: فإذا قلتُ ذلكَ فأينَ الله ؟!، فذهبَ عمرُ لسيدِ الراعي، فاشتراهُ منه ثم اعتقَهُ فقال له: أعتقتكَ في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقَكَ في الآخرة.
وهذه فتاةٌ تأمرُهُا أمُهُا بخلطِ اللبنِ بالماءِ طمعاً في زيادةِ الربحِ والبنتُ تُذكرُهَا وتقول لها: يا أماه لقد منعَ أميرُ المؤمنينَ من خلطِ اللبنِ بالماءِ فتقول الأمُ الغافلةُ عن طاعةِ ولي الأمر: أين نحنُ من أميِرِ المؤمنين؟ أن أميرَ المؤمنينَ لا يرانَا، فتقولُ الفتاةُ الصالحةُ التي عَرفت تقوى اللهِ تعالى بجواب مفحم: إن كان أميرُ المؤمنينَ لا يرانا فربُ أميرِ المؤمنينَ يرانا.
هذه هي التقوى وصيةُ اللهِ تعالى.
ولنعلمَ أنه لا طريقَ للتقوى إلا بسلوكِ سنةِ محمدٍ والسيرِ على ما سارَ عليه سلفُ أمتنَا، وإن تقوى الله تعالى تقتضي تحقيقَ التوحيدِ وتصحيحَ العقيدةِ فلا شركَ ولا وثنيةَ ولا بدعةَ ولا زنا ولا سرقةَ ولا ربا.
جعلني اللهُ وإياكم من المتقين الذين تقرُ أعينُهم في الدنيا بالطاعات وفي الآخرة بالجنات 0
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
الحمدُ لله وكفي وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولُهُ.
أيها الأخوة الكرام الأحبة: أقدمُ بعضَ النماذجِ عن أثر التقوى في سلوكِ المتقين:
هذا عمرُ رضي الله عنه في طريقهِ إلى مكةَ المكرمة مرَ براعٍ فقالَ له: يا أيها الراعي بعني شاةً من هذا الغنمِ فقال: إني مملوك، فأرادَ عمرُ أن يختبرَهُ، فقال له: قل لسيدكَ أكلَهَا الذئبُ، فقال الراعي: فإذا قلتُ ذلكَ فأينَ الله ؟!، فذهبَ عمرُ لسيدِ الراعي، فاشتراهُ منه ثم اعتقَهُ فقال له: أعتقتكَ في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقَكَ في الآخرة.
وهذه فتاةٌ تأمرُهُا أمُهُا بخلطِ اللبنِ بالماءِ طمعاً في زيادةِ الربحِ والبنتُ تُذكرُهَا وتقول لها: يا أماه لقد منعَ أميرُ المؤمنينَ من خلطِ اللبنِ بالماءِ فتقول الأمُ الغافلةُ عن طاعةِ ولي الأمر: أين نحنُ من أميِرِ المؤمنين؟ أن أميرَ المؤمنينَ لا يرانَا، فتقولُ الفتاةُ الصالحةُ التي عَرفت تقوى اللهِ تعالى بجواب مفحم: إن كان أميرُ المؤمنينَ لا يرانا فربُ أميرِ المؤمنينَ يرانا.
هذه هي التقوى وصيةُ اللهِ تعالى.
ولنعلمَ أنه لا طريقَ للتقوى إلا بسلوكِ سنةِ محمدٍ والسيرِ على ما سارَ عليه سلفُ أمتنَا، وإن تقوى الله تعالى تقتضي تحقيقَ التوحيدِ وتصحيحَ العقيدةِ فلا شركَ ولا وثنيةَ ولا بدعةَ ولا زنا ولا سرقةَ ولا ربا.
جعلني اللهُ وإياكم من المتقين الذين تقرُ أعينُهم في الدنيا بالطاعات وفي الآخرة بالجنات 0
وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
(1/1828)
الوقت في حياة المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام الأعمار قبل انصرامها. 2- تعريف الوقت عند أهل الفنون. 3- أهمية
المحافظة على الوقت. 4- الآيات التي ورد فيها كلمة الوقت ومشتقاتها. 5- إقسام الله بالزمان
وأجزائه تنبيهاً لشرف الزمان. 6- اهتمام السلف بعمار الأوقات واغتنامها. 7- إقرار الإسلام
للهو المباح. 8- مراح النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) أي نعمتان يخسرهما كثير من الناس، وروى البخاري عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) [وروى الحاكم والبيهقي]. عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله وسلم: ((اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك)).
وروى البزار والطبرني عن معاذ بن جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)).
أيها الاخوة الكرام: لقد استحقت أمتنا أن تكون أمة قيادة وأمة ريادة حينما اهتمت بأوقاتها وعلمت أنها مسئولة عن وقتها، لقد اهتم الإسلام بالوقت اهتماماً بالغاً، بل لم يعرف التأريخ أمة من الأمم كأمة محمد اهتمت واعتنت بوقتها عناية بالغة.
وهذا نراه واضحاً في كتاب الله وسنة رسول الله وسلوك السلف. فما هو الوقت؟
هو اسم لقليل الوقت وكثيره وهو عند كثير من العلماء المتخصصين يمثل مفهوماً خاصاً بعلومهم، فعند الجغرافي يرتبط الوقت بالظواهر الجغرافية من زمن ومكان معينين ترتبط وهذه الظواهر، وعند النحوي يربط الوقت بالأزمان مقترناً بزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وأما علماء الطبيعة فيرون أن الزمن والوقت يمثلان واحداً من ثلاث كتل الكتلة والمسافة والزمن، وعند علماء السلوك يرون أن إضاعة الوقت ذنب يستوجب التوبة العاجلة.
والمسلم يرى الوقت يجمع بين هذا وذاك، ويرى أن الوقت أغلى من الذهب والفضة وأغلى من جميع الأموال، فإن المال إذا فقد يمكن أن يعوض، وإما الوقت إذا فقد فلا يمكن أن يعوض
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فمن حافظ على وقته ترقى في درجات الكمال، ومن أضاع وقته نزل في دركات الوبال، ومن لم يتقدم فهو في تأخر، ومن لم يتقدم إلى الجنة بالأعمال الصالحة تأخر إلى النار بالأعمال السيئة، فخسر الدنيا وخسر الآخرة.
لقد استحقت أمتنا أن تكون أمة قيادة وريادة، فالوقت ينقسم إلى قسمين: وقت زماني ووقت مكاني، فالوقت الزماني هو الذي يتعلق بعمر الإنسان، بل هو حياته كاليوم والأسبوع والشهر والسنة، والوقت المكاني كما جاء في الحديث المتفق عليه حينما وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفود الحجيج مواقيت مكانية فقال: ((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)).
ولقد ذكر الوقت في كتاب الله تعالى في ثلاث عشرة آية يذكر الله تعالى فيها قيمة الوقت، ففي سورة المرسلات: وَإِذَا ?لرُّسُلُ أُقّتَتْ لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ لِيَوْمِ ?لْفَصْلِ [المرسلات:11-13]. أي أن الله تعالى جعل للرسول ميقاتاً يفصل بينهم وبين أممهم وقال تعالى في سورة الحجر حينما أعطى إبليس مهلة من الوقت فقال: قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ?لْمُنظَرِينَ إِلَى? يَوْمِ ?لْوَقْتِ ?لْمَعْلُومِ [الحجر:37-38]. وحينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف عن ميقات الساعة فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]. وفي سورة الشعراء قال تعالى فجمع السحرة إلى ميقات يوم معلوم [الشعراء:38]. وفي سورة المعارج: قُلْ إِنَّ ?لاْوَّلِينَ وَ?لاْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى? مِيقَـ?تِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ [المعارج:49-50]. وقال تعالى في سورة النبأ إِنَّ يَوْمَ ?لْفَصْلِ كَانَ مِيقَـ?تاً [النبأ:17]. وفي سورة الدخان: إِنَّ يَوْمَ ?لْفَصْلِ مِيقَـ?تُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان:40]. وفي سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ [البقرة:189]. وفي سورة النساء: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103].
وحينما أراد الله تعالى أن يمتن على العباد بقيمة الوقت ويلفت انتباههم إلى قيمته والى أهميته أقسم به في مواضع كثيرة وأقسم بأجزاء منه، ففي معرض الامتنان على الناس ذكر الله تعالى الليل في أربع وسبعين آية وذكر النهار في أربع وخمسين آية قال: وَسَخَّر لَكُمُ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ [إبراهيم:23]. وقال: وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَ ?لَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].
ولأهمية الوقت أقسم بالفجر والضحى والليل والنهار ليلفت انتباه العباد إلى قيمة الوقت ليسعوا بحرص شديد أن يعتنوا بأوقاتهم وأن يملؤوها بطاعة الله تعالى.
لقد كان سلف أمتنا أحرص الناس على أوقاتهم، فيقضون أوقاتهم في طاعة الله، بل إنهم كانوا يستغلون كل لحظة في أوقاتهم فيملؤوها بالطاعة والخشية من الله تعالى، فكانوا يقلون من علامة المقت ألا وهي إضاعة الوقت.
كان ابن مسعود يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي). وقال الحسن البصري: لقد أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على أموالكم. ويقول: يا ابن آدم إنك أيام مجموعة، إذا ذهب يوم ذهب بعضك. وقال عمر بن عبد العزيز: يا ابن آدم إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. ويقول آخر: من كان يومه كأمسه فهو مغبون.
هؤلاء هم الذين حافظوا على أوقاتهم فكانوا يستغلون أوقاتهم في سيرهم في الطريق للعمل بطاعة الله، ويغتنمون كل لحظة من أعمارهم بطاعة الله، فهذا رجل رآه النبي وهو يتقلب في الجنة لأنه استغل وقته في طريقه روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر طريق كانت تؤذي المسلمين)).
هؤلاء اغتنموا أوقاتهم في طاعة الله فأين أوقاتنا من أوقاتهم وأين سهراتنا من سهراتهم، إننا في سهرتنا نرفع شعار: قتل الوقت. فمنا من يظنون أن أعمارهم تقتل بهذا، نعم إنهم يقتلون ولكنهم يقتلون أنفسهم بقتل وقتهم، ويزعمون أنهم يقتلون أوقاتهم، إنهم يقتلون أعمارهم بالنظر إلى المسلسلات الفاسدة والأفلام الخبيثة الخليعة والمجلات الساقطة، وفي الغيبة والنميمة –.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ربما يقول قائل: هل تريد منا أن نقضي أوقاتنا في قراءة قرآن وصلاة دون أن نعطي للنفوس حظها من الترويح واللهو المباح؟
لذا نقول: لا حرج في أن يصرف المسلم وقته في اللهو المباح على ألا يتعدى بذلك اللهو على حق الله تعالى في العبادة، وعلى حق العين والبدن في الراحة، وعلى حق عملك في الإتقان، فحظ النفس في الترويح أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله أعلم الناس بنفوس الناس يعلم أن النفس تمل من كثرة الموعظة وكثرة النصيحة، فكان يتخول أصحابه بالموعظة، فعن ابن مسعود قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة خشية السآمة) أي خشية الملل، فهو الذي يعلمنا حظ النفس من اللهو المباح لأنه يكره الحزن والكسل فيقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وقهر الرجال)).
هكذا كان صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم ليله حتى تتفطر قدماه، وكان يبكي من خشية الله حتى تتخضب لحيته بدموعه، وكان الصحابة يقولون عنه: إنه كان يصوم حتى يقولون: إنه لا يفطر، وكان يفطر حتى يقولون: إنه لا يصوم.
