من حقوق الجار (حرمة أعراض الجيران)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة أعراض الجيران كما جاءت بها النصوص. 2- من حقوق الجار الحق الثالث : أن
يعينه على حوائجه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والتزود ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: لكم تطرقنا إلى هذا الموضوع موضوع حق الجار في الإسلام، نظراً لما له من الأهمية في حياة المسلم، وأذكر أني ذكرت في جملة تلك الكلمات العشرة الطيبة للعالم الجليل سفيان الثوري رحمه الله حيث ذكر عشرة أشياء من الجفاء أي من قلة المروءة والحياء والدين ومنها: ورجل شبعان وجاره جائع ولا يعطيه من طعامه وذكرت أثراً رواه الإمام الخرائطي في مكارم الأخلاق وهو عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي قال: ((من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه. أتدري ما حق الجار؟إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات تبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده)).
عباد الله: كنت قد شرحت هذا الأثر، لكني أحببت أن أتتبع حقوق الجار من خلاله، ولقد شرحت في خطبة سابقة الحقين الأولين، ((وإذا استقرضك أقرضته، وإذا استعانك أعنته)).
أيها المسلمون: في هذا الأثر تنبيه إلى كل مسلم ومسلمة من عدم التهاون بحقوق الجار وبعد بدايته يقول الرسول : ((من أغلق بابه دون جاره مخافة على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن)) فما معنى هذا؟هل معناه أن نفتح بيوتنا لكل من هب ودب من الجيران ليدخلوا على نسائنا وأبنائنا دون تحفظ ولا حذر؟ أم معناه شيء آخر؟ لقد أشرت في خطبة سابقة وقلت: معنى هذا هو الترغيب في بذل المعروف للجار الفقير وعدم إغلاق الباب في وجهه، وفي وجه أولاده خوفاً على الأهل والمال، وليس معنى هذا أن يترك الباب مفتوحاً أمام الجار حتى ترفع الكلفة بينه وبين جاره بتلك الصورة المؤسفة التي شاعت وذاعت في زماننا هذا، والتي أصبحنا نرى فيه الجار غير المؤمن يدخل دار جاره ومسكنه دون مبالاة ولا حياء لا من الله ولا من الناس. وهذا من أخطر الأسباب المؤدية إلى انحطاط وخراب البيوت فكثيراً ما يكون هذا الاختلاط المشين - الذي لا يقره عقل ولا دين - بين الأقارب والجيران والأهل والأصدقاء يكون سبباً في ارتكاب هذا الجار غير المؤمن لأبشع جريمة في حق جاره ألا وهي الزنا بزوجته، والعياذ بالله، وقد جاء في الحديث المروي في الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلية جارك)) وروى البخاري في الأدب المفرد عن المقداد بن الأسود قال: سأل رسول الله أصحابه عن الزنا فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله. فقال: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)) وروى الطبراني والبيهقي ورجاله رجال الصحيح عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله : ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط خيراً من أن يمس امرأة لا تحل له)) فلتكن هذه الأحاديث وغيرها أكبر واعظ للجار حتى يكون بعد ذلك مراعياً لحرمة جاره، وحتى يؤكد إيمانه الذي لابد وأن يكون إحساناً إلى جاره كما جاء في الحديث الآخر: ((وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا)).
وعلى الزوجة المؤمنة العاقلة أن تحافظ على شرفها وكرامة زوجها وذلك بعدم السماح للجار أو من غير محارمها بالدخول إلى بيتها إلا في حضور زوجها حتى لا تمكن شيطاناً آدمياً من هدم بيت الزوجية التي يجب أن ترفرف عليه راية المحبة والوفاء دائماً وأبداً. وأذكرها بحديث ابن ماجة أن رسول الله قال: ((ما استفاد المؤمن من بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
عباد الله: ومعنى: ((حفظته في نفسها)) أنها لا تخرج من بيتها ما دام غائباً إلا لضرورة، وأن لا تسمح لأحد من الرجال بالدخول عليها، وأن لا توطئ فراشه من يكره، وأن تكون على الحال التي يحبها منها، وأن لا تبادره بالشكوى والتضجر، وأن تلقاه عند رجوعه هاشة باشة. ونصيحتها له في ماله أن تجتهد في حفظه وتنميته، وألا تنفق منه إلا بقدر حاجتها بلا تبذير ولا تقتير لهذا كان من الواجب على كل مسلم ومسلمة أن يكون حسن الأخلاق خاصة مع جيرانه، وقد سئل كثير من الأقدمين عن حسن الخلق فقالوا: "علامات حسن الخلق أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، براً بوالديه وأصحابه، وقوراً صبوراً شكوراً راضياً حليماً رقيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً. ولا عجولاً ولا قعوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله".
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد المرسلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: يقول الأثر المروي عن رسول الله حينما سئل عمن قال: أتدري ما حق الجار؟ ((إذا استعانك أعنته وإذا استقرضك أقرضته وإذا افتقر عدت عليه)). تكلمت في خطبة سابقة عن الحقين الأولين ومع الحق الثالث الذي يقول: ((وإذا افتقر عدت عليه)) أي أحسنت إليه وتعاونت معه تأكيداً للمعنى الكبير الذي يشير إليه الرسول : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) متفق عليه.
وروى الطبراني أن رسول الله قال: ((إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس: يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله)) ، ومن أجل ذلك فقد كان أصحاب رسول الله الفضلاء هم يتسابقون ويتنافسون في التعاون والتراحم فيما بينهم وبين أقربائهم وجيرانهم طمعاً في رحمة الله تعالى وعونه وتأكيداً لجوهر الإنسانية فيهم، وإليكم معشر المؤمنين والمؤمنات بعض أخبارهم وأعماله في هذا الموضوع. فهذا عمر بن الخطاب صرَّ أربعمائة دينار، وقال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تربص عنده في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع فذهب بها الغلام إليه. وقال له: يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اجعل هذه في بعض حوائجك. فقال له: وصله الله ورحمه ثم دعا بجارية وقال لها: اذهبي بهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه السبعة إلى فلان، حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر وأخبره فوجده قد أعد مثلها إلى معاذ بن جبل وقال له: انطلق بها إلى معاذ بن جبل وانظر ما يكون من أمره فذهب إليه، وقال له كما قال لأبي عبيدة ففعل معاذ مثل ما فعل أبو عبيدة، فرجع الغلام وأخبر عمر فقال: إنهم أخوة بعضهم من بعض.
وكان من أقوال علي بن أبي طالب : (قوام هذه الدنيا بأربعة، عالم يستعمل علمه وجاهل لا يستنكف أن يتعلم وغني جواد بمعروفه وفقير لا يبيع آخرته بدنيا غيره).
فليذكر الأخ الجار كل هذا وليكن متعاوناً مع أخيه الجار إذا ما أصابته مصيبة في ماله وأولاده، وجاء عن ابن المقفع الأديب المشهور أنه بلغه أن جاراً له يبيع داره في دين ركبه وكان يجلس في ظل داره فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدماً فدفع إليه ثمن الدار، وقال: لا تبعها.
وكذلك مع الجار المصاب أن يتجمل بالصبر مع الأخذ بالأسباب دون يأس أو قنوط، وحسبه أن يذكر دائماً أن الله مع الصابرين وأن الله سبحانه وتعالى هو القائل فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ولذلك نظم الشاعر العربي قائلاً:
إذا اشتدت بك البلوى ففكر في ألم نشرح
فيسرين يسرين إذا فكرته تفرج
فاتقوا الله - عباد الله - وتعاونوا مع جيرانكم على الخير والمعروف فإن يد الله مع الجماعة وإلى الخطب المقبلة إن شاء الله مع الحقوق الباقية للجار. اللهم وفقنا لطاعتك واجعلنا من أهل مرضاتك واحفظنا من غلبة الدين وقهر الرجال آمين.
(1/1625)
من حقوق الجار (عدم أذية الجار)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحق التاسع: عدم أذية الجار بدخان طعامك. 2- إدخال السرور على المسلم. 3- فضيلة
حسن الخلق. 4- فضيلة إطعام الطعام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: ها نحن وصلنا في حقوق الجار إلى الحق التاسع وهو كما جاء في الأثر المروي عن النبي : ((ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها)). والقتار هو الدخان المنبعث من المطبوخ ورائحة البخور واللحم والشواء والعظم المحروق. والمراد من قول الرسول هو أن يكون المسلم سخياً لا بخيلاً، كريماً لا شحيحاً، ولاسيما بالنسبة لجاره الفقير الذي قد يؤلمه كثيراً قتار قدرك، كما يؤلم كذلك أولاده الذين يطالبون أباهم بمثل ما يطبخ في قدرك من اللحم أو ما يشبه ذلك من الأطعمة التي قد لا يعرفون عنها شيئا غير الاسم فقط فيسيل لعابهم بسبب ذلك وتكون النتيجة أن يتورط الوالد هنا مع أولاده الذين يتلوون من الجوع وهو ليس في استطاعته أن يحضر لهم طعاماً شهياً كطعامك، ولهذا فإن النبي وهو المربي الفاضل والرحمة المهداة يوصيك أيها الجار المسلم أن تلاحظ هذا، وأن تكون كيساً فطنا، عاقلاً لبيباً، فلا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا إذا كنت ناوياً أن تغرف له منها.
وهذا من الواجب عليك نحو جارك الفقير بصفة خاصة حتى لا تكون سبباً في إحراجه مع أولاده، وحتى تكون ممن قال الله عز وجل فيهم: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
وإليكم معشر المؤمنين والمؤمنات بعض الأحاديث التي تحث على إدخال السرور على الجيران بصفة خاصة وعلى المسلمين الفقراء منهم بصفة عامة. روى الطبراني في الكبير والأوسط عن الحسن بن علي عن النبي قال: ((إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم)) وعن ابن عباس عن النبي قال: ((إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم)) رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وروى الطبراني أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من أدخل على أهل بيت من المسلمين سروراً لم يرض الله له ثواباً دون الجنة)).
ومعلوم - أيها المسلمون - أن إرسال الطعام الشهي إلى بيت جارك الفقير سيدخل السرور عليه وعلى أولاده، مما يجعلهم يدعون لك بالدعاء الحسن بالصحة والعافية والزيادة من فضله سبحانه.
ويجب أن تعلموا - أيها المسلمون - أن هذا ليس على سبيل الإحسان والصدقة بل هو من مستلزمات الإيمان، حيث إن فعل مثل هذا العمل به يكمل الإيمان، وبدونه ينقص الإيمان أو ينعدم، فقد روى الطبراني والبزار بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)) أي ما صدق بما جئت به التصديق الكامل من بات شبعاناً وهو يعلم أن جاره القريب منه الذي داره لاصقة بداره بات جائعاً لا يجد ما يطعمه وما يسد به جوعته. فليس من الإيمان أيها المؤمن كما جاء في هذه الأحاديث وغيرها أن تبيت شبعاناً وجارك جائع مع أولاده، فإن أردت أن تكون مؤمناً كامل الإيمان فعليك أن تنفذ وصية رسول الله التي أوصى بها أبا ذر الغفاري حيث قال له : ((فإن صنعت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمرقتك)) رواه الإمام مسلم مختصراً في باب البر.
وهذا - أخي المؤمن - والشكر لن يكلفك كثيراً وسيدخل السرور على أهل بيت جيرانك كما سيكون تأكيداً لإيمانك وإحسانك.
عباد الله: روت كتب السيرة أن بنت حاتم الطائي وقعت بين يدي رسول الله وهي أسيرة حرب فقالت له: "يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طي" فأعجب الرسول بحديثها وقال لها: ((يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مؤمناً لترحمنا عليه)) ، ثم قال للصحابة: ((خلو عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله تعالى يحب مكارم الأخلاق)) فقام أحد الصحابة وتساءل في إعجاب قائلاً: والله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال : ((والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق)) فكن أخي المسلم من المتخلقين بهذا الخلق الكريم وتقرب إلى الله تعالى بإطعام جيرانك الفقراء واعلم أن رسول الله قال: ((صنائع المعروف تقي مصارع السوء)) رواه الطبراني، وقال عبد الله بن مسعود: (صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكئاً). نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من العذاب المهين وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: عرفنا في الخطبة الأولى إن أذى الجار بقتار القدر منهي عنه شرعاً، وبذلك يعلمنا رسول الله إن أذى الجار لا تكون بالسب والشتم والخصام والضرب فقط وإنما الأذى يشمل عدة أشياء أخرى، على الجار المسلم أن يبتعد عنها، لذلك وجب على كل مسلم ومسلمة أن يتنبه إلى هذا الموضوع ويوليه أهمية بالغة، خاصة في عصرنا ومجتمعنا هذا الذي أصبح الناس يعيشون فيه أزمة السكن الخانقة كما سبق الإشارة إليه في الأسبوع الماضي- فصارت الشقة الواحدة يسكنها الأفراد على قدر الغرف الموجودة فيها فإذا كانت الشقة تحتوي على ثلاث غرف فإنه يسكنها ثلاث أسر، كل أسرة غرفة، وقد يكون في الغرفة الواحدة أكثر من فردين، فتجد البيوت متقاربة والقدور منهوبة للأكل.
فاحذر أخي المسلم أن يكون قدرك لحم لذيذ تفوح رائحته من بعيد، وبجانبك جارك الفقير لا يملك شيئاً وله أولاد وذرية، فقد يصبر هو على ذلك، ولكن الأبناء لا يصبرون فاحذر أن تمنعه طعامك وشرابك وتتركه جائعاً إلى جنبك وأنت تعلم ذلك، لأن منع الطعام من مستحقيه إثم كبير ومعصية عظيمة، فقد جاء في الأثر أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لما أتم بناء الكعبة المشرفة جلس يفكر فقال في نفسه: لعله لا يوجد عمل صالح أفضل من هذا العمل وهو بناء البيت الحرام، فأوحى الله إليه يا إبراهيم: لقمة في فم الجائع أعظم عند الله من بناء سبعين بيتاً. فأطعم جارك - أيها المسلم - مما تطعم إن استطعت، واغرف له من مرقك، فقد روى الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) ، فإذا فعلت ذلك - أخي المسلم - فإنك تنال أجراً عظيماً فقد روى الإمام الطبراني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله : ((من أطعم مؤمناً حتى يشبعه من سغب أدخله الله باباً من أبواب الجنة لا يدخله إلا من كان مثله)).
ألا فاتقوا الله عباد الله وأدوا حق جيرانكم هذا وأطعموهم مما تطعمون خاصة الفقراء منهم، فأشركوهم معكم في طعامكم روى أبو الشيخ بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((ثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه، وأدخله جنته رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين وإحسان إلى المملوك، وثلاثاً من كن فيه أظله الله عز وجل تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله، الوضوء على المكاره والمشي إلى المساجد في الظلام، وإطعام الجائع)).
(1/1626)
من حقوق الجار (عدم الاستطالة عليه في البنيان)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحق الثامن: عدم الاستطالة عليه في البنيان. 2- حال المسلمين اليوم مع جيرانهم. 3-
الحق التاسع : أن إلا يمنعه من المنفعة التي لا يترتب عليها ضرر له. 4- يطلب من طالب
المنفعة الاستئذان من جاره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: مازلنا نتابع حقوق الجار في الإسلام، ووصلنا إلى الحق الثامن وهو قوله : ((ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه)) إن هذا الحق أيها المؤمنون متصل بالسكن، والسكنى حق مشروع لكل إنسان، بل إن الحيوان الأعجم يسعى هو الآخر في تحقيق سكناه. ونلاحظ كما يلاحظ كلنا قل أن هذا الحق أصبح صعب المنال لدى كثير من الناس خاصة الفقراء منهم، حتى أصبحنا نسمع أن بيتاً واحداً مع الجيران صار يكترى بثمن باهظ خصوصاً مع تلك البدعة المحدثة التي فجرت أزمة السكن في مجتمعاتنا الإسلامية ألا وهي البدعة المسماة بالساروت.
يا أيها المصلون: اتقوا الله في اخوانكم الفقراء والمساكين، ويا أيها الأغنياء المسلمون ساعدوا إخوانكم الضعفاء في الحصول على مسكن لهم ولأبنائهم، فإن هذه الحسنة أعظم عند الله من حج التطوع والعمرة وصنع الطعام مرة واحدة ثم الغفلة عن الضعفاء والمحتاجين.
ويا أيها الفقراء المساكين اصبروا وأدوا أجر الكراء ولو بعرق جبينكم يبارك الله لكم في أعمالكم وأعماركم ويجعلكم من الفقراء الصابرين الذين يفوزون بالجنة ورضى رب العالمين. وأنا على اليقين أن هذا الأمر لا تكفي فيه خطبة تقال أو موعظة تلقى بل لابد من العمل والتنبيه على الجزاء من أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
أيها المسلمون: نرى في هذا الحق أن الرسول يريد بقوله هذا أن يكون هناك احترام متبادل بين الجارين بحيث يحافظ كل منهما على مصلحة الآخر بحيث لا يكون الجار سبباً في منع الخير عن جاره كالهواء والشمس والنفع العام. ولهذا فإن النبي يوصي بضرورة أن يلاحظ الجار أن جاره الملاصق له سكنه، لابد وأن يكون بعيداً كل البعد عن إيذائه بمثل هذه الصور التي يشير إليها الحديث الشريف، والتي معناها كما هو واضح من نص الحديث: إذا أراد الجار أن يبني جداراً يفصل بينه وبين جاره. لابد وأن يلاحظ عدم استطالة هذا الجدار حتى لا يحجب الريح والشمس عن جاره.
وإذا رأى الجار ضرورة ذلك فلابد وأن يستأذن جاره، ويستمع إلى رأيه في هذا الموضوع بالذات المتعلق به هو تمام التعلق، لابد وأن يصلا فيه إلى حل حتى لا يكون هناك تعد على مصلحة هذا الجار، لأن هناك قاعدة شرعية تبنى عليها كثير من الأحكام، وتؤسس عليها كثير من التشريعات وهي: ((لا ضرر ولا ضرار)) أي أنه واجب على كل مسلم ومسلمة كوجوب الصلاة والصيام والزكاة أن يراعي حقوقه وواجباته نحو إخوانه المؤمنين سواء كانوا جيراناً أم أقارب أم مواطنين، فكما أنه لا يرضى بأن يمس بأذى من أحد فكذلك عليه أن لا يتسبب في أذى أحد، فلا يضر أحداً كما يكره أن يضره أحد. فالمثل يقول:.. الآخرين. فلو أن المسلمين في الحاضر جعلوا هذه القاعدة نصب أعينهم وساروا عليها لما رأينا المحاكم قد امتلأت بالملفات الخاصة بالجيران مع جيرانهم وما أكثرها، فلا يكاد حي من الأحياء يسلم من وجود نزاعات وخصومات بين الجيران، وأستغفر الله إن قلت: إن كل منزل من منازل المسلمين تجد فيه مشكلة من مشاكل الجيران إلا من رحم الله.
فخبروني بربكم يا مسلمون أهذه هي الأمة التي أوصاها نبيها بمراعاة حق الجيران؟ الجواب لا لأنها خالفت نبيها وأعرضت عن كتاب ربها.
ويجب على الجار المسلم أن ينفذ وصية رسول الله وذلك بأن يستأذن جاره باستطالة جداره فإن أذن فذاك وإن امتنع فيجب عليه أن يأخذ بخاطره حتى يرضى حتى لا يؤذي جاره بمنع الهواء عنه، والهواء من أكبر النعم الإلهية التي لابد أن ينتفع بها كل إنسان، وليس من حق أي إنسان أن يمنع نعمة الله عن عباده، وما يقال عن الهواء يقال عن الشمس.
والجار إذا أقدم مع ذلك أي استطال جداره دون إذن جاره أو بغير رضاه فإنه سيكون قد أساء إليه أكبر إساءة. ولكن الإسلام نبه الجار إلى أن يكون ليناً سهلاً مع جاره بحيث إذا استأذنه جاره فلا يمانع ويتصلب فإن ذلك قد يؤدي إلى القطيعة والنزاع، والرسول يقول: ((رحم الله امرؤ سهلاً إذا اقتضى سهلاً إذا باع وإذا اشترى)) رواه البخاري.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من العذاب المهين وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: روى الجماعة إلا النسائي عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)) ، ثم يقول أبو هريرة: (مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يضع خشبة في حائط جاره وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع)) ففي هذين الحديثين - أيها المسلمون - كما قال الشوكاني في نيل الأوطار دلالة على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره، وقال الجمهور ومالك والشافعي: يشترط إذن المالك ولا يجبر صاحب الجدار إن امتنع لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، والواجب في حق الجار المستأذن أن يأذن لجاره وأن لا يمنعه، اللهم إلا إذا علم أن هناك ضرراً محققاً سينزل به من جراء هذا العمل، فكثير من الأحاديث نصت على الاستئذان ونصت كذلك على الإذن من المستأذن، فعلى الجار أن يلاحظ كل هذا وأن يكون على علاقة طيبة بجاره الملاصق به بصفة خاصة لأنه قد يكون أقرب إليه من أهله وعشيرته.
بينما لو سألت أحد الناس اليوم عن أعدى عدوك؟ لأجابك مع الفور وبدون تردد: إنه جاري الملاصق لي، روى الإمام أحمد عن عكرمة عن سلمة بن ربيعة أن أخوين من بني المغيرة حلف أحدهما أن لا يغرز خشباً في جداره، فلقيا مجمع بن يزيد الأنصاري ورجالاً كثيراً فقالوا: نشهد أن رسول الله قال: ((لا يمنع جار جاره أن يغرز خشباً في جداره)) فقال الحالف: أي أخي قد علمت أنك مقضي لك علي، وقد حلفت فاجعل اسطواناً دون جداري ففعل الآخر فغرز في الاسطوان خشبة رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
هكذا أيها المسلمون كان الصحابة والتابعون يرجعون إلى الحق ولا يتعادون في الباطل، خوفاً من الله تعالى وعقابه، خاصة مع بعضهم البعض.فاتقوا الله معشر المسلمين ولا يمنعن أحدكم جاره من أن يصلح بيته، كما أنه على الجار أن يراعي حق جاره، فلا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضيق عليه في سكناه. فإن من آذى مسلماً فقد آذى رسول الله ، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله عز وجل، ومن آذى الله عز وجل يوشك أن يأخذه.
(1/1627)
الحذر من اتباع الهوى
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون.
عباد الله، بين الله تعالى أنه شرع لرسوله شريعة أمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وأهواؤهم هو ما يهوونه وما هم عليه من ضلال وانحراف عن دين الله، بل حذره ربه سبحانه من اتباع أهواء الذين لا يرضون إلا عن من اتبع ضلالهم، فقال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى فالهدى الحق والصحيح هو ما جاء عن الله تعالى. ثم قال سبحانه ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير أي أنك لن تنجح ولن تُفلح إذا جاريتهم في باطلهم واتبعتهم في ضلالهم، وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد، هو موجه في الواقع للأمة، فنبي الرحمة مؤيد بالكرامة والعصمة، عصمه الله من الزيغ والضلال، الذي قد تقع فيه أمته إذا هي اتبعت طريق المغضوب عليهم والضالين، لذلك حذرنا الله تعالى من تقليدهم في انحرافهم، هذا التقليد والاتباع الذي وقعنا فيه، والذي من أمثلته تقليد المسلمة للغربية في لباسها وتبرجها.
لقد بعث الله نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام في وقت انحرف فيه النساء – كالرجال – عن دين الله، فجاءت آيات القرآن تبين شكل لباس المرأة المسلمة، فقال تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فالجلباب وهو اللباس الذي يستر الجسم كله، هو شعار المرأة المسلمة يميزها عن المنحرفة والكافرة، وقد فرضه الله عليها كالصلاة والصيام، وهي مطالبة مع اللباس الذي بين الله أمره في سورتي النور (الآية 31) والأحزاب (الآية 59) بالالتزام بآداب الإسلام وأخلاقه.
ومن أمثلة تقليد المسلمين للغربيين الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، هذا الاختلاط بدأ الغرب الآن يتراجع عنه بعد أن اكتوت مجتمعاته بويلاته، ففي إحصاء نشر أخيراً في بريطانيا ذكر أنه في عام 1996 سجلت أعلى نسبة لحمل الفتيات خارج إطار الزواج قبل بلوغهن سن 16، إذ بلغ عددهن تسعة آلاف فتاة، منهن خمسمائة لم يتجاوز سنهن 14 عاماً، ومصير الغالبية العظمى من حمل هؤلاء الفتيات هو الإجهاض، وقد تأكد أن الاختلاط في المدارس هو السبب الأول في هذه الكوارث التي تقع مثيلاتها في بلاد المسلمين، لكنها تظل طي الكتمان، ولا تنشر عنها أية إحصائيات أو أخبار ليتنبه الناس لخطر الاختلاط وويلاته.
عباد الله، لقد تفطن بعض العقلاء في البلاد الغربية إلى ما يشكله الاختلاط من خطر على المجتمع، فدعوا إلى الفصل بين الذكور والإناث في المدارس وغيرها، وقد قررت وزارة الدفاع الأمريكية الفصل بين المجندين من الإناث والذكور بعد سلسلة من الفضائح غيرت نظرة المؤيدين للاختلاط، وكذلك قررت عدة مدارس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية الفصل بين الجنسين سعياً لتحسين مستوى التحصيل الدراسي، فقد تبين لهم أن الاختلاط يتسبب في الشرود الذهني حيث يظل كل من الطالب والطالبة لا يفكر إلا في الآخر، ليطبق ما رآه في أفلام الخلاعة والمجون، التي تُقدم في السينما والتلفزيون.
ولقد نبه علماء الإسلام قديماً إلى وجوب منع التعليم المختلط والفصل بين الجنسين، فقال سحنون: "ومن حسن النظر التفريق بين الذكور والإناث وأكره خلطهم لأنه فساد" نعم.. إنه فساد نرى نتائجه الآن، فهاهن الفتيات تذهبن متزينات إلى المعاهد والجامعات، ويذهبن إلى أماكن الخلوة دون خوف من أب أو أسرة، بل إن بعض الآباء لا يجدون حرجاً في أن يكون لبناتهم أصدقاء يتبدلون بتبدل الفصول، ويعدون ذلك من مظاهر الحضارة والتقدم، ألا تباً لحضارة الفسق والفجور، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وأولادنا من تلك الطائفة المتمسكة بدينها التي قال عنها نبينا عليه الصلاة والسلام.
((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1628)
الخمر والمخدرات
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
10/2/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الحرام قد بين فلا يجوز للمسلم المجادلة لتحليل ما حرمه الله. 2- أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام ومن ذلك المخدرات. 3- التناقض الواضح في تصرفات بعض الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول ربنا تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
عباد الله،القرآن الحكيم،كتاب الله أنزله الله تبياناً لكل شيء،بين الله في هذا القرآن كل علم وكل شيء..كل حلال وكل حرام.كما اشتمل على كل علم نافع،وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم،فبالقرآن الحكيم وبيان النبي الكريم يعرف المسلم ما حرم الله عليه ليجتنبه وليبتعد عنه.
ونحن اليوم في زمان انتشرت فيه المحرمات بشكل خطير،وصار بعض الناس يجادلون في أمر المحرمات،فيزعمون أن الله تعالى لم يحرم الخمر لأنه سبحانه لم يذكر كلمة التحريم بل قال :اجتنبوه.وهؤلاء يصدق عليهم قول الله تعالى: ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق فالله سبحانه وصف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس أي قذارة ووساخة يجتنبها المؤمن،والاجتناب معناه الابتعاد التام بحيث يكون المؤمن في جانب بينما الخمر والميسر في جانب آخر بحيث لا يراها ولا يقترب منها،وقد جاء في الحديث لَعَنُ كل من له صلة من قريب أو بعيد بالخمر.
وكما يجادل هؤلاء في تحريم الخمر يجادل آخرون في تحريم المخدرات فيزعمون أن القرآن لم يذكرها ولم يحرمها،فهي إذن من الطيبات،وهؤلاء إما أنهم من المعاندين،أو أنهم من الجاهلين بأحكام الدين،وبالقرآن المبين،فلقد بين الله تعالى في كتابه أنه أرسل رسوله ليحل الطيبات ويحرم الخبائث،وقد علمنا أن الخمر من أخبث الخبائث،وعلم المسلمون أن الخمر ليست عصير العنب فقط،فهذا عمر بن الخطاب يخطب على المنبر ويقول: ((ألا إن الخمر قد حرمت، وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل)). فالإسلام حرم الخمر بجميع أنواعها،وليست محرمة لأنها عصير لأنواع معينة من الثمار،إنها حرمت لأنها تتسبب في الإضرار بالعقول ولأنها تغطي العقل وتحبسه عن التفكير، وكذلك المخدرات،فهي تتسبب في نشوة ولذة وطرب كالخمر،وقليلها يدعو إلى كثيرها، والمعتاد عليها يصعب عليه التخلص منها،فهي خمر مسكرة - وأصل الخمر ستر الشيء - وسميت الخمر بهذا الإسم لأنها تغطي العقل وتسد أمامه باب التأمل والنظر، فلا تستقيم للسكران حال.
فالمسكرات إذن أنواع متعددة منها الحشيش والكوكايين والبيرة والوسكي وغيرها،كلها خمر تخامر العقل أي تغطيه فلا يبقى له أثر، وحكمُ الله تعالى فيها واحد،فهي رجس من عمل الشيطان لعن الله كل من له يد من قريب أو بعيد في ترويجها،ومن استحل أي نوع منها فهو كافر مرتد.
هذه حقيقة وجب التذكير بها نظراً لأن البعض لجهله يفرق بين الخمر والمخدرات مما يشجع الضالين المفسدين على ترويجها واستعمالها وهم يرون ما تسببه المخدرات من ضرر وفساد وهلاك.
ضررها - كما ترون - عظيم وخطير ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول : ((لا ضرر ولا ضرار)) ويقول : ((من ضار أضر الله به)). فما ثبت ضرره فهو حرام.
عباد الله ، نحن نعيش في عصر المتناقضات ففي الوقت الذي تبنى فيه المساجد تفتح الخمارات، وفي الوقت الذي تلبس فيه امرأة الحجاب تجد أخرى تتعرى عرياً فاضحاً،وهكذا دواليك ومن أعظم المتناقضات محاربة المسكرات كالحشيش والكوكايين والسماح بترويج مسكرات أخرى كالروج والبيرة مع العلم أنها كلها خبائث ومفاسد. قال نبينا عليه الصلاة والسلام : ((كل مسكر حرام، إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال...)) الحديث.
فالأجدر بأمة دينُها الإسلام وكتابها القرآن ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام أن تحارب كل المسكرات والمفسدات وأن تطهر أرضها من جميع الموبقات إرضاء لربها وإصلاحاً لنفسها،ففي ذلك الخير والفلاح لها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1629)
الدعوة لمخالفة الكفار
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
بعث الله تعالى نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام في وقت كانت فيه أمم لها حضاراتها وثقافاتها وأديانها، فالفرس والروم كانوا على مستوى رفيع من الحضارة والمدنية،واليهود والنصارى كان لكل منهم دين يعتقد معتنقه أنه على الحق وحده،كما كانت لهذه الأمم عادات وتقاليد تمتاز بها،فماذا كان موقف رسول الله عليه الصلاة والسلام من عاداتهم وأديانهم وأمورهم بصفة عامة؟.
لقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة،ألا وهي مخالفة غير المسلمين في الأمور التي يمتازون بها،وذلك ليحتفظ المسلمون بشخصيتهم المتميزة:بأخلاقهم وعاداتهم الطيبة التي استمدوها من شريعة ربهم وهدي نبيهم. ذلك أن التشبه ينتج عنه شعور بالتقارب والمودة والتقدير،فيتأثر المقِلد بالمقلدَ وقد يتبعه فيما فيه مخالفة صريحة لدين الله،لذلك كان على المسلم أن يردد كل يوم : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. أي الله يا ربنا أرشدنا ووفقنا للطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه،وهو طريق الذين أنعم الله عليهم من النبييين والصديقيين والشهداء والصالحين.
والنبي عليه الصلاة والسلام حذر أمته من تقليد غيرها،قولاً وفعلاً ، فقال : ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)) وعندما اهتم كيف يجمع الناس للصلاة،اقترح عليه بعضهم النفخ في البوق، فقال: ((هو من أمر اليهود)) ، ثم اقترحوا عليه ضرب الناقوس فقال: ((هو من فعل النصارى)) ، كما لم يوافق على ايقاد النار، وأمر بلالاً بالأذان.
ولقد وفق الله تعالى الأمة الإسلامية إلى ما يحقق استقلالها عن غيرها،فلها عيدها الأسبوعي وهو يوم الجمعة الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام : ((هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له)) ولها عيدان في السنة :الأضحى ويوم الفطر،ولها لغتها التي هي لغة القرآن،ولها تاريخها وهو التاريخ الهجري،كما أن لها شريعتها التي تغنيها عن كل تشريع ونظام.
إذا علمنا هذا فعلينا أن ننظر في واقعنا.هل نحن اليوم عاملون بهذه القاعدة الشرعية أم وقع منا ما حذرنا منه ونهانا عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ إن الواقع يثبت أننا قلدنا غيرنا تقليداً أعمى في جل الأمور،أخذنا عنهم قوانينهم وأنظمتهم وعاداتهم وأحكامهم ووصل بنا الأمر إلى تهميش لغة القرآن،وتهميش التاريخ الهجري،فوقعنا فيما أخبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى. قال : فمن ؟)) فأخبر أنه سيكون في أمته اتباع لليهود والنصارى وليس ذلك إخباراً عن جميع الأمة فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)).
عباد الله،هناك طائفة من المسلمين زهدوا في لغة القرآن،فصاروا لا يتكلمون غالباً إلا بلغة أجنبية،هذه اللغة التي انتشرت على حساب لغة الإسلام قال عمر : (تعلموا العربية فإنها من دينكم) فباللغة العربية يُفهم القرآن وبها تعرف الأحكام،والجاهل بالعربية جاهل بالإسلام،فأي عماء أكبر من تهميش لغة القرآن وتقديم لغة أجنبية دخيلة.
وما وقع للغة العربية وقع للتاريخ الهجري فلقد وفق الله المسلمين إلى اتخاذ الهجرة النبوية منطلقاً للتاريخ الإسلامي، لكن التاريخ الهجري أهمل، وقدم التاريخ الميلادي النصراني، وصار الناس - في تقليد أعمى - يحتلفون برأس السنة الميلادية كما يحتفل بها أهلها أو أكثر، ويوم الجمعة أيضاً لم ينج من الإهمال حيث أصبح عند الأكثرية يوماً كسائر الأيام مع العلم أن يوم الجمعة هو يوم الإسلام،هو خير يوم طلعت عليه الشمس،ولم يحرم الله تعالى العمل في يوم من الأيام بعد النداء إلا يوم الجمعة.
قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فالبيع حرام وكذلك سائر المعاملات. قال العلماء : كل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً، مفسوخ ردعاً.وذلك لحظة خروج الإمام وأذان المؤذن إلى انتهاء الصلاة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1630)
الرحمة العامة في الإسلام
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
خاطب الله رسوله بقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وخاطب المؤمنين بقوله : فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة.
عباد الله: القرآن كتاب الله هدى ورحمة، هو الجواب القاطع لكل حيرة، المبين للحق في كل شيء بين الله فيه العقائد والفضائل والآداب والأحكام التي بها تصلح أمور البشر، فهو رحمة عامة للذين تنتشر فيهم هدايته، وتنفذ فيهم شريعته، فأحكام القرآن إن طُبقت سعد بها حتى غير المؤمنين، ذلك أنهم يكونون آمنين في ظلها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، عائشين في جو خالٍ من الفواحش والمنكرات: ولقد علمنا أن دين الله – الإٍسلام – حرم قتل أي نفس إلا بالحق، قال تعالى : ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولذلك جاء الوعيد في قتل المعاهدين، قال نبينا عليه الصلاة والسلام : ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)) والمعاهدون هم غير المسلمين الذين يعيشون مع المسلمين فلهم العهد والضمان والأمان بأن لا يُظلموا وأن تصان دماؤهم وأموالهم وأعراضهم مع ضمان حريتهم في دينهم، وبذلك يكون دين الله رحمة للناس أجمعين، هو رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ورحمة لغيرهم في الدنيا إن طبقت فيهم أحكامه.
فالمجتمع المسلم هو الذي يعمل بشريعة الله ويطبق حكم الله، المجتمع المسلم هو الخالي من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتولد الأمراض، المجتمع المسلم هو الذي تُضمن فيه الحقوق لجميع المتساكنين، هذا هو مجتمع الرحمة الذي لا يقتل فيه إنسان إلا بالحق بل إن الحيوان لا يقتل فيه إلا بحق، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها، سأله الله عن قتله)) قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال: "أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها" وقد نهى عن اتخاذ ما فيه الروح هدفاً للرمي، فقال: ((لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً)) ومن ذلك نصب الحيوان فيرمى إليه حتى يموت. قال ابن عمر عن النبي أنه ((نهى عن قتل كل شيء من الدواب صبراً)) ففي ذلك وحشية وهمجية كما يشاهد في مصارعة الثيران عند الأسبان حيث يعذب الحيوان لفترة طويلة تسلية سخيفة للمشاهدين، بل إن نبينا عليه الصلاة والسلام نهى عن التحريش بين البهائم، وذلك يدفعها إلى التقاتل فيما بينها، فإذا كان نبينا قد نهانا عن الإفساد والإغرار بين الحيوان، فهل يسمح به بين الإنسان.
إن دين الرحمة والإحسان يمنع كل تحريش بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والحيوان، ويدعو إلى علاقة إنسانية رفيعة أساسها الإحسان والرحمة، وهذا الإحسان ينبغي أن يظهر حتى عند ذبح الحيوان للانتفاع بلحمه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليُحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)).
وعن ابن عباس قال: مر رسول الله على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يُحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها. فقال: ((أفلا قبل هذا؟ أو تريد أن تميتها موتات)).
إنها الرحمة – أيها المسلمون – التي جاء بها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام الذي خاطبه الله تعالى بقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
عباد الله: بين كتاب الله أن القتل لا يكون إلا بحق. قال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وبين رسول الله هذا الحق بقوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) فعقوبة القتل شرعت لحفظ الأعراض، والزنا نتائجه وخيمة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذاب)) والمتزوج البالغ العاقل العالم بتحريم الزنا الغير المكره، إنسان أنعم الله عليه بنعمة الإحصان فكان الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة. فإن هو وقع في الزنا فقد تنكر لنعمة الله ولم يشكرها، فكان جديراً بعقوبة الرجم الثابتة بالسنة الصحيحة. كما شرعت عقوبة القتل للقاتل عمداً، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى والقصاص هو أن يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، على أن الله تعالى خفف على العباد ورحمهم فأجاز لولي الدم أن ينتقل من القصاص إلى الدية أو العفو مجاناً. وشُرعت عقوبة القتل لحفظ الدين، قال : ((من بدل دينه فاقتلوه)) فالمرتد خطره كبير بصده للناس عن دين الله، إذ هو يبث أحقاده وسمومه تحت ستار معرفته بالإسلام، فاستحق بذلك عقوبة القتل حتى لا يدخل في الإسلام من يسعى لهدمه من الداخل، فإذا حقق غرضه عاد لكفره وضلاله.
فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان والإسلام لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله، وأنت على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1631)
الرشوة وخطرها
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل الذين استحقوا اللعن والخزي بسبب إفسادهم وضلالهم : سماعون للكذب أكالون للسحت ويقول تعالى : وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون.
عباد الله،إن القرآن الكريم يقدم لنا وصفاً دقيقاً للانحراف الذي وصل إليه بنو إسرائيل تحذيراً لنا من التشبه بهم،وفي الآيات التي تلونا يذكر سبحانه من صفاتهم أنهم سماعون للكذب أي أن الحاكم منهم يسمع الكلام ممن يكذب عنده في دعواه،ومع ذلك يحكم له لأنه أخذ منه رشوة فهم بذلك أكالون للسحت وهو المال الحرام ومنه الرشوة،قال عمر : رشوة الحاكم من السحت،وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يُسحت الطاعات أي يُذهبها ويستأصلها.
هذا مع العلم أنهم لم يكونوا جميعاً على هذا الحال لذلك قال تعالى : وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت فالأقلية لم يكونوا على هذا الحال،ولكن الأكثرية فسدوا بمسارعتهم في الإثم، وهو كل ما يضر قائله أو فاعله في دينه ودنياه وفي العدوان أي الظلم الذي يضر الناس. وفي أكل السحت،وقد انتشر ذلك بينهم وفسد مجتمعهم حتى وصل الأمر بهم إلى أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فلم يقم به أحد، لا العلماء ولا العباد. إذ كان الفساد قد عم الجميع.
ولاشك أن العلماء والعباد هم أئمة الأمة في التربية والإصلاح،فإذا سكتوا وقصروا في الهداية والإرشاد،وتركوا النهي عن البغي والفساد،فمن للأمة يُصلحها،لذلك قال تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت قال العلماء:ما في القرآن آية أشد توبيخاً منها للعلماء،فهي حجة عليهم إذا لم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وتأمل في قوله تعالى توبيخاً لآكلي الرشوة ومرتكبي الإثم والعدوان: لبئس ما كانوا يعملون فالذي يفعل المعصية يندفع إليها بشهوة تدعوه إلى ارتكابها،أما العلماء الذين يتركون النهي عن المنكر،فقال فيهم لبئس ما كانوا يصنعون فتركهم للنهي صنيعة يريدون بها إرضاء الناس.
إن علماء ملتنا ما قصروا – أثابهم الله – في بيان ما تتسبب فيه الرشوة من فساد وظلم : من حكم بغير الحق،أو امتناع من الحكم بالحق،أو إعطاء الباذل ما ليس من حقه،أو إعفائه مما هو واجب عليه،ولعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير،وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي لما لهما من دور في تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات الباطل ونفي الحق وتضييع الأمانة وإشاعة الخيانة.
إن دواعي إعطاء الرشوة كثيرة ومتنوعة, وهناك نوع من الرشوة يسميه الناس هدية، والإسلام يحرم الرشوة في أي صورة كانت،وبأي اسم سميت،فهذا عمر بن عبد العزيز تهدى إليه – وهو خليفة – هدية ، فلا يقبلها.فيقال له:إن رسول الله كان يقبل الهدية،فيقول:كانت له هدية وهي لنا رشوة.
لقد علم السلف الصالح أن الهدية التي تقدم للحاكم هي في الواقع رشوة مقنعة،فرفضوا أخذها وقد بلغهم أن النبي استعمل رجلاً لجمع الزكاة،فلما عاد قال:هذا لكم وهذا أهدي لي.فقام النبي على المنبر وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه – يعني بدون عمل – حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه..)) الحديث.
فالهدايا التي تقدم لأصحاب المناصب إنما يراد بها التقرب منهم واستمالتهم للاحتماء بهم،وفي ذلك ظلم للمجتمع،حيث يُحابى أصحاب المال،ولا يُبالى بغيرهم.
عباد الله،قد يجد المؤمن الصادق نفسه مضطراً أشد الاضطرار لإعطاء الرشوة،عندما يُمنع من حقه،أو ينزل به ظلم لا سبيل لدفعه إلا بالرشوة.هنا يكون المؤمن أمام خيارين: إما أن يصبر – وذلك أفضل – ويجرب جميع الوسائل،أو أن يدفع الرشوة اضطراراً فيكون الإثم على المرتشي، وهو آخذ الرشوة.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/1632)
المسؤولية والضمير
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول ربنا سبحانه وتعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
عباد الله: كل واحد منا يتحمل مسؤولية يُسأل عنها في الدنيا والآخرة. كل فرد مسؤول عن تصرفاته وأعماله، قال تعالى: ولتُسألُن عما كنتم تعملون. مسؤول عن أقواله، قال تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد والإنسان مسؤول أمام الله تعالى الذي أمره بالعمل وأخبره أن عمله لا يخفى على الله ولا على الناس، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، قال سبحانه : يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور أي يعلم مسارقة النظر، وما تستره الضمائر، كما أن الله تعالى يُظهر عمله للناس، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كُوَّة لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان)) فكم من المؤمنين الصادقين يُخفون عملهم عن الناس كقيام الليل، والصدقة والإحسان، لكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بذلك.
وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب المعاصي، فكم من صاحب معصية حاول إخفاءها خوفاً من الناس لا من الله، لكنه لم يلبث أن افتضح بها. والإنسان ليس مسؤولاً أمام الله وأمام الناس فقط، بل هو مسؤول أيضاً أمام ضميره، قال تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعملون.
فضمير المؤمن يؤنبه ويلومه إن فعل فاحشة وهي الكبيرة، أو ظلم نفسه وهي الصغيرة، فيتذكر نهي الله وعقابه، وعظمته وجلاله، فيبادر إلى التوبة والاستغفار، فالقرآن يضعنا أمام سلطة ثلاثية-كأنه يقول لنا: انظروا في أنفسكم تجدوا محكمة، وانظروا حولكم تجدوا محكمة، وانظروا فوقكم تجدوا محكمة، محكمة الضمير في قلوبكم، ومحكمة البشر من حولكم، ومحكمة السماء من فوقكم، ولكل واحدة منها أمانة في أعناقكم ستحاسبون عليها.
هذه الحقيقة ينبغي أن يضعها كل راعٍ أمام عينيه، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولدها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ومعنى الراعي الحافظ المؤتمن وهؤلاء كلهم استووا في الاسم، لكن المسؤولية اختلفت والإنسان تكون مسؤوليته بقدر السلطة التي يتولاها، وإنك لتعجب ـ وحق لك أن تعجب ـ من الناس وهم يهنئون مسؤولاً على مهمة كبيرة تولاها، مع العلم أن هذه لوظائف لا تُعطي لصاحبها ميزة على غيره من الناس، بل هي على العكس من ذلك تزيد من مسؤوليته أمام الله تعالى وأمام الناس.
هذا أبو ذر الغفاري يطلب من النبي أن يوليه إمارة، فيقول له: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة لخزي وندامة إلا من أخذها بحقها ووفى الذي عليه فيها)) فالذي يتولى أمور الناس ينبغي أن تكون فيه قوة ليقف في وجه المفسدين الأقوياء، وليؤدي حق الضعفاء، وليعمل ما ينبغي من خدمة الصالح العام.
والإسلام ينظر للإنسان أنه كلما علت منزلته في المجتمع، كلما كان ذلك سبباً في زيادة مسؤوليته وتشديد حسابه، ها هو القرآن الحكيم يذكر مسؤولية نساء النبي ويأمرهن بمداومة الطاعة وبعدم إلانة القول عند مخاطبة الرجال وبالاستقرار في بيوتهن وبعدم التبرج وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبطاعة الله ورسوله، ويبين لهن أن الجزاء في حقهن مضاعف، قال تعالى: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً.
عباد الله: إن الإسلام بيَّن ما ينبغي أن يكون عليه حالُ من يلي أمور الناس، فالموظف في أية إدارة مسؤول كأي فرد، ومسؤول كذلك عن مدى إخلاصه في عمله وقيامه بالواجب وفي مقدمة ذلك الإحسان إلى الناس، فنبينا عليه الصلاة والسلام دعا ربه فقال : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) فالمسوؤل الذي يُوقع الناس في المشقة بالإساءة إليهم ومنعهم من حقوقهم وتحميلهم ما لا يطيقون يستحق غضب الله تعالى وعقابه.
وقد جاء الوعيد الشديد لذاك المسؤول الذي يمتنع من استقبال الناس، وبالتالي تضييع حقوقهم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره)) ، وليفكر أي مسؤول في حاله إذا عزل أو أحيل على التقاعد، وقد أشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا المصير بقوله : ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة)). فالمتولي لمناصب المسؤولية ومنها الإمارة كالطفل الرضيع ينتفع بما يصل إليه من منافع وملذات، فإذا عزل أو تقاعد أو مات صار يتألم ويتحسر ويبكي كالطفل الذي يمنع من الرضاع. فالسعيد من المسؤولين من نصح وأخلص، ورفق بالناس، ويسر وبشر. فكان بذلك جديراً برحمة الله وعفوه ورضاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1633)
اهتمام الأسرة بالمرأة
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول ربنا عز وجل : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن الآية.
عباد الله،سئل النبي عن شأن النساء،وعن الغامض من أحكامهن،وعن حقوقهن،هذه الحقوق التي كان المجتمع الجاهلي قد أضاعها حتى غدت المرأة أداة في يد الرجل أباً أو أخاً أو زوجاً لا تملك لنفسها شيئاً من أمر نفسها.
وجاء الجواب الشافي الكافي في كتاب الله فما هي آيات القرآن الكريم تبين أحكام النساء وما لهن من حقوق وما عليهن من واجبات ومن ذلك وجوب المعاملة الحسنة،فالمرأة إما أن تكون أمّا، قال تعالى في حقها: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً والإحسان يكون بالقول هو المخاطبة باللين واللطف والتكريم، والإحسان بالفعل خدمتها وقضاء حوائجها، والإحسان بالمال بذله لها من غير منة.
وقد تكون المرأة بنتاً أو أختاً. قال رسول الله : ((لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة)) فالأخوة والبنوة تفرض الإحسان للأخوات وللبنات.
والمرأة قد تكون زوجة.قال تعالى : وعاشروهن بالمعروف وقال : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة - أي لا يبغضها إن كره منها خلقاً رضي خلقاً آخر)). فالزوجية تفرض الإحسان بين الزوجين.
وقد تكون المرأة أختًا في الدين وهذه أيضاً لها حقوقها. قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف،فالمسلم الصادق هو الذي يحب لأخته المسلمة الخير والفلاح،فيأتمر بشرع الله الذي يمنعه من ارتكاب أي ظلم أو خيانة في حق أخته المسلمة.
عباد الله،في هذا الزمن الذي عم فيه الفساد وانتشر، صرنا نسمع الكثير عن ظاهرة العنف ضد النساء،والعنف هو الغلظة والخشونة وعدم الرفق،والدول الأوربية بصفة خاصة تشتكي من هذه الظاهرة التي يجب علينا أن نعرف أسبابها ونعمل على علاجها.
إن سببها في مجتمعنا - بلا شك - هو الابتعاد عن أوامر الشريعة المطهرة ،فهناك من الرجال من نبذ وراء ظهره وصية رسول الله في حجة الوداع عندما قال : ((اتقوا الله في النساء)) أو كأنهم لم يسمعوا قول رسول الله : ((من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)).
فمعاملة الزوجة باللطف والإحسان من علامات الإيمان،وهذا العنف قد يصدر من الزوج أو من الأخ أو من الأب أو من مختلف أفراد المجتمع،لكن الزوج في الغالب يبقى هو المصدر الأول لذلك جاءت آيات القرآن الحكيم تدعو الأزواج إلى حسن المعاشرة. قال عز وجل : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
عباد الله،هناك من النساء من تُعرض نفسها للعنف،بمخالفتها لأوامر دينها.فلقد أمر الله المرأة بصيانة كرامتها وحفظ عرضها فدعاها إلى عدم التبرج ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والتبرج هو إظهار المحاسن - فالمرأة إذا أظهرت محاسنها ،وكشفت عورتها،شجعت الفساق على إذايتها،والمرأة إذا مارست من الأعمال ما لا يتناسب مع طبيعتها كأن تعمل في التهريب أو في الخمارات أو في المقاهي والفنادق، فإنها تكون عرضة للإذاية والعنف من طرف من لا خلاق لهم ولا إيمان يردعهم،وما أكثرهم في هذا الزمن.أما المرأة التي تبيع جسدها لكل من هب ودب فإنها معرضة لأقسى أنواع العنف سواء من طرف الزناة أو من قرابتها فكم من زانية قتلت من طرف قرابتها أو من المتعاملين معها.
إن الإسلام حرص أشد الحرص على حفظ كرامة المرأة بما فرض من أحكام فإذا كان مجتمعنا اليوم قد تنبه إلى ظاهرة العنف الذي يمارس ضد النساء،فإن على المسؤولين ،أن يعملوا على توعية النساء بأحكام الدين،ليعلمن ما لهن من حقوق وما عليهن من واجبات،فالخير كل الخير في العمل بشرع الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1634)
أهمية العلم والعمل به
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.
عباد الله, في هذه الآية الكريمة يدعو الله تعالى عباده الذين اتصفوا بالإيمان الصحيح – وهم أحق الناس بامتثال أمره – إلى أن لا يُقدموا على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب الله وسنة رسوله, فالآية تقرر أصلاً من أصول الدين, وهو أن الحكم لله وحده, وأن المؤمن بالله لا يقضي في أمر حتى يرجع فيه إلى قول الله وقول رسوله, فيكون عاملاً بالوحي المنزل, فالمؤمن لا رأي له, بل هو كالملائكة الكرام الذين شهد الله بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون, فهو يتقيد في أموره كلها بكتاب الله وسنة رسوله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
وتقوى الله التي أمر الله عباده المؤمنين بها, معناها أخذ الوقاية من سخط الله وعذابه وذلك باتباع أمره, واجتناب نهيه, والوقوف عند الحدود التي بينها, فإذا ضعفت التقوى أو انعدمت سهل أمر المخالفة والإعراض.
وها نحن نرى كثيراً من الناس يقدمون على أعمال دون السؤال عن حكمها, بينما المطلوب من المؤمن أن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه, وبسبب ذلك تقع للناس كوارث ومصائب, فهذا شخص يعمل أولاده في أوربا, وطلبوا من أمهم أن تقيم معهم فرفضت السلطات السماح لها بالإقامة إلا إذا أثبتت أنها إما مطلقة أو مات زوجها, فذهب الزوج إلى عدل كتب شهادة طلاق, وبقى معاشراً لزوجته زاعماً إنه إنما طلب ورقة الطلاق ليدلي بها لسلطات الدولة الأوربية, بينما كان من الواجب على هذا الشخص أن لا يقدم على هذا العمل حتى يسأل العلماء, ويتحقق من الجواب الصحيح, فالزواج عهد وميثاق ورابطة متينة, بل هو عبادة بها يستكمل الإنسان نصف دينه فلا ينبغي أن يُلعب به. وكذلك الأمر في الطلاق فلا ينبغي فيه الهزل – أي التكلم من غير قصد للحقيقة – وطلاق الهازل يقع كما ذكر جمهور الفقهاء.
وهذا الجهل بأحكام الدين, والإعراض عن سؤال أهل الذكر هو الذي دفع شخصاً آخر إلى السماح لزوجته بعقد النكاح على أوربي كافر قصد الحصول على الإقامة بدولة أوربية.
وكم من المصائب والكوارث يقع فيها الناس اليوم بسبب عد التفقه في الدين, ثم هناك من الناس من يتعمد عدم السؤال عن حكم الشرع حتى يتسنى له أن يفعل ما يحلو له, ومنهم من هو على علم بحكم الشرع لكنه يتحدى حكم الله ويقدم على ممارسة العمل المحرم غير عابئ بوعيد الله تعالى، كالمسلمة التي تتزوج بالكافر وكالمصر على التعامل بالربا أو المتاجرة في المحرمات, فهؤلاء يعرضون أنفسهم لسخط الله وغضبه, نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بمنه وكرمه.
عباد الله, إن الإقدام على أي عمل دون البحث عن حكم الله فيه, جرأة كبيرة على الله ودليل على ضعف خشية الله, فخشية الله هي التي تدفع المؤمن إلى التزام طاعة مولاه وعدم مخالفة أمره, قال تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم فإنذار الرسول وتخويفه إنما ينتفع به من آمن بالقرآن, واتبع ما فيه من أحكام الله فهذا هو الذي يستحق التبشير لأنه خاف مقام ربه وأطاع أمره, فخشية الله إذا دخلت في قلب تبعها العمل بما أنزل الله في كتابه والرضا بحكمه وشريعته, قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1635)
حقيقة الدنيا
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
إن واقع جل الناس اليوم يثبت أنهم غافلون لاهون عن حقيقة أمرهم،عن مبدئهم ومصيرهم بل لا يكلفون أنفسهم السؤال الذي ظلت البشرية على امتداد تاريخها تحاول الإجابة عنه،فلم تصل إلى معرفة الحقيقة إلاّ عن طريق رُسُل الله عليهم صلوات الله وسلامه.
أرسل الله الرسل فبينوا للناس أن الدنيا إنما هي متاع قليل يتمتع به الإنسان أياماً قصيرة معدودة، متاعٌ سريع الفناء لا يدوم لصاحبه،كما لا يدوم اللعب بيد الأطفال،قال تعالى : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون واللعب هو ما لا يقصد به فاعله مقصداً صحيحاً، من تحصيل منفعة أو دفع مضرة، واللهو هو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، فالذي لا يفكر في هذه الدنيا إلا في لذاتها ونعيمها والمنافسة عليها خاسر بلا شك،فمتاع الدنيا قليل لأنه سريع الفناء ولا يدوم لصاحبه،مع ما يصاب به الإنسان من الهموم والأكدار والمنغصات.
وقد تعدد التنبيه في القرآن الحكيم إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذه الحياة الدنيا لعب ولهو،في سورة الأنعام،وهي الآية التي ذكرنا،وفي سورة العنكبوت يقول تعالى : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وفي سورة محمد يقول سبحانه : إنما الحياة الدنيا لعب ولهو. وفي سورة الحديد يقول تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولادِ.
وقد فصلت هذه الآية متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية،فقدم اللعب لأنه أول عمل للطفل،فالطفل الصغير يقضي جل وقته في اللعب، أما اللهو فيأتي في الفترة التالية، ثم تأتي الزينة التي هي من شأن سن الصبا،ثم يأتي التفاخر الذي هو من شأن الشباب،وبعده التكاثر في الأموال والأولاد الذي هو شأن الكهول.
فاللعب وهو العبث الذي لا تقصد به فائدة لا يليق بالإنسان العاقل،الذي من المفروض أن يقصد بكل عمل من أعماله إما دفع بعض المضار وإما تحصيل بعض المنافع،خاصة إذا تقدم به السن وبلغ الستين.قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير إنه ستون سنة،وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) والمعنى أن من عاش ستين سنة لم يبق له عذر يعتذر به،فقد أطال الله عمره،ومر بمختلف المراحل،ووعى حقيقة الحياة،ورأى النذر من شيب وعجز ومرض وموت للأقارب،فهل يليق به أن يلعب مع اللاعبين ويلهو مع اللاهين وقد دخل في معترك المنايا وسن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى.
عباد الله،لا نعتقد أنه مر بالبشرية عصر وقع فيه الاهتمام باللعب واللهو كما هو واقع في عصرنا،فها هو لعب الكرة يستحوذ على عقول الناس صغيرهم وكبيرهم،نسائهم ورجالهم،غنيهم وفقيرهم. ها هو لعب الكرة يتسبب في قلب حياة الناس،فيهجر الناس أعمالهم ومصالحهم للتفرج عليها ثم لا يقف الأمر عند ذلك بل يتعادى الناس لأجلها ويتحزبون ويتعصبون ويتقاتلون،فكم يسقط كل سنة من قتيل وجريح بسببها (وقد ذكرت الأخبار أن شاباً مات بالسكتة القلبية عند تسجيل إصابة (هدف)) فما هذا الجنون،ثم انظر إلى هذه الأموال الطائلة التي تصرف على هذه اللعبة، وإلى اتخاذها وسيلة للمقامرة،كل ذلك وغيره،مما يطول ذكره،في سبيل لعبة من اللعب،جعل البعض منها وسيلة لإلهاء الشعوب عن واقعها المرير ليلعب بها اللاعبون كيفما شاءوا،وصدق ربنا : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1636)
خطبة عيد الأضحى
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول الله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام ويقول سبحانه : ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
عباد الله، الإسلام دين الله، دين وضحت معالمه، وكرمت مبادئه، وثبتت مصادره، وحفظه الله من كل تحريف وتبديل، دين حارب الظلم والبغي، دين دعا إلى التفكير في هذا الكون العجيب، لمعرفة قدرة الله وعظمته، دين يحقق العدل والمساواة لجميع البشر.. الله أكبر.
الإسلام – معاشر المسلمين – أخلاق، وما أحوجنا اليوم إلى التذكير بأخلاق الإسلام، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل دين خلقاً، وخُلُق الإسلام الحياء)) (رواه مالك في الموطأ).
والحياء هو الذي يمنع المسلم من كل الرذائل ويدفعه إلى مكارم الأخلاق التي منها :
الصدق، قال : ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة)).
والمسلم المتخلق بأخلاق الإسلام يصون لسانه عن الكذب، والزور والفحش، واللعن والسباب، قال : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
وقال تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فالمسلم المتخلق بأخلاق الإسلام لا يسب أحداً حتى من أشرك وكفر. الله أكبر.
معاشر المسلمين : الإسلام دين كرّم الإنسان ولا يكون الإنسان مكرماً إلا إذا أخذ حقوقه كاملة، قال تعالى : ولقد كرمنا بني آدم وفي مقدمة تلك الحقوق حق الحياة. وإن قتل النفس لمن أعظم الجرائم، سواء كان المقتول مؤمناً أو كافراً. قال تعالى : ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ويقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من قتل مُعاهداً لم يرح رائحة الجنة)) (رواه البخاري) فالحقوق التي أقرها الإسلام هي واجبة للناس بقطع النظر عن ألوانهم وأديانهم، وأجناسهم.
والملكية حق للإنسان، فلا يحل لأحد أن يعتدي على مال غيره، ولذلك حَرَّم السرقة، والغصب، والربا، والغش، ونقص الكيل والميزان، والرشوة، واعتبر يد السارق عضواً مريضاً يجب أن يبتر. الله أكبر.
بل إن الإنسان إذا قُتل وهو يدافع عن ماله، مات شهيداً. قال : ((من قتل دون ماله فهو شهيد)).
ومن حق الإنسان أن تحفظ كرامته فلا يُحتقر، ولا يُسخر منه. قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ومن حقه أن لا يُغتاب، قال تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضاً.
وإن الكلام في أعراض الناس لمن أعظم المنكر. الله أكبر.
معاشر المسلمين: الإسلام نظام وسلوك وحضارة ومدنية. علمنا النظام في كل شيء. علمنا كيف نمشي في الطريق، قال تعالى : واقصد في مشيك أي بالسكينة والوقار وعلمنا كيف نتكلم. قال تعالى : واغضض من صوتك أي لا ترفع صوتك فتؤذي السامع. علمنا كيف نأكل. قال : ((سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك)).
وأمرنا بنظافة الطرقات. قال : ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة)) وهي من شعب الإيمان.
وأمرنا بالنظافة والطيب، والمسلم مأمور بالغُسل في عدة حالات منها الموت، قال : ((الطُهور شطر الإيمان)) وما من خير وصلاح إلا والإسلام به أمر. الله أكبر.
عباد الله في حجة الوداع وقف نبينا عليه الصلاة والسلام خطيباً في عرفات وفي أيام التشريق فأعلن في الناس تحريم الدماء والأموال والربا، وأمر بالإحسان إلى النساء وقال : ((اتقوا الله في النساء)) وحذر من الاقتتال بين المسلمين وقال ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) وأعلن الأخوة الإسلامية. وقال: إن كل مسلم أخو المسلم، المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفس.
وبذلك أعلن عليه الصلاة والسلام عن حقوق المسلم وأنه محرم الدم والمال والعرض. وأعلن عن حقوق النساء وأمر بأدائها، وعن حقوق الزوج على زوجته. وأعلن حرمة التبني والانتساب لغير الأب.
وحذر من الكذب وأوصى بالاعتصام بالكتاب والسنة وقال : ((تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة نبيه)). وبذلك بلغ الرسالة وأدى الأمانة ودل أمته على كل خير... الله أكبر.
فتفقهوا رحمكم الله في دينكم، لتعرفوا ما فيه من خير وصلاح، وما يحققه لمن عمل به من عز وفلاح. جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وهدانا للخير بمنه وكرمه.
الله أكبر.. ما كبر المؤمن وصلى لله وصام وزكى وحج واعتمر.
الله أكبر.. ما فاز المؤمن وتقدم، والكافر خسر وتأخر.
الله أكبر.. ما انتصر الحق وظهر، واندحر الباطل وتبخر.
الله أكبر.. ما رضي المؤمن بما قدر الله وقضى ودبر.
الله أكبر.. ما اعتصم المؤمن بحبل مولاه وذكر اسم الله عند ذبح أضحيته وكبر.
عباد الله، أقسم الله تعالى بفجر هذا اليوم فقال سبحانه : والفجر وليال عشر يومكم هذا أفضل أيام العام. قال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر)). (رواه أبو داوه بإسناد صحيح). وهو آخر أيام العشر التي أقسم الله بها، وهو يوم الحج الأكبر، وهو اليوم الذي أذن فيه مؤذن رسول الله : أن الله برئ من المشركين ورسوله.
يومكم هذا يوم عيد، والأعياد في الإسلام شرعت لتأليف القلوب وللتراحم والتكافل، لصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والأيتام. فنبينا عليه الصلاة والسلام، كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة، ثم يخطب، وقد ينبه إلى الإحسان قائلاً: تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا، وكان أكثر من يتصدقُ النساء، فكان هذا الاجتماع مناسبة للتذكير بالإحسان إلى المحتاجين، ونحن اليوم بحاجة إلى هذا التذكير، فالصدقة على الأقارب والمحتاجين أفضل من العمرة وحج التطوع. ذلك أن كثيراً من الفقراء لا يجدون ثمن العلاج والدواء، بينما إخوانهم يعتمرون أو يحجون مرات ومرات، ونحن نعلم أن التطوعات منها ما هو مقصور النفع على فاعله، كنوافل الصلاة والصيام والحج والعمرة. ومنها ما يتعدى نفعه إلى الغير، كسائر الأعمال الخيرية. والعمل الذي فيه نفع للغير هو أفضل وأنفع وأزكى وأطهر. الله أكبر.
عباد الله، الصلاة الصلاة فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
عباد الله، الزكاة الزكاة، فإنها سبب لسعة الأرزاق، ونزول الغيث من السماء.
عباد الله، الأمانة الأمانة، فإنها عنوان الديانة.
عباد الله، الإسلام دين العقل والوجدان، دين الفرد والجماعة، دين الجهاد والسلام، دينٌ ما دخل قلباً إلا أحياه، ولا أمة إلا أعزها.
فصلوا وسلموا على من بعثه الله ليخرجنا به من الظلمات إلى النور، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد في الملأ الأعلى، وفي كل وقت وحين، وارفع درجته في أعلى الفردوس الذي هو أعلى عليين، واحشرنا في زمرته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وارض اللهم عن صحابته، الذين عملوا بسنته واهتدوا هديه.
اللهم أصلح ولاة المسلمين، وأعز من أعز الدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1637)
خطبة عيد الأضحى1
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا معاشر المسلمين يقول ربنا سبحانه وتعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً.
عباد الله،الإنسان جزء من هذه الأرض فآدم خلق من ترابها ثم أسكن الله ذريته في أنحائها،وأباح لهم الانتفاع بما فيها،وجعل نمو الإنسان بما يتغذى من أجزائها،وكما خلق الله الإنسان من طينها،فقد قدر الله له أن يعود مرة أخرى إلى جوفها ليختلط رفاته بترابها،ثم ليخرج منها يوم البعث: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى الله أكبر.
والصانع الحكيم لم يسكن الإنسان في هذه الأرض إلا بعد أن هيأها له قال تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم. وأمر عباده بالمحافظة على بيئتها،فقال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
لقد أصلح الله تعالى هذه الأرض بما خلق فيها من المنافع،وامتن على عباده بأن وفقهم لاستغلالها،دون الإضرار بها،قال تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً وقد نهى سبحانه عن كل فساد في هذه الأرض.
والانحراف عن منهج الرسل أعظم فساد في هذه الأرض، وبسبب المعاصي والذنوب يقع الاضطراب في الكون بإمساك الله للمطر الذي به قوام الحياة: وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذاباً صعداً.
فالماء قوام الحياة،قال تعالى : هو الذي أنزل لكم من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.
لذلك كانت دعوة الإسلام واضحة للمحافظة على البيئة،فأمر بالمحافظة على نظافة الماء،قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)).ونهى عن الإسراف في استعمال الماء حتى في الطهارة والوضوء وأمر الإسلام بالمحافظة على النبات ودعا إلى غرس الأشجار قال نبينا عليه الصلاة والسلام: )) ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طيراً وبهيمة إلا كانت له به صدقة)) متفق عليه.
والحيوان جزء من هذه البيئة التي نعيش فيها،والإنسان مسؤول عن حمايته ورعايته والانتفاع به في الحدود الشرعية،فالحيوان كما صوره القرآن عارف بربه له تسبيحه وله سجوده قال ربنا تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس. الله أكبر.
والقاعدة الشرعية : (لا ضرر ولا ضرار) لها تطبيقات واسعة في النهي عن تلويث البيئة وتوسيخها وإفسادها، فالضرر ما فيه منفعة لجهة، ومضرة لجهة أخرى، كالصيد الذي يتسبب في انقراض أو نقصان حيوان البر والبحر فلحماية البيئة الحيوانية منع صيد الأسماك والطيور والحيوانات في فصول تكاثرها،والإسلام وضع القاعدة لنظام حماية الثروة النباتية والحيوانية عندما حرم على الحجاج الصيد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقال : ((إن هذا البلد الحرام حرام لا يعضد شوكه (أي لا يقطع) ولا يختلى خلاه)) (أي لا يقطع نباته الرطب) فيحرم على الحاج المحرم الصيد، ويحرم عليه ازعاج الحيوان, ويحرم عليه أن يقطع الشجر.
والضرار هو ما ليس فيه منفعة لأحد كرمي النفايات ورمي السموم الضارة بالبحار والوديان وبأسماكها وكاتلاف الأشجار وقطعها دون العناية بها وكاتلاف النباتات في الحدائق وغيرها،والقرآن الحكيم حدثنا عن جمال الطبيعة ونظامها وعن دور المفسدين فيها فقال : وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد فالكتاب الحكيم يشنع على المفسدين لنبات الأرض وحيواناتها،ويؤكد على أنه ما من فساد يقع في هذه الأرض إلا بسب ما كسبته أيدي الناس،قال ربنا تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس الله أكبر.
عباد الله،تفقهوا في دينكم واعلموا أن دين الإسلام شدد على نظافة البيئة عندما حث على تنظيف الجسد وتنظيف اللباس،وتنظيف الأواني وتنظيف الطرقات،قال ربنا تعالى : وثيابك فطهر وأنزل الله تعالى الماء ليتطهر به الإنسان ويتنظف،قال تعالى: ونزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وحث على نظافة الطرقات:عن أبي برزة الأسلمي قال : قلت يا رسول الله،دلني على عمل يدخلني الله به الجنة،فقال: ((أمط الأذى عن الطريق)) (رواه مسلم)،وإبعاد ما يؤذي الناس في طرقاتهم من شعب الإيمان،يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة)).
وكما حث الإسلام على الطهارة نهى عن تلويث البيئة فنهى عن البصاق على الأرض ونهى عن البول في الطرقات أو تحت الأشجار أو في المياه،ليكون المسلم نظيفاً في كل شيء:في عقيدته،في معاملته،في المحيط الذي يعيش فيه،وإنه لواجب علينا معاشر المسلمين أن نذكر أنفسنا بهذه التوجيه وأن يقوم الخطباء والوعاظ بتذكير الناس بهذا الأمر، وأن يحرص المعلمون والأساتذة على تذكير التلاميذ والطلبة بنظرة الإسلام نحو البيئة، فذلك من التعاون على البر والتقوى،قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
بارك الله لي ولكم في الكتاب الحكيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله :عيدان اجتمعا لكم في يومكم هذا،فيوم الجمعة قال عنه نبينا عليه الصلاة والسلام: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)) فيوم الجمعة سيد الأيام، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام سيد الأنام،فلذلك يستحب الإكثار من الصلاة والسلام عليه في هذا اليوم.
ويومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو الأضحى والنحر،فأكثر مناسك الحج تؤدي في هذا اليوم،وما عمل ابن آدم في هذا اليوم عملاً أحب إلى الله من إراقة دم, وذبح الأضاحي عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه قال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وقال تعالى : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر الله أكبر
عباد الله،أمر الله نبيه أن يكون نسكه أي عبادته وذبيحته لله وحده،وأن يصلي صلاة العيد وينحر بعدها.وها أنتم خرجتم إلى هذا الصعيد،لأداء صلاة العيد،تأسياً بنبيكم وطمعاً في رحمة ربكم.فأبشروا برحمة الله، واستحضروا قول ربكم : إن رحمة الله قريب من المحسنين فالإحسان في كل شيء واجب من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) رواه مسلم، فاحرصوا رحمكم الله على الرفق بالضحايا عند ذبحها، واذكروا اسم الله عليها، وقولوا : بسم الله والله أكبر، والأولى أن تذبح أيها المسلم أضحيتك بيدك.فإن لم تتمكن فلتوكل في الذبح مسلماً مصلياً، وتنوي لنفسك والأفضل أن تأكل من الأضحية وتتصدق منها قال تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ووقت ذبحها بعد ذبح الإمام بالمصلى ويمتد إلى غروب شمس اليوم الثالث من العيد، ولا يجوز بيع شيء منها ولا يعطى شيء منها أجرة للجزار. الله أكبر.
معاشر المسلمين،أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى،فكبروا الله تعالى بعد الصلوات المفروضة من ظهر يومكم هذا إلى صبح اليوم الرابع وأكثروا من الصلاة والسلام على من أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1638)
خطبة عيد الفطر
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد, الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا, وسبحان الله بكرة وأصيلاً, الله أكبر كلما صام صائم وأفطر, الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر, الله أكبر كلما لاح برق وأرعد سحاب وأمطر, الله أكبر ما هلل المسلم وكبر.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة ويسر, ووفَّاهم أجورهم من خزائن جوده التي لا تحصر, سبحانه له الحمد على نعمه التي تتكرر, وله الشكر على فضله وإحسانه وحق له أن يشكر.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
نشهد أنه الله لا إله إلا هو, انفرد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده بأجل مقدور, ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وزكى وحج واعتمر, صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر. الله أكبر.
أما بعد : هذا يوم توج الله به الصيام وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام.قال ربنا سبحانه : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون , وها أنتم قل أكملتم بفضل الله صيام شهركم, وجئتم إلى مصلاكم تكبرون الله ربكم, على ما هداكم إليه من دين قويم, وصراط مستقيم وصيام وقيام, وشريعة ونظام, وقد خرجتم إلى صلاة العيد وقلوبكم قد امتلأت به فرحاً وسروراً, وألسنتكم تلهج بالذكر والدعاء, تسألون ربكم أن يتقبل عملكم, وأن يتجاوز عنكم, وأن يعيد عليكم مثل هذا اليوم, وأنتم في خير وأمن وإيمان واجتماع على الحق وابتعاد عن الباطل (الله أكبر).
معاشر المسلمين:خاطب الله المكلفين بقوله : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. فليس الصيام امتحاناً فقط ولا مشقة ليس من ورائها قصد, بل الصيام رياضة وتربية, وإصلاح وتزكية, ومدرسة خلقية, يتخرج فيها الإنسان وقد أصبح مالكاً لنفسه ولشهواته.
لقد استطعت أيها المسلم أن تصوم عن المباحات والطيبات, تركت الماء الزلال الحلال, وتركت الطعام الطيب اللذيذ, تركت شهواتك طاعة لأمر ربك, هل يليق بمن منع نفسه من الحلال طاعة لله أن يقرب السحت الحرام, والرجس النجس من الشراب والطعام لذلك قال ربنا لعلكم تتقون.
فالتقوى هي الغاية الكبيرة من الصوم, والتقوى هي العمل بطاعة الله, على نور من الله, رجاء رحمة الله, وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله, والصوم أكبر تدريب على ذلك الله أكبر.
عباد الله, لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت, قال تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين , فالصيام لا يزال مشروعاً في كل وقت, كما أن الله تعالى فرض فرائض من أهمها الصلاة والزكاة, فالصلاة عماد الدين, والفارق بين الكفار والمسلمين, وشرط النجاة يوم الدين, هي الفريضة الدائمة المطلقة على الغنى والفقير والصحيح والمريض والمسافر والمقيم, لا تسقط عن المسلم حتى في ساحة الحرب وميدان القتال.
والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله تعالى, فزكاة الفطر جعلها الله تعالى طهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو والرفث وطعمة للمساكين, وهي قدر بسيط تُعين الفقير والمسكين في يوم العيد، وهي تدريب على البذل والعطاء، وديننا دين التكافل أحاط الفقير والعاجز بالرعاية والعناية في كل وقت، بل إن الإسلام حارب الفقر ولا نجد في القرآن آية واحدة تمدح الفقر، بل إن الله تعالى يجعل الغنى نعمة يمتن بها.قال تعالى مخاطباً رسوله: ووجدك عائلاً فأغنى وإيتاء المال قد يكون من عاجل الثواب فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً وقال : ((نعم المال الصالح للمرء الصالح)). (الله أكبر).
ولذلك دعانا الإسلام إلى العمل باعتباره السلاح الأول لمحاربة الفقر كالتجارة التي حث عليها النبي بقوله: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) والزراعة التي حث عليها بقوله : ((ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) والصناعات والحرف التي حث عليها بقوله : ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده)).
لكن الإنسان قد يصبح عاجزاً عن العمل بسبب المرض أو الشيخوخة فما ذنبه.ما ذنب الأرامل واليتامى والمقعدين, أيتركون للجوع والمرض. إن المسؤولية الأولى تقع على أقربائهم, وهذا كتاب الله يؤكد حق ذوي القربى.قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وقال سبحانه : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. فحقٌ على القريب الغني أن ينفق على قريبه العاجز.
ثم تأتي الزكاة كحل شامل لداء الفقر, فقد فرض الله في أموال الأغنياء حقاً معلوماً يغني الفقراء بكل تأكيد, وقد ضمن الله بالزكاة حقوق الفقراء والمساكين في أموال الأمة.والقرآن يقرن الصلاة بالزكاة, فالصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام, قال ابن مسعود:أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له.
فتفقهوا رحمكم الله في دينكم واعلموا أن لا خير ولا فوز في الدنيا والآخرة إلا بالعمل بما جاء في الكتاب المبين والسنة المطهرة فبهما تتحقق السعادة في الدارين.
اللهم أصلحنا وأصلح أعمالنا ووفقنا لما تحبه وترضاه.
الله أكبر (7)
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا, وأتم علينا نعمته ورضى لنا الإسلام دينا, وأمرنا أن نسأله الهداية لصراطه المستقيم, فله سبحانه وتعالى الحمد والشكر, لا نحصي ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه.
نشهد أنه الله, لا إله إلا هو وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين, الذي لا فوز إلا في طاعته, ولا عز إلا في التذلل لعظمته, ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستدلال بنوره, ولا حياة إلا في رضاه, ولا نعيم إلا في قربه.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أمينه على وحيه, وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده, بعثه بالدين القويم, والمنهج المستقيم, فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه (الله أكبر).
أما بعد:حُق للمؤمن الذي شرح الله صدره للعمل الصالح أن يفرح بما أنعم الله عليه به من توفيق قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
فاشكروا الله تعالى على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام فإن ذلك من أكبر النعم, واحمد الله يا من وفقك الله لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وهداك للقيام بالطاعات واجتناب المخالفات (الله أكبر).
واعلموا - معاشر المسلمين – أن الله تعالى لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم, فهو سبحانه غني عن العالمين، وإنما أمركم بما أمركم به لاحتياجكم إليه وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه, فاعبدوه واشكروه وحافظوا على الصلاة, فلا دين بلا صلاة, قال الله تعالى عن إبراهيم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي وقال عن إسماعيل وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وقال عن عيسى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وقال الله لنبينا محمد أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.
واجتنبوا المحرمات فإنه لو كان فيها خير لكم ما حرمها الله عليكم، فهو الجواد الكريم.وإنما حرم عليكم ما فيه ضرركم ديناً ودنيا رحمة بكم, فاتقوا الله وتمتعوا بما أباح لكم من الطيبات واشكروه عليها، فإن الشكر سبب لدوام النعم ومزيدها.(الله أكبر).
ألا وصلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين, وأمركم بالصلاة والسلام عليه, فقال تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي.
اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وارض اللهم عن صحابته الذين عملوا بسنته واهتدوا بهديه.
اللهم اصلح ولاة المسلمين, وأعز من أعز الدين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1639)
عظم فضل الصلاة
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
لما أراد الله تعالى أن يفرض الصلاة على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام،لم ينزل بأمرها ملك إلى الأرض،بل أنعم الله على رسوله بمعراج إلى السماء, وهناك في سدرة المنتهى فرضت الصلاة،ويحدثنا الصادق الأمين عن ما حدث له في تلك الليلة فيقول – في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري - : ((فُرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا..)) وهكذا أُعد النبي الكريم لمشاهدة ذاك المقام العظيم الذي قال عنه : ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) أي ارتفع إلى مكان سمع فيه ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى قال سبحانه : ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
إنه أمر لا نستطيع – ونحن في هذه الأرض – أن ندرك كيفيته،ولا أن نعي حقيقته،فنبينا عليه الصلاة والسلام في ليلة المعراج رأي جبريل – مرة ثانية – على صورته التي خلقه الله عليها،بعد أن رآه المرة الأولى،يسد الأفق بخلقه الهائل في ليلة القدر حيث أوحى إلى عبد الله ما أوحى.
وفي ليلة المعراج رآه عند سدرة المنتهى وهي شجرة تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه : أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى شجرة إليها ينتهي علم كل عالم ملك مقرب،أو نبي مرسل،ما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله.وعندها الجنة التي هي مأوى المؤمنين.
عند سدرة المنتهى انتهت صحبة جبريل لرسول الله ،وقف جبريل وتقدم النبي درجة أخرى هي أقرب وأدنى إلى عرش الله.
هناك في السماوات العلى في ليلة المعراج التقى نبينا بالرسل الكرام:آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم،وهناك فرض الله الصلاة وحق للصلاة أن تفرض في السموات وفي ليلة المعراج، فهي معراج لكل مسلم إلى ربه،بها تسمو الروح،وبها يتحقق للمؤمن أن الدعاء الذي هو مخ العبادة لا يكون إلا لله،وأن الركوع والسجود لا يستحقه إلا الخالق المدبر الحكيم،وبها يتميز المسلم عن الكافر قال عليه الصلاة والسلام: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) وبها يحقق المؤمن لنفسه الأمن والراحة،ولقد كان النبي إذا حزبه (أهمه) أمر فزع إلى الصلاة, وإذا عاد منهك القوى من قتال الأعداء، قال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) ، أي أذن بالصلاة لتكون الصلاة راحة لنا من معاناة الحياة ومشكلاتها.
والصلاة هي أصل أركان الإسلام،وأم القربات وأشهر شعائر الدين،وأفضل أعمال الإسلام،سئل رسول الله :أي الأعمال أفضل قال : ((الصلاة على وقتها)) نعم،قال تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا أي إن الصلاة كانت في حكم الله،ومقتضى حكمته في هداية عباده كتاباً – أي فرضاً – مؤكداً ثابتاً، يؤدى في أوقات محدودة لابد من أدائها فيها بقدر الإمكان،قال ابن مسعود:إن للصلاة وقتاً كوقت الحج.والملاحظ لأهل البصائر أن الله الحكيم العليم جعل لكل أمر وقتاً، فالأعمال تعرض عليه سبحانه في أوقات معينة،ورحماته تتنزل أكثر في ساعات معينة،ومن هذه الأوقات ما يدور بدوران الأسبوع كساعة الجمعة التي ترجى فيها استجابة الدعاء،ومنها ما يدور بدوران السنين كليلة القدر،وفي انتظام أوقات الصلاة تنبيه إلى وجوب اغتنام الوقت وأداء كل عمل في وقته،فالوقت هو رأس مال الإنسان إن استغله فيما ينفع ربح وفاز، وإن ضيعه خاب وخسر.
عباد الله،في الحديث الصحيح،قال : ((ثم عُرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) ثم قال : ((ففرض الله على أمتي خمسين صلاة)) فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال:ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت:فرض خمسين صلاة،قال:فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك)) فراجع نبينا عليه الصلاة والسلام ربه، فخفف خمساً ثم خمساً, وهكذا حتى صارت خمس صلوات،ومع ذلك قال موسى لرسول الله:راجع ربك،فقال عليه الصلاة والسلام: ((استحييت من ربي)). أي أن التخفيف لما وقع خمساً خمساً فلو سأل التخفيف بعد أن صارت خمساً لكان سائلاً في رفعها لذلك استحيى من ربه،وهو يخاطبه بقوله: ((هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي)) فهي خمس باعتبار الفعل،وخمسون باعتبار الثواب فالحسنة بعشر أمثالها.
هذا،والصلاة زكاة الوقت،وحق الله الراتب في كل يوم،فالمؤمن يقتطع من وقته الذي هو رأس مال الحياة فيجعله خالصاً لله،ويقتطع جزءاً من ماله فيجعله خالصاً لله،لذلك وجدنا آيات الكتاب الحكيم تقرن الصلاة والزكاة في آيات عدة،قال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1640)
وإذا مرضت فهو يشفين
الإيمان
الجن والشياطين
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول ربنا سبحانه وتعالى مخبراً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وهو يحاجج قومه من عباد الأصنام : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.
عباد الله, هذا إبراهيم الخليل يدعو قومه لعبادة الواحد الأحد, وقد كانوا يعبدون الأصنام التي لا تسمع, ولا تضر ولا تنفع, وأخبرهم أنه يتبرأ ويعادي من يعبد غير الله, وأنه يوالي ويحب من عبد الله, فالله سبحانه هو الذي خلق العباد وأرشدهم إلى الدين الحق, وهو الذي يرزق العباد, وهو الذي يشفي عباده من كل الأمراض وهو الذي يميت ويحيي, وهو الذي يُرجى لمغفرة الخطايا والذنوب.
فالله سبحانه ابتلى عباده بمختلف الأمراض ليعرف الإنسان ضعفه, وأنه لا حول له ولا قوة, وليلجأ إلى ربه في كل أحواله يسأله العون والمدد, والهداية والإعانة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكل مرض شفاء, قال عليه الصلاة والسلام : ((ما أنزل الله من داء, إلا أنزل له شفاءً)) وجاءت الأعراب إلى رسول الله , فقالوا: يا رسول الله: أنتداوى؟ فقال: ((نعم يا عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء, غير داء واحد, قالوا: ما هو؟ قال: الهرم)).
وإن أول الدواء, التوجه إلى الله تعالى بخالص الدعاء, مع اليقين أن الله تعالى هو الشافي, فالدعاء واللجوء إلى الله تعالى يثير قوى سرية في جسم الإنسان تقوى بها مناعته, وكم من أمراض قرر الأطباء أن لا علاج لها, شفى الله منها, فهو سبحانه القادر على كل شيء لا رب سواه.
ثم إن استعمال الدواء لا يتنافى مع التوكل على الله, فحقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه, ودفع ما يضره في دينه ودنياه, ولابد مع الاعتماد على الله من مباشرة الأسباب.
يُروى أن إبراهيم الخليل قال: يا رب ممن الداء؟ قال: مني, قال: فممن الدواء؟ قال : مني, قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أُرسل الدواء على يديه.
ولذلك كان على الأطباء أن يستحضروا هذا الأمر, فهم رسل الرحمة, يرشدون الناس إلى رحمة الله التي جعلها في الدواء. كما عليهم أن يعلموا مقدار حاجة الناس إليهم, قال الشافعي: "صنفان لا غنى للناس عنهما: العلماء لأديانهم, والأطباء لأبدانهم", فيعملوا على الإحسان إلى الضعفاء, ومن لا قدرة له على ثمن العلاج, وبذلك ينالون شرف الدنيا وثواب الآخرة, فما عليه الحال اليوم من غلاء الدواء- بمختلف أشكاله – يفرض على أهل الإحسان من الأطباء والأغنياء أن يبذلوا مما أفاء الله عليهم، مساعدة منهم للمرضى من الفقراء. وبذلك تتحقق الأخوة وتعم المحبة.
وإن على المؤمن أن يتوجه إلى الله تعالى سائلاً منه سبحانه أن يجنبه الأمراض والعلل وأن يدعو بدعاء نبي الرحمة : ((اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا)).
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام في صحته ومرضه إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده, يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.
وعن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله وجعاً يجده في جسده, فقال له رسول الله : ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله – ثلاثاً – وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)).
وكان النبي إذا دخل على من يعوده قال : ((لا بأس , طهور إن شاء الله)).
فاللهم هب لنا قوة وعافية تعيننا على ذكرك, وحسن عبادتك.
اللهم هب لنا قوة لا تطغينا, وغنى لا يلهينا, ولساناً رطباً بذكرك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1641)
وحدة الأديان
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
عدنان بن أحمد السيامي
مكة المكرمة
17/2/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الإسلام له معنيان: عام وخاص.2 ـ لا طريق إلى الله إلا بالإسلام.3 ـ الدعوة إلى وحدة الأديان.4 ـ آثار الدعوة إلى وحدة الأديان.5 ـ زيارة البابا لسوريا.6 ـ لا خير يرجى من أصحاب مجازر المسلمين النصارى قديمًا وحديثًا.7 ـ حقيقة زيارة البابا لسوريا.8 ـ حقيقة دعوة وحدة الأديان.9 ـ حكم الدعوة إلى وحدة الأديان.10 ـ لا التقاء ولا وفاق مع النصارى.11 ـ ماذا يجب على المسلمين تجاه هذه الدعوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الإسلام ـ عباد الله ـ قد ورد في القرآن على معنيين، معنى عام ومعنى خاص، والمعنى العام يدخل فيه كل أمة متبعة لنبي من أنبياء الله الذي بعث فيهم، فيكونون مسلمين، حنفاء على ملة إبراهيم بعبادتهم لله وحده، واتباعهم لشريعة من بعثه الله فيهم، قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل: 36]، وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء: 25].
فأصل دين الأنبياء واحد، وهو التوحيد، وشرائعهم مختلفة، قال تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا [المائدة: 48]، وقال : ((الأنبياء إخوة لعلاَّت أمهاتهم شتى، ودينهم واحد)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة [1].
وأما المعنى الخاص، فلا يدخل فيه إلا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا الإسلام بالمعنى الخاص ـ عباد الله ـ الذي جاء به محمد قد نسخ جميع الشرائع السابقة، وأبطلها، فمن آمن به وصدَّقه، فقد آمن بالله ورسله، ومن كفر به فقد كفر بالله ورسله، قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقًا [النساء: 150]، وقال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) متفق عليه [2].
عباد الله:
ألا وإن من مقتضيات هذا الإيمان، الإيمان بأنه ليس هناك إلا إسلام وكفر، ولا طريق إلى الجنة، والنجاة من النار إلا باتباع نبينا محمد والدخول في الإسلام، وأي طريق غير هذا الطريق فهو موصل إلى النار، قال : ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) [3].
فكيف يمكن بعد ذلك ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن يقال: إن اليهودية والنصرانية والإسلام كلها طرق تؤدي إلى الله.
عباد الله، أيها الإخوة المؤمنون، يا أتباع محمد :
قبل عدة سنوات قامت دعوة آثمة نصرها وللأسف بعض رجالات هذا الدين الإسلامي من علماء ومفكرين ودعاة، تلكم الدعوة الآثمة هي الدعوة إلى وحدة الأديان السماوية، ورفعوا لهذه الدعوة شعارات برَّاقة خدَّاعة، وهي (الإخاء الديني، الصداقة الإسلامية المسيحية، توحيد الأديان الثلاثة، الديانة العالمية)، ونشطت هذه الدعوة وامتدت امتدادًا مكَّن البابا في سنة 1986م في السابع والعشرين من شهر أكتوبر في قرية أسيس بإيطاليا أن يقيم صلاة مشتركة من ممثلي الأديان الثلاثة، مسلمين ويهود ونصارى، وسميت هذه الصلاة بصلاة روح القدس، وهي أول مرة يؤم فيها كافر مسلمًا.
ليقدم البابا نفسه للعالم بهذه الصلاة بأنه القائد الروحي للأديان جميعًا، وأنه حامل رسالة (السلام العالمي) للبشرية، ويعلن بعدها أن يوم سبع وعشرين أكتوبر هو عيد لكل الأديان.
عباد الله ـ أتباع محمد :
إن دعوة وحدة الأديان دعوة إلى إلغاء الفوارق الدينية بين الناس، فليس هناك مؤمن وكافر، الكل يدخل تحت وحدة الإخاء الإنساني، وينادي أصحاب هذه الدعوة إلى ضرورة طباعة التوراة والإنجيل والقرآن في غلاف واحد، وإلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مكان واحد.
ولقد تسربت هذه الدعوة إلى ديار الإسلام، وطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وفاهت بتأييدها أفواه، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلت الدعوة بها سدَّة المؤتمرات الدولية، وردهات النوادي الرسمية والأهلية.
عباد الله ـ أتباع محمد :
إن لهذه الدعوة المشؤومة آثارًا كفيلة بزعزعة الإسلام في قلوب أهله، لا تنتهي بهم إلا إلى الدرك الأسفل من النار، من تلكم الآثار:
1. هدم عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، بل وإزالة شيء اسمه دين من اعتقاد المرء.
2. تصحيح مذاهب الكافرين والسكوت عليها.
3. السماح بالدخول في اليهودية والنصرانية دون أي حرج.
4. إلغاء الفارق العظيم بين المسلمين وغيرهم، والذي عليه محور الصراع بين الحق والباطل.
5. جعل دين الإسلام كسائر الأديان المحرَّفة من حيث اتباعه، وأنه لا ميزة له على سائر الأديان.
6. هدم الإسلام في قلوب أصحابه لأن الذي يرضى أو يدعو إلى وحدة الأديان، يمسخ عن دينه، ولا يتنازل أولئك عن دياناتهم، لأنهم هم الذين يرعون الدعوة إلى وحدة الأديان.
7. عدم الدعوة إلى الإسلام، لأن المسلم إذا أراد أن يدعو إلى دينه فإنه مضطر لبيان حال الكافرين ضرورة شرعية وضرورة كونية، وإذا لم يفعل ذلك وأقر بجواز الدخول في أي دين فإنه لم يعد داعيًا إلى الإسلام بحقيقته التي أنزله الله على نبيه محمد عليها.
8. تمهيد السبيل للتنصير أن يتغلل كيفما شاء في بلاد المسلمين.
عباد الله:
إن زيارة البابا الأخيرة لسوريا، البلد الذي ينبض بالتوحيد وتصدع منائره بالأذان، وزيارته للجامع الأموي الذي هو حصن من حصون الإسلام، يُعدُّ مظهرًا من مظاهر هذه الدعوة ولا شكّ، بل إنّ دعوته ـ عليه من الله ما يستحق ـ أصحاب الأديان الموجودة الآن بالشام إلى ضرورة التعايش السلمي، ما هي إلاّ دعوة جريئة ووقحة إلى توحيد الأديان ومبدأ الإخاء الديني الإنساني.
ألا وإن كثيرًا من المسلمين البسطاء لينظرون إلى زيارة البابا (رمز السلام العالمي) المشؤومة أنها ستكون فرصة للفت أنظار العالم كله إلى ما يجري في فلسطين، ويرجو هؤلاء المساكين من البابا أن يتخذ موقفًا إيجابيًا تجاه ما يحدث للفلسطينيين من اليهود. ناسين أو متناسين أن هذا البابا رأس الكنيسة الكاثوليكية، ودعاة توحيد الأديان من خلفه، هم أبناء أصحاب محاكم التفتيش في إسبانيا التي مارست مع المسلمين أفظع وأشنع سبل التعذيب، هم أبناء أصحاب المذابح المشهورة عبر التاريخ قديمًا وحديثًا، أبناء أصحاب مذبحة معرَّة النعمان، هم أبناء الذين قادوا الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي التي قتل فيها الآلاف من المسلمين، وسبي فيها ما لا يحصى من نسائهم.
هم أصحاب المذابح الجماعية في البوسنة والهرسك، هم أصحاب الجرائم التي لا تجد لها وصفًا لائقًا في قواميس لغات العالم أجمعها. هم أصحاب مجازر كوسوفا وإندونيسيا، والشيشان، هم أبناء من باركوا أصحاب مذبحة صبرا وشاتيلا، هم من باركوا ودعموا أصحاب مذبحة الحرم الإبراهيمي، وقصف المخيمات الفلسطينية، هم من دعموا قتلة الأطفال، وباركوا قتل محمد الدُّرة والطفلة الفلسطينية الرضيعة: إيمان حجو.
أيرجى من هؤلاء الذئاب القتلة أن يكونوا سببًا في الرحمة، إن الذي حمل البابا على هذه الزيارة عدم اكتفائه بأن يُسلب المسلمون أرضهم، فأراد أن يسلبهم دينهم فيخسروا الدنيا والآخرة. قال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير [البقرة: 120].
إنّ دعوة وحدة الأديان في حقيقتها:
دعوة لقصر المد الإسلامي واحتوائه.
دعوة إلى نزع الإيمان من قلوب المسلمين ووأده.
دعوة إلى حلِّ الرابطة الإسلامية بين العالم الإسلامي في شتى بقاعه لإحلال الأخوة البديلة اللعينة (أخوة اليهود والنصارى).
دعوة إلى كف أقلام المسلمين وألسنتهم عن تكفير اليهود والنصارى وغيرهم ممن لم يدينوا بالإسلام.
ألا نكفر من كفرَّه الله، قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم [المائدة: 17]، وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة [المائدة: 73]، وقال تعالى: إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها أولئك هم شرُ البريّة [البينة: 6].
دعوة إلى كف المسلمين عن ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة: 29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين..
[1] أخرجه البخاري (3443).
[2] أخرجه البخاري (3435) ومسلم (28).
[3] أخرجه مسلم (153).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله ـ أتباع محمد :
إن الدعوة إلى وحدة الأديان، دعوة إلى الكفر الذي لا يكون معه إيمان، قال القاضي عياض: (ولهذا نُكِّفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده، واعتقد كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك).
وقال ابن تيمية: (ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب) [1].
ألا وإن الواجب على المسلمين الحذر والتيقظ من مكائد أعدائهم، وليعلم كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أنه لا وفاق ولا التقاء بين أهل الإسلام وأهل الكتاب من يهود ونصارى إلا بأن يعملوا بقول الله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون [آل عمران: 64].
وقوله تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذين يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف: 158].
كيف نرضى – عباد الله – بدعوة البابا الكاثوليكي إلى ضرورة إيجاد نقاط الالتقاء والوفاق بين الإسلام والنصرانيّة حتى يحصل التعايش السلمي بين الديانتين، وتنشأ الرابطة الأخوية بين أصحاب الملتين، أيحصل – يا أتباع محمد - التقاء ووفاق مع الذين يفترون على الله – تعالى وتقدس عمّا يقولون - فرية عظيمة جدًا، فيزعمون أنّ عيسى – عليه السلام – ابن الله، قال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدًّا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا أن دعوا للرحمن ولدًا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا إن كل من في السموات والأرض إلاّ آتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًّا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا [مريم: 88-95].
فيجب على المسلمين الكفر بهذه النظرية، نظرية "وحدة الأديان" وحدة كل دين محرَّف منسوخ مع دين الإسلام الحق المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل والناسخ لما قبله.
فإنها دعوة إلى نظرية نفاق ومشاقة وشقاق وعمل على إخراج المسلمين من الإسلام.
فليس بعد الإسلام إلا الكفر وليس بعد الهدى إلا الضلال.
وليعلموا أن الإسلام هو الدين الوسط، والمسلمون شهداء يوم القيامة على الأمم، قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا [البقرة: 143].
وهو الدين الذي رضيه الله لنا: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا [المائدة: 3].
وهو الدين الذين لا يقبل الله دينًا سواه: ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران: 85].
ويجب عليهم أن يقطعوا كل أسباب المودة والإخاء بينهم وبين أهل الكفر، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [المائدة: 51].
ويجب على المسلمين أن يقوموا بواجب الدعوة إلى الله تعالى، وتبليغ دينه إلى أهل الأرض جميعًا بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل: 125]، وقال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون [العنكبوت: 46].
[1] مجموع الفتاوى (28/524).
(1/1642)
من الحروب الصليبية إلى التنصير
أديان وفرق ومذاهب
أديان
مصطفى بن سعيد إيتيم
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عموم رسالة النبي. 2- موقف أهل الكتاب من بعثة النبي. 3- لا يقبل الله دينا غير الإسلام. 4- رحمة الإسلام بأهل الكتاب. 5- اعتداءات النصارى على المسلمين. 6- عداوة النصارى للمسلمين. 7- زيارة البابا يوحنا بولص لسوريا. 8- ما وراء هذه الزيارة (التنصير).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد بعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمدًا إلى الناس كافة: عربهم وعجمهم، باديهم وحاضرهم، إنسهم وجنهم، قال تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون [سبأ: 28]، وأمره سبحانه أن يقول: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا [الأعراف: 158].
بعثه الله سبحانه وأهل الأرض صنفان: أهل كتاب، وزنادقة لا كتاب لهم، وكان أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أشرف الصنفين لما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم حظًا منه، وتحريفهم لما حرّفوا.