هكذا كان صلى الله عليه وسلم وكان يضحك وجُل ضحكه التبسم، لا يفعل كما يفعل البعض في ضحكهم حتى ينقلبوا على قفاهم من الضحك بأصوات عالية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يعلمنا كيف يكون حظ النفس من اللهو المباح، فيقبل على الصبية الصغار، فيروح عنهم فيجمعهم صفاً واحداً ويقول: ((من قدم إلي فله كذا وكذا)) ، فيهرولون على رسول الله فيقبلهم ويلتزمهم، وهو الذي كان يسابق أم المؤمنين عائشة في بيتها وتسابقه، وهو الذي كان يحملها وهي صغيرة لتنظر إلى لعب الحبشة، فهذا هو اللهو المباح، فكان يضحك ويتبسم ويمزح، ولا يقول إلا حقاً.
روى أحمد أن رجلاً جاء إلى رسول الله فطلب منه أن يحمله فقال: ((إنا حاملوك على ولد ناقة)) فقال الرجل: وماذا أفعل بولد ناقة؟ فقال صلى الله عليه وسلم متبسماً: ((وهل تلد الإبل إلا النوق)).
ومع ذلك هو الذي حذرنا من إضاعة الوقت، هكذا كان أسلافنا جمعوا بين المحافظة على الوقت وبين اللهو المباح فكانوا في أوقاتهم يعيشون على قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الأنعام:162].
(1/1829)
خطورة آفات اللسان وكذبة إبريل
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الكذب ، وذكر بعض صوره. 2- ضرورة حفظ اللسان. 3- التحذير من
النميمة وذكر عذابها في الآخرة. 4- التحذير من المن وشهادة الزور واليمين الكاذبة. 5- كلمة
حول كذبة إبريل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة الكرام: واليوم نتعرف على بعض آفات اللسان ومنها الكذب، فإن الكذب من قبائح الأخلاق ومن كبريات الرذائل، وهو عنصر إفساد كبير ووسيلة ظلم لروابط المجتمعات الإنسانية وتمزيق لصلاتها ولأوصالها ومشعل لنيران الفتنة والعداوة والبغضاء بين الناس.
ومن أجل القضاء عليه نجد أن الإسلام أمر بالصدق وحث المؤمنين عليه ونهى عن الكذب وشدد في التحذير منه، ووضع قواعد تربية للمجتمع الإسلامي على الصدق فقال تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِى ?لْكَذِبَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـ?تِ ?للَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ [النحل:105]. وحث على الصدق فقال الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]. وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب وأشاد بالصدق فقال فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).
وجعل الإسلام الكذب على الله ورسوله من أظلم الظلم، بل هو من أشنع وأقبح صور الكذب فقال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء [الأنعام:93].
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من أعظم الجرم أن يكذب الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) وروى البخاري عن رسول الله أنه قال: ((وليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً ويقول خيراً)).
ولقد نهى الله تعالى عن الكذب فقال: فَنَجْعَل لَّعْنَتُ ?للَّهِ عَلَى ?لْكَـ?ذِبِينَ [آل عمران:61]. وقال: قُتِلَ ?لْخَرصُونَ [الذاريات:10]. أي الكذابون وقال: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28]. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال رسول الله : ((وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً))، وفي الصحيحين أيضاً أنه قال: ((وآية المنافق ثلاث، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم،إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)). وقال: ((وأربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)). وفيما رواه البخاري قال: ((فأتينا على رجل مضطجع لقفاه، وآخر قائم عليه بكلوب من حديد يشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يذهب إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل في الجانب الأول، فما يرجع إليه حتى يصح مثل ما كان، فيفعل به كذلك إلى يوم القيامة فقلت لهما: من هذا فقالا: إنه كان يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الأفاق)) ، وقال: ((يطبع المؤمن على كل شيء ليست الخيانة والكذب))، وفي الحديث: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث))، وقال: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به الناس فيكذب، ويل له، ويل له، ويل له)).
وأعظم من ذلك الحلف كذباً قال تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى ?لْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14]. وقال: ((وكبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق، وأنت به كاذب)) وفي الحديث: ((من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد)). وقال: ((أفرى الفرى على الله أن يري الرجل عينيه ما لم تريا)). وهذا معناه أن يقول: رأيت في منامي كيت وكيت ولم يكن رأى شيئاً. وقال ابن مسعود: لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى ينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين.
فينبغي على المسلم أن يحفظ لسانه عن الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، فإن في السكوت سلامة، والسلامة لا يعدلها شيء. روى البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
فهذا الحديث نص صريح في أنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وهو الذي ظهرت مصلحته للمتكلم، سئل بعض السلف: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيت ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملها سترت العيوب كلها، وهى حفظ اللسان.
وعلى هذا فالكذب خلق ذميم يترفع عنه المؤمن، إن هذا اللسان متى ما أطلق له العنان فربما أوقع صاحبه في المهالك، فسلامة اللسان سبب لسلامة الجوارح، فان الجوارح في كل يوم تكفر اللسان تقول له: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا.
من أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) ، ومن أعظم الذنوب الكذب على الله عز وجل وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ تَرَى ?لَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ?للَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ [الزمر:60]. قال الحسن: هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا، وان شئنا لم نفعل. قال ابن الجوزي في تفسيره: وقد ذهب طائفة من العلماء إلى إن الكذب على الله وعلى رسوله كفر ينقل عن الملة، ولا ريب أن الكذب على الله وعلى رسوله في تحليل حرام وتحريم حلال كفر محض، وإنما الشأن في الكذب عليه فيما سوى ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((وإن كذباً على ليس ككذب على غيري من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)).
ومما ينبغي أن نحذر منه في حديثنا عن خطورة اللسان خلق النميمة، والنمام هو من ينقل الحديث بين الناس على جهة الإفساد بينهم.
وأما أحكامها فهي حرام بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، قال تعالى: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ [القلم:10-11]. وفي الصحيحين أنه قال: ((لا يدخل الجنة نمام)).
ومر بقبرين فقال: ((إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال:بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة)). وقال : ((تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، ومن كان ذا لسانين في الدنيا فان الله تعالى يَجعل له لسانين من نار يوم القيامة)). ومعنى من كان ذا لسانين أي: يتكلم مع هؤلاء بكلام وهؤلاء بكلام، وهو بمعنى صاحب الوجهين، قال أبو حامد الغزالي: إنما تطلق في الغالب على من ينم قول الغير إلى المقول فيه بقوله: فلان يقول فيك كذا.
وليست النميمة مخصوصة بذلك بل حدها كشف ما يكره كشفه سواء كره المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث، وسواء أكان الكشف بالقول أو الكناية أو الرمز أو الإيماء أو نحوها، وسواء كان من الأقوال أو الأعمال، وسواء كان عيباً أو غيره، فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
وينبغي للإنسان أن يسكت عن كل ما رآه من أحوال الناس إلا ما في حكايته فائدة للمسلمين أو دفع معصية، وكل من حملت إليه نميمة وقيل له: قال فيك فلان: كذا وكذا لزمه ستة أحوال:
1- أن يصده لأنه نمام وفاسق وهو مردود الخبر. 2- أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله. 3- أن يبغضه في الله فإنه بغيض عند الله، والبغض في الله واجب. 4- أن لا يظن في المنقول عنه السوء لقوله تعالى: ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ [الحجرات:12]. 5- أن لا يحمل ما حكي له على التجسس والبحث عن حقيقة ذلك قال تعالى: وَلاَ تَجَسَّسُواْ. 6- أن لا يرضَ لنفسه ما نهى النمامَ عنه فلا يحكي نميمته.
ومن أذى اللسان أيضاً المن والمنان فلقد نهى الله عن ذلك فقال تعالى: لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـ?تِكُم بِ?لْمَنّ وَ?لاْذَى? [البقرة:263].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة الكرام الأحبة: ومن أذى اللسان أيضاً شهادة الزور قال تعالى: وَ?لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]. وقال: واجتنبوا قول الزور فليحذر المسلم من شهادة الزور والقول بالباطل، فلا يقل ما ليس له به علم، فإنه إن شهد الزور وقال الزور فهو آثم، فلقد أمر الله باجتناب شهادة الزور، وما أمر الله باجتنابه كان من أكبر الكبائر لإن ما أمر الله باجتنابه أشد مما أمر بتحريمه، كما أمر تعالى آدم وحواء عليهما السلام بعدم الاقتراب من الشجرة، فالتحريم لم يكن فقط للأكل منها بل وحتى للقعود قربها والمرور بها، والاجتناب يفيد نفس المعنى وفي الحديث قال : ((عدلت شهادة الزور الشرك بالله -مرتين-) ) [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والطبراني].
وشاهد الزور قد ارتكب بشهادته أربعا من كبيرات الكبائر وهي: 1- الكذب والافتراء وقد قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28]. 2- انه ظالم فشاهدته بالزور قد ظلمت صاحب الحق وسلبته حقه أو ماله أو عضوه أو حياته. 3- أكل وأطعم مالاً حراماً بما غصبه بشهادته وأعطاه لغير صاحب الحق. 4- قد أباح ما أوجب الله حفظه وحرم أباحته من دم أخيه وعرضه وماله وحتى حياته بشهادته.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر...)) وذكر من هذه الكبائر: ((شهادة الزور)).
ومما يقع فيه اللسان من الكبائر اليمين الغموس، وهو من شهادة الزور وقول الزور اليمين الباطل، يقسمه المرء ليقتطع به من مال غيره أو حقوقه لنفسه إذ لم يوجد الكتاب أو العقد الذي يقطع بالحق أو الشهود لإثبات الحق ونفي الباطل، فكان اليمين في هذه الحال هو الحل الوحيد قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّهِ وَأَيْمَـ?نِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَـ?قَ لَهُمْ فِى ?لآخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ?للَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]. قال الواحدي: نزلت في رجلين اختصما إلى النبي في ضيعة، فهم المدعى عليه أن يحلف فأنزل الله هذه الآية، فنكل المدعى عليه عن اليمين، وأقر للمدعي بحقه، وقال : ((من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان)). فأنزل الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ?للَّه... [آل عمران:77].
ومن ذلك أيضاً الحلف بالباطل، فكل حلف بغير الله باطل ولا يجوز كالحلف بالنبي والكعبة والملائكة والسماء والماء والحياة والذمة والشرف والأمانة والتربة والطين والنعمة والإخوة والأبناء، فعن ابن عمر قال : ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن حلف فليحلف بالله أو ليصمت)) وقال : ((من حلف بالأمانة فليس منا)) [رواه أبو داود]. وقال من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله.
فعلى المسلم أن يتقي الله في قوله، وليعلم أن الله عز وجل قال: وَإِن تَجْهَرْ بِ?لْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ?لسّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]. فاعلم أن علم الله قد أحاط بكل شيء فلا تغيب عنه غائبة في الأرض ولا في السماء بل إن علمه سبحانه يحيط بالسر وما هو أخفى من السر.
ومما ينبغي أن نحذر منه ما شاع بين الناس في زماننا هذا وسمي بكذبة إبريل فهي سنة نشأت في بلاد الغرب، من منطلق يرتبط تاريخياً بهذا الشهر الذي هو من أشهر الرومان، وهو الشهر الرابع من السنة الشمسية، وإننا نحن المسلمين ندين لله تعالى بما جاء في مصدر التشريع على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي حرم الكذب وبين أن الله تعالى لا يحب الكذابين وأنه من علامات النفاق والمنافقين: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر)) [متفق عليه]. فهذه علامات بارزة للمنافق، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب! ويل له! ويل له!)) [أخرجه الترمذي وأبو داود].
فإذا علم هذا فينبغي على المسلم أن يبتعد عن الكذب وألا يتشبه بأهل الكفر والنفاق، فمن تشبه بقوم فهو منهم.
إبريل قد ظلموه كل الظلم جعلوه كذاباً أتى بالإثم نسبوا إليه مظالماً ومآثماً وألبسوه مفترياتهم وتخيلوا كذبا كثيراً ألصقوه بشهر إبريل البريء، فالناس قد ظلموا الزمان بمكرهم لما رأوه مشابهاً للبكم، لو كان ينطق ما مضى في صمته ولثار يرمي في ظلمهم بالسهم، لو أنصف الإنسان ما ظلم الزمان وما رموه بكذبة أو إثم، وقال آخر:
قل لمن قلد الفرنجة منا قد أساء التقليد والتمثيلا
فأخذنا الخبيث منهم ولم نقتبس من الطيبات إلا قليلا
يوم سن الفرنج كذبة إبريل غدا كل عمرنا إبريلا
نشروا الرجس مجملاً فنشرناه كتاباً مفصلاً تفصيلاً
فاحذروا يا عباد الله من الكذب والكذابين.
أيها الأخوة الكرام الأحبة: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
(1/1830)
دعوة للإصلاح
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجتنا إلى صلاح ذات البين. 2- الأمة المسلمة كما أرادها الله. 3- تكاتف المسلمين
وترابطهم. 4- أمور مطلوبة في مجتمعنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة الكرام الأحبة، أشكر الله تعالى على أن جمعني بكم في هذا الجمع المبارك، والفضل لله تعالى. وكلمتي معكم في هذا اللقاء هي دعوة للتعاون والمودة والإصلاح، وما أحوجنا إلى التعاون وما أشدَ حاجتنا إلى الإصلاح.
ما أحوجنا إلى التعاون وقد استبد بكثير من المسلمين الأنانية وتغلبت عليهم المصالح الشخصية، وحصروا أفكارهم في قضاياهم الذاتية فضاق أفقهم وضاقت أخلاقهم، وما أحوجنا إلى الإصلاح وقد كثر الاختلاف في الآراء وامتلأت كثيرٌ من القلوب بالشحناء والبغضاء، واستحكم بين كثير من المسلمين الخصام والعداء، ما أحوجنا إلى أن نمضي إلى مرضات الله عز وجل متعاونين وأن نسعى بين إخواننا مصلحين، ما أحوجنا إلى أن نربط بين القلوب بآصرة الأخوة والمحبة الإيمانية، ما أحوجنا إلى أن نحكم لُحمةَ الصفوفِ بالأخوة والتآخي الإيماني الذي يقوم على عقيدة وسلوك سلف أمتنا.
إننا نحتاج إلى أن نتأمل ما أراد الله تعالى لأمتنا، والطريقَ الذي رسمه لها لتصل إلى تلك الغايات العظيمة، إن الله تعالى أراد لأمة الإسلام السيادة والعزة: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
وقد بين الله تعالى أنه لا عزةَ إلا بالوحدة وأوضح لنا أنه لا وحدةَ بغير أخوة فقال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. ورسم الله تعالى الطريق الذي تتحقق به الأخوة وتحكَمُ به الوحدة فقال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]. وقال تعالى: فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
إنه طريق واضح المعالم لا بد أن ندرك فيه أن الصورةَ التي رسمها الله عز وجل وأرادها لنا هي هذه الصورة المشرقة: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]. فمثل بها للمجتمع المسلم فيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ)). فإن البنيان هو التكامل، لا بد أن نعرف ما معنى البنيان الذي أراده الرسول، إن البنيان نظام لا فوضى وإن البنيان تقارب لا تباعد، إنه تواضع لا تكبر، إنه تقديم للمصلحة الجماعية على المصلحة الفردية واعتراف بدور الفرد في الجماعة، إن كل مسلم لبنة في بناء المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية وحيث ما كان ضعفٌ في إحدى اللبنات أو خلل في بعضها أو نشوز في مجموعة منها فإن الأمر والوصفَ لا ينسب لها بل يلحقُ العوارُ والقصور بالبناء كله، ولذلك من هنا ندرك أهمية الطريق الذي نسلك به إلى التعاون نسعى به إلى الإصلاح وتقويم الأخطاء واستكمال النقص وتزين ما قد يكون من خلل أو قصور ثم نتمثل قول الرسول عند البخاري ومسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) إنه لا انفصام، بل ترابط، إنه لا إهمال بل اهتمام، لا بد أن ندرك هذه المعاني وأن نترسم هذه الطرق التي نصل بها إلى هذا التعاون ونحقق بها الإصلاح فيما بيننا، فإن هذا من أعظم ما ينفع الأمة في وقتها الحاضر الذي كثرت فيه الفرقة بين صفوف أبنائها والخلاف في آرائها والعداوة بين مجتمعاتها إلا ما رحم الله تعالى.
إن من أول هذه الخطوات حق الأخوة وخلق المحبة فهي دليل الإيمان، إن هذا الإيمان يربط بين القلوب ربطاً، ويؤاخى بين النفوس مؤاخاة، إن التحقق الصحيحَ بالإيمان الصادق الكامل يقتضي أن يحب له ما يحبه لنفسه كما جاء في الحديث المتفق عليه والذي بوب له البخاري رحمه الله تعالى باباً بعنوان: بَاب مِنَ الإْيمَانِ أَنْ يُحِبَّ ِلإَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ ِلأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) فكمال الإيمان أن يمتلأ قلبك حباً لإخوانك في الإيمان لكل منتسب لهذا الدين العظيم، لا بد أن ننظر إلى صورة المجتمع الإسلامي كما بينها الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. فهؤلاء يقدم بعضهم بعضاً في الحوائج وفي الملمات لأن القلوب امتلأت بالمحبة والصفاء.
أيها الأخوة الكرام الأحبة، فلننظر إلى واقع مجتمعاتنا اليوم أين نحن من هذه المطالبة بالمحبة والصفاء مما نراه في واقعنا من صور الشحناء والبغضاء، أما آن لنا أن ندرك أهمية الألفة والمحبة والإخاء، فكيف نحقق التعاون وقلوبنا متنافرة وكيف نصلح والنفوس منقبضة كاشحة، لابد أن ندرك أن أول الخطوات أن نصفي القلوب، أن نطهر النفوس، أن نشيع المحبة والودَ والإخاء الإيماني، إن هذا الطريق ليس سهلاً إلا على من سهله الله عليه ومن ملك الإيمان عليه قلبه ومشاعره، فإذا أحب لا يحب إلا لله تعالى وإذا أبغض لا يبغض إلا لله تعالى، فلا بد أن نجعل هذا المعلم وهذه الحقيقة حيةً في واقعنا نعلمها من حقيقة بواطننا لأنها أمر خفي لا يعلمها إلا الله تعالى الذي يطلع على السرائر ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
الأمر الثاني: الرحمة والشفقة فقد استبد بكثير من مجتمعاتنا معالم الأخلاق المادية التي طغت فيها المصالح فلم يعد أحد يكترث بغيره مع أن الأصل في المسلم أنه يرحم إخوانه ويشفق عليهم ويلتمس لهم المعاذير عملا بقوله: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحمنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [رواه أبو داود والترمذيّ]0 لابد من الشفقة والرحمة لما لها من الأثر العظيم في استدامة المودة بين المسلمين.
الأمر الثالث: خدمة المسلمين وإعانتهم، وهذا يتحلى به من عرف حقوق المسلمين الذين عناهم الله تعالى بقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [المائدة:54]. ونحن اليوم نجد صورة لا نحبها في مجتمعاتنا وهي صورة الأنانية التي لا تتفق مع هذه الآية الكريمة ولا تتفق مع ما رواه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللّه قَالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلا يُسْلِمُهُ. مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللّهُ فِي حَاجَتِهِ. وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً، سَتَرَهُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). فكن في خدمة إخوانك لأن الله تعالى وعد من فعل ذلك أن يكون في عونه.
الأمر الرابع: العفو والستر لأن الإنسان غير معصوم، فإذا وقع المسلم في ذنب يجب علينا أن نستر عليه لأن هذا هو الأصل الأول حتى يبدو منه إصرار على المعصية ومجاهرة بها، أما إذا وقع في معصية ولم يجاهر بها فعلينا أن ننفذ فيه وصية رسول بالستر والنصح وكذلك لحماية المجتمع من إشاعة الفاحشة علينا أن نعمل بتحذير الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
فما بالنا اليوم نرى الناس لا همّ لهم إلا أن يتكلموا في أعراض إخوانهم، ففلان وصفه كذا وكذا، وفلان وقع في كذا وكذا، وفلان ينتمي لكذا وكذا، وهذا منهجه وصفته ونعته، وبذلك تقطعت الأواصر واختلفت القلوب وكثرت الغيبة والنميمة وشاع بين الناس الفرقة والاختلاف، ومن هؤلاء من ينظرون من خلال منظار أسود لا يرون الحسنات بل يتتبعون العثرات، إن علموا الخير أخفوه، وإن علموا شراً أذاعوه، وإن لم يعلموا كذبوا، فهؤلاء القوم هم من شرار الخلق ويسعون في تفتيت الصفوف وتفريقها وزرع الشحناء والبغضاء بين النفوس والقلوب لأنهم لا يعرفون الستر على المسلم بل يشيعون الفاحشة ويصمون كل مخطأ بخطئه ويشهرن به، فهؤلاء قوم يسعون للفرقة فيجب أن نحذرهم وأن نحذر منهم وأن ننصحهم. لماذا نجرح إخواننا؟ لماذا نهتك أستارهم؟ لماذا نسعى للفرقة؟ ولصالح من يفعل ذلك؟
فالله أسأل أن يملأ قلوبنا بحب إخواننا المؤمنين والرحمة عليهم والشفقة عليهم وأن نندفع في خدمتهم وإعانتهم وأن نستر عليهم وأن نعفو عن أخطائهم، وأن نعمل بقول الله تعالى الذي يدعونا فيه إلى الاعتصام وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103].
وأسأله جل وعلا أن يؤلف بين قلوبنا وأن يوحد بين صفوفنا، هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1831)
صلاح الدين وتحرير القدس
سيرة وتاريخ, فقه
المساجد, معارك وأحداث
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذلة المسلمين وواقعهم المرير. 2- منهج صلاح الدين في إصلاح واقع المسلمين حينذاك.
3- صلاح الدين يحارب الصلبيين ويستعيد القدس. 4-بعض مؤامرات اليهود اليوم على القدس.
5- فضل المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة الكرام الأحبة، في وسطِ ما تعيشُهٌ أمتُنا الإسلاميةُ اليومَ من أزماتٍ وهجمةٍ شرسةٍ من أعدائِها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في فلسطين وإريتريا والفلبين والصومال وبورما، وفي خضمِ هذه المعناة ِالتي أحاطت بأمتنا نرى الأمل يشع بضوئه المشرق ليبعث فينا روح التفاؤل لعلنا نجد مخرجاً لما تعانيه الأمةُ.
وان المخرجَ يا عبادَ الله يتمثلُ في استعلاءِ الأمة بإيمانها والصدقِ مع الله ومواجهة الأعداء.
واليومَ أيها الأخوة أقدم نموذجاً من النماذج الرائعة التي عملت من أجل إخراج الأمةِ من أزماتها، إنه صلاحُ الدينِ في موقعةِ حطين.