أشرقت شمس الرسالة على أهل الأرض فكانت لهم سراجًا منيرًا، فأنعم الله بها عليهم نعمة لا يستطيعون لها شكورًا، وأهل الكتاب وقتئذ مترقبون ينتظرون، فلما أشرقت من مكة ببعثة محمد بن عبد الله الهاشمي كفروا بها وجحدوها إلا قليلاً منهم، وكانوا هم أولى باتباع النبي لما يجدونه مكتوبًا عندهم في كتبهم، ولأنهم كانوا أعرف به منهم بأبنائهم، قال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل [الأعراف: 157]، وقال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [البقرة: 146].
أرسل الله نبيه بالهدى ودين الحق، وأنزل معه الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولم يقبل سبحانه بعد الإسلام دينًا سواه، قال تعالى: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون [آل عمران: 83].
وخص الله سبحانه أهل الكتاب بدعوة خاصة فقال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [المائدة: 15، 16].
فناداهم بـ(يا أهل الكتاب) تشريفًا وتكريمًا، وليكون ذلك أدعى لقبول ما جاء به محمد لأنه من جنس ما جاءت به الرسل قبله، فالإيمان بالكتب إيمان بالوحي، وهو جنس واحد لا يتجزأ ولا يفترق.
فكان منهم من أسلم فسلم، وآمن فأمن، وكتب له الأجر مرتين، قال : ((من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا)) [1].
وكان منهم من أخذه الكبر والحسد، فكفر وجحد، ومع ذلك أقرهم الإسلام على دينهم، وأذن للمسلمين في الإحسان إليهم، وعصم دماءهم وأموالهم، وحفظ لهم حقوقهم، وأبقاهم بين المسلمين رجاء الخير لهم بإسلامهم وإيمانهم.
فكان الإسلام عليهم نعمة، والمسلمون لهم رحمة، ما ظنكم ـ أيها المسلمون ـ بدين يفتي علماؤه ويقررون بأن من كان معه ماء لوضوئه ووجد مضطرًا من أهل الكتاب أو من دوابهم المعصومة وجب عليه أن يعدل إلى التيمم وأن يسقي ذلك المضطر أو تلك الدابة [2] إنه مصداق قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107].
أيها المسلمون، إن أهل الكتاب ما نعموا بعدل ولا سعدوا بأمن إلا تحت حكم المسلمين، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة:
لما انسحب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من حمص ـ بعد أن فرض عليها الجزية ـ بكى النصارى في حمص وقالوا: "يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم ـ أي الروم ـ غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا" [3].
ولما قتل صالح بن علي بن عبد الله بن العباس مقاتِلةَ لبنان وأجلى بعضهم، كتب إليه الإمام الأوزاعي رحمه الله: "وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئًا لمن خرج على خروجه ممن قتلتَ بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامةٌ بذنوب خاصةٍ حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم، وحُكمُ الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله فإنه قال: ((من ظلم معاهدًا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه))" [4].
وإليكم أيها المسلمون شاهدًا آخر لكنه هذه المرة من أهلهم، يقول جوستاف لوبون: "ما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين على أمرهم، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون بثه في أقطار العالم، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتقَوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في القرون اللاحقة، بل رأيناهم ـ أي المسلمين ـ حيث دخلوا في الشام ومصر وإسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق، تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه لهم إلا جزية ضئيلة، كانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل. وما عرفت الشعوب فاتحًا بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا دينًا حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف" [5].
هكذا كان الإسلام لهم، وهكذا أمر الله ورسوله المسلمين أن يكونوا لهم.
وفي مقابل هذا البر والإحسان والرحمة والإنعام، كيف كان أهل الكتاب للمسلمين؟
إنهم كانوا يكيدون لهم كيدًا، ليردوهم عن دين الله فردًا فردًا، سلكوا في ذلك جميع السبل والوسائل، ونفذوا من أجله مخططات الأواخر والأوائل، فمَّرة مكر وخديعة في ثوب الناصح الأمين، ومرّة غصب واستعمار تحت ستار الإعانة والتأمين، وها هو التبشير والتنصير قد أنشب أظفاره وكشر أنيابه، وهو نتيجة من نتائج التعصب الصليبي المسلح، ومولود من مواليد القوة الطاغية التي تسمي كل ما ترضى عنه من الأعمال المنكرة حرية دين، أو حرية فكر، أو حرية رأي، وتسمي كل ما لا ترضى عنه من المطالبة بالحقوق المغصوبة وغير ذلك تسميه إرهابًا وعنفًا وأصولية وتشددًا.
فالتبشير والتنصير في حقيقة أمره مسار الاستعمار ودرب الغصب، أمدته القوة الطاغية بالمعونة والتأييد، فمد سلطانه حتى أصبحت جميع الأوطان أوطانه، فمن رام فضح أمره قالت له القوة الطاغية: اسكت، التبشير حر وأنا حامية الحرية، وهو عمل إنساني وأنا منقذة الإنسانية [6].
أيها المسلمون:
إنه لا عجب في أن يكذِّب اليهود والنصارى بالقرآن الكريم، ولكن العجب كل العجب فيمن يقول من الغافلين والخائنين من المسلمين: إن اليهود والنصارى إخوان لنا، راضون عنا!! وهو يسمع قول الله عز وجل: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة: 120].
العجب كل العجب فيمن يزعم أنه يؤمن بالقرآن الكريم ثم هو يقول: إن اليهود والنصارى يحبوننا ولا يكنّون لنا العداوة والبغضاء!! والله تعالى يقول: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة: 217].
العجب كل العجب فيمن يقول من المتخاذلين والمخذولين من المسلمين: إن اليهود والنصارى يحترمون ديننا ويعظمونه ويقرّوننا عليه!! والله تعالى يقول: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [البقرة: 109].
عداوة أهل الكتاب للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بينها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن ولم يكفه شاهد العيان فلا حيلة إليه.
أيها المسلمون:
اذكروا الجرائم الشنيعة والعظائم الفظيعة التي ارتكبها النصارى في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى، فعمّدوهم بالقوة، ومحوا شعائرهم وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق التي أخذت منهم أن لا يتعرضوا للمسلمين، فقتلوا وعذبوا، ونكَّلوا وشرَّدوا.
واذكروا الحروب الصليبية الكبرى التي شنها النصارى على الشرق الإسلامي طيلة قرنين من الزمان، ويسمونها (الحرب من أجل تحرير القبر المقدس)، كم ارتكبوا فيها من مذابح بقيت شامة عار في جباههم، ففي الحملة الأولى فقط أبادوا أهل أنطاكية وذبحوا في القدس أكثر من سبعين ألفًا من المسلمين، وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقِنّسرين وطبرية وغيرها من البلاد، وهجَّروا أهلها منها، وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.
واذكروا ما فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين في القرن المنصرم من قتل وتشريد، وفساد وإفساد، وتخريب ودمار، ونهب للأموال والممتلكات، وحرم المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم، وليست مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا منكم ببعيد.
وها هم اليوم يتغنون كذبًا وزورًا بالأمن والسلام، والوحدة والوئام؛ فهذا مجلس الأمن، وذاك مبعوث السلام، وهذه خطة أمن، وتلك صلاة سلام، فبالله عليكم متى علمتم الوحوش الضارية استأنست ، ثم هل تلد الوحوش غير الوحوش ؟!
بالأمس القريب كانت صلاتهم اليومية التي يقولها الصغير والكبير والذكر والأنثى منهم : (يا قلب يسوع الإلهي، أتقدم إليك بقلب مريم الدامي، بصلواتي وأعمالي وآلامي في هذا النهار، وأقدم إليك صلواتي من أجل الغاية التي أنت ساع في سبيلها كل يوم على المذبح، وأقدم إليك صلواتي بصفة أخص، من أجل اتحاد كل الكاثوليك، ومن أجل محاربة الإسلام) [7] ، هذه صلاتهم وهذه عقيدتهم التي كانوا عليها بالأمس ولا يزالون عليها اليوم، يقول الفيلسوف الكبير الدكتور جوستاف لوبون ـ متأسفًا ـ: "إن العقيدة الكاثوليكية المتوارثة فينا تجعلنا من ألد الأعداء للمسلمين" [8].
ومثال آخر مشهور وهو الأنشودة الإيطالية التي تسمى بـ(الوطنية)، يحفظها الصغير والكبير، ويتغنى بها الوجيه والحقير، يغذون بها أرواحهم بالحقد والشحناء، والعداوة والبغضاء، وهي مؤلفة من أربعة أدوار، واسمعوا إلى الدور الثاني منها لتعلموا ما يكنه النصارى لكم: (ليمت الشعب الإسلامي التعس. وليحارَب هذا الدين الإسلامي. الذي يضع المخدَّرات من النساء تحت تصرف السلطان. إني سأحارب بكل شجاعة لمحو القرآن. وبذلك أموت طليانيًا شريفًا) [9].
فاعرفوا أيها المسلمون أعداءكم، وإياكم ثم إياكم من زخارف القول.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/259)، والطبراني في الكبير (8/190-191) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [304].
[2] انظر: مجموع الفتاوى (21/80).
[3] فتوح البلدان للبلاذري (137) والخراج لأبي يوسف.
[4] فتوح البلدان للبلاذري.
[5] الإسلام والحضارة العربية (1/144).
[6] انظر مقدمة سجل مؤتمر جمعية العلماء الجزائريين لمحمد البشير الإبراهيمي (ص 65).
[7] انظر: آثار عبد الحميد بن باديس (5/464).
[8] انظر المصدر السابق (5/49).
[9] انظر المصدر السابق (5/50).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والله المستعان على ما نسمع ونرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عظم المطلوب وقل المساعد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، خير هذه الحياة ناقص وشرها زائد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد ولا ند ولا ولد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وسيد كل عابد وزاهد، وأكرم كل معلم وأصبر كل مجاهد.
اللهم فصل وسلم على نبينا محمد الراكع الساجد، ومنقذ كل معاند وجاحد، من درن الذنوب وخبث العقائد، وعلى آله وصحبه الأماجد، وعلى التابعين لهم بإحسان في الوسائل والمقاصد.
أما بعد:
أيها المسلمون:
لقد علمتم وسمعتم بما حدث في هذا الأسبوع من زيارة كبير النصارى الكاثوليكيين البابا يوحنا بولص الثاني لبلاد سوريا مدينة دمشق، والسماح له بدخول المسجد الأموي، وبإقامة قداس كبير، وإلقاء المواعظ والخطب، وأداء صلاة السلام، وغير ذلك من الأمور الخطيرة التي تتم من وراء حجاب أو مستورة بجلباب.
ولقد لقي هذا الضيف الثقيل ترحابًا كبيرًا، وحفاوة عظيمة، حيث فرشت له السبل، وزينت له الطرق، وخرجت إليه الجماهير تصفق وتزمر، وأكرم غاية الإكرام، وعظم منتهى التعظيم، وإن في هذا الحدث الخطير لتنبيهًا لنا معاشر المسلمين وإيقاظًا لنا من غفلتنا:
• فهذا الحدث الخطير دليل على ضعف المسلمين وخضوعهم لطلبات أعدائهم من اليهود والنصارى وغيرهم.
• وهو دليل على قوة نفوذ النصارى في بعض بلاد المسلمين، وتغلغلهم في مراكزها الحساسة بما يمكنهم من اتخاذ القرارات وإصدار الأوامر والتوجيهات، فكم من بلد إسلامي منع فيه بيان بطلان دين النصارى سواء بالقلم أو اللسان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
• هذا الحدث الخطير أيها المسلمون علامة صحيحة على سير مخططات التنصير السير الحثيث، ودليل واضح فاضح على نجاح تلك الخطط، أفيقوا أيها المسلمون فإن التنصير يغزو العالم الإسلامي، التنصير يداهم بيوتكم، ليخرج المسلمين من الإسلام ويشككهم في دينهم وفي نبيهم محمد ، وليحول دون انتشار الإسلام، وتمهيدًا لإخضاع العالم الإسلامي سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعسكريا تحت سيطرة النفوذ الغربي.
• هذه الزيارة المشؤومة ليست هي الأولى، ولن تكون هي الأخيرة ما دام المسلمون في غفلتهم، بل هي زيارة من بين الزيارات الكثيرة المقررة في الخطة التنصيرية، فلقد قام البابا يوحنا بولص الثاني في الفترة ما بين 5/2/1980م و20/9/1995م بست وأربعين زيارة لأربعين دولة إفريقية كما زار لبنان سنة 1997م، وهذه الزيارات مجال واسع رحب للتنصير، وتفتح أبوابا للمنصرين لترويج دعاياتهم المضللة والمزيفة، كما تضفي على العملية التنصيرية الصبغة الرسمية بسبب ما يصحبها من مشاركة بل رعاية حكومية.
• وأخيرًا أيها المسلمون إن هذا الحدث الخطير ليقطع القلوب ويفطر الأكباد، أين تعظيم العلماء العاملين، وأين تكريم الدعاة الصادقين، وأين احترام الصالحين المصلحين في تلك البلاد التي عُظم فيها هذا الضيف الثقيل وغيرها من بلاد المسلمين، يُعظَّم من دينه عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة في الحيطان، يُعظَّم من أصل عقيدته أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن الصاحبة وجرى به ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن، يقولون في دعائهم: "يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا"، يُعظَّم من دينه شرب الخمور وأكل الخنزير وترك الختان، والتعبد بالنجاسات واستباحة كل خبيث، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب وينجيهم من عذاب السعير، وفي مقابل هذا التعظيم وتلك الحفاوة يشرَّد الدعاة المصلحون وينكَّلُ بهم، وتسلب حقوقهم الإنسانية، فضلاً عن حقوقهم كمسلمين، ولا يسمح لهم بالدعوة إلى دين الحق، وتكسر أقلامهم، وتعقد ألسنتهم، ويتهمون بالتهم العقيمة لتبرير هذه الشناعات العظيمة، فهذا أصولي متطرف ورجعي متشدد، وذاك يخيط له ثوبه، وهذا إرهابي خطير ومشاغب كبير، وذاك يخصف له نعله، فكم أخرج من بلاد الشام من عالم مصلح، أخرج من داره وماله، واكتوى بلأواء الاغتراب، والويل له ثم الويل لو رجع إلى أهله ووطنه، ولا زال حاضرًا في أذهاننا معاشر المسلمين ما عاناه أحد كبار الدعاة المصلحين، وأحد المجددين في هذا القرن، ألا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ وغيره من أمثاله كثير.
فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أسأل الله عز وجل أن يعيد للمسلمين عزهم وكرامتهم، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يحفظ دينه ويعلي كلمته وينصر عباده المؤمنين.
(1/1643)
فضل الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عمر بن محمد السبيل
مكة المكرمة
17/2/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1.... تفضيل الله بعض المخلوقات على بعض.2.... تفضيل يوم الجمعة، وهداية الأمة المحمدية إليه.3.... من مزايات يوم الجمعة.4.... ساعة الاستجابة يوم الكمعة.5.... قراءة سورة الكهف.6.... صلاة الجمعة وبعض آدابها وأحكامها.7.... إثم التخلف عن صلاة الجماعة.8.... الصلاة على النبي يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه سبحانه بها العصمة من الضلالة، والسلامة من الغواية، وهي السبيل إلى السعادة والنجاة يوم القيامة، فاتقوا الله حق تقاته، والتزموا طاعته ومرضاته، وتذكروا ـ عباد الله ـ أن الله عز وجل قد فضل بعض مخلوقاته على بعض، اصطفاءً منه واختيارًا، وتشريفًا وتكريمًا وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68 ].
وإن مما فضل الحق عز وجل من مخلوقاته، تفضيله بعض الأيام على بعض، وجعلها موسمًا لإفضاله وإنعامه، ومتَّجرًا لأوليائه وأصفيائه، يغتنمونها بما يقربهم إليه تعالى، ويدنيهم من رحمته ورضوانه.
ألا وإن يوم الجمعة أعظم الأيام عند الله قدرًا، وأجلها شرفًا، وأكثرها فضلاً، فقد اصطفاه الله تعالى على غيره من الأيام، وفضله على ما سواه من الأزمان، واختص الله عز وجل به أمة الإسلام، فقد ضلت عنه اليهود والنصارى، وهدى الله تعالى أمة الإسلام إليه تشريفًا وتكريمًا لها ببركة نبيها الذي نالت بيمن رسالته كل خير وفضيلة.
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة)).
فيوم الجمعة سيد الأيام كلها، خصه الله تعالى بخصائص عظمى، وشرفه بمزايا كبرى، ليست لغيره من الأيام، وندب الله عز وجل العباد إلى اغتنام ما فيه من الفضائل والمسارعة إلى ما خص به من الطاعات.
وإن مما أشار إليه رسول الهدى من فضائل هذا اليوم وخصائصه، ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي لبابة البدري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ((إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله عز وجل فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئًا إلا أعطاه ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب، ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة).
فقد عدد رسول الله في هذه الأحاديث بعض خصائص هذا اليوم ومزاياه، وإن من أجلها ما أشار إليه من أن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: (أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر).
وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عنه أنه قال: ((التمسوها آخر ساعة بعد العصر)).
وإن مما شرع من العبادات في هذا اليوم قراءة سورة الكهف، ففي الحديث عند النسائي والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين الجمعتين)).
عباد الله، إن من أعظم ما شرع الله تعالى في هذا اليوم المبارك، ومن أجل خصائصه صلاة الجمعة، فإنها من أعظم الصلوات قدرًا، وآكدها فرضًا، وأكثرها ثوابًا، قد أولاها الإسلام مزيد عناية، وبالغ رعاية، فحث على الاغتسال لها، والتنظف والتطيب، وقطع الروائح الكريهة، والخروج إليها بأحسن لباس وأكمل هيئة، والتبكير في الخروج إليها، والدنو من الإمام، واستجماع القلب للاستماع للموعظة والذكر، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)).
وروى أبو داود والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن نبي الله قال: ((احضروا الجمعة، وادنوا من الإمام، فإن الرجل ما يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)).
ثم إن على المرء إذا حضر في المسجد أن يشتغل بالعبادة والطاعة من صلاة وذكر وتلاوة للقرآن، حتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام أصغى واستمع للخطبة، متعظًا بما يكون فيها من آيات تتلى، وأحاديث تروى، تذكر بالله تعالى والدار الآخرة، وتدعو إلى التمسك بتعاليم الشرع المبين، والحث على ما فيه خير وصلاح للفرد والأمة، في العاجل والآجل، ثم يؤدي الصلاة بخشوع وسكينة، وتدبر لما يتلى فيها من كلام الله عز وجل، وما يكون فيها من هيئات الذل والعبودية لله تعالى، فإذا فرغ من صلاة الفرض، اشتغل بالأذكار المشروعة بعد الصلاة، ثم يسن أن يتنفل بأربع ركعات في المسجد أو بركعتين في بيته وتأخيرها إلى البيت أفضل لفعله ، كما ثبت في الصحيحين، فمن حرص على فعل ذلك وأداه بنية خالصة فحري به أن ينال فضل هذا اليوم المبارك وأن يحظى بثوابه العظيم من المنعم الكريم فقد قال : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام)) رواه مسلم في صحيحه.
ولتحذروا ـ عباد الله ـ كل ما نهى عنه الشرع وحذر، مما يكون سببًا في فوات أجر الجمعة أو نقصان ثوابها كالتأخر في الذهاب إليها حتى يخرج الإمام، أو إشغال المصلين بتخطي رقابهم، فقد رأى وهو يخطب يوم الجمعة رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له منكرًا عليه: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) وإنه ليخشى على من يفعل ذلك أن يدخل في عموم قول الله عز وجل: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?ناً وَإِثْماً مُّبِيناً [الأحزاب:58 ].
وليحذر التشويش على عباد الله برفع الصوت بالذكر أو التلاوة، فقد نهى رسول الله عن ذلك بقوله للصحابة حينما علت أصواتهم بالقراءة: ((لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) والأسوأ من ذلك أن يحصل التشويش بالحديث مع الغير في أمور الدنيا، ولاسيما أثناء الخطبة، فإن من الحرمان وقلة البصيرة أن ينشغل المرء عن الخطبة بحديث أو عبث بحصى أو غيره، فيفوته بذلك ثواب الجمعة وفضلها، فقد قال في التحذير من ذلك: ((من مس الحصى فقد لغا)) رواه مسلم في صحيحه، وروى أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)) وروى الإمام أحمد عن علي قال: قال رسول الله : ((من قال لصاحبه والإمام يخطب: صه، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له)).
وإن من كبائر الذنوب ـ يا عباد الله ـ أن يتخلف المسلم عن حضور الجمعة من غير عذر شرعي، فقد شدد رسول الله في التحذير من ذلك مبينًا أن من فعل ذلك فقد عرض نفسه للإصابة بداء الغفلة عن الله والطبع على قلبه، ومن طبع الله على قلبه عميت بصيرته وساء مصيره، روى مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) ، وروى الإمام أحمد بإسناد حسن، والحاكم وصححه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه)).
فاتقوا الله عباد الله، ولتغتنموا يوم الجمعة بجلائل الأعمال الصالحة التي تقربكم إلى الله تعالى، وتدنيكم من رحمته ورضوانه، فإن ذلك من أسباب الفلاح والتوفيق في الحياة الدنيا وفي الآخرة، يقول عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 9، 10].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
ولتعلموا أن من أفضل الأعمال الصالحة يوم الجمعة وليلتها الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الهدى ، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ)) ، وروى البيهقي وغيره بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة)).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (رسول الله سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام؛ فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره، مع حكمة أخرى وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة فإنما نالته على يده، فجمع الله لأمته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنما تحصل يوم الجمعة، فإن فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم فيه يسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يرد سائلهم، وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء قليل من حقه أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته، وقد قال الله عز وجل : إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1644)
العبادة: مفهومها ومبطلاتها
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الألوهية, فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
21/12/1421
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتهاد السلف في العبادة. 2- عبادة النبي. 3- أفضل العمل عبادة الوقت. 4- شرطي
العبادة وعاقبة تركهما. 5- شمول العبادة لجميع مناحي الحياة. 6- مبطلات العبادة ومحبطات
الأعمال. 7- فضل بعض أنواع العبادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. حجاج بيت الله لقد تشرفت هذه البلاد بخدمتكم، كيف لا وأنتم وفد الرحمن، وكم سهرت من أعين، وكم بُذلت من جهود، وكم أُنفق من أموال. نسأل الله أن يبارك في جهود المخلصين ويكتب لهم الأجر الجزيل والثواب العظيم.
اشكروا الله على ما حباكم من نعمة الإسلام والتوفيق للحج إلى بيته الحرام. قال أحد السلف: "إن الله عز وجل أنعم على عباده، وكلّفهم الشكر بقدر طاقتهم" [1]. شكرٌ وإن قلَّ، ثمنٌ لكل نوالٍ وإن جل، فإذا لم يشكر المرء فقد عرّض النعمة للزوال ووسمها بسِمة الإقلال.
إن نفس المؤمن لا تستكين، وهمته لا تلين، وكلما سكنت نفسه أحدث لها نشاطًا وقال لها: يا نفسُ، أبشري فقد قُرب المنزل ودنا التلاقي فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول، فيحال بينك وبين منازل الأحبة.
وحين سئل نافع- رحمه الله - عما يفعله ابن عمر رضي الله عنهما في منزله قال: "الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما" [2]. يقول الحسن البصري رحمه الله واصفاً اجتهاد السلف في العبادة: "لقد أدركت أقواماً وصحبت طوائف فما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يحزنون على شيء أدبر، وكانت في أعينهم أهون من التراب الذي يطأون عليه، وكانوا عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. كانوا إذا جن الليل قاموا على أقدامهم وافترشوا وجوههم وجرت دموعهم على خدودهم" [3]. وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة الجماعة صام يومًا وأحيا ليلةً وأعتق رقبة [4]. وقالت فاطمة بنت عبد الملك زوج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: ما رأيت أحدًا أكثر صلاة ولا صيامًا منه، ولا أحدًا أشد طرقًا منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يذكر الله حتى تغلبه عيناه ثم ينتبه. ولقد كان يكون على الفراش فيذكر الشيء من أمور الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور من الماء ويجلسُ يبكي، فأطرحُ عليه اللحاف [5].
وعن وكيع قال: كان الأعمش قريباً من سبعين سنةً لم تفته التكبيرة الأولى، واختلفت إليه أكثر من ستين سنة فما رأيتهُ يقضي ركعة [6]. وقال سلمان بن حمزة المقدسي: لم أصلِّ الفريضة قطُّ منفرداً إلا مرتين وكأني لم أصلها قطّ [7] ، مع أنه قارب التسعين حين مات، رحمهم الله تعالى.
إخوة الإسلام، هذه نماذج خاطفة وإشارات عابرة لأناس امتلأت قلوبهم من محبة الله، فقرّت أعينهم وسكنت نفوسهم واطمأنت جوارحهم، فصارت خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادة التقرب إليه مكان إرادة معاصيه، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي.
أما رسول الله فقد تغلغل وترسخ حب العبادة في قلبه، وأعظم مظهر لعبادته أنه كان مسلماً وجهه لله في جميع الحالات,كان يخشى الله في جميع أحواله ويذكره دائماً ويستغفره فيقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) [أخرجه البخاري] [8].
كان يتعبد الله في الليل ويصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يقوم مصلياً حتى تنتفخ قدماه فيقال له: يا رسول الله، تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) [أخرجه البخاري ومسلم] [9].
كان ـ بأبي هو وأمي ـ يصوم ويتصدق، فيعطي غنماً بين جبلين.
والعجب كل العجب عباد الله في عبادته ذلك الجمع الغريب بين أرقى مراتب التعبد وبين القيام بقيادة أمته، يقول: ((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [أخرجه البخاري] [10].
قال ابن تيمية رحمه الله: "القلب لا يَصلُحُ ولا يُفلِح، ولا ينعمُ ولا يُسر، ولا يمتد ولا يضيق، ولا يسكن ولا يطمئن؛ إلا بعبادة ربه وحده، ولو حصّل كل ما يرتد به من المخلوقات, لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة فهو معبوده ومحبوبه ومقصوده" [11]. انتهى كلامه.
حجاج بيت الله، أعظم أنواع العبادة أداءُ مافرضه الله وتجنب ماحرّمه الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله قال: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) [أخرجه البخاري] [12].
لما كانت حياة السلف كلها عبادة، تزاحمت بينهم العبادات، بم يبدؤون؟ وماذا يُقدِّمون؟ فأجاب العالم الرباني ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله وأرضاها له عز وجل في ذلك الوقت. ثم يفصّلُ قائلاً: فالأفضل في وقت حلول الضيف القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب, وكذا في أداء حقوق الزوجة، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن , والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إقامتها والمبادرة إليها, والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وإيتاء الناس لك أداءُ واجب الصبر مع خلطتك بهم وعدم هربك منهم. ثم يقول رحمه الله: ولا يزال العبد متنقلاً بين منازل العبودية، إن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم, وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم, وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، يسير على مراد ربه ولو كانت راحةُ نفسه ولذتها في سواه". انتهى كلامه رحمه الله [13].
قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ق:56]. تتضمن الآية حقيقةً عظيمة هي أننا لم نخلق إلا للعبادة، ولا يقبل الله إلا أن نقضي حياتنا في العبادة، فالصلاة والصوم والزكاة والحج عبادة، وصدق الحديث وأداء الأمانة عبادة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والإحسان للجار واليتيم والدعاء والذكر والقراءة عبادة، حب الله ورسوله والإنابةُ إليه عبادة، الصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه كل ذلك عبادة.
إن ما أصاب المسلمين في تاريخهم الطويل وما يصيبنا اليوم من المصائب الكثيرة إنما هو بسب الانحراف في مفهوم العبادة، وتطبيق شرطي العبادة: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله.
فترك الإخلاص نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق الفقراء ولوكانوا أنبياء أو ملائكةً أو أولياء , يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى.
والانحراف في المتابعة نتج عنه ظهور ألوان من العبادة لم يأذن بها الله ولم يشرعها رسول الله لأمته على هيئات وصور وأوراد وأشكال مبتدعة سواءً أكانت في كيفيتها أو كمها أو هيئتها أو طريقة أدائها أو تمامها أو مكانها، هذه كلها مردودة على أصحابها لأنها تشريع لم يأذن به الله.
حصر بعض الناس العبادة بالشعائر التعبدية فقط , فحين يعبد ينقطع عن العمل، وحين يعمل ينقطع عن العبادة , هذا هو المفهوم السائد، ولسان مقالهم أوحالهم يردد المقولة الجاهلية :ما للدين وحجاب المرأة وعملها؟ ما للدين وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام وزي المرأة؟ ما للدين والمعاملات الربوية؟ والمقصود عزل الدين عن الحياة وأسره وحصره بين جدران المسجد، لذا تجد بعض المسلمين مصلياً صائماَ قارئاً للقرآن ثم لا يتورع أن يغش أو يرابي أو يظلم, وتجد المرأة المصلية الصائمة ثم لا تتورع أن تخالف الشرع بسفور أو اختلاط أو زينة محرمة.
حجاج بيت الله، الأعمال الحيوية التي تميل لها النفس تزهو بالنية الصالحة وتصلح لتكون عبادة، وكذا المباحات تستقر في صحيفة أعمالك طاعات, فالزارع في حقله، والعامل في مصنعه، والتاجر في متجره، والموظف في وظيفته، وكل ذي حرفة في حرفته يستطيع أن يجعل من عمله عبادة, وحين يكون العمل عبادة فلن يلوثه صاحبه بالخيانة ويفسده بالغش ويسوّد صفاءه بالكذب والخديعة وأكل أموال الناس بالباطل.
هذا هو المفهوم الواسع للعبادة، يجعل المسلم ينبوعاً يفيض بالخير والرحمة يتدفق بالنفع والبركة، فتنشط همته وتقوى عزيمته للعبادة ونصرة الأمة، فيمسح دمعة محزون ويخفف كربة مكروب ويضمد جراح منكوب، وهو يستشعر في هذا العمل معنى العبادة، كذا يسد رمق محروم ويشد أزر مظلوم ويقيل عثرة مغلول ويقضي دين غارم مثقل، يعين حائراً، يعلم جاهلاً, يدفع شراً عن مخلوق أو أذى عن طريق وهو يستشعر في ذلك كله معنى العبادة.
إنك تستطيع -أخي المسلم- في اليوم الواحد أن تضع لبنةً صالحة في بناء الأمة، وتضيف إلى ميزان عبادتك وحسناتك أعمالاً عظيمة لها ثقلها وقيمتها في ميزان الآخرة، وإن بدت عندك هينة خفيفة في الميزان.
واستمع قول المصطفى : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى يا رسول الله, قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة)) [أخرجه أبو داود] [14]. ويقول أيضاً: ((من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ: أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً)) [15] ويروي مسلمٌ في صحيحه أنه قال: ((بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له)) [16]. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله قال: ((عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق)) [17].
إن انحصار العمل الصالح في عبادات خاصة جعل بعض طلاب التقوى يشغلون أوقاتهم بتكرير أعمال محدودة، كأنهم لا يرون غيرها وسيلة إلى مرضاة الله وتركوا عمارة الأرض.
حجاج بيت الله، اتقوا الله واحذروا ما يبطل العبادة أو يُذهب ثوابها:
ومن ذلك الشرك بالله عز وجل، ومنه الرياء والسمعة، قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
ومن ذلك الإحداث في الدين، قال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [18].
ومن ذلك ظلم الناس والتعدي عليهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم فقد جاء في الحديث: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طُرح في النار)) [أخرجه مسلم] [19].
ومن ذلك بعض الكلمات الخبيثة التي ينطق بها الإنسان من غير تفكير في عواقبها فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأساً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً)) [أخرجه ابن ماجه] [20] ، وحدّث رسول الله أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: ((من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عمله)) [أخرجه مسلم] [21].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأُنحيّن هذا عن المسلمين لا يؤذيهم, فأُدخل الجنة)) [22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البيهقي في الشعب (4/138) من قول سلمان التيمي رحمه الله.
[2] أخرجه ابن سعد في طبقاته (4/170).
[3] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/285)، بنحوه.
[4] أخرجه أبو يعلى في معجمه (18) عن نافع أن ابن عمر كان إذا فاتته صلاة العشاء في جماعة أحيا بقية ليلته.
[5] الجزء الأخير منه أخرجه ابن سعد في طبقاته القسم المتمم (1/90).
[6] أخرجه ابن الجعد في مسنده (1/122)، وأبو نعيم في الحلية (5/49).
[7] انظر: المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد لابن مفلح (1/413).
[8] البخاري كتاب: الدعوات، باب: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم... (6307) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] البخاري كتاب: الجمعة، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل (1130)، مسلم في: صفة القيامة..، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (3819)من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[10] البخاري كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح (5063) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[11] الفتاوى الكبرى (2/386) بتصرف يسير.
[12] البخاري كتاب: الرقاق، باب التواضع (6502).
[13] مدارج السالكين (1/88) وما بعدها. بتصرف.
[14] أبو داود في الأدب، باب: إصلاح ذات البين (4919) وكذا أحمد (6/444-445)، والترمذي في: صفة القيامة (2509) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث صحيح". وصححه ابن حبان (11/489)، والألباني في صحيح الترمذي برقم (2037).
[15] أخرجه أحمد (2/344)، والترمذي في: البر والصلة، باب: ما جاء في زيارة الأخوان (2008) واللفظ له، وابن ماجه في: ما جاء في الجنائز، باب: ما جاء في ثواب من عاد مريضاً (1443). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب". وصححه ابن حبان (7/228)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1633).
[16] صحيح مسلم كتاب: البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق (1914)، وكذا أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، باب: من أخذ الغصن وما يؤذي الناس في الطريق... (2472) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[17] صحيح مسلم كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن البصاق في المسجد في الصلاة وغيرها (553).
[18] أخرجه البخاري في: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مرود (2697)، ومسم في: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) واللفظ له من حديث عائشة رضي الله عنها.
[19] صحيح مسلم كتاب: البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2581).
[20] سنن ابن ماجه كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3970). والبخاري في: الرقاق، باب: حفظ اللسان... (6478)، ومسلم في: الزهد والرقاق، باب: التكلم بالكلمة يهوي بها في النار (2988) بنحوه.
[21] صحيح مسلم كتاب: البر والصلة، باب: النهي عن تقنيط الإنسان عن رحمة الله (2621). من حديث جندب رضي الله عنه.
[22] صحيح مسلم كتاب: البر والصلة، باب: فضل إزالة الأذى عن الطريق (1914).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إخوة الإسلام: إن عبودية الله تقتضي شغل جميع الجوارح والأحاسيس في طاعة الله وامتثال أمره فيتعبد الله بترك ما يحرم استماعه من كلام أهل الكفر والإلحاد , ويتعبد الله بحفظ البصر عن النظر إلى ما حرم الله ويستعمله في النظر المشروع كالنظر في المصحف وكتب العلم، ويتعبد الله تعبداً صحيحاً بجارحة اللسان، وذلك بإشغاله دائماً بذكر الله وما والاه من الكلم الطيب، ويحفظه عن فضول الكلام مبتعداً عن قول الزور واللّمز والاغتياب، وينشغل عن ذلك بالكلم الطيب من الذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح بين الناس، ويتعبد الله سبحانه وتعالى بجارحتي اليدين والرجلين فلا يبطش بيديه إلا لله، وفي الله، حسب مرضات الله، ويلاحظ التزام عبودية الله في رجليه حاصراً مشيه بهما في طاعته ومرضاته، فيسعى بهما إلى إقامة الصلاة في الجمع والجماعات والتكسب للقيام بالواجب، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
ألا وصلّوا عباد الله على رسول الهدى , فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1645)
السحر وخطره
التوحيد, قضايا في الاعتقاد
الأولياء, نواقض الإسلام
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
28/12/1421
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر الشرك. 2- السحر من السبع الموبقات. 3- أثر السحر على المسحور. 4- سحر
العطف والصرف. 5- تعريف السحر وحكم تعلمه. 6- حكم الساحر القتل من غير استتابة.
7- ثمة فرق بين خوارق أولياء الرحمن وأولياء الشيطان. 8- شروط الولاية. 9- كيفية دفع
السحر. 10- الوقاية من السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعتصموا بحبله المتين وصراطه المستقيم، فذ لكم الفوز المبين، واعلموا عباد الله أن أقبح القبائح معصية الله تعالى، وشر المعاصي ما عظم ضرره وتحقق خطره، وكبائر الذنوب أعظم ما عُصي الله به. والكبائر حرب لله ولرسوله، والذنوب والآثام بعضها أشد من بعض في مفاسدها ومضارها وعقوباتها الدنيوية والأخروية بحسب مضادتها للغاية من خلق الكون، وبحسب مضادتها للحق والصلاح والإصلاح والخير العميم.
وقد خلق الله تعالى الكون ليعبد الله وحده لا شريك له قال الله تعالى: وَخَلَقَ ?للَّهُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ بِ?لْحَقّ وَلِتُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الجاثية:12]. وقد أصلح الله الأرض ببعثة الرسل وإنزال الكتب، وكل ما يضاد هذه المعالي العظيمة فهو المكروه لله تعالى المبغوض للخالق الذي توعد الله عليه بأشد أنواع العقوبات المتنوعة في الدنيا والآخرة، ولهذا كان الشرك بالله تعالى في العبادة أكبر الكبائر، وعقوبته أشد العقوبات، فقد حرم الله على صاحبه الجنة وحكم بخلوده في النار قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]. مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:74].
ولا يقبل الله في مشرك شفاعة الشافعين، وما ذلك إلا لعظم مفاسد الشرك بالله تعالى في النفس والكون، فهو ينعكس ضرره في النفس والكون، ثم تأتي الكبائر بعد الشرك بالله تعالى بحسب مفاسدها المدمّرة ومضارها في النفوس والكون والصلاح. والسحر من الذنوب العظام وكبائر الآثام، وهو كفر بالله تعالى وشرك برب العالمين، حرّمه الله في كل ملة، وحذر منه الرسول أشد التحذير، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) [1].
والسحر يفسد أعمال الساحر ويبطلها لأنه يتضمن الشرك بالله تعالى فلا يكون الساحر ساحرًا إلا إذا تقرب إلى الشياطين بطاعتهم, بالذبح لهم أو السجود للجني أو الاستغاثة بالشياطين أو الاستعاذة بهم أو دعائهم من دون الله أو البول على المصحف أو أكل النجاسات والخبائث وفعل الفواحش والموبقات، فإذا أشرك بالله تعالى هذا الساحر وأطاع الشيطان خدمته الجن وأطاعته الشياطين وقضت له حوائجه في مقابل شركه بالله تعالى والإضرار بالبرءاء، والساحر دائماً يجمع بين صفة الكذب وخبث القلب والجرأة على الآثام.
قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَى كُلْ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكّثَرَهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء]. والسحر يفرق بين الأحبة, فيفرق بين الرجل وزوجته، وبين الولد وأبيه وأخيه وصديقه، ويؤثر في القلب بالحب والبغض, والسحر يتحكم في الإرادة ويضعفها، فيرى المسحور النافع ضارًا، والضار نافعاً، ويرى المنكر في بيته والانحراف في أهله فلا يقدر أن يغير ولا ينكر لما سُلب من إرادته، والسحر يمنع الرجل من إتيان زوجته, وقد يقتل السحر أو يُمرض أو يفسد العقل ويجلب الأوهام الباطلة والخيالات المدمرة والوساوس الرديئة، وقد يجلب الآفات المتنوعة، وكل ذ لك بإذن الله تعالى وإرادته، فإنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى.
قال الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ.[البقرة:102].
وينتشر عمل السحر بين النساء الشريرات الجاهلات اللاتي ينخدعن بالسحرة، فتعطي المرأة بعض السحرة جُعلاً ليسحر لها زوجها أو أحداً بقصد أن يحبها زوجها، أو يسحر لها من تكرهه طلبًا للانتقام وإلحاق الأضرار بالمسحورين. ويقع عمل السحر من بعض الرجال الأراذل الساقطين الفجرة فيعمل له السحرة سحراً لغرض خبيث يجره إلى نفسه أو لضرر يريد إلحاقه بغيره فتكون المصيبة بهذا السحر وتكون البلية بهذا الشرك فيشقى بهذا العمل الساحر نفسه والمسحور له؛ لأنهما قد اشتركا بالإثم العظيم ووقعا في الشرك برب العالمين, فإن الساحر أشر وأخبث من المشرك بالله عز وجل، لأن الساحر مشرك ولأنه خبيث في نفسه وذاته، وأما المسحور فإنه مظلوم قد بُغي عليه واعتدي عليه، والله تعالى ناصره على من ظلمه في الدنيا وفي الآخرة.
روى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من تطير أو تُطير له أو تكهن أو تُكهن له أو سحر أو سُحر له)) [2].
وروى النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) [3].
والسحر في اللغة: ما خفي ولطف سببه.
وهو في عرف الشرع: عزائم ورقى شرك وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فتمرض أو تقتل أو يتخيل المسحور بها أموراً لا حقيقة لها أو يُؤخَّذ أحد الزوجين عن صاحبه.
وحكم تعلم السحر أو تعليمه: كفر بالله تعالى وشرك بالله وخروج من الإسلام. قال الله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ [البقرة:102]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]. وقوله تعالى: وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]. والسحر له حقيقة تضر المسحور بإذن الله تعالى كما هو قول أهل السنة، ولذلك أمر الله بالاستعاذة منه، ومنه ما هو تخمين.
وحد الساحر والساحرة: القتل في الإسلام على الصحيح من قولي أهل العلم, وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة.
قال الإمام أحمد: "صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي " [4] ، عن عمر أنه كتب: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال بجالة بن عبدة: فقتلنا ثلاث سواحر) [5]. وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها [6]. وصح عن جندب بن كعب الأزدي : أنه كان عند الوليد ساحر يلعب بسحره فاشتمل جندب على سيفه من الغد فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقاً فليُحي نفسه، ثم قتله [7].
وقتل الساحر لحماية الناس من ضرره وشره وللوقاية من كثرة مفاسده ولاقتلاع جذور الشرك بالله تعالى من المجتمع المسلم وللحفاظ على صفاء عقائد المسلمين وعقولهم وأموالهم ودرء المفاسد عن المسلمين، والإسلام وحده هو الذي يرعى كل خير ويحارب كل شر.
فقتل الساحر والساحرة هو الصحيح من قولي أهل العلم حتى وإن أظهر التوبة، لأن الصحابة لم يستتيبوا السحرة الذين قُتلوا، ولأن الغالب على الساحر الكذب فلا يصدق في توبته، فإن كان صادقاً في نيته وقصده نفعته التوبة عند الله عز جل ولكن لا تدفع عنه حد القتل لأنه مفسد شرير، خبيث السيرة والسريرة.
واعجب أيها المسلم المعافى من أناس جهال التبس عليهم حال السحرة الكذابين والمشعوذين فتحيروا فيما يصدر من السحرة من خوارق العادات كالطيران في الهواء والمشي على الماء وقطع المسافة الطويلة في زمن قصير والإخبار عن الغيب فيقع الخبر كذلك، وشفاء المرضى فيظن هؤلاء الجهال أن هذا الساحر من أولياء الله وقد يؤول الأمر إلى أن يعبد من دون الله ويرجى منه النفع والضر والعياذ بالله، فظن بعض الناس أن خوارق العادات التي تجري من السحرة والعرافين كرامات من الله فالتبس عند الجهال حال أولياء الرحمن بحال أولياء الشيطان.
والشرع فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فأولياء الله عز وجل هم الحافظون لحدود الله المتمسكون بشرعه ظاهراً وباطناً، الممتثلون لأوامر الله المجتنبون لنواهيه، المحافظون على صلاة الجماعة قال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
وليس من شرط الولاية لله تعالى أن يكون للولي كرامة بخرق العادات فإن أعظم الكرامة هي الاستقامة، وأما أولياء الشيطان فيظهر منهم خوارق عادات يظنها الجهال كرامات، وهي في الحقيقة أحوال شيطانية تخدمهم فيها الشياطين ليضلوا بها المفتونين, فلا تغتر بمن دخل النار وخرج سالماً أو طار في الهواء أو مشى على الماء أو أمسك بالثعابين، بل انظر إلى تمسكهم بالشرع تجدهم لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا يسمعون القرآن بل يسمعون أغاني الزور ويغشون الفجور أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـ?نِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـ?نِ هُمُ الخَـ?سِرُونَ [المجادلة:19]. واعتبر ذلك - أيها المسلم - بالدجال الأكبر الذي يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض انبتي فتنبت، ويحيي الموتى بإذن الله، وهو أخطر خلق الله.
وممن يدخل في ذم السحرة: الكهان والعرافون والمنجمون والذين يخطون في الرمل، وكل هؤلاء يدّعون علم الغيب، وهم كفرة خارجون عن الإسلام بادعائهم الغيب. قال الله تعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ و?لأرْضِ ?لْغَيْبَ إِلاَّ ?للَّهُ [النمل:65]. ومن صدقهم في دعواهم فهو كافر بالله مشرك. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) [رواه أبو داود] [8].
ومما يدفع السحر: التوكل على الله ودعاؤه والتحصن بالقرآن الكريم وأنواع الذكر الثابتة وكمال التوحيد والحذر من الوقوع في شَرَك الأشرار والفجار ومجانبة المفسدين الظالمين. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً (2767)، ومسلم في: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (89) بنحوه.
[2] عزاه المنذري في الترغيب (4/17) إلى الطبراني ن وكذا الهيثمي في المجمع (5/117)، وقال المنذري: "بإسناد حسن"، وقال الهيثمي: "وفيه زمعة بن صالح وهو ضعيف"، وحسنه الألباني في غاية المرام (289).
[3] سنن النسائي كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في السحرة (4079)، وكذا الطبراني في الأوسط (2/128-1469) كلاهما من طريق أبي داود الطيالسي عن عباد بن مسيرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. انظر: العلل لأحمد (1/144)، والمراسيل لابن أبي حاتم (1/35)، وجامع التحصيل (1/115). وضعفه المنذري في الترغيب (3/51)، والألباني في غاية المرام (288)
[4] انظر: تفسير ابن كثير (1/145).
[5] أخرجه الشافعي في مسنده (1/383)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/562).
[6] أخرجه مالك في الموطأ في: العقول، باب: ما جاء في الغيلة والسحر (1624)، والشافعي في مسنده (1/383).
[7] أخرجه البيهقي في السنن (8/136).
[8] أخرجه أبو داود في الطب (3904)، وهو عند أحمد (9290، 9536)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك، وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزار (9045- كشف الأستار)، وجوده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف". وصححه الألباني في غاية المرام (285).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه كان حليماً غفوراً.. وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله بعثه الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون تقوى من يعلم أن الله يعلم السر وأخفى، قال الله تعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَ?حْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى? رَسُولِنَا ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [المائدة:92].
عباد الله، إن الوقاية من السحر هو:
بكمال التوحيد والتوكل على الله تعالى، قال الله تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
والوقاية من السحر بالدعاء والاستعاذة منه. قال : ((لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل)) [1].
ومن الوقاية من السحر التحصن بتلاوة القرآن وأنواع الذكر الصحيحة صباحاً ومساءً. قال : ((عليكم بسورة البقرة ـ أي احفظوها ـ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) [2] يعني السحرة لا يقدرون على ضرر من قرأها وحفظها.
ومن الوقاية من السحر تحريق كتبه، وقتل الإمام للسحرة ورفع أمرهم إلى السلطان لكف شرهم وعظيم ضررهم عن الناس, وإذا وقع السحر بأحد فعلاجه بإحراق مادته التي انعقد بها السحر إذا عُثر عليها وعُلمت، كما فعل النبي لما سحره لبيد بن الأعصم اليهودي- لعنه الله- فإنه استخرج سحره من بئر ذروان في مشط ومشاطة فأحرقه [3].
وعلاج السحر بدوام الدعاء بالعافية منه. قالت عائشة لما سحر النبي : أطال ذات ليلة الدعاء ثم قال: ((يا عائشة أشعرت أن الله أخبرني بمن سحرني، وشفاني)) [4].
وسحر النبي نوع من المرض لا يقدح في عصمته وتبليغه، ولم يتسلط على عقله ، ولكنه نوع من الأذى من الجن كما أوذي من الإنس فأظهره الله على أعدائه من الجن والإنس وعافاه ونصره وعافاه من هذا المرض، والله تبارك وتعالى جعل هذا ليكون فعل الرسول تشريعاً، وزيادةً في رفعة النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم أجره.
ومما يعالج به السحر مداومة قراءة الفاتحة والمعوذات وقُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. وآية الكرسي، فإنها تضعف سلطانه حتى يضمحل، وسواءً قرأ المسحور على نفسه أو قرأ عليه أحد الصالحين.
ولا يحوز أن يحل السحر بسحر مثله لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حُرِّم عليها، ويجوز أن يتداوى المسحور من السحر بالعقاقير المباحة من الأعشاب ونحوها.
عباد الله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) [5] ، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليماً كثيراً.
[1] أخرجه البزار (2165-كشف الأستار)، والطبراني في الأوسط (3/66) واللفظ له، من طريق زكريا بن منظور حدثني عطاف، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها. قال البزار: "لا نعلمه عن النبي إلا بهذا الإسناد". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن هشام إلا عطاف، ولا عن عطاف إلا زكريا تفرد به الحجبي". وصححه الحاكم (1/669)، وتعقبه الذهبي بقوله: "زكريا بن منظور مجمع على ضعفه". وقال الهيثمي في المجمع (10/146): "وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب برقم (1014).
[2] أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) بلفظ: ((اقرؤوا سورة)) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
[3] مسلم كتاب: السلام، باب السحر (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه أنها قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا أحرقته؟ قال: ((لا)).
[4] الذي في البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده (3368)، ومسلم في: السلام، باب: السحر (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: ((أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟! جاءني..)) وذكر القصة. ولم أقف على لفظ الخطيب.
[5] أخرجه مسلم في: الصلاة، باب: استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (384) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
(1/1646)
قبلة المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
21/12/1421
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ارتباط المسلم بالكعبة والبيت الحرام لا ينقطع. 2- الأمر باستقبال الكعبة في الصلاة
والمعاني المرادة منه. 3- وحدة القبلة ودلالته في مسألة وحدة الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فعليكم بتقوى الله فالزموها، وبادروا بالأعمال الصالحة والتزموها، الزمان يطوي مديد الأعمار، وكل من عليها راحل عن هذه الدار، التسويف لا يورث إلا حسرة وندماً، وطول العمر لا يُعقِبُ إلا هرماً وسقماً، فواعجبًا لنفوس طال على الدنيا إقبالها وغلُظ عن الآخرة إعراضها وإهمالها أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
أيها المسلمون: لقد ولَّى الحجاج وجوههم شطر ديارهم، تقبل الله منا ومنهم، وجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً وذنبهم مغفوراً وبلّغهم أهلهم وديارهم سالمين غانمين وأعاذهم من سوء المنقلب في المال والأهل. ولكن حين ولّوا وجوههم شطر بلادهم، هل انقطع ارتباطهم بالبيت الحرام؟ إنهم لن يزالوا مع إخوانهم المسلمين أجمعين يولّون وجوههم شطر المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150].
معاشر المسلمين: جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.
ارتباط المسلم ببيت الله وبالقبلة ليس مقصورًا على أشهرٍ معلومات ولا محصورًا في أيام معدودات، ولكنه ارتباط دائم ووشائج لا تنقطع. المسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله كما يختم نشاطه بالتوجه إلى البيت الحرام حين يقف بين يدي ربه قائماً يؤدي الصلوات الخمس موزعةً بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم وأينما كانت ديارهم، ناهيكم بالنوافل والأدعية والأذكار التي يُشرع فيها استقبال البيت الحرام، فهذه صور وهيئات لا حصر لها يتفاوت فيها المسلمون ويتنافس فيها الصالحون، بيت الله المحرم هو الوجهة الدائمة التي ترافق العبد المؤمن في كل حياته، ليس مرتبطاً بموسم ولا محصوراً في فريضة، بل حتى حين يوّسد في قبره دفيناً فإنه يوجّه إلى البيت الحرام فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً.
تأملوا حفظكم الله هذه الآيات الثلاث: قول الله عز وجل: قَدْ نَرَى? تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ?لسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ?لْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144]. وتأملوا قوله سبحانه: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:149]. وقوله سبحانه: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ?خْشَوْنِى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150].
يا ترى، ما هو السرُّ في التكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟ أُمر النبي باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرات، وأُمر المسلمون مرتين، وتكرر قوله سبحانه: وإنه للحق من ربك ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات. ما ذلك كله إلا لتأكيد عِظم هذا التوجه والتنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرًا للحق في نفوس المسلمين ?لْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ [البقرة:147].
أيها المسلمون: إن أبعادًا كثيرةً لهذا التوجه قد غابت عن حياة كثير من المسلمين اليوم فأصبح الأمر عندهم أقربَ للعادةِ منه للعبادة.
إن تولية الوجوه نحو البيت تقتضي الحضور الدائم لمعاني الولاء والموالاة ومعاني الصلاة والحج وأسرارهما، وكلِ عبادةٍ مرتبطةٍ باستقبالِ هذا البيت المعظم.
يُولّي المسلم وجهه شطر المسجد الحرام ليسير مع التاريخ بماضيه ويستصحبه في حاضره ليتذكر تاريخ البيت وبناء البيت على التوحيد الخالص والملة الإبراهيمية الحنيفية.
يُولّي وجهه شطر البيت ليرى كيف هدَّ الإسلام بنيان الجاهلية وقواعدها.
يُولّي وجهه شطر الكعبة المشرفة ليتذكر ألوان العذاب التي لقيها المسلمون المستضعفون في ظلها وعلى جنباتها، والنبي يقول لهم مطمئناً ومثبتاً ومؤكداً: ((والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) إنه النصر الذي لا بد أن يتم بإذن الله من خلال صحيح الإيمان وعزمات البشر، والخضوع للسنن الإلهية في النصر والهزيمة ولكنّ قومًا يستعجلون.
الجالس قبال بيت الله يدرك حكمة الدعوة وتربية الناس في مثل قوله : ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) [مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة ]. وفي مثل قوله : ((لولا أن قومكِ حدثاء بالكفر لنقضت البيت ثم بنيته على قواعد إبراهيم)) [أخرجه البخاري وغيره].
كل هذه الاستحضارات والتأملات من أجل أن لا يُكذّب الله ورسوله، ومن أجل أن تُسلك مسالك الحكمة في الدعوة والفقه والتعليم والتربية.
أيها المسلمون: وحكمة أخرى تتجلى حين التأمل في التوجه نحو بيت الله المحرم واستقباله.
ذلكم أن المقصود بالعبادات كلها تمام الخضوع لله فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ [الماعون:3]. وبمقدار استحضار المعبود وعظمته وجلاله يقرب العبد من مرتبة الإحسان، فالإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) فكان التوجه إلى المسجد الحرام وإلى القبلة مساعدة على هذا الاستحضار العظيم.
العبادات والشعائر لا تؤدى بالنية المجردة ولا بالتوجه القلبي والروحي وحدهما، ولكنّ هذه العبادات لها صفاتها وهيئاتها من القيام والقعود والركوع والسجود والأقوال والأفعال والاتجاه نحو القبلة، وكذلك الإحرام والطواف والحركة والسعي والدعاء والتلبية والنحر والرمي والحلق والتقصير وهكذا: في كل عبادة حركة وفي كل حركة عبادة، عبادات تجمع بين الماديات والمعنويات ليتأكد الارتباط بين ظاهر النفس وباطنها.
إن ثمة رغبة فطرية بشرية للربط بين الأشكال الظاهرة والقوة الباطنة، فانحرفت فئات من البشر فعبدوا الأحجار والأشجار والحيوان والشمس والقمر والأفلاك، وجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة؛ فشرع من الأقوال والأفعال والحركات، مع تجريد كل ذلك لله وحده، فيتوجه العبد بجسده إلى القبلة والكعبة ويُوّلي وجهه شطر المسجد الحرام، ولكنه في ذات الوقت يتوجه إلى الله بكليته بقلبه وجوارحه وَلِلَّهِ ?لْمَشْرِقُ وَ?لْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ?للَّهِ [البقرة:115].
سَيَقُولُ ?لسُّفَهَاء مِنَ ?لنَّاسِ مَا وَلَّـ?هُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ?لَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ ?لْمَشْرِقُ وَ?لْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة:142]. إن المسلمين حين يتجهون إلى القبلة فإنما يتوجهون نحو التميز والاختصاص، فالقبلة رمز للوحدة والتوحيد، ورمز لتميز الشخص المسلم، وحّد الله هذه الأمة في ربها ونبيها ودينها وقبلتها، وحّدها على اختلاف أوطانها وأجناسها وألوانها ولغاتها، وحدة قيامها العقيدة والقبلة: عقيدة القلب وقبلة العبادة.
ولقد جاء في الحديث الصحيح: ((من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم)) [مخرج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه].
أمة وسط في الدين والاعتقاد لا تغلوا في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، ولكنها الفطرة في روحٍ متلبسة بجسد، وجسد تتلبس به روح، وتُطلِقُ كل نشاط في تهذيب بلا إفراط ولا تفريط، قصد وتناسق واعتدال، ومن أجل هذا جاء في هذا السياق كله قول الله سبحانه: ?لْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُمْتَرِينَ [البقرة:147]. ما جاءنا من ربنا هو الحق، والدين الذي نحن عليه هو الحق، فلا نستفتي أحدًا في ديننا ولا نتبع غير أهل ملتنا في شأننا، ولا نقبل من أعدائنا القول في تاريخنا وتراثنا ولا نسمع إليهم في دراساتهم عن قرآننا وحديث نبينا، إنه الجد الصارم والحق الجلي الذي تضمحل أمامه الأقاويل والأباطيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَ?خْشَوْنِى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـ?تِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:149-152].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أعطى فأجزل، ومنَّ فأفضل، أحمده سبحانه وأشكره، أتمَّ علينا النعمة ورضي لنا الدين وأكمل، وأتوب إليه وأستغفره من التقصير فيما أقول وأعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الظاهر والباطن والآخر والأول، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأفضل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما ليل أدبر وصبح أقبل وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: يُوّلي المسلمون وجوههم شطر المسجد الحرام ليبرز من خلال ذلك وحدة المسلمين وجماعتهم، التفافٌ حول هذا البيت من خلال عمود الإسلام الصلاة المفروضة، والتي تبدأ بأهل الحي وتنتهي بالتجمع الأعظم يوم الحج الأكبر، صلاة الجماعة قاعدة وأساس، وصلاة الفرد فذٌّ واستثناء، جاء في الحديث في حديث أُبي بن كعب في قوله : ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وكلما كثر فهو أحب إلى الله)) [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد حسن].
المؤذن للصلاة هو داعي الجماعة ((أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: أجبه لا أجد لك رخصة)) وصلاة الجمعة صورة ليس لها نظير في تجمعٍ يجمع على الصلاة والموعظة والنصيحة ومعالجة القضايا؛ ليتأكد استمرار الجماعة على الجادة الراشدة. وشعائر العيدين تجمع مشهود يحضره الرجال والنساء حتى ربات الخدور، جماعة وبهجة في ظلِّ الالتزام بخلق الإسلام، ويأتي التجمع الأخطر والاحتفاء الأكبر حين يُؤذَنُ في الناس بالحج.
وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. تجمع عظيم لا يعوقه اختلاف الألسنة والألوان ولا تشعب الأعراق وتباعد الأوطان، فعقيدة الإسلام في سهولتها وفطرتها وحنيفيتها. وقبلة المسلمين في قداستها تؤكد هذا الرباط الوثيق من الأخوة والود لينطقوا جميعاً بلسان عربي مبين (لبيك اللهم لبيك) إنهم جميعا في موقف العبودية لله وحده إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واعرفوا نعمة الله عليكم في دينكم وعباداتكم وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ [البقرة:231].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وإحسانك وجودك يا أكرم الأكرمين.
(1/1647)
الكتابة
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
28/12/1421
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله لا يقسم إلا بما هو عظيم وجليل. 2- منزلة القلم ودوره الكبير في البيان. 3- نعمة
التعليم بالقلم من أكبر النعم. 4- لمحة عن تاريخ الكتابة في العصر النبوي. 5- أنواع القلم
بحسب كاتبه. 6- الصفات المطلوبة في كل كاتب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن سعادة المؤمن ورفعته تبدو مجلاة في تقواه لربه؛ إذ بالتقوى يُذكر، وفي التقوى يُنصر، يطيع فيُشكر، ويعصي فيُغفر، فليتقِّ الله امرِؤٌ حيث ما كان، وليتبع السيئة الحسنة تمحها، وليخالق الناس بخلق حسن، ذلك ذكرى للذاكرين والعاقبة للتقوى.
أيها الناس: قاعدة من قواعد التفسير مقررة؛ كشف معناها علماء التأويل وأئمته، وعدُّوها معنىً من معاني التشريف والتكريم، ما جاءت أَفْرَادُها في القرآن إلا وفُهِم منها علو المكانة ورفعة المنة بها، ونعمة الإيجاد التي يمنُّ الله بها على عباده من مخلوقاته في الأرض وفي السماء، تلكم القاعدة عباد الله هي: أن لله جل وعلا أن يقسم بما شاء من مخلوقاته في سمائه وأرضه كالليل والقمر والشمس والنجم والطارق والفجر والعصر وغيرها من المخلوقات. وهذا القسم من الله أمارة على المكانة والاختصاص من بين سائر المخلوقات، وإذا ما أرسلنا الطرف رامقاً بين دفتي كتاب الله جل وعلا فإننا ولا جرم سنجد أن هناك قَسَماً من بين تلك الأقسام الجليلة، قسمًا أُنزل على محمد نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأّمِينُ [الشعراء]. قَسَمًا أنزله الله تسلية وتثبيتاً لخاتم الرسالات والمرسلين، قسمًا من الباري جلَّ شأنه في مقابل تكذيب وعناد يصرخ بهما كفار قريش وصناديدهم، إنه قول الباري جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم: ن وَ?لْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2].
الإقسام من الله لا يتبع إلا بشريف ما أبدع وكريم ما صنع، لقد أقسم الله بالكتاب وآلته وهو القلم، الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته، والقلم عباد الله اسم جنس لكل ما يكتب به وهو أول مخلوقات الله تعالى، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أن النبي قال: ((إن أول ما خلق الله القلم..)) الحديث.
القلم - أيها المسلمون - هو خطيب الناس وفصيحهم وواعظهم وطبيبهم، بالأقلام تُدّبر الأقاليم وتساس الممالك، القلم نظام الأفهام يخطها خطاً فتعود أنظر من الوشي المرقوم، وكما أن اللسان بريد القلب فإن القلم بريد اللسان الصامت، وإذا كان الأمر كذلك فقلمك يا أخي لا تذكر به عورة امرئ، إذ كلك عورات وللناس أقلام، الكتابة بالقلم للمرء شرف ورفعة وبضاعة رابحة وأثر غال ومآثر عُلى، هي للمتعلم بمنزلة السلطان وإنسان عينه بل عين إنسانه، كيف لا؟ وأعظم شاهد لجليل قدرها وأقوى دليل على رفعة شأنها، أن الله سبحانه نسب تعليمها إلى نفسه واعتدَّها من وافر كرمه وجزيل إفضاله، بسم الله الرحمن الرحيم: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لاْكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. بالإضافة إلى ما يؤكد أن هذه الآية مفتتح الوحي وأول التنزيل على أشرف نبي وأكرم مرسل، وفي ذلك من الاهتمام بشأنها ورفعة محلها مالا خفاء فيه، بله ما وصف الله به حفظته بقول: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ [الإنفظار:10-11].
يقول ابن القيم رحمه الله: التعليم بالقلم من أعظم نعمه على عباده إذ به تخلد العلوم وتثبت الحقوق، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض واندرست السنن وتخبطت الأحكام ولم يعرف الخلف مذهب السلف، وكان يعظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم لما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم.. إلى أن قال رحمه الله: فمن ذا الذي أنطق لسانك وحرك بنانك، ومن ذا الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد، فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم.
أيها الناس: دعا إلى القلم والخط به نبيّ أُميّ لم تكن أميته يوما ما قدحا في رسالته أو مثلبا في نبوته، كلا بل هي مدح ومنقبة لأن من ورائها حكمة بالغة هي رد وحجة على الملحدين المعاندين حيث نسبوه إلى الاقتباس من كتب المتقدمين كما أخبر الله بقوله: وَقَالُواْ أَسَـ?طِيرُ ?لاْوَّلِينَ ?كْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى? عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5]. وأكد ذلك بقوله: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـ?بٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَـ?بَ ?لْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]. فكان ذلك من أقوى الحجج على تكذيبهم وحسم أسباب الشك في نبوته.
لقد كان الخط في مبدأ ظهور الإسلام هو الخط الأنباري وكان يكتب به النزر اليسير من العرب عامة وبضعة عشر من قريش خاصة، وبعد انتصار النبي في بدر أُسر جماعة من المشركين كان من بينهم بعض الكتاب فقُبل الفِداء من أمييهم، وفادى الكاتب فيهم بتعليم عشرة من صبيان المدينة، فانتشرت الكتابة بين المسلمين وحضُّوا على تعلمها، واشتهر كُتّاب الصحابة كزيد بن ثابت، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، ثم ازدادت انتشاراً في عصر التابعين على قلة الإمكانات وعسر الحال، يقول سعيد بن جبير رحمه الله: كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتى تمتلئ ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهورهما.
وقال عبد الله بن حنش: رأيتهم عند البراء يكتبون بأطراف القصب على أكفهم.
وذكر الإمام الدارمي رحمه الله أن أبانا رحمه الله يكتب عند أنس في سبورة.
قال سعيد بن العاص : من لم يكتب فيمينه يسرى.
وقال معن بن زائدة: إذا لم تكتب اليد فهي رجل.
هذه النصوص وأمثالها لا أبعاد لها إلا التحضيض والترغيب في الكتابة وتعلمها ليس إلا.
أيها المسلمون: لقد فاخر كثير من البلاغيين بالقلم حتى جارَواْ به السيف أو أزيد من ذلك بضروب من وجوه الترجيح، كيف لا وقد أقسم الله به، إضافة إلى أن القلم يؤثر في إرهاب العدو على بعدٍ بخلاف السيف فإنه لا يؤثر فيه إلا عن قرب، إذ أن القلم البار الجاد يرقُم صحائف الأبرار لتحطيم صحائف الأشرار، لا يصرفه عن ذلك ما يلاقيه في عوالم شتى من قبل ذوي النزق من أهل البدع والإلحاد في الدين، أو من ذوي الأقلام المأجورة ممن همهم الإحبار أمام الدرهم والدينار، فضلا عما يصاحب ذلك من تعسف وإرهاق ويد قوة في استرقاق الأقلام أو تجفيف المحابر، إنه في الحقيقة لا يزيد أهل العلم إلا بياناً وتبياناً، وعزماً على قول الحق وتبيين الدين للخلق والتحذير مما يغضب الله ورسوله مع سكينة وأريحية، حاديهم في ذلك قوله جل وعلا: أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ?لذّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ [الزخرف:5].
عباد الله: ِصدقُ القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبس به الكاتب ويتزر به العاقل، والاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورة كما الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحب في غربة ومؤنس في قلة، وزين في المحافل وأشياع الناس، ناهيكم بعد ذلك عن دِلالته على العقل والمروءة ورباطة الجأش والتبري من ضيق العطن وعشق رأي الذات فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17]. ثمة ولا شك أن من غرس فسيلاً يوشك أن يأكل رطبها، وما يستوي عند أهل النهى وذوي الحِجى قلمان: أحدهما ثرثار متفيهق يطِبُّ زكامًا فيُحدِثُ جُذامًا، والآخر يكتب على استحياء محمود وغيرة نابتة من حب الله ورسوله، وإذا تعارض القلمان فإن الخرس خير من البيان بالكذب كما أن الحصُور خير من العاهر.
من عزم الكتابة عباد الله فلا يتخذها للمماراة عُدةً، ولا للمجاراة ملجأ، ولا يأمن الزلة والعرضة للخطأ، وكما قيل:
(من ألّف فقد اُستهدف) وفي القديم قيل: (من كتب فكأنما قدم عقله للناس في طبق).
ألا وإن أبلغ الأقلام في الوصول إلى القلب ما لم يكن بالقروي المجدع ولا البدوي المعرّب مع ما يتحلى به صاحبه من صدق في الحال ونية في الإصلاح وإلا (فماذا يغني الضبط بالقلم إذا لم يشفِ من ألم) وحاصل ذلك أنه ما رُأي كمثل القلم في حمل المتناقضات:
فهو عند اللبيب المهتدي آلة من آلات الخير والبر ومركبٌ من مراكب البلوغ والنجاح، ورأب صدع الفلك الماخر.
وهو عند الوقح السفيه عقرب خبيثة ودود علق يلاصق لحم من ينال.
وبينهما ثالث برزخ يقول فيه أهل العلم: العرب تضرب المثل بحاطب الليل الذي يكتب كل ما يسمع من غث وسمين وصحيح وسقيم؛ لأن المحتطب بالليل ربما ضم إليه أفعى تنيناً فتنهشه وهو يحسبها من الحطب، وأهل هذا الصنف سواد في الناس غير خاف لرامقٍ ببصر.
قد يوفق الكاتب في كتابته فيكون لها شأن يظهر عليها منه الجِدا وإجادة المطلع وحسن المقطع مدعمة بالنصوص الشرعية والأقوال المرعية فتبهر القلوب وتأخذ بالألباب حتى يظن القارئ أو السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي ممَّا في أيدي الناس، حيث ترى براعة القلم وشجاعته ولطف ذوقه وشهامة خاطره، وليس كل خاطر براقًا، وفي الحديث الحسن: ((إن من عباد الله من إذا قرأ القرآن رأيت أنه يخاف الله)) وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
لقد بُهرت الأمة بكتَّاب مسلمين في كافة الميادين، شعراء ملهمين من شعراء الزهد والحكمة كأبي العتاهية وأئمة المهديين أشاعوا العلم ونصروه، ونصروا السنة بأقلامهم كالأئمة الأربعة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، ومحمد بن عبد الوهاب التميمي وغيرهم كثير وكثير من مجددي ما اندرس من معالم الإسلام، بيد أن القلم في هذا الزمن قد فشى فشواً كبيراً واتسع نطاقه حتى بلغ القاصي والداني في صورة هي في الحقيقة مصداق لقول النبي : ((إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفُشُوَّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق وظهور القلم)) [رواه أحمد].
ومما لا شك فيه أن الشيء إذا فشى وذاع ذيوعاً واسعاً كثر مدّعوه وقل آخذوه بحقه فكثر الخطأ وعم الزلل وإن من ذلك عريَّ بعض الأقلام عن الأدب فلم ترعَ حرمة ولم تحسن رقماً، ولم تزن عاطفة في نقاش فثارت حفائظ وبعثت أضغان وكُشفت أستار واشتد لغط رقمًا بقلمٍ في قرطاس ملموس بالأيدي، ناهيكم عن الكذب والافتراء والتصريح بالعورات والمنكرات والجرأة على الله ورسوله مع ما يصاحب ذلك من قلم متعثر ومقالات لها في كل وادٍ شعبة يعثرون من خلالها عثرات متكررة دون التفات إلى أسباب تلك العثرات حتى يزداد خطرها ويستفحل شرها ومن ثمَّ ينوء أصحابها بأحمال ندم لا يقلها ظهر وتنكيس رؤوس يمسون بها بعيدي الرفع، ودموع حزن على قبح تسطير ما لمددها انقطاع، وأقسى الكل أن سيقال لمثل أولئك بماذا، ومن أجل ماذا، ولأي شيء يا من خططت ببنانك ما يوبق انتماءك للحق وصدق جنانك، ثم توزن بالعدل والميزان غالٍ، فيا لله العجب كيف وُهبت لهؤلاء عقول؟ وأسيلت أقلام؟ فما قدروا الله حق قدره بها، ولم يستحضروا ثمرة العقل الموهوب والرقم مكتوب الذي باينوا به البهائم حتى تشمقوا بفعلهم وغفلوا عمن وهب وهو ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:4-5]. ولعمر الله أي شيء لهم في الحبر والقلم ليس ملك لهم، ويا لله كيف لا توجه الموضوعية في الطرح على شرعة ومنهاج من بعث لصاحب القلم السيال في ظلام طَبْعِه نور القبس ظُلُمَـ?تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40]. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا ونستغفرك اللهم إنك كنت غفاراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فإن المسلمين بعامة في حاجة ماسَّة إلى القلم الصادق، إلى القلم الأمين، إلى القلم الملهم الذي ينشر الحق ويحيي السنة ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ?للَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282]. إن القلم أمانة وحملته كُثرٌ من بني الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72]. وما كلُّ من حمل الأمانة عرف قدرها، ولأجل ذا لفت علماء الإسلام الانتباه إلى صفات وضوابط لا يسع الأمة إهمالها ولا ينبغي أن يقصر فيها كاتب أو ذو قلم، أو من جهة أخرى تلفت الفِطن من قبل القرَّاء وأمثالهم إلى: عمَّن يتلقون ما ينفع؟ ولمن يقرؤون ما يفيد؟ وممن يأخذون ولمن يذرون؟ فتكلموا عن كون صاحب القلم مكلفاً بليغاً قوي العزم كفواً عالي الهمة ونحو ذلك، إلا أن أجلَّ التأكيد منصبُّ في كثير من كلام أهل العلم على أمور ثلاثة هي من الأهمية بمكان:
أولها: أن يكون الكاتب مسلماً ليُؤمنَ فيما يكتبه ويسطره ويوثق به فيما يذره ويأتيه إذ هو لسان المجتمعات الجاذب للقلوب، ولأجل ذا لما قدم أبو موسى الأشعري على الفاروق رضي الله عنهما ومعه كاتب نصراني فأُعجب الفاروق بحسن خطه فقال: أحضر كاتبك ليقرأ فقال أبو موسى: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فزجره عمر وقال: (لا تُؤَمِنُوهُم وقد خَوَّنهُم الله ولا تُدْنُوهُم وقد أبْعَدَهُم الله ولا تُعِزُّوهم وقد أذلَّهم الله).
وقد قال الشافعي رحمه الله في كتابه الأم: "ما ينبغي لقاضٍ ولا والٍ أن يتخذ كاتباً ذمياً، ولا يضع الذمي موضعاً يفضل به مسلماً"، فإذا كان هذا أيها المسلمون فإنه يعزُّ علينا جميعاً أن يكون لنا حاجة إلى غير مسلم، وإذا كان هذا في حق كاتب القاضي أو الوالي ففي كُتّاب المسلمين وصحافتهم من باب أولى لعموم النفع أو الضرّ به، فليت شعري هل يعي ذلك ممتهن الصحافة قراءة وكتابة؟ وهل سيظَلون في دائرة التلقي ممن في صدق انتمائهم للدين شك؟ أم أننا سنظل أبداً نتذوق مرارات نتجرعها ولا نكاد نسيغها غير مرة من جراء ثقة عمياء كإعماء البُله أو على حد قول بعضهم
(اعصب عيناك واتبعني)؟.
أما ثاني الأمور يا رعاكم الله: أن يكون صاحب القلم عالماً بما يكتب، على وفق ما أراد الله ورسوله في أي جانب من جوانب الأقلام سياسة، أو اقتصاداً، أو اجتماعاً، أو حضارة أو غير ذلك، فالشريعة تسع الجميع، وهي الرسالة العظمى، والجميع مفتقر إليها، ومن ظن أنه يسعه الخروج عنها ولو بشبر كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فقد خلع رقة الإسلام من عنقه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
بعث رسول الله معاذاً إلى أهل اليمن بكتاب قال فيه: ((إنِّي بعثت إليكم كاتباً)) قال ابن الأثير في غريب الحديث:
(أراد عالماً) سمي بذلك لأن الغالب على من كان يعلم الكتابة أن عنده علم ومعرفة.
وثالث الأمور عباد الله: هي العدالة، وما أدراكم ما العدالة، لأن صاحب القلم إذا كان فاسقاً غير مستقيم المروءة يكبر ضرره ويشتد خطره، وربما قادته أهواؤه ومآربه إلى استمالة قلوب الرعاع، لأنه لو زاد أو حذف، أو كتم شيء عَلِمَه، أو تَأَوَّل، أو حرَّف، أو لبّس ودلّس، أو كان ممن وصفهم الله بقوله: تَجْعَلُونَهُ قَر?طِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام:91]. لِيَطْغُوا لُبَادَاتِهِم من جراء هذا التلاعب فيؤدي ذلك إلى ضرر من لا يستوجب الإضرار، ونفع من يجب أن لا يرفع عنه الضرر، وربما موّه وغش حتى مدح المذموم وذم الممدوح، فيؤَثِر فعله من الإضرار ما لم تؤثره السيوف؛ لأن مثل هذا إذا عزم عداوة سفك الدم بسنة قلمه، والمقرر المشاهد أن الكلام يُنسى والهم يُغفر، والمكتوب موثق باق ورسول الله يقول: ((إن الله عفى لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به)) فكيف يا رعاكم الله إذا كتبه ونشره؟ ألا إن الأمر أشد والعلة أدهى وأمر، ولا يضر المخطئ إلا نفسه والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53].
(1/1648)
فضل النفقة
فقه
الزكاة والصدقة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
24/2/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... وعد الله الحق.2-... وعد الله للمنفقين.3-... دعاء الملكين للمنفق والممسك.4-... القصد في الإنفاق.5-... وعد الشيطان للمنفق.6-... حسن ظن المنفق بربه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، فإن منازل المتقين في دار الكرامة عند مليك مقتدر، أشرفُ المنازل وأرفعها وأسماها، وقد أفلح من تبوّأها وتفيّأ ظلالها، وحظي بالنعيم المقيم فيها.
أيها المسلمون:
إن الوعد الحق الصادق الذي لا يتخلّف موعوده، هو وعد الرحمن الذي وصف به نفسه في محكم التنزيل وأصدق القيل حيث قال سبحانه: أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [يونس:55]. وقال جل شأنه: يأَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [فاطر:5].
ولقد كان مما وعد الله به المؤمنين المنفقين أموالهم في وجوه الخيرات حسن العاقبة بكمال الإخلاف عليهم كِفاء البذل والسخاء بمال الله الذي آتاهم إياه، واستخلفهم فيه، تفضلاً منه ومناً، وجوداً وإحساناً وبراً وكرماً، فقال عز اسمه: قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]. أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدَل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((قال الله عز وجل: أنفق يا ابن آدم أنفق عليك)) [1] ، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)) [2].
ألا وإن دعاء الملك بالإخلاف على المنفق عام في الدنيا بحصول البركة في المال ونمائه وطيبه وازدياده، وفي الآخرة بحسن الثواب وكريم الجزاء. وأما دعاء الملك الآخر على الممسك بالتلف فهو إما بذهاب ذلك المال بعينه، أو بتلف نفس صاحب المال، والمراد به فوات أعمال البر بالتشاغل بغيرها.
وفي الصحيحين أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله : ((أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك)) [3] ، وهو نهي لها رضي الله عنها أن تمنع الفضل من مالها، فلا تنفقه في وجوه الطاعات خشية نفاده، فتكون العاقبة عند ذاك أن يقطع الله عنها مادة الرزق، ويحجب عنها بركة الإنفاق، وبئست العاقبة وقبح المآل.
غير أن هذا الإنفاق - يا عباد الله - يجب أن يكون ماضيا على السنن الأقوم، والطريق الأحكم، الذي جاءت به الشريعة المرفوعة المكرمة، ألا وهو سنن القصد وطريق الاعتدال، الذي بينه سبحانه في محكم التنزيل بقوله: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً [الإسراء:29].
إنها حسنة متوسطة بين سيئتين ؛ بين سيئة التبذير وسيئة التقتير، وكلاهما من ذميم الخصال وقبيح الخلال التي يتعين على المسلم اللبيب اجتنابها، والنأي بنفسه عن سلوك سبيلها، والتردي في وهدتها.
وإزاء هذا الوعد الرباني – يا عباد الله –، يأتي وعد الشيطان للإنسان بالفقر إذا هو أنفق مما آتاه الله، فهذا - كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله - وعد الشيطان وهو الكاذب في وعده، الغادر الفاجر في أمره، فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون، فإنه يدلي من يدعوه بغروره، ثم يورده شر الموارد. هذا وإن وعده له بالفقر ليس شفقة عليه، ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبة في بقائه غنياً، بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته، وإنما وعده له بالفقر، وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان.
فهذا - أيها المسلمون - وعد الله، وذاك وعد الشيطان، فلينظر البخيل والمنفق أي الوعدين هو أوثق، وإلى أيهما يطمئن قلبه، وتسكن نفسه، والله يوفق من يشاء، ويخذل من يشاء وهو الواسع العليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النفقات [5352] ، ومسلم في الزكاة [993].
[2] أخرجه البخاري في الزكاة [1442] ، ومسلم في الزكاة [1010].
[3] أخرجه البخاري في الهبة [2591] ، ومسلم في الزكاة [1029].
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن حسن ظن المنفق بربه دال أوضح دلالة على سلامة وصحة البناء النفسي لهذا العبد، وكمال توكله على ربه، وتمام يقينه بصدق وعده سبحانه لعباده المنفقين في الخيرات، ذلك الوعد الحق الذي لا يخلف ولا يتبدل.
ألا فأحسنوا أيها المسلمون الظن بربكم، وأنفقوا مما آتاكم الله من فضله، طيبة به نفوسكم، تحظوا بذلك الموعود، بالإخلاف عليكم في الدنيا، وحسن الثواب وكريم الأجر لكم في الأخرى.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1649)
ذم البدعة
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عدنان بن أحمد السيامي
مكة المكرمة
2/3/1422
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة تمام الدين وكمال الإسلام قبل موته. 2- تعريف البدعة. 3- المبتدع يتهم رسول الله بالتقصير في البلاغ. 4- كل بدع ضلالة. 5- معنى قول عمر: نعمت البدعة.... 6- البدعة تفرق الأمة. 7- أهل البدع يذادون عن الحوض. 8- أسباب انتشار البدع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – واعلموا أن نعم الله تعالى قد عمت البوادي والأمصار، وأن نعم الله لا تحصى بعدٍّ ولا تحد بمقدار، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]. فاتقوا الله واحمدوه على كل حال، وارغبوا إليه في حراسة النعم عن الزوال، وتقربوا إليه بالبعد عن قبائح الأفعال والأقوال، واحذروا المعاصي فإنها جالبة النقم ومغيرة النعم والأحوال، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد: 11].
والإسلام – عباد الله – أجلُّ نعم الله وأعظمها علينا، يقول تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة: 3].
هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عظيم مشهود، يعض على يديه فيه كل صاحب قلب على الإسلام حقود حسود، أكمل الله تعالى في ذلك اليوم الدين، وأتم بذلك النعمة على العالمين، فليس بعد الإكمال مجال لاستدراك، وليس بعد الضلالة إلا الهلاك.
والإتمام للدين يفرض على أهل الإيمان الاتباع، ويحذرهم من طرق الهالكين في الابتداع.
الاتباع – عباد الله – سبيل النجاة المسلوك من سلفنا الماضين، أولئك الذين طار ذكرهم، وخُلدت مآثرهم باتباعهم لهدي سيد المرسلين.
والابتداع – عباد الله – سبلٌ من الشيطان متعددة، وأهواء متشعبة، ليس سبيل منها واحد، يؤدي إلى رضوان الله الرحمن الرحيم الواحد.
والبدعة – عباد الله – طريقة مخترعة في الدين تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى.
طريقة مخترعة في الدين، أي: لم تكن من هدي سيد المرسلين، من ختم الله به التشريعات إلى يوم الدين، ولم يجرِ عليها عمل سلفنا الماضين، من الصحابة الكرام والتابعين، فليس هو إلا وسواس الشياطين، يرتفع عنه أهل الرسوخ واليقين، ويهلك فيه كل حائر ظنين.
فما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم شريعة من شعائر الإسلام، وعبادة يتقرب إلى الله بها أهلُ الطاعة والإيمان، فهو باقٍ كذلك إلى أن يرث الأرضَ ومن عليها الملكُ الديّان.
وما لم يكن في زمنه - - مما تعارف على العمل به المسلمون، حماة الدين ونقلته المؤتمنون، فليس من الدين، ولا مما رضيه الله لنا رب العالمين.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا رحمه الله يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذ دينًا؛ فلا يكون اليوم دينًا".
قال ابن الجوزي: البدعة عبارة عن فعل ٍ لم يكن، فابتدع أي أُخترِع [1].
فأيُّ إحداثٍ لعبادة لم يتعبدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يدل عليها كتاب ولا سنة، ولا جرى عليها عمل سلف الأمة، فهي بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) [2].
ولا بدَّ إخوة الإيمان من الرد على الشبهة التي يقذفها في قلوب المبتدعة الشيطان، فيقولون: كيف تقولون في قول عمر الفاروق: (نعمت البدعة هذه) [3] ، فليست كل بدعة ضلالة، وإلا لما نطق عمر بهذه المقالة.
إخوة الإيمان:
إنّ عمر لم يرد بقوله (نعمت البدعة هذه) البدعة في الدين، لعدم إحداثه لشيء لم يعمله سيد المرسلين، بل النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بالناس ليلتين من رمضان، واحتجب عنهم الثالثة خشية أن يفرضها عليهم الرحمن، فكان الناس زمن الفاروق يصلون في ليالي رمضان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أوزاعاً، جماعاتٍ وفرادى، فرأى جمعهم على إمام واحد، كما صلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أُمِن أن تفرض بعده صلى الله عليه وسلم، فلما حصل ذلك، ورآهم يصلون خلف أبيّ بن كعب كذلك، قال: (نعمت البدعة هذه).
قال ابن رجب: (وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغويّة لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحدٍ في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه) [4].
عباد الله:
الحديث عن الابتداع ليس من قبيل الأحاديث التي تقطع بها الساعات، ويشغل بها أوقات الفارغين بالمفيد من الكلمات. وليست خطباً يؤدى بها الواجب فقط على المنابر، ولا صحائف تسود ثم تنسى في بطون الدفاتر.
إن الحديث عن البدعة والابتداع حديث عن قضية خطيرة جليلة، وبيان وتوضيح لباقعة جدُّ عظيمة، ذلكم لما للبدعة من آثار مهلكة، وتبعات مردية، من تلكم الآثار والتبعات:
أن في البدعة طعناً في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدين على الوجه الأكمل؛ لأنه لم يذكر هذه البدعة، فلم يكن مقامه في ذلك بالمقام الأفضل.
أيُطعن في ثلاثة وعشرين عاماً من الجهاد والدعوة، علم وعمل، تربية وتعليم، تضحية وبذل، مجادلة لأهل الكفر ومجالدة.
لم يترك صلى الله عليه وسلم خيراً إلا وأرشد الأمة إليه، ولا شراً إلا وحذّر الأمة منه، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه)) [5].
ومن تلكم الآثار – عباد الله - أن صاحب البدعة مكذبٌ بلسان حاله بالقرآن، مُعرّضٌ نفسه للويل والحرمان، وموقفٌ لها على شفا حفرة من النيران، ألا يقول الله – تبارك وتعالى – في محكم تنزيله، وواضح تأويله: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
فماذا يقول صاحب البدعة، المجتهد في غير منفعة، ببدعته التي لم يأت بتصديقها سنة ولا كتاب، ولم يجرِ عليها عمل الأصحاب؟ إنه يقول ببدعته: هذه الآية غير صحيحة، والدين بنزولها لم يكمل، لأنّه لبدعتي التي ابتدعتها لم يشمل، فهذا حال المبتدعة مع هذه الآية، ومآلهم بسبب ابتداعهم في النهاية.
ومن تلكم الآثار – عباد الله - أن البدعة اجتهاد فيما يحسبه المبتدع طاعة، وحقيقته معاندة للشرع ومشاقة، يحسبه الطريق إلى الجنان، والواقع أنه يضلل عن طريق الرحمن، عمله يوم القيامة مردود، وسعيه يوم الحسرة هباءٌ منثور، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى? مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً [الفرقان:23].
وقال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [6]. ولذلك يقول ابن مسعود: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في بدعة) [7].
ومن تلكم الآثار – إخوة الإيمان - أن البدعة سبب من أسباب وهن الأمة وتفرقها، ذلكم أنها من عند غير الله العالم بما يُصلحها، ففي البدعة مفارقة أهلها للجماعة، وشق لعصا الطاعة، فهي اعتماد على الرأي، واتباع للهوى، وقد حذّر منه المولى، فقال جل وعلا: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ [آل عمران:105]. وقال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) [8].
قال قتادة: "ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافاً كثيراً" [9].
ومن تلكم الآثار – إخوة الإيمان - أن صاحب البدعة يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسقى منه.
ذلكم الحوض العظيم الذي من شرب منه شربة واحدة، لا يظمأ بعدها أبداً.
أهل البدع والإحداث في الدين، يذادون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم الأمين، لأنهم لم يكونوا أمناء على دينه، ولا حماةً لسنته، فابتدعوا وأحدثوا، فذادوا عن حوضه الشريف يوم القيامة وزُجروا.
قال صلى الله عليه وسلم: ((تردُّ عليَ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله)) قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا؟ قال: ((نعم، لكم سيما ليست لأحدٍ غيركم، تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدّن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب! هؤلاء أصحابي، فيجيبني ملك، فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟)) [10].
وفيه رواية: ((ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً)).
فاللهم ارزقنا الاعتصام بكتابك، وصدق الاتباع لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ولا تحرمنا يوم القيامة من الورود، على حوضه الشريف المورود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] تلبيس إبليس : ص16.
[2] أخرجه أحمد في المسند (16694) ، وأبو داود : (4607) ، من حديث العرباض بن سارية ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3851).
[3] أخرجه البيهقي شعب الإيمان : (3/177).
[4] جامع العلوم (2/128).
[5] أخرجه الطبراني في الكبير (2/155) ووثق رجاله الهيثمي في المجمع (8/264).
[6] أخرجه مسلم 1718 ، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه الحاكم في المستدرك : 11/103.
[8] المسند (2/332) ، وأبو داود (4596) ، والترمذي (2778) ، وابن ماجه (3991) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه الألباني صحيح سنن ابن ماجه (3240).
[9] أخرجه الطبري في تفسيره : 3/178.
[10] أخرجه مسلم (247).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن للبدعة أسباباً مساعدة على انتشارها بين عوام الناس، جاعلة لها عندهم من الدين بمنزلة الأساس، وإن معرفة أسباب البدعة – عباد الله – لهي أولى خطوات القضاء عليها، ومن أهم تلكم الأسباب:
الجهل بخطورة البدعة، وما ينتج عنها من آثار، لأن الحذر من البدعة لا يأتي إلا من العلم بخطورتها.
وقد كان من هدي بعض السلف أن يطلبوا معرفة الشر حذراً من الوقوع فيه، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) [1].
عرفت الشر لا للشـ ـر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
وإن سكوت أهل العلم، وعدم قيامهم بواجبهم، من تعليم الناس السنة، ونشر العلم، وإنكار البدع، سبب من أسباب انتشار البدع، لذا لا نجد للبدعة في زمن الصحابة رأساً حيث كان فيهم حرصٌ شديد على تعليم الناس السنة، وتحذيرهم من البدعة؛ حتى إنهم تركوا المداومة على فعل بعض السنن خشية أن يظن الناس أنها واجبة، قال أبو مسعود رضي الله عنه: (إني لا أترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة) [2].
وقد كانوا رحمهم الله ينكرون أشد الإنكار أي إحداث في الدين، تحرياً منهم لأمانة نقله كما وصل إليهم نقياً صافياً، أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري، قال لابن مسعود رضي الله عنهما جميعاً: (إني رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجلٌ، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: أفلا أمرتهم أن يعدّوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟؟ ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعدّ به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالة؟! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريدٍ للخير لن يصيبه؟! [3].
فإذا قام أهل العلم بواجبهم تجاه الأمة من نشر العلم، وبذله للناس، وتعريفهم بالبدعة وبعظيم خطرها، وأنكروا البدع وحذّروا منها، قضوا على أسباب البدعة جميعها، ومن ذلك نعلم – إخوة الإيمان – سبب كثرة البدع في زماننا هذا، وقلّة البدع في تلك القرون الفاضلة، فقد كان أهل العلم في تلكم الأزمان يقومون بواجبهم من الإنكار والنصح للأمة خير قيام.
- روي أن رجلاً عطس عند ابن عمر – رضي الله عنهما – فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله، فقال ابن عمر: وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عملنا أن نقول: ((الحمد لله على كل حالٍ)) [4].
- ورأى سعيد بن المسيب رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة ؟! قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة [5].
- وجاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس، فقال له: يا أبا عبد الله! من أين أحرم؟ قال: من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة في هذه ؟! إنما هي أميال أزيدها!! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سُبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إني سمعت الله يقول: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] [6].
ولئن كنَّا عباد الله نطالب أهل العلم بالقيام بواجبهم تجاه أمتهم، فإننا نطالب عامة الأمة بالالتفاف حول أئمة الهدى والرشاد، سرج الهداية للأمة إلى يوم التناد، الذين ينفون عن كتاب ربنا تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتحريف الجاهلين، فالأخذ عن هؤلاء الأئمة رشد في الدين، وتنكب طريقهم سبيل من سبل الهالكين.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الاتباع، ولا تكونوا من أهل الابتداع، اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله..
[1] أخرجه مسلم : 3/1475.
[2] أخرجه عبد الرزاق : 4/383 ، والبيهقي في السنن الكبرى : 9/265.
[3] أخرجه الدارمي 210 ، وقد جوّد إسناده حسين أسد محقق الكتاب.
[4] أخرجه الترمذي (2738).
[5] أخرجه عبد الرزاق (3/52).
[6] أخرجه أبو نعيم في الحلية : 6/326.
(1/1650)
فضائل أبي هريرة رضي الله عنه
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
عز الدين رمضاني
الدرارية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل النبي.
2- فضل الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
3- فضل أبي هريرة، وردّ افتراءات المفترين عليه.
4- أبو هريرة العابد الزاهد.
5- أبو هريرة البارّ بأمّه.
6- أبو هريرة وإحسانه إلى النّاس.
7- أبو هريرة وتربيته لأبنائه.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا عباد الله أنّ من أكمل الناس خلالاً، وأفضلهم حالاً، وأفصحهم مقالاً، من اصطفاه ربّ البريّة، ليكون هاديا للبشريّة، صلوات الله وسلامه عليه، حيث امتن الله عزّ وجلّ علينا ببعثته، فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]. وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
ثم أمرنا الله عزّ وجلّ بالاقتداء به والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
وكما اختار الله نبيّه للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم، لما قاموا به من نشر الدين، وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة. ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين. فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغاليّة، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة".
عباد الله: من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء االكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين.
والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة تُرهات الممترين، لأنّهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون.
ولئن كان سفهاء الأحالام وأُجراء الأقلام قد سودوا الصحائف والكتب بالنيل من حافظ الإسلام الجهبذ، فإنّ كبار النفوس والعقول من رجالات الأمة لفحول قد ملؤوها مدحًا وثناءً، ونوروا سطورها ضياءً وسناءً، فما هؤلاء المحبين الموالين، إلاّ كما قال الشاعر:
هل يضر البحر أمسى زاخرًا أن رمى فيه غلامٌ بحجر
والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب، فقد كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تأريخه، ولما جاء الإسلام غيَّر اسمه، لأنّه لا يجوز تسمية إنسان بأنّه عبد فلان أو عبد شيءٍ من الأشياء، وإنّما هو عبد الله فقط، فسمّي بعبد الرحمن، وقيل: عبد الله، والمشهور الأول، ورجّح ابن حجر احتمال صحة الاسمين.
وأبو هريرة من قبيلة دوس إحدى بطون الأزد، وهي قبيلة يمانيّة قحطانيّة مشهورة، فهو عبد الرحمن أو عبد الله بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب، شريف المعدن والأصل خلافًا لمن قال: إنّه مجهول النسب.
لكنه لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته، فكان يدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يسلم.
وسبب تكنيه بهذه الكنية سبب لطيف ظريف، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: إنّما كنوني بأبي هريرة، لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس! فأنت أبو هريرة فلزمتني بعدُ.
ويقول أبو هريرة: كان رسول الله يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة [كم، صحيح].
وكان يفضِّل كنية النبي له، يقول: لأن تكنوني بالذكر أحبّ إليَّ من أن تكنوني بالأنثى.
وقد وقع في عدة مواضع من صحيح البخاري نداء رسول الله له بأبي هر، وقد نشأ يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي ، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ ثلاث سنين، ولا تناقض لأن السنين الثلاث المذكورة عند البخاري فُسِّرت بالملازمة اللصيقة والحرص الشديد على الصحبة وتلقي الحديث.
وقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي بالهداية لقومه، فقال لما قالوا له: يا رسول الله! إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها. فقال: ((اللهم اهد دوسًا، وائت بهم)) [خ].
وأبو هريرة وإن كان مسلمًا حين قال رسول الله هذه القولة، إلاّ أنّ الدعوة الكريمة تلحقه، لأنّ من معاني الهداية الثبات على معانيها لمن هو مسلم، والدخول في الإسلام لمن لم يسلم بعد.
وقد خصّ رسول الله قومه بالشرف قرناً لهم بقريش والأنصار؛ إذ أخرج [د] بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((وأيم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلاّ أن يكون مهاجرًا قرشيًّا أو أنصاريًّا أو دوسيًّا أو ثقفياً)).
وأبو هريرة يماني كما أسلفنا يلحقه شرف اليمن وشرف أهلها، فقد أخرج البخاري بسنده إلى عقبة بن عمرو أنّه قال: أشار رسول الله بيده نحو اليمن، فقال: ((الإيمان يمانٍ هاهنا)). وفيه أيضاً عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول: ((الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية)).
وكلّ هذا المذكور عباد الله داخل في شرف العموم، أمّا شرف الخصوص فحدِّث عن البحر قبل أن تغوص، فقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي له وتوثيقه، فقد أخرج البخاريّ في التاريخ الكبير بسند رجاله ثقات أنّ زيد بن ثابت، قال: دعا النبيّ لأبي هريرة، وهذه الدعوة أخرجها مسلم عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله : ((اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين)) ، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
وهكذا كان من علامات المؤمنين إذاً: حب أبي هريرة، ببركة دعائه له، وشهادة القرآن له إذ هو معدود من جملة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله، وقد أمر النبي بالجلوس إليهم والصبر معهم كما قال تعالى: َ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28]. وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله ممن لا منزل له وأكثرهم من المهاجرين الفقراء وكان النبي يطعمهم ويتفقد أحوالهم؛ وفضلهم مشهور لا ينكر، وأبو هريرة منهم قد حاز شرف فقرهم وفضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته، ولهجرته، ولدوسيته، ويمانيته، ونيله دعوة الرسول وتوثيقه له، وشهادة القرآن له. فهل يأتي اليوم من نسبه ممذوق وعرضه مفتوق، وعيشه ممحوق يطعن في أبي هريرة! هيهات والله أن ينالوا منه شيئاً، فوالله ما أبغض هؤلاء الأصحاب إلا كل منافق مرتاب وما أحبهم إلا كل مؤمن خلص قلبه وطاب.
جعلني الله وإياكم من سجي الصحب الكرام، المتقربين بحبهم إلى الملك العلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحديث عن أبي هريرة هو حديث عن أخلاق الإسلام وآدابه، وحديث عن صفوة رجال كانوا لهذا العلم من أوعيته وطلابه، أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، وخرجوا من هذه الدنيا ولم يشبعوا في ليلتين.
وأبو هريرة أحد هؤلاء الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، فأناروا العقول وفتحوا البصائر، وهذبوا النفوس وأيقظوا الضمائر، وكيف لا يكون منهم وهو وارث العلم النبوي الشريف الذي ضرب فيه بسهم وافر حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع، كما كان عبد الله بن عباس ترجمان القرآن ومفسره بلا مناطح.
ولم يكن رضي الله عنه يندفع للعلم وكثرة الرواية، ويتأخر عن العمل به كأهل الغواية، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبّد، وحسن السمت والتزهد، إذ العلم يهتف بالعمل، فإن استجاب وإلا ارتحل، كما يقول غير واحد من سلف هذه الأمة الصالحين.
وهذه قبسات مضيئة من سيره إلى الله عز وجل نستلهمها من زوامل أسفاره إلى الدار الآخرة.
أخرج البخاري وأحمد عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا.
ويقول هو عن مسلكه في كل ليل: (إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث أنام، وثلث أقوم وثلث أتذكر أحاديث رسول الله ).
وكان رضي الله عنه يصوم الاثنين والخميس تطوعاً، وكان هو وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر الأولى من ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وكان رضي الله عنه أماراً بالمعروف ونهاءً عن المنكر إذا رأى رجلاً ذا مال كثير، يوصيه بإخراج الزكاة ويحذره من مغبة منعها فنراه يقول: إياك وأخفاف الإبل، إياك وأظلاف الغنم، ثم يقول للرجل إني سمعت رسول الله يقول كذا وكذا، ويسوق حديثاً وربما دخل إلى السوق على حين غفلة فيرى الناس يغدون ويروحون وقد ألهتهم التجارة وتشاغلوا بالدنيا فيوخز ضمائرهم بموعظة لطيفة وذكرى خفيفة، علهم يتذكرون وحتى لا ينسون، كما يروي الطبراني في الأوسط بسند حسن أن أبا هريرة مر بسوق المدينة فوقف عليها فقال: يا أهل السوق ما أعجزكم! قالوا: وماذا يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله يُقسم وأنتم هاهنا؟ ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئاً يُقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى، رأينا قوماً يصلون وقوماً يقرؤون القرآن وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد.
ومن أخلاق أبي هريرة العالية، التي بوأته المكانة السامية، كثرة برّه بأمه وملازمته إياها، فإنه رضي الله عنه لما سمع النبي يقول: ((للعبد المملوك المصلح أجران)) قال: والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه، لصحبتها، ومن صور بره بأمه أنه تمنى إسلامها وحرص عليه حتى أسلمت وكان سبباً في إسلامها.
أخرج مسلم عنه أنه قال: (كنت أدعوا أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله : ((اللهم اهد أم أبي هريرة)) فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله ، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال: فرجعت إلى رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً.
ومن بره بأمه أيضاً ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عنه أن النبي أعطاه تمرتين، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حجري، فقال رسول الله يا أبا هريرة لم رفعت هذا التمرة؟ فقلت: لأمي، فقال: كلها فإنا سنعطيك لها تمرتين فأكلتها وأعطاني لها تمرتين.
ثم يأتي الآن من عسى أن يكون متخوماً وأمه تتضور جوعاً يطعن في أبي هريرة، ولم يقتصر رضي الله عنه في بره لأمه فحسب، بل تعدى إلى غيره. فوصل كرمه الضيفان وإعتاقه للعبيد وإحسانه للموالي وكفالته الأيتام، يروى أبو داود بسند صحيح عن الطفاوي قال: تثويث أبا هريرة بالمدينة، فلم أر رجلاً من أصحاب النبي أشد تشميراً ولا أقوم على ضيف منه.
وأعتق من ماله الأغر بن سليك المدني بالاشتراك مع أبي سعيد الخدري الذي نزل الكوفة وصار من كبار محدثيها، وكانت له دار بالمدينة تصدق بها على مواليه إلى حسنات أخرى يضيق المقام عن عدها.
وكان رضي الله عنه إلى جانب هذا حريصاً على تربية أولاده، فقد ربى ابنه المحرر تربية علمية جعلت كبار الرواة يحتاجون إليه ويروون عنه ما فاتهم من حديث أبيه كالشعبي والزهري، وكان يحمل ابنته على الزهد فيقول لها: لا تلبسي الذهب، إني أخشى عليك اللهب، ولا تلبسي الحرير إني أخشى عليك الحريق، ثم يأتي الآن من عسى أن تكون بنته تعرض في الشارع آخر أزياء باريس، يتناوش أبا هريرة هيهات والله.
هذا ولو استعرضنا تفاصيل سيرته المرضية لطال بنا المقام ولم تأت على ربع معشار منها، لكن حسب المؤمن أن يعرف أن الأصل إذا طاب طابت فروعه وأن القليل اليسير إذا كان مباركاً يدل على الخير الكثير، على حد قول الشاعر:
القليل منك يكفيني وقليلك لا يقال له قليل
فرحمة الله على أبي هريرة معلماً وهادياً، ومجاهداً وداعياً، وآمراً وناهياً، ورائحاً وغادياً.
فاللهم هذا حبنا لأبي هريرة قد أظهرناه، وعلى ألسنتنا ترجمناه، فاجعل قلوبنا من بغضه سليمة، ومن كل إثم وسوء عديمة، إنك الموفق لكل ربحٍ وغنيمة، والمنجي من كل عاقبة وخيمة.
(1/1651)
فضائل أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
عز الدين رمضاني
الدرارية
علي بن أبي طالب
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أصول عقيدة هذه الأمة المباركة، التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ، كما وصفهم الله في قوله تعالى: وَ?لَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
وطاعة النبي في قوله: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)).
فهم يقبلون كل ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومناقبهم ومراتبهم، فمن أحبهم وأحسن الثناء عليهم فقد برئ من النفاق ومن كل طالح، ومن أبغضهم أو انتقص أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح، ومخاف عليه أن لا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعاً ويكون قلبه لهم سليماً، إذ ما منهم أحد إلا وله فضائل ومآثر لا تحصى، فبهم عُرف الحلال من الحرام، وبهم تميز الحق من الباطل، فكانوا بحق سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، بهم تحيا قلوب أهل الحق والإيمان، وتموت قلوب أهل الزيغ والخسران، فأنعم بهم من أصحاب أخيار ورجال أغيار، لذا وجب على أهل الإيمان في جميع الأمصار وعبر الأعصار أن يعرفوا لهم فضلهم ويرفعوا لهم شأوهم، لما لهم من قصب السبق في كل ميدان، ولما حازوا عليه من الفضل والإيمان.
وإن في ذكر نبذٍ من تراجم وسير هؤلاء الأصحاب، ما يثبت القلوب ويعين على التهذيب ويبعث على القدوة، وينفخ روح الحياة، وما حيي خلف إلا بحياة سلف، وما حياة السلف إلا بحياة تاريخهم ودوام ذكرهم.
هذا وكنا قد استعرضنا نتفاً من سيرة هؤلاء الرجال الأبرار، على غير قصدٍ منا في الترغيب والاختيار، وكان الحظ الأكبر في ذلك للرجال دون النساء، ولا يعني هذا تفرد الرجال بالمدح والثناء، وإنما باعتبار أن الكمال فيهم أكثر، وحيازة الفضائل من جانبهم أيسر وأوفر، ومع هذا فإن الكثيرات من نساء هذه الأمة بلغن في الفضائل والكمالات ما لم يبلغه رجال عبر الأجيال، كانوا في أعلى المراتب والمقامات.
وإذا جاز لنا أن نتحدث عن واحدة من النساء الفضليات، التي فاقت نساء العالمين في الخيرات والمكرمات، فليس لنا أن نتجاوز من كان حظها في السبق إلى تأييد الإسلام بالنفس والمال، والعطف والحنان، فأول مال وجده رسول الله هو مال خديجة وأول عطف وأول قلب انفتح لسماع كلمة النبوة هو عطف خديجة وقلب خديجة.
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، القرشية الأسدية، أم المؤمنين فخر النساء وزوج رسول رب العالمين، أول امرأة تزوجها، وأول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، تستأجر الرجال في مالها تضاربهم إياه.
ولما بلغها عن رسول الله ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فقبل النبي ذلك منها، وتاجر في مالها، فأضعف وأربح، ونمى مالها وأفلح.
وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة مع ما أراد الله من كرامتها، فعرضت نفسها على رسول الله ، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوجها رسول الله وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل إحدى وعشرين وقيل ثلاثين، وكان عمرها يومئذ أربعين سنة وقد تزوجت قبله برجلين، فولدت لرسول الله ولده كلهم إلا إبراهيم فإنه كان من مارية القبطية، وأكبر أولاده من خديجة القاسم وبه يكنى ، وعبد الله ويسمى الطاهر والطيب، وماتا قبل البعثة، أما بناته منها فهن رقية أكبرهن ثم زينب ثم أم كلثوم، ثم فاطمة وكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه ومن كرامتها عليه أنها لم يتزوج امرأة قبلها، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها ولحقت بربها، فوجد لفقدها، وحزن النبي حزنا لم يحزنه من قبل ولا من بعد حتى سمي ذلك العام بعام الحزن.
وكانت رضي الله عنها رابطة الجأش، عاقلة مصونة، ثبتت جأش النبي لما فاجأة الوحي أول مرة في غار حراء، فرجع إليها يرجف فؤاده، يقول لها: ((زملوني لقد خشيت على نفسي)) ، فتتصدى له كما يتصدى الجبل الشامخ للريح العاصف، وكلها رزانة وتعقّل، وصبر وتحمل، لم تُفقدها شدة الصدمة وعيها، ولم يسلبها هول الموقف عقلها، شأن نسائنا عند المصائب اليوم تخمش وجهها، وتنسل شعرها، وتشكو ربها، وتضيع أجرها، بل نطقت بالحكمة، وقامت بالخدمة، قالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
فخففت بهذه الكلمات الطيبات، ما كان يجده النبي في نفسه في ثوان معدودات، ولم يجف ريقها رضي الله عنها من هذا الكلام حتى انطلقت مسرعة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، تنقل له خبر ما وقع لزوجها، لأنه كان امرأ تنصر في الجاهلية يكتب الكتاب العبراني والإنجيل، فطمأنها بأنه رسول هذه الأمة وأن الوحي قد جاءه كما جاء لموسى ومن قبله من الأنبياء.
وهكذا كان لخديجة شرف الإسلام الأول، وشرف العلم بالوحي المنزل وشرف احتضانها لرسول الله بعد الأمر الذي نابه، وتخفيفها لشدة الوطء الذي أصابه، وكان هذا دأبها معه حتى ماتت، قال ابن إسحاق: (وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرّج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس).
وقد حفظ لها النبي هذه الخدمة الجليلة، فكان يذكرها بها بعد موتها، وبين معاشر أزواجه، يغار عليها ويبالغ في تعظيمها ويثني عليها، قالت عائشة: كان رسول الله إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يوماً، فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن! قالت: فرأيته غضب غضباً، أُسقِطتُ في خلدى، وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي ما لقيت، قال: ((كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني)) قالت: فغدا وراح علي بها شهراً. [السير 2/112 بسند حسن (الإصابة)].
وكان كثير الذكر لخديجة، لا يكاد يذكر لها عملاً وإن كان قليلاً، حتى يثني عليها خيراً ويقول فيها جميلاً، لا يمنعه من ذلك غيرة أزواجه لها، ومزاحمة عائشة عليها أحب النساء إليه بعدها، روى أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عائشة قالت: (ذكر رسول الله يوماً خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، أي لقد أبدلك الله بعجوز مسنة حمراء الشدقين - كناية عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها - بشابة بكر - تقصد نفسها - قالت عائشة: فتمعّر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذاباً.
ومن علامات تعظيمه لخديجة أنه كان يمضي عهدها القديم بعد موتها بين نسائه، ويسير بسيرتها المحمودة في علاقتها مع الأهل والجيران، وكأنها معه حاضرة كأحسن ما يعيش الزوجان، قالت عائشة: ما غِرتُ على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: ((إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد)).
وكم كان ينبعث من وجه رسول الله البشر والسرور، لما يحظى بزيارة صديقات لخديجة بعد أن لحقت بربها، فما هو إذا رآهن حتى يهتز له الخاطر ويطيب بذكرها، وتتحرك فيه الشجون عرفانا لفضلها وقدرها، خرج البخاري بسنده إلى عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله فعرف استئذان خديجة (أي شبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك) فارتاع (أي أصابه الروع أي الفزع والمراد أنه تغير سروراً بذلك) فقال: ((اللهم هالة)) (يهش لها ويقدح بقدومها).
وخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي وهو عندي، فقال لها رسول الله : ((من أنت؟ قالت: أنا خثامة المزنية، فقال: بل أنت حلسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله)) ! فلما خرجت قلت: يا رسول الله! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
وهكذا فإن الجزاء من جنس العمل، فإنها رضي الله عنها لما قامت بنبي الله الذي هو زوجها خير قيام، وأحسنت إليه بإنفاقها من مالها عليه، ولم تتبرم من معاشرتها له مع طول المدة، بل لم تُسمعه ما يؤذي من قبيح الكلام وسوء الفعال. بل آمنت به وصدقته وثبتته وربت أولاده وصبرت على ما يلقاه من أذى قومه أحسن إليها النبي بعد موتها بدوام ذكرها والاستغفار لها والثناء عليها، فهل عملت زوجات اليوم بأزواجهن ما يستحقن عليه الثناء والذكر الجميل؟! وهل خديجات اليوم التزمن الأدب فأمسكن لسانهن عن العيب والقبيح؟! ذلك رجاؤنا ويتوب الله على من تاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد دلت الآثار الواردة عن رسول الله على أن الفضل تتابع لخديجة، لسبقها إلى الإسلام، ولنصرتها وتثبيتها رسول الأنام، ولقيامها بحق الزوج أحسن قيام، وبشرها بالدخول إلى الجنة دار السلام، مما بوأها هذه المنزلة العالية والمكانة السامية عند رسول رب العالمين، وفي نفوس جميع المؤمنين، حتى صار من جملة عقائد هذه الأمة تولي أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله مع الإيمان بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاًَ خديجة أول من آمن به وعاضده على أمره.
هذه المرأة الطاهرة المصونة التي نسب إليها الكمال، لوفور عقلها وصحة عزمها وقوة يقينها واتصافها بكريم الخصال، فنالت بذلك شرف نساء العالمين، واحتلت صدارة الصف في أمة سيد المرسلين.
أخرج الترمذي وصححه والبغوي بإسناد صحيح عن أنس بن مالك أن النبي قال: ((حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأسية امرأة فرعون)) وأخرج الشيخان عن علي رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة)).
وهذا الحديث من جملة ما أشكل على أهل العلم في مسألة التفضيل، بين مريم وخديجة، وبين خديجة وعائشة، وبين خديجة وفاطمة.
وخير ما أجيب به على هذا الإشكال أن مريم خير نساء زمانها، وخديجة خير نساء زمانها.
أما تفضيل خديجة على عائشة فلأهل العلم فيه أربعة أقوال :
الأول: تفضيل خديجة على عائشة لهذا الحديث ولغيره ولأن لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها.
الثاني: تفضيل عائشة على خديجة لأحاديث ثابتة عنه منها قوله: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها.
الثالث: التوقف في المفاضلة بينهما باعتبار أن جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة ومال إليه ابن تيمية، وتلميذه الحافظ ابن كثير رحمهما الله.
الرابع: التفصيل وهو أعدل الأقوال وأصوبها بحيث أن لكل منهما مزايا لم تلحقها الأخرى فيها، ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت لخديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها في ذلك، وأما في وقت نزول الشرائع والأحكام وخاصة بعد موت الرسول فقد حصل لعائشة من نشر العلم وتعليم السنة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة، فلا يصح أن نفضل إحداهما على الأخرى تفضيلاً مطلقاً. بل نقول هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل. فلم نهدر ما لهذه من المزية وما للأخرى من المزية وعند التفصيل يحصل التحصيل.
ومهما يكن في مسألة التفضيل من أقوال، فإنه قد ثبت لأمنا خديجة من الفضل ما لم يزاحمها فيه أحد، ويكفيها من ذلك إقراء السلام عليها من رب العالمين، ومن جبريل صاحب الوحي الأمين وتبشيرها بالجنة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي ، فقال: ((يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت مع إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)).
وقد ذكر العلماء في شرح هذا الحديث عجائب تُثلج الصدر وتقر لها العين، أذكر منها ما قاله السهيلي ومن رام المزيد فعليه بما حرره صاحب الفتح.
قال: وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب يعني قصب اللؤلؤ المجوّف، لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان. (لا صخب فيه ولا نصب) والصخب: ارتفاع الأصوات واختلاطها، والنصب: التعب، وإنما قال: لا صخب فيه ولا نصب، لأنها رضي الله عنها لم ترفع صوتها على النبي ولم تتعبه يوماً من الدهر، فلم تصخب عليه يوماً ولا آذته بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها.
فرضي الله عنها وأرضاها، وجعل الجنة متقلبها ومثواها. وهكذا فلتكن النساء أو لا يكن، لا كما تكون عليه بعض نساء عصرنا وما أكثرهن، ترد الصاع صاعين، والكلمة كلمتين، وترد المليح بالقبيح، والحسنة بالسيئة، تكفر العشير، ولا ترضى باليسير، ترد الموجود وتتكلف المفقود، وربما وصل بها الأمر أن تضرب زوجها بعد العمر المديد كما تضرب الطفل الوليد، كما سمعت بأذني هاتين من تفعل ذلك بزوجها وهذا من عجائب الدهر، في وقت لا يستطيع أن يمنع نفسه منها إذا كشرت أنيابها وأبرقت عيناها بعد أن خارت منه قواه، وركبه العجز والعوز.
(1/1652)
صفات الكافرين في الدنيا وحالهم في الآخرة
التوحيد
نواقض الإسلام
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
24/2/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس مؤمن وكافر. 2- صفات الكافرين. 3- حال الكافر عند الموت وفي القبر. 4- حال الكافر في النار. 5- التحذير من سبل الكافرين ومن مشابهتهم. 6- التشبه الظاهر سبب للتشبه في الباطن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى، فتقوى الله نِعمَ المغنم، وإيثار الهوى بئس المغرم.
أيها المسلمون:
خلق الله الخلق بقدرته، فهدى من شاء بفضله، وأضل من شاء بعدله، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ [التغابن:2].
أوضح طريق السعداء، وأبان سبل الأشقياء، مدح المتقين، وذم الكافرين وحذر من صفاتهم، أبان في كتابه العزيز أعمال الكافر، وفسادَ معتقده، وسوء سلوكه وأخلاقه، ينكر البعث، ويستبعد قيام الساعة، لا يؤمن بالقضاء والقدر، يجزع عند المصاعب والمصائب، قطع الرجاء والأمل من الله، اليأس والقنوط من خصائصه، إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87].
في حديثه الكذب، بَلِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ [الانشقاق:22]. الكبر والغرور سجيته، قال عز وجل: إِنِ ?لْكَـ?فِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ [الملك:20]. عند الآيات والعبر والعظات يعرض، الحسد ملأ قلبه وفاض من عينه، يحسد المؤمنين على ما هم فيه من النعم، ويتمنى زوالها، مَّا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَلاَ ?لْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة:105].
من قبيح حسده يسعى لإضلالك لتحشر معه في جهنم وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. ذو مكر بالمسلمين بالليل، وخديعة لهم بالنهار، يسعى للإضرار بهم، وسلب النعمة منهم، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء [الممتحنة:2]. لاحت العداوة على صفحات وجهه وفلتات لسانه، يعض أنامله من الغيظ على المسلمين، تنطوي ضمائره على الشرور، وتكنّ سرائره البغضاء، يكيد للمسلمين كيداً، قال الله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:15-16]. يتظاهر بالأمانة وجميل الأخلاق وحسن الطباع، يلهث خلف منافعه، فضحهم الله بقوله: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. يظهر الكذب في الصدق، والخيانة في الأمانة يُرْضُونَكُم بِأَفْو?هِهِمْ وَتَأْبَى? قُلُوبُهُمْ [التوبة:8]. كثير الجدل بالباطل وإخفاء الحقائق، كيده ضد المسلم شديد، ولكن الله مبطل كيده، وَمَا كَيْدُ ?لْكَـ?فِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـ?لٍ [غافر:25]. الذلة والصغار محيطة به.
إن طاعة الكفار ذلة، ومعصيتهم عزة، قال الله عز وجل لرسوله : ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىّ ?تَّقِ ?للَّهَ وَلاَ تُطِعِ ?لْكَـ?فِرِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ [الأحزاب:1]. علمهم محصور في الدنيا، ومع هذا يقول شيخ الإسلام – رحمه الله -: "جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خللٍ يمنعها أن تتم منفعته بها، وكل أموره إما فاسدة وإما ناقصة" [1] ، وأما علم الآخرة التي هي الباقية، فهم بها جاهلون، يقول تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ?لآخِرَةِ هُمْ غَـ?فِلُونَ [الروم:7]. ويقول جل وعلا: وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111]. وأموالهم وأولادهم محنة عليهم، يعيش في حيرة وتيه، همته في الحياة التمتع والمأكل والمشرب، ومطعمه ومشربه منزوع البركة، القليل لا يشبعه، يقول النبي : ((الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمسلم يأكل في معًى واحد)) [2]. ليتعبَّد؛ ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه، وطعام المؤمن مبارك، يقول الرسول : ((طعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة)) [رواه البخاري] [3].
ولبُعد الكافرين عن نور الهداية هم أحزاب متفرقون، وفي آرائهم منقسمون، وفي أفكارهم مختلفون، يقول عنهم خالقهم جل وعلا: فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ?للَّهُ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:137]. والنزاع بينهم قائم إلى قيام الساعة بنص الكتاب المبين وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ [المائدة:64].
إنهم عند اللقاء جبناء، المسلم يغلب اثنين، قال الله تعالى: فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ?للَّهِ [الأنفال:66].
بالبخل يتواصون، وفي الإنفاق شحيحون، وعن إكرام الضيف متثاقلون، قال جل وعلا: ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـ?فِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً [النساء:37].
الكافر للخير مانع، وللسحت آكل، وللجميل ناكر، نِعم الله لا يشكرها، وآلاء ربه يجحدها، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ?للَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [النحل:83].
يعيش في الجهالات والأهواء والضلالات، لا يهتدي إلى منفذ، ولا يوفّق إلى مخرج، جوارحه التي هي سبب الهداية لم ينتفع بها، فقلبه أصم، وأذنه فيها وقر، وعينه عليها غشاوة، لا يسمع حقاً، ولا يبصر هدى.
الشياطين تؤزُّه إلى المعاصي أزاً، أقبل على تحصيل اللذات، وموافقة الهوى، فأصبحت أعماله هباءً، يعمل وعلى عمله لا يجازى، في الدنيا ينصب، وفي الآخرة يُعذّب، وربنا جل وعلا لا يحبه، وأخبر أنه سبحانه عدو للكافرين، وما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه الله رداء عمله، ((وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل: يا جبريل، إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض)) [متفق عليه] [4].
يقول الإمام أحمد – رحمه الله -: "إذا رأيتُ الكافر أغمضت عيني مخافة أن ترى عدو الله".
الجماد ينطق بكفره، والأراضي المباركة تنبذه في آخر الزمان، ((تقول الشجرة: يا مؤمن هذا كافر، ويقول الحجر: يا مؤمن هذا كافر)) [رواه أحمد] [5].
وإذا خرج الدجال ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج الكافر من مدينة المصطفى.
في البعد عن الله آلام نفسية، معاناة لآلام الذنوب، صدرٌ ضيقٌ حرج ٌ، وحرمان من لذة الإيمان والسكينة، اللعنة محدقة به، والغضب نازل عليه، إنهم شرّ من خلق الله، قال تعالى: أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ ?لْبَرِيَّةِ [البينة:6].
وأما عددهم فهم أكثر أهل الأرض، قال تعالى: وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [هود:17]. ويقول النبي : ((قال الله: يا آدم، أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)) [رواه البخاري] [6]. وفي لفظ: ((من كل مائة تسعة وتسعين)) [7].
وبموت الكافر يستريح العباد والبلاد، يقول النبي : ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب)) [رواه البخاري] [8].
يودُّ الكافر أن يعمّر في الحياة ألف سنة، فإذا حضره الأجل كرهه، فتضرب الملائكة وجهه ودبره لإخراج روحه، وإذا وضع في قبره ضيق فيه عليه حتى تختلف أضلاعه، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين، وفي لفظ: ((لو ضرب بها جبل لصار تراباً)) [9] ويفرش قبره ناراً، والعذاب متوالٍ عليه، فإذا قام من قبره للحساب، قام ووجهه أسود كالح، عليه غبرة، عابس باسر، تعلوه قترة، وقلبه واجس، وعيناه زرقاوان من الفزع، يحضر ويمشي بين الخلائق على وجهه، قال أنس رضي الله عنه: إن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!)). [رواه البخاري] [10].
والأغلال والسلاسل في عنقه، ويساق المجرمون مقرنين بعضهم مقيد إلى بعض، وهم في هذا عطاش ظماء، وهم صم بكم عمي، يتبرّأ منهم الأصدقاء، ويتبرؤون هم من الأصدقاء، فَمَا لَنَا مِن شَـ?فِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101].
طعامهم من الزقوم، وشرابهم الماء المغلي من الحميم، يتجرعه تارة، فيقطّع أمعاءه وأحشاءه، ويصب فوق رأسه أخرى، فيذيب جلده وما في بطنه، وهو في غمرات النيران يتلظى، يُعظَّم جسده وضرسه، مضاعفة في إيلامه، يقول النبي : ((ضرس الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) [رواه البخاري] [11]. وفي لفظ: ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) [12] جَزَاء وِفَـ?قاً [النبأ:26]. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وبعد أيها المسلمون:
هذه صفات الكافرين، وتلك خلالهم، وذلك جزاؤهم، قبائح مترادفة، وشنائع متتابعة، فاخشَ على نفسك من الوقوع فيها، يقول النبي : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل)) [رواه أحمد] [13].
واحذر مشابهة الكافرين، واسلك سبيل المتقين، وأدّ الصلوات المفروضة، وحافظ عليها في المساجد فمن تركها لحق بالركب المشؤوم، يقول المصطفى : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) [14].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] اقتضاء الصراط المستقيم (ص57).
[2] أخرجه البخاري في الأطعمة [5393] ، ومسلم في الأشربة [2060] من حديث ابن عمر ، وأخرجه البخاري أيضاً [5396] ، ومسلم [2062-2063] من حديث أبي هريرة ، وأخرجه مسلم كذلك [2062] من حديث أبي موسى ، ومن حديث جابر.
[3] أخرجه البخاري في الأطعمة [5392] ، ومسلم في الأشربة [2058] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق [3209] ، ومسلم في البر والصلة [2637] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد في مسنده [17443] من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [3348] ، ومسلم في الإيمان [222] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الرقاق [6529] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الرقاق [6512] ومسلم في الجنائز [950] من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.
[9] أخرجه أبو داود في السنة [4753] ، وأحمد في مسنده [18140] من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الرقاق [6523] ، ومسلم في صفة القيامة [2806].
[11] أخرجه مسلم في الجنة [2851] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في الرقاق [6553] ، ومسلم في الجنة [2852] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه مسلم في الإيمان [118] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] أخرجه الترمذي [2621] ، والنسائي في الصلاة [463] ، وابن ماجه في إقامة الصلاة [1079] من حديث بريدة رضي الله عنه ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد، أيها المسلمون:
المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة، ومشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين تزيد العقل والدين والأخلاق، والتشبه بغير المسلمين في الظاهر سبب في مشابهتهم في الأخلاق والأفعال الذميمة، وتورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، فخالف المشركين في سلوكهم ومذاهبهم، واحذر موالاتهم، ولا تتولّهم وأبغضهم وعادهم، وتبرّأ منهم، ومن دينهم، واعتزّ بدينك، واحرص على هدايتهم ودعوتهم إلى الإسلام.
وأكثر من الثناء عليه جل وعلا أن هداك، واسأله دوام الثبات واصدق مع الله يصفُو لك الحال، واسلل سخَم القلب يحبّك الخلق.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1653)
الاعتزاز بالإسلام
الإيمان
فضائل الإيمان
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبودية المسلم لله شرف له. 2- اعتزاز عبد الله بن أم مكتوم. 3- شرف جليبيب بالإسلام.
4- عزة عمر وهو يستلم مفاتيح بيت المقدس. 5- ضرورة تنشئة أبنائنا على الاعتزاز بالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: الإسلام هو الدين القيم الذي فيه صلاح البلاد والعباد، وهو أعظم المنن التي منّ بها الكريم الوهاب، وقد تكفل الله لمن سلكه بسعادة الدنيا والآخرة، فيه المبادئ السامية، والأخلاق العالية، والنظم العادلة. إنه الدين الذي ينبغي لنا أن نفتخر به، وأن نتشرف بالانتساب إليه، فمن لم يتشرف بهذا الدين ويفخر به ففي قلبه شك وقلة يقين.
إن الحق يخاطب حبيبه قائلاً: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]. أي: شرف لك وشرف لقومك وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بإخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
إن الشرف أن تكون من عباد الله الصالحين، وأن تعمل الصالحات وتجتنب المحرمات.
إن الشرف أن تدعو لهذا الدين، وأن تتبع سنة خير المرسلين ، لقد أدرك سلفنا الأول عظمة هذا الدين، فقدموا أنفسهم وأموالهم رخيصة لهذا الدين.
لقد كان الإسلام هو شرفهم الأول وغاية آمالهم، فهذا عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه الذي يقول له النبي : ((مرحباً بالذي عاتبني فيه ربي)) – لما أتى داعي الجهاد في سبيل الله، وارتفعت راية الإسلام، ونادى النفير للجهاد، فيقول له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، وذلك لقوله تعالى: لَّيْسَ عَلَى ?لاْعْمَى? [الفتح:17]. فيجيبهم: لا والله، والله يقول: ?نْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41].
فلما حضرت المعركة أعطوه الراية، وقالوا: إياك أن نؤتى من قبلك فقال رضي الله عنه: بئس حامل القرآن إن أتيتم من قبلي، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا فارس آخر من فرسان الإسلام العظام، الذين تربوا على يد محمد ، فقدموا للبشرية الشرف العظيم في انتمائهم للإسلام وتشرفهم به، إنه جليبيب رضي الله عنه، ذلك الصحابي الذي لم يكن يملك من الدنيا إلا الإيمان الذي ملأ قلبه، فأضاء له الدنيا.
جاء جليبيب إلى رسول الله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام لما رآه، وقال: ((يا جليبيب أتريد الزواج)) ؟ فقال: يا رسول الله، من يزوجني ولا أسرة عندي ولا مال ولا دار ولا شيء من متاع الدنيا؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني)) ، فذهب وطرق عليهم الباب، فخرج رب البيت، ورأى جليبيباً، فقال له: ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب، لا نسب ولا مال ولا دار، فشاروا الفتاة، فقالت: وهل نرد رسول رسول الله فتزوج بها.
وحضر النبي غزوة من الغزوات، فلما كتب لهم النصر قال النبي لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد)) ؟ قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال : ((لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه)) ، فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي فوقف عليه، فقال: ((قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه)) ، ثم وضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي ، ثم حفر له ووضع في قبره. [المسند: 4/422، مسلم: 4/1918].
فانظروا – رحمكم الله – إلى هذا الرجل الذي يفتخر به النبي ، ويضع ساعده الشريف وسادة له حتى يحفر له القبر إكراماً له، مع أنه من الفقراء في المال، لكنه من الأعزاء بالإسلام المتشرفين بالانتساب له.
إنهم عظماء؛ لأنهم عاشوا في كنف محمد.
واستمعوا إلى قصة عظيمة، إنها قصة عمر رضي الله عنه حينما خرج إلى القدس ليتسلم مفاتيح بيت المقدس – أسأل الله أن يعيده إلينا – يخرج عمر على حاله المعروفة، فيستعرض الجيش الإسلامي العظيم، ويقول قولته المشهورة: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. ثم يقترب من أبي عبيدة فيعانقه، ويبكي طويلاً، فيقول عمر: يا أبا عبيدة، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة ماذا فعلنا بعد رسولنا ؟ فيقول أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، تعالى نتباكى، ولا يرانا الناس، فانحرفا عن الطريق والجيوش تنظر إليهما، فاتجها إلى شجرة، ثم بكيا طويلاً رضوان الله عليهم أجمعين.
ترى هل سأل أحد منا نفسه ماذا فعلنا بعد رسول الله ؟ هل حافظنا على سنته؟ هل اتبعنا ملته؟ ألم نفرط أو نضيع؟ ومع ذلك لا نرى فينا باكياً.
اللهم إنا نشكو إليك قسوة قلوبنا، فارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام أتباع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام:
لقد عرف سلفنا – رضوان الله عليهم – أن الحياة إنما تصرف في مرضاة الله وطاعته، وأن عزهم في دينهم وتمسكهم به، وأن ارتباطهم إنما هو بالله الواحد الأحد.
حج هشام بن عبد الملك، فلما كان في الطواف رأى سالم بن عبد الله وهو يطوف وحذاؤه في يديه، وعليه ثياب لا تساوي ثلاثة عشر درهماً، فقال له هشام: يا سالم، أتريد حاجة أقضيها لك؟ قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليّ الحوائج وأنا في بيت من لا يُعوز إلى غيره؟! فسكت هشام، فلما خرجا من الحرم قال له: هل تريد شيئاً؟ قال سالم: أمن حوائج الدنيا أو الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. فقال سالم: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت حوائج الدنيا من الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟
إنه الإيمان الذي ربى القلوب على التعلق بالله والنزول في حماه والالتجاء إليه والاعتصام به.
إخوة الإسلام: هذه نماذج رائعة أذكرها لكم لكي يكون لنا فيها الأسوة والقدوة في التشرف بالإسلام، والاعتزاز به، والاعتماد على الله، والتوكل عليه، والسير على نهجه، والالتزام بسنة نبيه ، فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا الإسلام حق المعرفة، واسلكوا طريقه تفلحوا وتسعدوا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بالآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً... أما بعد:
إخوة الإسلام:
لكي ينشأ أبناؤنا على تعاليم الإسلام وشرائعه، يجب علينا أن نعظم شعائر الله في قلوبهم، يجب أن نربي أبناءنا على تعظيم الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأن نشعرهم بأن الخير من الله، ولا يدفع الشر سواه، وأن أمورنا إنما تكون بأمره سبحانه، فهو المتصرف كيف يشاء، وأن ننزل حاجاتنا به فهو المؤمل سبحانه، يأكل باسم الله، يخرج متوكلاً على الله، يدرس ابتغاء مرضاة الله.
كما يجب أن نعظم في قلوبهم القرآن الكريم حفظاً وتلاوة، ونشعرهم بعظمة هذا القرآن وما فيه من خير وسعادة.
ومما يجب أن يعظم في نفوسهم حب رسول الله ، وذكر سيرته وجهاده ورحمته وشفقته وشفاعته وإحسانه، وأنه الرحمة المهداة، وذلك بكثرة الصلاة والسلام عليه، وتقديم حبه على كل شيء.
إن المسئولية في هذا ملقاة على عواتق أولياء الأمور، فليتقوا الله في ذلك، وليحسنوا التربية حتى تخرج الثمار المباركة. اللهم وفقهم لما تحبه وترضى.
ثم صلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، فقد أمركم بذلك مولانا في محكم التنزيل فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1654)
التحذير من الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الإنسان وضعفه. 2- المتكبر ينازع الله في حق من حقوقه. 3- ذكر بعض مظاهر
الكبر. 4- عاقبة المتكبر في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: ينسى الإنسان في بعض الأحيان حقيقة نفسه، ينسى أنه خلق من طين، وأن أصله من سلالة من ماء مهين، وأنه خرج من مخرج البول مرتين، مرة عندما خرج من صلب أبيه، ومرة عندما ولدته أمه، وينسى أنه وإن حسن منظره وجمّلته ثيابه، أنه يحمل العذرة في باطنه، وينسى أنه مهما طال جسده وعظم، فإنه لا يستطيع أن يخرق الأرض، ولن يبلغ الجبال طولاً، وأن الشوكة تدميه، والذبابة تؤذيه، والأفعى تخيفه، وأن مصيره إلى الزوال ولو كشف عنه بعد موته لهالنا مرآه وحاله.
ينسى بعض الناس هذا كله، فيتعاظمون في أنفسهم، ويأخذهم العجب بأجسادهم وألوانهم وامتداد قاماتهم وجمال ثيابهم، فإذا هم يمشون في الأرض مشية الخيلاء المتكبرين، وينظر إلى الناس نظرة احتقار وازدراء، ويظن نفسه خير الناس وهو أرذلهم.
إن الكبرياء لله سبحانه فمن نازعه فيه، أو أراد أن يتكبر، فليعلم أنه من الخاسرين، واسمعوا إلى الحبيب ، وهو يقول: ((قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)) [أبو داود :4090].
والمتكبر من بني الإنسان على خطر عظيم؛ لأن التكبر يورث الموبقات، ويورد صاحبه المهلكات، فالكبر كثيراً ما يوقع صاحبه في العصيان والإصرار عليه، ويحول بينه وبين التوبة، وربما أوصله كبره إلى الكفر والعياذ بالله.
فهذا إبليس لعنه الله إنما أوقعه في المعصية الكبر، حينما أمره ربنا بالسجود، فاستكبر، فكان من الكافرين وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى? وَ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ [البقرة:34].
ومن مظاهر الكبر الإعجاب بالنفس، وهذا خلق من أسوأ الأخلاق وأقبحها، ومن مظاهره المرح والفرح، وقد نهى الله عن ذلك وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ?لأرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ?لْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37].
والمرح هو الاختيال والتبختر في المشي، وهما علامة الكبر في نفس صاحبهما، ولهذا يؤدب لقمان الحكيم ابنه بنهيه عن ذلك وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ?لأرْضِ مَرَحاً إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18].
أما الفرح فهو الذي يؤدي إلى الأشر والبطر، فهذا قارون تكبر لثرائه وكثرة أمواله، وخرج في زينته متبختراً متكبراً فرحاً بحاله، ولهذا قال الصالحون من قومه لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْفَرِحِينَ وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا [القصص:76-77].
الكبر عقوبته في الدنيا شديدة، وفي الآخرة عذاب عظيم، فأما في الدنيا فإن الله يطبع على قلبه، فلا يصل إليه الخير، ويسمع الحق، ولا يهدى إلى الهدى، قال تعالى: كَذَلِكَ يَطْبَعُ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. ويذله الله تعالى ويهينه ويعرضه للعذاب الأليم الذي يدمره ويسلبه نعم الله تعالى.
أخرجه الترمذي: (2000) بإسناد حسن عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال رسول الله : ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم)).
وأما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى حيث يحشر في صورة مهينة، ويحشر في صورة الذر يطؤه الناس بأقدامهم إذلالاً له. أخرجه الترمذي: (2492) بإسناد حسن صحيح عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولُس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال)) ، ومن غضب الله عليهم حرم عليهم الجنة.
أخرج مسلم: (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)). وفي رواية لأبي داود: (4091) قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان)).
ومن حرمت عليه الجنة فليس له إلا النار مصيراً ومرجعاً، أخرج أحمد: (2/215) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار)). نسأل الله السلامة من النيران ومن غضب الجبار.
والكبر في حقيقته هو بطر الحق وغمط الناس، وبطر الحق معناه رده وعدم قبوله ورفض الخضوع له والاحتكام إليه، وغمط الناس احتقارهم وانتقاصهم والاستهانة بهم.
ولضرر هذا الخلق الفاسد خلق الكبر فقد فاض رسولنا في بيانه والتعريف به والتحذير منه يقول : ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) [متفق عليه، مسلم: 2853].
ولم يأل رسول الله جهداً في بيان خطر الكبر وأثره وذكر بعض الأمثلة لحال المتكبرين ما لقوه، أخرج البخاري: (5789) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي : ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذا خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة)).
هذا رجل من الأمم التي قبلنا أعجبته نفسه، فخرج يمشي مختالاً بين قومه، يتهادى في مشيته، يجر إزاره من خلفه، فأغضب اللهَ ذلك الكبر، فخسف به الأرض، كما فعل بقارون من قبله، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
وهذا مثال آخر لحآل المتكبرين، أخرج مسلم: (2021) بسنده عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند رسول الله بشماله، فقال: ((كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر)) قال: فما رفعها إلى فيه.
أرأيتم كيف كان عقوبة الكبر، لقد أصيب بشلل في يده عقوبة له على تكبره وتعاليه، فما رفعها بعد ذلك إلى فيه إلى أن مات.
إخوة الإسلام: إن اللائق بالإنسان التواضع لخالقه، وهو في حاجة إلى رحمته في كل لحظة من حياته، وهو لا يجد في هذا الكون رازقاً إلا الله سبحانه، فالواجب الخضوع له وعدم التكبر، لأن الكبر لله سبحانه، فهو سبحانه المحيي المميت المالك الخالق، فمن نازع الله في ذلك فقد تعرض لعذاب الله وعقابه.
والملاحظ أن بعض أبناء الإسلام ما بلغهم حال المتكبرين ومآلهم، فسلكوا مسالك المتكبرين، وأحجموا عن قبول الحق، وغمطوا إخوانهم، واستخفوا بهم، واستهانوا بهم، ولم يروا الناس إلا أقل شأناً منهم، والسبب في ذلك أنهم أعجبوا إما بأموالهم، أو بأنسابهم، أو بمناصبهم، أو بقوتهم أو غير ذلك مما هو عرضة للزوال والذهاب، ويبقى الإثم والعقاب.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا مزالق الشيطان، فإنه لكم بالمرصاد، وتوبوا إلى الله، وأنيبوا له، وأروا الله من أنفسكم خيراً، فالسعيد من سلك طاعة الله، وترك عصيانه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وسلك بي وبكم طريق عباده الصالحين، وجعلني وإياكم من المتواضعين المتذللين لرحمة مولانا الكريم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
إن العجب هو سبب الكبر، ولكي يسلم الإنسان من هذا الداء، لابد له من الدواء، والدواء من هذا الداء يكمن في عدة أشياء:
الأول: تذكر النعمة، والعلم أن ما به من النعم هو من الله سبحانه، فواجب عليه شكر المنعم، وعدم نسيانه، فإن شكر فقد استبقى النعمة، وإن كان كفر وتكبر فقد استعجل العقوبة التي تحل به.
الثاني: أن يعرف الإنسان حقيقة نفسه، فمن عرف أنه من نطفة قذرة، وهو يحمل في بطنه العذرة، ونهايته جيفة قذرة، فإن تذكر هذا حجبه ذلك عن العجب والكبر؛ لأنه بماذا يتكبر، ويتكبر، بالقاذورات التي يحملها؟ إن الواجب عليه والحال ذلك أن يركن إلى التواضع.
الثالث: وهو العلاج الأهم أن يتذكر الآخرة ومآل الإنسان فيها، فإن كان من المتكبرين فإن مآله النار، وإن كان من الضعفاء المتواضعين فإن مآله الجنة. أخرج مسلم: (2847) في صحيحه سنده عن أبي سعيد الخدري قال رسول الله : ((احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما أنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وأنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها)).
فانظر – يا أخا الإسلام – إلى أي دار تشتاق وتتمنى. اللهم اجعلنا من أهل الجنان، وسلمنا من النار يا رحمن، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولاكم الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1655)
التحذير من النار
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس يهربون من الصيف فهل يهربون من النار. 2- تحذير النبي أمته من النار. 3- شيء
من صفة النار وأحوالها. 4- بعض الأذكار المنجية من النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: أقبل الصيف، وما أدراك ما الصيف! حر وعرق، شدة وكرب، الناس فيه من شدة الحر يفزعون إلى ظل ظليل، أو دار باردة، قد أشعلوا المكيفات، يطلبون بذلك الراحة وتخفيف الحر الذي أرهق الأبدان.
وواقع الناس في هذه الدنيا أنهم يهربون من حر الصيف هذا إلى الدار، وذاك بالاستعداد للسفر إلى الأماكن الباردة، وغير ذلك مما يخففون به لوعة الصيف وشدته، لكن السؤال هل فكر الناس في حر جهنم؟ هل استعدوا للسلامة منها؟ هل عقلوا ما حذرهم الله به منها وأمرهم بالوقاية منها لأنفسهم وأهلهم؟ يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إن نار الآخرة وحرها شديد، فعلى العاقل أن يتخذ من الأسباب ما ينجيه منها ويبعده عنها نسأل الله السلامة من النار.
إخوة الإسلام: إن مولانا سبحانه الرحيم بعباده يحذرهم من النار، ويخوفهم من الوقوع فيها والحبيب الحريص على أمته يؤكد لهم ذلك حتى يبتعدوا عنها ويكونوا من أهل الجنان، أخرج الترمذي: (2585) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قرأ هذه الآية: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [الأحزاب:102]. قال رسول الله : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه)). اللهم أجرنا من النار.
ويمضي النبي محذراً أمته من النار مستعرضاً بعض صور النار لتكون أوقع في النفوس، فتدفعها إلى البعد عنها وترك الأسباب الموصلة لها، أخرج الترمذي: (2591) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((أوقد على النار ألف سنة حتى أحمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أسودت فهي سوداء مظلمة)).
والنبي يلفت نظر أمته إلى نار الدنيا، وهي مع عظم شدة حرها وقوته فإنها أمام نار الآخرة صغيرة حقيرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ناركم هذه التي توقدون جزء واحد من سبعين جزء من حر جهنم)). قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: ((فإنها فضلت بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)) [الترمذي: 2589].
والحق أن العاقل لو تمعن في نار الدنيا وتفكر فيها، لهاله ما فيها من الحر، والمثل شاهد أمام الأعين، فإن الحريق الذي شب في منى العام الماضي أيقظ القلوب الغافلة، فأدركت أن النار عظيمة، لكنها لم تتفكر في نار الآخرة حتى تستعد للسلامة منها، فما أكثر العبر وأقل المعتبرين، واسمعوا إلى الحبيب وهو يصف لكم كيف يؤتى بجهنم يوم القيامة.
أخرجه مسلم: (2842) بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله : ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)).
وقد أخبر الحق سبحانه بأن لجهنم سبعة أبواب: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ ، وهذه الأبواب هي: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية.
ولهذا أخبر سبحانه أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ فِى ?لدَّرْكِ ?لاْسْفَلِ مِنَ ?لنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [النساء:145]. قال ابن عمر – رضي الله عنهما -: أشد الناس عذاباً المنافقون وآل فرعون، ومن كفر من أصحاب المائدة.
والنار قعرها عظيم يبين هذا رسول الله ، أخرج مسلم: (2844) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة – أي سقطة – فقال النبي : ((تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار حتى انتهى إلى قعرها)).
ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد) [الترمذي: 4/702].
وأما شرابهم فيها فهو الحميم، أخرج الترمذي: (2582) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمر من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان)).
وأما زبانية جهنم فإنهم تسعة عشر خازناً، على رأسهم مالك، والكفار وهم في النار يدعون مالكاً لما هم فيه من شدة النار وحرها وزقومها وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف:77].
قال الأعمش رحمه الله: نبئت أن بين دعائهم ويبين إجابة مالك إياهم ألف عام، قال: فيقول: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـ?لِمُونَ [المؤمنون:106-107]. قال: فيجيبهم: قَالَ ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]. قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والحسرة والويل. [الترمذي:4/ 708].
والحر الذي يحس به الناس في هذه الدنيا إنما هو نفس من أنفاس نار الآخرة، أخرج الترمذي: (2592) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((اشتكت النار إلى ربها، وقالت: أكل بعضي بعضاً، فجعل لها نفسين: نفساً في الشتاء، ونفساً في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم)).
والنار لا تزال تطلب وتطلب، إنها تطلب أهل الكفر والإلحاد، أهل الزيغ والفساد، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
إنها دار المنكرين، إنها دار الجبارين، إنها دار العصاة المارقين: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ?مْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30].
وأهل النار خلود فلا موت، وأهل الجنة خلود فلا موت، أخرج مسلم: 2849 بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال رسول الله : ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، قال: ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون، وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح، قال: ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) ، قال: ثم قرأ رسول الله : وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ?لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ?لأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وأشار بيده إلى الدنيا.
إخوة الإسلام: انتبهوا من غفلتكم، واستيقظوا من رقادكم، واحذروا مما حذركم الله منه ورسوله، وخافوا مما خوفكم الله ورسوله، واحذروا النار، واسلكوا من الأسباب ما يبعدكم عنها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ هَـ?ذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ سَبِيلاً [المزمل:19].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم أجرنا من النار، اللهم سلمنا من النار، اللهم اجعلنا من أهل الجنان، وتفضل علينا بما تفضلت به على عبادك الأبرار أجمعين. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... أما بعد:
إخوة الإسلام:
الحبيب المصطفى والنبي المجتبى الحريص على أمته الرؤوف بها يرشدها إلى ما تفعله لتسلم من النار، ويدلها على الالتجاء إلى مولاها بالدعاء والتضرع، سائلة إياه الفوز بالجنة والسلامة من النار، أخرج الترمذي: (2772) بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله : ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار)).
ولهذا احرص – أخي المسلم – على هذا الدعاء في كل أوقاتك، بل إنه ليعلم أمته دعاء آخر، تقوله في الصباح والمساء لتسعد في الآخرة بدخول الجنان، أخرج أبو داود: (5079) بسنده عن مسلم بن الحارث عن رسول الله أنه أسر إليه فقال: ((إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك، ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك، فإنك إذا مت في يومك كتب لك جوار منها)).
اللهم أجرنا من النار، وتفضل علينا بالجنان برحمتك يا عزيز يا غفار، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1656)
التحذير من دعوة الجاهلية
الإيمان
الولاء والبراء
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأخوة في الدين هي آصرة التجمع بين المسلمين. 2- درس نبوي في صرف العصبية
الجاهلية. 3- ذم التفاخر بالآباء. 4- الناس لآدم وآدم من تراب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: لقد حرص الإسلام على إقامة العلاقات الودية بين الأفراد والجماعات المسلمة، ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب، وجعل الأساس لذلك أخوة الإيمان، لا نعرة الجاهلية ولا العصبيات القبلية، ورسولنا أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى، فها هو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وأخذ ينمي هذه الأخوة، ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [مسلم (45)، البخاري (13)]. وقوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [مسلم (2586)]. إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقوي هذه الرابطة.
ولقد أينعت هذه الأخوة وآتت أكلها أضعافاً مضاعفة، وكان المسلمون بها أمة واحدة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، فكانوا قوة يوم اعتصموا بحبل الله المتين، ولم تلن لهم قناة لمغامز الأهواء المضللة والأنانيات الفردية.
لكن أعداء الإسلام لم يرق لهم هذا التماسك بين المسلمين، فحاولوا إثارة النعرات القبلية، والعصبيات الجاهلية، وجاهدوا لتمزيق وحدة المسلمين أمما وجماعات، فنجحوا في ذلك، واستجاب ضعاف الإيمان من أبناء الإسلام لهذه المكيدة، فأثيرت النعرات وعادت العصبيات الجاهلية وأصبح الافتخار بالقبيلة التي ينتمي إليها وباللون الذي يحمله أو الأحزاب التي يأوي إليها، وضعفت الأخوة الإيمانية، وقويت العصبية الجاهلية التي حذرنا نبينا منها، وأمرنا بالبعد عنها وعدم الركون إليها.
[أخرجه مسلم (2584)] بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي في غزاه، فكسع رجل من المهاجرين – أي ضرب – رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال رسول الله : ((ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة)).
نعم إنها منتنة كريهة قبيحة مؤذية؛ لأنها تخرج الإنسان من أصله الكبير، أخوة الإيمان إلى أمر حقير ذليل، إنها الأنانية القبيحة التي تظهر في هذه العصبية؛ لأنها تحيل إلى أمر قبيح نهاهم عنه نبيهم ، وأعلمهم أنه منتن، وهو الصادق المصدوق.
إن الافتخار بالآباء والاعتزاز بالانتماء القبلي قد يدفع المرء إلى النار التي حذرنا الله منها، ذلك أنه قد يفتخر بالكفرة من آبائه وأجداده، وما دفعه لذلك إلا العصبية الجاهلية، وتعالوا بنا نسمع هذا الحديث الذي [أخرجه أحمد (5/128) بإسناد صحيح] عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: انتسب رجلان على عهد رسول الله فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك. فقال رسول الله : ((انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان حتى تسعة، فمن أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، قال: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: أن هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي إلى تسعة من النار، فأنت عاشرهم، وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة)).
لقد لقن رسول الله هذا المفاخر بآبائه درساً يردعه، ويردع أمثاله عن هذا الباطل، فقد حدثهم أن رجلين من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام اختلفا وتنازعا فافتخر أحدهما بالآباء العظام، وعدد تسعاً من آبائه، ثم واجه صاحبه محقراً موبخاً له قائلاً: فمن أنت لا أم لك؟ إن افتخاره بآبائه واحتقاره لمخاطبه يدل على مرض خبيث كان يسري في كيان هذا الرجل وأمثاله، فهو يرى أن أصوله تعطيه قيمة ترفعه على غيره، وتجعله يمتاز بأولئك الآباء، وأن غيره ممن لا يشاركه في تلك الأصول لا يستحق أن يساوى به، ولذا فهو في مرتبة دونه، وقد كان الرجل الآخر صالحاً، فقال منتسباً: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، رفض أن يمدح نفسه بغير هذا الدين القويم الذي يفتخر به كل عاقل حصيف، وهذا يذكرنا سلمان الخير، سلمان الفارسي – رضي الله عنه – لما سئل عن نسبه قال: أنا ابن الإسلام. ولما بلغ عمر مقولته هذه بكى، وقال: أنا ابن الإسلام.
إن الفخر بالآباء أو القبيلة أو بالعصبية الجاهلية مع غمز الآخرين والطعن فيها، وأنهم لا يساوونه في النسب مرض فتاك قاتل، يخبث النفس، ويشعل العداوة، ويفرق الجماعة، ويوجد البغضاء والعداوة بين أفراد المجتمع الواحد، وقد يؤدي إلى تمزيق المجتمع وجعله أحزاباً وطوائف.
لقد اشتد النبي في محاربة هذا الداء العضال، ونهى أمته عن الوقوع فيه، وبين لهم حقيقة أمرهم ليكونوا على بصيرة من ذلك. أخرج الترمذي (23955) بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((لينتهن أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية – أي كبرها ونخوتها – إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب)) إنه تحذير نبوي كريم من آثار الجاهلية التي جاء الإسلام ليحطمها، ويقيم عليها البناء الشامخ القوي. إنها أخوة الإسلام التي لا ترقى إليها العصبية، ولا تؤثر فيها الجاهلية.
إخوة الإسلام: ولقد ترعرعت العصبيات في هذا القرن، وتعددت وفرقت جماعة المسلمين، وأصبحت معولاً لهدم الأمة الإسلامية، لقد فشت في المجتمعات الإسلامية العصبيات القومية والقبلية والإقليمية، بل والعصبية المبنية على اللون والجنس، واشتعلت هذه العصبيات واكتوى الناس بنارها، وذاقوا منها المر والعلقم، وأوقعهم في ذلك تركهم للنهج النبوي الكريم الذي حذرهم فيه من الجاهلية، وأعرضوا عن أمر ربهم حينما أمرهم بالأخوة الإيمانية إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
فعودوا – إخوة الإسلام – إلى الدين الحق والمنهج القويم، فإن الإنسان إنما يسعد بحبه لأخيه، وإيثاره له، ويشقى بالفرقة الاختلاف والتنازع والعصبية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يأَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، وارزقنا الاتباع لسنة خير المرسلين، واجعلنا متآلفين متحابين، وحقق بيننا أخوة الإيمان على النهج المستقيم. أقول ما تسمعون واستغفروا الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
حقيقة عظمى يجب على الناس أن يعوها، هذه الحقيقية كون البشر جميعاً من أصل واحد، إن هذه الحقيقة يجب أن تكون القاعدة التي يتعامل الناس على أساسها، لكن هذه الحقيقة قد تغيب عن العقول والقلوب، فترى البشر على مستوى الأفراد والأسر والمجتمعات يبغي بعضهم على بعض، ويزعم كل فريق أنه الأفضل والأكمل والأحسن، ويرد هذا الفضل إلى جنسه أو لونه أو مدينته أو قبيلته، وتراه – بناء على ذلك – يمدح من ينتسب إليهم، ويعتز بهم، ويذم غيرهم، ويصفهم بالأوصاف القبيحة التي لا تليق بالإنسان فضلاً عن المؤمن.
إن اعتزازه هذا إنما يقوم على العصبيات الجاهلية القائمة على أصول عفنة قذرة، قال عنها الرحمة المهداة: ((دعوها فإنها منتنة)) لكن بعض الجهلاء تأبى نفوسهم المريضة إلا العيش في العفانة. إنها تأبى أن تعيش في الطهر والصفاء والنقاء.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واربؤوا بأنفسكم عن النعرات الجاهلية والافتخار بالأنساب والألقاب، فإن الفخر الحقيقي والنسب الناصح هو الإسلام، فبه نحيا، وعليه نموت، وإليه ننتسب.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1657)
الترغيب في الاعتكاف
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتكاف نوع من الاستجمام من كفاح الحياة. 2- فضل الاعتكاف وآثاره. 3- الحرص
على قيام الليل في عشر رمضان الأخير. 4- بعض حكام الاعتكاف. 5- العمل على اغتنام
ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: النفوس تحتاج إلى راحة واستجمام من كفاح الحياة ومشاغلها وهمومها وكروبها، والناس تختلف نوازعهم ومشاربهم في وسائل الاستجمام، والكثير من البشر يعتبرون النزهة والسفر خير وسيلة ينفسون بها عن كدهم وكدحهم، ويسترجعون بها قواهم، والراشد الناصح يجد أن خير وسيلة يستجم بها ويعيش في رحابها هادئاً مطمئناً هو ذكر الله تعالى: أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]. والسعادة التامة عنده تكون بالإيواء إلى بيوت الله وأحيائها بالصلاة والذكر والاعتكاف، ففي رحاب بيوت الله يستلذ المؤمن بمتع لا نظير لها، ويخلد إلى راحة لا مثيل لها، ويخرج من كربه سالماً منعماً بالرضا والتسليم، يفصح عن ذلك المعصوم قائلاً: ((صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته، وفي سوقه خمساً وعشرين درجة، ذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم أرحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)) [مسلم:649].
وفي كنف الصلاة يأوي المرء إلى ركن شديد يعصمه من الزلل ويعينه على نوائب الدهر ويهديه إلى سواء السبيل يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِين [البقرة:153].
وإذا كان المشي إلى الصلاة وانتظار الصلاة يرفع المرء إلى مقامات عالية ودرجات رفيعة، فإن المكوث في المساجد والاعتكاف فيها أياماً وليالي يرقى بالعبد إلى درجة الفلاح، يقول - والحديث في إسناده ضعف -: ((ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)) [الطبراني الأوسط:7322].
والاعتكاف بالمساجد ولزوم الطاعة فيها يسمو بالمرء إلى مصاف الملائكة المقربين الذين لا يفترون من عبادة الله، والمعتكف بذكره لله يكون قريباً من مولاه، ويحظى بالسعادة والهناء. أخرج مسلم: (2675) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي وأنا ومعه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن اقترب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)).
ومع هذا القرب من الرب للعبد فإن مولانا سبحانه يفرح من وصال عبده، فيتبشبش له، ويخلع رضاه عليه. أخرج ابن ماجه: (800) إسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما توطن رجل مسلم المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش أهل الغائب لغائبهم إذا قدم عليهم)).
ولزوم المساجد وحبس النفس على الطاعة في زمن الوصال وفي الأيام المباركة التي نحن نعيش في نسمات أيامها القادمة، تمنح المرء نفحات يعجز عن إدراكها وفضلها يقول : ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [مسلم:759].
ومن أجل هذا المغنم الزاخر كان الرحمة المهداة يحرص حرصاً شديداً على إحياء ليالي رمضان ولزوم المسجد، ولا سيما في العشر الأواخر، وكان حرصه واجتهاده يفوق التصوير والتعبير، تصف ذلك أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – فتقول: (كان رسول الله إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) [البخاري:2024].
وقد لا يتسنى للمؤمن ولا يتيسر له هذا الاجتهاد المضاعف، أو قد تتقاعس الهمم عن ذلك، فإن الشارع لم يترك موجباً وعذراً في اغتنام الأيام المفردة من العشر الأواخر تداركاً للفضل ولحوقاً بالركب السائر إلى الخير، يقول : ((ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [البخاري:2014]. فمن منا بعد هذا – يا عباد الله – لا يتشوق إلى هذا الجزاء، أو تتقاعس به الهمة عن إدراكه إلا من كتبت عليه الغفلة واستجاب لهوى النفس.
ولما كان الاعتكاف فضله عظيم جاء الشارع الحكيم، فوضع من الأحكام ما يحفظ المعتكف من التلف، ووضع له الضوابط التي تحرسه من الزلل. أخرج أبو داود: (2472) بسنده عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: (السنة على المعتكف ألا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد منه).
وإذا كان الشارع يحتاط لهذه العبادة بهذه الضوابط والحصون فيأمر باجتناب الفضائل المأمور بأدائها في سائر الأيام، فمن الغبن أن يقطع العبد ليلة في بيوت الله ساهراً على كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، كلاماً لا يرفع درجة ولا يحط خطيئة.
إن المرء إذا كان يخشى على نفسه من تضييع حسناته عند الاعتكاف، فإن الأحرى به أن يلزم المسجد في مكان لا يأتيه أحد يشغله عن مناجاة ربه والوقوف على بابه بتضرع وتأدب ودعاء والتجاء، فإن العاقل يعلم أن السفر طويل، وأن الزاد قليل، والكيس من اغتنم هذه الفرصة وذاك الاعتكاف، فجنى الخير الكثير، فإن الله تكفل لمن يلزم المسجد لطاعته بالجنة والنعيم، فعن رسول الله ، الترغيب للمنذري: (494)، قال: ((المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة)).
فاتقوا الله عباد الله، واقصروا أنفسكم على الطاعة في زمن الوصال تفوزوا بالسعادة في الدارين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:40-41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... أما بعد:
إخوة الإسلام:
المرء متطبع بالظهور في المجالس الخاصة والعامة بمظهر لائق أنيق، وبيت الله أولى بهذا المظهر وتلك الأناقة، ولا سيما في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر فيتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه؛ لأن المرء يعيش في مجالس تغشاها الملائكة، وخير ما يفعله المرء في هذه الليالي المباركة الإكثار من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء، وأن يلح في الدعاء، فإن مولانا يحب الملحين، وليكثر في دعائه من طلب العفو والعافية، فإنها خير ما أعطيه المرء.
وهذا حبيب الحق يعلم أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – ما تقول إن وافقت ليلة القدر، فقال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)). اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
وأي شيء أعظم من عفو الله عن عباده، إنه الفرج والمخرج من أسر الأوزار، ومن رق الذنب إلى حرية الرحمة والغفران، فاحرصوا عباد الله على اغتنام أيامكم هذه، وألحّوا في الدعاء، واصدقوا في الالتجاء، فإن الله كريم حنان، يعطي الكثير، ويقبل القليل، والمغبون من حرم هذا الخير الكثير.
(1/1658)
الحب في الله
الإيمان
الولاء والبراء
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحب والبغض طبيعتان في الإنسان. 2- كثير من أعمال الإنسان مصدرها الحب والبغض.
3- الميزان الشرعي للحب والبغض. 4- المجتمع الإسلامي يقوم على آصرة الحب في الله.
5- فضل عبادة الحب في الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: للإنسان في هذه الحياة حاجات يود قضاءها، ومطالب يرجو نوالها، ومصالح يتمنى نجاحها، وله أيضاً ميول ورغبات وشهوات يحاول إرضاءها وإشباعها والتمتع بها، وكل من ساعده على قضاء حاجة أحبه، ومن وافقه على هواه مال إليه، ومن خالفه في مصلحة، أو صادمه في أهوائه كرهه وأبغضه.
فالحب والبغض من طبيعة الإنسان، ومن صفاته المتأصلة فيه، لا مفر منهما، ولا عاصم عنهما، ولن يخلو إنسان من حب أو بغض، فقد وجد الحب مع أبينا آدم عليه السلام، وكان الحب والبغض بين أولاده سبباً في قتال قابيل وهابيل، وشربت الأرض دم أول قتيل نتيجة حب القاتل لحسن حظ المقتول، فتولد البغض لأخيه الذي أنتج القتل وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـ?ناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ?لاْخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ إلى قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [المائدة:27-30].
فهكذا يتسلط الحب والبغض على النفس، فتصدر الأعمال والأقوال تبعاً لهما، يصدر عن الحب الائتلاف والمودة والتعاون والرحمة، فتسعد الجماعات والأمم والأفراد، ويصدر عن البغض القطيعة والهجران والتفرقة والاختلاف والخذلان والقسوة والشدة، فتفرق الجماعة وتفسد الأمم، وكثيراً ما يسير الإنسان وراء هواه في حب الناس وبغضهم، ويحكم أغراضه في الرضا عنهم أو كرههم، ولا يوجه حبه وبغضه في وجه الحق والدين والعقل.
لهذا كله وضع الإسلام ميزاناً للحب والبغض، وحد حدوداً للرضا والسخط، حتى لا تضيع الحقوق، ويفنى الأفراد بين حب أعمى وبغض عقيم؛ لهذا يضع الإسلام الميزان الحق في الحب والبغض، يمنع شرهما، ويجعلهما سلاحين من أسلحة الحق والعدل وإسعاد الأفراد والأمم.
فالميزان الحق في ذلك أن يكون حبك وبغضك لله، فأنت تحب لله وتبغض في الله، تحب المؤمنين الصالحين، وتبغض الكافرين المفسدين، تحب أولياء الله، وتبغض أعداء الله، تحب من أحب الله ولو خالف آراءك وتبغض من يبغضه الله ولو وافقك أحياناً، يقول : ((من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) [أبو داود:4681].
والإسلام يربط أتباعه برباط الحب الذي يوجد المجتمع المتحاب، ورسول الله يعلن عن الوسائل التي تقوي هذا الحب، وتزيده، أخرج مسلم في صحيحه عن رسول الله قال: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم! أفشوا السلام بينكم)).
وقديماً قيل: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
والحب في المجتمع الإسلام يقوم على الإخلاص لله، لا رياء ولا نفاق، ولا مصالح دنيوية تربط بين هؤلاء، إنه الإخلاص لله وحده لا شريك له، والحق أن الحب إذا شابته أغراض فإنه ينتهي كما بدأ كحب الشيطان الذي يوقع الإنسان في معصية الله ويزين له ذلك، وكحب اللسان من غير تمكين من القلب.
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
ولهذا نجد أن النبي يعلم أتباعه حلاوة الحب لله، ويبين لهم الأثر المحمود لهذا الحب، أخرج البخاري ومسلم (43) عن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
الحق أن المسلم إذا أحب لله ذاق أثر ذلك في نفسه من الراحة والاطمئنان، ونال في الآخرة الأجر العظيم الذي أعد الله للمتحابين فيه، ولهذا حرص الإسلام على القواعد التي تجعل هذا الحب واقعاً ملموساً يعيشه المسلم، ويستظل به في هذه الدنيا، يقول : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [أبو داود والترمذي].
إنه توكيد لهذا الحب وإعلام للغير به حتى لا يكون هذا الحب من طرف واحد.
إن الإسلام يشيع الحب بين أتباعه حتى يكون المجتمع متآلفاً، أخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي ، فمر رجل به فقال: يا رسول الله، إني أحب هذا، فقال له النبي : ((أأعلمته)) ؟ قال: لا، قال: ((أعلمه)). فلحقه، فقال: إني أحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له.
والحب ليس كلمة تقال، وإنما هو واقع يعيشه المحب لحبيبه، نصح وإرشاد، بذل وعطاء، تضحية وإيثار، تفقد ودعاء، إنها معانٍ عظيمة تظهر على المتحابين، ولهذا لما كان هذا العمل عظيماً كان الجزاء عليه كبيراً من الرحيم الرحمن.
ففي الحديث الصحيح المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله، منهم: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه)) ، وتفرقا عليه، ويستمر العطاء الرباني لهؤلاء المتحابين، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للذين يتحابون ويتجالسون ويتزاورون ويتبادلون في)) [الطبراني: 153، 20/81].
وأما في الآخرة، فإن الناس تغبطهم لهذا النعيم الذي هم فيه، أخرج ابن حبان: (573) بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((أن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء يغبطهم الأنبياء والشهداء)) قيل: من هم لعلنا نحبهم؟ قال: ((هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) ، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62].
اللهم اجعلنا منهم، وألحقنا بهم، واجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام: ألا هل من مشمر منا لهذا، ومبتغٍ إلى ذلك سبيلاً، إن الحب لله أجره عظيم، فهلا أعلم بعضنا بعضاً إن كان يحبه لله حتى يحظى بهذا الأجر، إن بعضاً منا يحب أخاه في الله لكنه يتحرج من ذلك خشية أن يلقى صدوداً أو غير ذلك، لكن السلف رضوان الله عليهم كانوا لا يتحرجون من ذلك، بل يعلمون من أحبوه بهذا الحب حتى ينالوا الأجر من الله.
أخرج الطبراني: (150) بإسناده عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا بفتى براق الثنايا طويل الصمت، وإذ الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقيل: معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، وقلت: إني والله لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال فأخذ بحبوة ردائي، فجبذني إليه، وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله يقول: ((قال الله: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ)). اللهم اجعلنا منهم.
فاتقوا الله عباد الله، واسلكوا نهج رسول الله تفلحوا، وتسعدوا في الدنيا والآخرة. اللهم اجعلنا ممن أحب فيك، اللهم اكتب لنا حبك وحب من يحبك، وألهمنا حبك وحب رسولك وحب المؤمنين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
لقد أقام الإسلام المجتمع الإسلامي على المحب والوئام بعد أن كان الناس أعداء في شحناء وبغضاء وخصام، وقد ظهر هذا الحب العظيم في المحبة التي غرسها رسول الله بين المهاجرين والأنصار، تلك المحبة التي عجزت الدنيا أن تأتي بمثلها إلا في الإسلام وبالإسلام، لقد وصلت المحبة بينهم أن يعرض الرجل التنازل عن إحدى زوجتيه بطلاقها حتى يتزوجها أخوه المهاجر.
إنه الإيثار الذي وصف به القرآن هؤلاء الرجال رضوان الله عليهم، وجدير بالخلف أن يسلكوا مسلك السلف الصالح، وأن نقيم مجتمعنا هذا على المحبة والوئام والسلام، وأن نخلع من نفوسنا بذور الشقاق والخصام، وليكن لنا في الحب في الله المسلك الأمثل لتحقيق هذه الغاية المباركة.
ألا هل من مشمر لهذا؟ اللهم نعم. اللهم اجعلنا متحابين متآلفين متزاورين متباذلين فيك يا أرحم الراحمين، ثم صلوا وسلموا على الشافع المشفع نبي الرحمة، فقد أمركم بذلك مولانا الرحمن، فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1659)
الشفاعة العظمى له
قضايا في الاعتقاد
الشفاعة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الشفاعة. 2- شروط الشفاعة. 3- الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم. 4-
حديث الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: الشفاعة هي الوسيلة والطلب، وهي سؤال الخير للغير، وهي سؤال التجاوز عن الذنوب، ولابد لها من توافر شرطين:
الأول: إذن الله تعالى للشافع.
والثاني: رضى الله تعالى عن المشفوع له.
قال تعالى: وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ لاَ تُغْنِى شَفَـ?عَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ?للَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى? [النجم:26].
والشفاعة يوم القيامة منها ما هو خاص برسل الله ، ومنها ما هو عام له ولإخوانه من الأنبياء، والعلماء، والشهداء، والملائكة.
وأهل السنة والجماعة – جعلني الله وإياكم منهم – يؤمنون أن النبي يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع في المذنبين من أمته، فيخرجهم من النار بعدما احترقوا. [أصول السنة:172].
والشفاعة العامة هي شفاعته لجميع الخلق في ذلك اليوم العظيم، وتسمى الشفاعة العظمى، وتسمى الشفاعة الكبرى، وهي شفاعة عامة تعم جميع أهل الموقف على مختلف أديانهم، وبهذه الشفاعة يتخلصون من أهوال الموقف وكرباته وشدته وطوله.
أخرج مسلم: (2864) في صحيحه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل)) ، قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه)).
اللهم اجعلنا في ذلك اليوم العظيم تحت ظل عرشك.
وفي رواية لمسلم: (2863): ((إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم)).
في هذا اليوم المهيب الذي يتمنى فيه الكافر أن ينقضي أمره ولو إلى النار لما فيه من أهوال وكربات، تأتي شفاعته ، وهي المقام المحمود الذي يبعثه ربه، قال تعالى: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79].
وإنما سمي محموداً لأن أهل الموقف كلهم، برهم وفاجرهم، سعيدهم وشقيهم، يحمدون رسول الله ، ويثنون عليه لما يشفع لهم من أهوال الموقف، فحين يطول ذلك عليهم، ويشتد، ويمتد، يلتمسون شفيعاً لهم ينقذهم من ذلك الهول، ويخرجهم من تلك المضايق، فيفزعون إلى أبيهم آدم عليه السلام، ثم إلى نوح عليه السلام، وكل من الرسل يعتذر، ثم وثم، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الحبيب الأكرم الذي أهله الله تعالى لذلك المقام، وأكرمه به.
أخرج البخاري ومسلم – واللفظ لمسلم: (194) – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله يوماً بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تُعجبه، فنهس منها، فقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسمعهم الداعي، وينفُدُهُم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم، فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله – وذكر كذباته – نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى ، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، - ولم يذكر له ذنباً – نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد.
فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى)).
اللهم من الباب الأيمن فأدخلنا، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام: هذا الحديث العظيم يبين هيئة ذلك اليوم، وما يكون فيه من الشدائد والكرب، حتى أن الأنبياء عليهم الإسلام يقولون في ذلك اليوم: ((نفسي نفسي)) ، ويبرز سيد الخلق، حبيب الحق ليشفع في ذلك الموقف العظيم، وانظروا – رحمكم الله – كيف إنه لما يعطى الشفاعة يقول: ((أمتي أمتي)) ، صلى الله على الرؤوف الرحيم، المبعوث رحمة للعالمين.
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وسارعوا إلى ما يقربكم إلى الله، ويخفف عنكم ذلك اليوم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لّلْكَـ?فِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ ?للَّهِ ذِي ?لْمَعَارِجِ تَعْرُجُ ?لْمَلَئِكَةُ وَ?لرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَ?صْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:1-7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم ارحمنا يوم العرض، وارحمنا تحت الأرض وارحمنا في كل موقف من مواقف يوم القيامة، اللهم أدخلنا الجنة بسلام، واجعلنا من الذين سبقت لهم منك الحسنى وزيادة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... أما بعد:
إخوة الإسلام:
من رحمة الله بعباده أن هيأ لهم أعمالاً من عملها في دار الدنيا وجد ثمرة ذلك يوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الناس، وتدنو الشمس من الخلائق، وهؤلاء في أمن وسلام تحت ظل عرش الرحمن، جعلني الله وإياكم منهم.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
وممن يلحق بهؤلاء من أنظر معسراً أو وضع عنه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أنظر معسراً، أو وضع عنه، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)).
فاتقوا الله عباد الله، واسلكوا من الأعمال ما يقربكم إلى الله، ويقيكم من سخطه وعذابه، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1660)
العدل بين الأولاد
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأبناء عطية وهبة من الله. 2- أنبياء الله يسألونه الولد الصالح. 3- مسئولية الوالدين في
التربية. 4- العدل بين الأولاد ضرورة اجتماعية وفريضة شرعية. 5- تفضيل بعض الأولاد
سبب للحقد والعداوة. 6- البعض يحرمون بناتهم من الميراث وسواه من الحقوق. 7- قصة
والدي النعمان بن بشير. 8- جزاء العدل في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبتي في الله: الأبناء هم عدة المستقبل ورجال الغد، وهم ثمار القلوب وعماد الظهور، وفلذات الأكباد، حبهم مغروس في النفوس، فالمرء يرى فيهم مستقبله المشرق وامتداده الطبيعي بعد الوفاة، وما من أحد من الناس إلا وهو يحب الأبناء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الأبناء والأحفاد.
وأنبياء الله المكرمون قد حرصوا على الذرية، وطلبوا من المولى سبحانه وتعالى أن يرزقهم الأبناء الصالحين الذين يكونون القدوة والأسوة لمن بعدهم، فهذا إبراهيم عليه السلام يسأل ربه الذرية الصالحة قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات: 100]. وهذا زكريا عليه السلام يناجي ربه، ويسأله الولد ليكون وارثاً للنبوة من بعده قائلاً: فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ وَ?جْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً [مريم:5-6].
والقرآن الكريم حينما تحدث عن صفات عباد الله الصالحين ذكر أن من دعائهم لربهم أن يهبهم الله الولد الصالح، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74].
ولما كان للأبناء هذا الدور في الحياة، فقد حرص الإسلام أشد الحرص على بناء الأبناء البناء السليم الذي يُقوم سلوكهم وأخلاقهم، وينشئهم النشأة الصالحة التي تعتمد على التربية والتوجيه وغرس الإيمان في القلوب وإقامة الدعائم الأخلاقية والقيم الاجتماعية في قلوب الأبناء.
وقد أناط مسئولية التربية والتوجيه إلى الوالدين، وخص الأب بعظيم المسئولية في هذا وجعل القوامة بيده ليحسن التصرف والتربية، وإن من مقتضى هذه القوامة أن يحسن تربية الأبناء التربية الإسلامية التي تقربهم إلى الله زلفى، وأن يحرص في ذلك على إقامة العدل بين الأبناء، فإنه إن أقامه بينهم فقد أحسن لهم، وأعانهم على البر، وحقق بينهم المحبة والأخوة.
وإن اندفع مع هواه واتبع عاطفته أو تأثر بأي عامل من عوامل التأثير، فمال إلى تفضيل بعض الأبناء على بعض بتفضيل الذكور على الإناث، أو الصغار على الكبار، أو أولاد الجديدة على القديمة، أو غير ذلك من ألوان التفريق، فقد أوقع نفسه في الظلم، وساق بها إلى الهلكة، وساهم في تصدع بناء الأسرة وتفكك أعضائها وإيجاد العداوة والبغضاء بين الأبناء، فأدى ذلك إلى عقوقه في الحياة وبعد الممات، وأدى ذلك إلى ظهور العدوان وكثرة الخصام والشقاق بين الإخوان.
وفي قصة يوسف مع إخوته عبرة وعظة لأولي الألباب لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَـ?تٌ لّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَل?لٍ مُّبِينٍ ?قْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ?طْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـ?لِحِينَ [يوسف:7-9].
إن مثل هذه التصرفات تجعل الأسرة في صراع دائم وتفكك مستمر، والسبب في ذلك عدم العدل بين الأولاد، واستبدال ذلك بالظلم الذي نهى الشارع عنه، إن بعض الرجال من الآباء الذين شذت طباعهم، وغلظت أكبادهم، وجمدت عواطفهم وغاب عنهم ما أمر الله به من العدل يقومون بحرمان البنات من المال وإيثار الذكور من الرجال بذلك، والحجة لهم في هذا أن الذكور امتداد لهم، فهم أولى بحمل الراية من بعدهم، فهم أولى بالمال من البنات، بل إن البنت إنما تأخذ مالها لتعطيه لزوجها الذي هو في نظر بعض الآباء غريب عن الأسرة، ليس له في المال من نصيب، وهذا الفعل من الظلم الذي نهى الله عنه، فإن الله سبحانه قد أعطى كل ذي حق حقه، فالواجب على الآباء تحقيق أمر الله، وترك الظلم الذي يقع على الأبناء والإنسان لا يدري أين الخير في الذكور أم في الإناث، ومولانا يقول: ءابَاؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً [النساء:11].
والحق أننا سمعنا من بعض الآباء الذين فعلوا ببناتهم مثل هذا، فخصوا الذكر بالأموال، ونال البنات القليل جداً من المال، ثم كانت عاقبة أمرهم خسراً، نعوذ بالله من الخزي والندامة في الدنيا وفي دار المقامة.
إخوة الإسلام: إذا كان الواحد منا يحب بعض أولاده أكثر من الآخرين فلا يجوز له أن يظهر هذه المحبة أمام أبنائه، فإن هذا يقتلهم، ويجعل الحقد في قلوبهم، ويزرع البغضاء في نفوسهم، فالأولى أن يجعل حبه هذا في قلبه حتى تسلم أخوة الأبناء من التصدع، بل من الواجب عليه لو قبل أحد أبنائه، وغيره ناظر إليه، أن يقبل الآخر حتى يكونوا في البر سواء، فالواجب علينا – إخوة الإسلام – أن نعدل بين أبنائنا في القسمة، وأن نجعلهم سواء في العطية والهبة، وأن نتركهم من بعدنا إخواناً متحابين، يعاون قويهم ضعيفهم، ويساعد قادرهم عاجزهم، ويشد ذكرهم أزر أنثاهم دون أن يكون هناك شقاق أو خلاف أو عداوة بينهم.
والشارع الحكيم حث على هذه المساواة في المعاملة بين الأبناء، واعتبر الخروج عن ذلك ظلماً وجوراً، لا يجوز لأبناء الإسلام أن يقعوا فيه، أخرج النسائي: (3681) بسنده عن النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أن أمه ابنة رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة، ثم بدا له فوهبها له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا ابنة رواحه قاتلتني على هذا الذي وهبت له، فقال رسول الله : ((يا بشير، ألك ولد سوى هذا؟)) قال: نعم، فقال رسول الله : ((أفكلهم وهبت لهم مثل الذي وهبت لابنك هذا)) ؟ قال: لا، قال رسول الله : ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور)). وفي رواية (3680): ((فلا أشهد على شيء، أليس يسرك أن يكونوا إليك في البر سواء)) ؟ قال: بلى، قال: ((فلا إذاً)).
لقد عد رسول الله تلك العطية التي لم يتساوى فيها جميع الأولاد ظلماً، وكفى بالظلم بشاعة، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العدل بين الأولاد مما أمرنا به شرعنا الحنيف، فاسلكوا طريق ربكم تستقم لكم الحياة، ويكونوا لكم في البر سواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً [النساء:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسلك بي وبكم طريق عباده الصالحين، اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... أما بعد:
إخوة الإسلام:
أخرج مسلم: (1827) بسنده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال رسول الله : ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)).
إنه بيان من الرحمة المهداة يستنهض همم الرجال الصادقين السائرين إلى رضا الله ومرضاته، والراجين الفوز بالجنان، أن يحرصوا على العدل في كل أمر يوكل إليهم، ومن ذلك أمر أهليهم حتى يفوزوا بهذا الذي وعد به النبي من الجلوس على منابر عند الحق سبحانه في حضرته العلية.
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا إلى إقامة العدل في أهليكم، وبين أبنائكم وبناتكم، واعلموا أن الظلم ظلمات، وأن العدل هو أساس النجاح والفلاح، فالبدار البدار إلى ذلك.
(1/1661)
الفرج بعد الشدة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار ابتلاء وشدة. 2- لا يزيل الكروب إلا الله العظيم. 3- لابد أن يأتي بعد الشدة
فرج. 4- الجزع لا يرد القضاء. 5- وسائل تفريج الكرب. 6- ضرورة الالتجاء إلى الله في
تفريج الكروب. 7- فوائد من وقوع المصيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: الحياة الدنيا مليئة بالمحن والمتاعب والبلايا والشدائد والنكبات، إن صفت يوماً كدرت أياماً، وإن أضحكت ساعة أبكت أياماً، لا تدوم على حال وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140].
فقر وغنى، عافية وبلاء، صحة ومرض، عز وذل، فهذا مصاب بالعلل والأسقام، وذاك مصاب بعقوق الأبناء، وهذا مصاب بسوء خلق زوجته وسوء عشرتها، وتلك مصابة بزوج سيء الأخلاق، فظ الخلق، سيء العشرة، وثالث مصاب بكساد تجارته وسوء صحبه الجيران، وهكذا إلى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عند حد، ولا يحصيها عد.
ولا يزيل هذه الآلام، ويكشف هذه الكروب إلا الله علام الغيوب الذي يجيب المضطر إذا دعاه، والمسلم حاله في البأساء الصبر والإنابة إلى الله، يتوسل بالأسباب الموصلة إلى كشف المكروه، لا يستكين للحادثات، ولا يضعف أمام الملمات، يحاول التخلص منها في حزم الأقوياء وعزيمة الأصفياء، قدوته في ذلك سيد المرسلين، وإمام الصابرين، فقد حل به وبأصحابه الكرام من الشدائد والمحن والابتلاء ما تقشعر منه الأبدان، فما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا، بل قابلوا تلك الخطوب بالصبر والثبات ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
وعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله ، وهو متوسد برداً له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستغفر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [البخاري].
ولقد وعد مولانا – سبحانه وتعالى – عباده بالسعة بعد الضيق، وبالعافية بعد البلاء، وبالرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6]. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو دخل العسر في جحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه؛ لأن الله تعالى يقول: إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:6]. يقول : ((وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً)) [أحمد].
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
يقول ابن رجب رحمه الله: كم قص الله سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكروب بإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى وقومه من اليم، وقصة يونس وقصص محمد – عليه وعلى جميع الأنبياء المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم – مع أعدائه، وإنجائه منهم كقصة الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وغير ذلك.
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمر نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا
أخي المسلم لا تجزع مما أصابك، ولا تحزن، فإن ذلك لا يرد فائتاً، ولا يدفع واقعاً، فاترك الحزن والهم، وكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه، وخذ من الأسباب ما يفرج كربك، ويذهب همك من تقوى الله عز وجل والإنابة إليه والتوكل عليه والتعرف إليه في الرخاء، قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:2-3].
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إن من شأنه سبحانه أن يغفر ذنباً، ويكشف كرباً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين. ويقول الضحاك بن قيس رضي الله عنه: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه السلام كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
وعليك بالاستغفار فإنه سبب لتفريج الكروب وإزالة الغموم، قال تعالى: فَ?سْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61].
وجاء عن المعصوم قوله: ((من لزم الاستغفار – أو أكثر من الاستغفار – جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب)) [أبو داود].
وأكثر أخي من الأدعية التي وردت عن الحبيب فإن فيها ذهاب الهموم والغموم، ومن ذلك قوله: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب العرش الكريم، لا إله إلا الله الحليم الكريم)) [متفق عليه].
وأخرج أحمد بسنده عن النبي أنه قال: ((دعوة ذي النون عليه السلام إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له)).
واعلم يقيناً أن الذي يكشف البلوى هو الله، فاعتصم به، واعتمد عليه وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83-84].
روى سعيد بن عنبسة قال: بينما رجل جالس، وهو يعبث بالحصى، ويحذف بها، إذ رجعت حصاة منها، فصارت في أذنه، فجهد بكل حيلة، فلم يقدر على إخراجها، فبقيت الحصاة في أذنه تؤلمه، فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئاً يقرأ أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]. فقال: يا رب، أنت المجيب، وأنا المضطر، فاكشف ضر ما أنا فيه، فنزلت الحصاة من أذنه.
فراقب الله – أيها الأخ المسلم – وأكثر من الضراعة والالتجاء، وقل: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، كن قوي الإيمان بالله، قوي الثقة به، حسن الرجاء حسن الظن بمولاك، يكشف عنك ما نزل بك من الضر، ويبدل شدتك رخاء، ويجعل لك من همك فرجاً ومخرجاً، ومن عسرك يسراً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً [الطلاق:3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، اللهم فرج هم المهمومين، واقضِ الدين عن المدينين، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وللمسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
المسلم يتهم نفسه دائماً بالتقصير والتفريط، ويعلم أنه ما أصابه إنما كان من قبل نفسه وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
والمؤمن قد ينتفع بمصيبته، فيجعل من هذه المحن منحاً يترقى بها في طاعة الله، يقول ابن رجب رحمه الله: إن المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه، ولم يظهر له أثر الإجابة رجع إلى نفسه بالملائمة، وقال لها: إنما أتيت من قبلك، ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء، وأنه ليس أهلاً لإجابة الدعاء، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. يا حي يا قيوم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله بعفو منك وعافية.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1662)
تخفيف المهور وتيسيرها
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج نشاط فطري أحله الله عز وجل. 2- دفع المهر للمرأة جزء من تكريم الإسلام لها.
3- لم يحدد الإسلام قيمة معينة للمهر. 4- تفاوت مهور الصحابة على قلتها. 5- ظهور التغالي
في المهور والمباهاة في نفقات الزواج. 6- من بركة المرأة قلة مهرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: الزواج طبيعة فطرية وارتباط حيوي وثيق يحفظ الله به النسل البشري في مجال الحياة، ويحقق به العفة والنزاهة والطهر لكلا الزوجين، وقد جعل الله لهذا الزواج أتم نظام وأكمله، حقق به السعادة لكلا الزوجين، وحفظ لهما الحقوق.
وفي طليعة هذا النظام أن فرض للمرأة حقاً على الرجل، ألا وهو الصداق الذي يعطيه لها دلالة صدق على اقترانه بها ورغبته فيها، وأنها موضع حبه وبره وعطفه ورعايته.
ولقد تفردت شريعة الإسلام على غيرها من الشرائع والقوانين، بأنها كرمت المرأة، وأحسنت إليها، وأثبتت لها حقها في التملك وحيازة المال بعد أن كانت في الجاهلية كسقط المتاع، تباع وتشتري، ولهذا أوجب الإسلام على من يتقدم لخطبة المرأة أن يدفع لها الصداق، وهو عبارة عن نوع من التقدير والاحترام، وليس ثمناً أو قيمة لها وَءاتُواْ ?لنّسَاء صَدُقَـ?تِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً [النساء:4].
ولا يظنن أحد أن المهر ثمن للمرأة، أو ثمن لجمالها، أو للاستمتاع بها، أو ما يعتقده بعض العامة أنه قيمة لها، بل الحق أن المهر عطية من الله للمرأة، وهو حق لها تتصرف فيه كيف شاءت.
والإسلام لم يحدد مقدار المهر وكميته، وذلك لتباين الناس واختلاف مستوياتهم وبلدانهم وعاداتهم، ولكن الاتجاه العام في الشريعة الإسلامية يميل نحو التقليل فيه، فذاك أقرب لروح الدين، فيكون حسب القدرة وحسب التفاهم والاتفاق.
وقد كان السلف الصالح – رضوان الله عليهم – يتزوجون على القبضة من الطعام وعلى تعليم القرآن، أخرج البخاري: (5135) بسنده عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله ، فقالت: إني وهبت من نفسي، فقامت طويلاً، فقال رجل: زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل عندك من شيء تصدقها)) ؟ قال: ما عندي إلا إزاري فقال: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً فقال: ما أجد شيئاً، فقال: ((التمس ولو كان خاتماً من حديد)) ، فلم يجد، فقال: ((أمعك من القرآن شيء)) ؟ قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سماها، فقال: ((قد زوجناكها بما معك من القرآن)).
ولقد خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر، وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره، فكان كذلك، أسلم، وتزوجها رضوان الله عليهم أجمعين.
بل إن سعيد بن المسيب رحمه الله زوج ابنته على درهمين.
وعلماء الأمة يرون أن الشارع لم يقدر المهر بقدر معين، بل تركه إلى اتفاق الطرفين الأب والزوج، أو الزوج والزوجة، وتراضيهما في تحديده مع مراعاة حال الخاطب وقدرته، قال تعالى: وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ?لْفَرِيضَةِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:24].
والصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا يمهرون ملء الكف من الدقيق أو السويق أو التمر، أخرج أبو داود: (2110) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل)).
وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب، أخرجه أبو داود: (2019) بسنده عن أنس أن رسول الله رأى عبد الرحمن بن عوف ردعُ زعفران، فقال النبي : ((مهيم)) أي مالك ؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت امرأة. قال: ((ما أصدقتها)) ؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال: ((أولم ولو بشاة)).
ورسولنا هو الأسوة والقدوة لهذه الأمة فلم يكن يزيد في مهر نسائه أو بناته عن خمسمائة درهم، أخرجه أبو داود: (2106) بسنده عن أبي الجعفاء السلمي قال: خطبنا عمر رحمه الله فقال: ألا لا تغالوا بصداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشر أوقية.
ولقد ظهر في المجتمع اليوم التغالي في المهور والتباهي في نفقات الزواج، فهذه علبة مذهبة للمهر، وتلك ريالات فضة معقودة بشكل أنيق، وهذه أدوات تجميل، كل هذه زيادات على ما قرره الشارع الحكيم، وسرف بيّن وخيلاء ظاهرة، يضاف إلى ذلك الولائم المرهقة وقصور الأفراح الفخمة، كل هذا حدا بالشباب إلى العزوف عن الزواج والإعراض عنه، وما ظهر الفساد وانتشر الشر إلا يوم أن رأى الشباب أن مفتاح الزواج مسئولية ترهق كواهلهم، وأعباء ثقيلة لا طاقة لهم بها، فأحجموا عنه وتولوا عنه، وهم معرضون.
والناظر في حال الشاب حديث التخرج من أين له أن يأتي بآلاف الريالات حتى يكوّن أسرة وينشئ بيتاً حسب رغبة أهل الفتاة التي يخطبها وحسب العادات والتقاليد التي يحتكمون إليها؟ أليس من العقل بل من الدين أن يتعاون الآباء والأمهات، فيكونوا عوناً للشباب على الزواج، ويسعون بكل وسيلة إلى تسهيله وتيسيره والتخفيف من أعبائه؟ أليس من الأولى لهم من أن يساهموا في إحصان أبنائهم بدلاً من الانحراف والانجراف والسفر إلى خارج البلاد؟
إن المسئولية الملقاة على عواتق أهل الرأي والعلم في هذا المجتمع، تحتم عليهم القيام بواجب النصح والإرشاد وبيان الحق والتحذير من الآثار السيئة للمغالاة في المهور في تكاليف الأعراس التي أصابت مجتمعنا، أين التكافل الاجتماعي؟ أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ لابد أن يوجد للعامة من الناس القدوة والأسوة من أهل الفضل والعقل في تخفيف المهور، وتيسير أمر الزواج، والبعد عن التكاليف التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي إسراف وتبذير وتضييق لطلب الحلال وتيسير في سلوك طريق الحرام، فاتقوا الله – عباد الله – واحرصوا على أمر أبنائكم وبناتكم، وهيئوا لهم السبل الموصلة إلى سعادتهم في إقامة عش الزوجية سكناً ورحمة ومودة، واسلكوا من الوسائل ما يؤدي إلى إعفاف الشباب وإحصانهم من مغريات الفتن التي نعيشها في هذا الزمان، وأعينوهم بما عندكم حتى تستقيم لهم الحياة، وتسعدوا بهم في الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم يسر أمر كل مسلم ومسلمة، وأمر كل مؤمن ومؤمنة، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... أما بعد:
إخوة الإسلام:
الإسلام في حرصه على إقامة الحياة الزوجية الهانئة إنما يقيمها على الدين والخلق، أخرج الترمذي: (1085) بسنده عن أبي حاتم المزني قال رسول الله : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد)) قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: ((إذا جاءكم من ترضون دين وخلقه فأنكحوه)) ثلاث مرات.
والإسلام اعتبر أن المرأة كلما كان مهرها قليلاً كان خيرها كثيراً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة)) [ مشكاة المصابيح: 3097].
وأخرجه أحمد: (6/91) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)).
فاتقوا الله – عباد الله – ويسروا أمر الزواج، واحرصوا على من ترضون دينه وخلقه، وإياكم من الرغبة في المال دون الدين، فالمال عرض زائل وعارية مستردة، والبقاء للدين، واحرصوا – رحمكم الله – على تيسير أموركم والبعد عن الإسراف والتبذير، فالأيام المقبلة أيام أعراس، فاحرصوا – رحمكم الله – على ما ترضون به ربكم وتسعدون به أنفسكم.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1663)
حديث بني الإسلام على خمس
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الشهادتين. 2- الصلاة والمحافظة عليها. 3- الزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء.
4- الصيام وباب الريان. 5- الحج ومظاهر العبودية لله. 6- دعوة لاجتناب المحرمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: من أجل كرامة الإنسان وسعادة الناس أرسل الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلوات الله وسلامه عليه ليكون رحمة للعالمين، فنهض بالرسالة، وهدى الناس إلى الطريق السليم، وأرشدهم إلى الصراط المستقيم، ودعا بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين لهم معالم الدين، وأظهر لهم أركانه التي يقوم عليها، ويرتكز بها.
أخرج مسلم: (16) بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله : ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)).
هذا الحديث من جوامع الكلم التي نطلق بها ، فقد أبان فيها عن أركان الإسلام، تلك الدعائم التي يقوم عليها هذا الدين الشامخ القوي، فأول هذه الدعائم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويالها من شهادة تعطر بها الأفواه، وتنشرح بها القلوب، وتتهيج بها الأرواح، وتسمو بها نفوس الموحدين. إنها كلمة التوحيد، يقول : ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) [متفق عليه].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)).
إخوة الإيمان: إن شهادة أن لا إله إلا الله عنوان الإسلام، وهي بعينها نور الإيمان، وآية التوحيد، ومعناها لا معبود في الكون بحق إلا الله، ولا خالق ولا رزاق ولا معطي ولا مانع سواه، ولا يفرج كرباً، ولا يغيث ملهوفاً، ولا يجيب مضطراً، ولا يشفي مريضاً إلا الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يحيي ويميت، ويرفع ويضع، ويعز ويذل، ولهذا وجب علينا – وقد نطقت ألسنتنا بشهادة أن لا إله إلا الله – أن نحققها في واقع حياتنا في كل أمورنا، نخرج من قلوبنا الشرك، فلا نعتمد في أمورنا إلا على الله، ولا نذل أنفسنا لغير الواحد الأحد، الذي يملك خزائن السموات والأرض، إذا سألنا سألناه سبحانه، وإذا رجونا رجوناه، فإن من شهد لله بالوحدانية أسعده وهداه، ومن اعترف له بالربوبية أعزه وحباه، ومن خضع له بالعبودية قربه ونجاه.
فإذا حقق العبد هذه الكلمة وجب عليه أن يتم ما بعدها من أركان هذا الدين، ألا وهي الصلاة، لقد فرض الله علينا الصلاة خمساً في اليوم والليلة، وجعل مفتاحها طهارة البدن والثوب والمكان، فيقف فيها العبد فارغاً من الشواغل موجهاً وجهه وقلبه إلى مولاه، نظيف الظاهر والباطن يناجي ربه، ويثني عليه بما هو أهله، خائفاً من عذابه، طامعاً في رحمته، قد حافظ على هذه الصلوات الخمس في المسجد مع الجماعة إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
والمسلم مطالب بالمحافظة على هذه الصلوات، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه. قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)). فكن – يا عبد الله – ممن حافظ عليها في أوقاتها وأدائها كما أمر الله. اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه.
وأما الركن الثالث فهو الزكاة، فلقد فرض الله في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للفقراء، سداً لحاجتهم، وجبراً لخاطرهم، وتفريجاً لكربتهم، وعوناً لهم على مصالحهم، وهي كذلك تغرس في قلب المنفق فضيلة السخاء، وتطهر نفسه من رذيلة الشح، وتخرج الأحقاد من قلوب اليائسين، يقول مولانا في محكم التنزيل: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [التوبة:103].
والزكاة أمرها عظيم، فهي من ركائز هذا الدين، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي ، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)).
قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا. فلما ولى قال النبي : ((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)).
فطب نفساً أخي المسلم بإخراج زكاتك للفقراء والمحتاجين، وتلمس المستحقين الذين لا يسألون الناس إلحافاً.
وأما الركن الرابع فهو الصيام، ذلك الركن الذي يربي الإنسان على الصدق والقناعة والعطف على الجائعين، ليعرف مقدار نعم الله، فيشكرها حق الشكر يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
والصيام أجره عظيم وفضله كبير، أخرج البخاري ومسلم عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – عن النبي قال: ((إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد)).
إن أجر الصيام عظيم، فأجره مدخر عند الله، وما أعظمه من أجر!.
أما الركن الخامس: فهو الحج وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
الحج ذلك الركن الخامس من أركان الإسلام.
إن الحج قد جمع في معانيه وأهدافه كل أركان الإسلام، فهو توحيد خالص لله، يعلنه الحاج في ندائه الخالد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)) ، وهو بذل وإنفاق في سبيل الله، فالنفقة فيه كالنفقة في الجهاد، والحسنة بسبعمائة ضعف.
وفي الحج تظهر العبودية التامة لله تعالى والاستجابة له، والسير على طاعته من إحرام وطواف، ووقوف في عرفة، ودعاء والتجاء وصلاة، ورمي للجمار، وغير ذلك من أمور الحج التي يفعلها المسلم طائعاً لله، ملتمساً منه الأجر العظيم الذي أعطاه الله لمن حج فلم يرفث ولم يفسق.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) ، وفي رواية عنه قال: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
إنه جزاء عظيم يسعى إليه كل مؤمن صادق. اللهم اجعلنا من الذين غفرت لهم، وهيأت لهم في الجنة موضعاً.
عباد الله: إن الاعتصام بالدين والتمسك بعروته الوثقى، يهذب النفوس، ويطهرها من الرذيلة وسوء الخلق، ويظهر أثر ذلك في معاشرة وحياة المسلم وفي كل أقواله وأفعاله، إنه مسلم كامل الإسلام، قد عرف حقيقة دينه، فوقف عندها، إيمان وإذعان، تصديق وإحسان، حب وأخوة وإيمان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وسلك بي وبكم طريق عباده الصالحين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، واجعلنا من المتبعين لنبيك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً... أما بعد:
أحبابنا في الله: إن الدين كما أمرنا بطهارة القلوب وتهذيب النفوس، كذلك حرم على الناس كل ما يفضي إلى الشقاء، ويوقع العداوة والبغضاء، أو يفسد العقل، أو يحط كرامة الإنسان، ويذهب بحياته وماله، كالقتل والزنا وشرب الخمر، وأكل الربا، وأخذ الرشوة، وحرم الغيبة والنميمة والخيانة والحسد، يقول : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) [متفق عليه].