لقد كانت الأمةُ الإسلاميةُ قبلَ ولايتهِ تشكو من الظلم والفساد الذي استشرى في كل مكان، فلما تولى الوزارة َ بمصر ثم استقلَ بشؤونها رأى بتوفيق ٍ من الله أن يخطو َخطوة ً إيجابية ً هامة في توحيدِ المسلمين فبدأ بحمل شعار: إصلاحِ العقيدة وكانت عقائدُ أكثرِ الناسِ قد فسدت في زمانه، ورأى صلاحُ الدين خطورة ذلك الفسادِ في العقيدةِ والأخلاقِ وكان يؤلم نفسَهُ ما يرى من اختلافاتٍ وفرقةٍ ونزاعٍ بين المسلمين، وشعرَ صلاحُ الدين بصعوبة ما هو مُقدمٌ عليه من عمل، ولكنه كان يرى أن صلاحَ أمرِ أمته وخروجَ المسلمين من أزماتهم الطاحنة لن يتمَ إلا بهذه الخطوةِ الإيجابية، وهي أولاً صلاحُ العقيدةِ، فقام بإنشاء المدارس التي تدعو إلى مذهبِ أهلِ السنةِ والجماعةِ، وهو المذهبُ الذي يمثلُ الاتزانَ والتعقلَ من بين المذاهبِ الأخرى، ولما أحسَ صلاحُ الدين بنجاحِ هذه الخطوةِ توجه إلى توحيد بلادِ المسلمين ليتمكن بذلك من مواجهة أعداءِ الإسلام بصفٍ موحدٍ لا عداوةَ َبين أصحابه ولا خلاف، ولم يكن هذا الطريقُ ممهداً أمامَهُ، بل كان فيه كثيرٌ من العقبات، وكان من أولِ تلك العقبات أن امتنع والي حلب عن فتح أبوابها أمامَ صلاحَ الدين بل تجاوز َذلك إلى محاولة قتلِ صلاحِ الدين فأنجاه الله من كيده.
وهنا عزم صلاحُ الدين على مواجهته بعد أن استعان والي حلب بالإفرنج ولكنهم لم يستطيعوا الصمودَ أمامَ قوةِ الجيشِ الإسلامي ثم كان تآمرُ الإفرنجِ على المسلمين، فهجموا على دمياطَ والإسكندرية ولكن الله هزمهم.
وهكذا ظلَ صلاحُ الدين يبذلُ جهودا ً كبيرة ً في توحيدِ الجبهة الإسلامية بعد أن كانت مفككةً لا ضابطَ لها ولا نظام ، ومن ثمَّ انطلقَ إلى مواجهةِ الأعداء الصليبين فقد اتفقت ضدَهُ جميعُ الدولِ الأوربية وجمعت جيوشاً كثيرة ً لمحاربةِ المسلمين فكان بينهم وبينَ صلاحُ الدين وقائعُ كثيرة انتصرَ فيها عليهم، فكانت موقعةُ حطين ثم تلاها فتحُ بيتِ المقدسِ.
ومن مواقفهِ الشهيرة من أجل تحرير بيتِ المقدس أنه كان بينه وبين أرناط أميرِ الكركِ هدنةً وفي شروطها السماحُ للقوافل الإسلامية بالانتقالِ بين مصرَ والشام دونَ التعرضِ لها ولكن أرناط لم يحترم هذا العهد، فاعتدى على قافلةٍ تجارية تابعة للمسلمين وكان ذلك عام اثنتين وسبعين وخمسمائة للهجرة، فصادرَ أموالها وأسرَ رجالَها ولم يكتفِ بذلك بل زاد عليه أن أساءَ إلى المسلمين وإلى النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال للأسرى: إن كنتم تعتقدون في محمدٍ فادعوه الآن ليفك أسركم وليخلصَكُم من شر ما وقعَ بكم.
ولما علم صلاحُ الدين بهذا الاعتداء وهذه الإساءةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتدَ غضبُهُ لله ولرسوله وحلفَ إن أظفره اللهُ بأرناط ليقتلنه بيده، وهنا أخذ صلاحُ الدين يعدُ جيوشَهُ ويستنفرُ هممَ المسلمين، وبعد أن أعدَ العدةَ َ اجتمع مع رجالهِ وكانت المشورة ُ عملاً بقول الله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لاْمْرِ [آل عمران:159]. فاتفقوا على الخروج لمحاربة الأعداء بعد صلاةِ الجمعةِ، السابعَ عشرَ من ربيعٍ الآخر سنة ثلاثٍ وثمانين وخَمسمائةٍ للهجرةِ.
وخرجَ المسلمون بعد صلاةِ الجمعةِ وهم يُكبرون ويتضرعون إلى الله والتقي الجيشان، ودارت رحى الحرب واشتدَ الحرُ على الناس ولكن اللهَ يثبتُ عبادَهُ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]. وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. وكتبَ الله النصرَ للمسلمين وكان نصراً كبيراً.
وصف العمادُ الأصفهاني مشهدَ القتلى والأسرى من الأعداء بقوله: "فمن شاهدَ القتلى في ذلك اليومِ قال: ما هناك أسير، ومن شاهد الأسرى قال: ما هناك قتيل".
وبعد انتهاءِ المعركة سجدَ صلاحُ الدين شكراً لله على نعمةِ النصرِ الذي كان من عند الله ثم استعرضَ كبار الأسرى بحثاً عن أرناط الذي أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال له: ها أنا ذا أنتصرُ لنبينا صلى الله عليه وسلم ثم عَرض عليه الإسلامَ فأبى فقتله، ووفى بقسمه، فقتلَهُ.
هذا هو صلاح الدين في موقعة حطين وما قام به من إصلاح ومعالجةٍ لواقع المسلمين، فالعلاج يا عبادَ اللهِ ينبعُ من ذات الإسلام وعملا بالإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
وفي الخبر السابق يا عباد الله نرى أن إنشاءَ المدارسِ استهدفَ إعادة َ المسلمين إلى عقيدتهم، فلقد كان عملاً كبيراً ما قام به من إصلاحِ عقيدةِ المسلمين بل إن ذلك هو الأساس في إعادة بناء القوة الإسلامية، وإلا فكيفَ يمكنُ أن يوحد شمل المسلمين إذا كانت عقيدتُهم فاسدةً وقلوبُهم مختلفة، وفي هذا الخبر السابق نرى جميعاً كيف كان صلاحُ الدين صادقاً في جهادهِ وعمله من أجل أمته.
وفي الخبر السابق نرى ماذا فعل صلاح الدين بأرناط الذي أساء للمسلمين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الغضب في الله ولله، وفي الخبر السابق نقطةً جديرةً بالتأمل والوقوف ألا وهي اجتماع صلاحُ الدين مع رجالهِ قبلَ وقوعِ المعركة، إنه أنموذجٌ صادقٌ للاجتماعِ الناجحِ الإيجابي الذي يبتعدُ عن الكلامِ المجردِ والنظرياتِ الكاذبةِ والقراراتِ الوهمية فماذا كانت النتيجةُ بعد هذا الاجتماع؟ كانت انتصاراً كبيراً للمسلمين تلاهُ فتحُ بيتِ المقدس، فماذا نقول عن واقعنا اليوم؟ أين غضبتنا لله ولرسوله؟ أين غضبتنا لقدسنا؟ أين اجتماعاتنا من هذه الاجتماعات؟ وأين قراراتُنا من تلك القرارات؟ فان ما أصابنا لم يصبنا من قلةٍ في عددنا أو ضعفٍ في إمكاناتنا، إنما أصابنا ذلك حينما لم نستعل بإيماننا، ولم نفهم حقيقةَ أعدائِنا، فما أحوجَنا اليومَ إلى أن نُمعنَ النظرَ في واقِعنا وما ألمَّ بنا وما آلَ إليه حالنُا، وكيفَ تألبت علينا أثقالُ الحياةِ ومظالمُ الناسِ الذينَ يَلبَسونَ المسوحَ ويمدونَ أياديَهم الآثمةَ بدعوى المصالحةِ والسلام،ِ وهم من هم، هم الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمةً وأولئك هم المعتدون، فهاهم اليهود غدروا بعهودهم ونقضوا كثيراً من بنود المعاهداتِ وسارعوا يبنون ويهدمون ما يشاؤونَ من أرضِ فلسطينَ ومن قبلةِ المسلمين الأولى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أحاطوا المدينةَ المقدسةَ بجبالٍ هائلةٍ من المباني وصادروُا أكثرَ من 80 في المائة من مجموعِ مساحةِ القدسِ فضلاً عن محاولاتِهم طمسَ المعالمِ الإسلاميةِ والعربيةِ في المدينةِ المقدسةِ، ومن ثمَّ السيطرة ُ على يمكنُهم السيطرةُ عليه، حتى المعلمَ الرئيسي حرقُوه وأكثروا الحفرَ تحته ولا يزالون، فالقدسُ وما حوَلها في خطرٍ، وهاهي في كل يوم تستصرخُ ضميرَ ووجدانَ الأمةِ لينقِذوها من التهديدِ اليهودي،ِ فالقدسُ أمانةٌ في أعناقِ أمتنا، وهاهو الأقصى ينادي ويستنجدُ، فهل من وقفةٍ لله رب العالمين ولإنقاذِ المستضعفين.
أيها الأخوةُ: إننا مع ذهولِ الموقفِ واعتصارِ الألم فإننا لا نيأسَ، وأملَنا في اللهِ تعالى كبير ثم في أمةِ الإسلام، ولن يَنضُبَ معينُ أمتنا من الخيرين ، واعملوا يا عباد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حق المسجد الأقصى: ((لا تشدُ الرحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجدٍ إلى المسجدِ الحرام وإلى مسجدي هذا، وإلى مسجد إيلياء يعني بيت المقدس)) [رواه مالك رحمه الله].
ولقد بين الله تعالى لنا قيمة المسجدِ الأقصى حينما ربطه بالبيت الحرام فقال: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لاْقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها الأخوة الكرام الأحبة: وَمَا ?خْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى ?للَّهِ ذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10].
(1/1832)
مهلاً يا جامع الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
إبراهيم بن سلطان العريفان
الخبر
16/7/1421
جامع أبي عائشة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا من الآخرة. 2- تعلق الإنسان بالدنيا. 3- قصر عمر الدنيا وهوانها على
الصالحين. 4- الراتعون في الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان والعقيدة: إننا نرى في هذا الزمان أمرًا عجبًا.. نرى تهافت كثير من الناس على الدنيا والفرح بها والجري وراء حطامِها، هل هذا منتهى الآمال، ومبتغى الآجال!! كأنهم ما خُلقوا إلا للدنيا، ونسوا يومًا يرجعون فيه إلى الله. قال الله تعالى في وصف الدنيا إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39].
وها هو الحبيب المصطفى يرتسم على لسانه نظرتَه إلى الدنيا فقال: ((مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا : كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها)) ولكثرة مشاغل الدنيا وأعمال الحياة حثَّ على الاستعداد ليوم الرحيل، والتزود للدار الآخرة فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
عباد الله: إن التعلق بالدنيا الزائفة والجري خلفها يصرف العبد عن الطاعة. عن العبادة.. كلما ازداد حرصه على الدنيا، ازداد بُعدُه عن الله، قال رسول الله: ((اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بُعدًا)).
الإنسان محب للمال، جامع للذهب والفضة، يجري من مولده حتى موته خلف الدرهم والدينار، ولكن ماذا يبلغ!! وإلى أين ينتهي!!
أيها الأخوة: الدنيا مُقبلة ومُدبرة، فمن غنىً إلى فقرٍ، ومن فرح إلى ترح، لا تبقى على حال، ولا تستمر على منوال، فهذه سنة الله في خلقه، والناس يَجْرون خلف سراب.. سنوات معدودة، وأيام معلومة ثم تنقضي، فلا ينبغي للمؤمن أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا يطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه فيها على جناح سفر ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
أيها الناس: إن سهام الموت صُوِّبت إليكم فانظروها، وحِبالةُ الأمل قد نُصِبت بين أيديكم فاحذروها، وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها، ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال، ومقيمه إلى ارتحال، وممتده إلى تقلُّص واضمحلال.