فكن – يا عبد الله – من أولئك النفر الذين حققوا إيمانهم، واتبعوا نهج النبي ، وإياك من النكوص على عقبيك، فقد وقفت بعرفات، وأعلنت الوفاء لله والطاعة له، وحققت ذلك في تلبيتك وطوافك وسائر أفعال حجك، فحافظ على هذا العهد، وأدِّ الأمانة؛ فإن الله خلقك لعبادته، فحقق العبادة كما يحب الله ويرضى، وليكن لك من الحج وأعماله والإسلام وأركانه ما يشد همتك، ويقوي عزيمتك على الاستمرار في طاعة الله وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
(1/1664)
شرح حديث أعطيت خمساً
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الحديث. 2- نصر الله نبيه بالرعب. 3- أذن الله لأمة الإسلام بأن تصلي حين شاءت.
4- أحلت لنا الغنائم. 5- شفاعة النبي العظمى يوم القيامة. 6- عموم رسالته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله:
أخرجه البخاري: (335) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت للناس عامة)).
خصائص الرحمة المهداة كثيرة وعظيمة، فهي تدل على شرفه ومكانته وعلو مقامه، وما خصه به مولاه سبحانه من الخصائص الكثيرة التي تزيد عن ستين خصلة، منها هذه الخصائص الخمس التي ذُكرت في هذا الحديث العظيم، وهذا يدل على شرفه وشرف هذه الأمة المحمدية التي أعطي نبيها منحاً إلهية كثيرة ليكون خاتم الأنبياء وأفضلهم، وتكون أمته خير الأمم وأفضلها، ولنا مع هذا الحديث وقفات عدة.
الوقفة الأولى: قوله : ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)).
لقد كان النصر في المعارك دائماً مع النبي ، فعناية الله ترعى نبيه في كل المواطن، وما حصل في بعض الغزوات من انكسار للمسلمين إنما كان تعليماً لهم لأمر أراده الله بهم، ففي أحد لما خالفوا أمر النبي وقعت لهم الهزيمة، وفي حنين لما أعجبوا بكثرتهم وقعت لهم الهزيمة، ثم جاء النصر من عند الله سبحانه.
والرعب هو الخوف الذي يقذفه الله في قلوب أعداء النبي ، فإنه ما إن يعلم أهل الكفر بخروجه إليهم حتى يدب الرعب في قلوبهم، ولو كانوا بعيدين عنه، ولهذا يقول ابن حجر رحمه الله: وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى ولو كان وحده بغير عسكر. [فتح الباري: 1/576].
وشاهد هذا حاصل في غزوة حنين حينما ثبت على فرسه قائلاً:
((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب))
وصدق مولانا: سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?ناً [آل عمران:151].
وهذا الرعب الذي يقذف في قلوب الأعداء من الجند المسخرة لنبينا ، فالملائكة معه، والإنس والجن معه، والرياح معه، وكل ما في الكون من جند الله هو ناصر لرسوله.
الوقفة الثانية: قوله : ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل)).
لقد كانت الأمم قبل نبينا محمد إنما يصلون في البيع والكنائس، أما هذه الأمة فقد أكرمها الله، وخفف عنها، ويسر لها، فهي تصلي في أي موضع من الأرض تصلح الصلاة فيه، فهي تصلي في الصحراء، وفي الطرقات، وفي المساجد، وفي سائر المواضع التي تتاح فيها الصلاة، رحمة من الله وفضلاً.
ومما زاد – سبحانه – بفضله على هذه الأمة أن جعل الصعيد طهوراً لها، فهي تتيمم إذا لم تجد الماء، وصدق مولانا: فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فَ?مْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
الوقفة الثالثة: قوله : ((وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي قبلي)).
الغنائم هي ما يغنمه الجيش من العدو من سلاح وأموال وأمتعة وغير ذلك، مما يتركه العدو في أرض المعركة بعد هزيمته، ولقد كانت هذه الغنائم محرمة على الأمم السابقة فلا تأخذ منها شيئاً، بل كانت تجمع وتحرق. أخرج البخاري: (3123) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل فقال عن نبي غزا من الأنبياء، قال: ((فجمع الغنائم فجاءت – يعني النار – لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: أن فيكم غلولاً فليبايعني من كل قبيلة رجل، فلزقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول فليباً يعني قبيلتك، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا أحلهما لنا)). وصدق مولانا: فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـ?لاً طَيّباً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنفال:69].
الوقفة الرابعة: قوله : ((وأعطيت الشفاعة)).
لقد خص نبينا بالشفاعة العظمى في يوم الفزع الأكبر في ذلك اليوم الذي تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ويكون الناس سكارى، وما هم بسكارى في هذا اليوم الذي يشيب فيه الولدان، يشفع الرحمة المهداة لجميع الخلق لفصل القضاء، فإن الناس لما يطول بهم الوقوف، والشمس قد دنت منهم فيصيبهم من حرها الشيء الكثير، فمنهم من أصاب العرق حقويه، ومنهم من يلجمه العرق، في ذلك اليوم يفزع الخلائق لأنبياء الله عليهم السلام، يطلبون منهم الشفاعة إلى الجبار – سبحانه – في فصل القضاء، فيبرز لها الحبيب المحبوب ، يشفع إلى مولانا الكريم في ذلك اليوم العظيم.
واسمع إلى من أعطي الشفاعة ، وهو يصف ذلك اليوم، أخرج البخاري: (4712) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله بلحم فرُفع إليه الذراع – وكانت تعجبه – فنهس منها نهسة، ثم قال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يُجمع الناس – الأولين والآخرين – في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنوا الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم أفضل الصلاة والسلام، فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش، أقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء فيما سوى ذلك من الأبواب)). اللهم أدخلنا الجنة من الباب الأيمن مع الحبيب بفضلك وإحسانك.
أحبتي في الله: هذه بعض خصائص الحبيب ، ذكرتها لكم لتقفوا على مكانة هذا النبي الكريم بمن مولانا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا كمال الاتباع وحسن الاقتداء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
الوقفة الخامسة: قوله : ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة)).
إن رسالة نبينا محمد رسالة عامة شاملة تشمل الثقلين الإنس والجن، وهي رسالة للعرب والعجم لا فرق بينهم في شمولهم بهذه الرسالة، وهذه الخاصية لنبينا محمد لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء السابقين فرسالتهم خاصة إلى أقوامهم، فإذا مات النبي انتهت رسالته، وبعث نبي غيره، أما رسولنا فهو رحمة للعالمين وهدايته للخلق أجمعين، وشريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع، ودعوته قائمة إلى قيام الساعة، لا نبي بعد، ولا دين إلا دين الإسلام، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:28].
فاعرفوا – عباد الله – الواجب المنوط بكم بالدعوة إلى هذا الدين، وكونوا دعاة صادقين وأسوة صالحين، تدعون لهذا الدين الخاتم تفلحوا وتسعدوا وتفوزوا بدار النعيم. اللهم اجعلنا هداة مهتدين.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا في محكم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1665)
شرح حديث الثلاثة الذين أواهم الغار
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السعادة في الدنيا جزاء لطاعة الله ، والشقاء جزاء معصيته. 2- حديث أصحاب الغار.
3- قصة الكفل وتوبته. 4- غصب العمال حقوقهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: إن سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة منوطة في طاعة الله ورسوله، وسلوك الأعمال الصالحة التي تقربه عند الله زلفى، وإن ثمار هذه الأعمال المباركة يجنيها في الآخرة جنة وفرحة وسروراً، وفي الدنيا سعادة وسلامة من الكروب والمحن، التي يتعرض لها، وإن شر ما يصاب به الإنسان هو الغفلة عن الهدى، والإعراض عن طريق الرشد اتباعاً للهوى، ونبينا يقص علينا قصة تبين لنا أن الخلاص للإنسان عندما تحيط به الكربات، وينقطع حبل الرجاء من العباد في هذه الأحوال، هناك باب من لا ينقطع منه الرجاء، فهو حاضراً أبداً، قادراً أبداً، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء سبحانه وتعالى.
ويبين لنا نبينا في هذه القصة أثر العمل الصالح وثماره المباركة التي يجنيها الفاعل لها، إنه من التوسل بالأعمال الصالحة التي يتقرب بها العبد ليسلك طريق النجاة والسعادة.
أخرج البخاري ومسلم: (3743) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله أنه قال: ((بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر، فآووا إلى غار في جبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فانطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله، فادعوا الله تعالى بها، لعل الله يفرجها عنكم، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي، فسقيتهما قبل بني، وإنه نأى بي ذات يوم الشجر، فلم آت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أسقي الصبية قبلهما، والصبية يتضاغون – أي يصيحون – عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء)).
لقد توسل أولهم ببره بوالديه، وكذلكم البر من أعظم الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه؛ لأن الله سبحانه قد قرن بين عبادته وتوحيده وبر الوالدين للدلالة على عظيم فضل البر والمسارعة إليه، وكما قيل: فالبر لا يبلى.
وهذا العبد كان يعمل راعياً، وأهل الرعي يعتمدون في غذائهم على ألبان أغنامهم وأبقارهم وإبلهم، وكان من عادة هذا الرجل أن يحلب بعد عودته، ثم يبدأ بوالديه، فيسقيهما قبل أولاده وزوجته.
إنه البر، كم في الناس اليوم الذين يقدمون بر آبائهم وأمهاتهم على رضا أبنائهم وزوجاتهم، الناظر في حال الناس اليوم يجد الواقع خلاف ما فعله هذا الراعي، الزوجة والأبناء أولاً، ثم يأتي بعد ذلك الآباء والأمهات.
إنه التفريط في الحقوق والغبن الفاحش الذي يقع فيه بعض الجهلاء، نسأل الله الهداية.
وكان من واقع هذا الراعي أن ابتعد في أحد الأيام في طلب المرعى، فلم يعد إلا بعد مضي هزيع من الليل، فحلب كما كان يحلب، وجاء بالحلاب إلى والديه فوجدهما قد ناما، فكره أن يوقظهما، وكره أن يسقي صغاره قبلهما، فبقي ليله ساهراً، وإناء الحليب على يده، وصغاره يبكون عند رجليه، يريدون إطعامهم، وهو يكره إيقاظ والديه حتى طلع الفجر فسقاهم، ثم سقى صغاره وأهله بعدهما.
ولا يعلم أحد غير الله سبحانه مدى المشقة التي عاناها هذا الرجل في تلك الليلة، فالأمر لم يكن سهلاً عليه، فهو رجل يرعى الغنم، وقد سار بعيداً عن الديار، فأجهده السير، وأرهقه، وزاد في إرهاقه أنه لم يتناول عشاءه، أضف إلى ذلك أن صغاره يبكون، وكم يألم الآباء لبكاء الأبناء.
إنها صورة عظيمة لما يصنعه الإيمان، والتي بلغت بهذا الرجل المرتبة العالية من بره لوالديه، وحرصه عليهما، مما كان سبباً في أن يفرج الله عنهم شيئاً من هذه الصخرة.
وهذا تذكير للأمة وحث لها على الحرص على بر الوالدين والمسارعة عليه والمحافظة على ذلك جزاء في الدنيا وسعادة في الآخرة. اللهم وفقنا لبر الآباء والأمهات في الحياة وبعد الممات يا أرحم الراحمين.
ويواصل حديثه لأصحابه قائلاً: ((وقال الآخر: اللهم إنه كان لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يُحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها، فأبت حتى أتيتها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعتُ بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتق الله، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة ففرج لهم)).
وتوسل الثاني إلى ربه بمخافته من الله، تلك المخافة التي دفعته إلى ترك الفاحشة، وكبت الشهوة، وكان من أمره أنه أراد ابنة عم له على نفسها، وكانت أحب الناس إليه، فكان يعصمها إيمانها منه، فتأبى عليه حتى أصابتها فاقة وحاجة اضطرتها إلى موافقته على رأيه والخضوع لرغبته، بعد أن دفع لها مبلغاً كبيراً من المال اشترطت عليه أن يدفعه لها قبل تمكينه من نفسها، ولكنه عندما قدر عليها، وقعد منها مقعد الرجل من زوجته انتفضت وارتجفت، فلما استعلم منها عن سبب ذلك أخبرته أن ذلك من مخافة الله، فإنها لم ترتكب هذه الفاحشة من قبل، فقام عنها مخافة من الله، وترك لها الذي أعطاها إياه.
إنه الإيمان الذي دفعه إلى ترك الزنا مع قدرته عليه، وتهيئة الأسباب التي تمكنه من ذلك لكن إيمانه ومخافته من الله دفعه إلى ترك هذه الفاحشة، والإنابة إلى الله بالتوبة عن هذا العمل المشين. إنه الإيمان القوي الذي يحجز من الوقوع في هذه الفاحشة.
ومن المؤسف أن بعض أبناء الإسلام يسعى بقدميه إلى هذه الفاحشة، ثم تراه بعد ذلك يفاخر بمعصيته، ويجاهر بفسقه وعصيانه، ويعد ذلك من المفاخر التي يفخر بها، إنه الضلال المبين، إنها من المجاهرة التي تمنع عن صاحبها التوبة والإنابة إلى الله. إنه قد وقع في كبيرة من الكبائر التي توصل صاحبها إلى النار إذا لم يتب إلى الله، والعاقل من أسرع بالتوبة والإنابة إلى الله من هذه الفاحشة المنكرة، فإن الله يقبل توبة التائبين.
روى الترمذي: (2496) بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه عمل ما عملته قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته؟ اذهبي فهي لك، وقال: لا والله لا أعصي الله بعدها أبداً، فمات من ليلته، فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل)) [قال الترمذي: حسن].
إنها التوبة الصادقة التي تغسل الخطايا، فاتقوا الله عباد الله، واسلكوا الطريق الموصلة إلى مرضاة الله وجنته، وإياكم من طرق الغواية، فإنها توصل إلى النار، وبئست النار غاية، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، واسلك بنا طريق عبادك الصالحين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... أما بعد:
إخوة الإسلام:
وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز، فلما قضي عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فرقه فرغب عنه – أي تركه – فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءها، فجاءني فقال: اتق الله، ولا تظلمني حقي، قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي وخرجوا يمشون.
لقد توسل الثالث بحفظه لأموال أجير له ترك ماله وذهب فثمر له ماله حتى أصبح مالاً عظيماً، فلما جاءه الأجير بعد غيبة طويلة يطلب ذلك الأجر القليل، أعطاه كل المال الذي نتج عنه المال، ولم يترك منه شيئاً.
والناس في زمننا هذا يغمطون الأجير حقه، بل ونرى البعض يفرح بأخذه لمال أجيره، ويعد ذلك من الفطنة والحذاقة، وما علم المسكين أنه يستعجل العقوبة، ويخسر الحسنات، ويكسب السيئات لظلمه للأجير.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على الأعمال الصالحة التي تقربكم من الله، واحذروا المعاصي، وإياكم والوقوع في الموبقات، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
(1/1666)
شرح حديث ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الإيمان
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشقاء الذي نعاني منه سبب ضعف الإيمان. 2- للإيمان حلاوة نفسية قلبية. 3- الرضا عن
ربوبية الله وسؤال الله ذلك. 4- الراضي عن الله لا يحزن على ما فات من الدنيا. 5- صور
للثبات على الدين. 6- طاعة الرسول والامتثال لأمره واتباعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: في هذه الحياة المليئة بالتعب والشقاء وفي هذه الدنيا الفانية التي بها النكد والضيق والبلاء يقف الإنسان حائراً: أين النجاة؟ وأين الطريق؟ وكيف يكون الخلاص من هذا البلاء الذي يعصف بالأمان والاطمئنان؟ في دنيا أصبح الحال فيها الضجر والأرق والاضطرابات النفسية والعصبية، وأصبح حال الناس الشكوى من هذه الحال، التي صار إليه الناس.
والباحث في أسباب هذه الحال يجد أن الإجابة تكمن في أننا ضيعنا طريق الإيمان، طريق الأمان، ولو عدنا إليه لاستقامت لنا الحياة، ولكنا في خير وأمان وإيمان، وسيد الإنسانية رسول البشرية صلوات الله وسلامه عليه يرسم لنا هذا الطريق الموصل إلى الإيمان والأمان في الدنيا، وإلى النعيم المقيم في الآخرة، ويقول : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً)) [أخرجه مسلم والترمذي].
نعم إن للإيمان طعماً يفوق كل الطعوم، وله مذاق يعلو على كل مذاق؛ لأن حلاوة الإيمان حلاوة روحية نفسية قلبية، تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدم في العروق، فتشع على صاحبها بالأنوار والأمان فلا قلق ولا أرق ولا ضيق ولا نكد، بل رحمة واسعة ورضا ونعمة.
وأول باب من أبواب الوصول إلى حلاوة الإيمان هو أن يرضى الإنسان بالله رباً؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، ولأنه القائم على كل نفس بما كسبت، ولأنه رحمن الدنيا والآخرة، والرضا به يستلزم الرضا بعبادته ورجائه والخوف منه والانقطاع إليه والنزول عند أوامره وأحكامه والكف عن محارمه ونواهيه، سواء أدركنا الحكم في الأمر والنهي أم لم ندرك ذلك، بل علينا التسليم المطلق، والرضا الكامل، وتقديم أوامر الله على هوى أنفسنا الأمارة بالسوء، وعدم الاعتراض على ذلك باللسان أو بالقلب، بل يسلم وجهه إلى ربه مؤمناً بعدالته وحكمته، راجياً لرحمته، خائفاً من نقمته، ولنا في الرحمة المهداة والنعمة المسداة الأسوة والقدوة، فمن دعائه قوله: ((اللهم إني أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك اللهم لا أستطيع ثناءً عليك، ولو حرصت، ولكن أنت كما أثنيت على نفسك)) [النسائي عمل اليوم والليلة].
فهذا هو مع عظيم قدره ورفعة مكانته يسأل ربه رضاه، والسلامة من السخط والعقوبة، مع أنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكنها مرتبة الرضا بالله ربه التي تتمثل فيه.
وكان يلح في دعائه لربه سبحانه وتعالى أن يكون راضياً بقضائه مستسلماً لأمره سبحانه، فكان يقول: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)) [سنن النسائي].
إنه دعاء خالص لرب كريم بالرضا والإنابة والإيمان ما أحرانا أن ننهج هذا النهج في حياتنا ودعائنا لربنا، ولقد أدرك سلفنا الصالح رضوان الله عليهم هذه المرتبة، الرضا بالله رباً، فعاشوا حياتهم في جهاد وعمل ورضا بالله سبحانه كل الرضا، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يترجم معنى الرضا فيقول: الفقر والغنى مطيتان، ما أبالي أيهما ركبت: إن كان الفقر فإن فيه الصبر، وإن كان الغنى فإن فيه البذل.
إنه حال المؤمن الصادق الذي لا يبالي بالحياة ما دامت تدله على رضا الله، ويبلغ بها السعادة.
ولو نظرنا لحالنا اليوم لرأينا الحال عجباً: فرح عند الغنى، حزن وغم عند الفقر، مع التسخط والتبرم. نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – كان يكثر من قوله: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك؛ حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته.
وقيل ليحيى بن معاذ رحمه الله: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ فقال: إذا أقام نفسه على أربعة أصول فيما يعامل به ربه يقول: إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.
ولو أننا أقبلنا على الله، ورضينا بما قسم لنا، لعشنا في بهجة وفرح وسرور، وكنا في حفظ الله ورعايته. ومن رضي عن الله رضي الله عنه، قال الله تعالى: هَـ?ذَا يَوْمُ يَنفَعُ ?لصَّـ?دِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [المائدة:119]. إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ ?لْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـ?تُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً رّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ [البينة:7-8].
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
والمرتبة الثانية من أبواب حلاوة الإيمان ولذة اليقين هي الرضا بالإسلام ديناً؛ لأن الإسلام منبع الضياء، ومصدر الهداية: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]. وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
والحق أن الرضا بالإسلام ديناً يستلزم منا الدفاع عن هذا الدين، والجهاد من أجله، ونشره في الدنيا، وعدم التفريط، وأن يكون شعاراً ظاهراً لنا في كل أفعالنا وأقوالنا وواقعاً نعيشه في كل أمور حياتنا.
ولا يضرنا أن هناك من يتنكرون لإسلامهم، أو يعرضون عنه، أو لا يعتنون بتقوية روابطهم الإسلامية؛ فإن هؤلاء قد خسروا الدنيا والآخرة. نعوذ بالله من ذلك.
ولقد أدرك سلفنا الصالح هذه المرتبة، فكان همهم الحفاظ على هذا الدين في قلوبهم وحياتهم، ويبذلون كل شيء في سبيل الحفاظ عليه، لا يهمهم شيء من الدنيا إلا أن يحافظوا على هذا الدين.
حدث أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضب يوماً على زوجته عاتكة، فقال لها: (والله لأسوأنك، فقالت: أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله إليه؟ فقال: لا، قالت: فأي شيء تسوؤني به إذن؟).
فهي واثقة أنها ستظل راضية النفس هادئة البال ما دامت مسلمة مستمسكة بدينها، حتى ولو صب عليها البلاء صباً، ولقد كان حال الواحد منهم كما قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
والحال لو أن واحداً منا قال له رئيسه، أو أن زوجاً قال لزوجته: لأسوأنك، فإن أول ما يخطر ببالها أنه يطلقها أو أن يتزوج عليها، وأما الموظف فإن ما يخطر في باله أن يحرمه من العلاوة، أو أن ينقص له الراتب. همنا في الدنيا، وهمهم في الآخرة، وشتان بين الحالين.
فاتقوا الله عباد الله، وليكن رضانا بالله رباً وبالإسلام ديناً واقعاً ملموساً في حياتنا، نرتقي به في درج الإيمان حتى نصل إلى مرتبة اليقين، ونفوز بدار النعيم في الآخرة وبالسعادة التامة في الدنيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. اللهم إني أسألك الصبر عند القضاء، والفوز عند اللقاء، وعيش السعداء، ونزول الشهداء، والنصر على الأعداء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً.. أما بعد:
أحبابنا في الله:
وحلاوة الإيمان ولذة الرضا أن تكون بالرضا بهذا النبي الكريم سيد ولد عدنان صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه المبلغ عن ربه، المبين لدينه، ولأن الله يقول: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]. والحبيب – صلوات الله وسلامه عليه – يؤكد على هذا فيقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده، وأهله والناس أجمعين)).
والرضا بالرسول يتضمن الاقتداء به، والاهتداء بهديه، ومحبته، والعمل بقوله وفعله، وتقديم طاعته ، وبذل النفس والنفيس في الدفاع عن سنته، وتقديم حكمه على كل شيء يخالفه، والاقتداء به في دعائه ورجائه، في صلاته وصيامه، في دخلوه وخروجه، وحفظ الأدعية والأذكار التي رويت عنه، وتحقيق ذلك في واقع الحياة.
إنها مرتبة المحبين المتبعين الذين يحرصون على الاقتداء به. اللهم ارزقنا كمال الاتباع لنبيك محمد.
إخوة الإسلام: يقول الرحمة المهداة: ((من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً، غفر له ذنبه)) [عمل اليوم والليلة النسائي – مسلم].
فاتقوا الله عباد الله واسلكوا نهج نبيكم تفلحوا وتسعدوا، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير.
(1/1667)
شفاعاته
قضايا في الاعتقاد
الشفاعة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص النبي على أمته. 2- شفاعته لأهل الكبائر من أمته. 3- شفاعته في بعض أهل
النار من أمته. 4- شفاعته لعمه أبي طالب. 5- شفاعة العلماء والشهداء وغيرهم ممن يأذن الله
لهم. 6- من أولى الناس بشفاعة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: أخرج مسلم: (202) في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [إبراهيم:26]. وقال عيسى عليه السلام: إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [المائدة:118]. فرفع يديه، وقال: ((اللهم أمتي أمتي)) ، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد – وربك أعلم – فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله بما قال – وهو أعلم – فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك.
الحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله أن جعلنا من أمة خير الأنام، نعم إن الله سيرضيه في أمته، ولا يسوؤه، وذلك فضل الله، تفضل به على هذا الحبيب وعلى أمته، وذلك يكون بشفاعته التي تنال أمته ، وهي أنواع عدة ذكرها أهل العلم في ذلك، فمنها شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة، فإنه أول داخل لها.
أخرج مسلم: (196) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)). وفي رواية لمسلم: (197) ((فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)). اللهم أدخلنا الجنة في زمرته.
ومن شفاعته شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار، فيخرجون منها، وقد تواترت الأحاديث على ذلك، روى المنذري: (5340) بإسناد حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي قال: ((خيرت بين الشفاعة أو يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة)) ؛ لأنها أعم وأكفى، أما إنها ليست للمؤمنين المتقين، ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين، وفي الحديث: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) [أخرجه أحمد].
وصفة ذلك أن رسول الله يشفع إلى مولانا الرحيم الكريم في أن يخرج من النار أمته الذين قد دخلوها، فيأذن الله له في ذلك، أخرج البخاري بسنده: (7440)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل، منه قال : ((فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يُعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرج فأدخلهم الجنة)) ، وقال قتادة: ((فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول: ارفع محمد، وقل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يُعلمنيه، قال: ثم أشفع، فيُحد لي حداً، فأخرج، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن)) أي وجب عليه الخلود، الحديث. حتى أنه من كثرة شفاعته يقول له خازن النار: يا محمد ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة. [الترغيب: 5337].
هكذا يشفع لأمته، إنه الرحمة المهداة، صلوات الله وسلامه عليه حتى أن الله يناديه: أرضيت يا محمد، روى المنذري: (5338) بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أشفع لأمتي حتى يناديني ربي تبارك وتعالى، فيقول: أقد رضيت يا محمد؟ فأقول: أي رب، رضيت)).
ومن شفاعته في ذلك اليوم شفاعته لعمه أبي طالب، أخرج مسلم في صحيحه: (212) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، وهو منتعل بنعلين، يغلي منهما دماغه)).
وفي ذلك اليوم العظيم تتوالى الشفاعات رحمة من الله بعباده، يقول : ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء)) [رواه ابن ماجه: 4313].
وأخرج أحمد بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومضر)) ، فقال رجل: يا رسول الله، أو ما ربيعة من مضر، قال: ((إنما أقول ما أقول)).
وما زالت الشفاعة في ذلك اليوم حتى يتفضل الرحمن الرحيم، الحنان المنان، الرؤوف الرحيم – سبحانه – فيخرج من النار أناس قد استحقوا العذاب، فيدخلهم الجنة برحمته.
أخرج مسلم: (183) بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – في حديث طويل – قال رسول الله : ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتُحرم صورهم على النار، فيُخرجون خلقاً كثيراً، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيُخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل)) الحديث، إلى قوله : ((يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه)).
فاتقوا الله – عباد الله – واسلكوا نهج نبيكم حتى تكتب لكم السعادة والجنات، اللهم أدخلنا الجنة بسلام، وتفضل علينا بباب الريان، واشملنا برحمتك وعفوك وعتقك من النيران، اللهم أصلحنا قبل الموت، وارحمنا عند الموت، واغفر لنا بعد الموت. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً... أما بعد:
إخوة الإسلام:
أسعد الناس بشفاعة رسول الله من مات على الإسلام، أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال رسول الله : ((لقد ظننت – يا أبا هريرة – أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)).
اللهم أحينا على لا إله إلا الله، وتوفنا عليها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا.
إخوة الإسلام: واليوم إخوانكم في جماعة تحفيظ القرآن بالطائف يناشدونكم مد يد العون لهم لكي يتسنى لهم القيام بالمهام العظيمة التي أنيطت بهم، فبادروا – رحمكم الله – إلى تقديم العون لهم نشراً للقرآن، وحرصاً على الثواب العظيم المدخر.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير الشافع المشفع، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1668)
شكر النعم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, فضائل الأعمال
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شكر الله على نعمه من خصال الإيمان. 2- حديث الأعمى والأبرص والأقرع. 3- جزاء
شكر النعمة وجزاء كفرانها. 4- حال الناس مع نعم الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: الشكر لله على نعمائه خلق عظيم ومقام كريم يصدر عن النفوس المؤمنة التي تشبعت بحب الله، وعن القلوب الطاهرة التي ملئت بالإيمان واليقين، وأثر الشكر يكون ظاهراً في اللسان بالثناء، وعلى الجوارح بالبذل والعطاء، وعلى النفس بالطاعة والانقياد لله.
وحقيقة الشكر أن تكون حركات العبد المؤمن وسكناته وخواطره ومشاعره ناطقة بالحمد والثناء على ما أولاه الله من المنن والآلاء، وصدق مولانا وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
والشكر لله سبحانه خلق الأنبياء والمرسلين وسمة عباده الأبرار المقربين، وبالشكر تدوم النعم وتزاد، وبضده تزول النعم وتباد.
وحبيبنا الحريص علينا يحدثنا عن صنفين من الناس: الأول شاكر للنعمة، حريص عليها. والثاني: كافر للنعمة متنكر للمنعم سبحانه.
ويبين لنا عاقبة الشاكر والكافر لنكون على بصيرة من أمرنا، أخرج البخاري ومسلم – واللفظ لمسلم -: (2964) عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول: ((إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم – أي يختبرهم – فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس. قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل)) ، - أو قال البقر، شك إسحاق – إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر البقر، قال: فأعطي ناقة عشراء، أي قريبة الولادة، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي شعراً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي شيء أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً فأنتج هذان وولد هذا. قال: فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
انظروا – إخوة الإسلام – إلى نعم الله سبحانه كيف أفاضها على هؤلاء، وأنعم عليهم بالصحة والعافية بعد الذي كان بهم من البلاء والمرض الذي جعل الناس تنفر منهم وتحتقرهم، فأبدلهم الله بذلك عافية وصحة.
وتتوالى نعم الله على هؤلاء الثلاثة، فيفيض عليهم من المال الذي يتجملون به أمام الناس، ويعطيهم المكانة المرموقة عند قومهم، فهم قد أصبحوا من أهل العافية ومن أهل المال الوفير الكثير الذي قد أسبغ عليهم، حتى كان لكل واحد منهم المال الكثير الوفير الذي عبر عنه المعصوم بقوله: ((فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم)).
وهذه حال العبيد يفيض الله عليهم النعم، وينعم عليهم بفضله وإنعامه فضلاً منه سبحانه، فان شكروا واستقاموا على طاعته أتم عليهم نعمه، وأبقى حالهم على ما هم فيه من الخير والسرور، وإن كفروا فان الحال يتبدل من اليسر إلى العسر، ومن الخير إلى الشر.
وهذا الذي بينه النبي في تتمة هذا الحديث، حيث إن الله بعد أن أعطاهم ما يحبونه من الصحة والمال الكثير، أراد الله سبحانه أن يختبرهم ليظهر الشاكر للنعمة من الكافر لها.
يقول : ((ثم أتى الأبرص – أي الملَك الذي جاءهم أول مرة – في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحيل – أي الأسباب والطرق – في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ عليه في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ فقيراً فأعطاك الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر – أي عن آبائي – فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه ما رد على هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
هذان مثالان للكافر بالنعمة، لقد نسيا ما كانا عليه قبل أن يفيض الله عليهما بالمال، لقد تنكرا لنعم الله عليهما، ونسبا ما هما فيه من الخير والمال إلى آبائهم الذين ورثوا لهم المال، لقد كفرا بنعمة الله، فأعادهما الله إلى ما كانا عليه من الفقر والمرض، وهذه حال الكافر للنعمة، تزول عنه النعم إذا كفر بها، وأنكر نعمة المنعم سبحانه، نعوذ بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته.
وأما الثالث فصاحب الغنم، فإنه مثال الشاكر الذي يعرف نعم الله، فيؤدي شكرها كما ينبغي، يقول : ((قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى، فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم – أي لا أشق عليك برد شيء تأخذه – شيئاً أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رُضي عنك وسُخط على صاحبيك)).
إن هذا الأعمى كان صافي النفس عامر القلب بالإيمان والتقوى، نظر إلى السائل فذكره بصورته وحاله التي كان عليها قبل أن يرد الله عليه بصره ويعطيه من المال الشيء الكثير، وكشف للسائل حقيقة ما كان عليه من قبل، لم يتنكر لما كان عليه، وإنما اعترف بذلك شكراً للمنعم سبحانه وتعالى، وكم في الناس اليوم من يتنكر لحاله السابقة من الفقر والعوز، ويعتبر ذلك خدشاً لمكانته وتقليلاً لحاله.
لقد نسي ما كان عليه، لا يريد إلا حاضره الذي يعيش فيه، إنه حال المسكين الذي ينسى نعم الله، وهذا الأعمى لما تذكر ما كان عليه دفعه ذلك للشفقة على من هو على شاكلته، فمد له يد العون، وطلب منه أن يأخذ من الغنم ما يشاء. لقد أدى شكر النعمة باللسان والاعتراف لله سبحانه بالفضل والإحسان، وأدى شكر النعمة بالجوارح، ببذل المال لمستحقيه، ثقة بالله وإيماناً به.
إن هذا الحديث العظيم نموذج رائع للشاكر والكافر، وحال الناس أمام نعم الله سبحانه، فالشاكر قد استبقى نعمة الله عليه، والكافر قد استعجل الزوال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم ارزقنا شكر نعمك، اللهم أدم علينا نعمك واحفظها من الزوال، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. نعوذ بك من تحول عافيتك وجميع سخطك. أقول ما تسمعون وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
لقد وقع كثير من الناس في الجهل والغفلة، وتمادوا في الغي والضلال، وطغت عليهم المادة، واستحكمت فيهم الشهوة، فانصرفوا عن شكر خالقهم ورازقهم، وغفلوا عن تقدير نعم الله الظاهرة والباطنة عليهم، بل واستعانوا بنعمة الله على ما يسخط الله تعالى، فأعرضوا عن أوامر الله تعالى، وسلكوا ما نهاهم عنه، وهذا كله من كفران النعمة الذي يلزم العقوبة من الله تعالى.
والله سبحانه يحذر عباده من سخطه وأليم عقابه ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
والناظر في حال الناس اليوم يجد أن بعضهم انصرف عن شكر نعمة الله إلى كفرها، فليحذر هؤلاء من عقوبة الله، فإن الله يسلب النعم إذا قلّ شكرها، وصرفت في غير ما أمر الله، والواقع للذين سلبت منهم النعم خير شاهد على عقوبة الله، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما أصاب الناس اليوم من الفتن والخوف والاضطراب والنقص في الأموال والأنفس والثمرات ومحق الخيرات والبركات، إنما مرده إلى الجحود والنكران، وعدم مقابلة نعم الله بالحمد والشكران، فتنبهوا من غفلتكم، واستيقظوا من رقدتكم وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المسلمون.
(1/1669)
فضل الحج والحرص عليه
فقه
الحج والعمرة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ملائمة الإسلام لفطرة البشر وطبيعتهم. 2- الحج دورة تربوية تسمو فيها الروح. 3- فضل
عبادة الحج. 4- دعوة للمبادرة إلى الحج. 5- صفة الحج المبرور. 6- نفقة الحج. 7- استغلال
عشر ذي الحجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبتي في الله: الدين الإسلامي الذي هدانا الله إلى اعتناقه أعم الأديان سعادة وهناء، وأكثرها ملاءمة للطبائع البشرية، وأعظمها صلاحية للإنسان في كل زمان ومكان، فهو دين العقيدة والإيمان، دين الفضائل والأخلاق، يُحق الحق، ويبطل الباطل، ولو كره الكافرون. هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
وإن هذا الدين قد أسس على أركان قوية يشد بعضها بعضاً، وإن من أركانه العظيمة الحج، الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِ?لْبَيْتِ ?لْعَتِيقِ ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَـ?تِ ?للَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ [الحج:27-30].
والحج رحلة قدسية مباركة يقضي فيها المؤمن أوقاته في عبادة وذكر ودعاء، وتسمو فيها روحه في عالم من الطهر والصفاء والنقاء، فيعود الحاج من هذا الركن، وقد تطهرت روحه، وهُذبت أخلاقه، وحسنت معاملته، وغُفرت ذنوبه يقول : ((من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [الترمذي: 811].
وعندما تتحرك قوافل الحجاج ميممة وجهها شطر البيت الحرام لأداء مناسك الحج، فإنها تستجيب للنداء الخالد، الذي أعلنه أبو الأنبياء – عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام – وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً [الحج:27].
وتحقق ما أمرها به نبيها بقوله: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) [الترمذي: 810].
وتلهج في حجها بالدعاء الذي علمها نبيها : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
والحج فريضة في العمر مرة، أخرج الترمذي: (814) بسنده عن علي ابن أبي طالب قال: لما نزلت: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]. قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: يا رسول الله، في كل عام؟ قال: ((لا، ولو قلت نعم لوجبت)).
والحج من أفضل الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، أخرج البخاري: (26) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).
والحاج يعود بعد حجه وقد تطهر من الآثام، واغتسل من الذنوب والمعاصي إذا أدى حجه بشروطه وأركانه وآدابه، فيبدأ حياة جديدة، ويفتح صفحة ناصعة، ويشرع في أعمال البر والتقوى، ويزاول الأعمال التي ترضي الله سبحانه وتعالى، أخرج مسلم: (121) بسنده عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيه: فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا)) ؟ قلت: أن يُغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
إخوة الإسلام: وإذا كان ثواب الحج كبيراً وأجره عظيماً، فلا ينبغي لمسلم أن يتقاعس عن أداء هذه الفريضة، ويسوف بها بذريعة أدائها فيما بعد من الأيام والأعوام، فهو لا يدري ما يحدث له، والمستقبل مجهول، والغد غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، بل الواجب عليه أن يتعجل الحج، وأن يبادر لأدائه، فهذا رسول الله يقول: ((تعجلوا الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) [أحمد]. وفي رواية لأحمد والبيهقي: ((من أراد الحج فليحج، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتكون الحاجة)).
فإذا هُيئت لك الأسباب فلا تتقاعس، فلربما أتتك ظروف ومشاغل حالت بينك وبين أداء هذه الفريضة، إذا كنت اليوم صحيح الجسم، خالياً من الارتباطات والمشاكل، تملك المال الذي تنفق، فاغنم هذه الفرصة، فقد لا تعوض، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة – سعة – فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
وعلى الحاج أن يلتزم في حجه بالأخلاق الإسلامية الفاضلة من الحلم والأناة وكظم الغيظ، وضبط الأعصاب، وتحمل هفوات الآخرين، وعدم التسبب في إيذاء الآخرين، وقضاء الأوقات في الذكر والعبادة، والابتعاد عن أحاديث اللغو الباطل، والكلام الفارغ، وذلك حتى يسلم له ثواب العبادة، ويكون حجه مبروراً.
سئل الحسن البصري رحمه الله: ما الحج المبرور؟ فقال: أن تعود زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة.
وعلى الإنسان أن يختار في حجه من ماله الطيب الذي لا شبهة فيه من الحرام، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، والمال الحرام يحول دون قبول العمل، ويجر الوبال على صاحبه، فالنفقة الحرام في الحج تضع صاحبها إلى أحط الدركات، وتحول بينه وبين إجابة الدعاء، أما النفقة الحلال فإنها ترفع صاحبها إلى أعلى الدرجات، وتكون سبباً في قبول عمله.
والنفقة في الحج تعدل النفقة في سبيل الله، أخرج أحمد بإسناد حسن عن بريدة رضي الله عنه قال رسول الله : ((النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)) [5/355].
فاحرصوا – رحمكم الله – على المال الحلال الذي تحجون فيه، واعلموا أن الحجاج وفد الله، إذا دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، فكونوا منهم، واسعدوا بلقائهم، واحرصوا على أن يدعوا لكم بالخير تفلحوا.
ذكر المنذري: 1660 بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوة أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم)) ، وفي رواية لأبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((يُغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج)).
فبادروا – رحمكم الله – إلى أداء هذا الركن العظيم، واحرصوا على ذلك، وتعجلوا، فإن السبل موفرة – ولله الحمد – والطرق آمنة، والخدمات التي تقوم بها هذه الدولة المباركة قد يسرت على الحجاج الكثير من المتاعب، ويسرت لهم أداء هذه الفريضة، فتعجلوها يكتب لكم الخير في الدنيا والآخرة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعل حجنا مبروراً وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، اللهم اغفر للحجاج، اللهم اغفر لأمة محمد أجمعين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، واجعلهم إخوة متحابين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
الأيام ليست كلها سواء، والأوقات وساعات الليل والنهار ليست بمرتبة واحدة، فهناك أيام فاضلة وساعات كريمة تتنزل فيها الرحمة، ويعم فيها الفضل ويفيض الخير الإلهي، ومن هذه الأيام أيام العشر من ذي الحجة التي نحن نعيشها في هذه الأيام، يقول : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر – عشر ذي الحج -)) ، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
وهذه الأيام المباركات الواجب على المسلم أن يشغلها بالأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى مولاه من الصلاة والصيام والدعاء وقراءة القرآن وإطعام الطعام وإغاثة الملهوف وإكرام الحاج والإحسان إليه وبذل المساعدة له، وكذلك التكبير، فقد كان ابن عمر وأبو هريرة – رضي الله عنهما – يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
ولقد كان سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – شديدي الحرص على هذه العشر، فهذا سعيد بن جبير – رحمه الله – كان إذا دخل أيام العشر اجتهد اجتهاداً شديداً حتى ما يكاد يقدر عليه.
فاتقوا الله عباد الله، وأروا الله من أنفسكم خيراً، فالسعيد من وفق لطاعة الله، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1670)
فضل الصلاة والسلام على النبي خير الأنام
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, فضائل الأعمال
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة أن يعرف المسلم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وفضله. 2- فضل الصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم وأثارها. 3- رد النبي صلى الله عليه وسلم السلام. 4- الإكثار من
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دليل محبته. 5- المقصرون في أداء هذا الواجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: أمتع الحديث ما كان فيه ذكر نعمة وإشادة بإحسان، وأعظم النعم التي تفضل الله بها علينا أن جعلنا من أمة الإسلام، ومن أمة هذه الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام، فالحديث عنه حديث كل مناسبة، فهو البشير النذير، والسراج المنير، والرؤوف الرحيم، بأمته، العطوف بهم، الحريص عليهم.
فالحديث عنه مفتاح القلوب وبهجة النفوس، إن أسعد الناس من يوفق في عبادته لله بالصلاة على النبي ، فإنها من أجل العبادات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، وينال بها مناه في الدنيا والآخرة.
إن أولى الناس بشفاعة النبي ، وأحقهم بتقديره، وأخصهم بعنايته يوم القيامة أكثرهم صلاة عليه ، وأن يعملوا بشريعته، ويتمسكوا بسنته، وأن يكثروا من الصلاة والسلام عليه دائماً أبداً.
إخوة الإسلام: إذا كان مولانا سبحانه وتعالى في عظمته وكبريائه، وملائكته في أرضه وسمائه يصلون على النبي الأمي إجلالاً لقدره، وتعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله، وإشارة إلى قربه من ربه، فما أحرانا نحن المؤمنين أن نكثر من الصلاة والسلام عليه امتثالاً لأمر الله تعالى، وقضاء لبعض حقه ، فقد أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، وجعلنا به من خير الأمم، وفضلنا به على سائر الناس أجمعين، وكتب لنا به الرحمة التي وسعت كل شيء وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِنَا يُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لامّىَّ [الأعراف:156-157]. فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، والحمد لله أن جعلنا من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
أحبتي في الله: أكثروا من الصلاة والسلام على النبي المختار يفتح الله عليكم أبواب رحمته، واعلموا أن الصلاة عليه تشرح الصدور، وتزيل الهموم، وترفع مقام العبد، فيسمو بها إلى الدرجات العلى والمنازل الشريفة، وقد جاءت الأحاديث مستفيضة في هذا، توضح فضل الصلاة على النبي ، وتبين مكانة المكثر من الصلاة عليه.
أخرج أحمد والنسائي عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال: أصبح رسول الله يوماً طيب النفس، يُرى في وجهه البشر، قالوا: يا رسول الله، أصبحت اليوم طيب النفس يُرى في وجهك البشر، قال: ((أجل، أتاني آت من ربي عز وجل، فقال من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بهاً عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات)).
وفي رواية للطبراني قال: دخلت على رسول الله وأسارير وجهه تبرق، فقلت: يا رسول الله، ما رأيتك أطيب نفساً ولا أظهر بشراً من يومك هذا، قال: ((ومالي لا تطيب نفسي، ويظهر بشري؟ وإنما فارقني جبريل عليه السلام الساعة، فقال: يا محمد، من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات، وقال له الملك مثل ما قال لك، قلت: يا جبريل، وما ذاك الملك؟ قال: إن الله عز وجل وكل ملكاً من لدن خلقك إلى أن يبعثك، لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا قال: وأنت صلى الله عليك)) [ترغيب المنذري: 2471].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن لله ملائكته سياحين، يبلغوني من أمتي السلام)) [المنذري: 2474].
بل إنه يرد على من يسلم عليه، أخرج أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام)) [المنذري:2477].
والسعيد من وفق للإكثار من الصلاة والسلام على حبيبي، خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، أخرج أحمد وابن ماجه بإسناد حسن عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يخطب ويقول: ((من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي: فليقل عبد من ذلك أو ليكثر)) [المنذري:2480].
والصلاة على النبي سبب في دفع الهموم وغفران الذنوب، أخرج أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا ذهب ربع الليل قام فقال: ((يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)) ، قال أبي بن كعب: فقلت: يا رسول الله، إني أكثر الصلاة، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) ، قال: قلت: الربع؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير)) ، قلت: النصف؟ قال: ((ما شئت، وإن زدت فهو خير)) ، قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذن تكفى همك، ويغفر لك ذنبك)) [قال الترمذي: حسن صحيح].
وفي رواية لأحمد: ((إذن يكفيك الله تبارك وتعالى ما همك من أمر دنياك وآخرتك)) ، وإسنادها جيد. اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
والمصلي على النبي يحظى بشفاعته ، أخرج مسلم: (384) بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أنه سمع النبي يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)). اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وأنزله المقعد المقرب عندك.
يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الصلاة على رسول الله أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي أفضل من عتق الرقاب، وحب رسول الله أفضل من مهج الأنفس. [الدر المنضود ص126].
إذا أنت أكثرت الصلاة على الذي صلى عليه الله في الآيات
وجعلتها ورداً عليك محتماً لاحت عليك بشائر الخيرات
والمكثر من الصلاة والسلام على رسول الله يضرب البرهان الساطع والدليل القاطع على محبته لرسول الله ، والحبيب يبشره بأنه مع من أحب، أخرج البخاري: (6168)، ومسلم: (264). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحب قوماً، ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله : ((المرء مع من أحب)).
اللهم ارزقنا حبك وحب رسولك ، واجعل اللهم حبك وحب رسولك أحب إلينا من المال والأهل والولد، وارزقنا مرافقته في الجنان تفضلاً منك وإحساناً.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا محبتكم لرسول الله بالاتباع لسنته، والامتثال لأوامره، وأظهروا ذلك في أعمالكم وأموالكم، واحفظوا لهذا الرسول الكريم مقامه، واسترشدوا بهديه واملؤوا أوقاتكم بالصلاة عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. اللهم ارزقنا كمال الاتباع لنبيك، اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته. آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً.... أما بعد:
إخوة الإسلام: البخيل من ذكر النبي عنده فلم يصلّ عليه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ذات يوم، فأتيت رسول الله قال: ((ألا أخبركم بأبخل الناس)) ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((من ذكرت عنده فلم يصلّ علي، فذلك أبخل الناس)) [المنذري:2505].
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومن ترك الصلاة على النبي فقد خطئ طريق الجنة، فعن حسن بن علي رضي الله عنهما قال رسول الله : ((من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة)) [المنذري:2501، أخرجه المنذري بإسناد حسن].
ومن نسي الصلاة على النبي فقد خسر وباء بالذلة والهوان، أخرج الترمذي: (3545)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل رمضان، ثم انسلخ قبل أن يُغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)). اللهم صلّ وسلم وبارك على هذا العبد الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام: فاعرفوا لنبيكم حقه، وإياكم أن تكونوا من البخلاء والمحرومين، واربأوا بأنفسكم عن ذلك، وأكثروا من الصلاة والسلام على خير الأنام، الشافع المشفع، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1671)
فضل لا إله إلا الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا إله إلا الله أساس الدين. 2- معنى لا إله إلا الله. 3- فضل لا إله إلا الله. 4- الأذكار
التي وردت فيها كلمة التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله، أتباع الحبيب المصطفى : إن الله تبارك وتعالى برحمته الواسعة وحكمته البالغة بنى الإسلام على خمس دعائم، منها أساس ثابت لسعادة الدنيا وحسن ثواب الآخرة، وبها صلاح المجتمع الإنساني وسعادته الدائمة، وأول هذه الدعائم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويالها من شهادة تعطُر بها الأفواه! وتنشرح بها القلوب، وتتهيج بها الأرواح، وتهتز لعظمتها الأرض والسماء، بها تسمو نفوس الموحدين، وبها يدخلون جنات النعيم، فعن رسول الله قال: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صادقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار)) [متفق عليه].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)) [البخاري].
وشهادة أن لا إله إلا الله عنوان التوحيد، وهي نور الإيمان، ومعناها لا معبود في الكون بحق إلا الله، لا خالق، ولا رازق، ولا معطي، ولا مانع سواه، لا يفرج الكرب، ولا يغيث الملهوف، ولا يجيب المضطر، ولا يكشف البلوى إلا الله، لا يشفي إلا الله، لا يحيي ولا يميت إلا الله، فهو الذي يرفع ويخفض، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، لابد أن تتحقق هذه المعاني في نفوس أهل لا إله إلا الله، وأن يحققوها واقعاً ملموساً في حياتهم، عسى أن يفوزوا بها في الدارين.
إخوة الإسلام: لقد نطقتم بشهادة أن لا إله إلا الله، فطهروا بها قلوبكم من الحقد والحسد والبغضاء، وطهروا ألسنتكم من الكذب والغيبة والنميمة، طهروا جوارحكم من الغش والظلم وأكل أموال الناس بالباطل، لا تعتمدوا في كل أموركم إلا على الله.
يقول بعض السلف: ((ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله، وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا)).
فلا إله إلا الله كلمة التوحيد، وكلمة التقوى، وكلمة الإخلاص، وهي شهادة الحق وبراءة من الشرك، ولهذه الكلمة فضائل كثيرة بينها نبي الرحمة.
فأول فضائلها أنها باب الدخول في الإسلام، فلا إسلام إلا بها، يقول : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل)) [متفق عليه].
وبها يتجدد إيمان العبد يقول رسول الله : ((جددوا إيمانكم)) قيل: يا رسول الله، كيف نجدد إيماننا؟ قال: ((أكثروا من قول: لا إله إلا الله)) [رواه أحمد].
وهي من أعظم الحسنات التي يكفر الله بها السيئات فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أوصني فقال : ((إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها)) فقلت: يا رسول الله، أمن الحسنات: لا إله إلا الله؟ فقال : ((هي أفضل الحسنات)) [أحمد]. وفي رواية لمسلم: ((ما على الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كفرت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)).
وهي الأمان لأهلها فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله : ((ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا منشرهم، وكأني أنظر إلى أهل لا إله إلا الله، وهم ينفضون التراب على رؤوسهم، ويقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)). نعم ما أعظمها من كلمة تجلب السعادة والأمان وتحقق الأمن والاطمئنان.
ولا إله إلا الله كلمة كريمة على الله، وهي عظيمة عنده، وهي الوقاية من النار، وهي أفضل من الذكر، فعن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)) [ابن حبان والنسائي].
وبها النجاة يوم القيامة، فلا ينجو من النار إلا أهل لا إله إلا الله، ولا يخرج من النار إلا من كان في قلبه لا إله إلا الله، روى أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي قال لأصحابه: ((ارفعوا أيديكم، وقولوا: لا إله إلا الله)) ، فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله يده، ثم قال: ((الحمد لله، اللهم، بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني الجنة عليها، وإنك لا تخلف الميعاد)). ثم قال : ((أبشروا؛ فإن الله قد غفر لكم)).
وفي رواية للبخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي قال: ((يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير)).
عباد الله: لقد كانت هذه الشهادة شعار المؤمنين الأبرار، لقد شع نورها في قلوبهم، وامتزجت بها أرواحهم، واطمأنت بها نفوسهم، دفعتهم إلى الخير يقاتلون من أجلها، ويبذلون نفوسهم لإعلائها، فخضعت لهم الرقاب، وذلت لهم الدنيا، فأسعدوا البشرية بها، وأناروا لها الطريق.
وهي الكلمة التي علمها الحق سبحانه وتعالى لكليمه موسى عليه السلام، أخرج ابن حبان والحاكم والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((قال موسى : يا رب، علمني شيئاً أذكرك به، وأدعوك به، قال: قل: لا إله إلا الله، فقال موسى: يا رب، كل عبادك يقول هذا؟ قال: يا موسى، لو أن السموات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بها لا إله إلا الله)).
وبها تحصل النجاة للمسلمين، فعن رسول الله قال: ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة)) [أحمد].
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، وارحمنا بها، واجعلنا من أهلها في الدارين يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام: من تحقق بلا إله إلا الله قولاً وفعلاً، ظاهراً وباطناً أدخله الله بها دار كرامته، وستر عليه برحمته، وآنسه في غربته، ونجاه بها يوم الكرب العظيم.
أخرج الترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب. فيقول الله تعالى: بلى إن لك عندنا حسنة؛ فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فيقول: أحضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: فإنك لا تُظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)).
فراقبوا الله عباد الله، وحققوا معنى لا إله إلا الله، واعملوا بشرع محمد بن عبد الله تفوزوا مع الفائزين، وتدخلوا الجنة بسلام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. اللهم اجعلنا أسعد الناس بلا إله إلا الله وارزقنا الإخلاص بلا إله إلا الله، واجعلها آخر كلامنا يا رحمن. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً... أما بعد:
عباد الله: إن من واجب من علم أن يعمل، وقد علمنا حبيبنا فضل لا إله إلا الله، ودلنا عليها، فالواجب علينا أن نحققها في أنفسنا، وأن تلهج بها ألسنتنا، وأن ننور بها قلوبنا، وأن نجعلها ورداً لنا في سائر أيامنا.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)).
كما أنه حثنا على ذكر آخر، تتحقق لنا به مغفرة الذنوب والعتق من النار، أخرج أبو داود عنه أنه قال: ((من قال حين يصبح وحين يمسي: اللهم، إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرش وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، فمن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فمن قالها أربعاً اعتقه الله من النار)).
اللهم أعتقنا من النار، ومُنَّ علينا بالمغفرة يا رحمان، واحشرنا مع النبي المختار.
إخوة الإسلام: شمروا عن ساعد الجد، واجتهدوا في هذه الأذكار تسعدوا في الدنيا والآخرة. اللهم وفقنا لذلك.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الرحيم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1672)
فضل مكة شرفها الله
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختيار الله مكة لتكون مهد الإسلام. 2- أسماء مكة المكرمة. 3-الأمان لساكنى البلد الحرام.
4- أحب البلاد إلى الله. 5 تحريم حمل السلاح في مكة. 6- مضاعفة الحسنات وتعظيم السيئات
في مكة. 7- واجب أهل مكة تجاه الحجيج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبتي في الله: لقد اختار الله نبيه محمداً ليكون خاتم الأنبياء، واختار مكة لتكون البلد الذي يخرج منه هذا الشعاع ليضيء الدنيا، فكان مولده في مكة، وكانت بعثته منها، وبقي فيها يدعو الناس إلى دين الله، فهي بلد الله وحرمه، وهي أم القرى.
ومن حكمة الله سبحانه أن اختار مكة لتكون منطلق خاتم الرسالات السماوية، فيكون لها من الشرف مع الشرف، ومن المكانة مع المكانة التي كانت عليها قبل أن يخلق الله الخلق، ومكة عظمها الله على غيرها من البلاد، وزادها مهابة ورفعة وبراً، ومن تشريف الله لها أن سماها بأسماء عديدة فهي في القرآن مكة وَهُوَ ?لَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح:23]. وهي بكة إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَـ?لَمِينَ فِيهِ ءايَـ?تٌ بَيّنَـ?تٌ مَّقَامُ إِبْر?هِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً [آل عمران:96]. وهي المسجد الحرام هُمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَ?لْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح:24]. وهي أم القرى وَلِتُنذِرَ أُمَّ ?لْقُرَى? وَمَنْ حَوْلَهَا وهي البلد لاَ أُقْسِمُ بِهَـ?ذَا ?لْبَلَدِ [البلد:1]. ومن أسمائها البلد الأمين وَ?لتّينِ وَ?لزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2]. وأضافها سبحانه لنفسه، فقال: طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ?لْعَـ?كِفِينَ وَ?لرُّكَّعِ ?لسُّجُودِ [البقرة:125]. وخصها سبحانه وتعالى بالأمن والأمان والاطمئنان أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ?لنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
وأمن هذا البلد شامل لكل من فيه من إنسان وحيوان ونبات، أخرج البخاري ومسلم: (1353) – واللفظ له – عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله قال: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يُحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضد شوكه، ولا يُنفر صيده، ولا يُلتقط إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها)) ، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر ؛ فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: ((إلا الإذخر)).
وهي أحب بلاد الله إلى الله وإلى رسوله ، أخرج الترمذي: (9325) بسنده عن رسول الله قال: ((والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)) [حسن غريب صحيح]. وفي رواية للترمذي: (3926) أن رسول الله قال: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)).
اللهم اجعل لنا بمكة قراراً، وارزقنا رزقاً حلالاً، وجملنا بالأدب يا أرحم الراحمين.
ومن تشريف الله لها أن شرع الحج إليها، وجعل ذلك الركن الخامس من أركان الإسلام.
ومن تشريف الله لها أن جعلها مهبط وحيه، ومنزل القرآن، ومنبع الإسلام، ففضلُها فضل كبير، وحرمتها عظيمة عند الله تعالى، فحرمة هذا البلد شرعً ودين وطاعة لله ولرسوله إلى قيام الساعة، ولأن مكة حرام فقد اشتُرط الإحرام على من وصلها قاصداً للعمرة أو الحج، ولهذا جعل الله – تبارك وتعالى – بعضاً من أشهر الحج في الشهر الحرام الذي جعله الله قياماً لعباده يأمنهم من القتال فيه: جَعَلَ ?للَّهُ ?لْكَعْبَةَ ?لْبَيْتَ ?لْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَ?لشَّهْرَ ?لْحَرَامَ وَ?لْهَدْىَ وَ?لْقَلَـ?ئِدَ [المائدة:97].
فحرمة الحج محاطة بحرم ثلاث: حرمة البلد الحرام، والشهر الحرام، وحرمة نسك الإحرام.
وهكذا عظم الله بلده في قلوب عباده، ولأن مكة حرام فقد حُرم حمل السلاح فيها لغير ضرورة أو حاجة، أخرج مسلم: (1356) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي يقول: ((لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح)) ؛ لأن من دخل مكة فهو آمن بأمر الله ورسوله، ويجب على المسلمين تأمينه، لكن من يستحق القتل شرعاً لابد أن يقتل، ومن يستحق العقاب لابد أن يعاقب، وهذا من أسباب الأمان للمسلمين في بيته الحرام وفي كل مكان.
ومن فضل الله على عباده أن ضاعف لهم الحسنات في بلده وحرمه، فالحسنة في مكة أجرها عظيم، أخرج مسلم: (1394) بسنده عن أبي هريرة قال رسول الله : ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام)).
ومع أن الحسنات تضاعف في مكة، فكذلك السيئات تعظم في البلد الحرام، يقول عبد الله بن مسعود : لو أن رجلاً همَّ بقتل مؤمن عند البيت، وهو بعدن، أذاقه الله في الدنيا من عذاب أليم.
وقال مجاهد رحمه الله: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال الحسن البصري رحمه الله: صوم يوم بمكة بمائة ألف، وصدقة درهم بمكة بمائة ألف، وكل حبة بمائة ألف.
إخوة الإسلام:
فضل مكة عظيم، ولهذا ينبغي أن نعي هذا، وأن نعلم أننا في بلد الله الحرام الذي جعله محرماً إلى قيام الساعة، وأن تكون أعمالنا موافقة لأمر الله وشرعه، وأن نحسن العمل؛ لأن الأجر مضاعف فيها، وأن نشعر الأهل والأبناء بمكانة هذا البلد، وما ينبغي أن يكون عليه أهله، فإن الذين يقدمون من خارج هذه البلاد ينظرون إليكم، أنكم القدوة والأسوة، فأنتم عندهم جيران البيت وأبناء السلف الصالح من هذه الأمة، فالحلال ما فعلتموه، والحرام ما تركتموه، والحق أن هذه مسئولية عظيمة، قد قصرنا في الاهتمام بها أو رعايتها الرعاية الحقة، والناس في جاهليتهم كانوا للبيت معظمين، أليس من الجدير بأهل الإسلام أن يكونوا أحق بها منهم، فإن الله سائلكم عما منّ به عليكم من مجاورتكم لبيته وإغداقه النعم عليكم من الأمن والأمان والإطعام والخير الكثير، الذي لا نؤدي شكره كما ينبغي.
واعلموا أنكم أهل الحرم وأهل الله، ذكر الأزرقي قال: لما استعمل رسول الله عتاب بن أسيد على مكة قال: ((يا عتاب، أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله، فاستوصِ بهم خيراً)) يقولها ثلاثاً.
فاتقوا الله – يا أهل الله – وحققوا في أنفسكم هذا المعنى، وأشعروها أنكم في بلده وعند بيته، فقدروا هذه النعمة، وعظموا شأنها، فأنتم في البلد الحرام، في الشهر الحرام، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لإِيلَـ?فِ قُرَيْشٍ إِيلَـ?فِهِمْ رِحْلَةَ ?لشّتَاء وَ?لصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [سورة قريش].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم كما مننت علينا بالجوار فمن علينا بالأدب وحسن الأعمال، اللهم ارزقنا كمال الاتباع لسنة حبيبك ، اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته، واحشرنا في زمرته، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.. أما بعد:
إخوة الإسلام:
مما ينبغي على أهل البلد الحرام تجاه إخوانهم من الحجاج حسن الوفادة، وإكرامهم، ومساعدتهم، وبذل الإحسان لهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور الشريعة الإسلامية التي يجهلون أحكامها، كما ينبغي لهم تخفيف المؤونة عليهم بمد يد العون لمحتاجهم، وإطعام جائعهم، والإحسان إليه، فإن أهل الجاهلية في جاهليتهم كانوا يسقون الحجاج الماء مع الزبيب، ويعدون ذلك من مآثرهم، أفلا يجدر بأهل الإسلام أن يجعلوا ذلك من أعمالهم التي يتقربون بها إلى الله، فينالون عظيم الثواب من الله تعالى، وأن يكونوا متسامحين في المعاملة معهم، ببسط الوجه والشفقة عليهم، وعدم إيذائهم بسباب أو استخفاف أو غير ذلك، فإنهم وفد الله الذي إذا دعوه أجابهم، فاحذروا – إخوة الإسلام – من الإساءة إليهم، فإن الواحد منا يكرم ضيفه، فكيف بضيف الله، حقه من الإكرام أجل وأعظم، فاحرصوا – رحمكم الله – على ذلك، وأروا الله من أنفسكم خيراً، فالسعيد من وفق لطاعة الله تعالى.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1673)
من علامات محبته (1)
الإيمان
الإيمان بالرسل
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة النبي شرط من شروط الإيمان. 2- المرء مع من أحب يوم القيامة. 3- محبة النبي
سبب لحصول الإيمان. 4- المحبة القلبية تستلزم عملاً بالجوارح. 5- علامات محبة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: ما أجمل أن يرتبط المسلم بسيرة رسول الله وبحياته! هذا الارتباط الذي هو ثمرة للإيمان وصدق اليقين، هذا الارتباط الذي فيه صدق الاتباع، وصدق المحبة.
لقد قام المسلمون الصادقون في حبهم بدراسة هذه السيرة العطرة حتى جنوا من ذلك الخير الكثير، لقد قاموا بأداء ما افترضه الله عليهم من محبة نبيه وتوقيره وإكرامه وبره واتباعه وطاعته، وظهر من حبهم لرسول الله ما جعلهم يفدونه بكل عزيز وغال، ويؤثرونه على الأهل والأوطان والأموال، حتى باعوا أنفسهم وأموالهم لرب العالمين، نصرة لدينه، ودفاعاً عن نبيه ، ونشراً لهذا الدين، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
أحبابنا في الله: من سعادة العبد أن يرزقه الله تعالى محبة النبي ، وكيف لا يكون هذا ومحبته شرط من شروط الإيمان.
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
فالذين أحبوا رسول الله فازوا وغنموا، والذين أحبوا رسول الله صدقوه، وأيدوه، وناصروه، والذين أحبوا رسول الله بشرهم أنهم سيكونون معه، ففي الحديث المتفق عليه أن رجلاً سأل رسول الله فقال: المرء يحب القوم، ولم يلحق بهم، فقال رسول الله : ((المرء مع من أحب)).
ومحبته سبب لحصول حلاوة الإيمان، فقد أخرج الشيخان عن النبي أنه قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُقذف في النار)).
والحب وإن كان من أعمال القلوب فإنه لابد أن تظهر آثاره على الجوارح قولاً وفعلاً، والمحب لرسول الله لابد أن تظهر محبته لحبيبه في حياته وسلوكه في عبادته وطاعته حتى يتميز المحب الصادق من الدعي الكاذب.
إخوة الإسلام: كل واحد منا يذكر أنه يحب النبي ، وأنه عليه أفضل الصلاة والسلام أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، فهل نحن صادقون في حبنا هذا؟
لقد ذكر العلماء علامات ومقاييس لمعرفة محبة النبي في قلب الشخص، فتعالوا بنا – إخوة الإسلام – نستعرض في هذه الجمعة – إن شاء الله تعالى – بعض هذه العلامات لنعرف مدى حبنا لرسول الله ، وصدقنا معه، وإخلاصنا في هذا الحب العظيم.
أولاً: من علامات المحب لرسول الله طاعته لهذا الرسول واتباعه له. إن أقوى شاهد على صدق المحب موافقته لمحبوبه، فالاتباع هو دليل المحبة الأول وشاهدها الأمثل، وهو شرط في صحة هذه المحبة، وبدونه لا تتحقق المحبة الشرعية، يقول الحق سبحانه وتعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. ويقول : ((من أحب سنتي فقد أحبني)) [مسند أبي يعلى].
فالصادق في حب النبي هو من أطاعه، واقتدى به، وآثر ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه، وظهرت آثار ذلك عليه، يقول القاضي عياض: اعلم أن من أحب شيئاً آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه، وكان مدعياً، فالصادق في حب النبي من تظهر عليه علامة ذلك وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بأدبه. انتهى.
ويقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)). فإذا آثرنا طاعته فقد صدقنا في حبنا، وسلكنا المسلك الصحيح الذي يوصلنا إلى خير الدنيا والآخرة.
العلامة الثانية من علامات المحب لرسول الله هو أن يكون فقد رؤيته أشد علينا من فقد أي شيء في الدنيا، فمن المعلوم أن غاية ما يتمناه المحب هو أن يسعد برؤية حبيبه، ومحب النبي يتمنى دائماً أن يسعد برؤيته في الدنيا والآخرة، وحينما تتهيأ له فرصة الاختيار يختار رؤية النبي.
أخرج مسلم في صحيحه عن أحد المحبين الصادقين في حبهم لرسول الله إنه ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت عند النبي فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل)) ، فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة، فقال: ((أو غير ذلك)) ؟ قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).
فانظروا – رحمكم الله – إلى هذا المحب، فإنه لم يتردد في إظهار أن اختياره الأول هو الحصول على مرافقته. والمحب الصادق يحزنه حتى تصور حرمانه من رؤية حبيبه ، فعن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله وهو محزون، فقال له النبي : ((يا فلان، مالي أراك محزوناً)) ؟ فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال: ((ما هو)) ؟ قال: نحن نغدو ونروح، ننظر إلى وجهك، ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي شيئاً، فأتاه جبريل بقوله تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]. فبعث النبي فبشره.
وهذا محب آخر يأتي إلى النبي فيقول: يا رسول الله، إنك لأحب إلي من نفسي، وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي حتى نزلت الآية: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69].
هكذا كان الصادقون في محبتهم له ، فكيف نحن في محبتنا؟ هل نحن صادقون فيها؟ ألسنا قد أحببنا أشياء كثيرة، نبذل المال الكثير للتلذذ بها والتنعم، ألسنا نضيع أوقاتنا في القيل والقال، وفيما لا نفع فيه؟ أبعد هذا نقول نحن صادقون في محبتنا لرسول الله ، إن المحب الصادق في محبته لو خير بين مجرد أن يرى النبي مناماً أو يقظة، وبين فقد أغلى شيء لديه في الحياة لاختار الأول.
فاللهم ارزقنا صدق المحبة لرسولك ، اللهم اجعلنا من الذين صدقوا في حبهم ففازوا ونجوا، اللهم اجعلنا من المتبعين، ولا تجعلنا من المبتدعين، اللهم ارزقنا حبك وحب نبيك، واجعل حبك وحب نبيك، أحب إلينا من المال والأهل والولد. آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً على ما أنعم وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على هذا العبد المحبوب وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
عباد الله: العلامة الثالثة من علامات المحب لرسول الله : تعظيم النبي وتوقيره والأدب معه، فتعظيم النبي هو ما يقتضيه مقام النبوة من كمال الأدب وتمام التوقير، وهو من أعظم مظاهر حبه ومن أكبر حقوقه على أمته، كما أنه من أهم واجبات الدين؛ لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أكثر الناس حباً وتعظيماً لرسول الله لمعايشتهم له وقربهم منه.
وتعظيم النبي يكون بالقلب واللسان والجوارح، فتعظيم القلب يكون بالاعتقاد الكامل بنبوته، وعمومية رسالته، ورفع ذكره، وتفضيله على سائر الخلق أجمعين، كما يستلزم تقديم محبته على سائر المحبات كلها.
أما تعظيم اللسان فيكون بالثناء عليه بما هو أهله، ويدخل في ذلك الصلاة والسلام عليه، كما يشمل الأدب في الخطاب معه، والحديث عنه، وغض الصوت عنده في حياته، وعدم رفع الصوت عند قبره بعد وفاته.
وأما تعظيم الجوارح فيكون بطاعته ، ومتابعته، واجتناب ما نهى عنه، والسعي في إظهار دينه، ونشر شريعته، والذب عنها، وصون حرمته، فمن فعل ذلك فقد عظم النبي ، وعرف له قدره.
إخوة الإسلام: ومن علامات نصرة شريعته نصرة المسلمين المحتاجين، الذين تكالبت عليهم المصائب من حروب ودمار وتنصير وجفاف، إخوانكم المسلمون في الصومال ذلك البلد الإسلامي الذي بُلي بحروب طاحنة وجفاف قاتل يناشدونكم اليوم يا أتباع محمد أن تؤثروهم بعطاء مما أعطاكم الله، وتفيضوا عليهم مما أنعم الله به عليكم، ويناشدونكم ألا تتركوهم للمنصرين، يعبثون بشبابهم، وينصرون أطفالهم.
إخوة الإسلام: لو تبرع كل واحد منا بقيمة طعامه في أسبوع واحد لكفى إخواننا مؤونة شهر كامل، فإنهم يكفيهم القليل، والقليل أجره عند الله كبير، فهلا بادرنا إلى جنة عرضها السموات والأرض، وأخرجنا من هذه الأموال ما يسد جوعة، ويستر عورة، ويعين مسلماً، فهذه الصناديق عند باب المسجد تنتظركم في هذا اليوم المبارك، وهذه الهيئات الإسلامية تنتظر كل يوم منكم إحساناً ومساعدة وعطفاً وحناناً، فالبدار البدار، وتأسوا بحبيبكم.
(1/1674)
من علامات محبته (2)
الإيمان
الإيمان بالرسل
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة ذكر النبي والشوق إلى لقائه. 2- نماذج من شوق المؤمنين للقائه. 3- التضحية
والبذل دليل الصدق في المحبة. 4- نماذج للمحبة الصادقة. 5- محبة أهل البيت. 6- من محبته
محبة دينه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: لقد ذكرنا في الجمعة السابقة بعض العلامات الدالة على محبة رسول الله ، واليوم نكمل ما بدأناه في تلك الجمعة.
فمن علامات محبة رسول الله كثرة تذكره، والشوق إلى لقائه، ذلك أن من أحب شيئاً أكثر من تذكره، ولا يكون ذلك إلا إذا شغلت المحبة قلب المحب وفكره، ويتبع ذلك تمني رؤيته ، والشوق إلى لقائه، وسؤال الله اللحاق به على الإيمان، وأن يجمع الله بينه وبين حبيبه في الجنة.
وقد أخبر بأنه سيوجد في هذه الأمة أناس يودون رؤيته بكل ما يملكون، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)) ، فاللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
ويدخل في هذا الشوق إلى لقائه إذ كل حبيب يحب لقاء حبيبه، وحينما قدم الأشعريون المدينة كانوا يرتجزون:
غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه
ولما احتضر بلال نادت امرأته: واويلاه! فأجابها، وهو يقول: وافرحاه! غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه.
وكان خالد بن معدان الكلاعي – وهو من التابعين – لا يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله ، وإلى الصحابة الكرام، ويقول: هم أصلي وفصلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل ربي قبضي إليك، حتى يغلبه النوم.
وهكذا شأن المحب دائماً يشتاق إلى لقاء حبيبه، ويتمنى رؤيته بكل ما يستطيع، فأين شوق المسلمين اليوم إلى نبيهم وحبيبهم أين هو؟ لقد غاب عنا إلا من رحم ربك، لقد شغلنا بالتنافس في حطام الدنيا حتى قل تذكرنا لرسول الله ، فاللهم أيقظنا من رقدتنا، وارزقنا الشوق إلى لقائك ولقاء حبيبك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.
ومن علامات محبته الاستعداد التام لبذل النفس والمال دونه ، فمن المسلم به أن كل محب صادق يترقب باشتياق الفرصة التي يبذل فيها نفسه، وكل ما يملك دون حبيبه، والمحبون الصادقون للنبي كانوا دائماً على أتم الاستعداد لفدائه بكل غال ونفيس، والذين كانوا من بعد عصره كانوا يجدون حسرة في قلوبهم لفوات هذه الفرصة العظيمة، والمتتبع لسيرة النبي مع أصحابه يجد فيهم محبة منقطعة النظير، وفداء بالنفس والمال.
فهذا أبو بكر الصديق رضي لله عنه الذي بذل ماله كله في سبيل الله، تراه يضرب لنا أروع الأمثلة لحب النبي وفدائه له بنفسه، لقد ضحى بنفسه، وعرضها للهلاك والموت ليلة الهجرة إلى المدينة ليفدي بذلك رسول الله لمحبته له، وكان رضي الله عنه يعلل هذه التضحية بقوله: (إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلتَ أنت هلكت الأمة).
وفي الطريق إلى الغار كان الصديق يمشي أمام النبي ساعة، ويمشي خلفه ساعة، فسأله عن السبب فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال النبي : ((لو كان شيء أأحببت أن تقتل دوني)) ؟ قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله، حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه.
وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يبكي: وددت أن عملي كله مثل عمله يوماً واحداً من أيامه وليلة واحدة من لياليه، أما الليلة فالليلة التي سار مع النبي إلى الغار.
فلما انتهيا إليه قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فمسحه فوجد في جانبه ثقباً فشق إزاره، وسدها به، وبقي اثنان فألقمهما رجله، ثم قال لرسول الله ادخل، فدخل النبي ، ووضع رأسه في حجره، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه النبي ، فسقطت دموعه على وجه النبي ، فقال: ((ما لك يا أبا بكر؟)) قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل عليه النبي ، فذهبت ما يجده.
هل بالله عرف التاريخ مثل هذه التضحية، ومثل هذه المحبة؟ الله أكبر، إنه حب فريد، حب الصديق لرسول الله ، إنه حب ينبع من إيمان عميق، وإخلاص شديد، فانظروا – رحمكم الله – إلى مثل هذه النماذج العظيمة لصحابة النبي.
فهذا زيد بن الدثنة رضي الله عنه يخرجه أهل مكة من الحرم كي يقتلوه فيجتمعون حوله، فيقول له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال زيد: والله لا أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي.
هكذا كانت المحبة الصادقة في قلوب أصحابه رضوان الله عليهم مما جعل أعدى أعداء الإسلام يقولون: ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
إخوة الإسلام: هل نحن المدعون لمحبته ، هكذا؟ فيم نفكر نحن؟ ماذا يشغل بالنا؟ هل نحن مستعدون لبذل أرواحنا وأموالنا دفاعاً عن عقيدتنا ونشر ديننا وتحرير مقدساتنا؟ وهل نحن نناصر إخواننا الذين تراق دماؤهم، وتسلب أموالهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله؟ هل نبذل المال لهم، نرفع عنهم الظلم، ونخفف عنهم الحرمان والظلم؟ هل دعونا لهم؟ اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه.
ومن علامات محبته محبة قرابته وأهل بيته وأزواجه وصحابته، ويتمثل هذا في توقيرهم، ومعرفة فضلهم، وحفظ مكانتهم، أذكركم الله في أهل بيته، وحب أصحابه، ومعرفة فضلهم وقدرهم، والثناء عليهم بما هم أهله، فهم خير هذه الأمة بعد نبيها، ويكفي أنهم فازوا بشرف صحبة النبي ، وأن الله قد خصهم بهذا الشرف دون غيرهم من العالمين، وَ?لسَّـ?بِقُونَ ?لأْوَّلُونَ مِنَ ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأنْصَـ?رِ وَ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:100].
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا حقوق بكم، فأدوها وحقوق نبيكم ، فاحفظوها، وبادروا إلى ما فيه مرضاة ربكم، اللهم اسلك بنا طريقك المستقيم، اللهم وفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمن علامات محبة النبي نصرة سنته والذب عن شريعته، فإن المحب يبذل نفسه وماله، وكل ما يملك للغاية التي بذل لها حبيبه طاقاته وقدرته، فالمحبون الصادقون كانوا دائماً على أتم الاستعداد للتضحية بكل شيء لنصر هذا الدين وإعلاء شأنه.
فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه وجد عدداً من المسلمين جالسين في معركة أحد فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله ، قال: فماذا تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قتل.
هكذا كان المحب الصادق مستعداً أن يقدم نفسه للغاية التي كان حبيبه دائماً على استعداد لتقديم نفسه الشريفة لها.
إخوة الإسلام: يجب علينا أن نراجع أنفسنا، ونحاول أن نسير على درب أسلافنا الصالحين حتى نكون صادقين في محبتنا لرسول الله. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً.
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والمنة المسداة، سيد الأولين والآخرين، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1675)
من معجزاته
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, معجزات وكرامات
رضا بن محمد السنوسي
مكة المكرمة
السنوسي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أيد الله جميع رسله بالمعجزات الباهرة. 2- أعظم معجزات النبي القرآن الكريم. 3- ذكر
بعض معجزات النبي. 4- وجوب محبة النبي والإيمان به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحبابنا في الله: لقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالآيات الباهرات والمعجزات الواضحات، كما أيد إخوانه من النبيين والمرسلين بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، قال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ وَكَانَ ?للَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:165].
ولما كان نبينا وحبيبنا محمد أعظم النبيين قدراً، وأكثرهم تبعاً، وأشدهم صبراً، وأعمهم رسالة حيث أرسل إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، فقد أيده مولاه بآيات باهرات ومعجزات واضحات، أجراها الله على يديه تصديقاً لنبوته، وإعلاماً بشأنه، وحجة على الناس ليؤمنوا به، ويصدقوا برسالته، فيسعدوا به في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم معجزاته القرآن الكريم، تلك المعجزة الخالدة على مر الأيام والسنين، كتاب قد حفظه الله من كل تحريف وتبديل، وجعله مسلكاً للمؤمنين، وسبيلاً موصلاً إلى جنات النعيم كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـ?تُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1].
كتاب، من استمسك به سعد في الدنيا والآخرة، وصدق مولانا: كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1].
فالقرآن الكريم هو المعجزة المعنوية الخالدة، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن تمسك به فقد هدي إلى صراط مستقيم، يقول : ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) [متفق عليه].
وليس معنى هذا حصر معجزاته في القرآن، وأنه لم يؤت غيره، بل المراد أن أعظم هذه المعجزات هو القرآن؛ لأنه خالد باقٍ، أما باقي المعجزات فقد انتهت بموته ، قال الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبياً ما أعطى محمداً. وهذا كناية عن المعجزات الباهرات التي أجراها الله على يد نبيه ، فمنها انشقاق القمر نصفين، روى المحدثون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا إلى السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثلما رأيتم، فهو سحر سحركم به، قال: فسئل السفار، وقدموا من كل وجهة، فقالوا: رأينا، فأنزل الله: ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ وَ?نشَقَّ ?لْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:2].
ومن معجزاته نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره ببركته، أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (رأيت رسول الله ، وحانت صلاة العصر، فالتُمس الوضوء، فلم يجدوه، فأتى رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضأوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضأوا من عند آخرهم)، وفي رواية: (وكانوا سبعين أو نحوه): (3573).
وحادثة نبع الماء قد تكررت مرات كثيرة، ففي الحديبية في السنة السادسة من الهجرة حينما عطش الناس نبع الماء من بين أصابعه ، أخرج البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية، والنبي بين يديه ركوة فتوضأ، فجهش الناس نحوه، فقال: ((ما لكم)) ؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ، ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة، أي ألف وخمسمائة. (3576).
ومن معجزاته تكثير الطعام بين يديه، أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله ضعيفاً أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت يدي – أي وضعته ولا تثني بعضه – أي لفت رأس ابنها ببعض الخمار كالعمامة – ثم أرسلتني إلى رسول الله ، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله : ((أرسلك أبو طلحة)) ؟ فقلت: نعم، قال: ((بطعام)) ؟ قلت: نعم، فقال رسول الله لمن معه: ((قوموا)) ، فانطلق، وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله بالناس، وليس عندنا ما نُطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ، فأقبل عليه رسول الله وأبو طلحة معه، فقال رسول الله : ((هلمي يا أم سليم، ما عندك)) ، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ففتَّ وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) ، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) ، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ((ائذن لعشرة)) ، فأكل القوم كلهم حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. (3578).
صلوات الله وسلامه عليك يا أبا القاسم، يا رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ومن معجزاته حنين الجذع، (الترمذي وابن ماجه). وتكليم الحجر والشجر، وتسبيح الحصى بين يديه (ابن ماجه)، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان المسجد مسقوفاً على جذوع نخل، فكان النبي إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، فنزل النبي حتى أخذها، فضمها إليه حتى استقرت، وفي رواية: ((لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة)).
فانظروا – رحمكم الله – جذع إليه حنّ، ألا يجدر بنا نحن أن نَحِنَّ إليه ، وأن نحبه ونسلك منهجه؟ اللهم وفقنا لذلك.
وأما كلام الحجر والشجر فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله في سفر، فدنا منه أعرابي، فقال: ((يا أعرابي، أين تريد)) ؟ قال: إلى أهلي، قال: ((هل لك إلى خير)) ؟ قال: وما هو؟ قال: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله)). قال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ قال : ((هذه الشجرة، وهي في شاطئ الوادي، فادعها، فإنها تجيبك)) ، فدعوتها فأقبلت، تخد الأرض خداً حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت أنه كما قال، ثم رجعت إلى مكانها. [الشفا: 1/298].
وأما تسبيح الحصى، فقد قال أنس رضي الله عنه: أخذ رسول الله كفاً من حصى، فسبح في يد رسول الله حتى سمعت التسبيح.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا من رسولكم الأسوة الكاملة والقدوة الشاملة لكل خلق كريم وأدب رفيع، واتعظوا بما سمعتم من الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات التي أيد الله بها رسوله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الحديد:28].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا، اللهم ارزقنا كمال العمل بسنة نبيك محمد ، اللهم أحينا على سنته، وتوفنا على ملته واحشرنا في زمرته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، أحمد ربي وأشكره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن هذه الآيات الظاهرات والمعجزات الباهرات توجب علينا الإيمان بها والتصديق بها؛ لأنها علامات أجراها الله على يد نبيه دليلاً قاطعاً وبرهاناً ساطعاً على صدق نبوته وإخلاصه في دعوته، فمن هنا وجب علينا الإيمان بها، والمحبة لهذا النبي، والتصديق برسالته، والسير على نهجه كما قال : ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين)) [البخاري].
فحققوا عباد الله هذه المحبة لرسولكم ، واستمسكوا بسنته، واحرصوا عليها، وليكن لهذه المحبة أثراً ظاهراً في حياتكم وسائر أعمالكم، فإن هذه المحبة هي شرط الإيمان.
اللهم وفقنا لذلك، وارزقنا محبته ، ووفقنا للعمل بكتاب ربنا وسنة نبينا.
ثم صلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك مولانا الكريم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1676)
الحياء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
محمد بن مجدوع الشهري
جدة
جامع أبي هريرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحياء وأثره. 2-الحياء من الله. 3- الحياء من الناس. 4- خطورة المؤامرة على الحياء. 5- الفرق بين الحياء والخجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن عِمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياءُ لا يأتي إلا بخير)) [متفق عليه]. وفي رواية: ((الحياءُ خيرٌ كُلُه)).
عبادَ اللهِ: إنَّ وجودَ الحياءِ في الإنسانِ يدفعُهُ إلى المحاسِنِ ويُبْعِدُهُ عنِ القبائِح، وإذا زالَ الحياءُ من الإنسانِ ارتكبَ المعاصيَ والآثامَ في الخلوةِ، وأمام الأقاربِ والجيرانِ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مِمَّا أدركَ الناسُ من كلامِ النبوةِ الأولى: إذا لمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ ماشِئْتَ)) [رواه البخاري].
والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان، ولقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شديدَ الحياءِ، يقول عنه الصحابيُّ الجليلُ أبو سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه -: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذرَاءِ في خِدْرِها، فإذا رأى شيئاً يكرهُهُ عَرَفْنَاهُ في وجْهِهِ) [متفق عليه].
والعذراءُ البنتُ التي لم يَسبقْ لها نِكاحٌ، وخِدرُها موضعُها الذي تُصانُ فيه عن الأعْيُنِ، يرحمُ الله أبا سعيدٍ الخُدريِّ ورضي الله عنه يضْرِبُ لنا مثلاً بالبِنتِ البكرِ.. كيفَ لو رآها وقد أُهْمِلَتْ، تَذْهبُ معَ السائِقِ وحْدَهَا، وتذْهبُ إلى الأسواقِ وتَتَحدَّثُ مع الباعةِ والخيَّاطِينَ ولا فرقَ بينها وبين المرأة العجوز، بل إنَّ بعضَ المسلمينَ في كثير من بلدان العالم الإسلامي تَركُوا بناتِهم يَخْتلِطنَ مع الرِجالِ في التعليمِ والعَمَلِ، لأنه قد نُزِعَ الحياءُ منهم وقلّتِ الغيرةُ فيهم، وإذا فُقِدَ الحياءُ تدّرجَ الإنسانُ من سيِّىءٍ إلى أسوأِ، وهَبط من رَذيلةٍ إلى أكبر منها.
وما هو الحياءُ الحقيقيُّ عباد الله ؟ إنه الابتعاد عمَّا حرَّمَ اللهُ وحِفْظُ الجوارِحِ أنْ تُستعْمَلَ في معصيةِ اللهِ، فَهلْ منَ الحياءِ أن تستعمِلَ اللسانَ في الغيبةِ والنَّمِيمَةِ والكذِبِ وقولِ الزورِ والسبِّ والشتمِ والنيلِ من الآمرين بالمعروفِ والناهينَ عن المنكرِ ؟ وهل من الحياءِ أن تستعملَ نِعْمةَ السمعِ في استماعِ المُحرماتِ مثل الغِناءِ والموسيقى والغِيبةِ والنميمةِ ؟ وهل من الحياءِ أن تستعملَ ما وهبك اللهُ من مواهِبَ في الشعرِ والقصةِ والرسمِ والفصاحةِ في نشرِ الرذيلةِ في المُجْتمعِ؟
وهل من الحياءِ أن تنْظُرَ إلى ما حرم عليكَ النظُرُ إليه من النساءِ الأجنبياتِ كمن يُشاهِدُ ذلك في التِلْفازِ وفي الشارِعِ وغيره.
ورحم الله ابن القيم القائِل:
هبِ البعثَ لم تأتِنا رُسْلُه وجَاحِمَةُ النارِ لم تُضْرمِ
أليسَ منَ الواجِبِ المُسْتَحِقِّ حياءُ العبادِ من المُنْعِمِ
عِبادَ اللهِ: إنه واجِبٌ علينا أنْ نُراقِبَ اللهَ ونستحي منهُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ. قال الشاعِر:
وإذا خلوتَ بِريبةٍ في ظُلْمَةٍ والنَّفْسُ داعيةٌ إلى الطُغْيانِ
فاستحي من نظرِ الإلهِ وقُلْ لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يَرَاني
عِبادَ اللهِ:
إنَ خُلُقَ الحياءِ يحْتاجُهُ كُلُّ مُسْلِمْ، بل إنه شُعبةٌ من شُعبِ الإيمانِ قال صلى الله عليه وسلم: ((الإيمانُ بِضْعٌ وسبعونَ شُعْبة، أفضلُها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عنِ الطريق، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان)).
فالحياءُ يقودُكَ إلى توحيدِ الله سُبْحانهَ وإفرادِهِ بالعِبادةِ لأنه المُنْعِمْ، فالنفسُ تستحي من الله أن تجعلَ له نِداً أو تجْعلَ معه شريكاً.
وحياؤكَ من والِدِاكَ يقودُكَ إلى بِرِهما والإحْسانِ إليهما.
وحياؤكَ من الناسِ يقودُكَ إلى رفعِ الأذى عنهم. وحياؤكَ من ضيفِكَ يقودُكَ إلى إكْرامِه، قال ابنُ القيمِ رحِمَهُ الله: فالحياءُ هو من أعظمِ الأخلاقِ وأكْرَمِها ذلك لأنه مصدرُ الفضائِلِ، فالولدُ يبرُ بوالديهِ بسبب الحياءِ، وصاحِبُ الدارِ يُكْرِمُ ضيفَهُ بسبب الحياءِ، والعبدُ يفي بالموعدِ بسبب الحياءِ أيضاً، لذلك عندما سُئِلَ المصطفى عليه الصلاة والسلام قالَ: ((إنَّ لِكُلِ دين خُلُقاً وخُلُقُ الإسلامِ الحياء)) [مروي بإسناد حسن عن أنس].
أيها الإخوةُ الكِرام:
كمْ نحنُ في حاجةٍ إلى تربيةِ أنفُسِنا وأبنائِنا على خُلُقِ الحياءِ وإذا أردتَ أن تعْرِفَ فضلَ التربيةِ على هذا الخُلُقِ فانظُرْ إلى من نزع الله الحياءَ من وجُوهِهِم من ذُكورٍ وإناثٍ في أي وادٍ يهيمون، وفي أي مُصيبةٍ يقعون، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله.
فلكَ أخي الكريم أنْ تَتَصورَ إلى أي مدى سوف تكونُ تعاسةُ الحياةِ إذا زالَ الحياءُ، فكيفَ بِكَ لو رأيتَ المرأةَ وهي تقودُ السيارةَ وتُزاحِمُ الرجالَ في طُرُقاتِهِم فكيفَ ستكونُ الحياةُ بعْدَ ذلكَ؟
وهُناكَ مِنْ الذين نزعَ اللهُ الحياءَ مِنْ قُلوبِهِم مَنْ يتمنى ذلك، ولكِنْ نقولُ: خيبَ اللهُ سَعْيهُمْ وجَعَلَ كيدَهُمْ في نُحورِهِم، وكيفَ بِكَ لو رأيتَ الشبابَ مِنْ أبناءِ الإِسلام يلْعَبُ بالكُرةِ والمؤذِنُ يؤذِنُ لِلصلاةِ ولا يُلقي لذلك بالاً، فكيف ستكونُ الحياةُ في غُرْبةٍ لِلدينِ كهذهِ الغُرْبة؟
وكيفَ بِكَ لو رأيتَ امرأةً تُشَجِعُ فريقاً كُروياً تَغْضَبُ لِغضَبِهِ وتَفْرحُ لِفرحهِ؟ إنه خُرُوجٌ عنِ الفِطْرَةِ وأيُّ خُرُوجْ.
عِباد اللهِ أرأيتُمْ إنَّ الحياءَ خُلُقٌ عظيمْ يحْفَظُ لِلرَجُلِ هيْبَتَهُ ورُجولَتَهُ ويَحْفظُ لِلمرأةِ عِزْتَها وأُنوثتَهَا، ويُلْبِسُ الشَّابَ الْجَمالَ والْكرَامةَ.
فالأبُ عليهِ أن يُربي ولده على الحياءِ، والأمُ عليها أن تُربي بنتها على الحياءِ والمُدرِسُ عليه أن يُربي تلاميذَهُ على الحياءِ، وبهذا تمشي سفينةُ الحياةِ التي هي أصلُ اشْتِقاقِ الحياءِ منها، فكأن حياةً لا حياءَ في أهلِها ليست بحياة ،والأمرُ كذلك واللهِ عِبادَ اللهِ.
اللهُمَ ارزُقْنَا الفِقْهَ في الدينِ والحياءَ مِنْكَ يا ربَ العالمين، وفقني الله وإياكُمْ لما يحب ربُنا ويرضى وأسْتَغْفِرُ الله العليَّ العظيمَ لي ولكُمْ ولِسائِرِ المُسْلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ فاسْتَغْفِروه إنه هو الغفورُ الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمْدُ لِلهِ الذي جعَلَ مِنْ صِفاتِهِ الحياءَ قال صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: ((إنَّ اللهَ حيَيٌّ كريمْ يَسْتَحي مِنْ عبدِه إذا رفع يديهِ إليهِ أن يرُدَهُما صِفْراً)).
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبينا مُحمداً عبد اللهِ ورسولُه كان أشدَّ حياءً مِنْ العَذراءِ في خِدْرِها.
عِبادَ اللهِ: اعلموا أن الحياءَ يختلِفُ تماماً عن خُلُقٍ آخر يُشْبِهُه، ولكِنهُ يُخَالِفُه في معناه، إنه خُلُقُ الخجَلِ المذمومِ، فالخَجَلُ خُلُقٌ نابِعٌ عن خوَرٍ وجُبْن،ٍ والحياءٌ نابِعٌ عن شجاعةٍ وطيبِ معْدنٍ، فإنَ الذي يرى صاحِبَ المُنْكرِ ولا يُنْكِرُ عليهِ بِحُجَةِ الحياءِ مِنْه، فإنْه لمْ يَفْقَه معنا الحياءَ، وإلا فإن الحياءَ خير كله كما قال المُصْطفى صلى الله عليه وسلم في الْحَديث، قال الإمامُ النووي في شرحِ هذا الحديثِ: وأما كونُ الحياءِ خيراً كُلُه، ولا يأتي إلا بخيرٍ، فَفَدْ يُشْكِلُ على بعضِ الناسِ من حيثُ أن صاحِبَ الحياءِ قد يسْتحي أن يواجه بالحقِ من يُجِلُه فيتْرُكَ أمْرَه بالمعْروفِ ونهيه عنِ المُنْكرِ، وقدْ يحْمِلُه الحياءُ على الإِخْلالِ بِبعضِ الحُقوقِ وغيرِ ذلك مما هو معْروفٌ في العادةِ.
وجوابُ هذا ما أجابَ بِهِ جماعةٌ مِنْ العُلَماءِ - أن هذا المانِعَ الذي ذكرناه ليس بحياءٍ حقيقة بل هو عجْزٌ وخورٌ ومهانة، وإنما تسْميته حياءً مِنْ إطلاقِ بعضِ أهلِ العُرْفِ أطْلقوه مجازاً لِمُشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خُلُقٌ يَبْعثُ على تركِ القبيح ويمْنَعُ مِنْ التقْصير في حقِ ذي الحق.
فلذلك عِبادَ اللهِ ينبغي عليكُمْ أنْ تُراعوا هذه المسْألة وتُربوا أبناءكُمْ على الحياءِ لا على الخَجَلِ، فهذا عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنْه يُدْخِلُه عُمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه على أشياخِ بدر ويسألُهم عن تفْسيرِ قوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ ?للَّهِ وَ?لْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ?لنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ ?للَّهِ أَفْو?جاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَ?سْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا [سورة العصر]. فقال بعْضُهُمْ: أمر الله نبيه إذا فتح الله عليه أن يسبح بحمد ربه ويستغفره، وسكت بعْضُهم، فقال: ما تقولُ فيها يا ابن عباس، قال: قلت:ُ هذا نعيُّ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في نفسه، فلم يمنع ابن عباس رضي الله عنه على صِغَرِ سِنِه أن يقول ما يعْتقِدُ أنه صواب، فليس له حينذاك وقد وجه له السؤال إلا أن يقولَ ما يعْتقِده ولو خالفَ فيه أشياخَ بدرٍ رضي الله عن الجميع، إنها التربيةُ العالية المنيفة التي مزجت الشجاعةَ مع حُسنِ الطبعِ والأدب.
فمِنْ هُنا نعلمُ أنْه ينْبغي أن تُعَلِمَه الحياءَ مِنْ اللهِ بِأن لا يكذب، وألا يعْتدي على الآخرين، ويحْتَرِمَ المسْلمين في طُرُقاتِهِم، وأن لا يتَهاون في صلاةِ الجماعةِ، فبعضُ الناسِ ولدُه يبْلُغُ سِنَ العَشْرِ سِنين ولا يرى أنه لازِمٌ عليه إحضارُه وأمرُه بالصلاةِ ولا يُراقِبه على ذلك حتى ينشأ الولدُ بعيداً عن بيتِ الله فتتخطفه الشياطين والعياذُ بالله. ولنْ يستقيمَ حالُ الأبناءِ حتى يسْتقيمَ حالُ الأباءِ، فهمُ القُدْوةُ لهم إذا رأوهم على حالٍ تشبهوا بهم.
وبعضُ النساءِ- وهذه أيضاً مسئوليةُ الرِجالِ - تكون ابنتهم في سنِ السابعةِ أو الثامِنةِ ويُلْبِسونها القصيرَ مِن الثيابِ حتى تبدو سوقُهنَ، ورُبْما أفخاذُهنَ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فمتى تتربى البنتُ على الحياءِ.
أخي المسلِمَ الكريم: إن الحياء مِنَ اللهِ أن تحضُرَ إلى الصلاةِ في أحسنِ لباسٍ، فإن كُنْتَ عامِلاً وتتَسِخُ ملابِسُكَ من أثرِ العملِ فاجْعل لِنفسِكَ ثوباً خاصاً لِلصلاةِ حتى تقِفْ بين يدي اللهِ في أحسن زينتِكَ.
وأنتَ يا من مَنَّ اللهُ عليك بالسَعةِ والمال هل مِنْ الحياءِ أن تَحْضُرَ إلى المسجِدِ بِقَميصِ البيتِ الذي لا ترضى أن تُقابِلَ به رئيسك في العملِ فضلاً عنْ مُقابلة رب ِالعالمين؟
فاتقوا الله عِباد الله واستحيوا مِن الله حق الحياءِ قال تعالى: يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ.
عِبادَ اللهِ: نحن في هذه الأيامِ مُقْبِلونَ على شهرٍ عظيمٍ اختصه الله بمزيدِ فضله وجعَلَه لكم نِعْمةً منه ورحمة ليُضاعِفَ لكم به الأعمالَ ويقيكمْ من كيدِ الشيطان، فهل من الحياءِ مِمَن هذا عطاؤه، ومنُّه أنْ نُفرِط في استقبالِه، فابدؤوا باركَ الله فيكم في الاستِعداد ِله قبلَ أن يأتيَكُمْ، لا تَشْتَغِلوا فيه بقضاءِ الحاجاتِ والنومِ في نهارِه واللعِبِ في ليلِه، وأحسِنوا الأدبَ مع اللهِ واستحيوا منه حق الحياء،
قال صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا مِنْ اللهِ حقَ الحياءِ؟ قالوا وكيفَ نسْتحي مِنْ الله حق الحياءِ ؟ قال: أن تحفظَ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، وأن تذكُرَ الموتَ والبِلى، ومن أراد الآخِرةَ. ترك زينة الحياةِ الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا مِنْ الله حقَ الحياءِ)) [مروي بإسناد حسن عن ابن مسعود].
اللهم ارزُقْنا الحياءَ مِنْكَ ومِنْ كُلِ ما يستحيا مِنْه، وجنبنا الخجَل والزللَ وسوء الظنِ.