تمر بنا الأيامُ تترى وإنما نُساقُ إلى الآجال والعينُ تنظر
فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مضى ولا زائلٌ هذا المشيبُ المكدَّرُ
عجبًا لحالِنا.. الدنيا مولية عنَّا، والآخرة مقبلة علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونعرض عن المقبلة، والناس تتصارع وتتكالب على هذه الدنيا، يفقد البعض دينِه، وينسى الكثير أبناءه، انتشرت الأحقاد، وزُرعت الضغائن، وعمَّت البغضاء.
أخي الحبيب: إن عمر الدنيا – والله – قصير، وأغنى غني فيها فقير، فكن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا.. إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنِسُوا بأحبابِهم فاجعل أُنسُك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكِهم وكبرائِهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله، لقد رأينا – والله – من يملك الدنيا رَحَل بكفن، ورأينا من لا يملك من الدنيا شيئاً رحل بكفن.. تساوى الجميع عند هذه الحفرة، واختلفوا في داخلها، فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
عباد الله: انظروا إلى أحوال من سلف.. يقول الحسن البصري – رحمه الله -: والذي نفسي بيده، لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه. الله أكبر.. هذا حال من سلف.. فكيف حال الخلف!! عباد الله... يكفي من الدنيا أنها مزرعة الآخرة، وأنها موسم العبادات وزمن الطاعات، فيها نتزود للآخرة، ونسير مرحلة إلى الآجلة.. كان من السلف مَن إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه – أي كان لا ينام طول الليل، يصلي ويسبِّح ويستغفر.. يستدرك ما مضى من عمره، ويستعدُّ لما أقبل من أيامه.
إن لله رجالاً فُطَنَا طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتنا
نظروا فيها فلَّما عَلِموا أنَّها ليست لحيٍّ وَطَنا
جعلوها لُجَّة واتَّخذوا صالِحَ الأعمالِ فيها سُفُنا
عباد الله: من استعد للقاء الله، واستثمر أوقاتَه فيما يعود عليه نفعُها في الآخرة، فإنه سيفرح يوم لا ينفع مال ولا بنون.. يوم تتطاير الصُحُف، وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة، وترى الناسَ سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. الدنيا دار صِدْق لمن صادقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها.. والعجب أن الكثير من الناس يذم الدنيا وأنها سبب في الطغيان والبعد عن الله.. وما علِموا أنها دار يُتزَوَّدُ منها.. بها الطريق إلى الجنَّة يُبنى.. ولكن:
يعيبُ الناسُ كلُّهم الزَّمانَ وما لِزمانِنا عيبٌ سوانا
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا فلو نطقَ الزمانُ به رِمَانا
الكثير من الناس ينسى سنوات عمره التي مضت، وأيامَه التي انقضت، ولا ينسى شيئًا من أمور الدنيا، كأن العبرة من خلقهم جمع الدنيا والتفرغ لها... لقد تكالب كثير من الناس على الدنيا حتى تقطَّعت الأرحام، وتباعد الإخوان.. وأصبح حديث الناس عن أموال فلان، وما جمع فلان.. بل إن هناك مجالس عامرة بحديث الدنيا وأموالِها، لا يُذكر فيها اسم الله، ولا يتورع فيها عن الغيبة والنميمة وأكل السحت والحرام.. حتى أصبحت حديث المجالس حديث طويل.. فهذا لم يرَ أخاه منذ عشر سنوات بسبب حفنةٍ من مال، وذاك لم يردعه دين أو خوف من الله عن أكل موال الأيتام.. وآخر همُّه مصروف كيف يحصل على الأرض الفلانية ولو بالكذب والحلف بالزور.. حتى تناسى الجميع حفرة ضيِّقة وأهوالاً مقبلة.
دعِ الحرصَ على الدنيا وفي العيش فلا تطمَع
فلا تجمع من المال فما تدري لمَن تجمع
فإن الرزق مقسوم وسوءَ الظنِّ لا ينفع
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين: الدنيا دار أماني وغرور فاحذروها، فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمةٌ زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبةٌ موجعة، وإما ميتةٌ قاضية.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجر
فكم من فتى أضحى وأمسى ضاحكًا وقد نُسِجت أكفانُه وهو لا يدري
وكم من صغارٍ يُرتجى طولَ عمرهم وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمة القبر
وكم من عروس زيَّنوها لزوجها وقد قُبِضت أرواحهم ليلة العُرس
عجبًا – والله – لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح!! وعجبًا لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك!! وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها!! وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب!! ونحن في هذه الدنيا ساهون لاهون.. واسمعوا إلى هذا الصوت ينادي، صوت بلال بن سعد وهو يقول: يا أهل التقى إنكم لم تُخلقوا للفناء، وإنما تُنقلون من دار إلى دار، كما نُقِلتُم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في الجنَّة أو النار.
مراحل متتابعة، وأزمنة متتالية، قطعنا منها مراحل عدة.. ونحن – والله – في غفلة، وإلا كيف تحلو الحياة بنا، ويطيب العيش لنا.. ووراءنا القبور ثم الوقوف بين يدي الجبار جل جلاله ثم الخلود إلى لجنَّة أو النار.. أهوال وأهوال. إخواني.. تفكروا ما في الحشر والمعاد، ودعوا طول النوم والرقاد، وتفقدوا أعمالَكم، فالمناقِش ذو انتقام، إن في القيامة لحسرات، وإن عند الميزان لزفرات، فريق في الجنَّة وفريق في السعير.. ففريق يرتقون إلى الدرجات، وفريق يهبطون إلى الدركات.. وما بينك وبين هذا الأمر إلا أن يُقال: فلان قد مات.
لا تأسفْ على الدنيا وما فيها فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها
واعمل لدار البقاء رضوانُ خازنُها والجارُ أحمدُ والجبَّار بانيها
(1/1833)
الهجرة من وسائل التغيير
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا دعوية
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
6/1/1422
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
- هجرة الأنبياء. 2- تعرض المسلمين للأذى في مكة. 3-هجرة الصحابة. 4- هجرة المسلم بقلبه إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
من الأمور المسلم بها أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها، بل يعوق مسارها ويشل حركاتها، وجرت سنة الله في خلقه أن يقبل بعض الناس على دعوات رسله، فتنشرح صدورهم لهدايته، وأن يُعرض بعض الناس فينشأ الصراع بين الحق والباطل.
تخضع القضية بعد ذلك لشيء من الموازنة. فإن كانت الفئة المؤمنة من أتباع الحق، من القلة بحيث لا تملك إلا أن تظل مستضعفة في الأرض، فستتلقى من الفئة الكافرة ضربات لا هوادة فيها، ولن يكن للفئة المؤمنة خيار إلا أن تصبر وتتحمل كل صنوف الأذى من أجل دعوتها إلى أن يأتي أمر الله، أو تهاجر لتتمكن من الانطلاق في أرض أخرى.
ولقد قص القرآن علينا أن من الأنبياء من هاجر، منهم: سيدنا إبراهيم، ولوط، وموسى، ومحمد عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]. وقال: فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَى? رَبّى [العنكبوت:26]. وقال: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى? أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى [طه:77].
وقال عن هجرة رسول الله وأصحابه: ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج:40]. وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ ?لَّتِى أَخْرَجَتْكَ [محمد:13]. فالهجرة إهدار للمصالح، وتضحية بالأموال، ونجاة بالنفس، مع شعور المهاجر بأنه مستباح منهوب، وقد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان.
روى الإمام البخاري: أن قَيْسًا كان يَقُولُ سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ فَقَال: َ ((لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَب،ٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْن،ِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ)) زَادَ بَيَانٌ: ((وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِه)) ِ.
لكن مع شدة الألم وكثرة الطغيان وانتشار البطش بالمؤمنين والمؤمنات أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يريد الهجرة بدينه أن يتجه إلى أرض يخلى بينه وبين أداء دينه، فبدأ المسلمون يهاجرون، وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم، لما كانوا يحسون من الخطر، وهذه نماذج من ذلك:
1- كان من أول المهاجرين أبو سلمة وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم، فقالوا: لا نترك ابننا معها، إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة.
2- لما أراد صهيب الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى.
3- وتواعد عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل موضعاً يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام. ولما قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش – وأم الثلاثة واحدة- فقالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فرق لها. قال له عمر: ياعياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليه حر مكة لاستظلت، فأبى عياش إلا الخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهاراً موثقاً، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
وبقي هشام وعياش في قيد الكفار، حتى إذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً: من لي بعياش وهشام؟ فقال الوليد بن الوليد: أنا لك يا رسول الله بهما، فقدم الوليد مكة مستخفياً، ولقي امرأة تحمل إليهما طعاماً فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور الجدار ، وقطع قيدهما وحملهما على بعيره حتى قدم المدينة.
هذه بعض ملامح الهجرة وبعض مآسي المهاجرين وماذا أخذوا معهم في هجرتهم والرسول بين ظهرانيهم.
لكن يجب أن نعلم أنه ليس هناك عفوية ولا مصادفات ولا اعتباطية في تصرفات الأمم، بل كل خطوة بحساب، وفي اتجاه محدود مدروس، ومرتبطة أولاً وآخراً بالماضي، ومنطلقة منه، وهادفة للاستقلال والذات.
فإدراك الماضي إدراكاً واعياً ضروري لمعرفة الطريق القويم- معرفة العدو من الصديق- معرفة كيفية التعامل مع كل حديث وجديد ، فالتزاوج بين الماضي والحاضر واستيعاب دروس الماضي والاستفادة منها وتحديد مكانة الماضي في الحاضر ضروري حتى يتم الانطلاق نحو المستقبل وبغير ذلك تعجز الأمة عن دخول الواقع بأبعاده.
فالهجرة من وسائل التغيير وأهمها هجرة المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه، إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له.. إلى دعائه، وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له. وهذا معنى قوله تعالى: فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ [الذاريات:50]. وكان يقول: ((لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1834)
الهجرة والسنة الهجرية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
29/12/1421
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح مقدمة سورة المدثر. 2- صفات الداعية المسلم. 3- لماذا كفرت قريش برسول الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
استجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوامر عديدة من حين أمره الله بالقيام بالدعوة إلى الله، وكان ذلك في قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّر وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:1-7].
المعنى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المتلفف في ثيابه عند نزول الوحي. قُمْ فَأَنذِرْ أي لا تترك أحداً ممن يخالف مرضاة الله إلا وتنذره بعواقبه الوخيمة، وتوقع زلزالاً في قلبه وروعه. وَأَنذِرِ ?لنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ?لْعَذَابُ فَيَقُولُ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ?لرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـ?كِنِ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ?لامْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ?للَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ?لْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ ذُو ?نتِقَامٍ [إبراهيم:44-47].
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي لا تترك لأحد كبرياء في الأرض إلا كبرياء الله تعالى فهو الذي يستحق التكبير والتقديس والتنزيه. لا تتخذ ولياً غيره, ولا تعبد أحداً سواه, ولا ترى لغيره فعلاً إلا له, ولا نعمة إلا منه.
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ فيه ثمانية أقوال: أحدها أن المراد بالثياب: العمل. الثاني: القلب. الثالث: النفس. الرابع: الجسم. الخامس: الأهل. السادس: الخلق. السابع: الدين. الثامن: الثياب الملبوسات على الظاهر.