عباد الله اتقوا الله واعلموا أنكم مُلاقوه فهيئوا لأنفُسِكُمْ ما يرضى به الله عنْكُمْ وباللهِ التوفيق، وصل اللهم وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه وسلِمْ تسْليماً كثيراً.
(1/1677)
ابتلاء النعم
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
محمد بن مجدوع الشهري
جدة
جامع أبي هريرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1-كل من مسئول عما ائتمن عليه. 2- نعم الله نوع من البلاء. 3-الحساب يوم القيامة على قدر العطاء. 4- دروس من قوله تعالى: هو الذي جعلكم خلائف الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون: إن مما ينبغي أن يدركه كل مؤمن أنه مكلف ومطالب أن يقوم بواجب وأمان حمل هذا الدين وتبليغه ونشره، كل بوسعه وعلى قدر جهده وطاقته وعلمه ومكانته التي أعطاه الله إياها، فالأب مؤتمن على من يعول من الأبناء والزوجات والأقارب، والمعلم مؤتمن على طلابه، والمدير مؤتمن على أفراد إدارته، فانه لن يقوم بفكاك رقبتك أيها العبد يوم القيامة إلا ما قدمت تجاه من اؤتمنت عليهم.
فيا من احتمل هذه الأمانة قل لي بربك من تراه يقوم مقامك ويخلصك من ثقلك، وكل إنسان يسعى لفكاك نفسه وتخليص رقبته من الأثقال، ثم ليعلم أن من يأنس في نفسه قدرة على الحفظ أو التفقه أو الدعوة أو الإصلاح من خلال منبر أو موقع أو مسئولية أنه ينبغي أن لا يتخلى عنها إيثاراً للسلامة أو طلباً للعاجل أو انكفاء على نفسه، بل عليه أن يبلغ دين رب العالمين وأن ينجو من لجام النار المتوعد به من كتم علماً.
واعلموا عباد الله أن كل نعمة منحها الله لعبده هي ابتلاء يسأل عنها يوم القيامة ،ولكن المشكلة أن الناس يدركون النعم المادية كالمال والولد والمنصب وغيرها، ولا يكادون يدركون النعم غير المادية كالذكاء والمواهب الجسمية والقدرات النفسية.
فالغني مثلا يعلم أنه مطالب بالإنفاق في سبل الخير بما لا يطالب به الفقير، ولكن القوي لا يدرك أن في قوة جسمه حقاً للضعيف والكل، وقل مثل ذلك في البصير مع الأعمى، والصحيح مع المريض.. وكم من الناس من يستخدمون عقولهم التي منحوها لنصرة الحق والدفاع عنه، وكم من الناس من يوجه نعمة الفصاحة والبيان التي أوتيها إن كان باللسان وإن كان بالبنان للدعوة إلى الإسلام، وفضح أعدائه.
أوَ يظن أحد أن حساب الغني يوم القيامة كحساب الفقير؟ أو أن حساب الذكي كحساب الغبي والبليد؟ أو حساب الفصيح كحساب العيي؟ أو حساب الحافظ كحساب من ينسى؟ أو حساب الشجاع كحساب الجبان؟
إنه لمختلف جداً، لا يستويان، وإن قال قائل: على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فهذا بجهدي وبذلي، وكلٌ يستطيع أن يصل إلى ما وصلت إليه من منح الله ونعمه، فنقول: صحيح إن الاجتهاد مطلوب، وقد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) فبهذا يطلب البذل وتقر النتيجة التي يهبها الله لعباده بتقديره وتدبيره ولا يعلم ذلك التدبير إلا مدبره عز وجل.
ويعلم ذلك عباد الله لمن تدبر قوله تعالى: وَهُوَ ?لَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـ?ئِفَ ?لأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَـ?كُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:165]. فلنقف مع هذه الآية العظيمة نستخرج منها دروساً وحقائق:
فأولها: جَعَلَكُمْ خَلَـ?ئِفَ ?لأرْضِ ، فجنس البشر خلفاء استخلفهم الله في الأرض لينظر كيف يعملون، وأصل وجودهم فيها هو لهذا، وهو قدر يشترك فيه جميع المكلفين.
والحقيقة الثانية: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ ، هكذا درجات، لتشمل جميع أنواع التمايز والاختلاف والتفاوت بين الناس، في أموالهم أو أجسامهم أو عقولهم أو ملكاتهم أو مواقعهم ومناصبهم ومسئولياتهم.... وهذه سنة إلهية محكمة نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـ?تٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].
والحقيقة الثالثة: لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـ?كُم ، فهذه الدرجات على اختلافها منن ومنح هي لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـ?كُم [المائدة:48]. فكل ما رزقكم الله من المنن الظاهرة أو الخفية فإنما ليبلوكم بها، هل تنجحون في تسخيرها للإسلام؟ أم تضيعونها هدراً؟ أم تجعلونها حرباً في صدور المؤمنين؟.
والحقيقة الرابعة: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:167]. فإذا استثمر العبد ما منحه الله في معصيته وتكذيب رسله أسرعت إليه العقوبات في الدنيا والآخرة، وإذا بذل ما يملكه في سبيل الله تجاوز الله ما يحدث منه من خطأ وسهو وغفلة وتقصير، لأنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1678)
أهل الكبائر لا يكفرون
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
محمد بن مجدوع الشهري
جدة
25/5/1421
جامع أبي هريرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة التألي على الله. 2- معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة. 3- الله وحده المطلع على ما في قلوب العباد. 4- الأسباب العشرة المنجية من الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمة الإيمان: يقول عليه الصلاة والسلام: ((كان رجلان في بني إسرائيل متأخيين وكان أحدهما مذنب والآخر مجتهد في العبادة، وكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً ؛ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة. فقبض أرواحهما.. فاجتمعا عند رب العالمين. فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً.. وقال للمذنب: اذهب وادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر اذهبوا به إلى النار)).
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
أيها المسلمون: إن من عقيدة أهل السنة أن لا يكفروا أهل الكبائر من المسلمين ما لم يستحلوها، وما لم يدل الدليل الشرعي على أن هذا العمل كفر كترك الصلاة، قال شارح الطحاوية رحمه الله: فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار، بل هذا حكم الكافر بعد الموت، ثم قال رحمه الله: ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطأً" مغفوراً له أو يمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله كما غفر للذي قال: إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخوفه وخشيته من الله.
أيها المتألي على الله: أن لا يغفر لفلان أو لفلان، ويا أيها القائل: لقد انتقل ذاك العاصي إلى جهنم فقد مات على معصيته.
لقد غفر الله لبغي من بني إسرائيل بكلب سقته شربة ماء، وغفر الله لرجل أزال غصن شوك عن الطريق، وتاب على عبد قتل مائة نفس.
إن المسلم ينبغي أن يكون وقافاً عند حدود الله كافاً لسانه عن ما لا يعلم قال الله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً.
أيها المؤمنون: إن بغض المعاصي وإن كان مطلوباً شرعاً فليس مسوغاً للمسلم أن يتألى على الله فيحكم بالجنة والنار، أو الثواب والعذاب، أو العقاب والمغفرة لأحد من أهل القبلة.
في البخاري من حديث عمر رضي الله عنه قال أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً وكان يُضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) فهّذا رجل أتى كبيرة لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعلها، لكنه منع من لعن هذا المعين لقيام المحبة لله ورسوله في قلبه.
أيها المسلمون إن من كبائر الذنوب العجب والامتنان على الله بالأعمال والشعور بالعلو على الناس بالطاعة وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((والله ماأدري وأنا رسول ما يفعل بي)).
وقال مالك بن دينار - إمام من أئمة الهدى والعبادة-: لو أن منادياً ينادي بباب المسجد ليخرج شركم، والله ما كان أحد ليسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قدرة سعيه، قال موسى بن القاسم: كانت زلزلة وريح فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت: يا أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز وجل، فقال: ليتني لم أكن سبب هلاككم.
أيها المسلمون: إن الله واسع الرحمة والمغفرة عظيم العطاء، سبقت رحمته غضبه، فلا يجوز لمسلم أن يحجر واسعاً أو أن يحكم بأن أحداً من المسلمين محروم من هذه الرحمة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بعشرة أسباب:
أولها: التوبة.
ثانيها: الاستغفار ولو بدون توبة.
ثالثها: الحسنات الماحية كما قال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114].
رابعها: دعاء المؤمن للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته، في صحيح مسلم: ((ما من رجل مسلم يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)).
خامسها: ما يعمل للميت من أعمال البر كالصدقة ونحوها.
سادسها: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة)) لأنها أكثر ما تكون للمذنبين الخطائين، وليست للمتقين.
سابعها: المصائب التي يكفر الله بها الخطايا في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أدنى من ذلك حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
ثامنها: ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة، فإن هذا مما يكفر بها الخطايا.
تاسعها: أهوال يوم القيامة وكربه وشدائده.
عاشرها وأهمها وأعظمها: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة كما قال سبحانه تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
فمن أخطأته هذه الأسباب العشرة ولم يشأ الله أن يغفر الله له لعظم جرمه فلابد من دخوله إلى الكير ليخلص إيمانه من خبث معاصيه ولا يبقى في النار من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من أهل القبلة بالجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم وامتنع القطع لأحد من أهل القبلة بالنار إلا من عين الرسول صلى الله عليه وسلم. وكلنا مع ذلك نرجو رحمة ربنا ونخاف عقابه، فنحن بين الخوف والرجاء.
بلغنا الله وإياكم ما نرجو وأمننا مما نخاف.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1679)
السيرة النبوية 1
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مازن التويجري
الرياض
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ بعض من حال العرب في الجاهلية. 2 ـ أبرهة يغزو مكة لهدم الكعبة3 ـ ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ونشأته في بادية بني سعد4 ـ حادثة شق صدره صلى الله عليه وسلم5 ـ بعض علامات تميزه صلى الله عليه وسلم في صغره6 ـ زواجه من خديجة7 ـ بناء الكعبة ودوره صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود
_________
الخطبة الأولى
_________
في جو مشحون بزيف الباطل، وركام الجاهلية، يسوس الناس جهلهم، ويحكمهم عرفهم وعاداتهم، قتل وزنا، عهر وخنا، وأد للبنات، تفاخر بالأحساب والأنساب، ساد في البقاع قانون الغاب، فالبقاء للقوي، والتمكين للعزيز، تُغير القبيلة على الأخرى لأتفه الأسباب، تقوم الحروب الطاحنة، تزهق فيها الأرواح، وتهلك الأموال، وتسبى النساء والذراري، وتدوم السنون، وتتعاقب الأعوام، والحرب يرثها جيل بعد جيل، وأصلها بعيرٌ عُقر، وفرسٌ سبقت أخرى، أو قطيع أغنام سيق وسرق.
ساد في ذلكم المجتمع عادات غريبة عجيبة، فعند الأشراف منهم كانت المرأة إذا شاءت جمعت القبائل للسلام، وإن شاءت أشعلت بينهم نار الحرب والقتال، بينما كان الحال في الأوساط الأخرى أنواع من الاختلاط بين الرجل والمرأة، لا نستطيع أن نعبر عنه إلا بالدعارة والمجون والسفاح والفاحشة.
كانت الخمر ممتدح الشعراء، ومفخرة الناس، فهي عندهم سبيل من سبل الكرم، ناهيك عن صور الشرك وعبادة الأوثان، التي تصور كيف كان أولئك يعيشون بعقول لا يفكرون بها، وبأعين لا يبصرون بها، وأذان لا يسمعون بها إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44].
في هذه الأثناء حدث حادث عجيب لمكة وحرمها، رأى أبرهة الصباح نائب النجاشي على اليمن أن العرب يحجون الكعبة، فبنى كيسة كبيرة بصنعاء ليصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلاً ولطخ قبلتها بالعذرة، ولما علم أبرهة بذلك ثار غضبه وسار بجيش عرمرم عدده ستون ألف جندي إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلاً من أكبر الفيلة، وكان في الجيش قرابة ثلاثة عشر فيلاً، وتهيأ لدخول مكة فلما كان في وادي محسر بين المزدلفة ومنى برك الفيل ولم يقم، وكلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق قام يهرول، وإذا وجهوه قبل الكعبة برك فلم يتحرك، فبينما هم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار مثل الحمص، لا تصيب أحدًا منهم إلا تقطعت أعضاؤه وهلك، وهرب من لم يصبه منها شيء يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل مهلك، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
وكانت هذه الوقعة قبل مولد النبي بخمسين يومًا أو تزيد، فأضحت كالتقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وبعد أيام من هلاك ذلكم الجيش أشرقت الدنيا وتنادت ربوع الكون تزف البشرى ولد سيد المرسلين، وإمام المتقين، والرحمة للعالمين في شعب بني هاشم بمكة صبيحة يوم الإثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، ولد خير البشر، وسيد ولد آدم، ولد الرحيم الرفيق بأمته أطل على هذه الحياة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، روى ابن سعد أن أم رسول الله قالت: لما ولدته خرج من مني نور أضاءت له قصور الشام، وأرسلت على جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد، وهو اسم لم يكن معروفًا في العرب، وختنه يوم سابعه كما كانت العرب تفعل، وقد ولد يتيمًا حيث توفي والده قبل ولادته وقيل بعدها بشهرين، وأول من أرضعته بعد أمه آمنة ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له مسروح، وكانت العادة عند حاضرة العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، ابتعادًا على أمراض الحواضر ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، ولنترك الحديث لمرضعته حليمة السعدية تحدثنا عن قصة رضاعها إياه، قالت: خرجت مع زوجي وابني في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا فخرجت على أتان لي قمراء ضعيفة، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا من الجوع، وما في ثديي ما يغنيه، وما في ضرع شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلأخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافلٌ، فحلب منها وشربت معه حتى انتهينا ريًا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة، قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته معي عليها، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقولن لي: يا ابنة أبي ذؤيب: ويحك، اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها فأقول لهن: والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعًا لُبنًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم، ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتاه حتى كان غلامًا جفرًا: قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة، وبقي رسول الله في بني سعد، ووقع حادث عجيب له في سنته الرابعة أو الخامسة، روى مسلم عن أنس أن رسول الله أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقه، فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. وبعد هذه الحادثة خشيت عليه حليمة فردته إلى أمه ولما بلغ سنته السادسة توفيت أمه فكان عند جده عبد المطلب، فحنَّ عليه كأشد ما يكون الحنو، بل آثره على أولاده، فكان رسول الله يأتي وهو غلام فيجلس على فراش جده في ظل الكعبة وأعمامه حول الفراش فيقول جده: دعوا ابني هذا فوالله إن له لشأنًا ولما تخطى سنته الثامنة توفي جده الذي عهد بكفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه، فكان يوليه من العناية ما لا يجعله لأبنائه، ويخصه بفضل احترام وتقدير ومكانة.
ومن آياته وكراماته ما أخرجه ابن عساكر عن جلهمه عن عرفطه قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش يا أبا طالب: أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستق فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قثماء، حوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام، وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق واغدووق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي. وإلى هذا أشار أبو طالب بقوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ولما بلغ رسول الله اثنتي عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام حتى وصل إلى بصرى، وكان فيها راهب يقال له بحيرًا، فلما نزل الركب، خرج وأكرمهم وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، وعرف رسول الله بصفته، فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال أبو طالب: وما علمك بذلك فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا وخرَّ ساجدًا، ولا تسجد إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبو طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفًا عليه من اليهود فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
وكان عليه السلام في بداية حياته قد رعى الغنم ثم لما بلغ خمسًا وعشرين سنة خرج تاجرًا إلى الشام في مال لخديجة مع غلامها ميسرة فحدثها عن خلاله العذبة، وشمائله الكريمة، وما أوتي من فكر راجح ومنطق صادق، ونهج أمين، ففاتحت خديجة صديقتها نفيسة بنت منبه برغبتها الزواج من محمد فعرضت نفيسة على رسول الله الأمر، فرضي ثم كلم أعمامه فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وأصدقها عشرين بكرة وكانت أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً، وهي أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت. فرضي الله عنها وأرضاها.
_________
الخطبة الثانية
_________
ولخمس وثلاثين سنة من مولده عليه الصلاة والسلام جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فعزمت قريش على بناءها وألا يدخلوا في مالها إلا طيبًا فهدموها حتى بلغوا قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها، فلما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، وكاد أن يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا أول داخل من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون أول داخل هو رسول الله فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد، فأمر برداء ووضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل رفع الرداء إلى موضع الحجر الأسود فوضعه بيده الشريفة.
هذا هو النبي وهذه هي حياته قبل مبعثه، جمع خير ما في طبقات الناس من ميزات، كان طرازًا رفيعًا، وواحدًا فريدًا، ذا نظرة سديدة وفكر صائب، وفطنة وحسن خلق، نفر مما كان عليه قومه من خرافات وعبادات، ما وجده حسنًا شارك فيه، وما كان قبيحًا مشينًا عافه ونفر منه، وعاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالاً. ولا شك أن الله جل وعلا قد أحاطه بعنايته فحال بينه وبين أمور الجاهلية.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي : اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة فخر إلى الأرض، وطممت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إزاري، إزاري فشد عليه إزاره.
كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملاً وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه الأمين.
والحديث موصول إن شاء الله تعالى في سلسلة مباركة أسابيع أخرى. في وقفات مع سيرة المصطفى.
اللهم صلَّ على محمد...
(1/1680)
السيرة النبوية ـ 2
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مازن التويجري
الرياض
10/4/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ عزلة النبي في غار حراء وتحنثه فيه. 2 ـ نزول الوحي عليه في غار حراء.3 ـ تفسير ورقة للنبي ما حصل له في الغار 4 ـ انقطاع الوحي ثم عودته5 ـ بدء الدعوة السرية. 6 ـ الجهر بالدعوة على جبل الصفا7 ـ إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وهمها بقتله. 8 ـ الهجرة إلى الحبشة9 ـ قصة إسلام عمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد ذلك تباعدت الشقة بين النبي وبين قومه، وأضحى يقلق لما يراهم عليه من الشقاوة والفساد، واشتد هذا القلق، حتى ما عاد يطيق الإقامة بينهم، فأخذ يحث المسير إلى غار حراء يتعبد فيه ويخلو، على بقايا دين إبراهيم عليه السلام، وهو غار لطيف، يقيم فيه شهر رمضان المبارك يطعم فيه من جاءه من المساكين، ويتفكر فيما حوله من مشاهد الكون، وكان اختياره لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم، ولا بد لأي روح يراد بها أن تؤثر في واقع حياة البشر فتحولها وجهة أخرى.. لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل حياتهم.
ولما تكامل له أربعون سنة، وهي رأس الكمال ولها تبعث الرسل، بدأت آثار النبوة تلوح من وراء الأفق، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال : ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأْكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1 ـ 5] فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة، مالي؟ وأخبرها الخبر، لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرءًا تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى، فأخبره رسول الله خبر ما رأى؟ فقال له ورقة، هذا الناموس الذي نزَّله الله على موسى، يا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله : ((أو مخرجيَّ هم)) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي".
روى البخاري في صحيحه ما نصه: وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال يا محمد: إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
قال ابن حجر رحمه الله: وكان ذلك (أعني انقطاع الوحي أيامًا) ليذهب ما كان وجده من الروع، وليحصل له التشويق إلى العود، فلما تقلصت ظلال الحيرة وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف معرفة اليقين أنه أضحى نبيًا لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء، وصار تشوفه وارتقابه لمجئ الوحي سببًا في ثباته واحتماله عندما يعود، روى البخاري عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يحدث عن فترة الوحي قال: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني، زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ثم حمي الوحي وتتابع حينها قام رسول الله ، فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامُا، لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله، قام يحمل على عاتقه العبء الثقيل عبء الأمانة الكبرى في هذه المعمورة عبء البشرية كلها، عبء العقيدة ونشرها، وعبء الكفاح والجهاد جهاد السيف والكلمة، والدعاء والدعوة.
قام لم يلهمه شأن عن شأن، ولا شغله أمر بمن أخر، فاللهم أجزه خير ما جزيت نبيًا عن أمته.
ولما كانت مكة مركز دين العرب، وفيها سدنة الكعبة، والقوام على الأصنام المقدسة، كان من الحكمة أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية لئلا يهيج أهل الباطل في مكة.
وفي أول يوم من أيام الدعوة أسلم الرعيل الأول السابقون الأولون، فأسلمت خديجة زوج النبي عليه السلام ومولاه زيد بن حارثة وابن عمه علي بن أبي طالب وإمام الأمة بعد رسولها أبي بكر الصديق، ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألوفًا محببًا سهلاً رفيعًا في قومه، فأسلم على يده عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، ثم تلى أولئك بلال وأبو عبيدة والأرقم وخباب وابن مسعود وغيرهم.
قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتُحدث به وكان رسول الله يجتمع بهم سرًا ويرشدهم إلى الدين متخفيًا حيث إن الدعوة لا تزال فردية سرية، وكان في أوائل ما نزل الأمر بالصلاة, فكان النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، ومضت ثلاث سنين والأمر كما هو إلى أن أُمر عليه السلام بالصدع بدعوة الحق فنزل قول الله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين.
وجهر النبي بدعوته فقام يومًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا)) فقال أبو طالب ما أحب إلينا معاوتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامضي لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السنوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا، وقد قال الشقي أبو لهب للنبي عليه السلام قبل هذه المرة: فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشرٍ مما جئت به.
وروى البخاري ومسلم عن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبي على الصفا، فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبًا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ [المسد: 1].
وهذه سنة الله لا تتبدل ولا تتغير، فأعداء الحق ودعوة الحق كثيرون على مر العصور، ولم يكن ولن يكون طريق الدعوة سهلاً يسيرًا مفروشًا بالرياحين والورود، بل هو شاق طويل يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آل عمران: 200].
واستمر عداء كفار قريش للنبي وتفننوا في إيذائه ومن آمن به، ذكر ابن إسحاق أن جيرانه عليه السلام كان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، فاتخذ حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى، وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأذى بعود، فيقف به على بابه ويقول: يا بني عبد مناف، أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق.
وروى مسلم أن أبا جهل حلف باللات والعزى ليطأ في رقبة رسول الله وهو ساجد، فذهب وعاد وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقالوا مالك يا أبا الحكم، قال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولاً وأجنحة فقال عليه السلام: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا. وكان بلال مولىً لأمية بن خلف فيضع الحبل في عنقه ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة، وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع عليه، فمر عليه أبو بكر فاشتراه بسبع أواق من فضة وأعتقه، وعُذب ياسر وسمية وعمار في الهاجرة وكان النبي يمر بهم، ويقول: صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر وطعن الطاغية أبو جهل سمية في قبلها فماتت، وعذب عمار عذابًا شديدًا، وكانوا يأخذون بشعر خباب بن الأرت فيجذبونه جذبًا، ويلوون عنقه ليًا، وأضجعوه مرات عديدة على الفحم الملتهب ووضعوا عليه حجرًا.
وكانوا يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضًا آخر درعًا من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة، ودامت على حالها الأوضاع كما سمعت، ولكن ما هي إلا سني يسيرة وإذا بهؤلاء المعذبين يطأون أعناق الجبابرة المتكبرين فاتحين منصورين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت: 1 ـ 3].
ولله الأمر من قبل ومن بعد والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ثم اتخذ رسول الله دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا مركزًا للدعوة، ولاجتماع أهل الإيمان يعلمهم ويهديهم وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم.
وفي رجب سنة خمس من النبوة أذن الله بالهجرة إلى الحبشة فهاجر أول فوج من الصحابة في اثني عشر رجلاً وأربع نسوة رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه رقية بنت النبي. ثم لحق بهم فوج آخر يزيد على المائة فكانوا عند النجاشي في خير جوار وأطيب عيش.
وأخذ كفار قريش يهددون أبا طالب ويطالبونه بإيقاف ابن أخيه عما هو ماضٍ فيه، وفكروا في قتله، أتى عتيبه بن أبي لهب يومًا للنبي وقال: أنا أكفر بـ وَ?لنَّجْمِ إِذَا هَوَى? [النجم: 1] وبالذي دَنَا فَتَدَلَّى? [النجم: 8] ثم تسلط عليه بالأذى وشق قميصه وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع على وجهه الطاهر، فدعا عليه النبي وقال: ((اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك)) فخرج عتيبة في نفر من قريش إلى الشام في مكان يقال له الزرقاء فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليَّ. فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ بأرسه فذبحه.
وأخذ أبو جهل الأمان من قريش في أن يقتله، فأصبح ومعه حجر لا يقوى على حمله، حتى إذا سجد رسول الله احتمله أبو جهل فما هو إلا أن دنا منه رجع مهزومًا منتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه فقالت قريش: مالك يا أبا الحكم؟ قال: لما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمَّ أن يأكلني.
وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاءت للمسلمين بارقة أمل، ألا وهي إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، مرّ أبو جهل برسول الله عند الصفا، فآذاه ونال منه، ثم ضربه بحجر في رأسه فشجه حتى نزف منه الدم، وأقبل حمزة من القنص متوشحًا قوسه، فأُخبر بالذي جرى فغضب غضبًا شديدًا فخرج يسعى، حتى دخل المسجد فوقف على رأس أبي جهل وقال له: يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه، ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، وكان اسلامه أول الأمر أنفة ثم شرح الله صدره للإسلام والنور.
أخرج الترمذي وصححه والطبراني أن النبي قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)).
وعلم عمر بإسلام أخته وزوجها فدخل عليهما وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه، يقرئهما إياها، فضرب أخته وزوجها، ثم ندم وقال: اعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه فقالت أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون، فقام فاغتسل، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أسماء طيبة طاهرة، فقرأ: طه [طه: 1] إلى قوله: إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه: 14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، دلوني على محمد، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم انطلق حتى أتى دار الأرقم فضرب الباب فرآه رجلٌ من خلل الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر! افتحوا له الباب، فإن جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، فدخل فأخذ رسول الله بمجامع ثوبه وحمائل سيفه ثم جذبه جذبة شديدة فقال: ((أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة، اللهم هذا عمر، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : "ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر".
وقال صهيب رضي الله عنه: "لما أسلم عمر ظهر الإسلام ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
وهكذا فلله جند يعز بهم دينه، ويرفع بهم لواءه، وينصر أولياءه، فهم سيف الإسلام وترسه.
(1/1681)
غزوة أحد
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مازن التويجري
الرياض
16/5/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ هزيمة بدر دفعت المشركين للبحث عن الثأر 2 ـ خروج قريش للثأر3 ـ رؤيا النبي التي رآها قبل خروجه لأحد 4 ـ استشارة النبي أصحابه في تحديد مكان المعركة. 5 ـ انسحاب المنافقين مع عبد الله بن أبي6 ـ إعداد رسول الله جيشه للمعركة 7 ـ شجاعة الصحابة وبذلهم يوم أحد8 ـ عصيان الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم 9 ـ إشاعة قتل النبي وجرحه صلى الله عليه وسلم. 10 ـ بعض صورة شجاعة الصحابة وبذلهم
_________
الخطبة الأولى
_________
لم تزل مكة تغلي نار الحقد في أرجائها، ويتعالى لهب العدواة في جنباتها بعد الهزيمة المخزية في بدر.
وهي تعالج الهموم والآلام على فقد أشرافها وصناديدها، ومن ذلك الحين وهي تعد العدة لأخذ الثأر، واسترداد الكرامة، والنيل من أعدائهم كما نالوا منهم، حتى إن قريشًا كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم، ومنعوا الاستعجال في فداء الأسارى حتى لا يتفطن المسلمون إلى مدى مأساتهم وحزنهم، واتفقت قريش على القيام بحرب شاملة ضد المسلمين، وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا عير أبا سفيان وقالوا لأربابها: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا فأجابوا لذلك فباعوها وكانت ألف بعير وخمسين ألف دينار إِنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36].
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها واجتمع لها ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش وكان في الجيش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وسبعمائة درع، وقائدهم أبا سفيان، وقائد الفرسان خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل.
ولما ترك جيش المشركين بعث العباس رضي الله عنه رسالة إلى رسول الله ضمنها جميع تفاصيل الجيش، ووصل جيش مكة إلى أحد فنزل قريبًا من جبل أحد في مكان يقال له عينين فعسكر هناك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستشار النبي أصحابه وأخبرهم عن رؤيا رأها قال: ((إني قد رأيت والله خيرًا، رأيت بقرًا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلمًا، ورأيت أني أدخلت في درع حصينة)) ، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة، ورأى ألا يخرجوا من المدينة بل يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت وكان هذا هو الرأي، وأشار جماعة من الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر بالخروج إليهم، وألحوا على رسول الله وكان في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب، فاستقر الرأي على الخروج إليهم، ودخل رسول الله بيته مع صاحبيه أبي بكر وعمر، فألبساه وعمماه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين وتقلد السيف، وندم الناس كأنهم استكرهوا رسول الله فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته ـ أي درعه ـ أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه)) فسار الجيش وكان قوامه ألف مقاتل في مائة درع، واستعرض عليه السلام جيشه ورد من كان صغيرًا منهم كعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وغيرهما، وأجاز رافع بن خديج؛ لأنه كان ماهرًا في رماية النبل وسمرة بن جندب حيث قال: أنا أقوى من رافع فأمرهما أن يتصارعا أمامه فصرع سمرة رافعًا فأجازه أيضًا.
وأدركهم المسلمون في مكان يقال له الشيخان فباتوا ليلتهم وقبل طلوع الفجر بقليل والجيش الإسلامي قد قرب من عدوه حتى أضحوا يرونه ويراهم، تمرد عبد الله بن أبي المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر ثلاثمائة مقاتل قائلاً: "ما ندري علام نقتل أنفسنا"، وكاد أن يحدث الاضطراب في الجيش الإسلامي بعد انسحاب المنافق ومن معه، فليس يسيرًا على النفوس الضعيفة أن يخسر الجيش ثلثه، وهم قاب قوسين أو أدنى من قتال العدو، وتبعهم عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله وهو يقول: "تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، قالوا: "لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع" فقال عبد الله: أبعدكم الله، أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه وَلِيَعْلَمَ ?لَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَوِ ?دْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـ?كُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـ?نِ يَقُولُونَ بِأَفْو?هِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَ?للَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران: 167].. وسار النبي بمن بقي معه من الجيش حتى نزل الشعب من جبل أحد، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة وجاعلاً ظهره إلى هضاب جبل أحد، وهناك عبأ جيشه وهيأهم صفوفًا للقتال، واختار فصيلة من الرماة الماهرين قوامهما خمسون مقاتلاً وجعل قائدهم عبد الله بن جبير بن النعمان وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي مناة، وهو ما يعرف اليوم بجبل الرماة. وقال لهم كما روى البخاري: ((إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)).
وحض النبي جيشه على القتل فجرد سيفًا باترًا ونادى بأصحابه: ((من يأخذ هذا السيف بحقه)) فقام أبو دجانه فقال: وما حقه يا رسول الله، قال: ((أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني)) قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلاً شجاعًا يعتصب بعصابة حمراء إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت، فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة وجعل يتبختر بين الصفين وحينئذ قال رسول الله : ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)).
وقام النسوة من قريش يطفن بصفوف المشركين، ويضربن الدفوف، ويقلن:
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وافق
ولما تقارب الجمعان، كان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان من أشجع فرسان قريش، خرج وهو راكب على جمل، يدعو إلى المبارزة، فأحجم الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث، حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فكبر النبي وكبر المسلمون، وقال: إن لكل نبي حواريًا، وحواريي الزبير.
ثم اندلعت نيران المعركة، واشتد القتال، وتعاقب على حمل لواء المشركين عشرة من بني عبد الدار كلما قُتل أحدهم حمل الراية آخر، إلى أن سقطت الراية على الأرض، لم يبق أحد يحملها، وانطلق المسلمون في كل نقاط المعركة كالأسود، وهم يرددون شعارهم (أمتي أمتي). وعصب أبو دجانة عصابته الحمراء، وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان في المشركين رجل شديد لا يدع جريحًا للمسلمين إلا قتله، فدنا منه أبو دجانة فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته، فضربه أبو دجانة فقتله، قال وحشي قاتل حمزة، كنت غلامًا لجبير بن مطعم فجعل عتقي في قتلي حمزة بن عبد المطلب، فجعلت أنظر إليه وأتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهد الناس هدًا، فوالله إني لأتهيأ له أريده فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، حتى إذا دنى، هززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في أحشائه حتى خرجت من بين رجليه.
وهكذا دارت رحى الحرب، وظل الجيش الإسلامي مسيطرًا على الموقف كله، وفر معسكر المشركين، قال البراء بن عازب كما عند البخاري، فلما لقيناهم هربوا، وتبع المسلمون المشركين، يضعون فيهم السلاح، وينتبهون الغنائم، وبينما كان الحال كذلك، كان الرماة فوق الجبل يرقبون الموقف، ويرون نصر الله يتنزل، غلبت آثاره من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض؛ الغنيمة، الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله ؟ فقالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فنزل أربعون منهم والتحقوا بسواد الجيش، ولم يبق على جبل الرماة إلا ابن جبير وتسعة معه، عندها انتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة، فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم وصاح فرسانه فعاد المنهزمون من جيش المسلمين ورفعت امرأة يقال لها عمرة بنت علقمة الحارثية لواء المشركين فالتفوا حوله، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف.
وكان النبي في تسعة نفر من أصحابه يرقب المسلمين ومطاردتهم المشركين إذ بوغت من الخلف بفرسان خالد بن الوليد فكان أمامه طريقان إما أن ينجو بنفسه ومن معه بسرعة وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله فنادى بأعلى صوته: عباد الله، فخلص إليه المشركون قبل أن يصل إليه المسلمون، وتزعزع الناس في معسكر المسلمين فلاذ بعضهم بالفرار إلى المدينة وصعد بعضهم جبل أحد، ثم صاح صائح: إن محمدًا قد قتل، فانهارت روح المؤمنين، أو كادت تنهار، فتوقف من توقف عن القتال، وألقى بعضهم السلاح، فمر بهؤلاء أنس بن النضر فقال: ما تنتظرون، فقالوا: قتل رسول الله قال: ما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك من صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا أبا عمر، فقال أنس: واهًا لريح الجنة يا سعد، إني لأجده دون أحد، ثم مضى فقاتل حتى قتل فما عرفه أحدٌ إلا أخته من بنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف ورمية بسهم، ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان أشعرت أن محمدًا قد قتل فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل قد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. وبمثل هذه المواقف عادت الروح إلى قلوب المؤمنين، وطوق المشركون رسول الله ومن معه وكانوا تسعة فقتل سبعة منهم بعد قتال عنيف. ولم يبق معه غير سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله.
فطمعوا في القضاء على رسول الله رماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وكلمت شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله الزهري فشجه في جبهته، وجاء عبد الله بن قمنة فضرب على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر، وضربه بأبي هو وأمي ضربة أخرى عنيفة حتى دخلت حلقتان من حلق المقفر في وجنته، فقال عليه السلام وهو يسلت الدم عن وجهه: ((كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
واستبسل سعد وطلحة في الدفاع عن رسول الله فقد نثل رسول الله كنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: ارم فداك أبي وأمي، وأما طلحة فقد قاتل حتى شلت يده، وكان أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك اليوم كله لطلحة. وروى الترمذي أن النبي قال فيه يومئذ: ((من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وخلال هذا الموقف العصيب تسارع المسلمون إلى رسول الله وأقاموا حوله سياجًا من أجسادهم وسلاحهم وبالغوا في الدفاع عنه، قام أبو طلحة على رسول الله يسور نفسه بين يدي رسول الله ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو، وكان راميًا يرمي فكلما رمى أشرف رسول الله ليرى موضع سهمه، فيقول له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، وقام أبو دجانة أمام رسول الله عليه السلام فترس عليه ظهره والنبل يقع عليه، وهو لا يتحرك، وامتص مالك بن سنان الدم عن وجنته وأنقاه فقال: مجه. فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم أدبر يقاتل، فقال النبي : ((من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)) فقتل شهيدًا.
وقاتلت أم عمارة حول رسول الله فضربها ابن قمئه على عاتقها ضربة تركت جرحًا أجوف، وضربته فنجا بدرعه، وبقيت تقاتل حتى أصابها اثنا عشر جرحًا.
وقال مصعب بن عمير وكان اللواء بيده فضربوه بيده اليمنى حتى قطعت، فأخذ اللواء بيده اليسرى فقطعت، ثم برك على صدره وعنقه حتى قتل، وقام النبي فعرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله ، فأشار إليه أن اصمت لئلا يعرف المشركون موضعه، فلاذ إليه المسلمون فأخذ بالانسحاب المنظم إلى شعب الجبل، وأثناء القتال كان النعاس يأخذ المسلمين أمنة من الله، وفي أثناء الانسحاب عرضت لرسول الله صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بين عبيد الله فنهض حتى استوى عليها وقال: ((أوجب طلحة)) أي الجنة.
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد، فلم يجيبوه فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك.
ثم قال: اعل هبل، فقال رسول الله : ((ألا تجيبوه)) فقالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: الله أعلى وأجل)).
ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال عليه السلام: ((ألا تجيبونه)) قالوا: ما نقول: قال: ((قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم)) ، ثم قال أبو سفيان: أنعمت فِعال يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فأجاب عمر وقال: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
وأمر عليه السلام أن لا يغسل الشهداء، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود، وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد ويقدم أكثرهم أخذًا للقرآن.
وفقدوا نعش حنظلة، فوجدوه في ناحية من الأرض يقطر ماءًا فأخبر الرسول عليه السلام أصحابه أن الملائكة تغسله فسألوا امرأته فأخبرتهم أنه حديث عهد بعرس.
ولما رأى ما بحمزة اشتد حزنه، قال ابن مسعود: ما رأينا رسول الله باكيًا قط أشد من بكائه على حمزة وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشج من البكاء، أي شهق.
روى أحمد قال: لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله : ((استووا حتى أثني على ربي عز وجل))، فصاروا خلفه فصفوفًا فقال: ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت: اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق.
(1/1682)
غزوة تبوك
الإيمان
الجن والشياطين
مازن التويجري
الرياض
28/6/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1.... الروم يهمون بحرب المسلمين2.... الصحابة يجهزون جيش العسرة3.... خروج المسلمين إلى تبوك4.... قصة المخلفين الثلاثة
_________
الخطبة الأولى
_________
قد سبق الحديث عن غزوة مؤتة، وما كان لها من الأثر البالغ في سمعة المسلمين وعلو مكانتهم، في حين بقي الرومان يتحسرون على نتائج تلك المعركة، وإن لم يكن فيها نصر ظاهر لأهل الإسلام، ومن ذلك الوقت وهم يفكرون ويعدون العدة لضرب الإسلام القوة الضاربة في عمق الصحراء التي أضحت تشكل الخطر الوحيد على أمة الروم.
ووصلت الأنباء إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشًا عرمرمًا قوامه أربعون ألف مقاتل... عندها أمر النبي الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إلى قبائل العرب وأهل مكة يستنفرهم، وأخبر الناس بمسيره، ولم يوري بغير وجهته، فتسابق المؤمنون يجهزون جيش الحق، فتصدق عثمان رضي الله عنه بثلاثمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره ، فكان رسول الله يقلبها ويقول: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)) ثم تصدق حتى بلغت صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله أربعة آلاف درهم، وجاء عمر بنصف ماله، وتتابع الناس كلٌ بما يستطيع حتى أنفقوا مدًا أو مدين، وبعثت النساء من حليهن ما استطعن وخرج المسلمون نحو تبوك وكان قوام الجيش ثلاثون ألف مقاتل، ونزلوا بها فعسكروا وقام النبي في الناس خطيبًا، فخطب خطبة بليغة، وبلغ الرومان وحلفائهم ذلك الزحف المبارك فأخذ منهم الرعب كل مأخذ، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء بل تفرقوا في بلادهم لا يلوون على شيء، فصالح عليه السلام بعض ملوكهم على الجزية وانحاز حلفاء الرومان من قبائل العرب كغسان إلى المسلمين، فتوسعت حدود الدولة الإسلامية، حتى لاقت حدود دولة الرومان، عندها عاد الجيش الإسلامي بخطى ثابتة راسخة، يقطع المفاوز والفيافي بقلوب مؤمنة، وعز وتمكين، فقد أضحوا أقوى قوة على وجه الأرض، هذه غزوة تبوك، عاد منها المسلمون بنصر جديد، ذا طعم آخر، وطابع مغاير، إن ذلك الجيش المبارك الذي أنزل الرعب في قلوب أعظم قوة على وجه الأرض هو جيش الآباء والأجداد، ما حملوا من العتاد أعنفه، ولا من الزاد أكمله، ولكنه الإيمان يعمل في النفوس فيصنع الرجال، وإن الذي لا بد أن تُربى عليه الأمة أمران: الأول: أن النصر والظفر لدين الله مهما تكالب الأعداء، وعظم أمرهم وعلا شأنهم، وهذا موعود الله لا يتخلف.
الثاني: أن النصر ليس وليد يوم وليلة بل تضافر الجهود جميعًا، جهود الولاة والعلماء والمربين والناصحين للنهوض بالأمة من غفلتها وسباتها، وهذا لا بد له من وقت قد يطول لِيَمِيزَ ?للَّهُ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [الأنفال: 27] ولتتذكر أن أفراد ذلكم الجيش الذي أرعب الرومان في تبوك هم أولئك المستضعفون المعذبون في رمضاء مكة قبل عشرين عامًا، وهم أولئك المطاردون المطرودون من بلادهم وأموالهم وأهليهم، ولكنه الصبر والجهاد والمصابرة، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد: 28].
وإنه متى ذُكِرت غزوة تبوك ذُكِر معها ذلكم الحدث العظيم، الذي عاشته المدينة وتقلبت مع أحداثه خمسين ليلة، إنه خبر الثلاثة الذين خُلفوا، كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، ولا يصف الحادثة كمَن رآها وشاهدها وسمع أحداثها بل عاشها، وتجرع آلامها وأحزانها، فلنترك الحديث لكعب بن مالك يروي لنا فصول تلكم الواقعة، قال: ما اجتمع لي في غزاة قبلها قط راحلتان فسار النبي عليه السلام، فقلت: سوف ألحق بهم، حتى تباعدوا، وبلغني أنهم وصلوا تبوك، فيئست من الذهاب، وعلمت أن فاتني اللحاق.
وكان من عادته إذا جاء من سفر أو غزاة أن يبدأ بالمسجد، فيصلي ركعتين ثم يجلس للناس. فجاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، هذا يشكي مرضه، وذاك قلة ذات اليد عنده، وآخر نساءه وعوراته، كانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وجاءه كعب بن مالك، فلما سلم عليه، تبسم تبسم المغضب، ثم قال له: تعال: فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ((ما خلفك، ألم تكن قد اتبعت ظهرك)) فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت أن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عليَّ، ليوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله عني، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله : ((أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك)) إنه الصدق شعار المتقين الصالحين قد يكون أثره القريب ألمًا وحسرة، ولكن عواقبه فوز وفلاح، إنه الدرس العظيم للأمة بأن تعيش في حياتها تحت لواء الصدق، إنه الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابًا.
فقمت، وثار رجال من بني سلمة، فاتبعوني يؤنبوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك واستغفار رسول الله لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
وهنا يفتن كعب بقرابته فزينوا له العذر وكفاية الاستغفار من رسول الله ، ومن هنا كان لزامًا على أبناء الأمة أن يعلموا أن النصح والمشورة لا تؤخذ إلا ممن وفق للهدى والاتباع الذي يتمشى مع الحق حيث كان، لا من يلوي عنق الحق والحقيقة ليكسب ود قريب أو شريف، ويرى بعين كسيرة لا تبصر إلا ما تحت يدها من الأهداف. لذلك كان كعب رضي الله عنه حازمًا قويًا حين رضي بالصدق، والحق وإن كان مر المذاق في أوله، ولم يغرَّه وهو الذي رأى أصحاب القلوب المريضة يعتذرون ويتخلقون الأعذار فيؤذن لهم،لا بل ويستغفر لهم.
وهو حينما صدق أُلجئ لا يدري إلى أين يكون مصيره، إنه الفهم الثاقب، والنظرة البعيدة لحقائق الأمور وبواطن تلك الحقائق.
عندها صدر الأمر، وشاع الإعلان أن قاطعوا الثلاثة من بين من تخلف، قال كعب: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي الأرض، فما هي بالتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، لا إله إلا الله إنها ليست مسألة سهلة أن تكون بين أهلك وقومك وفي بلدك وديارك وبين عشية وضحاها ينقلب كل شيء، بينما الوجوه تهش وتبش لك إذا بالعبوس يعلوها والشحوب يكسوها قد كانت بالأمس القريب تحادثني وتلاطفني فما بالها اليوم، قد أبدلت بالحديث هجرًا وصمتًا، والبشر عبوسًا وصدًا، قال: فأما صاحباي، فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وأتى رسول الله ، فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام عليَّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي، أقبل إليَّ وإذا التفت نحوه، أعرض عني، إنها المعاناة الحقيقة أن تسير بين أهلك وأحبابك، لا يحدثك أحد ولا يبتسم في وجهك مخلوق، بل تخاطب القوم فلا تتحرك لهم شفه، ويذهب إلى أحب الناس إليه وأرحمهم به، إلى البر الرحيم، إلى رسول الله، الذي لطالما علّمه وواساه وسأل عن حاله فيسلم عليه فلا يرد عليه السلام، إنه حصار نفسي رهيب، وحرب على المشاعر كبيرة.
قال: حتى إذا طال عليَّ ذلك في جفوة المسلمين، مشيت حتى جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحبُّ الناس إليَّ فسلمت عليه، فوا الله ما رد عليَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت، فعدت، فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، إنه مع ما في هذا الموقف من زيادة الحرج على كعب رضي الله عنه حتى إنه لم يملك عيناه أن فاضتا إلا أنه يبين صدق الاتباع والائتمار بأمر رسول الله ، فأبو قتادة كان خِلواً من الرقيب والحسيب، وكعب أحب الناس إليه وأقربهم منه، ومع ذلك لم يزد أن قال: الله ورسوله أعلم، ولا يعد كلامًا عرفًا كما قال ابن القيم رحمه الله: وهكذا ضاقت على كعب الأرض بما رحبت، بل ضاقت عليه نفسه التي بين جنبيه، فبعد هذا الجواب من أحب الناس إليه لا يرجو عند أحد فرجها، قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني، دفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. حينها هل انفرجت أسراير كعب، وصاح في أعماقه أن جاء الفرج، وسار فرحًا مغتبطًا ليعد العدة للمسير إلى ملك غسان ليخرج من هذا الخناق... كلا... بل قال: وهذا أيضًا من البلاء فتيممت التنور فسجرتها، أي أحرقتها، لقد كان بمقدور كعب أن يفكر في الأمر أو يشاور، والملك لم يدعه إلى كفر أو فسوق بل كل ما قال: إلحق بنا نواسك، ولكنه الحزم والرشد وسد كل باب يفضي إلى الهلاك والعطب، ولم يقل نذهب ونجرب، فالقضية ليست موضع تجربة.
قال كعب: حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ قال: لا، ولكن اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي: ألحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. إنه موقف الحزم والطاعة يتكرر مع كعب، فلم يقل وما شأن المرأة ما ذنبها؟ وإنما: إلحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر.
_________
الخطبة الثانية
_________
قال كعب: ولبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا بينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى من جبل سلع بأعلى صوته، يا كعب بن مالك: أبشر، فخررت ساجدًا فعرفت أن قد جاء فرج من الله، وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين، فلبستهما، فانطلقت إلى رسول الله فتلقاني الناس فوجًا فوجًا يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بين عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولست أنساها لطلحة، وهكذا استقبله الناس ولكأنما هم أهل التوبة وحالهم تحكي: أنا نحبك يا كعب، ولكنه الاتباع والانصياع لأمر الله ورسوله، ولبيان حالهم يقول: ما مثلك يجفى ويقلى، ولكن لقول الله ورسوله: سمعنا وأطعنا.
وفي هذا مشروعية سجود الشكر عند الفرج والفرح وإهداء المبشر ومكافئته، واستحباب التبشير والحفاوة بمن فرج الله عنه وتاب عليه كما فعل طلحة. عندها سار كعب إلى النبي إلى الوجه الذي طالما شاع عنه تأديبًا، وأعرض عنه تربية وتأنيبًا، سار إلى الرجل الذي أحبه كأعظم ما يكون الحب يفديه بالنفس والمال والأهل، تقدم ليصافح اليد الحانية، التي ما لامسها منذ خمسين ليلة، تقدم ليسمع الصوت الحنون الرخيم، وأذنه قد اشتاقت لجميل صوته، ولطيف عباراته.
قال: فلما سلمت على رسول الله قال: وهو يبرق وجهه من السرور: ((أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)) قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: ((لا بل من عند الله)) وكان رسول الله إذا سُر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر. وكنا نعرف ذلك منه.
إنها التربية العظيمة والحال تُبين: أن كل خطأ يُغتفر ويهون إلا الخطأ في الدين ولأجل الدين.
والله ثم تالله لإشراقة وجه رسول الله وابتسامة محياه لأنست كعبًا عناء الخمسين ليلة وألمها.
قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله، وإلى رسوله فقال: ((أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)) قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقًا ما بقيت، وفيه استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال كما قال ابن القيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى? ?لنَّبِىّ وَ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لأْنصَـ?رِ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ?لْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى ?لثَّلَـ?ثَةِ ?لَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى? إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ?لأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ?للَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة: 117 ـ 119].
(1/1683)
غزوة مؤتة
سيرة وتاريخ
غزوات
مازن التويجري
الرياض
7/6/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ سبب غزوة مؤتة. 2 ـ إعداد الصحابة وخروجهم للغزوة3 ـ تشاور الصحابة في مؤتة حين لقوا جيش الروم الكبير4 ـ ثلاثة آلاف من المؤمنين يواجهون مائتي ألف من الروم5 ـ وصف مقتل الأمراء الثلاثة6 ـ خالد بن الوليد ينسحب بجيشه الصغير7 ـ دروس من الغزوة
_________
الخطبة الأولى
_________
في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة المباركة حدث حدث عظيم، وقامت حرب دامية هي أعظم حرب يخوضها المسلمون في حياة النبي ، كانت مؤشر البدء لفتح بلدان النصارى، إنها أكبر لقاء مثخن يدخله عسكر المسلمين مذ قام الجهاد في سبيل الله.
بعث النبي الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه بكتابه إلى عظيم بُصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل القيصر، فأوثقه رباطًا، ثم قدمه، فضرب عنقه، وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم، بل هو يزيد على إعلان العداء والحرب، فاشتد ذلك على رسول الله حين نقلت إليه الأخبار، فجهز جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، كأكبر جيش إسلامي لم يجتمع من ذي قبل إلا ما كان من غزوة الأحزاب. إنها معركة مؤتة وهي قرية من قرى الشام بينها وبين بيت المقدس مرحلتان.
أمرَّ رسول الله على هذا الجيش زيد بن حارثة، وقال: ((إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)) وعقد لهم لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم، وقال لهم: ((اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغيروا، ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة، ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناءً)).
ولما تهيأ الجيش للخروج حضر الناس، وودعوا أمراء رسول الله ، وسلموا عليهم، وحينئذ بكى عبد الله بن رواحة فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً [مريم: 71] فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين. قال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله مشيعًا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف وودعهم.
وتحرك الجيش في اتجاه الشام حتى نزل بمعان من أرض الشام مما يلي الحجاز، عندها نقلت إليهم الأخبار بأن هرقل نازل بماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي مائة ألف.
حينها وقف المسلمون دهشين، لم يكن في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم الذي لقوه بغتة في أرض غريبة بعيدة، وهل يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، على جيش كبير كالبحر الخضم قوامه مائتا ألف مقاتل، بعددهم وعتادهم، حار المسلمون وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد العدو، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وقال قولة حق ستبقى على مدى التأريخ درسًا بليغًا لأهل الحق الذين يحملون رايته، ويدافعون عن حياضه، وستبقى ما بقي الدهر حجرًا في أفواه الجبناء أهل الخور والضعف والدعة من أحفاد أبي بن خلف، وأذنابه، قال ابن رواحة: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.
إلى المرابطين في الثغور، والمجاهدين في ساحات الوغى، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين، إلى أهل الإسلام والحق الداعين إليه، المرابطين على ثغور الكلمة ونشر المبدأ، الساعين لإعادة الأمة إلى مجدها وعزها، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.
إلى الجبناء، المنكسرين، المنهزمين، الذين يخترقون صف الأمة الواحد، يعيثون في الأرض فسادًا وينشرون الباطل والزيغ، يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين، إنها كلمة عظيمة لابد أن تبقى شعارًا تتعاقبه أجيال الأمة جيل بعد جيل ينقله الأباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد، يرضعه الوليد مع لبن أمه، ويلقنه الصغير، ويحى عليه الكبير لابد أن تبقى هذه الكلمات نبراسًا يضي للأمة طريقها في نشر دين الله، في جهادها ودعوتها وعلمها وعملها.
وأخيرًا استقر الرأي على ما دعا إليه البطل ابن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، وبعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية مشارف من قرى البلقاء، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأ للقتال فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة الغدري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
وفي مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل، إنها معركة عجيبة تشهدها دنيا النزال بالدهشة والحمية، في مقياس الماديات، ماذا يصنع ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف مدججين بالسلاح والعتاد وهل تقف النظرة عند هذا، كلا وربي، ولكن إذا هبت نسائم الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله وجعل يقاتل بضراوة بالغة، وبسالة لا تحق إلا لمثل زيد، فلم يزل يقاتل ويقاتل ويخترق الصفوف صفًا صفًا، والقوم أمامه بين صريع وقتيل، إذ شاط في رماح العدو، حتى خرَّ صريعًا.
وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال نزل عن فرسه الشقراء وعقرها، ثم قاتل فقطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه رافعًا إياها حتى قتل بضربة روميّ قطعته نصفين، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنة، فكان يسمى بعد ذلك جعفر الطيار. روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا في جسده بضعًا وتسعين من طعنة ورمية كلها فيما أقبل من جسده" ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وتقدم وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه كارهة أو لتطاوعنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنة
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده وأخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل.
عندها تقدم رجل من بني عجلان يقال له ثابت بن أرقم فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريرًا، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفحة يمانية.
وقد قال رسول الله يوم مؤتة كما أخرج البخاري في صحيحه، مخبرًا بالوحي، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم))
الله أكبر ((وعيناه تذرفان)) عاش لأمته تفاعل مع قضاياها همًا وغمًا، ألمًا وأملاً، فرحًا وحزنًا فيا من تحمل في قلبك لا إله إلا الله، أنت يا من حملت على عاتقك هم دينك وأمتك سعيًا في إصلاحها وصلاحها، أين أنت من قضاياها في مشارق الأرض ومغاربها.
كم نفرح للدنيا وملذاتها وشهواتها، ونحزن لفواتها وانقطاعها أو انتقالها، ولا نحرك ساكنًا بل ونبخل بالألم والدمعة، فإلى الله المشتكى.
ونجح خالدٌ رضي الله عنه في الصمود بجيشه أمام جيش الرومان طوال النهار، وكان لابدَّ من مكيدة حربية، تُلْقِى الرعب في قلوب الرومان، حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين وينجو من مطاردة الرومان لجيشه، وقبل أن ينكشف المسلمون. ولما أصبح في اليوم الثاني، غيَّر أوضاع الجيش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمة الجيش ساقته وميمنته ميسرة، والعكس، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم. وقالوا: جاءهم مدد فرعبوا، وصار خالدٌ بعد أن ترآى الجيشان، وتناوشا ساعة يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً، محافظًا على نظام الجيش فلم يتبعهم الرومان خوفًا من مكيدة يدبرها المسلمون فحافظ على جيشه وعاد الرومان إلى بلادهم خائبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وهكذا عاد المسلمون لم يلقوا ضررًا، واستشهد منهم اثنا عشر رجلاً، ولا يعلم عدد قتلى الرومان لكثرتهم ونستطيع أن نخرج من هذه الغزوة بنتائج مهمة منها:
أولاً: أن النظرة المادية المجردة عند قياس معيار القوة والضعف بعيد كل البعد عن الواقعية والفهم العميق للحياة وسبر أغوار بواطن الأمور، إذ الوقائع تشهد، والأحداث على مر العصور تبرهن بأنه كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة: 249] فالأمر لله من قبل ومن بعد.
ثانيًا: أن الإيمان في قلوب أهله، أقوى من قوى العالم وإن اجتمعت، فكم من مجاهد أعزل من السلاح يرفع إصبع السبابه يناجي ربه، وكم من دعوة في جنح الظلام تفتح لها أبواب السماء، تفعل الأفاعيل في الأعداء بل هي أشد عليهم من آلاف المقاتلين وقد قالوها، والحق ما شهدت به الأعداء.
ثالثًا: أن على الأمة أن تربي أبناءها على حب دينهم واعتزازهم به، والشعور بالنصر والعلو والفخر ألا فلينقش على القلوب والصدور ولتردده الأفواه والسطور وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
رابعًا: على الآباء والأمهات والمربين أيًّا كانوا وعلى الأمة جمعاء أن تعاود النظر في عرض القدوات للأجيال، فلابد من نشر سير أولئك الأفذاذ من صحابة رسول الله وأتباعهم، ليرتسم الأبناء سير الأجداد منهجًا للحياة ودستورًا للواقع.
والسؤال المهم الذي نعلم إجابته ولكن واقعنا يخالفه: أي شيء يقدمه لدينه وأمته مغنيٍ أو ممثل هابط أو هابطة، ماذا عساه أن يقدم للإسلام والمسلمين ذاك اللاعب وهو يدحرج كرته، أو يجري خلفها، وقديمًا قيل
يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي.
خامسًا: وبعد هذه الغزوة، دهش العرب كلهم فقد كانت الروم أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض لا يستطيع أحدٌ الصمود أمامها، كيف وقد عاد جيش صغير بدون خسائر تذكر، فأحدث هذا سمعة للمسلمين بلغت المشرق والمغرب.
وأضحت تلك الغزوة الخطوات الأولى لفتح بلاد الروم واحتلال المسلمين أقاصي الأرض.
(1/1684)
أسباب القوة والضعف
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
2/3/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ فضل القوة في الحق. 2ـ إعداد القوة. 3 ـ سبب انتصار الأعداء. 4 ـ سبب انهزام المسلمين وضعفهم
5 ـ عدم الاكتراث بأوضاع الأمة. 6 ـ أخطر أسلحة عدونا. 7 ـ إفساد التربية والتعليم والإعلام.
8 ـ سبب الانتصار التمسك بالإسلام
9 ـ حذار من التيئيس.
10 ـ صفة المؤمن القوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فمن اتقى ربه فاز وسعد، ونال يوم الجزاء جميل ما وُعد، أخلصوا لربكم في العبادة والطاعة، والزموا الجمعة والجماعة، وبادروا بالأعمار صالح الأعمال، وأعدوا العدّة ليوم لا بيع فيه ولا خلال، اعتبروا بما طوت الأيام من صحائف السالفين، واتعظوا بما أذهبت المنايا من أماني المسرفين.
أيها المسلمون:
ما أجمل القوة في الحق، حين تندفع بردًا وسلامًا، فترفع المظالم النازلة على الأفئدة الكسيرة، وتطفئ الآلام المبرحة التي تحُلُّ بالمظلومين والمستضعفين، لا يعرف فضل القوة المؤيدة للحق إلا من شقي تحت وطأة الطغيان دهرًا طويلاً، إن الضعيف والمظلوم كليهما يستقبلان طلائع القوة وزمجرتها كبوارق الصبح، تشق دامس الظلام. ما أجمل القوة العادلة عندما تحق الحق وتبطل الباطل.
إن القوة التي تقيم بين الناس موازن القسط، وتبسط بينهم العدل هي ما أمر به الإسلام، وربى عليه أتباعه، بل حضّ على بذل النفس والنفيس من أجله، وفي الحديث الصحيح: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) [1] ، وفي التنزيل العزيز: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60].
الحق المسلوب لن يستطيع رده إلا رجال لهم جرأة في الحق تربو على جرأة عدوهم في الباطل، وعندهم حرص على التضحية في سبيل الله أشد من حرص عدوهم على المغامرة والسطو والاحتفاظ بالمكاسب الحرام، إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة: 111].
إن ما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق، ومع طغيان الأثرة واستبداد الظلم وانفلات موازين الحق والعدل يبقى العالم محتاجًا إلى القوة التي تعرف العدل والنظام مثل حاجته إلى الطعام والشراب أو أشد، بل لا لذة لطعام ولا شراب إذا زاد الخوف وفشا الظلم.
أيها الإخوة المسلمون:
لقد تغيّر الزمن على المسلمين، فانكمشوا بعد امتداد، ووهنوا من بعد قوة، وما ذلك إلا لسر ولكنه ليس بسر، لقد كشفه نبينا محمد في قوله: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن)) قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهية الموت)) [2].
هذا هو مبعث الوهن الحقيقي، وذلكم هو سر الضعف المهين، أن تخلد الأمة إلى دنياها ومتاعها، فتعيش أسيرة لأوضاعها الرتيبة، متعلقة بشهواتها، لا هَمَّ لها إلا الرغائب المادية، حب الدنيا يجعل الهمام ضعيفًا، رخوا خوّارًا، يضعف أمام امرأة يحبها، أو شهوة يطمعها، أو لذة عارضة ينشدها.
كراهية الموت تجعل الأفراد والجماعات يؤثرون حياة ذليلة على موت كريم، يؤثرون حياة يموتون فيها كل يوم موتًا من بعد موت، وذلاً من بعد ذل على موت كريم يحيون بعده حياة الخالدين.
حياة الغثاء لها سمتان: أولهما خفة الوزن، وثانيهما التفكك والتحلل، وكل ذلك يولّد نتيجة مخيفة، إنها فقدُ السير على الصراط المستقيم، فالغثاء يساق مساق الزبد الجفاء على الأطراف والهوامش.
في أجواء الوهن والغثاء يتولد خفافيش، ثرثرتهم أكثر من إنصاتهم، ودعاواهم أكثر من حقائقهم، وشهواتهم أملك لأزمتهم، الأمة تعيش أزمات وهزائم، وهؤلاء الخفافيش سامدون، يضحكون ولا يبكون، في الأندية يتسامرون، وفي أجواء من الجدل العقيم يتفيهقون، بل هم في خوض يلعبون، ديدن كثير منهم التلاسن في القنوات والمحطات والكتابات، مما ولّد موت الشعور، وعدم الاكتراث بأحداث الأمة وهمومها.
في أحوال الضعف وسيادة الهوان وهجواء الغثاء ترى نفوسًا تحللت بالمعاصي، وشعوبًا انحلت بالإسراف، وأقوامًا تهدمت بحب الدنيا وكراهية الموت، وحينئذ ينتصر الكافرون، وينتفش المبطلون.
حين تضعف الأمة يطمع فيها من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، والقطيع السائب تفترسه الكلاب قبل الذئاب، المعارك يربحها أصحاب العقائد والمبادئ والتضحيات، ولن يربحها المهازيل، عبّاد الشهوات، وأسارى الدنيا.
أي ذلٍ، وأي إهانة، وأي وهن أكبر من أن يقتل فئام من العرب والمسلمين ولا يسمى ذلك إرهابًا، ويقيّدون ويؤسرون ولا يعد ذلك ذلاً، أما غيرهم من أبناء الأمم الأخرى فإن اعتراض طريقهم أو تهديد أمنهم أو الوقوف في مصالحهم يعدّ جريمة كبرى، وينشئ أزمة عالمية، ويشغل المحافل الدولية، وتتردى أصداؤه في وسائل الإعلام الكبرى.
أوضاع حلت بالأمة، في كثير من ديارها وأسقاعها، دكت كيانها، ومزقت شملها، وأغرت أعداءها بالانقضاض عليها.
أيها المسلمون:
والمسلم لا يقيم العزاء على شيء فاته، ولا يندب حظه لأمر نزل به، ولكنه ينظر ويتأمل ويسبُر سنن الله، فهو يفقه كل الفقه أن الانتصار والهزيمة ليست حظوظًا عمياء، ولا هي خبط عشواء، كلا ثم كلا، بل إن الأمور تسير إلى نهايتها، وفق سنن الله ومقادره، ولا مبدل لحكمه.
عند النظر والتحقيق والحساب الدقيق، تدرك أن الضعيف هو الذي فعل ذلك بنفسه، والمنتحر لا يتهم أحد بقتله، فهو قاتل نفسه.
إن الأعداء لم ينتصروا بقواهم الخاصة قدرَ ما انتصروا بضعف كثير من القلوب في إيمانها، وافتقار الصفوف إلى الوحدة والتراصّ.
أيها المسلمون:
ليست أثقال القوة العسكرية ولا القنابل الذرية ولا الأسلحة الجرثومية، أخطر أسلحة عدونا، إن أخطر الأسلحة وأمضاها زيوف الأفكار التي تسوق المسلمين إلى الدمار، وإطلاق الأهواء والغرائز والشهوات والأنانيات، وفشو المظالم، وهضم الحقوق، بعد اهتزاز ثوابت الإيمان، وضوابط الأخلاق، وبث روح اليأس والتيئيس في النفوس.
أيها الإخوة المسلمون:
إن المتأمل في هزائم الأمة، وصراعها مع أعدائها يدرك أن الجهود الماكرة للأعداء في ميادين التربية والتعليم والإعلام، قد آتت كثيرًا من أكلها، والمرَّ من ثمارها.
من عشرات السنين وخُطط الأعداء جادّة في ذود الأجيال عن القرآن الكريم ذودًا، وتجهيلهم بدينهم تجهيلاً، قوى كافرة ماكرة، إذا احتاج الأمر إلى اللين لانت، وإذا احتاج إلى القسوة بطشت؛ في لينها تدسُّ السموم، وفي شدتها تقتحم الهمجية والجبروت، يخفرون كلَّ ذمة، ويخادعون في كل قضية، الغاية عندهم تبرّر الوسيلة، يجيدون العبث والتحريف، والتجسس والإفساد.
أيها المسلمون:
في هذه الأجواء، كان ينبغي أن تكون الجباه مُقطِّبة، والنفوس جادة، غير هازلة، كان ينبغي أن يطير النوم من عيون الهاجعين.
أيها الإخوة الأحبة:
ومع كل هذا، فإن العدو الخطير أهون مما يتصور المتشائمون والمذعورون، واليائسون والانهزاميون.
إن الانتصار على الأعداء ولو طال الزمن لا يتطلب إلا سلاحًا واحدًا، يستخدم بصدق وإخلاص، وجدّ وعزيمة، إنه سلاح محمد ، سلاح الإيمان بالله، وإخلاص التوحيد والعبادة، والعمل بالإسلام، والسير على نهج محمد في السلم وفي الحرب.
يجب أن يعي المسلمون أن الإسلام وحده هو مصدر الطاقة بإذن الله الذي تضيء به مصابيحهم، وتنير به مشاعلهم، وبدون الإسلام ليسوا إلا زجاجات وقوارير فارغة لا يوقدها زيت، ولا يشعلها ثقاب، ليس للمسلمين عز ولا شرف، ولا حق ولا كرامة إلا بالإسلام، إنهم إن أنكروا ذلك، أو تنكروا له فلن يجدوا من دون الله وليًا ولا نصيرًا، إنهم بغير الإسلام أقوام متناحرة، وقطعان مشتتة، بل سِقُط متاع، وأصفار من غير أرقام، يجب أن تربى الأمة على الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة، في دعائم موطدة من الدين القويم، والخلق المستقيم، في دعاء صادق تنطلق به الحناجر: ربَّنَا ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا و?نصُرْنَا عَلَى ?لْقَوْمِ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران: 147].
يجب تأصيل التعامل مع المستجدات والأحداث، بنظرة إسلامية، واعتماد أجهزة الإعلام النظرة الإيمانية، وتوحيد مصدر التثبت في الأنباء على منهج القرآن المدلول عليه بقوله سبحانه : وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأَمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].
أما اليأس والتيئيس، فليُعلم أن اليهود تحملوا العيش في الشتات آلاف السنين، ولم ينسوا مزاعمهم في أرضهم الموعودة، فهل يضطرب أهل الحق المسلمون لمتاعب عشرات السنين، تبلغ الخمسين أو السنين أو ما فوق ذلك، ويفرطون في حقوقهم؟ كلا ثم كلا، إن الأمة بحاجة إلى تربية جادة تصب الأجيال في قوالب الإيمان، وترصهم في ميادين الجهاد، والمثابرة وطول الكفاح، ولنا من حديث اليأس ما نحذر به الخصوم والأعداء، فحذار من دفع خصمك نحو اليأس، إن غلق الأبواب، ومحاولة التضييق على الخصم في ركن أو زاوية، وسدَّ فرص الاختيار يفجر طاقات الغضب والكبت، والانتقام والآلام، إن هذا المسلك يدفع نحو المواقف المتطرفة، يغذيها الحقد والتشفي، والقمع الطويل.
وبعد، أيها المسلمون:
فلنا من كتاب ربنا، ما يربينا ويهدينا، ويدلنا ويرشدنا، فقد سرد لنا أنواع القصص، وضرب لنا روائع الأمثال، ثم قال: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً [الفرقان: 20].
وبالتربية القرآنية سوف تنبعث الهمة في الأمة، وينبت فيها الطموح والتطلع العالي، وهمُّك على قدر ما أهمك، وعلى قدر أهل العزم تكون العزائم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العزيز، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في القدر (2664) من حديث أبي هريرة.
[2] أخرجه أبو داود في الملاحم (4297) من حديث ثوبان، وصححه الألباني بمجموع طرقه. السلسلة الصحيحة [958].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، بلطفه تنكشف الشدائد، وبصدق التوكل عليه يندفع كيد كل كائد، ويتقى شر كل حاسد، أحمده سبحانه وأشكره على جميع العوائد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له في كل شيء آية تدل على أنه الأحد الواحد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، جاء بالحق، وأقام الحجة على كل معاند.
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون:
إن العظمة الإنسانية، والقوة الإيمانية لا تُعرف في الرخاء قدرَ ما تعرف في الشدة، والنفوس الكبار هي التي تملك أمرها عند بروز التحدي، ألا ما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه، وما أشقاه بالضعاف المهازيل، الذين لا ينصرون صديقًا، ولا يخيفون عدوًا، ولا تقوم بهم نهضة، ولا ترتفع بهم راية، فقد ابيضت عين الدهر ولم تر مثل المؤمن في قوته، وبذله وفدائه، المؤمن لا تخيفه قوة المادة، ولا لغة الأرقام، فهو يقدم من ألوان التضحية وضروب الفداء وأنواع البذل، ما لا يصدقه الأعداء، المؤمن لا يصرفه عن حقه وعد، ولا يثنيه عن همته وعيد، ولا ينحرف به طمع، ولا يضله هوى، ولا تغلبه شهوة، فهو دائمًا داع إلى الخير، مقاوم للشر، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، هاد إلى الحق، فاضح للباطل، لئن كسر المدفع سيفه، فلن يكسر الباطل حقه، المؤمن قوي لأنه على عقيدة التوحيد، وعلى طريق الحق، لا يعمل لعصبية جاهلية، ولا من أجل البغي على أحد، إنه قوي بإيمانه، مستمسك بالعروة الوثقى، يأوي إلى ركن شديد، فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? لاَ ?نفِصَامَ لَهَا وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256].
المؤمن بإيمانه ليس مخلوقًا ضائعًا، ولا رقمًا هملاً، ولو تضافر عليه أهل الأرض أجمعون، ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ ]النساء:173 ]، وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى? مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم: 12].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واستمسكوا بدينكم، وتمسكوا بحقكم، وأحسنوا الظن بربكم، ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200].
ثم صلوا وسلموا على نبيكم محمد، النبي الأمي، نبي الرحمة والملحمة، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
(1/1685)
ذم الهوى
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
2/3/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ المؤمن الصادق. 2 ـ فتنة الهوى. 3 ـ جهاد النفس والهوى. 4 ـ بواعث الهوى.
5 ـ التحذير من خلطة صاحب الهوى. 6 ـ صفة صاحب الهوى. 7 ـ التحذير من أهل البدع
8 ـ ذم الابتداع في الدين. 9 ـ التحذير من عدم إنكار البدع. 10 ـ الترغيب والترهيب.
11 ـ التحذير من مجالس الفتن. 12 ـ الحث على التوبة. 13 ـ دعاة تحرير المرأة.
14 ـ صفة الدنيا. 15 ـ التحذير من الهوى في الحكم والشهادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله فقد سعد من اتقاه، وفاز من آثر حقه على نفسه ومناه، ونجا من قدم رضاه على هواه ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
المؤمن الصادق سباق غايات، وحاوي قصبات، ومدرك نهايات، يجتهد في فكاك نفسه من قيود الأقفاص، يرجو النجاة ويطلب الخلاص، همه الآخرة والمعاد، يمهد لنفسه بالصالحات فيا نعم المهاد. وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ?بْتِغَاء مَرْضَاتِ ?للَّهِ وَ?للَّهُ رَءوفٌ بِ?لْعِبَادِ [البقرة: 207].
وإن مما يُخشى على المؤمن في دار المحنة ركوبَ مطية الفتنة، خدع الشهوة المهلة، وبوادر الهوى المضلة، وتلك آفة الآفات، وبلية البليات، آفة عظمى، ومعضلة كبرى، ما حلت في قلب إلا أفسدته، ولا مجتمع إلا أهلكته، يقول رسول الهدى : ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه أحمد [1].
عباد الله:
الشهوة والهوى مع اجتماعهما في العلة والمعلول، واتفاقهما في الدلالة والمدلول إما أن الهوى غالبًا يختص بالشبهات والمعتقدات، والشهوة مختصة بنيل الشهوات والمستلذات، وما من شهوة إلا وهي من نتائج الهوى.
أيها المسلمون:
لقد ذكر الله في كتابه العزيز وكلامه البليغ الوجيز أممًا سابقة كانت أشد منا قوة وأكثر أموالاً وأولادًا ونعمًا سابغة، ولِغوا في الأهواء والآراء، ووقعوا في الفجور والبلاء، استمتعوا بالنعم والخلاق في معصية الملك الخلاق، وخاضوا في الدين بأكاذيب واختلاق، فأتاهم العذاب وما كان لهم من الله من واق، قد حبسهم هواهم، وأسقطهم رداهم، الكرب يغشاهم، والذل يضناهم، يقول الله جل وعلا فيهم: كَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْو?لاً وَأَوْلَـ?دًا فَ?سْتَمْتَعُواْ بِخَلَـ?قِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلـ?قِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَـ?قِهِمْ وَخُضْتُمْ كَ?لَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [التوبة: 69]. فاحذروا ـ عباد الله ـ سلوك سبيلهم، أو السير في ركابهم.
عباد الله:
إن أشد الجهاد جهاد الهوى؛ لأن سبيله وعر، وبحره غمر، ويومه شهر، وشهره دهر, ودهر بلاء وشر، يقول : ((أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه)) رواه الديلمي وغيره [2].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، حتى يخرج إليهم، فمن قهر هواه عز وساد، ومن قهره هواه ذلّ وهان وهلك وباد" [3] انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
والقلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير والرشاد، وشرها أوعاها للبغي والفساد، والنفوس طُلَعة تنزع إلى شر غاية، وليس لمعارّ تركها نهاية، والنفس إما أعطيتها مناها فاغرة نحو هواها فاها، ومن منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلاها، وكان محفوظًا معافى من أذاها، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا (1/1686)
خطبة الوداع
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطبة الرسول في حجة الوداع. 2- تقريرها لحقوق الإنسان. 3- مخالفة أحكام الجاهلية.
4- ذم الربا وبيان حرمته. 5- الوصية بالنساء. 6- مكر الكافرين بالمسلمين. 7- حرمة
الاقتتال بين المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر ما لبس الحجاج ثياب الإحرام، وتجردوا من زينة الدنيا، فغدوا متساويين متآلفين يذكرون تجريد الموت لهم من ثيابهم مرة أخرى، إلا من مثل ثياب الإحرام، فاستعدوا لذلك بصالح الأعمال وكريم الفعال.
الله أكبر ما ارتفعت أصوات الحجيج بالتلبية، يعلنون بذلك استجابتهم لنداء ربهم واستعدادهم لتنفيذ أوامره وأوامر رسوله لأنهم جند الإسلام الميامين، وعباد الرحمن المطيعين.
الله أكبر ما طاف الطائفون حول البيت العتيق، تلهج ألسنتهم بالتسبيح والتمجيد والدعاء والاستغفار، يعلنون بطوافهم ارتباطهم الأبدي بهذا الدين. وأنه يدورون مع شرائعه حيث دارت، لا ينفكون عنها، ولا يبغون عنها حولاً.
الله أكبر ما قصد الحجاج أرض عرفات فاجتمعوا فيها، وذكرهم موقفهم هذا بموقف الحشر الأعظم فعاهدوا ربهم على إصلاح أنفسهم، وتغيير واقعهم، واستقامة سلوكهم.
الله أكبر ما رمى الحجاج الجمرات في أيام العيد، فكانت عهداً مع ربهم على رفض اغراءات الشيطان وتزيينه، وعدم العودة إلى الإصغاء لوسوسته وإضلاله.
الله أكبر لو علم المسلمون معنى العيد، وأنه احتفال بإتمام ركن من أركان الإسلام عظيم، لفرحوا بالطاعة، واستبشروا بالرحمة، وما جعلوه مناسبة للمعاصي والآثام والاختلاط وتبرج النساء فالفرحة للطائعين. أما العصاة، أما فاللائق بحالهم البكاء والحزن على ما فرطوا قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
الله أكبر لو انتهز المسلمون فرحة العيد، فزادوا من قوة روابطهم بصلة الأرحام، وزيارة الأقارب والجيران والأصدقاء، وتفقد الأرامل والآيتام والضعفاء، لكان مجتمعهم كما وصف الرسول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [1].
الله أكبر لو جعل المسلمون العيد مناسبة كريمة لتصافي القلوب المتخاصمة، وغسل أدران الحقد والحسد والغل من نفوسهم المريضة، لصارت قلوبهم بيضاء نقية، ولعاشوا سعداء في الدنيا والآخرة. ألم يقل نبينا : ((دب إليكم داء الأمم قبلكم، البغضاء والحسد، والبغضاء هي الحالقة: ليس حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك، أفشوا السلام بينكم)) [2].
أيها المسلمون: في مثل هذه الأيام، ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان,تحديداً في السنة العاشرة من الهجرة، حج نبينا الحبيب محمد حجة الوداع. والحقيقة أيها الأخوة أن الحديث عن رسول الله حبيب إلى كل قلب مسلم، مؤمن بالله تعالى. لماذا؟لأن له منة عظيمة على كل مسلم، وفضلاً كبيراً على كل مؤمن، إذ به أنقذنا الله تعالى من الكفر إلى الإيمان والإسلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبسنته عرفنا طاعة ربنا وعبادته، وعرفنا تفصيل سائر شعائر الإسلام لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]. إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
في هذه الحجة المباركة، وقف وخطب في المسلمين خطبة الوداع. إن هذه الخطبة التي ألقاها لا تستغرق إلا بضع دقائق، ولكنها أهم من خطب قد تستغرق ساعات. ولا عجب في ذلك فصاحبها عليه الصلاة والسلام، أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم، واختصرت له المعاني اختصاراً. فكان مما قاله : ((يا أيها الناس: اسمعوا قولي فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً)) [3].
سبحان الله: وكأنه كان يشعر بدنو أجله ولقاء ربه، لهذا كان حديثه حديث مودع محب مخلص ناصح، يريد الخير لأمته من بعده.
ثم قال : ((أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا)) [4].
نعم أعلنها صريحة: نعم هذه هي حقوق الإنسان الحقيقية، وليست المزيفة أو المزدوجة، دم المسلم حرام، أي مسلم إلا بالحق وإلا فمن قتل مسلماً فقد قال الله فيه وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93].
ومال المسلم أيضاً حرام. أي مال مسلم، ولو كان شيئاً يسيراً فقد قال : ((من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق. فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، قالوا: يا رسول الله: وإن كان شيئاً يسيراً قال: وإن كان قضيباً من أراك)).
فأين هم الذين يعتدون على المسلمين فيسرقونهم أو ينهونهم، أو حتى يستولون على أجورهم بغير حق، أين هم عن هذا التهديد والوعيد، وما الذي سيفعلونه عندما يفضحهم الله يوم القيامة.
ثم قال : ((يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى)).
نعم مرة أخرى، يتحدث عن حقوق الإنسان، وينبه إلى أن ميزان الحق الذي يوزن به الناس يوم القيامة هو ميزان التقوى، لا ميزان الحسب والنسب والجاه والمال والشهرة، فكل هذا لا قيمة له في الإسلام. والنعرات الجاهلية والتفاخر بها تعتبر من أقصر الطرق الموصلة إلى النار والعياذ بالله.
والحقيقة يوجد من الناس اليوم من لا يزال يتمسك بالفخر بالأحساب والأنساب، ومن أجلها يوالي ويعادي، ويحب ويكره، بل ويزوج ويتزوج من أجلها، وأمثال هؤلاء الذين يقدمون الجنس أو اللغة أو الدم على الدين، أمثال هؤلاء قال نبيه : ((إن الله قد أذهب عنكم عُبيّة الجاهلية وفخرها بالآباء (كبرها وفخرها)، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب. ليدعن رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون (أحقر) على الله من الجعلان (حيوان الخنفساء) التي تدفع بأنفها النتن)) [5] [البراز]. فهل يعتبر هؤلاء ويعرفوا أنه لا قيمة للإنسان إلا بالإسلام، وأنه من غير الإسلام لا يساوي شيئاً.
ثم قال : ((ألا كل شي من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ما أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله)).
والذي ينبه عليه هنا أن كل ما كانت الجاهلية تفخر به وتتمسك من تقاليد وعادات واستعباد للناس، والحكم بينهم بشرائع باطلة، كل ذلك أخبر أنه موضوع تحت قدميه وأنه قد بطل ومات وللأسف فهناك من الناس من يصر على أن يضع هذه الأغلال على رأسه وفوق عينه، فإذا اصطدمت عاداتهم وتقاليدهم مع الدين، قدموا عاداتهم وتقاليدهم وأخروا الدين. وإذا طلب منهم التحاكم إلى شرع الله، فيما بينهم فضلوا التحاكم إلى قوانينهم وأعرافهم، فهل هؤلاء مسلمون يقول الله فيهم وفي أمثالهم: وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ?لنَّاسِ لَفَـ?سِقُونَ أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50].
وذكر رسول الله في خطبته الربا الذي حرمه بأمر من ربه، ويكفي في الربا أنه يضخم ثروات الأغنياء على حساب الفقراء. وهذا ما نراه الآن فالدول المسماة بالدول الكبرى استغلت الربا في استعباد الدول الفقيرة، وأسرها، حتى تبقى مأسورة لها على مدى الأيام، نعم إن الحضارة المادية التي تقود العالم اليوم، لا تعرف إلا الحاضر والربح العاجل أما قوله تعالى: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. فهو حديث خرافة عندهم. لهذا فالاقتصاد العالمي القائم على الربا لن يعمر طويلاً بل سينهار والأيام ستظهر هذا الأمر.
ونفس الكلام على مستوى الأفراد، فالبعض يتعامل بالربا ولا يبالي. هل سأل عن رأي الشرع في ذلك، هل عرف حكم الإسلام في تعاملاته المالية، قليل من يفعل هذا رغم أن الأمر لا يحتاج إلى توضيح أكثر من قوله : ((إن أبواب الربا اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام)) [6] وقوله: ((درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) [7] هل هناك ما هو أكثر من هذا الترهيب والوعيد، ولكن فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ?لاْبْصَـ?رُ وَلَـ?كِن تَعْمَى? ?لْقُلُوبُ ?لَّتِى فِى ?لصُّدُورِ [الحج:46].
ثم قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم (أسيرات) ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فادعو الله خيرا واستوصوا بهن)). الله أكبر: انظروا إلى تكريم الرسول للمرأة، بعد أن كانت لا قيمة لها في الجاهلية، بل كانت رمزاً للشر والخزي والعار، فأكرمها الإسلام بنتاً وأختاً وزوجة وأماً. فأكرمها بنتاً وأختاً فقال : ((ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات فيحسن إليهن إلا كن له سداً من النار)) [8] وعنها زوجة يقول : ((خياركم خيركم لأهله)) ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [9] وعنها أماً قال : ((إن الله يوصيكم بأمهاتكم)) ثلاث مرات [10] ، وقال لرجل أتى للجهاد وترك أمه قال له: ((الزم رجلها، فثم الجنة)) وقال لآخر: ((الزمها (أي أمك) فإن الجنة تحت أقدامها)) [11].
وليس هذا فقط، بل إن المرأة في ظل الإسلام كالرجل في الثواب والعقاب؟ومطلق المسؤولية والجزاء. وجعل لها حق البيع والشراء والتملك، بل وجعلت النفقة والكفالة على أبيها أو ولي أمرها إن كانت بكراً أو ثيباً، وعلى زوجها إن كانت زوجة، حتى ولو كانت من الثريات، وغير ذلك كثير.
لكن الكثير يتجاهلون هذه الوصايا العظيمة ولا يعملون بها. بل إن بعض الرجال لا يزال يتعامل مع النساء بعقلية الجاهلين القدامى، لا ترى المرأة منه إلا الظلم والإهانة والتحقير لها.
والمصيبة العظمى أن البعض من النساء يعتقدن أن هذا يحث لهن بسبب الدين، وهذا والله افتراء عظيم، فما من دين أنصف المرأة كما أنصفها الإسلام.
فلقد عهدنا المرأة أيام كان الإسلام مزدهراً. عهدناها فقيهة محدثة كأم المؤمنين عائشة، ومربية فاضلة كأسماء، وشاعرة مجيدة كالخنساء. ومجاهدة تلطم وجه الشرك وتصدع أعوان البغي كخولة. هكذا كانت المرأة المسلمة وما نزلت قيمتها وما أهبت وما ضيعت حقوقها إلا عندما قيل لها: تحرري وتطوري: إذا أردت الحضارة فاتركي الدين، واختلطي بالرجال وارفعي الحجاب، فضاعت المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين، فاختلطت وغنت ورقصت وتبرجت فصارت طعماً للذئاب الجائعة، والكلاب المفترسة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الله أكبر الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً - عباد الله. أقول ما تسمعون. واستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين.
[1] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الأدب – باب رحمة الناس والبهائم، حديث (6011)، ومسلم : كتاب البر والصلة والآداب – باب تراجم المؤمنين... حديث (2586).
[2] حسن، أخرجه أحمد (1648)، والترمذي : كتاب صفة القيامة – باب حدثنا سفيان بن ركيع... حديث (2510)، والبزار (2232)، وذكره الضياء في المختارة (3/81)، وقال المنذري والهيثمي : رواه البزار بإسناد جيد الترغيب (3/285)، ومجمع الزوائد (8/30)، وحسّنه الألباني، صحيح الترمذي (2038).
[3] صحيح، وانظر ألفاظ خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : صحيح البخاري (1714، 4406، 5550)، صحيح مسلم (1218، 1679)، مسند أحمد (3/80)، (4/76)، (5/37)، سنن الترمذي (3087)، سنن ابن ماجه (3058).
[4] صحيح، أخرجه مسلم : كتاب الإيمان – باب وعيد من اقتطع من مسلم... حديث (137).
[5] حسن، أخرجه أحمد (2/361)، والترمذي : كتاب التفسير – باب سورة الحجرات، حديث (3270)، وقال : حديث غريب. وأبو داود : كتاب الأدب – باب في التفاخر بالأحساب، حديث (5116). وصححه ابن حبان (3828). وحسن إسناده المنذري. الترغيب (3/376)، وحسنه الألباني، صحيح سنن أبي داود (4269).
[6] صحيح، أخرجه الطبراني في الأوسط (7151)، قال المنذري : رواه البيهقي بإسناد لا بأس به. الترغيب (3/5)، وصححه الألباني في الصحيحة (1871).
[7] صحيح، أخرجه أحمد (5/225) موقوفاً، والطبراني في الأوسط (2682) والدراقطني (3/16)، قال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح، الجمع (4/117)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1033).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (3/142)، والترمذي : كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النفقة... (1912)، وصححه ابن حبان (446). قال الهيثمي في المجمع : رواه الطبراني في الأوسط بإسنادين ورجال أحدهما، رجال الصحيح (8/157)، وصححه الألباني في الصحيحة (294).
[9] صحيح، أخرجه الترمذي : كتاب النكاح – باب حسن المعاشرة (1977)، وابن حبان : كتاب النكاح – باب معاشرة الزوجين – ذكر استحباب الاقتداء بالمصطفى... حديث (4177). قال البوصيري في زوائد ابن ماجه : هذا إسناد ضعيف... ولكنه ذكر شواهد له (2/117، 118)، وصححه الألباني بشواهده. في السلسلة الصحيحة (285).
[10] صحيح، أخرجه أحمد (4/131) والبخاري في الأدب المفرد (60) وابن ماجه. كتاب الأدب – باب بر الوالدين، حديث (3661)، والبيهقي في الكبرى (4/179)، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد (4/99)، وذكره الحافظ في الفتح (10/402)، وحسن إسناده في التلخيص الحبير (4/10)، وصححه الألباني في الصحيحة (1666).
[11] صحيح، أخرجه أحمد (3/429) والنسائي : كتاب الجهاد – باب الرخصة في التخلف... حديث (3104)، وابن ماجه: كتاب الجهاد – باب الرجل يغز وله أبواب، حديث (3781). وذكره الضياء في المختارة (8/151) وصححه الحاكم (2/104)، وذكره الحافظ في الفتح (6/140)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2908).
_________
الخطبة الثانية
_________
... لك الحمد من قبل ومن بعد وأشهد أن لا إله إلا الله. صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده. وصلاة وسلاماً على رسولنا الكريم، كلما أشرق صبح يوم جديد، وكلما أقبل على المسلمين عيد.
أيها المسلمون: لقد جاءنا العيد ومر أكثر من عام وفي كل بلد من بلاد المسلمين جرح ينزف ولا ندري عن أي جرح نتحدث. عن البوسنة والهرسك، أم عن فلسطين، أم عن كشمير، أم عن وعن وعن، أم نتحدث عن موقف الكفر وأهله في التعامل مع المسلمين.
انظروا وقارنوا قارنوا بين موقف الإسلام من أهل الكتاب، وموقف أهل الكتاب من المسلمين، انظروا إلى عدل الإسلام في قوله تعالى: لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. انظروا إلى أمير المؤمنين عمر يوم جلد ابن عمرو بن العاص والي مصر لأنه ضرب قبطياً مصرياً ظلماً، وقال قولته الخالدة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) انظروا وقارنوا هذه المواقف بما يفعله اليهود في فلسطين، والنصارى بالمسلمين في جميع أنحاء الأرض، وخاصة في البوسنة والهرسك والتي تشهد مذبحة للمسلمين، لم تحدث من قبل في عصرنا الحاضر: هل هذا هو التسامح الذي يدعونه؟ أهذه هي الحضارة؟ أهذه هي المدنية؟ أهذه هي حقوق الإنسان التي يزعمونها؟
ولكن لماذا نستغرب ونتعجب: لقد أخبرنا الله عن حقائقهم وما يحملونه في صدورهم لنا ولكن مشكلتنا نحن المسلمين أننا لا نسمع ولا نعقل ولا نفهم، وإلا فقد قال الله عنهم: مَّا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَلاَ ?لْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ [البقرة:105]. وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا [البقرة:109]. وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. وقال: كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:8]. وقال: لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10]. ولكن المسلمين نسوا أعداءهم الأصليين، نسوا كل ما يتعرضون له على أيديهم وأحبوهم بل وصاروا يقعون في بعضهم البعض ويقاتلون بعضهم البعض، والكفار يتفرجون وهم فرحون بما يحدث للمسلمين. لهذا كان مما قاله محذراً في حجة الوداع: ((إنكم ستلقون ربكم فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض)) انظروا إليه وهو قلق على مستقبل أمته، ويريد الخير لها، ويحذرها من الشر ولكن هل عملت أمته بالوصية. للأسف الشديد؟ لا، وكما قلنا فهم الآن يقاتلون بعضهم بعضاً وبكل شراسة، بل إنهم لم يقاتلوا أعداء الإسلام من يهود وغيرهم، لم يقاتلوهم بمثل هذه القوة والشراسة والغلظة، وصار إهدار دم الإنسان المسلم من أسهل الأمور في كثير من بلاد المسلمين إلا من رحم الله مع أن النبي يقول: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [1] ويقول: ((قتال المسلم أخاه كفر، وسبابه فسوق)) [2] هذا في قتل المسلم لأسباب دنيوية، فكيف إذا كان قتله بسبب تمسكه بدينه وعقيدته ومطالبته بتحكيم شرع الله، لاشك بأن الأمر أخطر وأعظم.
ثم يختم حديثه بقوله: ((فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن تمسكتم به، كتاب الله وسنة رسوله )) [3] سبحان الله إنه يوصيهم وهو يودعهم، وهم يواجهون الحياة بعده، فيقول لهم: لستم وحدكم، معكم كتاب الله وسنتي، ميراث لا يعدله ميراث، فاحذروا التهاون به، فمن فعل ذلك فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
ثم وضع العلاج للناس من جميع المشاكل التي قد تعترض حياتهم، إنه في مصدرين لا ثالث لهما. ضمن لهم عند الاعتصام بهما الأمان من كل شقاء وضلال، وهما: القرآن والسنة، وهو يتقدم بهذا التعهد والضمان إلى جميع الأجيال المتعاقبة من بعده.
إن صلاحية التمسك بهذين الدليلين ليس مقصوراً على عصر دون عصر، أو جيل دون جيل، بل هما صالحان لكل زمان ومكان. لهذا نحن نرى كثيراً من المسلمين اليوم وبسبب تفريطهم في اتباع الكتاب والسنة، يعانون من الهزائم والتخلف والإحباط. فهم لا يخرجون من فشل إلا دخلوا في فشل آخر وسيستمرون في فشلهم هذا حتى يعودوا إلى الله عودة صادقة حقيقية ويعملوا بالكتاب والسنة كما أمر الله.
وبعد أن انتهى من الخطبة العظيمة نادى في الناس قائلاً: ((إنكم ستسألون عني فما أنتم قائلون؟)) فارتفعت الأصوات من حوله تصرخ وتقول: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع نظره إلى السماء وأشار بسبابته إلى السماء ثم إلى الناس قائلاً: ((اللهم أشهد، اللهم أشهد، اللهم أشهد)) [4].
ونحن نقول اليوم نشهدك يا الله بأن رسولك ونبيك محمد قد بلغ وأدى ونصح، فجزاه الله خير ما يجزي نبياً عن أمته.
وإذا كان قد قضى حياته بطلاً مجاهداً صابراً مرابطاً، وترك بعده أصحابه الأبطال والذين قدموا أرواحهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله وفي سبيل نصرة هذا الدين، وفي سبيل أن يصل إلينا نقياً صافياً. فما الذي فعلناه نحن؟ هل عرفنا قيمة ديننا؟ هل عملنا له؟ هل دعونا لله؟ ماذا قدمنا في سبيله؟ هل جاهدنا بأموالنا وأنفسنا؟ هل.. وهل؟
أسئلة كثيرة تدور في عقولنا، ولكن لا نملك إجابة عليها، بسبب تقاعسنا وكسلنا عن نصرة ديننا. فهل يدفعنا ما سمعناه سابقاً على أن نغير من أحوالنا إلى ما يحبه الله ويرضاه، نرجو ذلك ونتمناه، وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه. نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين جميعاً وأن يوقظنا من سكرة الدنيا ونشوة الشهوات والأهواء، وأن يتغمدنا بلطفه وجوده ورحمته إنه على كل شيء قدير.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
[1] صحيح، أخرجه الترمذي : كتاب الديات – باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن، حديث (1395)، والنسائي : كتاب تحريم الدم – باب تعظيم الدم (3987)، وابن ماجه : كتاب الريان – باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً (2619)، قال البوصيري في الزوائد: إسناد صحيح، رجاله ثقات (3/122)، وحسن المنذري إسناد ابن ماجه، الترغيب (3/201)، ورمز له السيوطي بالصحة، الجامع الصغير (7236)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4954).
[2] صحيح، أخرجه البخاري : كتاب الإيمان – باب خوف المؤمن من حديث (48)، ومسلم : كتاب الإيمان – باب بيان قول النبي : ((سباب المسلم..)) حديث (64).
[3] أخرجه المروزي في السنة (68) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ويشهد له حديث جابر عند مسلم في : الحج، باب : حجة النبي (1218).
[4] صحيح، أخرجه مسلم في الحج، باب : حجة النبي (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، بنحوه.
(1/1687)
صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة صلاة الجماعة. 2- أمور صالحة يدركها المسلم بمحافظة على صلاة الجماعة. 3-
الحرص على جماعتي الفجر والعصر. 4- أدلة وجوب صلاة الجماعة. 5- التحذير من التخلف
عن صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الإسلام لم يكتف من المسلم أن يؤدي الصلاة وحده في عزلة عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولكنه دعاه دعوة قوية إلى أدائها في جماعة المسلمين وفي المساجد فقال تعالى: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]. قال الإمام ابن كثير تفسيره: "أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد يقول: كونوا معهم ومنهم".
وشأن صلاة الجماعة في الإسلام عظيم ومكانتها عند الله عالية، لذلك شرع الله بناء المساجد لها فقال سبحانه وتعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ [النور:36]. بل إن أول عمل بدأ به الرسول حين قدم المدينة بناء المسجد لأداء الصلاة فيه، وشرع الله النداء لصلاة الجماعة من أرفع مكان بأعلى صوت، ويستحب لها الأمة، بل كان رسول الله يتفقد الغائبين ويتوعد المتخلفين، وذلك من أجل صلاة الجماعة.
وقد شهد الله سبحانه وتعالى لمن يحافظ على صلاة الجماعة في المساجد بالإيمان حيث يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وقد أخبر الرسول على أن الذي يداوم على صلاة الجماعة وقلبه معلق بها وبالمسجد فإنه يكون في ظل الله تعالى يوم القيامة فذكر وقال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق في المساجد)) وعند الإمام مالك: "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه".
قال الإمام النووي: "ورجل قلبه معلق في المساجد:أي شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وذلك معناه دوام القعود في المسجد".
وقد جعل الله تعالى المشي إلى الجماعات من أسباب تطهير العبد من الذنوب، قال رسول الله : ((إلا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط)).
ولا يظن أحد أن كثرة الخطا إلى المسجد هي من أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات عند الذهاب إلى المسجد فحسب، بل هي كذلك عند العودة من المسجد، قال: ((من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحوا سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهباً وراجعاً)) [أحمد 10/103، أحمد شاكر صحيح].
بل إن الفضل أعظم يقول: ((من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم)). الله أكبر ما أعظم أجر الخارج إلى المسجد يدرك المرء المسلم يومياً بخروجه للصلوات الخمس أجر من خرج للحج محرماً خمس مرات. وإذا كان هذا الأجر العظيم على الخروج لأداء الصلاة في جماعة فحسب، فكيف يكون الأجر على أداء الصلاة في جماعة.
ومما يدل على فضل الذهاب إلى المسجد ما نبه النبي الكريم من أن الخارج إلى الصلاة ضامن على الله تعالى ثلاثة، ضامن على الله عز وجل، من دخل بيته فسلَّم، ومن خرج إلى صلاة مكتوبة، ومن خرج في سبيل الله. ضامن أي مضمون.
ألا ما أوثق هذا الضمان وأعظمه وأي ضمان يمكن أن يكون أوثق أو مثل ضمان الخالق القادر المقتدر الأحد الصمد سبحانه وتعالى؟!
والخارج إلى الصلاة في الجماعة، هو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، قال رسول الله : ((إذا توضأ أحدكم في بيته ثم أتى المسجد، كان في صلاة حتى يرجع، فلا يقل هكذا، هذا وشبك بين أصابعه)).
كما أنه بشَّر المشائين إلى المساجد في الظلمات بالنور التام يوم القيامة: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [صحيح ابن ماجه]. يقول العلامة المناوي: "لما قاسوا مشقة ملازمة المشي في ظلمة الليل إلى الطاعة جوزوا بنور يضيء لهم يوم القيامة".