وكل هذا مطلوب من الداعية تطهير عمله ونفسه وجسمه وخلقه ودينه وملبوساته وأهله حتى يكون القدوة الحسنة والسراج المنير فتجتذب إليه القلوب السليمة وتحس بهيبته وفخامته القلوب الزائغة، فيكون في نظر الأعداء كما قال الله: لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مّنَ ?للَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ [الحشر:13]. وفي نظر المؤمنين كما قال الله عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:159-160].
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ العمل المؤدي إلى العذاب. وأصل الرجز العذاب, قال الله تعالى: لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ?لرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف:134]. وقال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ ?لسَّمَاء [الأعراف: 162]. فسميت الأوثان رجزاً، لأنها تؤدي إلى العذاب.
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ لا تنظر إلى فعلك وجهدك، ولكن كن مجتهداً في عمل بعد عمل، وابذل الكثير من الجهد والتضحية والفناء ، ثم انسَ كل ذلك بحيث لا تحس ولا تشعر بما بذلت وقدمت، فليكن همك أن تكون عبداً شكوراً قال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك, إنما عملك منة من الله عليك; إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته.
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ في هذه إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة والاستهزاء والسخرية إلى الجد والاجتهاد في قتله وقتل أصحابه وإبادة كل من التف حوله من المؤمنين، فيأمره الله تعالى بالصبر على كل ذلك بقوة وجلادة، صبراً في الله وفراراً إليه وطمعاً في رضاه لا لينال حظاً من حظوظ نفسه.
فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. واصبر على ما أوذيت. واصبر على البلوى; لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. واصبر على أوامره وناهيه. واصبر على فراق الأهل والأوطان. وكن خير عبرة وقدوة لمن يحمل الأمانة بعدك ويدعو إلى سبيل ربك، تلك سنة الله مع أوليائه وأصحابه ومن بعدهم.
ولنضرب مثلاً من الواقع الذي صبر فيه محمد ، كان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم وتابع محمداً على دينه تتبعه وتعقبه فإن كان له شرف ومنعة أنبه وأخزاه وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك لنسفهن حلمك ولنبطلن كيدك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك حتى لا يبقى لك مال... وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به!. وقد فعل.
وفعل أمثاله مثله، ولا زالوا يفعلون مثله إلى يومنا هذا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوّاً مّنَ ?لْمُجْرِمِينَ وَكَفَى? بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
وجاءت الهجرة لتكون بداية النصر ومنطلق التأسيس. يبقى السؤال لماذا هذه العداوة التي لا تقف عند حد، ولرجل بالذات وصف عندهم بالأمانة والعفة والنزاهة، حتى وصفوه قبل بعثته بالأمين؟ أبغضاً في محمد؟ كما كانوا يقولون: وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ عَلَى? رَجُلٍ مّنَ ?لْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]. أجحداً ونكراناً بأن الله خالق السماوات والأرض؟ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَسَخَّرَ ?لشَّمْسَ وَ?لْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ [العنكبوت:61]. أم ماذا إذن؟ أكراهية لسماع القرآن؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].
إن ابن إسحاق يروي عن ابن شهاب الزهري: أن سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكلُّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا. وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً.
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية أخذ كل واحد منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها. قال الأخنس: وأنا..والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتي أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت..تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؟.. أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان.. قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه ؟. والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
فقام عنه الأخنس وتركه.
هذه هي القضية.. قضية الصراع على الجاه والمنصب.. قضية التسابق والتكالب على عرض الدنيا الزائل. إنه لم يغب الحق عنهم ساعة، بل كانوا يعرفونه، ولكنهم كانوا كارهين لهذا الحق الذي جاء عن طريق بني عبد مناف بينما هم الذين كانوا دائماً سباقين لإطعام الطعام وتقديم العطايا ونصرة الضعيف والدفاع عن قريش.
والله يعلم حيث يجعل رسالاته. ولقد كانوا يحاولون دائماً أن يلحقوا بهم ولكن هيهات هيهات فرق بين الحيلة والتصنع، بين الحق والباطل بَلْ جَاءهُمْ بِ?لْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَـ?رِهُونَ [المؤمنون:70]. وإذا كان لأبي جهل دوره في الصد عن الهدى ومحاولة طمس أنوار الحق وانتهى ذلك بقتله في غزوة بدر... فإننا نجد في كل عصر ومصر (أبا جهل) جديد. في كل ميدان من ميادين الحياة، استبدوا برأيهم وتحكموا في مصائر الشعوب وأقدارها. وهم كالذين من قبلهم قالوا مثل قولهم، فعلوا مثل فعلهم، تشابهت قلوبهم. كَذ?لِكَ قَالَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـ?بَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [البقرة:118].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1835)
شهور العام والأشهر الحرم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
أحمد بن عبد السلام مارسو
سانت لويس
22/12/1421
المركز الثقافي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأشهر الحرم. 2-نسيء الجاهلية للأشهر الحرم. 3-أهمية الأشهر القمرية في مسائل الأحكام الشرعية. 4-التحذير من سب الدهر 5- التحذير من ظلم النفس في الأشهر الحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله: يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].
والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثم رجب شهر الله رجب الفرد، فهذه الأربعة الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد.
وقد كان مشركو العرب يتلاعبون بحرمة هذه الأشهر، فيؤخرون حرمة شهر الله المحرم إلى صفر إذا أرادوا فيه قتالاً ويسمونه النسيء، وقد أبطل الله نسيئهم هذا، وبين أنه إمعان في الكفر وإيغال في الضلالة بقوله سبحانه: إِنَّمَا ?لنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ?لْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ [التوبة:37]. أي ليبقوا على عدد الأشهر الحرم أربعة فيرحلوا حرمة المحرم إلى صفر، ويقولون شهر بشهر، ويحلون المحرم عاماً، ويحرمونه عاماً فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَـ?لِهِمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:37].
وإن أقبح الأعمال من أحل ما حرم الله والله لا يهدي القوم الكافرين قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ?للَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ?للَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]. وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116].
وقد بلغ تلاعب المشركين بالأشهر مبلغاً غيرها عن هيئتها الأولى يوم خلق الله السماوات والأرض، ولو استمرت على تلاعبهم لما كان يقين في صوم ولا حج، ولكن الله بفضله وكرمه جعل حجة النبي في السنة العاشرة من الهجرة منطلقاً لضبط الأشهر، فوقوفه بعرفة واقع موقعه في اليوم التاسع من ذي الحجة وعيده في اليوم العاشر منه، وأعلنها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)) فأبطل بإعلانه هذا كل نسيء نسأه المشركون، وضبط التاريخ بوقوفه بعرفة وكل تقديم يوم أو تأخير يوم في شهر من الشهور يعود الهلال فيضبطه.
والشهر القمري إما ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً كما صح ذلك عن النبي: ((فصومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وحجكم يوم تحجون، وأضحاكم يوم تضحون)).
والنذور والعدد وسائر الأحكام الشرعية هي بهذه الأشهر القمرية لا بغيرها يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ?لْحَجّ [البقرة:189].
ومن تمام نعمته تعالى علينا أن ردها على هيئتها يوم خلق السماوات والأرض ثم ضبطها أهل الإسلام أتباع سيد ولد آدم فلتهننا هذه الثقة بميقات حجنا وصومنا وفطرنا وأضحانا وأشهرنا الحرم، ولنشكر الله على ما هدانا وإن كنا من قبله لمن الضالين.
وأخيراً: ننبه على أمر شاع كثيراً، وهو سب الدهر، فمن سب الدهر أو شيئاً منه شهراً أو يوماً أو سنة أو ساعة فكأنما اعتقد أنما هو مسبب وخالق الضر الذي حل به، ولذا نهى النبي عن سب الدهر وقال: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر يقلب ليله ونهاره)) أي إنما نسبتموه إلى الدهر وإنما وقع بقضاء الله وقدره، والله خالقه، فمن سب الدهر بسبب ما وقع فيه من أقدار ضارة له فكأنما سب الله مقدر الأقدار كلها ومقلب الليل والنهار، ولذا فإذا غضبت من شخص فلا يجوز أن تلعن الساعة التي قد عرفتك به أو جمعتك به، وإذا غضبت من امرأتك فلا تلعن الساعة التي تزوجتها فيها أو غضبت من شريك لك في تجارة فلا تلعن الساعة التي قد اشتركت معه فيها ونحو ذلك، لأن هذا كله من سب الدهر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: إن الذي جعل لنا من الأشهر أربعة حرماً نهانا أن نظلم فيهن أنفسنا بقوله: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]. ولئن كان ظلم النفس محرماً في كل حين فهو في الأشهر الحرم أشد حرمة، ولئن كان المراد بظلم المنهي عنه فعل النسيء الذي كان يفعله المشركون أو ظلمها بالمقاتلة في الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها إلا أن ظلم النفس أعم مدلولاً وأشمل معنى، إن ظلماً لأنفسكم يا عباد الله أن لا تسألوا عن أحكام دينكم والله سبحانه يقول: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:34]. ويقول: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]. والنبي يقول: ((هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال)).
إن ظلماً لأنفسكم يا عباد الله أن توردوها موارد الهلاك في الدنيا والآخرة بالإعراض عما علمتموه من دين ربكم، فتعرفون الحرام وترتكبونه، والواجب فلا تفعلونه. إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن نعيش رائحين وغادين لا نحمل همّ ديننا لا ندعو به ولا ندعو إليه ولا ندعو له ولأنصاره، إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن تمر بنا مواسم والنفحات فلا نستغلها إلا في جمع الدرهم والدينار، ونحن في غفلة عن حقيقة موازين حسناتنا يوم القيامة، إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن نقابل نعم الله علينا بالنكران لا بالشكران، فنعمة البصر سخرناها في النظر إلى ما حرم الله، ونعمة السمع سخرناها في سماع ما حرم الله علينا، ونعمة النطق سخرناها في قالة السوء من غيبة ونميمة وكذب وسوء وبهتان وزور وغيرها من آفات اللسان.
تأمل معي يا عبد الله كم لله عليك من نعمة ثم انظر هل سخرت كل نعمه فيما يرضيه فكنت من الشاكرين أم أنك استعنت بنعمه على معاصيه، والله سبحانه يقول: هَلْ جَزَاء ?لإحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإحْسَـ?نُ [الرحمن:60]. ويقول: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]. ويقول: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
(1/1836)
النفاق وصفات المنافقين
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
مذاهب فكرية معاصرة, نواقض الإيمان
عبد الرحمن بن محمد عثمان الغامدي
جدة
16/1/1421
القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عمر يخاف من النفاق. 2- النفاق الاعتقادي والعملي. 3- بعض أوصاف المنافقين. 4-
خطورة النفاق على الأمة. 5- الحداثة مظهر من مظاهر النفاق. 6- خوف السلف من النفاق.
5- آثار المفهوم الخاطئ والقاصر للعبادة. 6- دعوة لتصحيح هذا المفهوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى الذي ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلا ويعلمها ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فأصلحوا عباد الله بواطنكم كما تعتنون بصلاح ظواهر كم، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال.
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل حذيفة بن اليمان وكان (حذيفة صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم) سأله عمر فقال: أنشدك الله يا حذيفة أما ذكرني رسول الله مع المنافقين، فقال: لا، ولا أزكي أحداً بعدك.
الله أكبر يا عمر، يخاف عمر على نفسه النفاق... يخاف أن يكون من الذين قال الله فيهم إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145].