وأخبر أن الله يعد نزلاً مكاناً في الجنة للمحافظة على الجماعة، فقال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نُزُلَه من الجنة كلما غدا أو راح)) [متفق عليه]. وإذا كان نزل الغادي والرائح إلى المسجد يعد من قبل الله رب السموات والأرض وخالق الكون لك فكيف يكون؟ وإذا كان هذا الأجر على الذهاب والإياب من المسجد، فماذا يكون من الأجر والثواب على أداء الصلاة مع الجماعة فيه؟
ويكفي في فضل صلاة الجماعة في المسجد ما نبه الرسول من أن وافد المسجد، زائر لله عز وجل: ((من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر)) ، وكيف يكون تكريم الله تعالى زائره سبحانه وتعالى، وهو أكرم الأكرمين مالك السموات والأرضين، كيف؟ بل إن الله سبحانه وتعالى وهو الغني عن كل شيء يفرح بقدوم العبد إلى المسجد لأداء الصلاة فيه. قال : ((لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته)) يقول الإمام ابن الأثير: "البش فرح الصديق بالصديق، واللطف في المسألة، والإقبال عليه، وهذا مثل ضربه لتلقيه إياه ببره وتقريبه وإكرامه.
ومما يبين فضل الصلاة في جماعة بأن من جلس في انتظارها فهو في الصلاة، وأن الملائكة تستغفر له وتدعو له بالرحمة قال رسول الله : ((أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة في صلاة ما لم يحدث تدعو له الملائكة، اللهم اغفر له اللهم ارحمه)).
وإذا كان جلوسه في الصف الأول فالأمر أعظم من ذلك لأن النبي : ((إن الله عز وجل وملائكته يصلون على الصف الأول)).
كذلكم التأمين مع الإمام في صلاة الجماعة له فضل عظيم، قال : ((إذا قال الإمام: غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:7]. فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ومما يدل على فضل صلاة الجماعة ما بشر به نبينا من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، فقال: ((من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق)). قال العلامة الطيبي: "يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق، ويوفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق، ويشهد له بأنه ليس منافقاً، وذلك بأن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وحال هذا بخلافهم". ما أعظم البشارة ، وما أجل هاتين البراءتين، اللهم لا تمتنا حتى ننالهما آمين.
هذا قليل مما ورد في فضل صلاة الجماعة بشكل عام، أما بشكل خاص فهناك تأكيد على صلاتي العشاء والفجر، قال : ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)). وفي صلاتي العصر والفجر، قال رسول الله : ((من صلى البردين دخل الجنة)) ، ويكفي في صلاتي الفجر والعصر أن النبي قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي، فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)) [مسلم، 649 الترغيب].
وقال : ((ومن صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)).
أيها الأخوة:
لقد كان سلفنا الصالح يعرفون قيمة صلاة الجماعة ومدى أهميتها ووجوبها فكانوا يحافظون عليها.
لذلك هل نعلم أن النبي كان يخرج لصلاة الجماعة في مرض قومه كان يخرج محمولاً بين رجلين حتى يقعدانه لي الصف، في مرض الموت؟! فماذا أيها الأصحاء المعافون؟! ماذا أيها الشباب؟! ماذا يا مَنْ تنعمون بالقوة والنشاط؟! كيف ترضون لأنفسكم التخلف عن المسجد والجماعة، وما الذي ستفعلونه بالصلاة إذا مرضتم؟!
أين نحن من السلف الصالح؟! لقد كانوا يستعدون للصلاة قبل إقامتها، ذكر الذهبي عن عدي بن حاتم أنه قال: (ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء)، وهذا سعيد بن المسيب لم تفته صلاة الجماعة مدة أربعين سنة، بل كان يقول: (ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد)، وهذا ربيعة بن يزيد يقول: (ما أذن المؤذن لصلاة الصبح منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضاً أو مسافراً)، بل إن سليمان بن مهران كان يقول لابنته وهي تبكي عند رأسه في مرض موته: (ابكي أو لا تبكي فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة ستين سنة)، بل إن الصحابي الحارث بن حسان تزوج في ليلة من الليالي فحضر صلاة الفجر مع الجماعة فقيل له أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الساعة الليلة، فيقول: (والله إن امرأة تمنعني من صلاة الفجر في جماعة لامرأة سوء).
هكذا كانوا بل حتى وهم مرضى كانوا يحملون حملاً إلى الصلاة حتى لا يتخلفوا عن الجماعة.
لقد مرض أحد الصالحين من التابعين واسمه ثابت بن عامر، مرض فسمع أذان المغرب فقال لأبنائه احملوني إلى المسجد. قالوا: أنت مريض وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله اسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد. ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب قبض الله روحه. سبحان الله أين نحن من هؤلاء؟!
إننا نرى اليوم من الناس تساهلاً عظيماً في الصلاة مع الجماعة، فمن الناس من لا يُرَى في المسجد أبداً وفي جميع الصلوات، ومنهم من لا يُرَى إلا في الجمعة وقد يسكن بجوار المسجد، ويسمع النداء خمس مرات في اليوم والليلة، إنها لخسارة كبيرة أن نرى أعداداً كثيرة وجموعاً غفيرة من الناس في مجتمع المسلمين لا يبالون بصلاة الجماعة ولا يرتادون المساجد وهم يسمعون المنادي يدعوهم بأعلى صوته ويقول لهم (حي على الصلاة حي على الفلاح) فيعرضون عنه وهو يقولون بلسان حالهم لا نريد الصلاة ولا نريد الفلاح حرمان أعظم من هذا. إن المؤذن يقيم عليك الحجة في اليوم والليلة خمس مرات، والملك يكتب عليك التثاقل عن الحضور، ويسجل عليك الغياب في محفوظة تعرض عليك يوم القيامة أمام الله، وتوضع في ميزان عملك؟فماذا أنت فاعل لربك وقتها. تركت صلاة الجماعة وتهاونت بها فاقتدى بك أقربائك، واقتدى بك جيرانك، واقتدى بك أبناؤك فصرت قدوة في الشر بدلاً من أن يكون قدوة في الخير، فهل ترضى لنفسك ذلك، إذا كنت لا ترضى لنفسك ذلك فأجب، أجب داعي الله وحافظ على صلاة الجماعة: ي?قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ?للَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ ?للَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى ?لأرْضَ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الأحقاف:31-32].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيظن بعض الناس أن صلاة الجماعة سنة يثاب فاعلها ولا يأثم تاركها، متعللين بقول النبي : ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة)) فأفتوا بقولهم: إنّ المتخلف عن الجماعة لا يحصل إلا على درجة واحدة ولكن ليس عليه شيء في تخلفه عن صلاة الجماعة - سبحان الله - هذا هو الذي حفظتموه من الدين، لماذا لا تحفظون من الآيات والأحاديث إلا التي تخدم كسلكم وإهمالكم في أداء الطاعات، إن صلاة الجماعة واجبة على كل رجل مسلم عاقل، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، من ذلك يقول تعالى: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]. قال ابن كثير: "استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة".
وقال تعالى آمراً نبيه أن يقيم صلاة الجماعة في حال الخوف: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى? لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]. هذه الآية في وجوب صلاة الجماعة في حالة الخوف وفي الحرب وإذا لم يُخص في ترك الجماعة في الخوف والحرب فكيف بوقت السلم والأمن؟!.
وقال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ وَهُمْ سَـ?لِمُونَ [القلم:42-43]. قال كعب: (والذي أنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والفرقان على محمد، أنزلت هذه الآيات في الصلوات المكتوبات حيث ينادى بهن)، وقال سعيد بن جبير: ( وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ الصلوات في الجماعات)، وقال حبر الأمة ابن عباس: وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ قال: (الرجل يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة).
وقال رسول الله : ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا عن عذر)) ، ما هو العذر؟ قال: ((خوف أو مرض)) وأتى ابن أم مكتوم إلى النبي فقال: يا رسول الله إن منزلي شاسع، وأنا مكفوف البصر، وأنا أسمع الأذان فقال : ((ما أجد لك رخصة فإن سمعت النداء فأجب ولو حبوا أو زحفاً)).
بل إن النبي هم بأمر عظيم يفعله مع المتخلفين عن أداء الجماعة فقال: ((لينتهين رجال عن ترك الجماعة أو لأحرقن بيوتهم)).
ولا يهم الرسول بأمر كهذا وهو أرحم الخلق بأمته إلا لعظم هذا الأمر وأهميته وخطورته.
وأخيراً إن المتخلف عن صلاة الجماعة هو منافق قال : ((أثقل الصلاة على المنافقين العشاء والفجر ولو علموا ما فيهما لأتوا ولو حبوا)). وقال ابن مسعود عن صلاة الجماعة: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
ولا يزال المرء يتأخر عن الصف الأول وعن صلاة الجماعة حتى يؤخره الله في النار كما في قوله : ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار)) [صحيح الجامع:7576].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن)، وسئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجماعة ولا الجمعة فقال: (هذا في النار) وقال إبراهيم النخعي: (إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه)، هذا الذي يتهاون في التكبيرة الأولى فكيف بالذين يتهاونون بالجماعة، إن هؤلاء يقول نبيُّنا فيهم وفي أمثالهم: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)).
إذن يتبين لنا من القرآن الكريم والسنة المطهرة وعمل الصحابة وعمل المسلمين إلى يومنا هذا وجوب صلاة الجماعة، فما عذرك أيها المتخلف عن صلاة الجماعة؟ وقد يكون المسجد بجوار منزلك ثم لا تحضر الجماعة، هل أنت لم تسمع الآيات والأحاديث؟ أو سمعتها وقلت سمعنا وعصينا.
هل ترضى بأن تكون مع الخوالف؟ هل ترضى بالعقوبة؟ هل ترضى بوصف النفاق يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة الأرواح والأموال.
فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إلى الله وحافظوا على صلاة الجماعة من قبل أن يحل علينا غضب الله: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا ما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال [إبراهيم:31]. فهل تفعل؟ نرجو ذلك.
(1/1688)
كيف نتقي السحر ونداويه
الإيمان
الجن والشياطين
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كيف نتقي السحر ونداويه:
خير علاج للسحر أن يتقيه المرء قبل وقوعه وحدوثه، فالوقاية خير من العلاج. ولكي نحمي أنفسنا من هذا الشر وغيره، علينا أن نلجأ إلى الله أولاً وآخراً، كما قال سبحانه عن أيوب عليه السلام وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83-84]. إن علينا أن نتعلم التوحيد ونعمل به، وعلينا أن نعلم الشرك ونتجنبه. وكذلك علينا أداء فرائض الله سبحانه وتعالى. وعلينا أن نحول حياتنا إلى حياة إسلامية بحق وصدق وإخلاص لوجه الله الكريم فَ?للَّهُ خَيْرٌ حَـ?فِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [يوسف:64]. وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً [الأنعام:61]. فالله يحفظ كل عبد من عباده الصالحين لأنه يحبه، والمحب على من أحب حريص، فلن يضر العبد الصالح لا سحر ولا شيطان، وإن ابتلي مرة فرحمة الله سرعان ما تدركه بالسلامة والعافية، ولذا نجد أكثر من تمكن السحر منهم ويطول فيهم، هؤلاء الذين أعرضوا عن الله عز وجل، فتمكن الشيطان منهم، فأصبحوا فريسة للسحر مستسلمين له، أما أهل الإيمان عباد الرحمن فهم كما قال سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. فبذكر الله وتقوى الله يكون العبد في حفظ الله، ومحصناً من السحر إن شاء الله.
أيضاً من التحصينات من السحر قبل وقوعه أن نأكل 7 تمرات عجوة على الريق على أن يكون من تمر المدينة وإذا لم نجد فأي تمر عجوة تجده يكفيك إن شاء الله (من اصطبح بسبع ثمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) [البخاري 100/247].
ومنها المحافظة المستديمة على الوضوء، لأن المسلم المتوضئ محروس بملائكة الرحمن فأنى تصله الشياطين أو يصل له السحر قال : ((طهروا هذه الأجساد طهركم الله. فإنه ليس من عبد يبيت طاهراً إلا بات معه في شعابه ملك، لا يتغلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً.
العلاج بالحجامة وقد ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد.
وزد على ذلك المحافظة على صلاة الجماعة وعلى الطاعات عموماً، والاستعاذة بالله دوماً من شر كل ذي شر، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وهذا شيء مهم جداً خاصة بعد صلاة الفجر، ويكفي من ذلك أن النبي يقول: ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)) وما دمت في ذمة الله فهل تظن أن أحداً سيسلط عليك.
أيضاً وحينما تستيقظ كل يوم لتصلي الفجر بعد أذكار الصلاة لا تنس أن تقول: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) لأن النبي قال: ((من قال ذلك ثلاث مرات حين يصبح لم يصبه بلاء حتى يمسي، ومن قال ذلك ثلاث مرات حين يمسي لم يصبه بلاء حتى يصبح)) وهكذا.
وهذه الطرق التي ذكرناها سابقاً تحمي الإنسان بإذن الله من السحر وغيره. أما إن وقع السحر فعلاً وتم التأكد من ذلك فهناك طرق أخرى: ونحن نقول أنه لابد من التأكد من السحر، فالبعض قد يفسر بعض الأعراض المرضية حتى الخاصة بالأمراض العضوية؟ قد يعتبرها بالسحر أو العين أو المس وغير ذلك. ونحن نقول: إن على المريض أن يعرض نفسه على الطب التجريبي أولاً: فإن عجز الأطباء عن معرفة سبب المرض أو علاجه، فلنبدأ بالطب القرآني:وإذا بدأ العلاج بهما معاً فلن يخسر الإنسان شيئاً. أما علاج السحر بعد وقوعه فهناك طرق مشروعة كثيرة لكن لابد للمريض أن يعلم أولاً: أن قوة إرادته وصموده وعدم تردده لابد منها حتى ينجح من العلاج، وإن حصل له بسبب ذلك الألم والمعاناة فليصبر وليحتسب الأجر عند الله فليصبر لأن الله سبحانه يقول: وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. وليحتسب الأجر عند الله لأن الرسول يقول: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه)) الذي يجب على المريض أن يعلمه: أنه ربما تطول فترة العلاج، لكن ليعلم أنه لا بأس على رحمة الله وأن الفرج لابد منه بإذن الله، فهذا يعقوب عليه السلام غاب عنه ولده الأول ثم الثاني ثم فقد بصره ولكنه وحتى آخر لحظة لم ييأس أبداً.
بل كان يخاطب بنيه ويقول كما حكى الله عنه يبَنِىَّ ?ذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87]. ونحن نعلم نهاية الأمر فقد رجع أولاده إليه وجمعه الله بهم بل وعاد مبصراً كما كان في السابق ولا نعني هنا دور المحيطين بالمريض بالسحر فدورهم ضروري جداً في رفع روحه المعنوية وفي فهم أنه قد يصاب بفتور وقد لا يستجيب بسهولة للعلاج بالقرآن والأذكار، إما نتيجة لتمكن السحر منه وإما لضعف وازعه الديني، وإما لضعف شخصيته أصلاً فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور.
أما الطرق المشروعة لإزالة السحر بعد وقوعه فمنها:
الاستعاذة عند دخول الخلاء.
أما إن وقع السحر فهناك طرق مشروعة لإزالته بعد وقوعه، ومنها:
1- استخراجه وإبطاله وحرقه ودفنه إن عرف مكانه، وهذا هو الذي حدث للنبي عندما سحر.
فعندما عرف أن سحر أخذ يدعو ويدعو واجتهد في الدعاء حتى جاءه الفرج من الله، فقال : ((أتاني رجلان (ملكان) فقعد أحدهم عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (مسحور) قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة نخلة ذكر قال: أين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) (المشاطة: الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند توجيهها). وجف طلع نخلة: الجف هو الغشاء الذي يكون على الطلع، والطلع: هو ما يطلع من النخلة ثم يصير تمراً إذا كانت أنثى، وإن كانت ذكراً لم يصر تمراً بل يؤكل طرياً ويترك على النخلة أياماً معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض كالدقيق وله رائحة زكية فيلقح به الأنثى. فأتاها رسول الله في ناس من أصحابه فجاءه وقال: ((يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحنا)) (حمراء مثل عصارة الحناء إذا وضعت في الماء) وكأن رؤوس نخلة كرؤوس الشياطين. ولما استخرج السحر أمر أن يدفنه وفي رواية يحرقه.
فإذا علم مكان السحر فليفعل به هكذا، وقد يقول قائل: كيف أعرف مكان السحر؟ والجواب هو أن يكثر المريض وأهله الصلاة.
اللهم ارفع لنا الدرجات واصرف عنا المعضلات وأصلح لنا النيات وثبتنا إلى الممات، ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واجعلنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكرات، اللهم ارحمنا في الحياة بالهداية للخير، وبعد الممات بدخول الجنات، اللهم اسلك بنا سسبيل النجاة واعصمنا من المهلكات.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومما يعين في علاج السحر الصوم والذكر وأفعال الخير خاصة قيام الليل ثم يدعو ربه أن يبين له هذه الحالة المرضية وكيفية علاجها، ولن يضيعه الله، أو يمكن له الاستدلال على ذلك عن طريق المعالج الذي يمكن له أن يستنطق الجني الموكل بالسحر.
وإياك يا عبد الله إياك ثم إياك أن تذهب إلى ساحر كي يفك السحر فهذا لا يجوز.وقد وجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
س: إذا اتضح لنا إن إنساناً سحراً نهاناً آخر فكيف نبطل مفعوله في الشرع؟
الجواب: تعاطي السحر حرام بل كفرأكيد فلا يجوز أن يستعمل السحر لإبطال السحر ولكن يعالج المبتلى بالسحر بالرقى والأدعية الشرعية الواردة في القرآن والسنة.[فتوى رقم 4228].
ومن الطرق المشروعة لإزالة السحر:استعمال الأدوية المباحة ومن ذلك مثلاً: تؤخذ سبع ورقات من شجرة السدر، ولابد أن يكون الورق أخضراً وتدق جميعها بين حجرين ثم تلقى في ماء قدر الغسل وتقرأ عليها آية الكرسي سبع مرات ثم يشرب المسحور منها قدر ثلاث حسوات بيديه ثم يغتسل ببقية الماء فإنه بإذن الله يفك السحر عنه.
ومن أعظم ما يزيل السحر بعد وقوعه الرقى: وأنفع أنواع الرقى ما كان بالقرآن الكريم كالفاتحة وآية الكرسي والمعوذات وبعض الآيات، ويشترط في هذه الرقى ثلاث شروط:
أولاً: أن لا يكون فيها شرك ولا معصية، كدعاء غير الله، والإقسام على الله بغير الله.
ثانياً: أن تكون بالعربية أو ما نفقه معناه، لا بهمهمات ولا بطلاسم.
ثالثاً: أن لا يعتقد الإنسان أنها مؤثرة بنفسها.
والرقى يا أخوة ليست مقصورة على إنسان بعينه، فإن المسلم يمكن أن يرقى نفسه، ويمكن أن يرقي غيره، وأن يرقيه غيره، ويمكن للرجل أن يرقي امرأته، ويمكن للمرأة أن ترقي زوجها ولاشك أن صلاح الإنسان له أثر في النفع، وكلما كان أكثر صلاحاً كان أكثر نفعاً لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وإذا أراد الإنسان أن يذهب إلى أحد القراء المعروفين بالصلاح والتقوى، وإذا ذهب إليه فإن عليه أن يكون صريحاً وواضحاً معه، خاصة أن المسحور أو المسحورة قد يشعر بأشياء حرجة ولكنه يخجل من التصريح فيها، وهذا الأمر لا يساعد المعالج في إعطاء العلاج الصحيح فينبغي التنبيه لذلك وكذا يقصد بالعلاج أهل الذكر الحسن من العلماء وطلبة العلم الجيدين، ولا يقصد مجهول الحال. ونحن نقول هذا الكلام لأن البعض يذهب إلى السحرة وهو يعلم أنهم سحرة؟والبعض يذهب إليهم لظنه أنهم من الأطباء والنفسيين كما يزعمون أو من الصالحين فيقع ضحية جهله بين يدي دعي كذاب دجال كاهن.
والذي يريد أن يعرف الفرق بين الساحر وبين المعالج بالطرق المشروعة، فنقول له إن الساحر يعرف بإحدى هذه الأمور:
1- قد يسأل عن اسم المريض واسم أمه.
2 - أو يطلب أثراً من آثار المريض كالثوب أو المنديل أو الملابس الداخلية.
3 - قد يطلب منك حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض أو يرمي به في مكان خرب.
4 - يكتب الطلاسم ويتلو العزائم والطلاسم الغير المفهومة.
5- إعطاء المريض (حجاباً) يحتوي على مربعات بداخلها حروف وأرقام. قد يأمر المريض بأن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسمونها (الحجبة).
6- أحياناً يطلب من المريض ألا يمس الماء لمدة معينة.
7 - يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض، أو يعطيه له أوراقاً يحرقها ويتبخر بها.
8- قد يتمتم بكلام غير مفهوم، ويخبر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها.
فإذا وجدت علامة واحدة من هذه العلامات في أحد المعالجين فهو ساحر وكاهن، فإياك والذهاب إليه وإلا انطبق عليك قول النبي : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )). فهل يتنبه الغافلون ويستيقظ النائمون.
قد يقال: ((كيف تقولون أن السحرة عباد الشيطان مع أننا نرى بعضهم يصلون ويقرءون القرآن ويكتبون في أوراقهم السحرية آيات من القرآن)).
والجواب: أن هؤلاء يظهرون مثل هذا تغريراً بالناس كي ينخدعوا بهم أما باطنهم فبعيد عن التقى والصلاح.
وقد أجرت إحدى الصحف العربية مقابلة مع ساحر تائب؟صرح فيها بأن الشياطين كانت ترشدهم إلى التظاهر بالتقوى أمام الناس، كما تأمرهم بالصلاة أمام الناس دون نطق بالآيات أي يؤدي حركات فقط. وترشدهم إلى عدم ارتكاب الآثام والفواحش أمام الناس. حتى يقول الناس إن فلاناً تقي، وسيد، ولي، فإذا خلى بنفسه أو كان مع أمثاله فليفعل ما يشاء.
وإذا أردتم مثالاً على ذلك. فثمة هناك كاهن مجرم يدعي أنه طبيب شعبي وأنه يعالج الناس، فكان إذا أتاه رجل بزوجته أو أخته أو إحدى قريباته قال لمحرميها: اخرج حتى أقرأ عليها، فبعض الأغبياء يخرجون، فيأتي هذا المشعوذ ويحاول بالمرأة ولا يزال بها حتى يزني بها بحجة أنها تحتاج إلى علاج سفلي. فيزني بها عدو الله ثم يهددها بعد ذلك أنها إن تكلمت فسوف يسلط عليها الجن. ويسقط في يدها ولا تتكلم. وعلى كل فقد قبض على هذا الخبيث وهو في السجن أسأل الله أن يهلكه ويهلك أمثاله من المجرمين.
وإذا كنا لا نعذر أمثال هذه المجرم فنحن لا نعذر أيضاً بعض المغفلين الذين لا يفرقون بين الساحر وبين المعالج بالطريقة الشرعية الصحيحة، وقد يرون من بعض الناس بعض خوارق العادات فيظنون أنهم أولياء لله دون أن يعرفوا عن سلوكهم وأخلاقهم شيئاً، لهذا يقول الإمام الشافعي: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به حتى تعرضوا أعماله على الكتاب والسنة ويقول الإمام ابن تيمية: وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة، والآثار والمتواترة عن الصحابة وغيرهم والتابعين لكن كثيراً ممن يدعونها أو تدعى له يكون كذاباً أو ملبوساً عليه.
وأيضاً فإنها لا تدل على عصمة صاحبها وعلى وجوب اتباعه في كل ما يقوله بل قد تصدر بعض الخوارق من الكفار والسحرة بمؤاخاتهم للشياطين كما ثبت عن الدجال أنه يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وأنه يقتل واحداً ثم يحييه، وأنه يخرج خلفه كنوز الذهب والفضة ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية ولا إسلام حتى ننظر وقوفه عند الأمر والنهي الذي بعث به رسوله.
إذن يجب أن نتحقق من دين من تظهر عليه بعض الخوارق، فإذا كان ملتزماً بالكتاب والسنة والشريعة اعتقدنا بكرامته، ولو أن ذلك لا يترتب عليه إثبات أو نفي الأحكام شرعية أو أن يكون ذلك باباً وسبباً لتحصيل المال والجاه بغير حق، وإلا فهو محتال أو ممن يتخذهم الشيطان طمعاً كالسذج من الناس ليصدهم عن الطريق السوي والشريعة السمحاء.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا من السحر والسحرة وحافظوا على عقيدتكم من الفساد أكثر ما تحفظون على صحة أبدانكم من الأمراض فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم، مريض العقيدة، فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116].
(1/1689)
كيف نتقي السحر ونداويه
التوحيد
نواقض الإسلام
صالح الجبري
الطائف
2/3/1419
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
أ- الوقاية من السحر عن طريق: 1- الاستعانة بالله خير وقاية من السحر. 2- عجوة المدينة
تقي بأمر الله من السحر. 3- الوضوء يقي من السحر وكذلك صلاة الفجر في جماعة. 4-
الأذكار. ب- علاج السحر عن طريق: 1- الطب القرآني وضرورة الصبر على العلاج. 2-
استخراج السحر وإبطاله ودفنه. 3- أدوية مباحة. 4- الرقى الشرعية. ج-كيف يعرف الساحر.
د- التفريق بين خوارق العادات بحسب أصحابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كيف نتقي السحر ونداويه:
خير علاج للسحر أن يتقيه المرء قبل وقوعه وحدوثه، فالوقاية خير من العلاج. ولكي نحمي أنفسنا من هذا الشر وغيره، علينا أن نلجأ إلى الله أولاً وآخراً، كما قال سبحانه عن أيوب عليه السلام وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83-84]. إن علينا أن نتعلم التوحيد ونعمل به، وعلينا أن نعلم الشرك ونتجنبه. وكذلك علينا أداء فرائض الله سبحانه وتعالى. وعلينا أن نحول حياتنا إلى حياة إسلامية بحق وصدق وإخلاص لوجه الله الكريم فَ?للَّهُ خَيْرٌ حَـ?فِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ ?لرحِمِينَ [يوسف:64]. وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً [الأنعام:61]. فالله يحفظ كل عبد من عباده الصالحين لأنه يحبه، والمحب على من أحب حريص، فلن يضر العبد الصالح لا سحر ولا شيطان، وإن ابتلي مرة فرحمة الله سرعان ما تدركه بالسلامة والعافية، ولذا نجد أكثر من تمكن السحر منهم ويطول فيهم، هؤلاء الذين أعرضوا عن الله عز وجل، فتمكن الشيطان منهم، فأصبحوا فريسة للسحر مستسلمين له، أما أهل الإيمان عباد الرحمن فهم كما قال سبحانه: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. فبذكر الله وتقوى الله يكون العبد في حفظ الله، ومحصناً من السحر إن شاء الله.
أيضاً من التحصينات من السحر قبل وقوعه أن نأكل 7 تمرات عجوة على الريق على أن يكون من تمر المدينة وإذا لم نجد فأي تمر عجوة تجده يكفيك إن شاء الله (من اصطبح بسبع ثمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر) [البخاري 100/247].
ومنها المحافظة المستديمة على الوضوء، لأن المسلم المتوضئ محروس بملائكة الرحمن فأنى تصله الشياطين أو يصل له السحر قال : ((طهروا هذه الأجساد طهركم الله. فإنه ليس من عبد يبيت طاهراً إلا بات معه في شعابه ملك، لا يتغلب ساعة من الليل إلا قال: اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهراً)).
العلاج بالحجامة وقد ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد.
وزد على ذلك المحافظة على صلاة الجماعة وعلى الطاعات عموماً، والاستعاذة بالله دوماً من شر كل ذي شر، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وهذا شيء مهم جداً خاصة بعد صلاة الفجر، ويكفي من ذلك أن النبي يقول: ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)) وما دمت في ذمة الله فهل تظن أن أحداً سيسلط عليك.
أيضاً وحينما تستيقظ كل يوم لتصلي الفجر بعد أذكار الصلاة لا تنس أن تقول: ((بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) لأن النبي قال: ((من قال ذلك ثلاث مرات حين يصبح لم يصبه بلاء حتى يمسي، ومن قال ذلك ثلاث مرات حين يمسي لم يصبه بلاء حتى يصبح)) وهكذا.
وهذه الطرق التي ذكرناها سابقاً تحمي الإنسان بإذن الله من السحر وغيره. أما إن وقع السحر فعلاً وتم التأكد من ذلك فهناك طرق أخرى: ونحن نقول أنه لابد من التأكد من السحر، فالبعض قد يفسر بعض الأعراض المرضية حتى الخاصة بالأمراض العضوية؟ قد يعتبرها بالسحر أو العين أو المس وغير ذلك. ونحن نقول: إن على المريض أن يعرض نفسه على الطب التجريبي أولاً: فإن عجز الأطباء عن معرفة سبب المرض أو علاجه، فلنبدأ بالطب القرآني:وإذا بدأ العلاج بهما معاً فلن يخسر الإنسان شيئاً. أما علاج السحر بعد وقوعه فهناك طرق مشروعة كثيرة لكن لابد للمريض أن يعلم أولاً: أن قوة إرادته وصموده وعدم تردده لابد منها حتى ينجح من العلاج، وإن حصل له بسبب ذلك الألم والمعاناة فليصبر وليحتسب الأجر عند الله فليصبر لأن الله سبحانه يقول: وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]. وليحتسب الأجر عند الله لأن الرسول يقول: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه)) الذي يجب على المريض أن يعلمه: أنه ربما تطول فترة العلاج، لكن ليعلم أنه لا بأس على رحمة الله وأن الفرج لابد منه بإذن الله، فهذا يعقوب عليه السلام غاب عنه ولده الأول ثم الثاني ثم فقد بصره ولكنه وحتى آخر لحظة لم ييأس أبداً.
بل كان يخاطب بنيه ويقول كما حكى الله عنه يبَنِىَّ ?ذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87]. ونحن نعلم نهاية الأمر فقد رجع أولاده إليه وجمعه الله بهم بل وعاد مبصراً كما كان في السابق ولا نعني هنا دور المحيطين بالمريض بالسحر فدورهم ضروري جداً في رفع روحه المعنوية وفي فهم أنه قد يصاب بفتور وقد لا يستجيب بسهولة للعلاج بالقرآن والأذكار، إما نتيجة لتمكن السحر منه وإما لضعف وازعه الديني، وإما لضعف شخصيته أصلاً فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور.
أما الطرق المشروعة لإزالة السحر بعد وقوعه فمنها:
الاستعاذة عند دخول الخلاء.
أما إن وقع السحر فهناك طرق مشروعة لإزالته بعد وقوعه، ومنها:
1- استخراجه وإبطاله وحرقه ودفنه إن عرف مكانه، وهذا هو الذي حدث للنبي عندما سحر.
فعندما عرف أن سحر أخذ يدعو ويدعو واجتهد في الدعاء حتى جاءه الفرج من الله، فقال : ((أتاني رجلان (ملكان) فقعد أحدهم عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (مسحور) قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة نخلة ذكر قال: أين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) (المشاطة: الشعر المتساقط من الرأس واللحية عند توجيهها). وجف طلع نخلة: الجف هو الغشاء الذي يكون على الطلع، والطلع: هو ما يطلع من النخلة ثم يصير تمراً إذا كانت أنثى، وإن كانت ذكراً لم يصر تمراً بل يؤكل طرياً ويترك على النخلة أياماً معلومة حتى يصير فيه شيء أبيض كالدقيق وله رائحة زكية فيلقح به الأنثى. فأتاها رسول الله في ناس من أصحابه فجاءه وقال: ((يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحنا)) (حمراء مثل عصارة الحناء إذا وضعت في الماء) وكأن رؤوس نخلة كرؤوس الشياطين. ولما استخرج السحر أمر أن يدفنه وفي رواية يحرقه.
فإذا علم مكان السحر فليفعل به هكذا، وقد يقول قائل: كيف أعرف مكان السحر؟ والجواب هو أن يكثر المريض وأهله الصلاة.
اللهم ارفع لنا الدرجات واصرف عنا المعضلات وأصلح لنا النيات وثبتنا إلى الممات، ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واجعلنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكرات، اللهم ارحمنا في الحياة بالهداية للخير، وبعد الممات بدخول الجنات، اللهم اسلك بنا سسبيل النجاة واعصمنا من المهلكات.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومما يعين في علاج السحر الصوم والذكر وأفعال الخير خاصة قيام الليل ثم يدعو ربه أن يبين له هذه الحالة المرضية وكيفية علاجها، ولن يضيعه الله، أو يمكن له الاستدلال على ذلك عن طريق المعالج الذي يمكن له أن يستنطق الجني الموكل بالسحر.
وإياك يا عبد الله إياك ثم إياك أن تذهب إلى ساحر كي يفك السحر فهذا لا يجوز.وقد وجه هذا السؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
س: إذا اتضح لنا إن إنساناً سحراً نهاناً آخر فكيف نبطل مفعوله في الشرع؟
الجواب: تعاطي السحر حرام بل كفرأكيد فلا يجوز أن يستعمل السحر لإبطال السحر ولكن يعالج المبتلى بالسحر بالرقى والأدعية الشرعية الواردة في القرآن والسنة.[فتوى رقم 4228].
ومن الطرق المشروعة لإزالة السحر:استعمال الأدوية المباحة ومن ذلك مثلاً: تؤخذ سبع ورقات من شجرة السدر، ولابد أن يكون الورق أخضراً وتدق جميعها بين حجرين ثم تلقى في ماء قدر الغسل وتقرأ عليها آية الكرسي سبع مرات ثم يشرب المسحور منها قدر ثلاث حسوات بيديه ثم يغتسل ببقية الماء فإنه بإذن الله يفك السحر عنه.
ومن أعظم ما يزيل السحر بعد وقوعه الرقى: وأنفع أنواع الرقى ما كان بالقرآن الكريم كالفاتحة وآية الكرسي والمعوذات وبعض الآيات، ويشترط في هذه الرقى ثلاث شروط:
أولاً: أن لا يكون فيها شرك ولا معصية، كدعاء غير الله، والإقسام على الله بغير الله.
ثانياً: أن تكون بالعربية أو ما نفقه معناه، لا بهمهمات ولا بطلاسم.
ثالثاً: أن لا يعتقد الإنسان أنها مؤثرة بنفسها.
والرقى يا أخوة ليست مقصورة على إنسان بعينه، فإن المسلم يمكن أن يرقى نفسه، ويمكن أن يرقي غيره، وأن يرقيه غيره، ويمكن للرجل أن يرقي امرأته، ويمكن للمرأة أن ترقي زوجها ولاشك أن صلاح الإنسان له أثر في النفع، وكلما كان أكثر صلاحاً كان أكثر نفعاً لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وإذا أراد الإنسان أن يذهب إلى أحد القراء المعروفين بالصلاح والتقوى، وإذا ذهب إليه فإن عليه أن يكون صريحاً وواضحاً معه، خاصة أن المسحور أو المسحورة قد يشعر بأشياء حرجة ولكنه يخجل من التصريح فيها، وهذا الأمر لا يساعد المعالج في إعطاء العلاج الصحيح فينبغي التنبيه لذلك وكذا يقصد بالعلاج أهل الذكر الحسن من العلماء وطلبة العلم الجيدين، ولا يقصد مجهول الحال. ونحن نقول هذا الكلام لأن البعض يذهب إلى السحرة وهو يعلم أنهم سحرة؟والبعض يذهب إليهم لظنه أنهم من الأطباء والنفسيين كما يزعمون أو من الصالحين فيقع ضحية جهله بين يدي دعي كذاب دجال كاهن.
والذي يريد أن يعرف الفرق بين الساحر وبين المعالج بالطرق المشروعة، فنقول له إن الساحر يعرف بإحدى هذه الأمور:
1- قد يسأل عن اسم المريض واسم أمه.
2 - أو يطلب أثراً من آثار المريض كالثوب أو المنديل أو الملابس الداخلية.
3 - قد يطلب منك حيواناً بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه أماكن الألم من المريض أو يرمي به في مكان خرب.
4 - يكتب الطلاسم ويتلو العزائم والطلاسم الغير المفهومة.
5- إعطاء المريض (حجاباً) يحتوي على مربعات بداخلها حروف وأرقام. قد يأمر المريض بأن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسمونها (الحجبة).
6- أحياناً يطلب من المريض ألا يمس الماء لمدة معينة.
7 - يعطي المريض أشياء يدفنها في الأرض، أو يعطيه له أوراقاً يحرقها ويتبخر بها.
8- قد يتمتم بكلام غير مفهوم، ويخبر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها.
فإذا وجدت علامة واحدة من هذه العلامات في أحد المعالجين فهو ساحر وكاهن، فإياك والذهاب إليه وإلا انطبق عليك قول النبي : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )). فهل يتنبه الغافلون ويستيقظ النائمون.
قد يقال: ((كيف تقولون أن السحرة عباد الشيطان مع أننا نرى بعضهم يصلون ويقرءون القرآن ويكتبون في أوراقهم السحرية آيات من القرآن)).
والجواب: أن هؤلاء يظهرون مثل هذا تغريراً بالناس كي ينخدعوا بهم أما باطنهم فبعيد عن التقى والصلاح.
وقد أجرت إحدى الصحف العربية مقابلة مع ساحر تائب؟صرح فيها بأن الشياطين كانت ترشدهم إلى التظاهر بالتقوى أمام الناس، كما تأمرهم بالصلاة أمام الناس دون نطق بالآيات أي يؤدي حركات فقط. وترشدهم إلى عدم ارتكاب الآثام والفواحش أمام الناس. حتى يقول الناس إن فلاناً تقي، وسيد، ولي، فإذا خلى بنفسه أو كان مع أمثاله فليفعل ما يشاء.
وإذا أردتم مثالاً على ذلك. فثمة هناك كاهن مجرم يدعي أنه طبيب شعبي وأنه يعالج الناس، فكان إذا أتاه رجل بزوجته أو أخته أو إحدى قريباته قال لمحرميها: اخرج حتى أقرأ عليها، فبعض الأغبياء يخرجون، فيأتي هذا المشعوذ ويحاول بالمرأة ولا يزال بها حتى يزني بها بحجة أنها تحتاج إلى علاج سفلي. فيزني بها عدو الله ثم يهددها بعد ذلك أنها إن تكلمت فسوف يسلط عليها الجن. ويسقط في يدها ولا تتكلم. وعلى كل فقد قبض على هذا الخبيث وهو في السجن أسأل الله أن يهلكه ويهلك أمثاله من المجرمين.
وإذا كنا لا نعذر أمثال هذه المجرم فنحن لا نعذر أيضاً بعض المغفلين الذين لا يفرقون بين الساحر وبين المعالج بالطريقة الشرعية الصحيحة، وقد يرون من بعض الناس بعض خوارق العادات فيظنون أنهم أولياء لله دون أن يعرفوا عن سلوكهم وأخلاقهم شيئاً، لهذا يقول الإمام الشافعي: "إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به حتى تعرضوا أعماله على الكتاب والسنة ويقول الإمام ابن تيمية: وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة أهل الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضع، والأحاديث الصحيحة، والآثار والمتواترة عن الصحابة وغيرهم والتابعين لكن كثيراً ممن يدعونها أو تدعى له يكون كذاباً أو ملبوساً عليه.
وأيضاً فإنها لا تدل على عصمة صاحبها وعلى وجوب اتباعه في كل ما يقوله بل قد تصدر بعض الخوارق من الكفار والسحرة بمؤاخاتهم للشياطين كما ثبت عن الدجال أنه يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وأنه يقتل واحداً ثم يحييه، وأنه يخرج خلفه كنوز الذهب والفضة ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية ولا إسلام حتى ننظر وقوفه عند الأمر والنهي الذي بعث به رسوله.
إذن يجب أن نتحقق من دين من تظهر عليه بعض الخوارق، فإذا كان ملتزماً بالكتاب والسنة والشريعة اعتقدنا بكرامته، ولو أن ذلك لا يترتب عليه إثبات أو نفي الأحكام شرعية أو أن يكون ذلك باباً وسبباً لتحصيل المال والجاه بغير حق، وإلا فهو محتال أو ممن يتخذهم الشيطان طمعاً كالسذج من الناس ليصدهم عن الطريق السوي والشريعة السمحاء.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا من السحر والسحرة وحافظوا على عقيدتكم من الفساد أكثر ما تحفظون على صحة أبدانكم من الأمراض فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم، مريض العقيدة، فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:116].
(1/1690)
العادات السيئة والعنوسة
الإيمان
الجن والشياطين
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الناس بجهلهم وخضوعهم إلى عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان وضعوا العوائق والحواجز في طريق الزواج حتى غدا صعباً وشاقاً على الكثيرين.
ومن هذه العادات: عدم أخذ رأي البنت عند الزواج إما لأن الوالد مستبد ظالم، وإما لأنه قد أُغْرِيَ بمبلغ كثير من المال قد يجعله يزوج ابنته رغماً عنها، بغرض حصوله على هذا المال.
وهذا الأمر بالطبع مخالف لأوامر الشرع ولأن الرسول قال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر. ولا تنكح البكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها قال: أن تسكت)).
وعن خنساء بنت خذام: أنّ أباها زوَّجها بدون إذنها - وهي ثيب - فأتت رسول الله فرد نكاحها. [أخرجه الجماعة].
هذا ليس من حق الأب أو المولى أن يزوج ابنته إلا برضاها، والشرع معها في ذلك.
ومن العادات القبيحة: عدم تزويج الأخت الصغرى إلا بعد أن تتزوج البنت الكبرى. ولا ندري من أين أتى الناس بهذه الأفكار العقيمة. ولنفرض أن الكبرى لم يأتها نصيبها بُعد، فما ذنب الصغرى، لكن بعض الناس يريد أن يعطل زواج الصغرى حتى تتزوج الكبرى. ثم نفاجأ بعد فترة بأن الاثنتين قد كبرتا معاً عن سن الزواج، ولو سُهِّل الأمر ويُسِّر لزُوِّجت الصغيرة والكبيرة، ولكنه الجهل وإلا فإننا نرى عندما عرض الشيخ الصالح على موسى عليه السلام الزواج بإحدى بنتيه لم يقل له: أزوجك الكبرى؟ ولم يشترط موسى الصغرى. وبهذا تحدث القرآن: قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ [القصص:26]. (إحدى ابنتي هاتين)، (إحدى ابنتي هاتين) فانظروا إلى الفهم العميق السليم.
ومن العادات والتقاليد المنكرة بل من البدع الشنيعة: تركُ بعض الناس لصلاة الاستخارة الشرعية واستبدالها بأخرى منكرة لاتمت إلى الدين والشرع بصلة؟ والغريب أن هذه العادة قد تسببت في تأخير زواج كثير من البنات. فما هذه التقاليد التي يتمسك بها بعض الناس؟
لكنها طقوس فرعونية جهنمية لهدم الأسرة وعرقلة زواج الشباب.فمتى يصحو البعض من هذه التقاليد الجاهلية؟
من يريد أن يستمر في أمر الزواج بل في كل أمر من الأمور فعليه أن يلتزم بصلاة الاستخارة الشرعية كما علَّمنا إيِّاها رسول الله.
فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك،وأسألك من فضلك العظيم:فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله. فاصرفه عنه، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) [رواه البخاري وأبو داود والترمذي].
هذه هي الاستخارة الشرعية، وغيرها إنما هو شعوذة ودجل.
ومن العادات القبيحة: الامتناع عن الزواج بالأرامل والمطلقات: وهذا شيء جدير بالاهتمام. فهناك من المسلمات ومنهن شابات. بعضهن توفي أزواجهن، وبعضهن انفصلن عن أزواجهن لأسباب مختلفة فإذا حصل لهن ذلك. هل يكتب عليهن أن يجلسن في بيوتهن حتى الموت؟ مع أنهن لديهن الاستعداد للزواج وبأقل تكاليف ممكنة. فلماذا لا يفكر الشباب بالزواج من أمثال هؤلاء البنات تنفيذاً لأمر الله – سبحانه وتعالى- القائل: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32].
ويكفي أن نعلم أن سيد الخلق نبينا محمداً قد تزوج وهو في عنفوان شبابه، وفي سن الخامسة والعشرين قد تزوج بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أرملة، بل وهي تكبره بعشر سنوات على الأقل؟ وقد كان زواجاً ناجحاً بكل المقاييس كما يعلم الجميع.
لهذا فما الذي يمنع الشباب من اتباع هذا المنهج العظيم.
ومن هذه العادات الفاسدة تأخير بعض الشباب للزواج بدعوى عدم وقوع الحب وحصوله حتى الآن.
وهذا خطأ كبير، وساهمت في نشره بين الشباب الأفلام والمسلسلات الخبيثة التي تعلم الناس بأنه لابد من وقوع الحب بين الطرفين قبل الزواج، وأن هذا مهم جداً. وهذا خطأ كبير لأن الحب الحقيقي لا يأتي إلا بعد الزواج والواقع يشهد على هذا:فقد يحدث أن يحصل الزواج نتيجة حب عاطفي جارف، لا يلبث أن يفقد بعد الزواج بأشهر قليلة، وما يلبث أن يكتشف الزوجان أن بينهما فرقاً كبيراً في الأخلاق أو المزاج،أو الثقافة أو الميول من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويتضح لنا هنا أن الله جعل حصول الحب والمودة بعد الزواج وليس قبله فقال: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً لهذا فليحذر الشباب ذكوراً كانوا أو إناثاً من التورط والانخداع بهذه الأفكار الهدامة.
ومن العادات التي تعوق حصول الزواج:أن بعض الناس قد يخفض من مهر البنت، وقد يجعله إلى أدنى مستوى لكن هناك مهر آخر يقدم للزوجة، وهو نفقات كثيرة يعجز عن حملها الخاطب المسكين.
ولو كان الأمر يقتصر على الأشياء الضرورية لقلنا حسن.ولكن المشكلة هي في الأمور التافهة ومنها هدايا الخطبة والشبكة، وهدايا المواسم والمناسبات: وحفلة العرس. وما فيها من لهو محرم. وهدايا الصبحية، ونفقات الحفلات والمهنئين والإسراف في شراء الأقمشة والذهب والجواهر، والمبالغة في تأثيث بيت الزوجية، وغير ذلك. فلا يجد الخاطب من أهل الزوجة إلا كلمة هات حتى يصل معهم الأمر إلى الاشتراط عليه لإحضار بعض الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان مثل: لابد من أن يكون فستان الزواج أبيضاً ومثل عربة المِلْكَة، وعلب الحلوى، وغير ذلك ثم يختمونها بإقامة الحفلات في أرقى الأماكن مثل الفنادق الكبرى وغيرها. وقد يصاحبها ارتكاب المعاصي، من اختلاط وبلاوي وغيرها.
والسؤال هو: لماذا كل هذه التكاليف وما المقصود منها؟ هل المقصود هو إرضاء الناس؟
أولاً: العمل من أجل الناس هو رياء، والرياء تعرفون حكمه في الإسلام.
ثانياً: الناس لن يرضوا مهما حصل، ولابد من أن يبحثوا عن العيوب، بل وقد يختلقونها لأنه ثبت أن الناس لا يعجبهم شيء أبداً. أما إذا كان القصد هو إرضاء الله، فالله يكره هذا الإسراف وهذا البذخ، لأنه يقول: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]. ويقول: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]. لهذا نقول اتقوا الله أيها الناس. ولم هذا كله؟ وماذا يفعل الشاب المسكين صاحب الدخل المحدود؟ والراتب المقطوع؟ ماذا يفعل؟ إذا لم نسهل له الحلال فماذا سيفعل؟ هل يتجه إلى الحرام؟ فنكون قد ساهمنا في إفساده وإفساد بنات المسلمين.
إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف، سوى المهر للمرأة والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال.أما ما عداها من الهدايا والنفقات فهي ليست فرضاً واجباً وليست من شروط العقد والنكاح في شيء أبداً.
ومن العادات التي تعيق الزواج: هو ترك المجال للنساء في التصرف بأمور الخطبة والزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من الفعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة والرياء وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج إلا إذا كانت رشيدة عاقلة مؤمنة تزن الأمور بميزان الشرع والدين.لهذا كم سمعنا عن أمهات يؤخرن زواج أبنائهن سنوات طويلة بدعوى عدم وجود الفتاة المناسبة حتى الآن، وبعضهن قد يفسدن زواج بناتهن لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست أقل من بنت فلان أو أن حفل زواج ابنتها يجب أن يكون أفضل حفل زواج في البلد، مما سبب إفساد الكثير من حالات الزواج.
لهذا على الرجل إذا رأى مثل هذا الانحراف عليه أن يتدخل ويحسم الأمور، لأن الله أعطاه حق القوامة كما قال: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ [النساء:34].
أخيرا: من العادات التي تعرقل الزواج: رفض البعض للخاطب أن يرى خطيبته، والعجيب أن هذه الفتاة قد تخرج متبرجة ويراها القاصي والداني. فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها الرسول قائلاً: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل)) [رواه أبو داود].
فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رفض أباها عليه ومنعها منه، وللعلم فمن ظنّ أن في هذه الرؤية الشرعية عاراً، أو أن فيها عيباً أو عملاً لا يليق، فقد قبَّح ما استحسنه رسول الله ورفض ما أمر به، وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق، ومن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام.
فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
والغريب أن هناك من الناس من هو عكس ذلك تماماً:صنف تأثر بأخلاق الغرب وبأفكار الأفلام والمسلسلات. وظن بأن المخطوبة لا تعرف أخلاق الخاطب ولا تتعرف عليه، إلا إذا خرجت معه، وتنزهت معه، وربما سافرتِ معه، وبالطبع شابان وفي سن الشباب ويخليان ببعضهما البعض، فماذا ستكون النتيجة، النتيجة هي الزنا، وهذه هي نتيجة الخلوة المحرمة. لهذا يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)).
ويقول: ((لا يخول رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
من العادات التي تعرقل الزواج اليوم عضل الأولياء (وعضل الولي للمرأة منعها من الزواج ظلما). قال تعالى: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ [البقرة:232]. ويقول: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].
والعضل والإعضال من العادات الجاهلية التي بقيت في بعض المجتمعات الإسلامية،والتي تسببت في حرمان كثير من البنات بالتمتع بالحياة الزوجية بسبب أسباب تافهة مثل الاعتراض على النسب فلا تتزوج القبيلية من الحضري، ولا الشريفة من غير الأشراف. وكذلك بحجة المحافظة على العرق. فلا تتزوج العربية من العجمي، أو بحجة المحافظة على المال:فلا تتزوج الغنية إلا من غني، وهذا التعصب الأعمى مازال موجوداً بين بعض الأسر إلى الآن. والغريب أن هذا القانون الوضعي يسري على النساء فقط دون الرجال. لأن الرجال لهم الحق في الزواج ممن يريدون.
هل هذا إسلام؟ الله سبحانه يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]. ورسوله يقول: ((إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية (فخرها وتكبرها) وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب)) [رواه أبو داود] ولكن بعض الناس يرفض حكم الله ويريد أن يحكم بقوانين الجاهلية أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
ومن الإعضال أن يمنع الولي ابنته المطلقة طلاقاً رجعياً من الرجوع إلى زوجها بحجة جرح الكرامة أو الإهانة، وقد حدث على عهد الرسول : ((أن معقل بن يسار قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأخدمتك وأكرمتك، فطلقها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه)) فنزل قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ إِذَا تَر?ضَوْاْ بَيْنَهُم بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:232]. فقلت: الآن أفعل يا رسول الله: قال فزوجها إياه.
ومن الإعضال: الحجر على البنت بدعوى حجزها لابن العم أو الخال، بحجة أنه أولى بها من الغريب، حتى لو لم يكن كفواً لها. وهذا ظلم عظيم للمرأة. يقول سماحة الشيخ ابن باز: "ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجز ابنة العم ومنعها من التزوج بغيره، وهذا منكر عظيم وسنة جاهلية وظلم للنساء، وقد وقع بسببه فتن كثيرة وشرور عظيمة من شحناء وقطيعة رحم وسفك دم وغير ذلك ونريد أن ننبه هنا إلى ما يحدث من البعض مما يسمى بزواج الشغار وهو أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك،على أن أزوجك ابنتي وأختي، وليس بينهما صداق أي مهر.
وهذا الزواج وللعلم زواج باطل لقوله : ((لا شغار في الإسلام)) وقال ابن عمر: (نهى رسول الله عن الشغار) وفعلاً فمن أعطى الولي الحق بأن يزوج وليته بدون مهر، من اعطاه الحق في ذلك. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الناس: ارجعوا إلى الدين الحق والإسلام الصحيح. وانبذوا هذه العادات والتقاليد وإن كنتم تعبدون الله فطبقوا أوامر الله وأوامر رسوله. وإن كنتم تعبدون العادات والتقاليد فليس هناك إلا الدمار في الدنيا والآخرة. وإذا أردتم لبناتكم السعادة.وللأخلاق أمنوا الحصانة، فسهلوا أمور الزواج.بل وابحثوا عن الخاطب المسلم والزوج الصالح. وهذا ليس عيباً أبداً. فهذا العمل هو سنة عمرية بدأها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما عرض ابنته أم المؤمنين حفصة على أبي بكر وعلي عثمان رضي الله عنهما. اللذين اعتذرا ثم تزوجها الرسول.
ولا تقولوا لقد عرض عمر ابنته على أبي بكر وعثمان اللذين ليس لهما مثيل اليوم من الرجال فنقول نعم إذا كان ليس هناك من الرجال من هم في مقام أبي بكر وعثمان، فإن بنات اليوم أيضاً ليس فيهن من هي في مقام أم المؤمنين حفصة. فالحال سواءً. وعلينا الحذر من المستقبل فقد تواتر في الأنباء بأن بعض البنات صرن يذهبن إلى المحاكم مباشرة ويطلبن أن يتزوجن فوراً ويشكين من ظلم آبائهن لهن من يرغب من الآباء أن يقف في مثل هذا الموقف، بل من يرغب من الآباء أن يقف أمام الله وابنته تشكي وتتظلم منه، وتطلب من الله أن ينصفها منه. من يرغب في هذا. ولا تظنوا أن حدوث هذا الأمر بعيد - فقد حدثت بعض الحوادث التي تدل على ذلك فهل يعتبر الآباء، هل يتعظوا، وهل يُسَّهِلوا أمور الزواج. نرجو ذلك ونتمناه.
(1/1691)
العادات السيئة والعنوسة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عادات سيئة تؤدي إلى عنوسة النساء. 2- الترغيب في نكاح المطلقة والأرملة. 3- أدب
البحث عن الخاطب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الناس بجهلهم وخضوعهم إلى عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان وضعوا العوائق والحواجز في طريق الزواج حتى غدا صعباً وشاقاً على الكثيرين.
ومن هذه العادات: عدم أخذ رأي البنت عند الزواج إما لأن الوالد مستبد ظالم، وإما لأنه قد أُغْرِيَ بمبلغ كثير من المال قد يجعله يزوج ابنته رغماً عنها، بغرض حصوله على هذا المال.
وهذا الأمر بالطبع مخالف لأوامر الشرع ولأن الرسول قال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر. ولا تنكح البكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها قال: أن تسكت)).
وعن خنساء بنت خذام: أنّ أباها زوَّجها بدون إذنها - وهي ثيب - فأتت رسول الله فرد نكاحها. [أخرجه الجماعة].
هذا ليس من حق الأب أو المولى أن يزوج ابنته إلا برضاها، والشرع معها في ذلك.
ومن العادات القبيحة: عدم تزويج الأخت الصغرى إلا بعد أن تتزوج البنت الكبرى. ولا ندري من أين أتى الناس بهذه الأفكار العقيمة. ولنفرض أن الكبرى لم يأتها نصيبها بُعد، فما ذنب الصغرى، لكن بعض الناس يريد أن يعطل زواج الصغرى حتى تتزوج الكبرى. ثم نفاجأ بعد فترة بأن الاثنتين قد كبرتا معاً عن سن الزواج، ولو سُهِّل الأمر ويُسِّر لزُوِّجت الصغيرة والكبيرة، ولكنه الجهل وإلا فإننا نرى عندما عرض الشيخ الصالح على موسى عليه السلام الزواج بإحدى بنتيه لم يقل له: أزوجك الكبرى؟ ولم يشترط موسى الصغرى. وبهذا تحدث القرآن: قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ [القصص:26]. (إحدى ابنتي هاتين)، (إحدى ابنتي هاتين) فانظروا إلى الفهم العميق السليم.
ومن العادات والتقاليد المنكرة بل من البدع الشنيعة: تركُ بعض الناس لصلاة الاستخارة الشرعية واستبدالها بأخرى منكرة لاتمت إلى الدين والشرع بصلة؟ والغريب أن هذه العادة قد تسببت في تأخير زواج كثير من البنات. فما هذه التقاليد التي يتمسك بها بعض الناس؟
لكنها طقوس فرعونية جهنمية لهدم الأسرة وعرقلة زواج الشباب.فمتى يصحو البعض من هذه التقاليد الجاهلية؟
من يريد أن يستمر في أمر الزواج بل في كل أمر من الأمور فعليه أن يلتزم بصلاة الاستخارة الشرعية كما علَّمنا إيِّاها رسول الله.
فعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك،وأسألك من فضلك العظيم:فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري. أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري، أو قال: عاجل أمري وآجله. فاصرفه عنه، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به)) [رواه البخاري وأبو داود والترمذي].
هذه هي الاستخارة الشرعية، وغيرها إنما هو شعوذة ودجل.
ومن العادات القبيحة: الامتناع عن الزواج بالأرامل والمطلقات: وهذا شيء جدير بالاهتمام. فهناك من المسلمات ومنهن شابات. بعضهن توفي أزواجهن، وبعضهن انفصلن عن أزواجهن لأسباب مختلفة فإذا حصل لهن ذلك. هل يكتب عليهن أن يجلسن في بيوتهن حتى الموت؟ مع أنهن لديهن الاستعداد للزواج وبأقل تكاليف ممكنة. فلماذا لا يفكر الشباب بالزواج من أمثال هؤلاء البنات تنفيذاً لأمر الله – سبحانه وتعالى- القائل: وَأَنْكِحُواْ ?لايَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور:32].
ويكفي أن نعلم أن سيد الخلق نبينا محمداً قد تزوج وهو في عنفوان شبابه، وفي سن الخامسة والعشرين قد تزوج بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أرملة، بل وهي تكبره بعشر سنوات على الأقل؟ وقد كان زواجاً ناجحاً بكل المقاييس كما يعلم الجميع.
لهذا فما الذي يمنع الشباب من اتباع هذا المنهج العظيم.
ومن هذه العادات الفاسدة تأخير بعض الشباب للزواج بدعوى عدم وقوع الحب وحصوله حتى الآن.
وهذا خطأ كبير، وساهمت في نشره بين الشباب الأفلام والمسلسلات الخبيثة التي تعلم الناس بأنه لابد من وقوع الحب بين الطرفين قبل الزواج، وأن هذا مهم جداً. وهذا خطأ كبير لأن الحب الحقيقي لا يأتي إلا بعد الزواج والواقع يشهد على هذا:فقد يحدث أن يحصل الزواج نتيجة حب عاطفي جارف، لا يلبث أن يفقد بعد الزواج بأشهر قليلة، وما يلبث أن يكتشف الزوجان أن بينهما فرقاً كبيراً في الأخلاق أو المزاج،أو الثقافة أو الميول من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويتضح لنا هنا أن الله جعل حصول الحب والمودة بعد الزواج وليس قبله فقال: وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً لهذا فليحذر الشباب ذكوراً كانوا أو إناثاً من التورط والانخداع بهذه الأفكار الهدامة.
ومن العادات التي تعوق حصول الزواج:أن بعض الناس قد يخفض من مهر البنت، وقد يجعله إلى أدنى مستوى لكن هناك مهر آخر يقدم للزوجة، وهو نفقات كثيرة يعجز عن حملها الخاطب المسكين.
ولو كان الأمر يقتصر على الأشياء الضرورية لقلنا حسن.ولكن المشكلة هي في الأمور التافهة ومنها هدايا الخطبة والشبكة، وهدايا المواسم والمناسبات: وحفلة العرس. وما فيها من لهو محرم. وهدايا الصبحية، ونفقات الحفلات والمهنئين والإسراف في شراء الأقمشة والذهب والجواهر، والمبالغة في تأثيث بيت الزوجية، وغير ذلك. فلا يجد الخاطب من أهل الزوجة إلا كلمة هات حتى يصل معهم الأمر إلى الاشتراط عليه لإحضار بعض الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان مثل: لابد من أن يكون فستان الزواج أبيضاً ومثل عربة المِلْكَة، وعلب الحلوى، وغير ذلك ثم يختمونها بإقامة الحفلات في أرقى الأماكن مثل الفنادق الكبرى وغيرها. وقد يصاحبها ارتكاب المعاصي، من اختلاط وبلاوي وغيرها.
والسؤال هو: لماذا كل هذه التكاليف وما المقصود منها؟ هل المقصود هو إرضاء الناس؟
أولاً: العمل من أجل الناس هو رياء، والرياء تعرفون حكمه في الإسلام.
ثانياً: الناس لن يرضوا مهما حصل، ولابد من أن يبحثوا عن العيوب، بل وقد يختلقونها لأنه ثبت أن الناس لا يعجبهم شيء أبداً. أما إذا كان القصد هو إرضاء الله، فالله يكره هذا الإسراف وهذا البذخ، لأنه يقول: وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]. ويقول: وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ ?لْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْو?نَ ?لشَّيَـ?طِينِ وَكَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ لِرَبّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]. لهذا نقول اتقوا الله أيها الناس. ولم هذا كله؟ وماذا يفعل الشاب المسكين صاحب الدخل المحدود؟ والراتب المقطوع؟ ماذا يفعل؟ إذا لم نسهل له الحلال فماذا سيفعل؟ هل يتجه إلى الحرام؟ فنكون قد ساهمنا في إفساده وإفساد بنات المسلمين.
إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف، سوى المهر للمرأة والوليمة لحفلة العرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال.أما ما عداها من الهدايا والنفقات فهي ليست فرضاً واجباً وليست من شروط العقد والنكاح في شيء أبداً.
ومن العادات التي تعيق الزواج: هو ترك المجال للنساء في التصرف بأمور الخطبة والزواج. ولا شك أن المرأة بما جبلت عليه من الفعال وعاطفة، وبما تحبه من المظاهر والمفاخرة والرياء وحب الظهور أمام الناس، لا يمكن أن يتحقق على يديها خطبة أو زواج إلا إذا كانت رشيدة عاقلة مؤمنة تزن الأمور بميزان الشرع والدين.لهذا كم سمعنا عن أمهات يؤخرن زواج أبنائهن سنوات طويلة بدعوى عدم وجود الفتاة المناسبة حتى الآن، وبعضهن قد يفسدن زواج بناتهن لأن الواحدة منهن تدعي أن ابنتها ليست أقل من بنت فلان أو أن حفل زواج ابنتها يجب أن يكون أفضل حفل زواج في البلد، مما سبب إفساد الكثير من حالات الزواج.
لهذا على الرجل إذا رأى مثل هذا الانحراف عليه أن يتدخل ويحسم الأمور، لأن الله أعطاه حق القوامة كما قال: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ [النساء:34].
أخيرا: من العادات التي تعرقل الزواج: رفض البعض للخاطب أن يرى خطيبته، والعجيب أن هذه الفتاة قد تخرج متبرجة ويراها القاصي والداني. فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها الرسول قائلاً: ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل)) [رواه أبو داود].
فإن أراد الخاطب أن يراها الرؤية الشرعية التي أمر بها رفض أباها عليه ومنعها منه، وللعلم فمن ظنّ أن في هذه الرؤية الشرعية عاراً، أو أن فيها عيباً أو عملاً لا يليق، فقد قبَّح ما استحسنه رسول الله ورفض ما أمر به، وظن أنه أغير منه على الشرف والأخلاق، ومن فعل ذلك فربما خرج من دين الإسلام.
فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65].
والغريب أن هناك من الناس من هو عكس ذلك تماماً:صنف تأثر بأخلاق الغرب وبأفكار الأفلام والمسلسلات. وظن بأن المخطوبة لا تعرف أخلاق الخاطب ولا تتعرف عليه، إلا إذا خرجت معه، وتنزهت معه، وربما سافرتِ معه، وبالطبع شابان وفي سن الشباب ويخليان ببعضهما البعض، فماذا ستكون النتيجة، النتيجة هي الزنا، وهذه هي نتيجة الخلوة المحرمة. لهذا يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)).
ويقول: ((لا يخول رجل بامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان)).
_________
الخطبة الثانية
_________
من العادات التي تعرقل الزواج اليوم عضل الأولياء (وعضل الولي للمرأة منعها من الزواج ظلما). قال تعالى: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ [البقرة:232]. ويقول: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19].
والعضل والإعضال من العادات الجاهلية التي بقيت في بعض المجتمعات الإسلامية،والتي تسببت في حرمان كثير من البنات بالتمتع بالحياة الزوجية بسبب أسباب تافهة مثل الاعتراض على النسب فلا تتزوج القبيلية من الحضري، ولا الشريفة من غير الأشراف. وكذلك بحجة المحافظة على العرق. فلا تتزوج العربية من العجمي، أو بحجة المحافظة على المال:فلا تتزوج الغنية إلا من غني، وهذا التعصب الأعمى مازال موجوداً بين بعض الأسر إلى الآن. والغريب أن هذا القانون الوضعي يسري على النساء فقط دون الرجال. لأن الرجال لهم الحق في الزواج ممن يريدون.
هل هذا إسلام؟ الله سبحانه يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]. ورسوله يقول: ((إن الله قد أذهب عنكم عبيّة الجاهلية (فخرها وتكبرها) وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب)) [رواه أبو داود] ولكن بعض الناس يرفض حكم الله ويريد أن يحكم بقوانين الجاهلية أَفَحُكْمَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
ومن الإعضال أن يمنع الولي ابنته المطلقة طلاقاً رجعياً من الرجوع إلى زوجها بحجة جرح الكرامة أو الإهانة، وقد حدث على عهد الرسول : ((أن معقل بن يسار قال: زوجت أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأخدمتك وأكرمتك، فطلقها ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه)) فنزل قول الله تعالى: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ إِذَا تَر?ضَوْاْ بَيْنَهُم بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:232]. فقلت: الآن أفعل يا رسول الله: قال فزوجها إياه.
ومن الإعضال: الحجر على البنت بدعوى حجزها لابن العم أو الخال، بحجة أنه أولى بها من الغريب، حتى لو لم يكن كفواً لها. وهذا ظلم عظيم للمرأة. يقول سماحة الشيخ ابن باز: "ومن المسائل المنكرة في هذا ما يتعاطاه الكثير من البادية وبعض الحاضرة من حجز ابنة العم ومنعها من التزوج بغيره، وهذا منكر عظيم وسنة جاهلية وظلم للنساء، وقد وقع بسببه فتن كثيرة وشرور عظيمة من شحناء وقطيعة رحم وسفك دم وغير ذلك ونريد أن ننبه هنا إلى ما يحدث من البعض مما يسمى بزواج الشغار وهو أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك،على أن أزوجك ابنتي وأختي، وليس بينهما صداق أي مهر.
وهذا الزواج وللعلم زواج باطل لقوله : ((لا شغار في الإسلام)) وقال ابن عمر: (نهى رسول الله عن الشغار) وفعلاً فمن أعطى الولي الحق بأن يزوج وليته بدون مهر، من اعطاه الحق في ذلك. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الناس: ارجعوا إلى الدين الحق والإسلام الصحيح. وانبذوا هذه العادات والتقاليد وإن كنتم تعبدون الله فطبقوا أوامر الله وأوامر رسوله. وإن كنتم تعبدون العادات والتقاليد فليس هناك إلا الدمار في الدنيا والآخرة. وإذا أردتم لبناتكم السعادة.وللأخلاق أمنوا الحصانة، فسهلوا أمور الزواج.بل وابحثوا عن الخاطب المسلم والزوج الصالح. وهذا ليس عيباً أبداً. فهذا العمل هو سنة عمرية بدأها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عندما عرض ابنته أم المؤمنين حفصة على أبي بكر وعلي عثمان رضي الله عنهما. اللذين اعتذرا ثم تزوجها الرسول.
ولا تقولوا لقد عرض عمر ابنته على أبي بكر وعثمان اللذين ليس لهما مثيل اليوم من الرجال فنقول نعم إذا كان ليس هناك من الرجال من هم في مقام أبي بكر وعثمان، فإن بنات اليوم أيضاً ليس فيهن من هي في مقام أم المؤمنين حفصة. فالحال سواءً. وعلينا الحذر من المستقبل فقد تواتر في الأنباء بأن بعض البنات صرن يذهبن إلى المحاكم مباشرة ويطلبن أن يتزوجن فوراً ويشكين من ظلم آبائهن لهن من يرغب من الآباء أن يقف في مثل هذا الموقف، بل من يرغب من الآباء أن يقف أمام الله وابنته تشكي وتتظلم منه، وتطلب من الله أن ينصفها منه. من يرغب في هذا. ولا تظنوا أن حدوث هذا الأمر بعيد - فقد حدثت بعض الحوادث التي تدل على ذلك فهل يعتبر الآباء، هل يتعظوا، وهل يُسَّهِلوا أمور الزواج. نرجو ذلك ونتمناه.
(1/1692)
تربية البنات
الأسرة والمجتمع
الأبناء
صالح الجبري
الطائف
5/4/1418
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كراهية البنت من صفات الجاهلية. 2- حرمة إكراه البنات على الزواج بغير الكفؤ. 3-
التفريط في تربية البنات. 4- تربية البنات على الحجاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أبناؤنا نعمة من الله علينا، ومنحة منه إلينا. لهذا فالواجب علينا أن نتقبلها منه شاكرين وأن نكون بما حبانا به راضين، سواء كان الموهوب لنا ذكرا أو أنثى.
فالخير كل الخير في الذي يختاره الله لنا، قال تعالى وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وإن مما يحز في النفس، أن نرى بعض الناس ممن هم في أشد الحاجة إلى تعليم الأدب والأخلاق نرى أحدهم حيثما يخبر بأن زوجته قد ولدت ذكراً فرح واستبشر، وتهلل وجهه وانفق الكثير من ماله ابتهاجاً بهذا المولود.مع أنه لا يدري، فربما يكون هذا الولد سببا في شقائه وطغيانه إذا ما كبر وترعرع. وأما إذا أخبر بأنها وضعت أنثى غضب واغتم وأظلمت الدنيا في وجهه، وأصابته كآبة شديدة، وانطوى على نفسه.ولا شك بأن هذا التصرف هو شبيه بما كان يحدث من أهل الجاهلية الأولى الذين قال الله فيهم: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ?لْبَنَـ?تِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:57-59].
لكن رغم هذا التحذير فهناك الكثير من الرجال، لا يزال يستقبل قدوم البنات بالتجهم والعبوس، والمشكلة الكبرى هي إذا كانت البنت المولودة، هي الثالثة أو الرابعة، فتكون ولادتها مصيبة من المصائب خاصة على الأم المسكينة التي تعيش في خوف وقلق من ردة فعل الأب. وقد سمعنا عن أزواج طلقوا زوجاتهم بسبب هذا الموضوع. وكأن الزوجة هي المسؤولة الوحيدة. ونحب أن ننبه هنا إلى أن الطب الحديث قد أثبت أنه ليس للزوجة ذنب إذا أنجبت أنثى، لهذا ليس من حق الزوج أن يغضب أو يثور إذا حدث ذلك، لماذا؟ لأن الطب يقول: إن البويضة التي تحملها المرأة لها نوع واحد في كل نساء الأرض. بعكس الحيوان المنوي الذي يفرزه الرجل، فهو عند الرجل يحتوي على نوعين ولنقل عليها (أ + ب).
فإذا كان الحمل ناتجاً عن الرجل الذي يحمل النوع (أ) مثلاً كان المولود بنتا، وإذا كان ناتجاً عن النوع الآخر (ب)، كان المولود ذكرا، إذن الرجل هو المسؤول عن هذا الأمر، فَلِمَ التشنيع والظلم، لِمَ؟
ويروى في ذلك أنه كان لأبي حمزة الأعرابي زوجتان، فولدت إحداهما بنتا، فعز عليه ذلك واجتنبها، وصار يسكن في بيت الأخرى، فأحست الأولى به يوماً عند الثانية فجعلت تلاعب ابنتها الصغيرة وتقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا
بل نحن كالأرض لزارعينا ننبت ما قد بذروه فينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فلما سمعها ندم على ما فعل ورجع إليها. لهذا فليتق الله أمثال هؤلاء وليعلموا أنه من الجحود والنكران أن يتكبروا على نعمة الله سبحانه وتعالى لأنه يقول: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50]. وليس هذا فقط بل إن واثلة بن الأسقع يقول: (إن من يُمنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأنّ الله تعالى قال: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ فبدأ بالإناث، والغريب أنّ مسلسل الظلم يعتمد عند بعض الناس. فبعدما تنشأ البنت تسمع أول ما تسمع كلمات الدعاء عليها بالموت، حتى ولو بالمزاح والمداعبة، فإذا طلبت شيئاً وألحت في طلبه أفهمت أنها أرخص من أن تعطى ما تطلب، وإذا اختصمت مع أخيها الولد، فضربته، ضُرِبَت وأُهِينَت على مسمع ومرآى من الولد حتى يشمت فيها ويرضى. وقد يعاملها إخوتها الذكور بالقسوة والشدة، والويل لها كل الويل إذا تأخرت في تلبية أي طلب لهم. فعندها قد يضربونها ويشتمونها ويحتقرونها وقد يكون هذا بمساعدة الوالد. أين هؤلاء عن ما رواه ابن عباس أن الرسول قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها، ولم يصنها، ولم يؤثر ولده-الذكور- عليها، أدخله الله تعالى الجنة)) [أبو داود في الأدب 5146 باب فضل من عال يتيماً، والحاكم صححه ووافقه الذهبي].
وقد يزوّجها فاسقاً عاصياً أو يتاجر بها، أين هؤلاء عن معاملة الرسول لبناته فقد كان يستقبل ابنته فاطمة إذا دخلت عليه ويقبلها ويجلسها مكانه ويقول: ((مرحباً يا ابنتي)) [البخاري، كتاب الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام] [1].
وعن أبي قتادة قال: (خرج علينا النبي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها) [2] [البخاري: (5650)].
فأين نحن من هذا المنهج النبوي العظيم؟ وبعضهم إذا بلغت سن الزواج يقطع الأمر دونها من قبل الأب أو الولي فيرد ذلك ويقبل. ويأخذ ويعطي، ويشترط من الشروط ما يشاء، ويطلب من المهر ما يريد فلا يؤخذ لها رأي ولا يعرض عليها أمر، رغم أن الرسول يقول: ((لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر)) [البخاري ومسلم] [3].
ورغم هذا إلا أن البعض لا يبالي بذلك، ولو حصل وأيدت الفتاة رأيها بالاعتراض أو الانتقاد على هذا الوضع فإنها تصبح عند ذلك الفتاة الوقحة السيئة الأدب التي لا تملك خلقاً ولا حياءً، رغم أن الإسلام يعطيها الحق في اختيار الزوج المناسب لها فعن ابن عباس: (أن جارية بكراً أتت النبي فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي بين أن توافق أو ترفض) [صحيح ابن ماجة 1520].
إن علينا أن نعلم أن النتيجة المباشرة لهذه المعاملة السيئة، بالغة الخطورة في المجتمع. فهي أولاً تغرس في نفس البنت شعوراً بالمهانة والضعف، حتى إذا أصبحت أماً لم يكن في مقدورها أن تبث في نفوس أبنائها الشعور بالغيرة والاعتداد بالكرامة، وكيف تفعل ذلك وهي تفقد هذا الشعور أصلاً.
ثم إن البنت عندما تشعر أنها مظلومة مهضومة الحق. فإن هذا الشعور قد يولِّد لديها التمرد على أوامر الدين لأنها تظن أن هذه التصرفات هي من الدين، وهي ليست كذلك فتتمرد وتصبح ضحية للأفكار الهدامة التي بثها أعداء الإسلام عن المرأة المسلمة، فتتحيين أول فرصة تحصل عليها للانفلات والتسيب، ويتولَّد لديها الحقد والرغبة في الانتقام. فإذا تزوجت بعد ذلك فإنها لن تجد أمامها من تثأر منه وتنتقم إلا زوجها وأولادها، مما ينتج عنه حدوث الخصام والمشاكل التي لا تنتهي.
وإذا كنا نعترض على القسوة في تربية البنات. فهناك بالمقابل بعض الناس يفرض في تدليلهن والتساهل معهن إلى أقصى حد. فتنشأ الابنة مدللة خليعة لا هم لها إلا نفسها، أو الاهتمام بأخبار الموضات والتقليعات من الشرق والغرب أو إمضاء الساعات الطويلة أمام الهاتف، أو النزول للأسواق بصورة مستمرة لمتابعة كل ما يجد فيها من البضائع وغيرها.ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت الأم مشغولة عن تربية البنات بزياراتها وخروجها الدائم من المنزل، والأسوأ من ذلك إذا كانت الأم من هذا النوع المستهتر بالدين والأخلاق كاللاتي يربين بناتهن على الطريقة الغربية، أو حسب ما يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات، فيجنين على أنفسهن وبناتهن.
يقول لي طبيب فاضل: حَضَرَتْ إلى المستشفى فتاة شابة حاولت الانتحار عن طريق تناول بعض الأدوية، ويقول: بعد أن قمنا بإجراء الإسعافات اللازمة، وتم إنقاذها بفضل الله. سألت الأم التي كانت ترافقها عن سبب محاولتها الانتحار ثم يقول: إن الأم وللأسف الشديد أم متعلمة، وتحاول الظهور أمام الناس بمظهر الأم العصرية المتعلمة، يقول: فقالت لي: أنا أترك الحرية لابنتي تفعل ما تشاء، وقد حدث لابنتي أنها أحبت شاباً ولكنه لم يقابلها بالحب حتى بعد أن دعته للمنزل وأفهمته بذلك، ولكنه رفض فغضبت البنت وحاولت الانتحار.
ويضيف قائلاً: بعد هذا الكلام بيني وبين الأم بيومين جاءتني الأم مرة أخرى تسأل عن أحد الأطباء، عن اسمه، وعن ما يتعلق بحياته. لماذا؟ يقول: اكتشفت أن الابنة رأته فأعجبت به، فأرسلت الأم اللعوب كي تجمع المعلومات عنه تخيلوا الأم تفعل ذلك. سبحان الله.
مثل هذه الأم لا تُؤمن على تربية مجموعة من الأغنام، فكيف تُؤْمََن على تربية بناتها وهي تعيش بهذا الفكر المنحرف، كيف؟!
ومن التدليل عدم تدريب البنت على أعمال المنزل من طهي وتنظيف وترتيب مما يولِّد في نفس البنت نفوراً من دخول المطبخ، وأعمال البيت المختلفة. ويزداد الأمر سوءً عندما تتزوج البنت. فتذهب إلى منزل الزوج وهي لا تعرف شيئاً أو تعرف القليل فقط، فينشأ الصراع بينها وبين الزوج، خاصة إذا طلبت خادمة وكانت حالة الزوج لا تسمح بذلك، فتبدأ بالتمرد والاستكبار على الزوج وعلى حقوقه نتيجة لأنها لم تتربى في الأساس على الخلق الحسن وعلى التجهيز المبكر في أداء أعمال المنزل، وعلى التنبيه عليها بأن اهتمامها بمنزلها وبحقوق زوجها عليها. هو من أعظم الطاعات والقربات إلى الله كما جاء هذا في الحديث العظيم: فقد أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية إلى النبي (فقالت: با أبي أنت وأمي يا رسول الله. أنا وافدة النساء إليك. إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبايعناك. إنا معشر النساء مجهودات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم وإنكم معشر الرجال: فضلتم علينا بالجمع والجماعات وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظناكم في أموالكم وغزلنا لكم أثوابكم وربينا أولادكم. أنشارككم في هذا الأجر والخير، قال الرسول : ((هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مقالتها في أمر دينها، فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت إليها : يا أسماء أبلغي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، يعدل ذلك كله)).
فأين بناتنا من هذه التربية، ألا ما أبعد المسافة بين بنات السلف وبنات الخلف.
[1] عودة الحجاب (ص:223).
[2] عودة الحجاب (ص:222).
[3] عودة الحجاب (ص:333).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن الأخطار التي تواجه البنات في هذا العصر، هي أخطار عظيمة ورهيبة.وإذا لم تكن البنت قد ربيت تربية صحيحة فإنها قد تقع فريسة لإحدى هذه الأخطار المنتشرة في هذا العصر.
فعلى الأسرة مثلاً نصح البنات منذ الصغر على الحجاب وتدريبهن عليه.ثم إذا كبرن على الأسرة أن تلزمهن بالحجاب وبالحشمة وستر العورات لقوله تعالى: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ [النور:30].
وتحذير البنت من التبرج من الأفضل أن يكون عن طريق الإقناع وغرس أوامر الله ورسوله في ذلك في نفسها. ونحن نقول هذا الكلام لأن هناك البعض من الفتيات قد دُرِبن على أن الحجاب عادة من العادات لذلك ترى بعضهن يخرجن من بيوت آبائهن بأكمل حشمة، حتى إذا ابتعتدن عن المنزل خلعن الحجاب رداء الحياء وظهرهن للأعين في أقبح صورة من الفتنة والإغراء.
إذن على الأسرة أن تعلم البنات أن الحجاب أمر من أوامر الله وأن التي لا تستجيب لهذا الأمر فهي منافقة لقوله : ((وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)). كذلك على اٍلأسرة أن توضح للبنت أن الحجاب لم يفرض لانعدام الثقة في النساء والبنات، وإنما هو حماية لهن من أصحاب القلوب المريضة، وحماية للرجال من ما يقع أبصارهم عليه من الفتنة والإغراء، لهذا يقول سبحانه وتعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـ?عاً فَ?سْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
كذلك على الأسرة إفهام البنات أن الأزياء الفاضحة هي من وسائل الإغراء والله ينادي ويقول: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26]. ويقول : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).
والتبرج فتنة من الفتن وعلى الأسرة أن تضرب بيد من حديد وتمنع البنات والنساء من التبرج، وعلى الوالد في ذلك مسؤولية عظيمة في أمرهن بالمعروف وينهيهن عن المنكر وإلا حق عليه قول النبي : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن ينزل عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
كذلك على الأسرة منع البنات وتحذيرهن من مشاهدة واقتناء أفلام الحب أو العنف والتي تحرض البنت على أهلها، والمرأة ضد زوجها، وتبارك الحب الحرام، والعلاقات المشبوهة.
وعلى الأسرة أن توضح للبنت أن هذا الحب الذي تروجه الأفلام والمسلسلات والروايات إنما هو حب شهوة، وهو مرفوض ولو كان باسم الزمالة والخِطبة.
هذا الحب المشبوه بِحرّ الويلات ويفسد العلاقات، وتنتهك الأعراض، لهذا حذر القرآن من مثل هذا الحب ممثلاً في حب امرأة العزيز ليوسف، هذا الحب الشهواني الذي أدى بها إلى التصريح برغبتها الحرام، لكن الله ردها عن يوسف فقال: وَرَاوَدَتْهُ ?لَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ?لاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ?للَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:23-24].
لهذا لا يصدق أحد أن في زماننا هذا حباً عفيفاً، أو كما كان يطلق عليه الحب العذري بين قيس وليلي، كلا فالشهوة عاتية ولا يمكن أن توضع النار بجانب البترول، وليس هناك إلاَّ طريق واحد، وهو الزواج الحلال.
كذلك على الأسرة أن تحمي بناتها من الصحف والمجلات التي تبرز الصور الخليعة، وتنشر قصص العبث واللهو والحذر من أولئك الذين ينشرونها بين الناس مما أفسد عقول البنات وأفكارهن، وصدق الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
أخيراً على الأسرة أن تربي في البنات الشعور بأنهن مسؤولات أمام الله عن أعمالهن وسلوكهن. وأن يشعرن برقابته الدائمة معهن في كل لحظة وأنه يعلم السر وأخفى، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]. لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مُّبِينٍ [سبأ:3].
وأن تغرس الأسرة في بناتها أيضاً حب الله والخوف منه والرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه لقوله تعالى: نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ?لْعَذَابُ ?لاْلِيمُ [الحجر:49-50]. وقد ثبت - وهذا شيء ملاحظ - أن قلوب البنات والنساء أسرع إلى التأثر بالدين وتعاليمه من الرجال.
فهل نحن فاعلون، إن من يربي بناته ويجتهد في تربيتهن التربية العميقة على طاعة الله ورسوله ويتعب في ذلك ويصبر على صعوبة تربيتهن، فإنه يدخل في حديث النبي عن عقبة بن عامر الذي قال فيه: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدته -يعني ماله - كن له حجاباً من النار)) [صحيح الجامع 5/34].
وقال أيضاً: ((من كن له ثلاث بنات يؤدبهن، ويرحمهن، ويكفلهن وجبت له الجنة البتة، قيل: يا رسول الله فإن كانتا اثنتين، قال: وإن كانتا اثنتين)) قال: فرآى بعض القوم أن لو قالوا له: واحدة، لقال: واحدة. [البخاري في الأدب وأحمد- الترغيب والترهيب]. إنه لفضل عظيم ولا شك في ذلك.
ونسأل الله العلي القدير أن يعيننا على تربية أنفسنا وأزواجنا وبناتنا وأولادنا.
(1/1693)
حافظوا على الصلوات
فقه
الصلاة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلاة وغسل الذنوب. 2- رفع الدرجات في المحافظة على الصلاة. 3- محافظة رسول
الله وأصحابه على الصلاة. 4- حكم تارك الصلاة. 5-الأحكام المترتبة على كفر تارك الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]. الصلاة عمود الدين، ومفتاح الجنة وخير الأعمال، وقد ذكرت في نحو مائة آية في القرآن وفي السنة عشرات الأحاديث النبوية التي تأمر بالصلاة وتحث عليها وتحذر أشد التحذير من تركها أو التهاون بها. وهي وصية الله وأمره للنبيين والمرسلين وأتباعهم إلى يوم الدين، قال إبراهيم عليه السلام: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وكان إسماعيل عليه السلام يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ، وقال عيسى عليه السلام: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31]. وأمر الله محمداً بقوله: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:78-79].
وقال له: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ [هود:114]. إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أهمية الصلاة.
وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة قال رسول الله : ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله)) [صحيح الجامع].
وهي صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن مشاغل الدنيا، ويتجه بها إلى ربه، يطلب منه الهداية والعون والرشاد.
وقد جعل الله لها أوقاتاً مكتوبة فقال: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?باً مَّوْقُوتاً [النساء:103].
فأمرهم بإقامتها حين يمسون وحين يصبحون وحين يُظهرون وقدرها خمس مرات في اليوم والليلة لتكون فرصة للمسلم يتطهر بها من غفلات قلبه وكثرة خطاياه وقد مثَّل هذا المعنى في قوله: ((مثل الصلوات المكتوبات كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)) [الإحسان: 1725].
لهذا في الصلوات الخمس فرصة عظيمة كي يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا اللهيب الذي يشتعل فيه نتيجة لانغماسه في الشهوات والملذات، وقد قال رسول الله في ذلك: ((إن لله ملكاً ينادي عند كل صلاة فيقول: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
وفعلاً فالشهوات والملذات والمعاصي نار موقدة تشعل القلوب والعقول، والصلاة بالنسبة لها هي مضخة الإطفاء التي تخمد هذه النار وتطفئها، وهذا واضح تماماً في قوله : ((تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا، بل إن أمر الصلاة أعظم)) ، يقول: : ((إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)).
والصلاة سبب في رفع منزلة المسلم في الجنة لقوله لأحد الصحابة أكثر من السجود فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط بها خطيئة، والصلاة هي الباب الذي تبث فيه شكواك وهمك إذا أحاطت بك الخطوب، فخانك الصديق وانقلب الحبيب عدواً، وعقك الولد، وأنكرتْ جميلَك الزوجةُ، فمَالِك الأمر هو الله، فإذا ضاقت عليك الدنيا فقل:يا الله، وإذا ادلهمت الخطوب فقل يا الله وإذا مرضت فقل يا الله، لذا كان رسول الله إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال، أقم الصلاة يا بلال لكي نرتاح.
وهي أمانة عندك إذا حفظتها حفظك الله وإذا ضيعتها ضيعك الله، ورد أن أعرابياً جاء المدينة وهو يركب ناقته فلما وصل المسجد ربط الناقة ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار والتعظيم لله سبحانه فلما خرج لم يجد ناقته فرفع يده وقال: اللهم إني أديت إليك أمانتك فاردد إلي أمانتي فجاءته الناقة تسعى إليه.
وللأهمية العظمى للصلاة، أنه عندما أراد الله فرضها لم يرسل ذلك مع جبريل عليه السلام ككل الفرائض الأخرى، ولكنه أخذ محمداً إلى السموات العلى وخاطبه سبحانه، وفرض عليه الصلوات هناك، كما في الإسراء والمعراج.
لذا لا تستغرب أبداً العقاب الشديد الذي توعد الله به تارك الصلاة أو المتهاون فيها كقوله عن أهل النار أنهم يُسئلون ما سلكم في سقر فيجيبون: لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ [المزمل:43]. وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ [الماعون:4]. وهم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها. وقال رسول الله : ((من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة إلى يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)). يقول ابن القيم معلقاً على هذا الحديث: إن في هذا الحديث معجزة نبوية تدل على كرامة رسولنا محمد، فتارك الصلاة إما يشغله عنها ماله، أو ملكه أو رياسته أو تجارته، فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف، بل إن النبي قال: ((لا تترك الصلاة متعمداً فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله)) [الترغيب/813].
وقال: ((من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان)) [الترغيب/803].
وإذا غضب الله على إنسان فمن ذا الذي يرضى عنه بعد ذلك.
لذا كان نبينا يهتم بالصلاة وإقامتها والحث عليها اهتماماً عظيماً حتى أن آخر كلمة قالها قبل الانتقال إلى الرفيق الأعلى آخر كلمة أنه أوصى المسلمين بالصلاة وقال : ((الصلاة الصلاة)). وكذلكم كان صحابته رضوان الله عليهم مع أنفسهم ومع أهليهم فقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إذا صلى من الليل ما شاء الله له، أيقظ أهله آخر الليل، يقول لهم: (الصلاة الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]. بل إنه عندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي - لعنه الله - وأغمي عليه وأراد الصحابة أن يوقظوه قال أحدهم: أيقظوه بالصلاة فإنكم لن توقظوه بشيء إلا الصلاة فقالوا الصلاة الصلاة يا أمير المؤمنين: فإذا به يستيقظ ويقول: الصلاة الصلاة لاحظ للإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى وإن جرحه لينزف دماً.
أيها الأخوة: مع كل هذا الاهتمام بالصلاة في الإسلام إلا أن نظرة إلى الواقع تكشف لنا الحال الذي لا يبشر بالخير أبداً، فمن الناس من يترك الصلاة إهمالاً لها، وقد يكون احتقاراً لها، وبخاصة بين صغار السن والشباب من الجنسين، وبعضهم صارت الصلاة لديه ألعوبة يؤديها وقتما يشاء ويتركها متى يشاء، فلا يصلي إلا من جمعة إلى جمعة، وهناك من الكبار من لا يصلي فهل تصدقون ذلك، هناك من الشباب والأولاد من يلعبون الكرة حتى في أوقات الصلاة.
ومنهم من يتجول في سيارته حتى انتهاء الصلاة، أو يقضي الوقت عند هواتف العملة، ومنهم من إذا سمع الأذان دخل بيته أو دكانه وأقفل على نفسه وهو لا يدري أن الله قادر على أن يهدم عليه الجدران والأسقف التي يختبئ فيها، إنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم.
ومنهم من تصل بهم الجرأة إلى أن يجلس على الأرصفة في الشوارع جهاراً نهاراً في أوقات الصلاة وكأنه ليس بمسلم، وكأنه ليس في بلد إسلامي - سبحان الله - الله أكبر تجلجل في الآذان وهم في اللعب لاهون، وفي الطرقات يتسكعون وفي المنازل نائمون أو مختبئون، ترى لمن يقول المؤذن حي على الصلاة؟ لمن يقول المؤذن حي على الفلاح؟ لمن؟
يا ناس ماذا في الصلاة يجعلكم لا تلبون النداء؟ ماذا في الصلاة من ضرر؟ ماذا في الصلاة من مشقة؟ كم تأخذ هذه الصلاة من أوقاتهم الطويلة جداً، إنها لا تأخذ أكثر من ساعة في الأوقات الخمس.
أثقيلة عليهم هذه الساعة - سبحان الله – ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6-7]. الحقيقة أن طبائع بعض الناس دناءة غريبة لأنهم يستسهلون أخذ النعمة؟ ثم يستثقلون تقديم الشكر، يدبرون من الله أن ينعم عليهم بالمال والصحة والأمن ولكنهم ليسوا مستعدين لأن يشكروه على هذه النعم بأداء الصلاة والمحافظة عليها، لذا يقول سبحانه في هؤلاء وأمثالهم: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59]. قال سعيد بن المسيب عن غي هو واد في جهنم بعيد قعره، خبيث طعمه، شديد عقابه، لمن؟ للذين تركوا الصلاة وتهاونوا بها. فاتقوا الله عباد الله في أمور دينكم عامة وفي صلاتكم خاصة بأن من تركها ترك الدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن من أهمية الصلاة في الإسلام أن لا عذر في تركها لأحد من الناس أبداً، لا عذر سواء في السلم أو في الحرب، في الصحة أو في المرض، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً فليصل جالساً، أو على جنب أو بالإشارة أو على أي حال كما قال ونكرر ليس هناك عذراً أبداً لترك الصلاة أبداً، لا عذر إلا عذرين أولهما الجنون وثانيهما دم الحيض والنفاس للمرأة.
بل إن الحكم الشرعي في تارك الصلاة أنه كافر لماذا؟ لأن الله يقول عن الكفار: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]. وقال: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11]. وقال رسول الله : ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) ، وقال : ((بين الكفر والإيمان ترك الصلاة)) ، ((بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك)) ، وقال : ((عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم - شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة وصوم رمضان)).
وقال علي بن أبي طالب: (من لم يصل فهو كافر)، وقال ابن عباس: (من ترك الصلاة فقد كفر)، وقال ابن مسعود: (من ترك الصلاة فلا دين له)، وعن جابر بن عبد الله قال: (من لم يصل فهو كافر)، وعن أبي الدرداء قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له)، وقال إسحاق: (صح عن النبي أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر). وعن حماد بن زيد عن أيوب: (ترك الصلاة كفر لا نختلف فيه)، وعن عبد الله: (كان أصحاب محمد لا يعرفون شيئاً من الإعمال تركه كفر غير الصلاة) فماذا بعد ذلك كله؟
يقول الشيخ ابن عثيمين: وأما أقوال الصحابة، قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : (لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة)، وعن عبد الله بن شفيق قال: (كان أصحاب رسول الله لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة)، وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر فإنه يترتب عليه أحكام، منها:
أولاً: أنه لا يصح أن يزوج فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل، ولا تحل له الزوجة لقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـ?تٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى ?لْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة:10]. وأنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة.
ثانياً: أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا زُوِّج لا تؤكل ذبيحته لماذا؟ لأنه كافر لا تحل ذبيحته. ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها، فتكون - والعياذ بالله - ذبيحته أخبث من ذبح اليهود والنصارى فإن ذبيحتهم تحلُّ، وذبيحتهم لا تحل.
ثالثاً: لا يحل له دخول مكة المكرمة أو حدود حرمها لقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا ?لْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ?لْمَسْجِدَ ?لْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـ?ذَا [التوبة:28].
رابعاً: إنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث فلو مات رجل وله ولد لا يصلي، وله ابن عم بعيد يصلي. فمن يرثه؟ يرثه ابن عمه البعيد لقوله لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
خامساً: إنه إذا مات لا يُغسَّل ولا يُكفَّن ولا يُصلَّي عليه، ولا يُدفن مع المسلم فماذا نصنع به؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفز له وندفنه لأنه لا حرمة له، وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميِّت، وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه.
سادساً: إنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، أئمة الكفر، ولا يدخل الجنة ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، لأنه كافر. انتهى كلام الشيخ.
ومنه يتضح لنا أيها الأخوة أن الأمر خطير جداً جداً، وأنتم الآن سمعتم هذا الكلام وهو حجة على الجميع فمن كان مفرط أو متهاوناً بالصلاة فليستغفر الله، وليتب إليه، ويبدأ حياة جديدة أساسها المحافظة على الصلوات الخمس في الجماعة.ثم لأنكم الآن قد سمعتم هذا الكلام فعليكم أن تبلغوه لأهليكم وأولادكم وأقاربكم ولكل من تعرفونه من الذي يتركون الصلاة أو يتهاونون بها لأنكم ستسألون عن هذا أمام الله يوم القيامة في ذلك اليوم العظيم. وللعلم بأن موضوع الصلاة لم ينته بعد وسيكون لنا معه موقف آخر الجمعة القادمة إن شاء الله.
وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.
(1/1694)
الطلاق
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية عقد النكاح ، والتحذير من التفريط فيه. 2- وسائل تحفظ الزواج رغم الخلاف. 3-
أحكام الطلاق. 4- أسباب حدوث الطلاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن استقرار الحياة الزوجية غاية من الغايات التي يحرص عليها الإسلام.
وعقد الزواج إنما يعقد للدوام وحتى تنتهي الحياة، لهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه ميثاق غليظ فقال: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قاً غَلِيظاً [النساء:21].
وإذا كان هذا العقد ميثاقاً غليظاً كما وصفه الله فإنه لا ينبغي الإخلال به، أو التهاون به، بل إن أي إنسان يحاول أن يفسد ما بين الزوجين من علاقة، فهو في نظر الإسلام حرام وإثم، كما أخبر بقوله: ((ليس منا من خبَّب امرأة على زوجها)).
وحذر الإسلام من أن الزوجة التي تفرط في هذه العلاقة، وتطلب الطلاق من زوجها، من غير سبب أو بأس، فإنها لن تدخل الجنة لقوله : ((أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً من غير بأسٍ فحرام عليها رائحة الجنة)).
لكن الزواج قد يكون في حالات نعمة من نعم الله، وفي حالات أخرى كارثة من الكوارث، خاصة إذا كان الزوجان لا يقيمان حدود الله، ولا يقفان عندها.
ولكم أن تتصوروا مثلاً زوجاً فاسقاً شريراً، زانياً سكيراً، سيء العشرة لا يكف عن إهانة زوجته وضربها، ولا يقوم بالإنفاق على أولادها، إن الزواج من إنسان كهذا كارثة على الزوجة وأهلها.
ولكم أن تتصوروا أيضاً زوجة فاسقة شريرة، متبرجة، مبذرة، مؤذية لزوجها، لا تقوم بواجب الخدمة والرعاية، ولا هم لها إلا الزينة والمظاهر، إن الزواج من امرأة كهذه كارثة على الرجل وحياته، لهذا أليس الخلاص من زواج تعس كهذا نعمة جليلة من نعم الله، من هنا كان الطلاق نعمة عظمى إن كان الزواج كارثة كما ذكرنا.
لكن إذا كان الإسلام قد شرع الطلاق فإنه أيضاً قد حث على التروي والصبر وعدم الاستعجال فعند حصول طلاق بين الزوجين فالحل الصحيح هو محاولة إزالة هذا الخلاف بين الزوجين وبدون أن يشعر أحد بوجوده كما قال : ((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، وإن كل ذي نعمة محسود)).
فإذا لم تمكن السيطرة على هذا الخلاف يمكن إعلام أقرب المقربين إلى الأسرة لعله يستطيع إنهاءه، ولنا في بيت رسول الله أسوة حسنة فقد جاء إلى بيت فاطمة فلم يجد علياً.فسأل عنه فقالت، كان بينه وبينه شيء فغاضبني وخرج. فقال لرجل: ((أنظر أين هو؟)) فقال: هو في المسجد راقد. فجاءه وهو مضطجع، وقد سقط رداؤه عن شقه فأصابه تراب، فجعل يقول: ((قم يا أبا تراب، قم أبا تراب)). وما كان له اسم أحب إليه منه، [رواه البخاري عن سهل من سعد]. ونلاحظ هنا أن المشكلة قد انتهت بتوسط النبي بين الزوجين الصالحين.
وهنا قد يقول قائل:ربما استمر التوتر من جانب أحد الطرفين، فما هو العلاج؟ والعلاج موجود.
لو كان التوتر والإعراض من جانب الزوج وخافت الزوجة من ذلك فإن العلاج هو في قوله تعالى: وَإِنِ ?مْرَأَةٌ خَـ?فَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَ?لصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ?لأنفُسُ ?لشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:128].
أي أن على الزوجين أن يعملا معاً وبهدوء للقضاء على التوتر بينهما.ولا مانع من أن تقوم الزوجة بعملية استرضاء لزوجها مالياً أو معنوياً حتى لا تفقده، وعلى الزوجين أن يستجيبا لدواعي الصلح والخير حتى تستمر الحياة بينهما.
أما إذا كان الإعراض من جانب الزوجة، وهو الذي سماه العلماء النشوز، والنشوز هو ترك المرأة التزين لزوجها، أو تعصيه في الفراش، أو تخرج من البيت بدون إذنه، أو تترك الصلاة أو الغسل، فإن العلاج هو في قوله تعالى: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34].