من هو عمر؟ إن مسلماً على وجه الأرض لا يعرف عمر لا يكاد يكون موجوداً.... إن عمر من أهم شخصيات أمة الإسلام، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه: أنه من أهل الجنة، وأنه ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان آخر، ويخاف الشيطان منه، وأنه شهيد، ولو كان بعده نبي لكان عمر، وأنه ملهم، ومع ذلك يخاف عمر على نفسه النفاق.
إذاً يا عباد الله، فالنفاقُ أمره عظيم وخطير. إذا كانت تلك الشخصيةُ الهامةُ بعد رسول الله وأبي بكر. يخاف النفاق على نفسه.
فما هو النفاق؟
إن النفاق هو مخالفة الباطن للظاهر، بأن يظهر صاحبُه الإيمانَ بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار، وهو النفاق الاعتقادي.
وثمة نوع آخر من النفاق، وهو النفاق العملي، وهو طريقٌ موصل إلى الأول وأصوله مذكورةٌ في قوله صلى الله عليه وسلم: ((أربعٌ من كن فيه كان منافقاً، وإن كانت خصلةٌ منهن فيه كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)) [البخاري ومسلم].
ولقد بين الله تعالى أوصاف المنافقين في كتابه أكمل التبيين حتى يتعرف المؤمنون على أهل هذه الأوصاف فيحذروهم، فمما وصفهم الله تعالى به بالأوصاف التالية:
أنهم لم يرتضوا الاسلام ديناً ولا الكفر الصريح مبدأً، فكانوا مذبذبين بين الكفار والمؤمنين غير أنهم يبغضون المؤمنين ويتولون الكافرين، وأنهم يأخذون من الدين ما سهل عليهم ويتقاعسون عن تنفيذ ما يشق عليهم كشهود صلاة العشاء والفجر في المسجد، وإذا أرادوا شيئاً من العبادات فكأنما يستكرهون أنفسهم عليه فيؤدونه بكسل وتثاقل، وأنهم يقولون مالا يفعلون، فيقولون الكلام المعسول بينما يضمرون الكيد والمكر، قلوبهم قاسية، وعقولهم قاصرة، فلا يتأثرون بالقيم الإنسانية النبيلة، والمثل العليا، ولا يقدرون مكارم الأخلاق، أفقهم ضيق، ونظرتهم محدودة، فصحاء شجعان في السلم، فإذا جد الجد وجاء دور العمل استخْفوا بأنفسهم ولاذوا بغيرهم يحسبون كل صيحة عليهم ، يخدمون الكفار ويتجسسون لهم ضد المؤمنين، يخذلون المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله، وإذا اشتركوا معهم أحدثوا الخلل والاضطراب في صفوفهم، وعملوا على تفكيك وحدتهم وتفتيت قوتهم، ييأسون من رحمة الله، وينقطع أملهم في نصره، ويلجئون في طلب النصر إلى الأعداء، ويعتمدون على القوى الحسية وحدها في وزن القوى المتقابلة في الميدان، يستغلون الفرص المناسبة للطعن في دعاة الإسلام المخلصين وتشويه سمعتهم عن طريق الكذب وتغيير الحقائق، يستغلون الفرص لإثارة الشبهات حول الإسلام ليزعزعوا إيمان المؤمنين به ويصدوا الناس عن الدخول فيه، يحاولون إفساد المجتمع الاسلامي عن طريق تيسير سبل الفساد التي تحطم الأخلاق وتقضي على الفضائل الإنسانية، يحاربون الإسلام عن طريق التسمي به والدعوة إليه، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يقبضون أيديهم فلا ينفقون المال في الحقوق الواجبة.
عباد الله: هذا شيءٌ من صفات المنافقين التي ذكرها الله تعالى في كتابه المبين، ليبين للمؤمنين حتى يحذروا من النفاق وصفات المنافقين ويعرفوا أعداءهم حقيقة، إن المنافقين شرٌ على الاسلام والمسلمين من اليهود والنصارى والكافرين، وذلك لأن أولئك قد أعلنوا الكفر،، فالمؤمنون جميعاً يدركون عداوتهم ويتكتلون ضدهم، وأي فرد منا يتعاون معهم يتهم بالخيانة، أما حين يكون منافقاً فإنه لا يدرك عداوته وخطره على الأمة إلا القليل من المسلمين، وهم أصحاب الوعي الكامل، ولا يتصدى لحربه إلا الذين جمعوا بين الوعي الكامل والإيمان القوي، أما بقية المسلمين فينخدعون بالمظاهر ويشغلهم التمتع بالوعود الكاذبة، والجري وراء الدعايات الجوفاء عن النظر والتأمل والنقد الهادف والاستشهاد بالماضي على الحاضر، ثم بين عشية وضحاها يصبح والأمر قد انفلت من أيدي المؤمنين وأخذ المنافقون حريتهم الكاملة في تنفيذ مخططاتهم للإفساد في الأرض، وحينما يتولى المنافقون السلطة على المسلمين ويعملون أيديهم في المخلصين منهم قتلاً وتشريداً لا ينكر ذلك إلا القليل من المؤمنين، وسائر المسلمين إما جاهل بخطرهم على الإسلام والمسلمين، وإما عالم بذلك ولكنه يداجيهم لمصلحته الخاصة دفعاً لشرهم أو رجاء خيرهم، ومن هنا كان المنافقون أخطر على الأمة الإسلامية فيما إذا تولوا شيئاً من السلطة عليه مما إذا تولاها الكفار.قاله صاحب كتاب "المنافقون في القرآن".
وإن مما حدث في هذا الزمان أن المنافقين تسموا بأسماء ظاهرها جمالٌ وباطنها مرُّ المذاق، ومن أمثلة ذلك من المتسمين بالعلمانيين، ومنهم من يسمون أنفسهم بالحداثيين، الذين يتنكرون لكل ما هو ماض،ٍ بزعمهم أن ذلك تخلفٌ ورجعية فيتنكرون للدين واللغة والأخلاق الفاضلة، ويصفون أنفسهم بالأدباء والمثقفين، وتنشر صورهم وتلمع أسماؤهم، وتؤخذ آراؤهم، قدواتهم: أدونيس، ونزار قباني، وسميح القاسم، ومحمود درويش، الذين يصفون الله تعالى بالأوصاف الشنيعة... جلَّ الله وتنزه وتعالى.
اللهم غفرانك، اللهم غفرانك.... ما أحلمك يا الله عن هؤلاء وأمثالهم، ولو شئنا لسمينا غيرهم، ولكن الله تعالى يقول: وَلَوْ نَشَاء لارَيْنَـ?كَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَـ?هُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ ?لْقَوْلِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَـ?لَكُمْ [محمد:30]. لهم الأمسيات الشعرية والمنتديات الأدبية يخرجون الباطل في صورٍ يخالها الجاهل حقاً. فاحذروهم عباد الله. مهرجاناتهم المربد وجرش وغيرها، أخزاهم الله.
ماذا يقولون في أدبهم الفج، كان ينبغي أن تنزه أسماع المسلمين عن هذا الكفر المبين، ولكن اسمعوا إلى أقوالهم لتتبينوا عداءهم الصارخ لله ورسوله كما كان عليه حال عبد الله بن أُبي ورفاقه، بل إن أولئك لم يجرؤوا على ما جرأ عليه هؤلاء.
يقول محمود وليس بمحمود: (نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير) تعالى الله عن هذا الوصف الشنيع، بل إنه الله الذي لا إله إلا هو لا تأخذه سنة ولا نوم... ، وقِس على هذا كلامهم الباقي والله المستعان.
إنه ليس غريباً أن يكون هناك أشخاص كفروا بالله وتجرؤوا على ذاته، فذلك يكون، ولكن أن يمجدوا ويتخذوا قدواتٍ، ويكون لهم تلاميذٌ وتلمعُ أسماؤهُم ويفصلُ بين الأدب والدين فإن هذا هو المنكرُ العظيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ?لْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ?تَّخَذْواْ أَيْمَـ?نَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ مّنَ ?للَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ?للَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى? شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ?لْكَـ?ذِبُونَ ?سْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ?لشَّيْطَـ?نُ فَأَنسَـ?هُمْ ذِكْرَ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـ?نِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـ?نِ هُمُ الخَـ?سِرُونَ [المجادلة:14-19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي تقدس في علاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، ولي من تولاه، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، حذر أمته من النفاق وأوصاف المنافقين فجزاه الله عن أمته خير ما جازى نبياً عن أمته.
ثم أما بعد:
فيا عباد الله، إن العبد إذا لم يتعاهد إيمانه، ويحافظ على طاعة ربه، واستهان بالمعاصي قاده ذلك إلى الشر ومراتعه، فينسل من الخير رويداً رويداً حتى يغلف قلبه الران، قال صلى الله عليه وسلم: ((تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً عوداً، فأيُّ قلبٍ أُشربها نُكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى يصير القلبُ أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنةٌ ما دامتِ السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه)) [صحيح الجامع (2960)، رواه أحمد ومسلم عن حذيفة].
وقد كان السلف الصالح يخاف على نفسه النفاق أشد الخوف، فقد سبق قول عمر رضي الله عنه، وكان يلاحِظ حذيفة عند الجنائز، فإن صلى حذيفة على الميت صلى عمر، وإن لم يصلِ لم يصل.
وقال البخاري رحمه الله: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه النفاق.
ويذكر عن الحسن أنه قال: (ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق). وروي عن الحسين أنه حلف: (ما مضى مؤمن قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولامضى منافق قط ولابقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول :من لم يخف النفاق فهو منافق).
وسئل الإمام أحمد رحمه الله: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ فقال: ومن يأمن النفاق على نفسه؟
وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصاف النفاق العملي منافقاً، وروي نحوه عن حذيفة.
فالحذر الحذر عباد الله من النفاق وخصال المنافقين، اصدقوا في الأقوال والأعمال، ووفوا بالعهود والمواثيق، والتزموا بالمواعيد، واعفوا عند المخاصمة. وكونوا حرباً على المنافقين، وبينوا للناس عوارهم حتى يحذروهم، وقد أمر الله رسوله بجهادهم فقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّارَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التحريم:90].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِ?لْكِتَـ?بِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ?لاْنَامِلَ مِنَ ?لْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:118-120].
[مراجع الخطبة (جامع العلوم والحكم الحديث رقم: 48، والمنافقون في القرآن الكريم، للحميدي، ومجموعة أخبار عن الحداثيين)].
(1/1837)
قصة بناء البيت العتيق
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ, فقه
القصص, المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد السلام بن محمد زود
سدني
5/11/1420
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسجد الحرام أول المساجد على الأرض. 2- الحج فريضة وركن من أركان الإسلام.
3- الوعيد لمن ترك الحج وهو قادر عليه. 4- قصة مجيء هاجر وابنها إلى مكة. 5- قصة
بناء البيت. 6- إبراهيم ينادي بالحج والمؤمنون يلبون النداء. 7- فضل البيت الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ مَّقَامُ إِبْر?هِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:96-97]. إخواني في الله: يخبر الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن أول بيت وضع في الأرض للعبادة هو بيت الله الحرام، ففي الصحيحين من حديث أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ)).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]. قال: هذه آية وجوب الحج عند الجمهور، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأن الحج أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا)) ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ)) [رواه مسلم].
وقوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97]. قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. بل صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً). قال ابن كثير رحمه الله: وهذا إسناد صحيح إلى عمر، وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار إلى كل من عنده جدة - غنى- فلم يحج، فيضربوا عليه الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين).
فالحج إخواني في الله فريضة من الله على عباده، وكم من الناس الآن ممن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد منّ الله عليه بالمال، ويسر له الاستطاعة، ولكنه ما فكر -ولو مجرد تفكير- في أن يحج بيت الله الحرام، وأن يؤدي هذا الركن الخامس من أركان الإسلام.
وقال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر، فالوعيد يتوجه إليه، ولا يجزئ أن يحج عنه غيره، لأن حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد. والله أعلم.
وقال سعيد بن جبير: لو مات جار لي، وله ميسرة ولم يحج، لم أصل عليه. وقال الحسن البصري وغيره: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر.
وبعد هذه المقدمة عن الحج وأهميته، يحسن بنا ونحن نتكلم عن الحج وعن بيت الله الحرام، أن نذكر بمن بناه، وبتلك القصة التي أخذت حيزاً كبيراً في كتب الحديث، ألا وهي قصة إبراهيم وإسماعيل وأمه هاجر عليهم الصلاة والسلام، لنقف من خلالها على بعض الحقائق التي ربما غابت عن البعض ونسيها البعض، فأقول وبالله التوفيق:
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا -والمنطق ما يشد به الوسط- لَتُعَفِّيَ -لتخفي وتمحو- أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، عِنْدَ دَوْحَةٍ -شجرة كبيرة- فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ-مكان المسجد- وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا -ولى راجعاً إلى الشام- فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟!! فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ-أي عند مكان مرتفع- حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ حَتَّى بَلَغَ يَشْكُرُونَ [إبراهيم 37]، وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ -يتقلب على ظهره وبطنه ويتمرغ في الأرض كالذي ينازع من شدة العطش- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ -وهو عميق يومها- تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ، رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ، حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ، فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ : ((فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا)) فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا- كأنها خاطبت نفسها فقالت لها: اسكتي- ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ -أغثني إن كان عندك خير- فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ -جبريل عليه السلام- عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أي بمؤخر قدمه- أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ، حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ -أي تجعله مثل الحوض- وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ : ((يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ)) -أَوْ قَالَ: ((لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا)) -أي لكانت زمزم ماء ظاهراً جارياً على وجه الأرض-.
قَال:َ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ-أي لا تخافوا الهلاك- ثم قال لها جبريل: فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ. - فَكَانَتْ هاجر كَذَلِكَ -يعني تتغذى بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب- حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ- مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا -يعني يحوم على الماء- فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ -يعني رسولاً لأنه يجري مسرعاً- فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ : فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ -إسماعيل- وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ - يعني رغبوا في مصاهرته لنفاسته عندهم- وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ -بلغ- زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ. - فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ -أي ما تركه بمكة- فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا-أي يصطاد لنا- ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ: يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ، كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، -كالمستخفة بشأنه- فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَال:َ ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا.
وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى. - فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا، قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ، قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ، قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ : وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا -أي اللحم والماء- لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ، وتفسره رواية أبي جهم (ليس أحد يخلو على اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه) [وفي حديث عطاء بن السائب]: فقالت: انزل رحمك الله فأطعم واشرب، قال: إني لا أستطيع النزول، قالت: فإني أراك أشعث أفلا أغسل رأسك وأدهنه؟ قال: بلى إن شئت، فجاءته بالمقام وهو يومئذ أبيض مثل المهاة، وكان في بيت إسماعيل ملقى، فوضع قدمه اليمنى، وقدم شق رأسه، وهو على دابته، فغسلت شق رأسه الأيمن، فلما فرغ حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى، وقدم إليها رأسه، فغسلت شق رأسه الأيسر). - وروى الفاكهي عن ابن عباس سبب عدم نزول إبراهيم عليه السلام عن دابته فقال: إن سارة داخلتها غيرة، فقال لها إبراهيم: (لا أنزل حتى أرجع إليك) لذلك لم ينزل.
نرجع إلى حديث ابن عباس قَالَ: (فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ -وجد ريح أبيه- فقَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي: كَيْفَ عَيْشُنَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ. - ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ -شجرة- قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟!! قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ -أي هضبة- مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا [وكان عمر إبراهيم يومئذ مائة سنة، وعمر إسماعيل ثلاثين سنة].
قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولَانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]. قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127].
وأقام إبراهيم البناء ورفعه هو وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، إلا موضع الحجر، فقال إبراهيم: يا بني، اذهب وائتني بحجر لنتم البناء، فانطلق إسماعيل بعدما جاء بحجر أول فقام إبراهيم عليه، فغاصت قدماه فيه ليثبته الله، وهذا هو المقام كما حقق ذلك الإمام البخاري.
المقام: هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه ليعلي البناء وليتمه، فلما أتم إبراهيم البناء ظل هذا المقام هكذا لصيقاً بالكعبة حتى عهد الرسول بل وفي عهد الصديق أيضاً، فلما جاء عمر بن الخطاب الملهم، ليطوف بالبيت، رأى أن المقام يعوق حركة الطواف، فأخره إلى الموضع الذي ترونه فيه الآن.
إذاً فلما أنهى إبراهيم البناء قال لإسماعيل: ائتني بحجر لنتم البناء، فانطلق إسماعيل ليأتي أباه بحجر، ثم عاد فوجد حجراً ليس من جنس حجارة الكعبة، فقال إسماعيل لأبيه: من الذي جاءك بهذا الحجر؟ قال إبراهيم: جاءني به من لم يعتمد على بنائي وبنائك، جاءني به جبريل من السماء) والحديث رواه ابن أبي شيبة والحاكم في المستدرك وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب الحج: إسناده قوي من حديث علي رضي الله عنه.
فلما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء الكعبة جاء جبريل فأراه المناسك كلها، ثم قال الله عز وجل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعلي البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون.
وروى الفاكهي بإسناد صحيح من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: (قام إبراهيم على الحَجر فقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ومن كان سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك).
وهكذا أسمع الله كل أحد صوت إبراهيم، ونداء خليله إبراهيم، واستمع لقوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [سورة إبراهيم 37].
وهكذا أخي في الله أنت تلبي: لبيك اللهم لبيك، أي ها أنذا ألبي نداء خليلك إبراهيم، والسعيد من لبي، والشقي من أبى، أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة، وأن ييسر لنا ولكم حج بيته الحرام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إخواني في الله: وفي هذه الأيام المباركة يستعد الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، يستعدون ويشدون الرحال إلى البيت العتيق إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، مستجيبين لأمر الله تعالى، وملبين نداء خليل الرحمن عليه السلام، فهيا عباد الله أجيبوا الداعي ولبوا الدعوة، وقولوا: (لبيك اللهم لبيك..) ولا يستهوينكم الشيطان وتقولوا: غداً وبعد غد، فإن أحدنا لا يدري إذا جن ليل هل يعيش إلى الفجر، قال الله تعالى: وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت سورة لقمان.
فليبادر إلى حج بيت الله الحرام من لم يحج بعد، قبل أن يموت فيندم في ساعة لا ينفعه فيها الندم.
أخي في الله: استمع معي لهذا الحديث الذي يسكب الطمأنينة في القلوب القلقة، التي تظن أن النفقة التي تنفق في الحج تقلل المال وتفقر صاحبها، ففي سنن الترمذي بسند حسن صحيح أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ)).
الله أكبر ما أعظمه من بشارة، فلا تظن أخي أن آلاف الدولارات التي تنفقها اليوم على الحج -لا تظن- أن الله لا يعوضها عليك بل يعوضها وأضعافها، فقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بأن متابعة الحج والعمرة لا تنفي الذنوب فحسب بل تنفي الفقر أيضاً، لذلك كان الفقير حقاً من حبس نفسه عن حج بيت الله الحرام بخلاً بماله عن طاعة ربه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا وللبيت الحرام والمسجد الحرام مزايا ليست لغيره من بقاع الأرض منها:
1 - أن الشرع أجاز لنا شد الرحال وقصد السفر إليه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى)).
2 - أن الصلاة الواحدة فيه بمائة ألف صلاة، فأي فضل وأي نعمة أعظم من هذا، فاحمدوا الله على ذلك، ففي صحيح سنن ابن ماجه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال: ((صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ)) فلا تحرم نفسك أخي من هذا الأجر العظيم والثواب الكبير.
3 - أن من دخله كان آمناً، قال الله تعالى: وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أن يوفقنا وإياكم لحج بيته الحرام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني في الله: وإتماماً للفائدة ننقل إليكم كلام قيماً لابن القيم رحمه الله حيث قال: وقد أكد الله الحج من عشرة أوجه: أحدها: أنه قدم اسمه تعالى، وأدخل عليه لام الاستحقاق والاختصاص. ثم ذكر من أوجبه، وهو الله تعالى، فقال: وَللَّهِ. ثم عمم من أوجبه عليهم وهم الناس جميعاً، وأكد ذلك بصيغة عَلَى فقال: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ. ثم خص منهم أهل الاستطاعة قال: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ. ثم نكّر السبيل في سياق الشرط، فقال: مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً إيذاناً بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت، من قوت أو مال، فعلق الوجوب بحصول ما يسمى سبيلاً. ثم أتبع ذلك بأعظم تهديد وهو التهديد بالكفر: فقال: وَمَن كَفَرَ أي بعدم التزام هذا الواجب وتركه. ثم عظم الشأن وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، والله تعالى هو الغني الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد، وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا ما يدل على مقته له، وسخطه عليه، وإعراضه عنه، ما هو أعظم التهديد وأبلغه. ثم أكد هذا المعنى بأداة َإِنَّ الدالة على التوكيد. ثم أكد ذلك أيضا بذكر اسم العالمين عموماً، ولم يقل: فإن الله غني عنه. لأنه إذا كان غنياً عن العالمين كلهم، فغناه عن شخص بعينه أولى، وكان ذلك أدل على عظم مقته لتارك هذا الحق الذي أوجبه الله عليه. فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكيد هذا الفرض العظيم.
ثم تأمل أخي كيف افتتح الله تعالى هذا إيجاب الحج بذكر محاسن البيت، وعظم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه، وإن لم يطلب ذلك منها. فقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ مَّقَامُ إِبْر?هِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً [آل عمران:96-97].
فوصفه بأنه أول بيت وضع في الأرض للعبادة، ولا شك أن النفوس عادة تشتاق وتتمنى زيارة مثل هذه الأماكن، كما هو حال الناس اليوم في زيارة الأماكن الأثرية القديمة.
ووصفه أيضاً بأنه مبارك، والبركة كثرة الخير ودوامه، وليس في بيوت العالم أبرك، ولا أكثر خيراً، ولا أدوم، ولا أنفع للخلائق منه.
ووصفه بأنه هدى، وأتى بالمصدر نفسه مبالغة، حتى كأنه هو نفس الهدى. –
ثم عمم هذا الهدى فقال: وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ - ثم وصفه بما تضمن من الآيات البينات التي تزيد على أربعين آية فقال: فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ. ثم وصفه بالأمن لداخله، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً. وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث النفوس على حجه، وإن بعدت بالزائرين الديار، وتناءت بهم الأقطار.
ثم أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات السابقة، وهذا يدلك أخي على الاعتناء منه سبحانه وتعالى بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيم لشأنه، والرفعة من قدره. ولو لم يكن للبيت شرف إلا أن الله أضافه لنفسه جل وعلا بقوله: وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْقَائِمِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [الحج:26]. لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفاً، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العاملين إليه، وسلبت نفوسهم حباً له وشوقاً إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبين وَإِذْ جَعَلْنَا ?لْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ [البقرة:125]. يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبداً، كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له حباً وإليه اشتياقاً.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يوفقنا وإياكم لحج بيته الحرام إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/1838)