إن علاج الزوجة الناشر، يبدأ بالوعظ بالعلم والقرآن، فإذا لم يغير فيهجرها في الفراش، فإذا لم يغير: فتضرب ضرباً لا يسيل دماً ولا يكسر عظماً ولا يكون في الوجه، فإن استجابت بعد ذلك ينبغي على الزوج أن يتوقف عن عمل أي شيء يغضبها، فإذا لم يفد فيها الوعظ والهجر والضرب لابد من اتخاذ إجراء آخر، وهذا الإجراء هو الإصلاح من خارج الأسرة، لأن الإصلاح من داخل الأسرة، قد أصبح غير مثمر، فلابد إذن من التحكيم.قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا. [النساء:35]. لماذا؟ حتى يقوما بدراسة الأحوال وأسباب النزاع بكل جد وإخلاص، فقد يوفقهما الله في إنهاء المشكلة كما قال تعالى: إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حاً يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً [النساء:35].
فإذا لم تنجح كل هذه المحاولات وأراد الرجل طلاق امرأته وهو الذي بيده الطلاق، لأنه أقدر من المرأة على ضبط أعصابه وانفعالاته وعلى معرفة المصالح والمفاسد. فإذا أراد أن يطلق فليطلق الطلاق الشرعي. بمعنى أنه إذا كان لابد من الطلاق فليطلقها على الوجه الشرعي، وهو أن يطلقها واحدة وهي غير حامل أو في طهر لم يجامعها فيه. ولا يحل له أن يطلقها وهي حائض ولا في طهر جامعها فيه، إلا إن تبين حملها، أو تحيض بعد ذلك فيطلقها بعد الحيض قبل أن يطأها. وإذا أراد رجل الطلاق فليطلق مرة واحدة فقط، ليكون ذلك توسيعاً على نفسه إن أراد أن يراجع. وإذا حدث ذلك فعلى الزوجة أن تبقى في بيت زوجها، وما يفعله الناس اليوم من إخراج الزوجة من بيت زوجها، إذا طلقت طلاقاً رجعياً فهذا خطأ وحرام لقوله تعالى: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ [الطلاق:1]. ثم قال بعد ذلك: وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. ثم بين الله الحكمة من وجوب بقاء الزوجة في بيت زوجها بقوله: لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1].
وننبه إلى أنه يجوز للمطلقة الرجعية حال بقائها في المنزل، يجوز لها أن تكشف لزوجها وأن تتزين له وأن تكلمه.
ثم إن هذه الطلقة التي أوقعها الزوج إذا كانت واحدة أو اثنتان فإنها تعتبر طلقة رجعية، مادامت المرأة في العدة ويستطيع أن يراجعها كما قلنا سابقاً بالقول أو الفعل.
أما إذا انتهت العدة ولم يراجع الزوج زوجته، أصبحت الطلقة بائنة بمعنى أن الزوجة لا تعود إليه إلا بمهر وعقد جديدين مع رغبتها في ذلك قال تعالى: وَ?لْمُطَلَّقَـ?تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـ?ثَةَ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ?للَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذ?لِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـ?حاً [البقرة:228].
فإن كان الطلاق أكثر من اثنتين فإنه لا يحل للزوج إرجاعها حتى تنكح زوجاً آخر، نكاحاً لا يقصد به التحليل قال تعالى: فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى? تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
ولا يجوز للرجل أن يعلق طلاق زوجته بقصد الانتقام منها فيتركها معلقة، لا يجوز أن يستمر ذلك أكثر من فترة أربعة أشهر كما قال تعالى: لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِن فَآءوا فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُواْ ?لطَّلَـ?قَ فَإِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].
أما إذا كان طلب الطلاق من جانب المرأة، فقد أباح لها الإسلام أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع، وذلك بأن تعطي الزوج ما كانت أخذت منه باسم النكاح لينهي علاقته بها وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ?فْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]. لأنه مادام أنه هو الذي بذل المهر والتكاليف والنفقة، وهي قابلت هذا بالجحود وطلبت الفراق، فمن العدل أن ترد عليه ما أنفقه عليها، لهذا لما جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى الرسول فقالت: يا رسول الله ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، كفران المعشر. فقال : ((أتردين حديقته؟ قالت: نعم، فقال رسول الله: اقبل الحديقة وطلقها طلقة)) [البخاري ومسلم عن ابن عباس].
أما بالنسبة للعدة، فإن كانت حاملاً فإلى وضع الحمل، سواءً طالت المدة أو قصرت، لقوله تعالى: وَأُوْلَـ?تُ ?لاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4]. أما إذا كانت غير حامل وهي من ذوات الحيض فعدتها ثلاث حيض كاملة، بغض النظر عن المدة. قال تعالى: وَ?لْمُطَلَّقَـ?تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـ?ثَةَ قُرُوء [البقرة:228].
أما التي لا تحيض لكبرها أو صغرها، فعدتها ثلاثة أشهر، لقوله تعالى: وَ?للاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ ?لْمَحِيضِ مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ?رْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـ?ثَةُ أَشْهُرٍ وَ?للَّـ?تِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4].
عباد الله: اتقوا الله واحذروا الطلاق بما شرعه الله فيه وفي غيره، فإنه خير لكم في العاجل والآجل.
وقد يقول سائل: إننا نلاحظ زيادة في حالات الطلاق في السنوات الأخيرة، فما هو السبب؟ والجواب:أن أسباب الطلاق كثيرة لعل من أهمها التهور والاندفاع من الرجل الجاهل بالدين الذي يستخدم حقه في الطلاق كسلاح يلوح ويهدد به دائماً. بل ويستخدمه في كثير من الأحيان عبثاً دون وعي بخطورته، ودون حاجة إليه ثم يندم على ذلك لا ويكون أول المتضررين بوقوعه. فتراه يردد كلمة الطلاق، في مناقشاته وكلامه وهازلاً أو غاضباً، قائماً أو قاعدا، ويتخذه لهواً ولعباً، وصدق الله: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. ليس هذا فقط بل إنه يصل به الحال إلى أنه قد يحرم زوجته على نفسه بالظهار مرة، ومرة يحلف ألا يقربها طوال مدة معينة ظلماً، ومدة يعرض عنها ويهجرها بدون سبب، هضماً لحقوقها، وتقصيراً في واجباته نحوها نتيجة لأنه ملَّ منها أو لأنه تزوج عليها.
بل يستعمله بدلاً من اليمين فإذا أراد أن يحلف على نفسه أو على غيره قال: عليّ الطلاق.
ومن الأسباب العامة لحدوث الطلاق: عدم اختيار الزوج الصالح. فرغم أن الرسول قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)) إلا أن الكثير لا يزوجون إلا من يرضون ماله ووظيفته ومركزه الاجتماعي، أما الدين فالأمر لديهم مختلف.
ومن الأسباب:عدم التزام الزوج بحقوق الزوجة كأن يكون دائم الخروج من المنزل، وعدم الاستقرار فيه، كمثل أحدهم الذي كان يسهر مع أصدقائه إلى آخر الليل، تاركاً زوجته لوحدها وبعض الأحيان كان يتركها وحيدة ويسافر إلى الخارج ليمتع نفسه بالحرام والعياذ بالله.فماذا كانت النتيجة. النتيجة أن المشاكل كثرت بينهما حتى وصلت بها الحال إلى الطلاق.
ومن الأسباب:زواج المرأة بمن تكره أما لكبر سنه أو لعيب فيه.وسبب هذا هو طمع الأولياء في الحصول على المال الكثير، وهذا لا يجوز في الشرع أبداً. ويكفي أن نعلم في هذا قول النبي : ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن)).
وجاءت امرأة إلى النبي فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها ، فأي زواجَ بني على عدم الرضا نهايته الفشل والطلاق، وقد يتسبب في انحراف المرأة أخلاقياً.
ومن الأسباب: أن الرجل قد يتزوج الفتاة بالنظر إلى جمالها أو أسرتها. وقد تكون من أسرة ثرية وقد تعودت على النعمة ورغد العيش في منزل أهلها. وعندما تأتي إلى بيت زوجها لا تقدر ظروفه المادية، ولا يهمها إلا الحصول على رغباتها وطلباتها.
والحاصل: أن الزواج الذي يتم دون مراعاة للفروق الاقتصادية والاجتماعية، قد ينتهي دائماً بالطلاق كما هو مشاهد وملموس. وشاهد على هذا ما رواه أحد الشباب من دولة عربية كان يعيش في المملكة. قال: إن زوجته عاشت معه هنا عدة أعوام في هناء وحبور، ولكنها في النهاية تقدمت إلى المحكمة بطلب الطلاق منه، عندما علمت بانتهاء عقد عمله بالمملكة.
ومن الأسباب:تدخل الأهل في مشاكل الزوجين دون طلب منهما، مما يزيد مشاكل كل الزوجين حدة وعناداً.
تقول إحدى المطلقات:أنها كانت في غاية السعادة مع زوجها إلى أن سكنت والدة الزوج معها في بيت واحد. وهذه ليست المشكلة ولكن المشكلة هي أن هذه الوالدة قد أكثرت من تدخلاتها في حياتهما الخاصة. حتى انتهى الأمر بهما إلى الطلاق. فأين أمثال هؤلاء عن قوله : ((ليس منا من أفسد امرأة على زوجها)).
قد يطلق الرجل المرأة انتقاماً منها أو استجابة لطلب الزوجة الجديدة، ورغبتها في ذلك. وقد نهى من ذلك بقوله: ((لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها)).
وأهم الأسباب على الإطلاق:هو ضعف الوازع والإيمان في قلوب الكثير من الناس. الأمر الذي أدى بهم إلى الوقوع في المعاصي، والتي انتهت بهم إلى الطلاق: وإليكم أمثلة على ذلك.
المثال الأول: زوج يشرب الخمر ويتحدى الله ويتحدى زوجته بشره حتى ضاق بها الأمر فتقدمت إلى المحكمة بطلب الطلاق منه، ولكنه أمام القاضي أنكر ما نسبته إليه وتحداها أن تثبت ذلك عليه، وفعلاً عجزت الزوجة عن الإثبات وتحداها. لكن الله أراد أن يفضحه أمام زوجته وأمام الناس فألقي القبض عليه داخل بيته، وحكم على نفسه وعلى زوجته بالضياع.
مثال آخر: زوجة ذكرت أن سبب طلاقها يعود إلى أن زوجها طلب منها أن تكشف أمام إخوته وأبناء عمومته وأخواله فرفضت في حياء، فكان مصيرها الطلاق.
وأخرى: ذكرت أن سبب طلاقها يعود لرفضها السماح لابن أخ زوجها الذي يبلغ 22 عاماً السكن معها في بيت الزوجية.
وأخرى: تقول أنه لا ذنب لها في الطلاق سوى أنها أنجبت أربع بنات ولم تنجب الذكور فطلقها ولكن إرادة الله شاءت أن تتزوج من رجل آخر وأن تنجب منه مولوداً ذكراً.
لهذا يا أخوة علينا أن نرجع إلى الله ونتوب إليه ولتكن حياتنا الزوجية منذ اللحظة الأولى على ما يحبه الله ويرضاه. وليكن اختيارنا للزوج كما قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه)) وليكن اختيارنا للزوجة كما قال : ((تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الذين تربت يداك)) الدين أولاً ثم يأتي بعده الأمور الأخرى.
وعلى الأزواج أن يعرفوا أن المرأة لا تكون خالية من العيوب والنقص. إذ لابد أن يوجد فيها نقص أو خلل، كما قال : ((إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه.فإن ذهبت تقيمه كسرته، وأن استمتعت به استمتعت به وبه عوج)) وفي رواية: ((كسرها طلاقها)).
لهذا فالزوج العاقل يصبر ويتصبر ويتحمل ما يراه من نقص. كما أن على الزوجة أن تعرف أن زوجها هو جنتها ونارها كما أخبر الرسول. لهذا عليها أن تتحمل ما تراه من مساوئ زوجها. وأن ترضى بما قسم الله لها وتجاهد في ذلك، فإن عملها هذا، وهو حسن تبعلها لزوجها، يعدل الجهاد في سبيل الله كما أخبر ، وذلك أسهل وأهون من الطلاق الذي يدمر الأسر ويشتت الأولاد ويجلب التعاسة، فالحذر الحذر من الطلاق وما يؤدي إليه.
فهل نحن فاعلون؟ نرجو ذلك ونتمناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1695)
الكهانة والعرافة والتنجيم
التوحيد
نواقض الإسلام
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص الله بعلم الغيب المطلق. 2- معنى آية: إن الله عنده علم الساعة... 3-
التنجيم المشتهر في المجلات. 4- التشاؤم بالحيوانات أو الأرقام أو الشهور. 5- التحذير من
إتيان العرافين والمشعوذين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
تحدثنا في الأسبوعين الماضيين عن السحر وضرره وأنواعه، ثم عن طرق الوقاية منه قبل وقوعه وبعد وقوعه. وتحدثنا عن الفرق بين الساحر، وبين المعالج بالطرق الشرعية.
أما اليوم فسنختم كلامنا عن السحر بإذن الله بالحديث عن أنواع من السحر تسمى الكهانة والعرافة والتنجيم وهي أنواع منتشرة عند بعض الناس. ولابد من معرفتها والتحذير منها.
والعراف أو الكاهن هو: الذي يدعي معرفة الغيب بمقدمات يستدل بها. قال ابن تيمية: "إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق كالحازر الذي يدعي علم الغيب ويدعي الكشف، والمنجم أيضاً يدخل في اسم العراف وفي اسم الكاهن أيضاً وادعاء معرفة الغيب تكون بأمور، منها: استخدام الشياطين والزجر والطين، والضرب في الأرض والخط في الحصى، والتنجيم والكهانة والسحر، وقراءة الكف والاستسقام بالأزلام وقراءة الحروف الأبجدية للاستدلال بها على الغيب وقراءة الفنجان، فتدعي قارئة الفنجان أنها تعلم الغيب وماذا سيحصل للإنسان. وقبل أن نبيّن هذه الأمور: نريد أن نوضح أمراً هاماً جداً بالنسبة لعلم الغيب. وهو أن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجد أنه لا جدوى من محاولة معرفة الغيب، إذ هذا العلم من اختصاص الله علام الغيوب، ولا سبيل إلى معرفته بأي طريقة كانت يقول سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]. ويقول سبحانه وتعالى أيضاً: أَفَرَأَيْتَ ?لَّذِى كَفَرَ بِئَايَـ?تِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ ?لْغَيْبَ أَمِ ?تَّخَذَ عِندَ ?لرَّحْمَـ?نِ عَهْداً [مريم:77-78]. وفي هاتين الآيتين الكريمتين دليل قاطع على عدم إمكانية الإنسان الاطلاع. لكن الله لحكمة يعلمها سبحانه قد يطلع بعض الرسل على بعض الغيب كما قال تعالى: عَـ?لِمُ ?لْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى? غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ?رْتَضَى? مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَـ?لَـ?تِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى? كُلَّ شَىْء عَدَداً [الجن:26-28].
واطلاع الله بعض الغيب لبعض رسله لحكمة معيّنة وإلا فالرسل أنفسهم لا يعلمون ما يحدث لهم.
فهناك أمر من الله سبحانه إلى رسوله أن يعلم الناس بأنه لا حول ولا قوة إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى وأنه لا يعلمُ الغيبَ: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188].
فإذا كان خير البشر محمد لا يعلم الغيب، فكيف بمن هم دونه مرتبة وشرفاً ومكانة؟
ومع ذلك كله إلا أننا نسمع البعض وهم يقولون: كيف يقول الله: وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لاْرْحَامِ [لقمان:34]. وقد تمكن العلم من تحديد وقت نزول المطر، وتمكن الطب من تحديد نوعية الجنين أذكر هو أم أنثى. وصدق الله: ومِنَ ?لنَّاسِ مَن يُجَـ?دِلُ فِى ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـ?بٍ مُّنِيرٍ [الحج:8].
لنرجع إلى الآية السابقة وهي قوله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لاْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ : أي أن علم وقت الساعة مختص بالله سبحانه فلا يعلم أحد بوقته سواه لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال: يَسْئَلُكَ ?لنَّاسُ عَنِ ?لسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ?للَّهِ [الأحزاب:63]. ويقول: لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]. ونحن نعلم أن الله تبارك وتعالى بعد خلقه للسموات والأرض، خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فمه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر بالنفخ بالصور: فإذا كان إسرافيل الملك المكلف بالنفخ بالصور إيذاناً ببدء القيامة لا يعرف موعدها، إذا كان هذا هو حاله فكيف بأي منجم أو دجال يقول: إن الساعة ستقوم في يوم كذا أو في عام كذا. طبعاً لكنها أكاذيب.
وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ ويختصّ الله تعالى بمعرفة وقت إنزال المطر ومكانه المعين. أما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات والأمارات. وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح فليس ذلك غيباً. وإنما هو تخمين وظن. وقد يحدث نقيضه كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة، يلاحظ فيها اتجاهات الرياح والمنخفضات الآتية من الشمال أو الغرب مثلاً. ورغم هذا فنحن نسمع دائماً.. يتوقع الفلكيون نزول الأمطار، ويقولون إن الفرصة مهيأة لنزول الأمطار. وتتجمع الغيوم في السماء، وتنذر الحالة بأن المطر سينزل ولكن في اللحظات الأخيرة، يأمر الله الرياح كيف يشاء فتذهب بهذه الغيوم القاتمة دون أن تنزل منها قطرة واحدة. وعلى كل فنزول المطر عملية دقيقة جداً لا يستطيع البشر أن يقوم بها مهما بلغ علمه. بل لو اجتمعت البشرية كلها على أن تنزل مطراً في مكان ما أو تمنع المطر من النزول في مكان ما فهي لا تستطيع ولن تستطيع.
وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لاْرْحَامِ : وبعض الناس يقولون الطب توصل إلى تحديد نوع الجنين ذكراً كان أو أنثى، ومن قال إن هذا هو المقصود بالآية؟ علماء المسلمين من المفسرين لم يقولوا بهذا، بل الإمام القرطبي ومنذ مئات السنين قال: وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك. إذن فمعنى ما في الأرحام ليس المقصود منه هل المولود ذكرٌ أم أنثى بل معناه أوسع من ذلك بكثير، لأن الله يعلم من هو أبو المولود ومن هي أمه قبل أن يتزوجا أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَـ?ثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:50].
إن معنى كلمة ما في الأرحام هنا: تعني حياة المولود من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته هل هو شقي أم سعيد طويل أم قصير، ما هو لونه، هل هو صحيح أم مريض؟ ما هو عمره، وماذا سيفعل، ما هي الأحداث التي ستقع له، وماذا سيعمل؟ وأي مهنة س؟ وأي البلاد سيسافر إليها؟وبمن سيتزوج وما هو رزقه وهل سيرزق بأولاد أم لا. وهكذا فمن يعلم مثل هذه الأمور غير الله، هل يستطيع أحد من البشر أن يدعي هذا العلم، لا يستطيع ولكن الله يستطيع ذلك؟ وقد فعل فالله كتب مقادير الخلق وأرزاقهم وآجالهم قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام وهو موجود عنده سبحانه فوق العرش إِنَّ ذ?لِكَ فِى كِتَـ?بٍ إِنَّ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70].
وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً [لقمان:34]. أي لا تعلم نفس ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها. وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]. من يعلم عن ساعة موته، وأين ستكون؟ لا علم لأحد بذلك. روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند، وهو عندك.
لهذا يقول : ((إذا أراد الله قبض عبد بأرض، جعل له إليها حاجة)).
ورغم هذه الآيات الصريحة في أن علم الغيب مختص بعلم الله سبحانه وتعالى إلا أن هذه الآيات تتعرض لمصادمات صريحة من الكهان والعرافين والدجالين ومن يصدقهم بادعائهم الغيب وخذوا أمثلة على ذلك.
التنجيم ومطالعة الأبراج: والتنجيم هو التنبؤ بواسطة النظر إلى الكواكب والنجوم ورصد حركاتها ومنازلها المقسمة على مدار الأشهر والسنة وأن لها تأثيراً على مصائر الناس. وهذا موجود ومنتشر وللأسف الشديد. وكثير من الناس يتابعون وبكل شغف. يتابعون ما يوجد في بعض الصحف والمجلات من قراءة الأبراج والنجوم، ومنهم من يصدقها. ويعتقد بأن لها علامة بسعده أو نحسه. قال العلماء: واعتقاد المعتقد أن نجماً من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه، اعتقاد فاسد، وإذا اعتقد أن هذا النجم هو الذي يدير له أموره فهو كافر.
وهذا موجود الآن في الأبراج التي يتابعها البعض في بعض المجلات والصحف وهي مكتوبة بعدة طرق: فمنها ما يكتب على طريقة الأبراج: لبرج الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، أو العذراء وغير ذلك ومنها ما يكتب بطريقة السنوات: إذا كنت من مواليد السنة الفلانية فسنتك الجديدة سنة كذا وكذا.
وقد تكتب بطريقة الأشهر، أشهر يوجد بها السعد، وأخرى أشهر نحس.
والذين يكتبونها يستخدمون لها عناوين جذابة، أنت والحظ، ماذا تخبئ لك سنة كذا وكذا. ومن الملاحظ أن هؤلاء الكذبة من الدجالين يأتون في كلامهم بأشياء تقع دائماً:
خبر سار يصلك من إنسان تحبه: ومن الذي يوصل إليك الأخبار السارة إلا الذي يحبك.
لهذا يقول : ((من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)).
وفي مرة أخرى يقولون: تواجهك بعض المشاكل المادية: ومن هو الذي لا يواجه المشاكل المادية في هذا العصر. وهكذا ترى ماذا يقصدون من وراء هذا الكلام: إنهم يقصدون إيهام العوام والجهال أن كلامهم قد تحقق. لقد حدث هذا علي، إذن لقد صدقوا.
وقد يخاطبون الناس بأسلوب الناصحين: كأن يقول أحدهم: انتبه وكن حذراً، فصحتك أغلى ما تملكه أو يقولون واحذر من أصدقاء السوء. وهكذا.
وبالطبع يزينون كتاباتهم هذه بقولهم بعدها: المفكر العالمي فلان، أو البرفسور فلان. بدلاً من أن يقول: المشعوذ فلان أو الدجال فلان. والملاحظ: أنهم يسرقون من بعضهم البعض. فما تجده في مجلة قد تجده بالنص بعد أسابيع في مجلة أخرى: لكن المشكلة هي في المتخلفين عقلياً الذين يصدقونهم، بل إن بعض الناس يتخذون القرارات في قضايا هامة في حياتهم كالزواج والطلاق أو السفر أو التجارة بناء على ما كتبه المنجم في تلك الأبراج. وهناك من يتقدم للزواج فتسأله الخطيبة ما هو برجك، فإذا كان برجه لا يوافق برجها كما قال العراف فيها فإنها ترفض الزواج منه، بل إن هناك من يحدد مواعيد الزواج باليوم والشهر بعد التشاور مع المنجم أو العراف. ولعلكم قرأتم أن الممثلة الفلانية تزوجت بعد أن حدد لها العراف يوم كذا وكذا وأنه يوم السعد، وهكذا وكل هذا من الكهانة والسحر ومن الكهانة التطير. وهو التشاؤم، وكان أهل الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر، ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع.
وكانوا يتشاءمون بالحيوانات أيضاً فإذا رأوا الهامة مثلاً وقعت على بيت أحدهم يظن أنه سيصيبه مكروه أو أحد من أهله، وكانوا يتساءلون أيضاً عن شهر صفر ويظنون أنه شهر مشؤوم، فأبطل ذلك الرسول وقال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)). والطيرة أمرها عظيم بل هي من الشرك لأنها تنسب الأفعال إلى غير الله. والمسلم الحقيقي هو الذي لا يبالي بالحوادث أو الوقائع التي تحدث لغيره ولا يربطها به ولا يتطير منها، لأنه يعلم أن شيء من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وبدلاً من التطير وربط ذلك بالنفع أو الضر فإن على العبد أن يتوكل على الله، وأن يعلم أن كل شيء يسير بقدر الله، وعليه بالاستخارة الشرعية في كل أموره.
وأن يكون متفائلاً دائماً لأن النبي : ((لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح والكلمة الحسنة)) [رواه البخاري].
وحتى ننبه إلى مثل هذه الأمور فأقسام التشاؤم والتطير والنحس عند الناس هي على التالي:
من أناس يتشاءمون بالأيام والشهر: كشهر صفر.
أو بالحيوانات: كالغراب، البومة، أو القط الأسود، أو بالأشخاص: كالأعور، أو القبيح أو المجذوم. أو بالأرقام: كرقم 13 عند النصارى: أو رقم 7 عند أهل البادية.
أو بالأصوات: كصوت الغراب، صوت الإسعاف والمطافئ، أو عند انكسار الكأس فيقولون: انكسر العقد، أو عند الضحك الكثير، أو عند رفة العين فيقولون: سيصيبنا مكروه، وعند حكة اليد يقولون: خير، وعند حكة الرجل يقولون: شر، وكذلك عند رفة العين اليمنى يقولون: خير، وعند رنة العين اليسرى يقولون: شر، أو يقولون عن أحدهم: إنه رجل منحوس، أو قولهم: خير يا طير، وغير ذلك من البدع والشركيات والمحرمات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
قال معاوية بن الحكم: قال قلت: يا رسول الله أموراً كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان، قال: ((فلا تأتوا الكهان)) ، قال: كنا نتطير، قال: ((ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم)).
أي أخبره بأن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده، لا ما رآه وسمعه.
وقال : ((ليس منا من تطير، ولا من تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سُحر له)).
وقانا الله جميعاً شر السحرة والكهانة والعرافة والتنجيم.
رغم أن هذا العصر يسمى عصر الحضارة والتقدم العلمي. إلا أن الناس قد تفشت فيهم هذه الأوبئة المنافية للعقيدة، وهذا يدل على أن الشعوذة والدجل لا تحارب بالتقدم العلمي والتكنولوجي بل إنها تحارب بالعقيدة.
وهي سلاح المسلم الفعال الذي يواجه به الشرور والإفساد في الأرض لذلك نحن نرى أن المجتمعات الكافرة ورغم تقدمها الكبير إلا أن الشعوذة والدجل والتنجيم والعرافة متفشية بينهم: فقد ترى أستاذاً في الجامعة يتردد على الكهنة. بل وحتى من المسؤولين بل وحتى من رؤساء الدول. وبعضكم ربما قد قرأ كتاباً يتكلم عن رئيس دولة كبرى كانت توضع له البرامج التي تتعلق بحياته الشخصية والعلمية بعد استشارة العرافين والكهنة.
إذا فالمصدر الوحيد الذي تستطيع من خلاله أن نقاوم هذه الهجمات الشرسة على الإسلام هو القرآن والسنة.
لكن المشكلة الكبرى أن كثيراً من الناس يتساهلون في إتيان الكهنة والعرافين بل إن بعضهم يسافرون إليهم ليفكوا لهم السحر، أو ليعرف مستقبله المالي، أو الحياتي أو يطلب منهم قراءة الكف أو الفنجان أو الودع والرمل وغير ذلك: طبعاً هو يفعل ذلك لأنه فقد الثقة بالله، وكثيرون هم الذين فقدوا الثقة بالله فما أن يصيبهم سحر أو مرض، أو عين، أو لم يرزق بأولاد، ما أن يصيبهم هذا حتى يفزعون إلى غير الله، سبحان الله، أين الله، أين الذي قال: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
الجؤوا إلى الله يا عباد الله، حققوا التوحيد، ثقوا بالله، وثقوا بأنه على كل شيء قدير، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وبعض الناس قد يقولون: بعض الكلام الذي يقوله الكاهن قد يحصل لي فعلاً، فكيف يكون دجالاً ومشعوذاً؟ والجواب: أن الكلام الذي أخبرك به الدجال إما أن يكون كلاماً عاماً من الممكن أن يحصل لأي إنسان كأن يقول: ترى غائباً من سفر بعيد: ومن الممكن جداً أن ترى غائباً من سفر بعيد.
وإما أن يخبرك بشيء خاص بك وهذا ممكن ولكن كيف؟ يشرح هذا النبي فيقول: ((إن الشياطين يركب بعضهم على بعض حتى يصلوا إلى السماء فيسمعون الخبر الذي تتناقله الملائكة)). الله عز وجل يوحي للملائكة: افعلوا كذا وكذا، وانزلوا كذا وكذا، وافعلوا لفلان كذا وكذا. فيسمع بعض الشياطين من الجن الخبر فينقلونه إلى الدجالين والكهنة الذين يخبرون به الإنس، ويكذبون على هذا الخبر الصحيح تسعة وتسعين كذبة. يأتي الكاهن فيخبر الإنسان بمائة خبر ليس منها إلا خبر واحد صادق، لكن الناس لا يتذكرون من الكلام الكاهن إلا المرة التي صدق فيها.
ويقولون: فعلاً لقد وقع ما قاله ولا يدرون أن هذا بسبب استراق السمع.
وبعضهم يقول: بمجرد أن ذهبت إلى الكاهن فإنه أخبرني باسمي واسم أبي وأمي وأخوالي وأعمامي ومهنتي ومهنتهم وهكذا. ولا يعرف أن الجواب هو في قوله الله: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]. فالشياطين يروننا ويرون أحوالنا، ويسمعون كلامنا دون أن نراهم وينقلون ذلك إلى الشياطين التي تعمل مع الكاهن الذي ذهبت إليه، ويعطونه كل المعلومات الضرورية عنك وهذا الأمر ثابت فقد أخبرنا بقوله: ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) ، وبالطبع فالشيطان الملازم للإنسان يعرف عنه كل شيء خاصة إذا كان هذا الإنسان لا يعرف ذكر الله وقراءة القرآن.
فالحذر الحذر من أهل الكهانة والدجل. ومن الذهاب إليهم وإلا فالنتيجة ستكون وبالاً على الإنسان في الدنيا والآخرة قال : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)).
وقال : ((من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
وقال : ((من أتى كاهناً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه. فقد برئ مما أنزل على محمد )).
لهذا فالواجب الحذر والتحذير من الكهانة والشعوذة وأهلها. والواجب علينا جميعاً أن نبلغ ولاة الأمور عن هؤلاء المشعوذين والدجالين لتأديبهم والأخذ على أيديهم.
ألا واتقوا الله يا عباد الله وحافظوا على عقيدتكم من الفساد أكثر مما تحافظون على صحة أبدانكم من الأمراض. فماذا يستفيد الإنسان إذا عاش سليم الجسم مريض العقيدة. فإن صحة البدن مع فساد العقيدة خسارة في الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء:115]. وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1696)
الزلازل
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صالح الجبري
الطائف
9/5/1420
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الذنوب2- الذنوب تستوجب العقوبة العامة.3- هلاك الأمم السابقة بسبب ذنوبها.4- الأسباب المادية والقدرية لحصول الزلازل.5- النصوص تحذر الأمة في عقوبتها بالزلازل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول الإمام ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
أيها الأخوة :
إن الذنوب على اختلافها هي في نفسها أمراض تحدث خللاً في الدين وفساداً في الأخلاق. وفي ذلك فساد وأي فساد للمجتمع. فقد حذر الله تعالى من المعاصي ونهى عن كل أنواع الفواحش والآثام على الإطلاق فقال سبحانه : وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151] وقال قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ [الأعراف: 33] الفواحش هي الذنوب، والإثم : الخطايا، والمعاصي والبغي : التعدي على الناس. وقال ((لا أحد أغير من الله)) ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود في باب غيرة الله وتحريم الفواحش.
والذنوب كلها مشؤومة وعواقبها وخيمة وما ينزل بالناس من نقم وعذاب،إنما هو من جراء ما كسبته أيدديهم، وإلا فإن الله غني عن عقاب الناس وتعذيبهم مَّا يَفْعَلُ ?للَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ [النساء: 147].
وقد جرت سنته تعالى في خلقه أن يعامل عباده حسب ما عملوا، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. [الروم: 41].
إذن فكل ما حصل أو سيحصل من بلاء وحوادث وكوارث وفساد في الأرض فمصدره ابن آدم،لأنه السبب فيه بإسرافه في الإجرام ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الأنفال: 53].
فالله عز وجل لا يزيل ما بقوم من العافية والنعمة والرخاء،فيبدلها بالآلام والزلازل حتى يغيروا ما بأنفسهم من الطاعة إلى المعصية وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل 112].
وشؤم هذه الذنوب والمعاصي والتي يعاقب الناس بسببها لا يصيب المباشرين لها فقط،بل يصل حتى للصالحين والمؤمنين، فقد سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها،سألت الرسول فقالت: أنهلك وفينا الصالحون، قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) ، والخبث:كل معصية عصي الله تعالى بها في البلاد أو البحر أو في الليل أو النهار.لذلك كان من الواجب علينا جميعاً أن نحذر من ذلك وألا نأمن مكر الله خاصة مع ارتكاب المعاصي قال تعالى : أَفَأَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـ?تاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ?لْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ?للَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [الأعراف: 97 ـ 99].
ومن سنته تعالى أنه قد يمهل أقواماً ويرجئ عذابهم إلى وقت ما،ويمدهم مع ذلك بالأموال والبنين،ويوسع عليهم في حياتهم،ويسهل لهم الصعاب ويمهد لهم سبل المعاش؟.
فيظن الجهال منهم بسنة الله أنهم على خير،وأنهم ناجون غير معاقبين،والحقيقة أن الله يستدرجهم ويملي لهم من حيث لا يتصورون حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى : أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ?لْخَيْر?تِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون: 55، 56].
ويقول تعالى : وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا [الحج: 48]. الإملاء : الإمهال والتأخير.. كما قال تعالى إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً [آل عمران: 187].
ووجود الأموال والأولاد وكل ما في الدنيا من مغريات،كل ذلك لا قيمة له عند الله إذا ما كان أصحابها يعصون ربهم وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً [سبأ: 27]. نعم إلا من آمن وعمل صالحاً، فالله سبحانه لا يعتبر أحدًا لعظيم جاهه ولا رئيس لرياسته، ولا غني لغناه وثروته،ولا شريف لحسبه ونسبه،ولا جميل المنظر لصورته وبهائه،إنما المعتبر عنده سبحانه المؤمن الذي يخضع له، قال سبحانه : قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان: 77]. أي ما يبالي بكم، ولا لكم عنده قدر ولا قيمة. لولا دعاؤكم أي لولا وجود إيمانكم وعبادتكم وقال : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). رواه مسلم عن أبي هريرة.
ولقد أهلك الله عز وجل أممًا وأقواماً وقروناً وأجيالاً،كانوا أشد منا قوة وأطول أعماراً وأرغد عيشاً وأكثر أموالاً،فأستأصلهم وأبادهم، ولم يبق لهم ذكر ولا أثر، وتركوا وراءهم قصوراً مشيدة وآباراً معطلة وأراضٍ خالية وزروعاً مثمرة،ونعمة كانوا فيها فاكهين، فأورث كل ذلك قوماً آخرين فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ?لسَّمَاء وَ?لاْرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان: 29] وفي هذا يقول سبحانه: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ?لسَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ?لأنْهَـ?رَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءاخَرِينَ [الأنعام: 6]. وقال وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكرًا فذاقت وبال أمرها خسرًا. ما السبب؟ السبب المعاصي والذنوب، وإلا فما الذي أغرق قوم نوح بالطوفان فلم يبق على وجه الأرض إلا ما كان في السفينة؟ ما الذي أغرقهم إلا المعاصي والشرك. قال تعالى عن دعوة نوح رب لا تذر على الأرض من الكافين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا.
وقوم عاد : لماذا أرسل عليهم الريح فأصبحوا عبرة للمعتبرين كما قال تعالى وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية. أهل الذنوب والمعاصي.
وقوم ثمود : لماذا أهلكهم الله بالصحية فماتوا عن بكرة أبيهم؟ وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها. [هود: 17].. إنها الذنوب والمعاصي.
وقوم لوط : لماذا أمر الله جبريل عليه السلام برفع مدنهم إلى أعلى الفضاء ثم جعل عاليها سافلها مع رجمهم بالحجارة من سجيل فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد. [هود: 82, 83].
ولماذا أغرق الله فرعون وقومه في البحر؟ فالأجساد غرقى والأرواح حرقى، النار يعرضون عليها صباحاً ومساءً فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين،وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. [القصص: 41]. وهكذا باقي الأمم السابقة كقوم شعيب وقارون وقوم تبع وغيرهم قال جل وعلا: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض. ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. [العنكبوت: 40] وإذا كان العقاب قد حصل لهؤلاء الأقوام السابقين وقد كانوا يفعلون بعض المعاصي وليست كلها. فقوم لوط.. كانت جريمتهم اللواط، وقوم شعيب تطفيف الكيل والميزان، وهكذا فكيف إذا اجتمعت المعاصي والكبائر كلها في أمة، كما هي مجتمعة الآن في بلاد المسلمين.
والمتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجد أن لديهم من البدع والشرك وسائر المعاصي ما الله به عليم. فترى الشرك الأكبر من الطواف حول القبور والعكوف حولها وسؤال الأموات. والبدع المنتشرة مكان السنن إضافة إلى محاربة الإسلام سراً وجهراً. وانتشار الربا وأكل أموال الناس بالباطل وكثرة الفواحش كالزنا وتبرج النساء وشرب الخمور والفجور،وآفة الآفات الحكم بغير شرع الله والتحاكم إليه والظلم والجور.
وإذا كانت كل هذه المصائب تحدث في بلاد المسلمين إلا من رحم الله فهل تستغرب بعد ذلك أن يعاني المسلمون هذه الأيام من الهزائم الحربية على أيدي أعدائهم وهل تستغرب حصول المصائب الأخرى كالفقر والمرض والتخلف والتعرض للفيضانات والسيول والزلازل والخسف وغير ذلك. هل نستغرب؟ لا تستغرب أبداً وصدق الله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. [الشورى: 30]. اللهم إنا نسألك أن تعصمنا جميعاً من الوقوع في الذنوب والمعاصي،وأن تعيننا على التوبة منها وتركها إنك على كل شيء قدير.
كلنا قد سمعنا وقرأنا ورأينا عن الزلزال الذي وقع من قريب. صح إخواننا المسلمين في بلد مجاور أكثريته من المسلمين. نسأل الله أن يعافيهم وأن لا يبتلينا. وفي تفسير هذه الحوادث انقسم الناس إلى قسمين،ولنبدأ بالقسم الأول وهم من الذين يحشرون عقولهم في كل شيء. ويزعمون أنهم يفهمون في كل شيء ويزعمون العلم والثقافة. وإذا سمع الإنسان العادي أحدهم يتكلم يتعجب من فصاحة ورص الكلام المنمق والذي يحرص فيه على الابتعاد عن الإشارة إلى الدين بأي شكل من الأشكال وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.
هؤلاء وأمثالهم من أصحاب المذاهب العلمانية لا يعتقدون أن لله دخلاً فيما يحدث ويحاولون خداع الناس بقولهم: إن هذه الدعوات من أفعال الطبيعة وإنها عادة طبيعية وغير مقصودة. فإذا حدث زلزال أو خسف أو غرق أو عواصف أو صواعق فهذا كله لا يربطون بينه وبين العقوبة الإلهية لماذا؟ حتى لا يتنبه الناس لفعالهم ولإفسادهم وجرائمهم وقد ذكر القرآن هذا المعنى بقوله وما أرسلنا في قربة من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون. ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة...ز وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون. [الأعراف: 94].
ورغم هذا يجادلون في هذه الحوادث ولا يربطونها بالله ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال. [الرعد 13].
وفي عهد الرسول صلى الصبح وكانت ليلة هطلت فيها الأمطار وكثرت فيها السحب فلما انتهى من صلاته أقبل على الناس وقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم بما قال، قال : ((قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال : أمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب..))
إذن فأصحاب هذا الرأي من الماديين رأيهم لا وجه له بل هو رأي قد يهلك من اعتنقه أن يظنون إلا ظنًا وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى.
أما القسم الثاني في نظرهم إلى مثل هذه الحوادث فهم أهل الإيمان. أهل الإيمان الذين يعرفون من كتاب ربهم وسنة نبيهم أن هذه الحوادث إنما هي آيات يخوف الله بها عباده لكي يرجعوا إليه يقول سبحانه وتعالى معقباً على إهلاكه قوم لوط وتخويفاً لمن بعدهم وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم [الذاريات: 37] ويقول وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا. [الإسراء :8]. وقال عن الخسوف والكسوف: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده)).
ولما حدث الخسف بقارون فعلاً لم يكن السبب أن القشرة الأرضية كانت لينة وهينة بل السبب أنه عصى الله ورسوله قال الله عنه: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص: 81].
وعندما أخبر النبي أن هذه الأمة سيكون فيها خسف ومسخ وقذف لم يذكر أن السبب هو تصدع سطح الأرض وانشقاقها،إنما السبب هو المعاصي فقال: ((سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف. إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)) [4149 صحيح الجامع].
وعندما أخبر عن الرجل الذي خسف لم يقل: إن السبت في الخسف هزة أرضية بل خسف به بسبب تكبره وتجبره قال : ((بينما رجل يجد يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) البخاري.
وعندما وقعت هذه أرضية في المدينة على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فجاء إلى أم المؤمنين عائشة عنها وسألها؟ فماذا قالت له؟ قالت: كثرت الذنوب في المدينة، فماذا قال ؟ جمع الناس وقاله لهم: والله ما رجفت المدينة إلا بذنب أحدثته أو أحدثتموه، والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبداً.
وقال كعب : (إنما تزلزل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي فترعد خوفًا عن الرب جل جلاله أن يطلع عليها).
لقد أخبر إلى أن الزلازل ستحدث وتكثر حين يكثر الفساد وتظهر الفتن وستكون من علامات الساعة فقال : ((لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتها واحدة،وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم. وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان )). وللعلم فهذه الزلازل والآيات بصفة عامة؟ ليست مختصة بأرض معينة،ولا بمكان معين؟ فالله عندما حذر الناس من الخسف بسبب ذنوبهم لم يحدد جنسيات معينة ولا بلاداً مرصوفة، بل خاطب الجميع وقال أَءمِنتُمْ مَّن فِى ?لسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ?لأرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ [الملك: 16].
وقال أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل: 45].
إذن من الواجب علينا جميعاً معشر المسلمين أن نرجع إلى الله وأن نتوب إلى الله حتى لا نتعرض لغضب الله سبحانه وتعالى وكما قال تعالى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى?. [طه: 81].
أما إخواننا وما حصل لهم فنحن لا نشمت بهم، ومعاذ الله أن نفعل ذلك، بل ويعلم الله أننا حزنا لحزنهم، وتأثرنا بتأثرهم، فمن كان منهم مؤمناً يصلي ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويأتي بما أوجب الله عليه فهو شهيد بإذن الله كما قال : ((الشهداء خمسة، المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله )). ونسأل الله العظيم أن يرحمنا وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1697)
حقوق الزوج على زوجته
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... معرفة مكانته وأهميته لها في الآخرة.2-... طاعة الزوجة له.3-... حفظ عرضه.4-... إكرام أهله.5-... الاقتصاد في مطالبها المادية.6-... أن تعينه على الخير وتدله عليه.7-... التزين له.8-... إجابة دعوته إذا دعاها.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الحمد لله :
أما بعد :
أول حق للزوج على زوجته، هو معرفة مكانته وأهميته بالنسبة لها. ومعرفة هذا الحق، هامة جداً.لأن مكانة الزوج في الإسلام هي مكانة تفوق كل تصور.ففي الحديث الذي رواه حصين بن محصن: قال(حدثتني عمتي قالت: أتيت رسول الله في بعض الحاجة، فقال: ((أذات زوج أنت؟))، قلت: نعم، قال: ((كيف أنت له؟))، قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه (أي لا أقصر في طاعته وخدمته.قال: ((فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك)) [أحمد والنسائي].
أي أن طاعتك له تدخلك الجنة، ومعصيتك له تدخلك النار.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض.دخلت الجنة)). [ابن ماجه والترمذي كتاب النكاح].
وقال فيما رواه عنه أبو هريرة ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)) [آداب الزفاف الألباني ص 286].
ومما يؤسف له أن الكثير من الزوجات يقمن بالصلاة والصيام وغير ذلك من أعمال البر لكنهن يهملن طاعة الزوج. مع أن الله عز وجل الذي أمر بالصلاة والصيام، هو سبحانه الذي أمر الزوجة بطاعة زوجها والعمل على رضاه. لذلك فينبغي عليها أن تحرص على رضا زوجها ولا تهمل حقوقه. وعلى كل فالزوجة الصالحة هي التي تفهم ذلك جيداً، وتتصرف على ضوء هذا الفهم، وتخشى الله في زوجها. لهذا يقول سبحانه وتعالى : فَ?لصَّـ?لِحَـ?تُ قَـ?نِتَـ?تٌ حَفِظَـ?تٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ?للَّهُ [النساء: 34]. أي أن النساء الصالحات، مطيعات لله ولأزواجهن، حافظات لغيبتهم إذا غابوا، فيحفظن أنفسهن، ويحفظن أموال أزواجهن حتى يعودوا.
ومن الطاعة للزوج حسن المعاشرة.وحسن المعاشرة.ذوق وتربية، وبه دوام المحبة والرحمة. والمعاملة بالحسنى من طرف الزوجة هو دليل واضح على حسن تربيتها، وعلى استقامتها وصلاحها (عن أبي أمامة عن النبي أنه كان يقول: ((ما استفاد المؤمن – بعد تقوى الله عز وجل – خيراً له من زوجة صالحة إذا أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
وكثيراً ما تحل المشاكل الكبيرة، بالبسمة الحلوة، والمجاملة الرقيقة، والأسلوب المهذب من طرف الزوجة، وحتى لو أغضبها زوجها وقسى عليها فإنها تستطيع أن تنهي المشاكل بمبادرة منها لو أرادت: لهذا أثنى على هذا النوع من النساء وأخبر عنهن أنهن من أهل الجنة فقال : ت ((ألا أخبركم بنسائكم في الجنة)) ، قلنا: بلى يا رسول الله قال: ((ودود ولود)) الودود التي تتودد إلى زوجها، والولود: التي ليست بعقيم، بل هي كثيرة الولادة، ودود ولود، ((إذا غضبت أو أُسيء إليها، أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك، لا أكتحل بغمض (أي لا أنام) حتى ترضى)) [الصحيحة 287].
ونحن نقول هذا الكلام لأن هناك من الزوجات من لا تبتسم لزوجها أو تراضيه، إلا في المناسبات، ولا تكلمه الكلمة الطيبة، إلا إذا كانت تود نزول السوق لشراء حاجة تخصها، أو تود الخروج في نزهة أو زيارة، ولو كانت تفهم جيداً لعرفت أنها كلما كانت لينة ومحبة وعطوفة على زوجها، فإنها هي المستفيدة الأولى بعد ذلك، لأن الزوج سيمنحها من تقديره وحسن معاملته الشيء الكثير، إضافة إلى تلبيته لرغباتها وطلباتها: أما وإن فعلت العكس وأغضبته وآذته فإنها ستتعرض أولاً لغضب الله وسخطه، فعن ابن عمر عنهما مرفوعاً: ((اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع إليهم، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع)).
لهذا فلتحذر الزوجة من أن تكون من أولئك النساء المولعات بمخالفة أزوجهن، فلا تؤمر الواحدة منهن بشيء إلا سارعت إلى مخالفته حتى ولو كان في مصلحتها، إن هؤلاء يقعن في سخط الله، ويعرضن حياتهن للدمار، بل إن الحور العين تدعو عليهن إن فعلن ذلك، فعن معاذ بن جبل مرفوعًا: ((لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل ـ أي ضيف ـ يوشك أن يفارقك إلينا)). [الصحيحة 173].
ومن الطاعة للزوج أن لا تطيع أحداً في معصيته ولو كان أبويها. لأننا نسمع أن بعض الزوجات يطعن أمهاتهن في معصية أزواجهن، ويؤذين أزواجهن بناءً على توصيات الأمهات.وهذا العمل حرام ولا يجوز أبداً فحرام على الأم أن تحرض ابنتها على زوجها طالما كان الزوج متقياً لله فيها، وحرام على الزوجة أن تطيع أمها أو أي أحدٍ سواها، في معصية زوجها، دونما مبرر شرعي.لهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأن المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك لها من أبويها، وطاعة زوجها أوجب وقال: "لا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه، إذا كان متقياً لله فيها".
ومن الطاعة تنفيذ كل أوامر الزوج، في غير معصية الله.فلا تدخل أحداً بيته إلا بإذنه، ولو كان أقرب الناس إليها وإليه لقوله : ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)).
ولا تخرج من بيته إلا بإذنه لو كانت ذاهبة إلى أبيها وأمها، حتى ولو كان إلى المسجد لقوله عن ابن عمر ((إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها)) هذا يدل على أن عليها أن تستأذن بالخروج إلى أي مكان.
وأن لا تتصرف في ماله إلا بإذنه لقوله فيما رواه عنه أبو أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول في حجة الوداع: ((لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه)) ، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟ قال: ((ذاك أفضل أموالنا)).
ولا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، ولو صامت ثم دعاها إلى فراشه، وجب عليها أن تستجيب له وتفطر.لأنه لما جاءت امرأة صفوان بن معطل تشكو إلى النبي أموراً ذكرت منها: أنه يفطرها إذا صامت فسأله عما قالت فقال"وأما قولها يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب لا أصبر، فقال يومئذٍ: ((لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها)).
وكذلك لا تعتمر ولا تحج تطوعاً إلا بإذنه، أما الحج الواجب فتستأذن مجاملة فقط فإن لم يأذن حجت بدون إذنه مع محرم، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وينبه هنا إلى أن الطاعة المطلوبة من المرأة لزوجها إنما هي في حدود الشريعة، وفي غير معصية الله.فمن أمرها زوجها بترك الحجاب، أو شرب المسكرات والمخدرات، أو التبرج أمام الرجال، أو التفريط بشعائر الدين، فمن أمرها زوجها بذلك فهي ليست ملزمة بطاعة زوجها، بل يجب عليها أن تعصيه لأنه كما قلنا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.وفي الحديث عن عائشة أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها فتمعط شعر رأسها.فجاءت إلى النبي فذكرت ذلك له: فقالت"إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها فقال : ((لا؛ إنه قد لعن الموصلات)).
ومن الحقوق: حفظ عرض الزوج بعدم التبرج والتكشف على غير المحارم، والخلوة بالأجانب حتى ولو كان شقيق زوجها أو قريبه، وفي هذا يقول ((إياكم والدخول على النساء)) قيل: أرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: ((الحمو الموت)).
لهذا فعليها أن تصون سمعته فلا تجعلها مضغة في الأفواه خاصة بالنسبة للتبرج والسفور أمام الرجال أو في الأسواق أو عن طريق الهواتف وقد توعد أمثال هؤلاء بقوله: ((مثل نسائكم المتبرجات المتخيلات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)).
ومن الحقوق: أن تكرم أهله وأقاربه خصوصاً الوالدين: فعليها برهما وإكرامهما، تقديراً لزوجها واحتراماً له. وما يذكر من الخلاف الواقع بين أم الزوج وبين الزوجة هو أمر مستغرب. وهو من كيد الشيطان وإغوائه لإفساد الحياة الزوجية، وحمل الزوج على عقوق والديه: وعلى الزوجة أن تتحمل وتصبر وأن تبتعد عن إثارة المشاكل مع أم زوجها. وعدم الشكوى إلى الزوج من والدته، حتى لا تفسد بيتها، وعليها أن لا تضع زوجها في خيارات صعبة مثل: التضحية بأمه أو بزوجته.لأنه عليها أن تعلم أن الأم هي أم،وهي أم واحدة ولا يمكن استبدالها حتى ترضى الزوجة. لهذا فالحذر من هذا الأمر.
وعلى الزوجة أن تقرب بين زوجها وأهله بدلاً أن تفرق بينهم، لأن عدم تقديرها لأهله وإبعاده عنهم جريمة تعاقب عليها الزوجة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول النبي : ((ليس منا من لم يجل كبيرنا)) ليس منا من لم يوقر كبيرنا، وعلى الزوج أن يكون في هذا رجلاً وأن لا تسيطر عليه المرأة فتوقعه في عقوق والديه، ويكفيه قول النبي ((لا يدخل الجنة عاق)).
ومن حقوق الزوج أن لا تطالبه بما يرهقه وبما هو فوق طاقته، وأن تراعي ظروفه المالية وحالته الاجتماعية.فمثلاً بالنسبة للسكن يقول تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ [الطلاق: 6]. أي أن يكون السكن على قدر طاقة الزوج وليس شرطاً أن يكون قصراً أو فلة أو شقة فخمة كما تطالب به بعض الزوجات. والحقيقة أن بعض الزوجات لا يهمها إلا أن يوفر الزوج لها ما تريده من سكن فخم وحلي وملابس وغيرها من الطلبات، بغض النظر عن حالة الزوج. قد يستدين، قد يسرق قد ينهب، قد يرتشي هذا لا يهم. المهم لديها هو توفير طلباتها بأي شكل كان، وصدق الله إِنَّ مِنْ أَزْو?جِكُمْ وَأَوْلـ?دِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَ?حْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. وبعض النساء ترهق زوجها بكثرة شراء الحلي والذهب ولا تدري أنها بتصرفها هذا قد تخسر الدنيا والآخرة.
نحن نقول هذا الكلام لأن كثيراً من النساء تركن الاعتدال في الزينة وشراء الحلي والذهب. وذهبن يعبدن المظاهر والزخارف. لهذا بين أن تعلق النساء بالمظاهر والزينة من حرير وحلي سبب للهلاك في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فعن أبي سعيد أن نبي الله خطب خطبة فأطالها، وذكر فيها أمر الدنيا والآخرة، فذكر أن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلفه من الثياب أو الصفة، ما تكلف امرأة الغني.
أما في الآخرة فإن انشغال المرأة بالحرير والذهب عن طاعة ربها فإنه يعرضها للعقاب يوم القيامة قال : ((ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر)).
لهذا فالاعتدال والقناعة ضروريان وكافيان للزوجة في تحقيق مطالبها. وعليها أن ترضى بالقليل وأن تشكر زوجها على ما يقدمه لها من طعام وشراب وثياب، مما هو في قدرته، وأن تدعو له بالعوض ولو لم تحصل على كل ما تتمناه.
ونحن نقول هذا الكلام لأن بعض النساء يظل زوجها يحسن إليها فترة طويلة ثم إذا حدثت مشكلة بينه وبينها ولو حول شراء قطعة حلي أو أثاث ، فترى الزوجة تنكر فضل زوجها وإحسانه لها وتقول له: أنا لم أر منك طيباً أبداً منذ تزوجنا. أنت أنت وأنت، ولو علمت الزوجة بأن هذا الكلام من خطورة عليها لتمنت أن يقطع لسانها ولا تتكلم بهذا الكلام لأن النبي حذر من ذلك أشد التحذير قالت أسماء بنت زيد الأنصارية قال: ((إياكن وكفر المنعمين)) فقلت: يا رسول الله، وما كفر المنعمين؟ قال: ((لعل إحداكن تطول أيمتها بين أيوميها، ثم يرزقها الله زوجاً ويرزقها منه ولداً، فتغضب الغضبة فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط)).
إن مجرد تناسي الزوجة لفضل زوجها يعرضها إلى غضب الله وعقابه قال : ((لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغنى عنه)).
بل إن بعضهن قد يطالبن أزواجهن بطلاقهن عندما يغضبن، بسبب هذه الحاجات الدنيوية الفانية وفي هذا يقول : ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس)) أي من غير حالة شديدة تدعوها إلى ذلك كأن يتعلق الأمر بحدود الله؟ فيقول: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة)).
نسأل الله السلامة والعافية وأن يجنبنا غضبه وعقابه.
ومن الحقوق أن تذكره بطاعة الله إذا نسي أو غفل: إذا نام من الفجر والعصر مثلاُ، إذا نسي أن يصل والديه, إذا ترك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا من أجل هذا يقول : ((إن من أفضل ما يتخذه الإنسان: زوجة تعينه على إيمانه)) ثم يهيب بالزوجين معاً بأن يجتهد كل منهما في إعانة الآخر على طاعة الله فيقول ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء (رش في وجهها الماء) ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)).
ومن الحقوق أيضاً : أن تتزين لزوجها: وللأسف فبعض الزوجات لا يتزينّ ولا تتطيبن إلا عند خروجهن من المنزل وإلى الأسواق والشوارع. أما عندما تكون في المنزل فحدث ولا حرج فهي طوال الوقت بملابس المطبخ. ومحملة بروائح الطبخ والنفخ، وغير مهتمة بنظافة أو ترتيب.مما ينتج عنه نفور الزوج منها ، خاصة عندما يرى الكاسيات العريات في أتم زينة وأحسن هيئة، مما ينتج عنه حدوث المشاكل بينهما. وقد حث على أن تتزين النساء لأزواجهن ففي الحديث عن جابر قال كنا مع النبي في غداء، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل فقال : ((أمهلوا حتى تدخلوا عشاءً لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)) والشعثة هي البعيدة العهد بالغسل وتسريح الشعر والنظافة والغيبة التي تغيب عنها زوجها.وفي هذا الحديث بيان على أن المرأة مادام زوجها حاضراً مقيماً فهي دائمة التزين، ولا تهجر هذه الخصلة إلا عند غياب زوجها لهذا على الزوجة الصالحة أن تتزين لزوجها وتتجمل له لأنه إذا لم تتزين وتتجمل لزوجها، فلمن تتزين. وبالطبع يدخل في هذا نظافة منزلها وترتيبه لأن هذه الأمور، من أهم أسباب دوام الحياة الزوجية واستمرارها.
ومن أهم الحقوق: إجابة دعوة الزوج إلى الفراش. فلا يحق لها أن تمنعه نفسها متى طلب منها ذلك لأن من أعظم غايات الزواج إحصان النفس بالجماع الحلال. وعدم استجابة الزوجة لزوجها قد يترتب عليه عواقب وخيمة وقد تتعرض الحياة الأسرية للهدم والتصدع. لأنه قد يخيل للزوج أن زوجته لا تحبه، أو قد يدفعه ذلك إلى قضاء شهوته بطريقة غير مشروعة.
لهذا قال ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه: فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)).
وقال: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح)). لهذا على الزوجة الاهتمام بهذا الحق والاستجابة لزوجها. خاصة في هذا العصر الذي ينتشر فيه الإغراء والتبرج. فما يراه الرجل سواء في المنزل أو في الشارع أو في الأسواق من تبرج للنساء الجميلات، يؤدي به إلى الإثارة والشهوة. وقد نبه إلى هذا بقوله ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه)).
وليس لها أن تنشغل عن ذلك الواجب ولو بأي أمر من الأمور لقوله : ((إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور)) ، أي وإن كانت تخبز على الفرن.
وننبه هنا إلى عدم طاعة الزوج في هذا الأمر، إذا طلب من زوجته ما لا يحل له، كما لو طلب بطلب منها الوطء في زمان الحيض والنفاس، أو ففي غير محل الحرث، أو وهي صائمة صيام فريضة كرمضان، وذلك لقوله : ((لا طاعة لبشر في معصية الله، إنما الطاعة بالمعروف))..
ونختم الآن بذكر هذه القصة الجميلة والتي توضح كيف كان زوجات السلف الصالح كيف كن يعاملن أزواجهن فلعل زوجات العصر الحاضر يستفدن من ذلك.
قابل القاضي شريح الشعبي يوماً فسأله الشعبي عن حاله في بيته، فقال له: " من عشرين عاماً لم أر ما يغضبني من أهلي قال له : كيف ذلك؟، قال شريح " من أول ليلة دخلت على امرأتي، رأيت فيها حسناً فاتنا وجمالاً نادراً، فقلت في نفسي: فلأطهر وأصلي ركعتين شكراً لله، فلما سلمت، وجدت زوجتي تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، يقول: فقمت إليها ومددت يدي نحوها: فقالت على رسلك يا أبا أمية كما أنت، ثم قالت: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأصلي على محمد وآله، إني امرأة غريبة، لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكره فأتركه.
وقالت: إنه كان في قومك من تتزوجه من نسائكم، وفي قومي من الرجال، من هو كفء لي ولكن إذا قضى الله أمراً كان مفعولاً، وقد ملكت فاصنع ما أمرك به الله، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
قال شريح: "فأحرجتني والله يا شعبي – إلى الخطبة في ذلك الموضع، فقلت: الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على النبي وآله وأسلم وبعد: فإنك قلت كلاماً إن ثبت عليه يكن ذلك حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك، أما إني أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها. فقالت: كيف محبتك لزيارة أهلي؟، قلت: ما أحب أن يملني أصهاري، فقالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك فآذن له، ومن تكره فأكره؟، قلت: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء. قال شريح: فبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها حولاً لا أرى إلا ما أحب.
فلما كان رأس الحول، جئت من مجلس القضاء، فإذا بفلانة في البيت قلت من هي؟ قالوا (ختنك- أي أم زوجتك) فالتفتت إلي وسألتني: كيف رأيت زوجتك قلت: خير زوجة فقالت: يا أبا أمية إن المرأة لا تكون أسوء حالاً منها في حالين. إذا ولدت غلاماً، أو حظيت عند زوجها، فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم شراً من المرأة المدللة، فأدب ما شئت أن تؤدب وهذب ما شئت أن تهذب. يقول : فمكثت معي عشرين عاماً لم أغضب عليها في شيء إلا مرة، وكنت لها ظالماً.
وهكذا فتلكن النساء، وهكذا فلتكن الزوجات: فهل تتعلم الزوجات في هذا العصر، هذه الأخلاق وهذه المكارم.إن مثل هذا يمكن أن يحدث لزوجاتنا في هذا العصر وهو ليس بمستحيل، ونحن نعرف أسراً تعيش هذه الحياة الطيبة التي ذكرناها.إن هذا ممكن ولكن بشرط واحد وهو أن يحول الإنسان بيته وزوجته وأولاده ونفسه، إلى الالتزام بشرع الله وإقامة أوامر الدين كاملة، وسيرى بعد ذلك تغير حياته وكيف تنتهي المشاكل الزوجية وكيف تصير الأمور.
اللهم صل.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1698)
السحر
التوحيد
نواقض الإسلام
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... معنى السحر.2-... السحر في الأمم القديمة.3-... أنواع السحر (تخييل ، عقد ورضى ، أدوية وعقاقير).4-... سحر الصرف والعطف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
السحر هو المرض العضال والوباء الأسود الذي ابتليت به البشرية كلها ، ويتم ذلك باتحاد بين شيطان من الجن وشيطان من الإنس على أن يكون الهدف بينهما واحداً ، وهو اتعاس مجموعة من البشر.
والسحر أخطر أمراض العصر لأنه سلاح فتاك خفي يستخدمه شياطين الإنس في إشقاء أعدائهم من بني آدم.
ولغباء البشر وحقد بعضهم على بعض ولأن قلوبهم تنطوي على شر كثير وحسد كثير للناس ولأنهم أصحاب شهوات حقيرة ، ولا يعرفون طريقاً إلى إيقافها أو منعها ، لذلك يرون طريق الضلال والسحر هو الطريق الذي يحققون من خلاله بعض ما في نفوسهم من الرغبات الشريرة في أذية خلق الله والتنكيل بهم والإفساد في الأرض بغير الحق فحق عليهم قول الله تعالى : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:21، 22].
وهم مع ذلك لغبائهم الذي لا حدود له قد اشتروا الدنيا بالآخرة ، وآذوا إخوانهم المسلمين ، والمصيبة أنهم بعد ذلك قد يصلون ويصومون ويتصدقون ، فتباً لهم ، ومقتاً لهم ما أحقرهم ، وما أسفلهم ، إنهم مجرمون ، مجرمون يستحقون اللعن في الدنيا والآخرة أُولَئِكَ ?لَّذِينَ ?شْتَرَوُاْ ?لضَّلَـ?لَةَ بِ?لْهُدَى? وَ?لْعَذَابَ بِ?لْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى ?لنَّارِ [البقرة: 175].
إن موضوع السحر موضوع مهم وخطير.وقد انتشر انتشاراً كبيراً خاصة في السنوات الماضية، ومحترفو السحر يعملون ليل نهار للفساد والإفساد مقابل دراهم يتقاضونها من ضعاف النفوس وشرار الناس الذي يحقدون على إخوانهم المسلمين ، ويشفون برؤيتهم وهم يعانون ويتعذبون من آثار السحر ، لهذا فلابد بل هو من الواجب أن نبين هذا الأمر للناس ، وأن يوضح لهم خطره وضرره ، وأن نبين لهم العلاج الشرعي له حتى لا يذهب الناس إلى السحرة الفجرة ليعلموا لهم سحراً ، أو ليعالجوا لهم مريضًا.
هناك تعريفات عدة للعلماء عن السحر منها:قول الإمام ابن قدامة المقدسي:هو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له، وله حقيقة، فمنه ما يقتل وما يمرض ، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه ، وما يبغض أحدهما إلى الآخر أو يحبب بين اثنين.
ولا يمكن عمل السحر إلا بالاتفاق بين الساحر وشيطان من الجن يساعده في ذلك.قال العلماء السحر:هو اتفاق بين ساحر وشيطان على أن يقوم الساحر بفعل بعض المحرمات أو الشركيات في مقابل مساعدة الشيطان له وطاعته فيما يطلب منه.
والشيطان لا يساعد الساحر حتى يثبت الساحر ولاءه المطلق له ويخضع له ويؤمن به ويكفر بالله قال العلماء : من السحرة من يرتدي المصحف في قدميه يدخل به الخلاء، ومنهم من يكتب آيات من القرآن بالقذارة. ومنهم من يكتبها بدم الحيض ومنهم من يكتب آيات من القرآن على أسفل قدميه، ومنهم من يصلي بدون وضوء ، ومنهم من يظل جنباً ، ومنهم من يذبح للشيطان ، ومنهم من يخاطب الكواكب ، ويسجد لها من دون الله، ومنهم من يأتي أمه أو ابنته ، ومنهم من يكتب طلسماً بألفاظ غير عربية تحمل معان كفرية.
ومن هنا تبين لنا أن الجني لا يساعد الساحر ولا يخدمه إلا بمقابل وهذا المقابل هو الكفر ، وكلما كان الساحر أشد كفراً كان الشيطان أكثر طاعة له ، وأسرع في تنفيذ أمره، وإذا قصر الساحر في تنفيذ ما أمره به الشيطان من أمور كفرية ، امتنع الشيطان من خدمته وعصى أمره.فالساحر والشيطان قرينان التقيا على معصية الله، وهذا واضح للعيان، وإذا نظرت إلى وجه الساحر فإنك ستجد ظلمة الكفر مسدولة على وجهه كأنها غمامة سوداء.ولو تبينت أكثر لوجدت الساحر يعيش في شقاء نفسي مع زوجته وأولاده.فهو لا يستطيع أن ينام هادئ البال مرتاح الضمير بل إنه يفزع من النوم مرات ومرات.وصدق الله وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه: 124].
والسحر موجود على ظهر الأرض منذ القدم قال تعالى كَذَلِكَ مَا أَتَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَـ?حِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52]. وهذه الآية تدل على أن جميع الأمم واجهت رسلها بهذه المقالة الظالمة وهي اتهامهم بالسحر أو الجنون. وهذا يعني أن جميع الأمم عرفت السحر.
ومن الأمم السابقة التي مارست السحر وضلت به أهل بابل قال تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ [البقرة: 102].
ومن ذلك قوم فرعون:وقد أخبرنا الله سبحانه في كتابه الكريم عن المواجهة بين موسى الذي بعثه الله بالآيات البينات وبين قوم فرعون من السحرة والكهان، فهذا فرعون يقول كما حكى الله عنه قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـ?ذَا لَسَـ?حِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَ?بْعَثْ فِى ?لْمَدَائِنِ حَـ?شِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ ?لسَّحَرَةُ لِمِيقَـ?تِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ ?لسَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ ?لْغَـ?لِبِينَ [الشعراء: 34 ـ 40].
لهذا فالسحر موجود على مدى الأزمان والأعوام.
ولما جاء الإسلام ، شن حرباً لا هوادة فيها على السحرة والكهان والعرافين، وعدّ الرسول السحر واحداً من الجرائم السبع الكبرى ، قال : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قالوا: وما هن يا رسول الله ، قال: ((الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
بل وأخبر أن الذي يأتي كاهناً فإنه يكفر والعياذ بالله فقال ((من أتى كاهناً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل على محمد)). هذا بالذي يذهب إلى الساحر فكيف بالسحر، فهو بالكفر أولى، لهذا قال الله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ [البقرة: 102].
وذهب العلماء إلى وجوب قتل الساحر وعدم صحة توبته، وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه أمر ولاته في شتى الأنحاء الإسلامية بقتل كل ساحر وساحرة وروى هذا عن أكثر من واحد من الصحابة.
وتلاحظون أننا لم نناقش هنا مسألة هل السحر حقيقة أم لا: فالأمر واضح، والسحر قد ذكر في القرآن في آيات كثيرة. بل إن الرسول قد سحر.سحره اليهود لعنهم الله وقبح وجوههم لكن الله فضحهم وشفى نبيه. وللعلم فوقوع المرض للنبي بسبب السحر لا يؤثر على نبوته فهو معصوم ومحفوظ فيما يبلغ عن الله.لكنه يصيبه ما يصيب الناس من المرض والوجع زيادة في مرتبته في الآخرة.
إذن فالسحر حقيقي:وهو ينقسم إلى أقسام.
منها : قسم يسمى التخييل:وهو أن يقوم الساحر بعمل أشياء يخدع بها عيون الناس فيرون هذه الأشياء على غير صورتها الحقيقية.تماماً كسحرة فرعون كما حكى الله عنهم في القرآن قَالُواْ ي?مُوسَى? إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى? قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى?.[طه: 65،66] وفي آية أخرى قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ ?لنَّاسِ وَ?سْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116]
وهنا فالساحر يجعل الناس يعتقدون وهم يرون فعلاً بأن العصا قد انقلبت حية أما هو فيظل يراها عصاً كما هي. أي أن فعله هذا لا يقلب الأعيان والجوهر ، بل ينحصر عمل الساحر بسحر العيون أي تحويلها عن رؤية حقيقة الأشياء ، فترى العيون ما يريد أن يراه الساحر. وهذا هو الذي فعله سحرة فرعون بالضبط أمام موسى عليه السلام.الذي جاز عليه سحرهم أيضاً لكن الله نصره عليهم وقال له قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ?لاْعْلَى? وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه: 68، 69].
وهنا نريد أن ننبه على أمر هام جداً، وهو أن فعل موسى عليه السلام مع سحرة فرعون لم يكن سحراً بل كان معجزة ربانية أمره الله بها.فعصا موسى انقلبت إلى ثعبان حقيقي أخذ يمر على حبال وعصي سحرة فرعون ويبتلعها الواحدة تلو الأخرى.حتى ما أبقى منها حبلاً واحداً.فبطل بذلك عمل السحرة المرتكز على الإيهام والخداع.لهذا فقد أدرك سحرة فرعون أن هذا الأمر ليس سحرًا بل هو معجزة ، وزيادة على ذلك أن هذه الحية التقمت حبالهم ثم عادت سيرتها الأولى.فصاح السحرة بصوت واحد وقالوا ءامَنَّا بِرَبّ هَـ?رُونَ وَمُوسَى? [طه: 70].
القسم الثاني:عقد ورقى أي قراءة وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى الإشراك بالشياطين فيما يريد لضرر المسحور.قال الله تعالى وَ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ [البقرة: 102].
القسم الثالث:أدوية وعقاقير : أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته، وهذا هو النوع الأكثر انتشاراً في عصرنا الحاضر ، وله أنواع كثيرة سنعرفها بعد قليل إن شاء الله تعالى.
من الأنواع المنتشرة من السحر في هذا العصر.نوع يسمى سحر التفريق، وهو المذكور في القرآن في قوله تعالى : وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ [البقرة: 102].
والمقصود بالتفريق: هو عمل السحر للتفريق بين أفراد العائلة الواحدة أو بين الأصدقاء أو بين الشركاء في التجارة أو بين الأزواج، وهذا أكثر الأنواع انتشاراً وأعراضه:
1- انقلاب الأحوال فجأة من حب إلى بغض.
2- كثرة الشكوك وتعظيم أسباب الخلاف بين الزوجين وعدم التماس الأعذار.
3 – كراهية المسحور لكل عمل يقوم به الطرف الآخر.
4 – كراهية المسحور للمكان الذي يجلس فيه الطرف الآخر، فترى الزوج خارج البيت في حالة نفسية جيدة فإذا دخل البيت شعر بضيق شديد. وهكذا.
وهناك نوع آخر هو عكس هذا النوع تماماً وهو سحر المحبة:وهذا النوع يجمع بين الكفر والشرك قال : ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) التولة:ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره ، ومن أعراضه:
1- الشغف والمحبة الزائدتان للمرأة.
2- عدم الصبر عنها والتلهف الشديد لرؤيتها وطاعتها لها طاعته عمياء حتى يصبح كالبهيمة تقوده كما تشاء.
وهذا النوع أكثر انتشاراً بسبب بعض النساء الحقيرات المجرمات اللواتي يسعين إلى سحر أزواجهن خوفاً من الطلاق وطمعاً في مال الزوج إذا كان غنياً ، أو لأنها تشعر بأنه قد يتزوج عليها بأخرى. فيكلفها هذا التصرف الخروج عن دين الإسلام وإن صلت وصامت وتصدقت.
ومن أنواع السحر : سحر تعطيل الزواج:وهو أن يذهب مثلاً مجرم حاقد حقير إلى ساحر خبيث ويطلب منه أن يعمل سحراً لابنة فلان حتى لا تتزوج ، لأن أهلها رفضوا أن يزوجوه إياها، وأعراضه على المرأة تتركز في معاناتها من الخوف الشديد ، والغضب الشديد ، والغفلة الشديدة ، والانكباب على الشهوات إضافة إلى بعض الأعراض الأخرى كالصداع والضيق الشديد في الصدر خاصة في الليل.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1699)
الكلمة الطيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... القرآن يدعو للكلام الطيب الحسن.2-... أحاديث نبوية تدعو لطيب الكلام.3-... خطورة اللسان ووروده بالإنسان المهالك.4-... كيفية ضبط اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
الله سبحانه وتعالى خلقنا ، وخلق لنا السمع والبصر والفؤاد ، والأيدي ، والأرجل والعقل والقلب.وهذه كلها نعم عظيمة أنعم بها علينا ، وقد منحنا الله هذه النعم من أجل أن نستعملها فيما يرضي الله تعالى.
وأخطر هذه النعم وأهمها فيما يؤاخذ الله به ، وفيما يتعامل الناس به ، هو اللسان لذا قال محذراً في ذلك: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول:اتق الله فينا ، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا)).
وفعلاً فاللسان هو المعبر عما في القلب ، فمكنون نفسك ، يعبر عنه لسانك.والكلمة التي ينطق بها اللسان ، لها خطرها، ولها شأنها في الدنيا والآخرة.
والإنسان يمتاز عن غيره بالكلمة ، والمسلم يعصم ماله ، ويعصم نفسه ، ويعصم عرضه ولا يجوز لأحد أن يناله بسوء في شيء من ذلك كله ، إذا نطق بالكلمة التي بها العصمة وهي أن يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وكتاب الله تعالى أفضل كلام ينطق به اللسان، هو أعظم الكلام على الإطلاق، فإذا نطقت بالكلمة من كتاب الله كان لك بكل حرف عشر حسنات.ومن قرأ سورة الإخلاص مرة واحدة ، فكأنما قرأ ثلث القرآن؛ لأنها سورة التوحيد وسورة تنزيه الله وتعظيمه سبحانه وتعالى.
وأحاديث رسول الله كلها كلمات يستنير بها القلب ، وتنشرح لها النفس وفيها منهجنا في الحياة وكيف نسير على ما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وقد حث ربنا سبحانه وتعالى عن قول الكلمة الطيبة بأنواعها في آيات كثيرة قال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
والدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكلام الطيب وقال سبحانه أيضاً مؤكداً على ذلك ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل: 125]. وقال أيضاً وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ?للَّهِ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ?لْمُسْلِمِينَ [فصلت: 33]. بل إن الله دعا إلى الكلام الطيب حتى مع المخالفين في الدين والاعتقاد وَلاَ تُجَـ?دِلُواْ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [العنكبوت: 46]. وبيَّن سبحانه أن الشيطان يحرص على التحريض بين الناس. وأن الكلام الطيب هو الذي يفسد مخططات هذا الشيطان فقال: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء: 53]. وبيَّن سبحانه وجوب الكلام الطيب مع الناس عامة فقال وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83]. وقال: وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً [النساء: 5]. وقال فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا [الإسراء: 28]. هذا بشكل عام.
ثم بين سبحانه أن للوالدين الحق الأول على الإنسان في مخاطبتهما بالكلام اللين والطيب فقال: فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء: 22، 23].
وقد لا تستطيع أن تقدم المال للناس وللفقراء منهم والمساكين لكنك تستطيع أن تقدم لهم الكلام الطيب قال تعالى: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة: 263]. وقال وَأَمَّا ?لسَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ [الضحى: 10]. ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يدخل بها الجنة)).
كما بين سبحانه الثواب العظيم الذي يترتب على قول الطيب فقال يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70، 71].
إذن الكلمة الطيبة لها أهميتها وقيمتها وتأكد يا عبد الله أنك إذا نطقت بالكلمة الطيبة من رضوان الله سبحانه لا تلقي لها بالاً قد تدخل بها الجنة.وإذا نطقت بالكلمة الطيبة فإنها ستبعدك عن النار كما أخبر : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يكن فبكلمة طيبة)) وأنت أيضاً إذا قلت سبحان الله أو سبحان الله وبحمده العظيم ، فأنت تسمع النبي وهو يقول : ((كلمتان حبيبتان للرحمن، خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)). ومن قال في مائة مرة سبحان الله وبحمده غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
وكل هذا من الكلام الطيب.
وكذلك الرجل أو المرأة الذي يعتاد الكلمة الطيبة ويعتاد الكلمة الحلوة ، يتاجر بها مع الله سبحانه ويأخذ على كل كلمة طيبة عشر حسنات، فإذا قال لأخيه المسلم:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كان له ثلاثون حسنة. وإن قال: كيف حالك يا أخي ، أو قال له: أنا مستعد لمساعدتك أرجو أن تطمئنّي عليك ، كلمة طيبة ، تأخذ عليها عشر حسنات إذا ، وإذا كنت مع الناس بشوش الوجه طيب الكلمة فأنت تتاجر مع الله بقدر كلماتك الطيبة مع الناس، ولذا قال ((والكلمة الطيبة صدقة ، وأمرٌ بمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة)).
والكلمة الطيبة تقولها لليتيم وتقولها للأهل ، وتقولها للأقارب ، وتقولها للخدم ، وتقولها لأصحاب الحاجات، وإن كنت موظفاً تقولها للجميع ، وتدخل السرور على المسكين والضعيف.
تكسب الناس في الدنيا ، وتكسب الأجر أيضاً، بل قد يدخلك الله الجنة من أجل ذلك.لأن النبي قال: ((أطب الكلام، وأطعم الطعام ، وصل بالليل والناس نيام ، تدخل الجنة بسلام)).
أخي المسلم:إن كلمة تنطق بها تذكر فيها ربك وتسبحه وتقدسه أو تؤلف بها قلوب الناس لهي خير لك من الدنيا وما فيها ، لهي خير من كل ما تملك ، لهي خير من أرضك وسمائك وخير لك من مالك وولدك وأهلك ، لأنها باقية لك تنير لك الطريق غداً إذا لقيت الله، والله يقول : مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ [النحل: 96]. من أنا ؟ ومن أنت؟ من نطفة مهينة خلقنا ومن تراب، خلقنا وصرنا عظاماً ولحماً ، وفي بطوننا ، وفي أجوافنا ما نستقذره وننفر منه ، ومع ذلك إذا نطق اللسان.. كلا الطيب وقال لا إله إلا الله ، والله أكبر ، سبحان الله ، كأن الأرض والسموات تهتز كلها لذكر الله بهذا الكلام الطيب.
يقول ابن مسعود:إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى:إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تبارك الله ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الله عز وجل ثم قرأ ابن مسعود قول ربه تبارك وتعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ ?لْكَلِمُ ?لطَّيّبُ وَ?لْعَمَلُ ?لصَّـ?لِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10].
الله أكبر، أين نحن من هذا الكمال ، وهذا الجمال ، وأين نحن من طيب الكلام ، وأين نحن..
إننا لو نظرنا إلى رسول الله وكيف كان كلامه نتعلم ونستفيد ، لوجدنا خادمه أنس يقول "لقد خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي قط: أف ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته ، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا ، وكان يحب الكلام الطيب ويبغض الكلام الفاحش بل ويبغض صاحبه وكان يقول: ((إن الله لا يحب الفحش والتفحش)) وكان يقول: ((إن الله يبغض الفاحش البذيء)).
وقد تعلم هذا المنهج سلفنا الصالح فطبقوه قولاً وعملاً فهذا أبو بكر الصديق وهو العفيف النظيف اليد واللسان. دخل عليه عمر بن الخطاب في يوم من الأيام فرآه يجر لسانه فيقول له ما هذا رحمك الله ؟ فيقول الصديق:هذا الذي أوردني المهالك.
وكان أحدهم يقول:المؤمن يقل الكلام ويكثر العمل ، والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل.
وقال أحدهم:اجعلوا الكلام كلمتين كلمة نافعة في أمر دنياكم.وكلمة باقية في أمر آخرتكم.. قول : الكلمة الطيبة:لأنه إذا كنا مؤمنين صادقين فلا إيمان إلا بالكلمة الحلوة، أما الذي ينطق بالكلمة المرة ، والكلمة الحسنة ، والكلمة الفاحشة فإنه مؤاخذ بها، وقد ترديه كلمة واحدة كما قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يسخط الله بها عليه إلى يوم القيامة)).
إن الذين قست قلوبهم تدنست نفوسهم ، وتعودوا قالة السوء ونشروا بين الناس الفحشاء من القول ، هم أعظم الناس جرماً في الدنيا والآخرة قال ابن مسعود :أكثر الناس وقوفاً يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل ، إننا نرى ونسمع العجب من بعض السفهاء. فترى الرجل الذي يسب الدين ، ويسب المسلمين ، والمرأة التي تسب ربها وكتاب ربها ، هؤلاء جميعاً كفرة مرتدون وإن لم يتوبوا فمصيرهم جهنم مع أعتى الكافرين والمجرمين.
ومن هؤلاء من يدعي الإسلام وهو يسب المسلمين بل ويسب أقرب الناس إليه من زوجة أو ولد أو جار مع أن النبي يقول: ((المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه)) ومع أنه يقول: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)).
وهو مع هذا يسب ويشتم بل ويلعن أيضاً مع أن النبي أخبرنا أن اللعنة تصعد إلى السماء تبحث عن مكان لها فلا تجد وتعود إلى الأرض لتبحث عن مكان فلا تجد ثم تقول أين أذهب فيقال لها: اذهبي إلى صاحبك الذي تكلم بك فكوني عليه إلى يوم القيامة. نعم تعود اللعنة على من قالها إذا كان الملعون لا يستحقها ورغم ذلك نسمع الشتم واللعن والسب والكلام القبيح كم من زوجة باتت باكية بسبب كلمة نابية سيئة ، وكم من يتيم بات حزيناً بسبب كلمة سيئة ، وكم من جار أحس بالآلام والحزن يمزق كبده لأنه سمع من جاره كلمة خبيثة سيئة ، وكم من بائع ومشتر غضب الله عليهما لأنهما كذبا وحلفا بالله كذباً وغش بعضهما بعضاً ، كم من إنسان يداهن بالكلمة ، وينافق بالكلمة ، ويكذب على الرؤساء والمدراء بالكلمة ، ويتدخل بينهم ليدس السم في العسل ضر إخوانه بالكلمة السيئة التي تمزق المتآلفين ، بل كم من كتاب وفنانين ورؤساء لا يعملون بالإسلام كانت الكلمة سبباً في إسقاط شعوبهم وإشعال النار بينهم وبين إخوانهم وجيرانهم بسبب كلمة وذلك لأن الكلمة لها منزلة خطيرة ، ورب كلمة توجد الحزن والشقاء والتعاسة بين الناس. وتسبب غضب الله على الإنسان لأنه يقول: لاَّ يُحِبُّ ?للَّهُ ?لْجَهْرَ بِ?لسُّوء مِنَ ?لْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ ?للَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً [النساء: 148]. فهل نبدأ بإعطاء أنفسنا فرصة التدريب على الكلمة الطيبة ، والكلمة الحلوة لكي نحظى برضاء الله سبحانه وتعالى.
وكم من كلمة فرقت بين صديقين ، وكم من كلمة أوجدت حقداً في القلوب وضغينة في النفوس.
وكم من كلمة أخرجت المسلم من الإسلام إلى الكفر ، وكم من كلمة أبطلت عمل صاحبها.
كل منا يدرك أن الحياة مليئة بالخير كما أنها مليئة بالشر ولكن الشر أكثر. وأهل الخير قلة وأهل الشر كثرة. وأنتم معشر المؤمنين خير أمة أخرجت للناس ، وأنتم دواء الإنسانية. وقادة البشرية وعليكم المعول وفيكم الأمل فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وأحسنتم لأمتكم ، وأحسنتم إلى دينكم وجعلتم الغير يقول " هذا هو الإسلام.دين الخلق ودين الأدب ودين الكلمة الحلوة ، وسعدت بكم الحياة وسعدتم بالحياة ".
هذا كله سيحدث إذا تكلمنا بالكلام الطيب وتركنا الكلام السيء.
إذن فلنحرص على قول الكلمة الطيبة ، والابتعاد عن الكلمة الخبيثة من كذب وغيبة ونميمة وشتم ولعن.
ولا نريد من البعض أن يقول: نحن نتكلم بدون ضوابط ولكن قلوبنا سليمة ونحن لا نقصد شيئاً. ونقول: إن الذي يقول هذا الكلام هو مغفل كبير بل هو كاذب لأنه يقول على الله بغير علم ، ويفتي بغير فهم كما قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116].
إن عليك أن تعلم أن أي كلمة سوء تقولها ستحاسب عليها حتى وإن لم تتنبه لها، لأن النبي أخبر ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوى بها سبعين خريفاً في النار)) إنه لم يكن يقصدها وقد يكون قالها ثم نسيها ومع هذا فهو من أهل النار.
ثم شئت أم أبيت فما تقوله بلسانك يعبر عما في قلبك يقول يحيى بن معاذ " القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها قال ابن القيم: "فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج" أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقة ذلك كذلك نطعم ما في قلب الرجل من لسان فيتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في القدر بلسانك. وهنا قد يقول قائل إذاً ما هو الحل وكيف التعامل مع آفات اللسان؟ فنقول:
أولاً : عود نفسك على الصمت وقلة الكلام فقد قال : ((من صمت نجا)) وقال: ((إنك لن تزال سالماً ما سكت، فإذا تكلمت كتب لك أو عليك)).
ثانياً:إذا أردت الكلام فتكلم ولكن بخير لأن كل كلمة ستسجل عليك مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18]. لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ [النساء: 114].
ثالثاً:ابتعد عن الكلام الذي ليس له نفع أو ليس له مبرر لأن النبي قال: ((أكثر الناس ذنوباً أكثرهم كلاماً فيما لا يعنيه)).
رابعاً:حاسب نفسك دائماً على الكلام الذي تقوله ولتكن صادقاً في هذا الحساب:ولقد رؤي بعض الأكابر من أهل العلم في النوم ، فلما سئل عن حاله قال:منذ تركتكم وأنا موقوف على كلمة قلتها، قلت:ما أحوج الناس إلى المطر، فقيل لي:وما يدريك أنا أعلم بمصلحة عبادي أم أنت.
كلمة واحدة سببت له هذا الحساب الشديد ترى لو أننا حاسبنا أنفسنا على ما نقوله دائماً هل كنا كما نحن الآن؟.
خامساً : صاحب من ترى فيهم الصلاح والتقوى ومن يصونون ألسنتهم عن المعاصي وابتعد بل واهرب من كل سفيه لا يراعي خلقاً ولا أدباً ولا حياءً وصدق رسول الله ((من وقي بطانة السوء فقد وقي)) وقال: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)).
سادساً:اشغل نفسك بالطاعات وخاصة بذكر الله لأن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل واملأ فراغك فيما يعود عليك بالنفع واترك الناس بكف لسانك ومالك وللناس ولعيوبهم.إن عليك أن تعلم أنك إن أغضبت أحداً أو سببته أو شتمته أو سخرت منه فإنك بذلك تهديه حسناتك التي تعبت من أجل الحصول عليها. فهل يفعل هذا عاقل فمالك وللناس ، اشتغل بنفسك المليئة بالعيوب والأخطاء. حتى ولو واجهت سفيهاً أو شخصاً تعدى عليك بكلمة نابية أو فعل دنئ فلا تنزل إلى مستواه ولا تجاره فالله يقول: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف: 199]. فإذا واجهت سفيهاً فلا تجاره ولا تكن مثله بل كن أفضل منه والشاعر يقول :
وإذا جاريت في خلق دنيئًا فأنت ومن تجاريه سواء
ثم أنت إن قابلت الإساءة بالإحسان والظلم بالعفو كسبت خيري الدنيا لأن الله يقول: ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34] وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ?للَّهُ لَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور: 22].
سابعاً : عليك بالدعاء:ادع الله دائماً والجأ إليه وابتهل إليه في أن يحفظ لسانك، واخلص في دعائك وقل كما كان يقول : ((اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر منيتي)) وهكذا فإن القضية تحتاج إلى مجاهدة وتدريب لذلك فلنبدأ بتدريب أنفسنا على الكلمة الطيبة والبسمة الحانية والأسلوب العذب الرقيق حتى نسعد في الدنيا والآخرة فهل نفعل؟ نرجو ذلك ونتمناه.
اللهم صل على..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1700)
مكانة المرأة في الإسلام
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... 1- نظرة الجاهلية إلى المرأة. 2-... 2- أهمية المرأة في المجتمع المسلم. 3-... 3- مساواة المرأة للرجل في الأمور الأخروية. 4-... 4- بلقيس وسليمان. 5-... 5- أمثلة لنساء فاضلات.6-... 6- معنى نقصان المرأة عقلها ودينها. 7-... 7- التحذير من ظلم النساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
إن الله أرسل محمداً ، والناس في جاهلية جهلاء ، وفي ضياع وعماء وشقاء ، وفي اضطراب فكري وارتباك اجتماعي ، وظلم سياسي ، وسحت مالي حتى أن الإنسان الذي ليس له بطش أو سلطان، لا يجد حماية لنفسه إلا إذا أذل نفسه لإنسان آخر.
وكان من الظلم الذي أحاق بالإنسان ، ظلم الإنسان للمرأة.فظلمها بنتاً ، وظلمها زوجة ، وظلمها أختاً، وظلمها أماً ، وظلمها في حياتها ، وظلمها بعد موتها.
وكان أكثر الناس في العالم ينظر إلى المرأة كأنها متاع ، إن اشتهاه استمتع به ، وإن استغنى منه رفسه وركله واحتقره وأبعده وهجره. لم تكن المرأة تورث بل كانت أحياناً تورث.
ولم تكن المرأة تختار لنفسها ، بل كان أبوها يختار لها ويفرض عليها ما يراه لها دون مراعاة لمشاعرها ورغبتها. وكان كثير من العرب يئد البنت وهي حية، فإذا جاء المرأة المخاض وأحست بآلام الولادة خرجت إلى الخلاء وحفر لها حفرة ثم إذا وضعت إن كان المولود ولداً فرحت واستبشرت ورجعت إلى أهلها ، وأقيمت الزينات والأفراح. وإن كان المولود بنتاً اسود وجهها من الغم ، وألقيت ابنتها في الحفرة وأهيل التراب عليها حية ، والأم يمزق قلبها ولا أحد يرق لها كما قال تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لاْنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58، 59].
فلما جاء الإسلام رفع الظلم عن البشر، وأعطى كل إنسان حقه، ووضع المرأة في مكانها الطبيعي ، وبين للرجل وللمرأة أن كلاً منهما في حاجة للآخر فقال للرجل وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا [الروم: 21] أي أن المرأة خلقت منك فقد خلقت حواء من آدم فهي جزء منك، وهي بعضك، ولا يستغني الكل عن البعض، ولا يستغنى الإنسان عن جزء منه ، فلا يستغنى الرجل عن المرأة.
كما بين للمرأة أنها جزء من الرجل، وأن الرجل أصلها، وأن المرأة لا تستطيع الحياة الجميلة، بدون الرجل، فهي أحوج ما تكون إليه كما يحتاج الفرع إلى الأصل هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189].
وبين تعالى في كتابه أن جميع الأوامر وجميع النواهي هي للرجال وللنساء على السواء، فالرسول أرسل إلى الرجال والنساء ، والقرآن أنزل للرجال والنساء، فالله ذكر كل ذلك في القرآن.
ففي الحديث عن المساواة في الحقوق المادية الخاصة قال تعالى لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ [النساء: 32]. وعند الميراث قال لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ?لْو?لِد?نِ وَ?لاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ ?لْو?لِد?نِ وَ?لاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً [النساء: 7].
وعند الكلام عن جزاء أهل الإيمان فإنه سبحانه ذكر الجميع وَعَدَ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ?لانْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ أَكْبَرُ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة: 72].
إن الجزاء الحسن والحياة الكريمة ورضاء الله تعالى ، وسعادة الدنيا والآخرة ، كما يكون للرجل الصالح يكون للمرأة الصالحة ، والله رب الرجال ورب النساء ، ولا يميز أحداً على أحدٍ إلاَّ بالتقوى فربَّ امرأة تقية كانت أفضل من ألف رجل لأنهم ليسوا أتقياء إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات: 13]. ولما ذكر الله تعالى الإيمان والإسلام والصدق والذكر، فإنه ذكر المؤمنين والمؤمنات مع بعضهم ، في آية واحدة فقال إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذكِرِينَ ?للَّهَ كَثِيراً وَ?لذكِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب: 35].
نعم جمع الله الذكور والإناث في الفضائل ولما جاء الإسلام دعيت المرأة إلى الإيمان به كما دعي الرجل ، وجاهدت المرأة في الإسلام كما جاهد الرجل. وذكر القرآن في آياته نساءً مؤمنات ، تعدل الواحدة منهن ملايين الرجال ، فضرب لهن مثلاً بامرأة فرعون إِذْ قَالَتْ رَبّ ?بْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى ?لْجَنَّةِ وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِى مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [التحريم: 11].
وذكر الله سبحانه مريم أم عيسى عليه السلام ، وذكر أنها صديقة ، ولم يذكر الله اسم صديق واحد في القرآن؟سوى الأنبياء أما بالنسبة لغير الأنبياء فلم تذكر الصديقة في القرآن إلا مريم فقال : مَّا ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ?لطَّعَامَ [المائدة: 75].
إذن كرم الله النساء تكريماً ما بعده تكريم ، وأعطى الله المرأة حقها ، بل إنه لما ذكر قصص الرجال في القرآن وخاصة قصص الملوك ، كان أكثر الملوك المذكورين من الرجال في القرآن ممن ضل وكفر وخاب سعيه ، ولكنه ذكر ملكة واحدة كانت أفضل من ألوف الملوك والرجال الذين كفروا بالله، تلكم هي بلقيس ملكة سبأ التي قال الهدهد لسليمان عنها وفي أهل اليمن إِنّى وَجَدتُّ ?مْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] ثم قال وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ?للَّهِ [النمل: 24] وكتب سليمان كتاباً حمله الهدهد إلى الملكة فيه إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ?للَّهِ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ [النمل: 30، 31]. فلما وصلها الكتاب كان موقفها أفضل ألف مرة من موقف فرعون ، لأن قومها أرادوا أن يأخذوا الأمر بقوة فقالت لهم وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ ?لْمُرْسَلُونَ [النمل: 35]. كانت عاقلة وذكية لأنها أرسلت الهدية لتختبر سليمان فلما رفض سليمان الهدية ، عرفت أنه نبي، فسارت بقومها إليه، ولما التقيا به ورأت آيات الله ورأت صدقه ، آمنت حين عرض عليها الإسلام وقالت قَالَتْ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـ?نَ لِلَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [النمل: 44]. لم تقل أسلمت لسليمان، لكن العظيمة المؤمنة قالت: أسلمت أي خضعت مع سليمان لله ، لا لأحد سواه ، هذا كان وصف القرآن للمرأة المؤمنة.
كما أن الإسلام يذكر للنساء في صدر الإسلام مواقف رائعة ومواقف مدهشة، فكما صبر المسلمون على العذاب من الرجال ، صبرت المسلمات من النساء ففاطمة بنت الخطاب تسلم قبل أخيها عمر، ولما عرف عمر بذلك ضربها فتقول في وجهه حين رأت الدم يسيل منها: نعم، يا ابن الخطاب أسلمت، فافعل ما بدا لك. فيصعق عمر من إجابتها، ويقول لها: جيئيني بالكتاب الذي تقرؤون منه، فتأتيه به، فلما قرأه، قال: "دلوني على محمد كي أسلم".
وإن أم شريك آمنت وعذبت وجوعت وعطشت وألقيت في الحرَّ، وهي في شبه إغماء من الجوع والعطش، ولما حاولوا ردها إلى الكفر، قالت : "اقتلوني، ولن أعود للكفر أبداً". وبينما هي في حالة إغماء أحست بشيء رطب على فمها وهي مقيدة ومربوطة في الشمس ، فنظرت فإذا دلو من السماء نازل لكي تشرب منه ، الله سقاها كرامة لها.ولما عرف قومها الحقيقة عرفوا أنها على الحق وأنهم على الباطل ، فكوا وثاقها وحبالها وقالوا لها:فلننطلق إلى رسول الله لنعلن إسلامنا.
وكذلك أم أيمن الحبشية:امرأة هاجرت وحدها في شدة الحر والعطش ، وكانت صائمة ولكن الله تعالى حين جاء وقت الغروب أنزل إليها دلواً من السماء فشربت منه، وكانت لا تحمل ماءً معها ولا تجده من حوليها تقول أم أيمن وهي مربية الحبيب محمد تقول بعد أن شربت من هذا الدلو كنت أصوم في اليوم الشديد الحر فلا أشعر بعطش أبداً.
ولا ننسى نسيبة الأنصارية والتي كانت مع النبي تدافع عنه في أحد حين انهزم كثير من الرجال وابتعدوا عنه حتى قال عنها : ((ما التفت يميناً وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل عني)).
هكذا كانت المرأة المسلمة وهكذا كان تكريم الإسلام لها. يمشي أمير المؤمنين عمر فتستوقفه المرأة فيقف لها، وتقول له: "يا عمر كنت تدعى عميرًا ، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين ، فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب". وهو واقف يسمع لكلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين.. رجال.. على هذه العجوز فقال: (والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما تحركت من مكاني، أتدرون من هذه العجوز ؟، هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات. أيسمع رب العالمين قولها ، ولا يسمعه عمر) الله أكبر هذا كله دليل على صدق هؤلاء النساء، وعلى عظم مكانة المرأة في الإسلام، فالله لم يعط الفضل للرجال فقط ، ولم يعط الشرف للرجال فقط ، ولم يعط العزة والكرامة للرجال فقط، إنما أعطاها لكل من آمن وصدق إيمانه وثبت على الحق ثبوتاً صادقًا.
أيها الأخوة إني ما ذكرت المرأة اليوم وحقها في الإسلام ، ومكانتها في الدين ، وذكر الله لها في القرآن وذكرها في السيرة وفي أخبار الصالحين ، إلا لتُعرف مكانتها.
فإن قلنا: إن النساء ناقصات عقل ودين فنقول لك:إن الحديث فسر نقص الدين ، بأن المرأة تحيض فإذا حاضت فإنها لا تصوم ولا تصلي، وليس أكثر من ذلك.
وإلا فقد ذكرت المرأة في القرآن ، متدينة كريمة عند الله.
أما عقلها فإن الله تعالى جعل عاطفتها أقوى، إن عاطفة المرأة هي التي تحنو بها على الابن في صغره، وتحنو على البنت ، وتحنو على الزوج، وتحنو على الأخ ، إن عاطفة المرأة تعرفها حين تجد الأب قد مات ، والذكور يقسمون مال أبيهم، والبنات يندبن أباهم ويبكين عليه، فعاطفة المرأة هي جمالها. بل العاطفة هي التي تجعل بيوتنا جميلة وتجعل حياتنا جميلة ، وجمال المرأة في رقتها ، في عذوبتها ، وفي كلمتها الحلوة ، ولذلك إذا خرجت المرأة عن طبعها لعنها الله، فقد لعن رسول الله المترجلة من النساء كما لعن المخنثين من الرجال. هذه حقائق يجب علينا جميعاً أن ندركها لكي نعرف قيمة المرأة في الإسلام.
إننا بعد الذي سمعناه ندرك أن الله الذي يأمر بالعدل أعطى كل ذي حق حقه ، سواء كان رجلاً أم امرأة ، وإن الواجب علينا أن نعطي الحقوق لأهلها ، وأن ندرك أن الله محاسبنا يوم القيامة رجالاً ونساءً، وأنه لا يرضى أن يعتدي أحد على أحد ، بل لا يرضى أن يعتدي إنسان على حيوان ، بل لا يرضى أن يعتدي حيوان على حيوان، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله يقتص يوم القيامة للشاة، والجماء من القرناء.
كذلكم الرجل الذي له عضلات ويظلم زوجته في كلماته ، أو نظراته ، أو عدم النفقة عليها ، أو في حرمانها من أهلها ، أو في ظلمها أو في جسمها أو في ضربها أو في احتقارها وازدرائها ، هذا إنسان ضحل الفكر ، بعيد عن الحق ، يأخذه الشيطان إلى طريق الجاهلية ، ومفاهيم الجاهلية ، وعليه أن يعلم أنه بظلمه لزوجته أو أخته ، أو ابنته عليه أن يعلم أنه ربما قد يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج فيجعلها الله هباء منثوراً بسبب ظلمه وطغيانه، والله يقول والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينًا. وسبحان الله أين أمثال هؤلاء عن وصية الرسول قبل موته حين أخذ يردد.اتقوا الله في النساء ثلاث مرات إنهن عوان عندكم بمعنى أسيرات عندكم.
إن الإساءة إلى المرأة إساءة عظيمة لماذا؟ لأنها ضعيفة ، ولأنها لا تستطيع أن ترد كيد الرجل أو تتظلم ، أو تجهر بالشكوى ، ولا أن تخرج فتسيح في الأرض ، لأنها عرض، إنها امرأة لذلكم كان ظلمها أشد الظلم، وكان إلحاق الضرر بها مصيبة أكبر من كل المصائب، فليتق الله إنسان عنده امرأة، فإن كانت أماً فالجنة تحت قدميها وإن كانت أختاً فدخول الجنة موقوف على الإحسان إليها ، وإن كانت بنتاً فمن حقها تربيتها وتزويجها باختيارها ، لا يرغمها على زوج لا تريده، وإلا فقد ظلمها وأساء إليها ، والويل له من ربه.
اتقوا الله ، اتقوا الله أيها الأخوة خاصة في الزوجات، فإن الشكاوى كثيرة ، وإننا مطالبون بالصبر على المرأة ، وبالحلم ، ومن أراد أن تكون امرأته على الصراط المستقيم فقد أخطأ خطأً مبيناً لأن النبي قال: ((إن المرأة خلقت من ضلع أعوج لن تسقيم لك على طريقة، فإن أردت أن تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقُها)).
ثم قل لي أيها الرجل إذا أردت المرأة كاملة لا عيب فيها ، فالمرأة تريد رجلاً كاملاً لا عيب فيه، فهل يوجد رجل كامل لا عيب فيه؟
ثم لماذا لا ننظر في عيوبنا قبل أن ننظر في عيوب غيرنا ، لماذا لا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب غيرنا ، أسأل الله أن يردنا إلى الحق ، وأن يأخذ بنواصينا إلى العدل ، وأن يوفقنا لما فيه رضاه.
اللهم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1701)
حقوق الزوجة على زوجها
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... حسن العشرة لها.2-... النفقة عليها.3-... عدم ضرب المرأة غير الناشر.4-... العدل بين الضرائر.5-... تعليم الزوجة أمر دينها.6-... الغيرة عليها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
إن حقوق الزوجة على زوجها ، حقوق مهمة وعظيمة.ومن الملاحظ أن هناك من الأزواج من يريد من زوجته أن تعرف حقوقه ويهتم بذلك.ولكنه بالمقابل لا يريد أ ن يعرف حقوق زوجته عليه لماذا؟لأنه يظن أنه لو أعطاها حقوقها ،تعالت عليه وتكبرت.وهذا تفكير غير صحيح لأنه لو عرفها بحقوق الله عليها أولاً ، ثم أدى إليها الحقوق التي أمر بها الإسلام ، فإنها ستكون حريصة على معرفة حقوقه ، والقيام بها جيدًا.
فأول حق على الزوج ناحية زوجته هو:حسن المعاشرة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء: 19]. فعلى الزوج أن يحسن خلقه مع زوجته فيتحدث معها برفق، ولين. ويحتمل الأذى منها ، ويوفيها حقها من المهر والنفقة ، وألا يعبس في وجهها من غير ذنب.
ويستحب أن يتزين لها كما تتزين له.فينظف نفسه ويزيل عرقه.ويتطيب ويلبس الملابس المناسبة قال ابن عباس (إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي).
وكما قلنا فعليه أن يحتمل ما يبدر منها من أخطاء ، لأن الزوجة الكاملة ليست موجودة إلا في الجنة ، ولأن المرأة خلقت من ضلع أعوج كما قال : ((إن المرأة خلقت من ضلع ولن تستقيم لك على طريق فإن استمتعت استمتعت وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها)) [مسلم/النكاح باب الوصية بالنساء].
لهذا فعليه أن لا يكثر من اللوم والتأنيب ، وإن حصل منها ما يغضبه ، فعليه أن ينظر إلى حسناتها ولا يركز على سيئاتها فقط ، هذا إذا أراد أن يعيش عيشة السعداء، إذن لابد من المعاشرة والابتعاد عن سوء المعاشرة ، يخطئ بعض الأزواج عندما يظن أنهم عندما يكرهون زوجاتهم بعض الأشياء أن ذلك يعطيهم الحق في شتم زوجاتهم واحتقارهن. لأن الإسلام لا يعتبر كره الزوج لزوجته سبباً في احتقارها وإهانتها. قال تعالى : فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء: 19]. وقد يكره الرجل زوجته لأنها ليست جميلة أو لأنها لا تحسن الطبخ ، ولأنها لا تحسن الكلمة الحلوة ، لكن هذا ليس مبرراً لاحتقارها أو تطليقها فعلاً، فقد تكون امرأة عفيفة ، أمينة على بيتها ، تحسن تربية أبنائها ، وإذا أصيب زوجها بمحنة فقد يجدها صابرة تقف بجواره في السراء والضراء.
ثم هذا الزوج هل نظر إلى نفسه ، هل فيه كل الأخلاق التي تحبها المرأة ، أم أن فيه أيضاً طباعاً سيئة. لهذا يقول تحذيراً من هذا النوع من الأزواج.يقول: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إذا كره منها خلقاً رضي منها آخر)) مسلم /النكاح باب الوصية بالنساء.
وليس معنى هذا أن يترك لها الحبل على الغارب ، ويوافقها حتى وإن أتت بعمل يخالف شرع الله، لا لكن المراد أن ينبسط معها في البيت ، ويستمع إلى حديثها.ويمازحها تقديراً لها أو تطييباً لخاطرها، وقد يظن البعض أن مداعبة الزوجة وممازحتها يتنافى مع الهيبة والوقار ، لكن هذا خطأ فاحش ، ويدل على الجهل ، لأن الرسول وهو بطل الأبطال وسيد الرجال والعابد الخاشع والقائد الحاكم والمربي المعلم.كان من أفكه الناس مع زوجاته وأحسنهم خلقاً معهن.
قالت أمنا عائشة رضي الله عنها :كنت أشرب وأنا حائض ، ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع في ، فيشرب، وأتعرق العرق (اللحم المختلط بالعظم) وأنا حائض ثم أناوله فيضع فاه على موضع فيّ) رواه مسلم.
وقالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه ، تختلف أيدينا عليه ، فيبادرني حتى أقول:دع لي، دع لي قالت : وهما جنبان) [البخاري ومسلم].
وهذا أمير المؤمنين عمر ، وهو صاحب الشخصية القوية ، والذي كان الشيطان يهرب منه إذا رآه ، كان يقول:ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي (يعني في الأنس والبشر والسهولة) فإذا كان في الناس وجد رجلاً.
ويتصل بهذا الحق أيضًا. حق الزوجة في الاستمتاع بالنزهات والرحلات مع زوجها وأولادها. فليس لائقاً أن يمتع الزوج نفسه بالنزهة والرحلات إلى شتى الأماكن طلباً للراحة والاستجمام ، ثم يبخل عن زوجته برحلة يصطحبها معه لتأخذ حقها من الراحة والنشاط والتسلية ليس لائقاً أبداً هذا. ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد ورد أن عائشة كانت مع رسول الله في سفر وهي جارية، قالت: لم أحمل اللحم ولم أبدن (أي لم أسمن) فقال لأصحابه: ((تقدموا فتقدموا ، ثم قال: تعالي أسابقك فسابقته ، فسبقته على رجلي. فلما كان بعد ، خرجت معه في سفر ، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك ، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم وبدنت (أي وسمنت) ، فقلت ، كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذه الحال ، قال:لتفعلن ، فسابقته ، فسبقني. فجعل يضحك ويقول:هذه بتلك)) أي بتلك السبقة.
لهذا فعلى الزوج أن يمتع زوجته وأولاده ويرفه عنهم ، في حدود الشرع؟ومع الابتعاد عن التبرج والاختلاط.
ومن الحقوق أيضا:النفقة: وَعلَى ?لْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: 233]. يقول الإمام ابن كثير "أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي بما جرت به عادة أمثالهن ، من غير إسراف ولا إقتار".
إذن بالمطلوب في النفقة هو التوسط مع الأخذ بعين الاهتمام ، حال الزوج ومدى قدرته ، وللعلم فما من شيء ينفقه الرجل على زوجته أو أولاده ، إلا كان له به عند الله أجر وثواب. فقد قال : ((دينار أنفقته في سبيل الله.ودينار أنفقته في رقبة.ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)) [رواه مسلم عن أبي هريرة].
وعلى الرجل أن يتحرى الحلال في إنفاقه على أهله وأولاده ، ومن يعولهم ، وإلا محقت البركة ،وكان عليه إثم من أطعمهم حراما. ونريد أن ننبه هنا:أن الرجل الكريم هو الذي يكرم أهله وأولاده ولا يتركهم ينظرون إلى ما عند الناس من مال ومتاع. أما البخيل فهو الذي يبخل عليهم وهو قادر على الإنفاق، والغريب أن هناك من يبخل على زوجته وأولاده بالنفقة ، بينما هو يجود بماله على نفسه وعلى رفاق السوء وفي الليالي الحمراء وفي السفر وفي كل ما يغضب الله ، كما يقع كثيراً من لا خلاق لهم ولا مروءة.
ويكفي أمثال هؤلاء قول الرسول : ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)) مسلم.
ومن الحقوق:أن لا يضرب الزوج زوجته إلا في حالة النشوز كقوله تعالى : وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء: 34].
والنشوز هو الارتفاع.والمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المعرضة عنه.
فإذا ظهر هذا في المرأة.فليبدأ في وعظها.فإن لم تنفع الموعظة فليهجرها في فراشها.فإن لم تفد ضربها ضرباً لا يسيل دماً ولا يكسر عظماً. وأن لا يكون في الوجه.وأن يتجنب الشتم والسب واللعن كما يحدث الآن.فما أن تحصل أي مشكلة حتى تسمع السب والشتم واللعن بين الزوج وزوجته.ثم يتطور الأمر.فيقوم الزوج بضرب زوجته على أمر تافه.ثم يأتي ويتحدث بهذا الأمر أمام الناس بكل فخر وخيلاء، وكأنه قد انتصر على بطل من أبطال المصارعة العالمية، لهذا فليتق الله هؤلاء الأزواج ولتكم حياتهم كما قال الله فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة: 229].
هذا وفي الحديث أن رسول الله (ما ضرب خادماً ولا امرأة قط). [رواه أبو داود] بل إنه عاب على من يضرب امرأته فقال: ((يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها آخر يومه)) [ البخاري].
ومن الحقوق: أن الزوج مطالب بإعفاف زوجته.لذلك قال الفقهاء"إذا ترك جماع زوجته المدة الطويلة أمر بالوطأ ، فإن أبى فلها فسخ النكاح.لهذا قال : ((وإن لزوجك عليك حقا)). [البخاري ] وانطلاقاً من هذا فرض الإسلام على الزوج أن يجامع زوجته بالقدر الذي يحفظ عفة المرأة ويصونها، قال تعالى فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ?للَّهُ [البقرة: 222].
قال العلماء:وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة فهو أعدل ، لأن عدد النساء أربعة مجاز التأخير إلى هذا الحد. ويمكن أن يزيد أو ينقص حسب حاجتها في التحصين ، فإن تحصينها واجب عليه.
ونحن ننبه إلى هذا لأن البعض يهملون زوجاتهم من هذه الناحية المهمة.ويتعذرون بأنهم مشغولون بأعمالهم وبعضهم فعلاً مشغول بعمله، لكن البعض الآخر يسهر الليالي الطويلة خارج منزله، أو يسافر أياماً كثيرة من أجل شهوته الحرام، وينسى أن له زوجة تنتظره فهل هذا معقول؟ إهمال الزوجة من هذه الناحية ليس مقبولاً أبداً حتى ولو بشغل الإنسان بالعبادة لله عن زوجته وإحصانها، فهذا مرفوض.فكيف بغير العبادة.
روى الشعبي:أن كعب بن سور كان جالساً عند عمر فجاءت امرأة فقالت:يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي والله ، إنه يبيت ليله نائماً، ويظل نهاره صائماً، فاستغفر لها وأثنى عليها، فاستحيت المرأة وقامت راجعة.
فقال كعب:يا أمير المؤمنين، هلا أعربت المرأة على زوجها ، فلقد أبلغت إليك في الشكوى، فأمره أن يقضي بينهما فقال:فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن، وأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن.ولها يوم وليلة. وهكذا قضى كعب على زوجها أن لا يتأخر عن وطئها أو مجالستها أكثر من ثلاثة أيام ، وأقره أمير المؤمنين على ذلك، أما ما زاد عن ذلك فإن اتفق الطرفان عليه كأن يكون الزوج مسافراً مثلاً. فلا بأس ، إذا تراضى ووافق الطرفان.
بقي أن نقول استكمالاً لهذه النقطة: أن على الزوج أن يكتم ما يحدث بينه وبين زوجته في الفراش.لأن بعض الرجال يحبون أن يتفاخروا في الكلام عن هذا الموضوع في المجالس والمنتديات.لأنهم يظنون مع جهلهم ونقص عقولهم أن هذه الصفة هي مفخرة لهم.وللعلم فهذه الأفعال ليست من المروءة في شيء.وليست من شيم الرجال.بل هي من خلق الفساق الذين لا يملكون من الحياء شيئًا لذا يقول عن أفعال هؤلاء: ((هل منكم رجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه ، وألقى عليه ستره واستتر بستر الله ، ثم يجلس بعد ذلك ويقول:فعلت كذا وفعلت كذا)) ثم قال: ((هل تدرون ما مثل ذلك ، إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة ، فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه)). فالحذر الحذر من الخوض في هذه الأمور ، والكلام موجه للرجال وللنساء جميعاً ، ونسأل الله الستر في الدنيا والآخرة.
ومن الحقوق العدل في القسمة بين أكثر من زوجة:فإذا كان للرجل زوجتان أو أكثر وجب عليه أن يعدل بينها في المبيت وفي النفقة وفي السكن، فإن ظلم إحداهن فلم يبت عندها ليلة أو أكثر وجب عليه أن يقضيها حقها ، فذلك دين عليه ، إلا أن تتنازل عنه كما فعلت أم المؤمنين سودة عندما تنازلت عن ليلتها لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.وكذلك أن أعطى واحدة دون الأخرى من ماله فإنه يعتبر ظالماً سواء كان العطاء نقوداً أو ملابساً أو حليًا أو غيرها، ففي مثل هذه الأمور العدل واجب عليه فيه.أما العدل المقصود في قول الله وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ?لنّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء: 129]. فالمقصود أن الله لا يؤاخذ الزوج ولا يعاقبه في عدم تمكنه من العدل في المحبة والميل القلبي لأن هذه الأمور لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليها.
ومن الحقوق المهمة:تعليم الزوجة أمور دينها ، فعليه أن يعلمها ما لم تتعلمه من الطهارة ، والوضوء ، والصلاة وأحكام الحيض والنفاس والاستحاضة وغيرها. وذلك لأن هناك من النساء من يصل عمرها إلى 30 أو 40 أو 50 سنة وهي لا تعرف قراءة الفاتحة ، ولا تعرف الوضوء الصحيح أو الصلاة الصحيحة،أو واجبها نحو أهليها وأقاربها، ولا كيف تلبس الملابس الشرعية ، أو كيف تجتنب الخلوة بالرجال ، أو كيف تخاطبهم إن دعا إلى ذلك داع. وهذا واقع وحاصل بين النساء، هناك من هن طالبات في الجامعات بل قد يكن من المدرسات أو المثقفات كما يقولون لكنهن لا يعلمن من أمور دينهن إلا القليل، وقد يكون زوجها أيضاً متعلماً بل قد يكون جامعياً ، ولكنه لا يهتم بتعليمها مع أنه هو المستفيد الأول. لماذا؟ لأن الزوجة التي تقف بين يدي الله خاشعة متعبدة، تكون من أبر الزوجات بزوجها وأولادها.وأسعد النساء في بيتها وأسرتها.لهذا عليه أن يعلمها فإن كان لا يعلم فعليه أن يأذن لها بالخروج إلى المساجد وحلق الذكر لحضور المحاضرات والخطب والدروس.أو يحضر لها الأشرطة والكتيبات النافعة الخاصة بتلك الأمور المذكورة سابقاً. المهم هذه مهمة عظيمة للزوج، والمرأة كما نعلم شديدة التأثر بزوجها وسلوكه فإن رأت منه حرصاً على التعلم والدين والستر والعفة،استجابت، وإن رأت منه تشجيعاً أو سكوتاً على الاستهانة بأوامر الدين واستهزاءً به استجابت أيضاً.وكم رأينا وسمعنا عن نساء يكفرن بسبب سب الدين أو سب القرآن أو إنكار الصلاة والزكاة أو الاستهزاء بالحجاب والمحجبات ، وقدوتهن في ذلك أزواجهن.وكم سمعنا عن زوجات خرجن من بيوتهن إلى بيوت أزواجهن عفيفات عابدات ، فما لبثن غير قليل حتى انحرفن عن ذلك كله بتأثير الزوج وانحرافه وتفريطه في حقوق الله.والغريب أن أمثال هؤلاء الأزواج مع تفريطهم في حقوق الله ، فإنهم لا يفرطون ولا يتهاونون في حقوقهم الخاصة مثل الغسيل والطبخ وغيره وقد يقيمون الدنيا ويقعدونها من أجل ذلك.أما حقوق الله فهم صم بكم عمي فلا يرجعون.
وآخر الحقوق:الغيرة على الزوجة:وكما قلنا إن الرجل مسؤول عن زوجته مسؤولية كاملة أمام الله وأمام الناس، ويوم يتخلى الرجل عن هذه المسؤولية، ويترك امرأته تفعل ما تشاء فإن الناس يسخرون منه ويتهمونه بأنه تبع لها وأنه بلا شخصية ، وأن الأمر والنهي ليسا بيده ، إلى آخر تلك العبارات التي تسمع من الناس، والعجيب أن المرأة تحتقر الزوج الضعيف الشخصية حتى ولو لم تصرح بذلك.لأنها تحب أن تشعر أنها تستند إلى رجل له شخصية قوية ، ومستقيمة ، ويمكن الاعتماد عليه بعد الله في مواجهة أعباء الحياة.وأهم ميزة من مميزات الرجولة والشخصية القوية هي ميزة الغيرة، ومعنى الغيرة أن تأخذ الإنسان الأنفة والحمية والغضب إذا شعر أن غيره يريد أن يشاركه في أهله ، ومن هم في حوزته ، والمقصود بالغيرة طبعاً هي التي يحكمها الدين وتدفع إليها الكرامة والحمية الإسلامية ، ومن غير تطرف أو مبالغة ، وعلينا أن نفرق بين الغيرة وبين سوء الظن ، فلا يكون الإنسان معدوم الغيرة والحمية على عرضه ، ولا يشدد فيها كل التشدد.
فلا هذا ولا ذاك، بل الاعتدال هو الصحيح والواجب كما يقول ((إن من الغيرة ما يحبه الله ومنها ما يبغضه الله.فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة ، والغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة)). [أبو داود والنسائي].
لهذا كان الرجال الحقيقيون في الماضي يغيرون على من يعولونهم، ولا يسمحون لغيرهم أن يصل إلى أعراضهم ، ولو بنظرة عابرة.
فمثلاً دخل القتلة المجرمون على الخليفة عثمان بن عفان ، فنشرت زوجته نائلة شعرها وكأنها تستنصر بمروءة هؤلاء الظالمين القتلة ، وتستنجد ما عسى أن يكون بهم من شرف ، لكن أمير المؤمنين عثمان ، التفت إليها، وصرخ فيها وهو يقتل قائلاً: خذي خمارك فإن دخولهم علي ، أهون من حرمة شعرك. رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
حادثة أخرى:تخاصم رجل وزوجته في نفقة ، فاحتكما للقاضي ، فقال الوكيل للمرأة:قومي ، قال الزوج:ولم.قال الوكيل حتى ينظر إليها الشهود وهي مسفرة عن وجهها.فقال الزوج للقاضي:أنا أشهد القاضي أن لها علي المهر الذي تدعيه ، ولا تسفر عن وجهها فأجابت المرأة ـ والمرأة تحترم الرجل الذي يغار عليها ـ قالت: وأنا أشهد القاضي:أني قد وهبت له هذا المهر ، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة.هكذا كان مفهوم الغيرة.
أما الآن : فالخطير في الموضوع أن مفهوم الغيرة ، انقلب عند الكثير من الناس اليوم: فالكثير يفهمون الغيرة بمعنى ضيق جداً ومحدود.لذلك نجد الرجل ينتظر أن يغازل امرأته أو قريبته أحد وهي معه في الشارع أو في السيارة ، حتى يغار ويتحرك.هل هذه هي الغيرة فقط؟ إن معنى الغيرة أوسع من ذلك بكثير.
فهذا الرجل الذي يغار لو تعرض له أحد في الشارع أو في السيارة.هذا نفسه لا يغار حين يمشي معه زوجته أو أخته أو ابنته وهي كاشفة وجهها ، أو ملثمة ، أو هي متبرجة ومتعطرة ومتزينة ، وتعرض نفسها لأعين الناس.
ولا يغار لو ذهبت وحدها مع السائق للسوق وللنزهة.ولا يغار حين تختلط مع الرجال على الشواطئ أو في الحدائق أو غيرها. ولا يغار حينما تصافح الرجال الغير محارم لها. ولا يغار إذا تكلمت مع الرجال ولاينتهم وضاحكتهم ومازحتهم. ولا يغار حين يراها تخرج من منزلها بالكعب العالي والملابس المثيرة ، وتخرج أمام الناس متراقصة كأنها طاووس تختال.ولا يغار بل هو الذي يطلب من زوجته أن لا تتحجب أمام أقاربه زاعماً أن تحجبها سيفرق بينهم.الحجاب يفرق بين الأهل؟!.الإسلام الذي أوصى بصلة الرحم يفرق؟!.لكنه انتكاس المفاهيم وانعدام الغيرة ، ولا يغار ولا يتنبه لما يحضره إليها إلى المنزل من مجلة خليعة ، أو شريط مفسد. وغيرها من مثل هذه الأمور التي ينبغي على الرجل فيها أن يكون رجلاً. رجلاً حقيقياً فعلاً.لأن الرجل الغيور هو الإنسان الطبيعي، والذي لا يغار إما أن يكون مخبولاً أو أن يكون منكوس النفس كما قال أحد السلف (ما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب). وما أجمل قول الرسول ((إن الله يغار والمؤمن يغار)). ويقول ((ثلاثة لا يدخلون الجنة ، العاق لوالديه ، والديوث ، ورجلة النساء)) ومعنى الديوث أي الرجل الذي لا يغار على عرضه والعياذ بالله. هذه أيها الأخوة حقوق الزوجة على الزوج. فليعرف الزوج حقوق زوجته جيداً، وليحذر ظلمها وإيذاءها ، فالله يعذب من يؤذي حشرة أو حيواناً. وجميعنا يعرف قصة المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت فدخلت بها النار.فما بالكم بالذي يعذب إنساناً مثله ، فما بالكم بالذي يعذب أقرب الناس إليه وهي زوجته وأم أولاده.ولا تظنوا أني أتيت بهذه الحقوق من عندي فكل هذه الحقوق وغيرها هي من التي فرضها الله ورسوله للنساء. ولكن يجهل الكثير بدينهم فإنهم لا يعرفونها وإن عرفوها فهم لا يطبقونها التطبيق الصحيح الذي يرضي الله ورسوله.وسيكون كلامنا في الأسبوع القادم عن حقوق الزوج على الزوجة ، إن شاء الله تعالى.وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1702)
الحسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... تعريف الحسد.2-... أنواع الحسد.3-... أسباب الحسد : - الحقد. – الكبر. – العجب. – التنافس. – الخبث.4-... ضرر الحسد على الحاسد.5-... الغبطة المشروعة.6-... أهمية سلامة الصدر على المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
الحسد:تمني زوال النعمة عن الغير.كأن يرى الرجل لأخيه نعمة أو فضلاً فيتمنى أن تزول عنه وأن تكون له دون أخيه.
وهذا مرض عظيم، ومن النادر أن يسلم منه أحد ، وذلك لأن الإنسان يكره أن يفوقه أحد في شيء فيجب على المسلم أن يصلي ليطهر نفسه من هذا الداء الخبيث.
ولو بحثت يا عبد الله عما يحدث من الأقارب ، أو من العاملين في مكان واحد ، أو إدارة واحدة، أو مهنة واحدة أو بين الجيران وأمثالهم من الخصام والهجر ، والنزاع والشقاق ، ومن الغيبة والنميمة ، ومن الشماتة عند المصيبة ، والفرحة عند نزول البلاء ، لوجدت أن السبب الوحيد الذي يكمن وراء ذلك كله هو الحسد.
والحاسد من أشر عباد الله ، لأنه يعترض على الله عز وجل في حكمته وتقديره.فلسان حال الحاسد يقول:كيف تنعم يارب على فلان بجاه أو مال أو نعمة ولم تنعم علي ، لذلك قال بعضهم:
ألا قل لمن ظل لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني وسد عليك وجوه الطلب
والحساد أنواع:فمنهم من يسعى لزوال النعمة من المحسود ، ولو بالبغي عليه بالقول أو الفعل ثم يسعى لنقل تلك النعمة لنفسه.
ومنهم من يسعى لزوال النعمة من المحسود أو فعله من غير نقلها إلى نفسه، وهذا من أخبث الحساد.
ومنهم من يتمنى في نفسه زوال النعمة عن المحسود ولكنه لا يسعى لذلك بقول أو فعل ولكنه حاسد أيضاً.
والحسد من صفات الكفار من اليهود والنصارى الذين حاولوا ولا يزالون يحاولون صرف المسلمين عن دينهم ويتمنون لو ارتد المسلمون عن اسلامهم ، والسبب في ذلك الحسد الذي تغلغل في قلوبهم المريضة وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة: 109].
والحسد من صفات المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ، ولكنهم يتمنون في نفوسهم الهلاك للدين وأهله إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا [آل عمران: 120].
وقد يسأل البعض عن أسباب الحسد ، والجواب على ذلك يتلخص في عدة أمور منها:
1- امتلاء القلب بالحقد:وهذا الحقد قد يستغرق العمر كله من الحاسد ، في محاولة إزالة النعمة بالحيل ، والسعاية ، والتقاتل، والتنازع وما إلى ذلك.
وأقرب مثال على ذلك هو موقف إبليس الذي قاده كبره ورفضه السجود لآدم عليه السلام ، قاده ذلك إلى الحقد على آدم وزوجه ، ثم حسدهما على وجودهما في الجنة ، ولم يهنأ له بال حتى أخرجهما من الجنة ، ثم لم يزل هو وذريته وأعوانه من الإنس يحسدون بني آدم ويكيدون لهم بالليل والنهار والسبب أنهم يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء: 54].
ومن الأسباب أيضاً الكبر: الكبر الذي يكون أداة لاحتقار الشخص والتعالي عليه ، فإن أصابته نعمة رفعت من شأنه ، نشأ الحسد في قلب المتكبر. تماماً كحسد كفار مكة للنبي حيث قالوا: يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، كما قال عنهم سبحانه أَهَـ?ذَا ?لَّذِى بَعَثَ ?للَّهُ رَسُولاً [الفرقان:41].
وهذا واضح تماماً في موقف أبي جهل الذي قال للأخنس بن شريق: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطو فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان:قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟فوالله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه".
ومن أسباب الحسد التعجب: التعجب من أن يتميز عليه من هو مثله فيرتفع عليه، كأن يقول الحاسد مثلاً عن المحسود:لقد عرفته فقيراً فكيف أصبح ثرياً ، عرفته جاهلاً ، فكيف صار عالمًا، عرفته عاصياً منحرفاً فكيف ثاب واستقام، ثم يحقر من شأن المحسود مخافة أن يصبح أفضل منه تماماً كابن آدم الأول الذي قتل أخاه بسبب الحسد الذي أكل قلبه إذ كيف يتقبل الله قربانه ولم يتقبل منه ، رغم أن الفرق واضح بينهما، فأخوه كان صالحاً وكان يقول له ما حكى الله عنه لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المائدة: 28].
لكن الحاسد أبى إلا أن يقتله ، بسبب أفضليته عليه فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [المائدة: 20].
ومن الأسباب: التنازع والتنافس على مقصود واحد:فإذا تحقق المقصود لأحد المتنازعين حسده الآخرون كما حدث مع إخوة يوسف في تنازعهم على حب أبيهم.كما قال الله عنهم قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَل?لٍ مُّبِينٍ [يوسف: 7].
فدفعهم حسدهم هذا إلى التفكير في قتل يوسف أو إبعاده عن أبيه بأي وسيلة حتى ينفردوا بحب أبيهم ?قْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ?طْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَـ?لِحِينَ [يوسف: 9].
ومن الأسباب: خبث النفس وشحها بالخير عن عباد الله: فيشعر الحاسد وكأن الناس يأخذون من خزائنه، والبخيل مَن بخل بمال نفسه ، والشحيح من يبخل بمال غيره ، وصدق الله قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ?لإِنفَاقِ وَكَانَ ?لإنْسَـ?نُ قَتُورًا [الإسراء: 100].
ومن الأسباب : حب الرياسة وطلب الجار والاستهتار بين الناس يعلم عن العلوم أو فن من الفنون كي يمدح بأنه فريد عصره وأوانه ووحيد زمانه، فإن نال أحد مثل شهرته أو جاهه ساءه ذلك فحسده ووقع فيه ، وهذا ملاحظ دائماً بين الزملاء في المهنة الواحدة أو الوظائف المتماثلة، لذلك قد نرى العالم يحسد العالم دون العابد ، والعابد يحسد العابد العالم. والتاجر يحسد التاجر، والطبيب يحسد الطبيب ، والتلميذ يحسد التلميذ وهكذا.
لهذا ومن أجل هذه الأسباب وغيرها فقد حذرنا نبينا من الوقوع في هذا الداء الخطير فقال ((لا تحاسدوا)) أي لا يحسد بعضكم بعضا. وقال ((دب إليكم داء الأمم من قبلكم؛ الحسد والبغضاء)).
وقال ((سيصيب)) أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله وما داء الأمم؟قال:الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا ، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج)).
وقد فهم سلفنا الصالح هذا الكلام جيداً فأراحوا أنفسهم من الحسد ، وحذروا منه ، وبينوا أن الحسد هو الآفة الوحيدة التي يبدأ ضررها وفتكها بصاحبها أولاً:
فهذا معاوية:يقول لابنه:يا بني إياك والحسد فإنه يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.
وقال أحدهم : ليس شيء من الشر أضر من الحسد لأنه يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه: أولاها:غم لا ينقطع. والثانية:مصيبة لا يؤجر عليها. والثالثة مذمة لا يحمد عليها. والرابعة: يسخط عليه الربّ والخامسة تغلق عليه أبواب التوفيق.
وقال آخر:الحاسد لا ينال في المجالس إلا مذمة وذلاً. ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضا. ولا ينال في الخلوة إلا جذعاً وغمًا. ولا ينال عند الفزع إلا بشدة وهولًا ، ولا ينال في الموقف إلا فضيحة ونكالاً ، ولا ينال في النار إلا حراً واحتراقًا. نسأل الله السلامة والعافية.
وهنا علينا أن نفرق بين الحسد والغبطة:فالحسد هو:أن تكره النعمة وتحب زوالها من أخيك المسلم.
ولو مكنت من إزالتها لأزلتها:لكن إذا لم تكرهها ولم تحب زوالها ولكنك تشتهي مثلها فإن هذه تسمى غبطة أو تسمى حسداً محمودًا، وهذا هو الذي عنى النبي بقوله: ((لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس)).
هذا هو الحسد المحمود:أن تغبط كل صاحب مال جاء به من حلال وبنفقته في الأوجه المشروعة التي أمر الله بها فهو يهلك ماله فيما يرضي الله. وآخر صاحب علم ومعرفة يعلم الناس العلم والحكمة والثقافة التي تخرجهم من الظلمات إلى النور.
كما أن المنافسة الشريفة في أمور الدين والدنيا ، لا تدخل في الحسد بل وتختلف عنه.
فإذا تنافس إنسان مع زميله في تجارة أو علم أو في الحصول على مال ، وحاول أن يكون أعظم من زميله في كل ذلك مع عدم تمني زوال ما عند الزميل ، فهذا لا شيء فيه ولا بأس به على الإطلاق. كذلك التنافس في الدين والتقرب إلى الله ابتغاء مرضاته وحرصاً على محبته شيء عظيم.وكم يكون عظيماً أن يتنافس الناس جميعاً في هذا المضمار بصدق وإخلاص ، فنهاية هذه المنافسة جنة عرضها السموات والأرض. وهل هناك أعظم من هذه النهاية العظيمة ، لهذه المنافسة الشريفة التي حثنا عليه ربنا سبحانه عندما قال فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الحديد: 21]. وقال: وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]. وقال وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وهذا هو الذي جعل النبي وهو من هو عليه أفضل الصلاة والسلام هذا الذي جعله تمنى الشهادة في سبيل الله فقال (والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغز في سبيل الله فأقتل ثم أغز فأقتل ، ثم أغز فأقتل).
الحسد مرض خطير ، وعلة تفتك بالإنسان وتقتله.وكما أن لكل مرض دواء ، ولكل علة علاجًا فللحسد دواؤه وعلاجه.إذا خلصت النية وصحت العزيمة وصدق القول والعمل.
ويبدأ العلاج:بمعرفة الحاسد بضرر الحسد عليه في الدنيا والدين ، وعدم ضرر المحسود عليه في الدنيا والدين ، ولو جلس الحاسد مع نفسه وفكر قليلاً لعلم أن كل شيء مقدر.وأن المقسوم هو المقسوم والمكتوب هو المكتوب.وأن الإنسان مهما بلغ من قوة الحسد فلن يستطيع أبداً أن يغير ما أراده الله وما شاء له أن يكون ويوجد مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى? مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـ?كُمْ [الحديد: 22، 23].
فإذا عرف الحاسد هذه الحقيقة فلماذا يتحمل الأوزار في عمل يعمله لا يفيد ، ولماذا يعيش مهموماً مغموماً لكل نعمة يتفضل الله بها على المحسود، وهو في الوقت نفسه لا يستطيع أن يمنع توالي هذه النعم فليرفق الحاسد بنفسه، لأنه هو الذي سيدفع الثمن من صحته وعقله وتفكيره. وصدق القائل:
لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله
أما بالنسبة للدين: فالحاسد ساخط على قضاء الله وقدره وسخطه هذا قد يؤدي به إلى أن يقول كلمة قد توبق بدنياه وأخراه. كالذين يقولون حسداً من عند أنفسهم: إن الله يعطي الخلق علي بلا إذن.
أستغفر الله. يعني هذا أنّ الله غير عادل، أستغفر الله العظيم ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ، يسخط الله بها عليه إلى يوم القيامة)). الله يوزع الأرزاق على من يريد من عباده وبالمقدار الذي يريد إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 30].
إن الله يرد على أمثال هؤلاء بقوله أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
وعلى الحاسد أن يرضى بما وهبه الله له ، وعليه أن يعرف أن هذه الدنيا بما فيها إنما هي فتنة وقد ينجح المحسود في الاختبار، وقد لا ينجح الحاسد في هذا الاختبار، إن حصل ما حصل عليه المحسود تماماً كالذي حصل لأحدهم أيام الرسول فقد طلب أحدهم من الرسول أن يدعو له بالرزق الكثير فقال له ((قليل تؤدي حقه خير من كثير لا تطيقه)). لكنه أصر فدعا له فرزقه الله مالاً كثيراً وماشية حتى انشغل بها ثم ترك صلاة الجماعة ثم في النهاية رفض أن يدفع الزكاة الواجبة عليه، فأنزل الله فيه قوله وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـ?هَدَ ?للَّهَ لَئِنْ ءاتَـ?نَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ?لصَّـ?لِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى? يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ?للَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ ?للَّهَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ [التوبة: 75 ـ 87].
وإذا أراد الحاسد أن يعرف مقدار فضل النعمة التي يعيش فيها ، وأن لا يحسد غيره فلينظر إلى من هو دونه في المال والولد والصحة والعلم ، فقد يكون هو مستور الحال، وغيره لا يجد حتى إيجار السكن ، وقد يكون صحيح الجسم مع فقره، وغيره مشلول الأعضاء مع ثرائه وثروته. لهذا يقول ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)).
وبدلاً من التطلع إلى ما وهب الله الناس من نعم فإن العلاج يكون بحصر هذا التطلع إلى فضل الله ، وبحور خزائنه التي لا تنفذ ، فاطلب ما عند الله بدلاً من أن تطلب من عند الناس وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً [النساء: 32].
وعلى الحاسد أن يعلم أنه مادام قد أعطى لنفسه الحق في أن يحسد الناس على فضل الله عليهم ، فإنه يكون قد أعطى لغيره أيضاً الحق في أن يحسده على أي نعمة أنعم الله بها عليه فهل يرضى بذلك لماذا لا يرضى بذلك فليتذكر قول النبي ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)) وعلى الحاسد أن يعلم أنه في تنظيف قلبه من الغل والحسد ، الفلاح في الدنيا والآخرة فقد سئل :يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان فقالوا:صدوق اللسان نعرفه ، فما مخموم القلب. قال:هو التقي النقي ، لا إثم فيه ولا بغي ولا بخل ولا حسد.
وقال لأصحابه في ثلاثة أيام متتالية : ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)). فخرج رجل واحد في الأيام الثلاثة ، فذهب إليه عبد الله بن عمر فبات معه ثلاثة أيام فلم يجد عنده زيادة في العبادة، فلما أراد فراقه وكاد يحتقر عمله، أخبره بقول الرسول وتعجبه كيف بلغ هذه المنزلة ، فقال له الرجل: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بها.
نعم نظافة القلب من الغل والحسد كانت سبباً في دخول هذا الرجل إلى الجنة فهل تكون كذلك؟ وهنا قد يقول قائل: ماذا عن العين ، هل هي من الحسد ، وإذا كانت العين من الحسد فكيف يمكن الوقاية منها ثم علاجها.وهذا ما سنعرفه الأسبوع القادم إن شاء الله.
وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه. اللهم صل على من بلغ البلاغ المبين.
اللهم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1703)
التبرج
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
- معنى التبرج.2- أحاديث في ذم التبرج.3- الخلاف في قضية كشف الوجه.4- مظاهر للتبرج.5- دعوى أن العفاف يغني عن الحجاب.6- أسباب انتشار التبرج.7- علاج هذه الأسباب.8- دور الرجل في العلاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
ما هو التبرج:ذكر العلماء أن التبرج هو كل زينة أو تجمل تقصد المرأة بإظهاره أن تحلو في أعين الأجانب ، حتى القناع الذي تستتر به المرأة إن كان من الألوان البارقة ، والشكل الجذاب لكي تلذ به أعين الناظرين ، فهو من مظاهر تبرج الجاهلية الأولى.
والتبرج معصية لله ورسوله فعن ابن مسعود أن نبي الله ((كان يكره عشر خصال)) وذكر منها : ((التبرج بالزينة لغير محلها)).
قال السيوطي: "والتبرج بالزينة أي إظهارها للناس الأجانب وهو المذموم، فأما للزوج فلا وهو معنى قوله ((لغير محلها)) بل إن التبرج كبيرة موبقة في الدنيا والآخرة، فقد جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله تبايعه على الإسلام فقال: ((أبايعك على ألا تشركي بالله، ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى)).
بل إن التبرج يجلب لصاحبته اللعن والطرد من رحمة الله ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((يكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات)).
كما أن التبرج من صفات أهل النار ((صنفان من أهل النار لم أرهما.قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) [مسلم].
كذلكم اعتبر الشرع التبرج نفاقًا، وتعلمون ما قال الله في المنافقين والمنافقات ((شر نسائكم المتبرجات المتجملات، وهن المنافقات، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)). والغراب الأعصم : أحمر المنقار والرجلين، وهذا الوصف في الغربان قليل.
بل إن التبرج تهتك وفضيحة واستجلاب لغضب الله ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصياً ، وأمة أو عبد أبق من سيده فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا ، فتبرجت بعده ، فلا تسأل عنهم)) سبحان الله كانت المرأة الخائنة تنتظر غياب زوجها حتى تتبرج. فما عسانا نقول في نساء اليوم، وهن يرتكبن أقبح أنواع التبرج وأفحشها على مرأى ومسمع، بل ورضا من أزواجهن.
إن الأمر المؤسف الآن أن بعض النساء صرن يظهرن أمام الناس بصورة لم تكن موجودة من قبل، وأخطر ما في القضية مسألة كشف الوجه، وللعلم فأول الطريق نحو الفساد والدمار يبدأ من كشف المرأة لوجهها. صحيح أن بعض الفقهاء قد أجاز كشف الوجه ، لكن علماء الأمة ومنهم هؤلاء الفقهاء أيضاً متفقون جميعاً على وجوب تغطية الوجه عند حصول الفتنة ، وهو ما يحدث الآن بالضبط في هذا العصر ، ولنا في بعض بلدان العالم الإسلامي عبرة وعظة عندما نادى المنادون بسفور المرأة ، فبدأ الأمر بكشف الوجه ثم تطور إلى الرأس ثم إلى الذراعين ثم إلى الساقين ثم إلى الصدر والظهر ، ثم فلت الحبل ، وإخواننا هناك الآن يبكون الدم على ما حدث لهم، ويحذروننا من أن نقع في نفس الخطأ الذي وقعوا فيه وصدق من قال "السعيد من وعظ بغيره".
وهناك من النساء من لم يصلن بعد إلى كشف الوجه ولكنهن في الطريق فقد صار بعضهن يزين رؤوسهن بأغطية وطرح مزركشة وملونة، وتفنن في ربطها وإضافة الحلي إليها لتلفت الأنظار ، فمنهن من ترفعها إلى ركبتيها ، ومنهن من ترفعها إلى نصف جسمها، أو تضمها حتى تلتصق بجسدها، وتحدد أجزاء جسمها ، وقد ترتدي إحداهن فتساناً طويلاً ولكنه منقوش ومزين ، يلفت أنظار الناس أو ترتدي فستاناً آخر يحدد من شكل صدرها وخصرها ، والمصيبة العظمى في وجود الفتحات في اليمين أو اليسار أو الخلف ، والمصيبة الأعظم من ذلك أنها تظن بأنها متحجبة ، وهي فعلاً متحجبة ولكن عن الخير والعفة والحياء وصدق الله أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء [فاطر: 8].
والأسوأ من ذلك كله أن أنصار التبرج ، يحاولون الآن أن يجعلوا من الحجاب موضة وزياً من الأزياء حتى يجعلوه عرضة للتغيير والتنويع كلما أرادوا.
ومن أمثلة ذلك حجاب مصطنع يغطي جميع أجزاء جسم المرأة بما في ذلك الوجه ، ولكنه ضيق وقصير ويبدي قدمي المرأة وأسفل ما فيها، وقد تقوم المرأة بتغطيته ، ولكن بجوارب رقيقة وشفافة ومن نفس لون الجسم ، فبالله أهكذا يكون الحجاب أم هو التبرج بعينه؟
ومن صور التبرج أيضاً:خروج النساء وهن متعطرات أو قيام البعض منهن بتعطير ضيفتها أو بتبخيرها إكراماً لها، وهذا محرم ولا يجوز لأن النبي قال: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فوجد الناس ريحها فهي كذا وكذا)) يعني أنها في حكم الزانية ، لأنها سمحت للرجال بالتمتع برائحتها... لقد قال رسول الله هذا الكلام في التي تخرج من منزلها وهي متعطرة فكيف بالتي تذهب إلى محلات العطور وتتعطر وتختار بنفسها بعد أن تجرب الأنواع المختلفة في يديها.
ومن صور التبرج ما تفعله بعض المنافقات من التزام بالحجاب في البيئات المحافظة حتى إذا وجدت فرصة للانفلات استغلتها فوراً ، كمثل اللاتي تراهن في المطارات ملتزمات بالحجاب حتى إذا ركبن الطائرة وطارت بهن في الجو ، طارت العباءة ، وكشف الوجه والشعر وبدأت الزينة وقد يكون معهن من أشباه الرجال من أوليائهن، ولكنهم لا يحركون ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنيهم وصدق الله قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر: 15].
ومن أخطر صور التبرج تبرج النساء في الأسواق وعرض أجسامهن أمام الرجال متأنقات ومتعطرات ، وقد يضعن على وجوههن أغطية شفافة من باب المخادعة ، أي البراقع ، مع تزيين الأعين بالكحل وتوسيع فتحة الأعين لتشمل جزء من الوجنتين ، وكثير منهن يكشفن عن وجوههن وأذرعهن أمام أصحاب معارض القماش والصاغة والخياطين ومحلات العطور ، وكأن هؤلاء محارم لهن، ناهيك عن التبرج بالكلام والضحك، وكأن الله لم يقل لهن فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32].
لكن الأغرب من ذلك كله هو موقف الرجال الذين تركوا الحبل على الغارب للنساء حتى أصبحت المرأة تلبس ما تشتهي، وتخرج متى تشتهي، وتظهر على الناس كما تشتهي، والرجل ليس له حول ولا قوة، إنه لأمر عجيب
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
ثم إن الأغرب من ذلك أنك لو لاحظت ملاحظة على المرأة المتبرجة وهمست في أذن زوجها، أو قريبها كأبيها أو أخيها بأن يلزمها الحجاب الشرعي والبعد عن التبرج ، فإنه سيقول لك: ماذا تقصد بذلك، زوجتي وابنتي وأختي يخرجن شريفات، ويرجعن شريفات وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُجَـ?دِلُ فِى ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـ?نٍ مَّرِيدٍ [الحج: 3]. من قال لك أيها المسكين أنهن لسن شريفات. لكن هل الشرف أن تحتفظ الفتاة بعذريتها حتى ليلة الزفاف فقط ، أم أن الشرف هو الحجاب والعفة والخجل والحياء كما قال تعالى ذ?لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53].
أو يقول لك أحدهم: أنا لا أحجب نسائي، لأني أثق بهن - سبحان الله! - ومن قال لك أيها الذكي جداً أن الحجاب شرع من أجل نوع الثقة من النساء. إن الحجاب ليس الهدف منه تخوين المرأة ، أو نزع الثقة منها ، أو الشك في الأقارب والأصحاب ، أبداً.
إن الهدف الأساسي من الحجاب هو المحافظة على عفة الرجال الذين تقع أبصارهم على النساء لأن بلاء الشباب والرجال والمراهقين ، ناتج عن ما يرونه من تبرج النساء وفسقهن في كل مكان.
إننا كثيراً ما نسير في الطرق العامة والأسواق ، فنرى ما يدمي قلوبنا ويملأها بالحسرة.وإنه ليحق لنا أن نطرح هذا السؤال المهم وهو:لماذا كل هذا التبرج من النساء ، ولمن، إنه ليس للزوج أبداً لأنه إذا كانت هذه المرأة المتبرجة متزوجة، فهل مكان التبرج للزوج هو المنزل، أم السوق أو الشارع؟ هذا إن كانت متزوجة مع أنه من المؤكد أنها لا تتزين لزوجها كما تتزين عندما تخرج إلى الأسواق. هذه إن كانت متزوجة، وإن كانت غير متزوجة فلمن تتبرج، ولمن تتزين، إنه طبعاً للعيون النهمة والذئاب المفترسة، ثم هؤلاء وحدهم هذا التبرج والإغراء. لقد حدد الله - سبحانه وتعالى - لنا من هم الذين يجوز للمرأة أن تكشف زينتها ووجهها أمامهم كما قال تعالى وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ [النور: 31]. وهو العم والد الزوج أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أو الابن أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ ابن الزوج أَوْ إِخْوَانِهِنَّ الأخ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ ابن الأخ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ ابن الأخت أَوْ نِسَائِهِنَّ المسلمات أما الكافرات فلا أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ العبد المملوك لها أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ : التابع لأهل البيت من شيخ هرم أصابه الخرف، وعنين، ومعتوه.
أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء كالطفل الصغير دون البلوغ ممن لا حاجة له في النساء لعدم الشهوة عنده.
وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
هؤلاء فقط هم الذين يجوز للمرأة أن تظهر بزينتها أمامهم، فهل منهم السائق أو الخادم، أو البائع أو الخياط أو الطبيب لغير ضرورة ، هل ذكر هؤلاء في الآية. إن الأمر واضح وضوح الشمس لمن أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة.
ترى ما هي أسباب التبرج وانتشاره ، والجواب: إن لذلك أسباباً كثيرة من أهمها الجهل بالله ، وضعف الوازع الديني الذي تسبب في تمرد كثير من النساء على شرع الله وجعلهن يقلدن ويمشين وراء كل ناعق يقول الله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ. وعندما نزلت هذه الآية قالت أم المؤمنين عائشة: "والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشد تصديقًا لكتاب الله وإيماناً بالتنزيل. فعندما نزلت الآية وتلى رجالهن الآية عليهن ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات، كأنَّ على رؤوسهن الغربان ، ولكم أن تقارنوا هذا الموقف بما يحدث من بعض نساء اليوم، فهذه لا شيء كالذي يأمرها بالحجاب والستر ، وتلك تدعي أنها متحضرة وأن الحجاب تزمت ، وأخرى تدعي أنها لم تقتنع بالحجاب بعد ، وأخرى تحتج بسلوك بعض المحجبات، وأخرى تقول: المهم الأخلاق. ولا يدرين كيف تكون المتبرجة صاحبة خلق ، إلى غير ذلك من الأعذار التافهة والتي لن تغني عنهن من الله شيئاً يوم يقفن أمامه، لأن الله يقول: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِيناً [الأحزاب: 36].
أما السبب الثاني والثالث والعاشر أيضاً فنحن الرجال، نعم الرجال إن الله سبحانه يقول: ?لرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ?لنّسَاء بِمَا فَضَّلَ ?للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى? بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ [النساء: 34]. ومعنى أن الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت ، بدون تسلط أو استبداد. هذه هي الرجولة.
أما الذين يظنون أنفسهم رجالاً وهم يساعدون نساءهم على التبرج فهم أبعد الناس عن صفة الرجولة. إنك تتعجب من أحوال هؤلاء فعندما تخرج نساؤهم، ألا ينظرون إليهن ، ألا يرون كيف يلبسن ، ألا يرون كيف يخرجن! وبعضهن من أهل المساجد وقد تراه ذا صورة وذا هيبة، ثم تفاجأ بأنه يمشي مع زوجته المتبرجة كالقط الأليف.
وقد يُظن أن الحجاب هو بتغطية الوجه فقط، وهذا غير صحيح فبالإضافة إلى تغطية الوجه وحتى لا تكون المرأة متبرجة فيجب أن يكون الحجاب مغطياً لجميع جسد المرأة وأن لا يكون فيه نوع من الزينة أو الزخرفة ، وأن لا يكون شفافاً بل سميكاً ، وأن لا يكون ضيقاً بل واسعاً، وألا يصدر عنه رائحة طيبة وأن لا يكون شبيهاً بملابس الكافرات وألا يكون ثوب شهرة.
فهل هناك من الرجال من يلاحظ هذه الأمور المهمة الآن ، يوجد، ولكن قليل ما هم.
ومما يساعد على انتشار التبرج كثرة خروج النساء لأقل سبب، والسبب في ذلك أيضاً الرجال، تصوروا أن كثيراً من الرجال ترك كل ما يتعلق بالبيع أو الشراء للمرأة ، فتخرج لأقل سبب لوحدها ، لماذا؟ لأن حضرته مشغول حتى صرنا نرى النساء في أسواق الخضار والفاكهة وكأن الرجل لا يعرف كيف يشتري الخضار والفاكهة.
والغريب أن أمثال هؤلاء يسمح لزوجته بالخروج إلى كل مكان، فإذا قالت المرأة: أريد الذهاب إلى المسجد ، ظهرت رجولته فجأة، وقال لها يقول : ((أفضل الصلاة للمرأة في بيتها)) ، ولو قلت له: هذا حق، ولكن لماذا لا تسمح لها بحضور المحاضرات والدورات والخطب؟ فإنه سيجيبك قائلاً: أنا لا أسمح بخروجها للمسجد منعاً للفتنة. - سبحان الله - إنك تسمح لها بالذهاب إلى الأسواق والحدائق والشوارع ، وقد تكون لوحدها أليست هذه فتنة إنك تحضر لها المجلات السخيفة التي تعامل المرأة معاملة جواري ألف ليلة وليلة بما فيها من الصور الخليعة والعناوين المثيرة (سيدتي ماذا تلبسين في رحلة بحرية) أو تتعلم منها بأن هناك فستاناً لفترة الصباح، وتسريحات لبعد الظهر، وأخرى للسهرة ، أليست هذه فتنة؟
إنك تحضر لها القصص الغرامية والأفلام الخليعة وقنوات البث الفضائية وغيرها من الوسائل التي تساهم في تعليم النساء التبرج والانحلال ، أليست هذه فتنة؟ ثم تأتي بعد ذلك وتقول لها:لا تذهبي إلى المسجد منعاً للفتنة ، وصدق الله وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ [البقرة: 204].
نعم إنه يتكلم بالإسلام وهو أبعد الناس، هذه يا أخوة بعض صورة التبرج وبعض أسبابها (وللعلم فلن ينصلح حال كثير من النساء إلا إذا قام الرجال بدورهم الصحيح في توجيه النساء وتربيتهن) والحقيقة أن أقسام الناس في استيعاب هذا الكلام اليوم ، لا يخرج عن أقسام ثلاثة:
القسم الأول: فهم واتعظ وأخذ وعداً على نفسه بأن يبدأ من الآن في معالجة هذه الظواهر السلبية إن كانت موجودة في منزله وبين أهله. ويحرص على أن ينتفع بما سمعه وعلمه، وهو ظننا بكم إن شاء الله، أنكم من هذا القسم.
أما القسم الثاني: قسم يسمع الكلام ويفهم، ولكنه لا يزيد على أن يقول: نسأل الله السلامة، ثم يهز رأسه، ويقول: الله لا تبتلينا ثم لا يزيد على هذا شيئاً ، لا يفتش في أحواله لا يتأكد من وضع أبنائه وبناته ، وأنا أريد أن قول شيئاً: إذا كنت تقول (الله لا يبتلينا) ثم لا تفعل شيئاً، وأنا أقول نفس الكلام ولا أفعل شيئاً، والآخر يقول نفس الشيء ولا يفعل شيئاً، فإذا كان هذا موقفنا فما هو الذي يحدث الآن في الأسواق والشوارع؟ من أين أتين هؤلاء النسوة؟ من المريخ أم من القمر؟ ألسن قد خرجن من منازلنا وبيوتنا، فهذا المجتمع يتكون مني ومنك ومن الآخرين فإذا صار الكل يتبرأ ويرمي بالخطأ على غيره، فأين هو المخطئ؟ إذن لهذا من كان منكم من هذا النوع فليراجع حساباته من جديد.
وهناك قسم ثالث أعاذني الله وإياكم أن نكون منهم وهم صنف من الرجال والنساء لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً ، ويزعمون أنما هي حياتهم الدنيا فقط وينكرون القيم والمبادئ الدينية بل ويصدون عن سبيل الله ولن يزيدهم كلامي هذا إلا عناداً وفسوقًا، بل سيخرجون من المسجد كما أتوا لأنه لا يفيد الكلام معهم شيئاً وأقول لهذا الصنف الذي لا ينفع معه الكلام. أنه ما عليهم سوى الانتظار زمناً قد لا يكون كبيراً ، حتى يوضعوا في أول منازل الآخرة وهو القبر حيث يرون ما لم يروه قط ويلاقون ما وعدهم ربهم حقاً. يقول تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لانْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف: 179].
ويقول وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءايَـ?تِ ?للَّهِ تُتْلَى? عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية: 7، 8].
فهل يتنبه هؤلاء، هذا ما نرجوه ونتمناه.
اللهم صل
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1704)
الاختلاط
الأسرة والمجتمع
المرأة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة موسى مع الفتاتين المدينيتين.2- احصاءات عن الغرب تنبئ بقرب انهياره.3- خروج المرأة للعمل.4- الخلوة بين النساء والرجال.5- حياء المرأة حين مخاطبة الرجال.6- التحذير من الاختلاط بين الأقارب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
لنعلم جميعاً أن الخير كل الخير في الأخذ بهذا الدين العظيم والعمل به في كل جوانب الحياة، صغيرها وكبيرها كما يريد الله سبحانه وتعالى. وبالمقابل فإن الشر كل الشر ، والخطر كل الخطر ، والضياع والخسران هو في البعد عنه وتركه ، أو العمل ببعضه وترك بعضه ، لأن هذه صفات مذمومة ، وأهلها ممقوتون عند الله ، لأنه لا ينبغي للمسلم بأن يطيع الله فقط في الصلاة والزكاة والحج والعمرة والصيام ، بينما يعصيه في الأمور الأخرى التي تتعلق بالحياة. كالذي نراه من بعض الناس ومن أناسٍ يصلون ويصومون ويحجون ويزكون ، نراهم قد لا يطبقون أوامر الحجاب وعدم الاختلاط والتي أمر بها رب العالمين، ويتحايلون ويخضعون للعادات والتقاليد التي تسيرهم، وتتحكم فيهم. إن مثل هذا التصرف قد بين الله الحكم فيه بقوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذ?لِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يُرَدُّونَ إِلَى? أَشَدّ ?لّعَذَابِ وَمَا ?للَّهُ بِغَـ?فِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ ?لَّذِينَ ?شْتَرَوُاْ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا بِ?لآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ?لْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 85، 86].
لهذا فالمطلوب منا هو الأخذ بالإسلام كله وليس لنا خيار في ذلك. قال تعالى يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة: 208].
ومن الأمور التي حذر الإسلام منها ونبه القرآن عليها: هذه المشكلة العظيمة. مشكلة الاختلاط التي تعاني منها الكثير من المجتمعات الإسلامية. هذه المشكلة تحدث عنها القرآن ونبه عليها، ولكن لأن الكثير من المسلمين لا يقرؤون القرآن، وإذا قرؤوه فإنهم لا يفهمونه ، لهذا فإنّهم تهاونوا في هذا الأمر حتى وقع المحذور ، وتكشف المستور.
قال تعالى : وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ?لنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ?مْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى? يُصْدِرَ ?لرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى ?لظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ?لْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص: 23 ـ 25].
والمعنى فإن قصة الاختلاط مذكورة في هذه الآيات. فعندما خرج موسى عليه السلام من مصر وذهب إلى بلاد مدين حتى وصل إلى بئرها ، وجد جماعة كبيرة من الناس يسقون أنعامهم ومواشيهم ، ووجد امرأتين تذودان:أي تمنعان ماشيتها من الاختلاط بمواشي الناس فسألهما مَا خَطْبُكُمَا فأجابتاه: لاَ نَسْقِى حَتَّى? يُصْدِرَ ?لرّعَاء :أي لضعفنا وعدم رغبتنا في الاختلاط فنحن ننتظر الرجال حتى ينتهوا ثم نسقي مواشينا.
تفكروا في هذا الموقف أيها الأخوة وقارنوه بما يحدث في هذه الأيام. ونحن لا نقصد بهذا الكلام الغرب فقط، لأن الغرب منحدر إلى هاوية لا يعلمها إلا الله نتيجة للاختلاط في بلد كبريطانيا. مثلاً فهناك حالة طلاق من كل حالتي زواج. وتقول الاحصاءات أن هناك 8 ملايين عانس. وجميعهن تقريباً يمارسن الزنا. ويستعملن وسائل منع الحمل ، ورغم هذا فقد أجريت في سنة واحدة فقط مائة وعشرون ألف حالة إجهاض ، نصفهن تقريباً دون العشرين ، ولا يزال العدد في ارتفاع.
أما بالنسبة للعالم الإسلامي فلا يخفى عليكم الحوادث التي تتحدث عن الغرام والحب الذي وقع نتيجة للاختلاط بل وحتى الجرائم. ولنأخذ مثالاً على ذلك مثلاً قيادة المرأة للسيارة في بلد عربي مجاور، تقول إحدى الصحف عن شكاوى الفتيات، إن إحداهن تقول: طاردني الشباب بسيارتهم حتى اصطدمت بسيارتي، ومكثت بعدها ثلاثة شهور في الفراش. وأخرى استعانت بأخيها ليحميها من المعاكسين.
أما الشباب فإنهم يعترفون بذلك ويقولون: هذه متعة لا حدَّ لها. وآخر يقول:أطارد الفتيات فأشعر أني في أوربا.
وتقول إحداهن:طاردني الشباب وصدموا سيارتي ونقلوني إلى المستشفى. وأخرى تقول:لم أستجب للمعاكسة وركوب السيارة فضربوني. وهكذا فهل نعتبر بما يحدث؟
لهذا يا أخوة أوضحت المرأتان لموسى عليه السلام أنهما لا تريدان الاختلاط بالرجال حتى لا تتعرضا للإغراءات والفتن.
ومن الآيات السابقة:يتضح لنا أن المرأتين خرجتا للعمل في السقيا ، ولكن خروجهما كان للضرورة لهذا قالت: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ.
إذن يتضح لنا أن مسألة خروج المرأة للعمل؟ هي مسألة اضطرارية، وليس كما يحدث الآن: في كثير من البلاد الإسلامية صار النساء يخرجن للعمل بحاجة وبدون حاجة ، والنتيجة أن البطالة قد انتشرت بين الرجال ، الذين احتلت النساء أماكنهم فهل هذا معقول:ثم إننا نجد كثيراً من الموظفات يخرجن للعمل ، من أجل الصرف على اقتناء الكماليات ، وشراء الحلي والملابس وغيرها، بل من أجل ذلك يضحين بمنازلهن وبرعاية أزواجهن وأبنائهن. ويتركن للخادمات تربية جيل مهزوز منحرف.
إذن ما الحل. الحل ، هو كما قال الله سبحانه وتعالى الذي حدد العمل الإسلامي للمرأة وهو الاهتمام بشؤون بيتها وتربية أبنائها وذلك في قوله وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] البيت هو مملكة الزوجة ولو اهتمت الزوجة ببيتها لما وجدت وقتاً لشيء آخر. وإن احتاجت المرأة للعمل فعليها أن تلتزم بشرع الله وبالحجاب وأن تبتعد عن الاختلاط وأن لا يؤثر عملها على مهمتها الأساسية في المنزل. وأن يكون العمل في أصله مباحاً كالتدريس والطب للنساء فقط ، والخدمة الاجتماعية والعمل الخيري للنساء.
أما إدارية ، أو سكرتيرة:فإن النتيجة هي كالتالي " في إحدى الجامعات الأمريكية أقرَّ أكثر من 70 من الموظفات بأنهن تعرضن لاعتداءات جنسية. وفي هيئة دولية هامة اعترفت 50 من السكرتيرات أنهن يتعرضن للاعتداءات الجنسية فمن يريد أن يصل إلى مثل هذه البهيمية.
ومن الآيات السابقة يتضح لنا أيضاً:أن موسى عليه السلام سقى لهما بنفسه ولم يتركهما تسقيان. إشارة إلى أن الرجل الفاضل عليه أن يقدم المساعدة والمعاونة للمرأة التي تضطر للعمل بحكم الضرورة قال تعالى : فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى ?لظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. سقى لهما ثم جلس في الظل ودعا الله ، لأنه لم يؤد المعروف لحاجة في نفسه ، أو لحاجة جنسية كما يحدث في هذا العصر ، عصر الابتزاز الجنسي للمرأة العاملة.
تقول إحدى الدارسات الحاصلات على الدكتوراه في إحدى الجامعات أن رئيسها المباشر في الجامعة ابتدأ في معاكستها وهي لا تستطيع أن ترفض طلبه لأن مستقبلها الدراسي في يده. وهي لا يمكنها أن تضحي بمستقبلها فرضخت وتقول: ولولا رضوخي لما كانت هناك امرأة في هذه الدرجة العلمية، وهذا الابتزاز الجنسي نجده في كل مكان.فمن قبلته لها العلاوات والترقيات. ومن ترفضه فالخصم من راتبها واتهامها بالتقصير حتى تضطر في النهاية إلى الاستقالة من عملها ، لهذا فأين للمرأة العاملة في هذا العصر من أمثال موسى يعاملها بشرف وشهامة وهي تعيش في جحيم الاختلاط بالرجال.
وتلاحظ في الآيات وجود امرأتين (وأخبر الله عن ذلك للإشارة بأن المرأة إذا اضطرت إلى الخروج للعمل فإن عليها بعد اتخاذها الاحتياطات اللازمة ، عليها أن تسند نفسها بامرأة أخرى تجنباً للشبهة وحماية من الاغراءات.
أما أن تختلي المرأة برجل من الرجال أياً كان، فهذا لن يكون بعده إلا الدمار ، لأن الرسول قال: ((ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما)).
وقد اعترفت بذلك إحدى طبيبات الغرب إذ قالت: إني أعتقد أنه ليس في الإمكان قيام علاقة بريئة من الشهوة بين رجل وامرأة ينفرد أحدهما بالآخر أوقاتاً طويلة، وكنت أسأل بعضهن ممن يتمتعن بالذكاء كيف أمكن أن يحدث ذلك ، أي الوقوع في الفاحشة فكانت الفتاة تجيب وتقول: لم أستطع أن أضبط نفسي.
لهذا فالحذر الحذر من الخلوة بالنساء ولو حتى من الأقارب أو الخدم والسائقين بالنسبة للنساء ، ولا ندري أين نحن من قوله تعالى وَرَاوَدَتْهُ ?لَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ?لاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23]. فكيف يسمح بعض الذكور لنسائهم وبناتهم بالخلوة بالسائق أو الخادم. أين عقولهم؟ أين شرفهم؟ وأين شهامتهم؟ كذلك كيف يسمح بعض الرجال لأنفسهم بالخلوة بالخادمات والجلوس معهن؟ وكم سمعنا من حكايات غريبة في هذا المجال. نسأل الله السلامة والعافية.
ونلاحظ أيضاً : في الآيات السابقة أن الله يقول : فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص: 25] لأنها تربت على الحياء لم تتكشف ولم تتبرج بل قالت له بحزم قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا. هكذا مباشرة قالت له المطلوب ، وبدون كثرة كلام. وقارنوا هذا بالذي يحدث من بعض النساء في عصرنا الحاضر. من حب الكلام الكثير مع الرجال : مع ما يصاحب هذا الكلام من تكسر وميوعة سواءً مع الأقارب أو مع الأصدقاء، وسواءً بشكل مباشر أو عن طريق الهاتف. رغم أنهن يعرفن قول الله سبحانه وتعالى فَلاَ تَخْضَعْنَ بِ?لْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ?لَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]. وكم من رجل وقع ضحية كلمة مائعة أو ضحكة فاجرة سمعها من أمثال هؤلاء النساء. إذن على المرأة عندما تخاطب الرجال. فإن عليها أن تخاطبهم بجدية لا تصل إلى التشبه بالرجال ولا بميوعة وتكسر قد يفهم البعض منها أنها تقصد شيئاً ما. وعليها أن تتكلم بقدر الحاجة بدون زيادة أو نقصان. تماماً فهل تعي المرأة ذلك، نرجو ذلك ونتمناه.
إذا كان الغرب الكافر قد ولغ كثيراً في الانحراف نتيجة للاختلاط والتبرج. فإننا نجد كثيراً من المسلمين قد بدأوا ينحدرون أيضاً. ويقلدونهم. ويساعدهم في هذا الدعوة المتكررة لمشاهدة المسلسلات والأفلام والمسرحيات التي لا هم لها إلا التعليم بأسلوب خفي ، تعليمهم كيف ينحرفون. والطريف أننا صرنا نسمع البعض يقول:إن الأفلام والمسلسلات قد أفادتهم كثيراً ، ووسعت خبرتهم بالحياة.
وهي فعلاً قد وسعت خبرتهم ، في كل ما يؤدي إلى فسادهم وتحللهم من أخلاقهم.وإلا فمن أين تعلم الناس السماح للخاطب بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة ، ثم إلى ما لا يحمد عقباه ، بحجة التعارف ودراسة أخلاق بعضهم بعضاً. كيف حصل ذلك، والدين كما قال : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)).
وكيف صرنا نسمع عن البعض الذي يسمح لأمه أو أخته أو زوجته بمجالسة أصدقائه واستقبالهم. بل وحتى مصافحتهم.رغم أن الرسول يقول: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)).
ولماذا صار البعض يتهاون في شأن اختلاط الذكور والإناث في المضاجع ، ولو كانوا إخوة ، رغم أن الرسول يقول: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع)). فلماذا يحدث هذا.
وكيف يسمح البعض لبناتهم بحضور حفلات أعراس يدخل فيها العريس مع عروسته إلى داخل مكان فيه نساء أجنبيات وبكامل زينتهن.وقد يكون معه أقرباؤه. وقد يصور الحفل عن طريق الفيديو ، وقد ينشر الشريط بين الناس كما حدث من قبل.
ورغم هذا فبعضهم يعتبر الأمر عادياً جداً وقد يقول: هذا الأمر لا شيء فيه. لا شيء فيه.
والنبي يقول: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار)) فأين الغيرة؟ شيء يؤسف ما يحدث في هذه الأيام بل إن الأمر وصل بالبعض إلى أنهم يتركون نساءهم يذهبن إلى الأطباء والباعة والخياطين ومن غير محرم ، وقد يحدث ما لا يحمد عقباه ، ووصل الأمر بالبعض إلى أن بعض الأسر يخرجون للنزهة نساءً ورجالاً ، وكأنهم أسرة واحدة ليس بينها حجاب أو ستر. وقد تسمح المرأة من هؤلاء ، للرجل الأجنبي أن يراقصها في الحفلات وغيرها على مرأى ومسمع من زوجها الخبيث الذي لا يبالي بذلك.
فمن أين تعلم الناس هذه الأمور الخطيرة. من الأفلام والمسلسلات: فهل نحن منتهون عنها.
أيضاً بالنسبة للسفر (كيف أصبح البعض يسمحون للمرأة أن تسافر وحدها، ومن أجل ماذا؟ من أجل النزهة ، وإذا كان الحج وهو ركن من أركان الإسلام لابد فيه من محرم. كما أخبر بذلك عند أمر الرجل الذي خرج للجهاد. وكانت امرأته تستعد للذهاب إلى الحج ، فأمره أن يترك الجهاد ويلحق بزوجته.
ثم ماذا عن اختلاط العوائل رجالاً ونساءً، وأحياناً بحكم القرابة خاصة من أقرباء الزوجة أو حتى الزوج كأخيه وابن عمه أليس ذلك حراماً. بل إنه في حق هؤلاء أشد، لما روى عقبة بن عامر أن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء فقال:رجل من الأنصار أفرأيت الحمو قال: الحمو الموت))، متفق عليه ، والحمو هو قريب الزوج.وذلك لأن التهمة في الغالب بعيدة عنه ، فهذا مما ينبغي الحذر منه.
هذه بعض صور الاختلاط الموجودة في كثير من المجتمعات المسلمة والتي تزيد يوماً بعد يوم ونقول لمن وقع في هذا الأمر: يا عباد الله لنكن مسلمين حقيقيين ولنطبق أحكام الإسلام في حياتنا كلها وبدون استثناء. ولنحذر من الاختلاط بأنواعه وأشكاله. ولنحذر أن نغتر بأحوال بعض الناس ووقوعهم في هذا البلاء الخطير. فمتابعة الناس في مثل هذه المعاصي أمرٌ خطير. لأن الرسول : ((لا يكن أحدكم إمعة ، إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، ولكن ليوطن نفسه على أن يحسن إذا أحسنوا. وعلى أن يمسك عن الإساءة إذا أساؤوا)). نسأل الله أن يصلح البلاد والعباد.
اللهم انا نعوذ بك من التبرج والاختلاط. ومن كل ما يغضبك.
اللهم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1705)
الملائكة
الإيمان
الملائكة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عالم الشهادة وعالم الغيب وسبيل إدراك كل منهما. 2- الصفات الخلقية للملائكة. 3 - معلومات عن الملائكة وعددهم وسرعتهم وأسمائهم. 4 - مهمات الملائكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
هناك أمر هام لابد من توضيحه أولاً وهو أن العوالم في التصور الإسلامي تنحصر في دائرتين.
فأما الدائرة الأولى فإنها تشمل عالم الشهادة، وهو العالم الذي يقع تحت الحواس فما نشاهده من أرض وسماء، وجبال ووديان، وبحار وأنهار، ونبات وأنعام، فهو من عالم الشهادة، كذلك مما نسمعه من أصوات، ونشمه من روائح، ونتذوقه باللسان ونلمسه باليد، هذا أيضاً داخل في عالم المحسوسات.
أما الدائرة الثانية فإنها تشمل عالم الغيب، وهو الذي لا يدرك بالحواس ومن هذه العوالم الغيبية، عالم الملائكة وعالم الجن والشياطين، وحقائق يوم القيامة من حساب وصراط وجنة ونار، كل هذه عوالم غيبية لا يستطيع الإنسان أن يدركوها بواحدة من الحواس التي وهبهم الله إياها.
وخير سبيل للإيمان بهذه العوالم الغيبية، هو اتباع سبيل القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فما جاء فيهما من هذه الأمور فإن علينا عندئذ أن نؤمن ونقول : آمنا وصدقنا، لماذا لأنها أتت من عند الله العظيم الذي وصف نفسه بأنه عالم الغيب والشهادة بقوله هُوَ ?للَّهُ ?لَّذِى لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ?لرَّحِيمُ [الحشر: 22].
وخير من يخبرنا عنها هو الله الذي خلقها لأنه يعلم وحده حقيقتها ووجودها. إضافة إلى ما ورد عن رسول الله في ذلك فإن علينا تصديقه أيضًا، لماذا لأن الله تعالى أمرنا بذلك وبين لنا أنه لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم: 4]
والإيمان بالملائكة واجب لا يتم إيمان المسلم إلا به، ومجمل الإيمان بالملائكة الاعتقاد بأن الله تعالى خلق عالماً أسماه الملائكة. والأدلة على وجود هذا العالم ثابتة وكثيرة جداً، فمن القرآن الكريم مثلاً قول الله تعالى ءامَنَ ?لرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَ?لْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285].
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة، منها حديث وصف الملائكة وأنهم خلقوا من أجسام نورانية فعند الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال : ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)).
ومن صفاتهم أيضاً أنهم عظيمو الخلق. فقد قال الله تعالى في ملائكة النار يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم 6].
وكمثال على ذلك أيضاً عند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : رأى رسول الله جبريل عليه السلام في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق من جناحه من التهاويل (الأشياء المختلفة الألوان) والدر والياقوت ما الله به عليم))، قال ابن كثير: إسناده جيد (البداية والنهاية) وعند الترمذي أنه قال في جبريل رأيته منهبطًا من السماء ساداً عظيم خلق ما بين السماء والأرض وعند أبي داود عن جابر بن عبد الله أنه قال : قال ((أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام)).
ومن أوصافهم أن لهم أجنحة كما أخبرنا الله فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أو أربعة ومنهم من له أكثر من ذلك ?لْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ جَاعِلِ ?لْمَلَـ?ئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَـ?عَ يَزِيدُ فِى ?لْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر: 1].
ومن صفاتهم أنهم لا يشبهون البشر ولا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يملون ولا يتعبون كما قال الله فيهم يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20].
ومن صفاتهم أنهم كرام بررة كرام برره ولديهم القدرة من عند الله على أن يتشكلوا بغير أشكالهم، فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر ففزعت وقالت إِنّى أَعُوذُ بِ?لرَّحْمَـ?نِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَـ?ماً زَكِيّاً [مريم: 18ـ 19]. ومن صفاتهم عظم سرعتهم، فأعظم سرعة نعرفها هي سرعة الضوء فهو ينطلق عبر... 186 ألف ميل في الثانية الواحدة.
أما سرعة الملائكة فهي فوق ذلك بل هي سرعة لا تقاس بمقاس البشر. لأن السائل كان يأتي إلى الرسول فلا يكاد يفرغ من سؤاله حتى يأتيه جبريل بالجواب من الله سبحانه وتعالى.
ومن صفاتهم أنهم لديهم القدرة من الله في إنزال العذاب بالكفار والمنافقين، وكمثال على ذلك قوم لوط، قال الله تعالى فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود 82-83].
قال ابن كثير: قال مجاهد أخذ جبريل قوم لوط من ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم كفأها، وكان حملهم على طرف جناحه الأيمن ورغم هذه القوة الرهيبة إلا أنهم الله ويخافون منه يَخَـ?فُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50].
وأما منازلهم ومساكنهم فهي السماء كما قال تعالى تَكَادُ ?لسَّمَـ?و?تُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ [الشورى: 5].
وأما عددهم فلا يعلمه إلا الله وكمثال له استمعوا لما قاله رسول الله عند البخاري ومسلم عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة ((فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر عليهم)). وهناك غيرهم كثير ففي حديث الترمذي وابن ماجه ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع أربع أصابع إلا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)).
وأما أسماؤهم فلا نعرف منهم إلا القليل منهم مثلاً:جبريل وميكائيل: قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى? قَلْبِكَ بِإِذْنِ ?للَّهِ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى? لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـ?لَ فَإِنَّ ?للَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـ?فِرِينَ [البقرة: 97، 98].
وجبريل هو الروح الأمين ورسول رب العالمين إلى الأنبياء والمرسلين، وميكال مكلف بالمطر والنبات, ومنهم إسرافيل وهو ملك عظيم الخشية لله، روى الترمذي وصح.. أنه قال: ((إن الله خلق إسرافيل منذ يوم خلقه صافاً قدميه، لا يرفع بصره من خشية الله تبارك وتعالى، وهو المكلف بالنفخ في الصور وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَن فِى ?لأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ?للَّهُ [الزمر: 68].
ومنهم ملك الموت:
وهو مكلف بقبض أرواح بني آدم قُلْ يَتَوَفَّـ?كُم مَّلَكُ ?لْمَوْتِ ?لَّذِى وُكّلَ بِكُمْ [السجدة: 11].
وله أعوان يساعدونه في ذلك فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـ?رَهُمْ [محمد: 127].
ومنهم مالك خازن النار:قال تعالى وَنَادَوْاْ ي?مَـ?لِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـ?كِثُونَ [الزخرف: 77].
وهناك رضوان خازن الجنة.
وهناك منكر ونكير الملكان اللذان يسألان الناس في القبور.
وهنا قد يتساءل سائل ويقول:ما هي علاقة الملائكة ببني آدم؟ فالجواب هو أن العلاقة وثيقة مترابطة بدأت منذ أن أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم، وأثمرت بأمر الله لهم أيضاً بتبليغ وحي الله إلى رسله وأنبيائه.
ولهم دور أيضاً يبدأ في تكوين الإنسان منذ أول لحظة، فعند الإمام مسلم عن أبي ذر قال سمعت رسول الله يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله تعالى إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال:أي رب:ذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك)).
حسناً:هل سينتهي دورهم عند هذا، لا فإن الله يكلفهم بحراسة ابن آدم بقية حياته قال تعالى لَهُ مُعَقّبَـ?تٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ [الرعد:11].
قال ابن عباس المعقبات هم الملائكة الذين يحفظونه حتى يأتي أمر الله قال مجاهد: (ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه إلا قال له الملك وراءك، إلا شيء أذن الله فيه، فيصيبه).
والملائكة أيضاً مكلفون بحفظ أعمال بني آدم وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ [الإنفطار: 10، 11].
ووكل الله بكل إنسان ملكين حاضرين لا يفارقانه يحصيان عليه أعماله وأقواله وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. [ق:16ـ 18].
ومعنى قَعِيدٌ أي مترصد. ورَقِيبٌ عَتِيدٌ : مراقب مستعد لذلك، لا يترك كلمة تفلت، يقول ابن عباس : (يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه يكتب قوله: "أكلت شربت، ذهبت، جئت، رأيت" وهكذا.
هذا ومن تكلم بخير فيحمد الله، ولن يجد إلا خيرًا ومن تكلم بغير ذلك فهناك فرصة له في الدنيا لأن الرسول يقول والحديث في صحيح الجامع (2/212): ((أن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتب واحدة)).
فإن لم يتدارك نفسه فلن يكون حاله بعيداً عن الذي سيقول يوم القيامة ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. [الكهف: 49].
أخيراً بعض الملائكة مكلفون بتحريك بواعث الخير في نفوس العباد. فقد وكل الله بكل إنسان قريناً من الملائكة، وقرينًا من الجن فعند الإمام مسلم عن ابن مسعود قال: قال : ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)).
ويتنافس القرينان من الملائكة ومن الجن على الإنسان، هذا يأمر بالخير ويرغبه فيه، وذلك يأمره بالشر ويرغبه. لهذا يقول عند النسائي والترمذي عن ابن مسعود قال: (إن للشيطان لمة بابن آدم (الإصابة بالوسوسة) وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد من ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله. ومن وجد الأخرى فليعوذ بالله من الشيطان الرجيم)).
?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
_________
الخطبة الثانية
_________
تحدثنا عن علاقة الملائكة ببني آدم بشكل عام لكن هنا لابد من التوضيح لعلاقتهم المباشرة بالمؤمنين من جهة أو بالكفار والمنافقين والعصاة من جهة أخرى.
فأما مع المؤمنين فإنهم يحبون الصالحين كما قال عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: ((إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل:إن الله قد أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل. ثم ينادي جبريل في السماء:إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض)).
والملائكة يصلون على المؤمنين هُوَ ?لَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ وَكَانَ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43].
ومعنى الصلاة على المؤمنين الدعاء لهم والاستغفار لهم، فمن منا غني عن هذا الفضل العظيم، لاشك أننا كلنا نريد ذلك. لكن السؤال من هم الذين يستحقون هذا الفضل العظيم العجيب.
هل هم العصاة، المرابون، الزنا، شاربو الخمر والمخدرات، مضيعو الصلوات وصلوات الجماعة، هل هم الذين يعلمون الناس الفساد والتمرد على حدود الله.
المستهزئون بالدين وأهله؟ لا. تعالوا بنا نستعرض بعض الذين يستحقون هذه النعم العظيمة.
في صحيح الجامع وعند الطبراني والترمذي عن أبي أمامة أنه قال:إن الله وملائكته، حتى النملة من جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير، (صحيح الجامع2/ 133).
أيضاً الذي لايفرط في صلاة الجماعة ويحافظ عليها تصلي عليه الملائكة، عند مسلم أنه قال: ((إن الملائكة تصلي على الذي يأتي المسجد للصلاة فتقول:اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)) وأيضاً الذين يصلون في الصف الأول، ففي سنن أبي داود وابن ماجه عن البراء قال: قال : ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)). [صحيح الجامع2/133].
أيضاً : الذين يجلسون في مصلاهم بعد الصلاة، أبو داود عن أبي هريرة قال: قال : ((الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث أو يقم: اللهم اغفر له اللهم ارحمه)) [صحيح الجامع 6/21].
وأيضاً الذين يسدون الفرج بين الصفوف فعند ابن ماجه عن عائشة أنه قال: ((إن الله تعالى وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة)) [صحيح الجامع 2/135].
أيضاً الذين يصلون على النبي فقد روى الإمام أحمد عن عامر بن ربيعة أن رسول الله قال: ((ما من عبد يصلي عليّ إلا صلت عليه الملائكة، ما دام يصلي علي، فليقل العبد من ذلك أو ليكثر)) [صحيح الجامع: 5/174].
أيضاً الذين يزورون المرضى فعن جابر.. أنه قال: ((ما من امرئ مسلم يعود مسلمًا إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك، يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح)) [صحيح الجامع 5/115].
ولنعلم أيها الأخوة أن صلاة الملائكة علينا لها تأثير في هدايتنا وإخراجنا من ظلمات المعاصي والشرك والذنوب إلى النور الذي يحتاجه كل منا، لقد قال الله هُوَ ?لَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ.
كذلك الملائكة يؤمنون على دعاء المؤمنين، وبذلك يكون الدعاء أقرب إلى الإجابة، لهذا يقول فيما رواه ابن ماجة عن أبي الدرداء:قال: ((دعوة المرء مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك يؤمن كل دعائه، كلما دعا له بخير قال: آمين، ولك بمثله)).
كذلك الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، وهذا واضح في قول الله وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى ?لأرْضِ أَلاَ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الشورى: 5].
وهم يبحثون عن المؤمنين في مجالس الذكر حتى يحضروا معهم فعند الإمام مسلم عن أبي هريرة قال قال : ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
وهناك من الملائكة من يبحث عن المؤمنين الذين يحضرون صلاتي العصر والفجر مع الجماعة ويسجلون أسماءهم ويصعدون بها إلى السماء. روى البخاري عن أبي هريرة قال : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر والفجر، ثم يعرض الذين يأتو باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون)).
وهم يقاتلون مع الذي الذين آمنوا إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال : 12].
ولهم أعمال أخرى مع المؤمنين لا يتسع المجال لذكرها الآن.
المهم أيها الأخوة إن متابعة الملائكة فيما أمر الله ورسوله لن تأتي إلا بخير للإنسان. فمثلاً عند البخاري (إذا قال الإمام: آمين، فإن الملائكة تقول في السماء: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وعند البخاري أيضاً عن أبي هريرة أنه قال: ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)) لهذا علينا أن نؤمن بالملائكة أيها الأخوة وأن نوقرهم ونحترمهم ونحبهم وأن نبتعد عما يؤذيهم، وأكثر ما يؤذيهم هو فعل المعاصي والذنوب:لهذا الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب أو صورة، أو تمثال أو جنب أو سكران كما اتضح في أحاديث كثيرة منها قوله : ((لا يدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب)) [1].
ويتأذون مما يتأذى منه بني آدم من الروائح الكريهة والأقذار فعند البخاري ومسلم أنه قال: ((من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)). وهكذا.
أما موقفهم من الكفرة فهو لعنهم كما قال الله إِن ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ?للَّهِ وَ?لْمَلئِكَةِ وَ?لنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161].
أو قد يؤمرون بإنزال العذاب بهم كما ورد في قوم لوط وغيرهم.
والملائكة لا تلعن الكفرة فقط بل قد تلعن من يفعل ذنوباً معينة حتى وإن كان من المسلمين كما عند البخاري قوله : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
كذلك عند مسلم عن أبي هريرة قال: قال : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه وإن كان أخاه لأبيه وأمه)).
كذلك الذين يحدثون في دين الله ويخرجون على أحكامه ويحولون دون تطبيق شرع الله تلعنهم الملائكة كما قال : ((من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) [صحيح الجامع 6/8] وغير ذلك كثير.
وأعتقد أيها الأخوة أن ما قلته قد يكون كافياً لنا جميعاً في معرفة هذا الركن العظيم من أركان الإيمان الذي نحن مطالبون به وبتطبيقه وأسأل الله أن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم.
[1] أخرجه أبو داود [227، 4152]، والنسائي [261، 4281]، وأحمد [633]، والدارمي [2663] من طريق عبد الله بن نجي عن أبيه عن علي بن أبي طالبت، وصححه ابن حبان (4/5) والحاكم (1/278) ووافقه الذهبي وحسنه المقدسي في المختارة (2/372) وابن كثير في تفسيره (3/77).
وهو منكر بهذا اللفظ، وثبت عن جمع من الصحابة في الصحيحين وغيرهما من غير ذكر الجنب، وعبد الله بن نجي مجهول كما في الميزان (7/18)؛ ولذا قال البخاري عن الحديث: (فيه نظر).
وقد ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب [131، 1796].
(1/1706)
الخشوع في الصلاة
فقه
الصلاة
صالح الجبري
الطائف
جامع الحمودي
_________
ملخص الخطبة
_________
1-أهمية الخشوع في الصلاة.2- خشوع النبي وأصحابه في الصلاة.3- الأمور المعينة على استحضار الخشوع.4- الذنوب والمعاصي تمنع من الخشوع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
يقول الله سبحانه وتعالى قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون: 1، 2]. هذه الآيات هي بداية سورة المؤمنين، وفيها وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمتقين بعدة أوصاف، من أجلها استحقوا الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
وبين سبحانه أن أول صفة لهم هي الخشوع في الصلاة ، لماذا الخشوع ، لأن الخشوع روح الصلاة ، ومتى فقدت الصلاة الخشوع ، كانت صلاة ميتة لا صلة لها بحياة النعيم والسعادة ، لأن الصلاة ليست بحركات بدنية فقط، ولكنها قبل ذلك حركات نفسية ، حركات قلبية. فمن لم يتحرك قلبه نحو الله ، فلم يتفكر في قوته وسلطانه ، ورحمته وعذابه ، لم يتفكر في الكلام الذي يناجي به ربه ، وما حواه هذا الكلام من المعاني والصبر، لم يتفكر في صدق وعده ووعيده، وأن ناره لابد منها للمجرمين ، وأن جنته وفضله ورحمته للمؤمنين، من لم يتحرك قلبه بذلك ويخشع فهو يصلي صلاة ميتة جامدة ، لا صلاة حقيقية حية تنفعه في الدنيا والآخرة لذا يقول نبينا ((إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يقوم يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه)) أي ليجهز نفسه وليعلمها الأدب والخشوع لله سبحانه وتعالى.
وأصل الخشوع هو خشوع القلب:فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها، لذا لما رأى عمر بن الخطاب رجلاً يعبث في صلاته قال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه).
وأهمية الخشوع في الصلاة تتصل بثواب المصلي والأجر الذي يحصل عليه، فليس للعبد من أجر إلا على ما عقل من صلاته وكان حاضر القلب والفكر فيها، لذا قال نبينا: ((منكم من يصلي الصلاة كاملة، ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع ، والخمس حتى بلغ العشر)) وفي الرواية الأخرى: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له عشر صلاته، تسعها ثمنها، سبعها..)) حتى قال: ((نصفها)) لذا لا نستغرب أبداً أن الله قد طالبنا بإقامة الصلاة ولم يطالبنا بتأديتها.
لأن هناك فرقاً واضحًا بين إقامة الصلاة وبين تأديتها وهذا يفسره لنا بقوله: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كان كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه مسلم عن عثمان.
وإذا كان نبينا كان يقول ذلك فقد كان يطبق هذا الكلام عملياً فهو كما هو معروف عن سيد الخاشعين ، وكان من كمال خشوعه أنه كان يصلي ، ويقوم الليل بالصلاة ، ويقول : ((جعلت قرة عيني في الصلاة)). ويتلذذ بقراءة القرآن فيها حتى جاء عنه أنه قرأ في ركعة واحدة فقط أكثر من ستة أجزاء من القرآن وكان ركوعه وسجوده قريباً من ذلك. مما يدل دلالة واضحة وجلية على كمال خشوعه وخضوعه لله سبحانه وتعالى.
كذلكم الصحابة تعلموا من النبي العظيم كيف يخشعون في صلاتهم ويخضعون فيها لله رب العالمين فهذا عباد بن بشر كان مع النبي في إحدى الغزوات، وعندما رجعوا إلى المدينة خيم بأصحابه ليلاً في أحد الشعاب، وكلف عباد بن بشر وعمار بن ياسر بالحراسة ، ولأن الليل كان طويلاً وهادئاً فقد اقترح عباد على عمار أن يقسما الليل بينهما ، وفعلاً نام عمار وبقي عباد لوحده.
ومع مرور الليل وهدوئه اشتاق عباد للعبادة ولقراءة القرآن ، وكان يحب أن يصلي وأن يرتل في صلاته، يستمتع بذلك، وفيما هو مستغرق في صلاته ومستمتع بها أتى أحد الأشرار من المشركين، فرماه بسهم فأصابه فانتزع عباد السهم عن جسده واستمر في صلاته فرماه المجرم بآخر ، فانتزعه أيضاً ورماه ثم رماه بسهم آخر فانتزعه أيضاً، ولكنه سقط من الإعياء فزحف قريباً من صاحبه عمار ، فأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح ، فلما رآها الرجل ولى هارباً ثم قال عمار لعباد: هلا أيقظني عند أول سهم رماك به ، فقال عباد : كنت في سورة أقرأها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وأيم الله لولا خوفي من أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله بحفظه لكان قطع نفسي أحب إلي قطعها.
أول شيء يدفع عن هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً فعن علي بن المنكدر قال:رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة.. الريح وحجر المنجنيق يقع ههنا وههنا وهو لا يبالي. وقال مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع ، وغيرهم كثير كذلك كانوا أما نحن فقد شغلتنا الدنيا وهمومها وشهواتها ورغباتها، فإذا قمنا إلى الصلاة أتيناها متكاسلين أو كارهين ، وننقر فيها نقر الديكة، فلا نتم تلاوتها أو ركوعها أو سجودها ، وننصرف منها مسرعين إلى مشاغل الدنيا ، وكأن عدواً يطاردنا. والويل كل الويل لو أطال الإمام قليلاً في صلاته، فعندها قد أضاع وقت الناس ، وعطل أعمالهم وأضر بمصالحهم والكثير منا لا يعرفون قيمة الوقوف بين يدي الله عز وجل ، كان علي بن أبي طالب إذا حضر وقت الصلاة ارتعدت فرائصه وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال:جاء وقت الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، فلا أدري أأحسن أداء ما حملت أم لا؟.
وهذا ابنه الحسن إذا توضأ تغير لونه، فلما سئل عن ذلك يقول:ألا تعلمون أمام من سأقف، إني أريد القيام بين يدي الملك الجبار كذلك كانوا.
أما الناس اليوم فهم عكس ذلك تماماً بل صدق فيهم قول رسول الله : ((إن أول ما يرفع عن الناس الخشوع)) فتجد البعض يأتي أثناء صلاته بحركات كثيرة ، كأنه ليس في صلاة ، فيتمايل جسمه من جانب إلى جانب ، ويحك يديه ، وينظر في ساعته ، ويعدل من عقاله أو غترته ، أو يقرقع بين أصابعه ، أو ينظر في السقف مع علمه بحديث النبي الذي يقول فيه ((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم)) ، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: ((لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم))، أو يقدم إحدى رجليه عن الصف وما إلى لك ، وحالته كأنه واقف في شارع أو جالس في مقهى ، فهل هؤلاء يؤدون الصلاة حقيقة؟
إنهم يمثلون ولا يصلون حقيقة ، إن المصلي يعلم يقيناً أنه إذا وقف أمام الله في الصلاة فهو في موقف لا ينبغي أن يتهاون فيه أو يلتفت لأنه قد جاء في الحديث ((وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تتلفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)) ، إذن لابد أن تقف خاشعاً متذللاً بين يدي الله حال الصلاة فلا التفات ولا انشغال بشيء غير الصلاة، ومن أراد الخشوع في صلاته فعليه بالأمور التالية :
أولاً: الاستعداد لوقت الصلاة مبكراً. لا كما يفعله البعض من الذين لا يأتون الصلاة إلا بعد سماع الإقامة فيأتون إليها مسرعين ويؤدونها مسرعين، وينتهون منها مسرعين ولا خشوع ولا خضوع، لكن لو توضأت مبكراً وجئت إلى المسجد مبكراً فصليت السنة بتدبر ووعي وقرأت شيئاً من القرآن ورفعت يديك إلى الله ودعوت فإنك ستشعر بلذة العبادة وستخشع في صلاتك خاصة إذا تمثلت بحديث النبي ((ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيعلم ما يقول إلا انفتل وهو كيوم ولدته أمه)).
ثانياً:العلم بالصلاة وواجباتها وسننها وشروطها وأركانها وبما يبطلها:هذا أمرهم، وهذا لا يكون إلا بتعلم العلم ، ولو بقراءة كتب عن الصلاة ، إن أكثر الناس يصلون اليوم لأنهم وجدوا آباءهم يصلون فقلدوهم، أو وجدوا الناس يصلون ففعلوا مثلهم ، لكن هلا سألوا أنفسهم: هل هذه الصلاة التي نصليها هي الصلاة التي أمرنا بها الله؟ هل هي الصلاة التي قال عنها: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) هل قرأوا كتاباً في الصلاة؟ ، هل سمعوا شريطاً عن الصلاة ، أبدًا إنهم يصلون كيفما اتفق وبعض قد يغضب لو قلت له: إن صلاتك ليست صحيحة لماذا؟ لأنه يريد أن يصلي على هواه ، لا كما أمر الله ورسوله، إن النبي قال ((من توضأ كما أمر ، وصلى كما أمر)) ولم يقل من صلى على هواه ، إني أحذرك يا أخي الجهل بأحكام الصلاة وما يتعلق بها، فالأمر أخطر مما تظن ، لقد رأى رجلاً يسيء صلاته فقال ((لو مات هذا على حاله هذه ، مات على غير ملة محمد )) وقال: ((إن الرجل ليصلي ستين سنة ولا تقبل له صلاة)) لعله يتم الركوع ولا يتم السجود وهكذا.
الأمر الثالث:معرفة عظمة الله بأسمائه وصفاته والخوف من لقائه والوقوف بين يديه. لقد سئل حاتم الأصم كيف يؤدي صلاته فقال:أكبر تكبيراً بتحقيق ، وأقرأ قراءة بترتيل، وأرفع ركوعاً بخضوع ، وأسجد سجوداً بتذلل، وأعتبر الجنة عن يميني، والنار عن شمالي، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي ، وملك الموت على رأسي، وذنوبي محيطة بي، وعين الله ناظرة إلي وأعدها آخر صلاة في عمري ، وأتبعها الإخلاص ما استطعت ثم أسلم ، ولا أدري بعدها أيقبلها الله مني أم يقول:اضربوا بها وجه من صلاها. هكذا كانت صلاتهم.
الأمر الرابع:الإكثار من قراءة القرآن الكريم مع تدبر معانيه ، وتدبر معاني الكلمات التي تتعلق بالصلاة كالفاتحة والتكبير والتحميد والتسبيح والأدعية.ومعرفة معناها وفهمها، وهذا شيء مهم جداً للخشوع، ولا تدري كيف يريد الإنسان أن يخشع مع الكلام الذي يقول وهو لا يفهمه أصلاً.
هل تعلم أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي ويقرآ من سورة الصافات حتى قرأ قوله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ [الصافات: 24] فظل يرددها حتى طلع الفجر فما استطاع أن يتجاوزها. لماذا لأنه تفاعل مع القرآن وكان يفهمه، أما أحدنا فقد يقرأ القرآن كله وهو لا يفهم فيه حرفاً، سبحان الله، ترى من منا قرأ تفسير القرآن كاملاً ولو مرة واحدة في حياته؟ والله لو خصص كل منا ربع ساعة فقط يومياً من الوقت لقراءة القرآن وتفسيره والتدبر فيه لتغيرت أحوالنا ولخشعنا في قراءتنا للقرآن وفي أدائنا للصلاة، ولحصلنا على السعادة في الدنيا والآخرة.
الأمر الخامس:ومما يساعد على الخشوع في الصلاة تذكر الموت دائماً لذا يقول : ((اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته فحري أن يحسن صلاته)). [صحيح الجامع ح842]. لأن الإنسان إذا تذكر الموت ، وعرف أن الموت يمكن أن يفاجئه قبل أن يصلي مرة أخرى ، فلعل هذا يدفعه إلى تحسين صلاته التي يصليها لأنها ربما كانت أخر صلاة له لذا قال مؤكداً على ذلك ((صل صلاة مودع)).
الأمر السادس:الطمأنينة ، ورغم أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة إلا أنها ركن مهم أيضاً في الخشوع، والطمأنينة أمر يفقده الكثيرون، فالكثيرون يصلون وحالهم كأن ثمة عدواً يطاردهم ، يريدون أن ينتهوا بأقصى سرعة ، غير مهتمين بإحسان الركوع والسجود وإكمال شروط الصلاة، لذا وصف النبي هؤلاء بأنهم لصوص وسرقة فقال: ((أسرق الناس الذي يسرق صلاته:لا يتم ركوعها ولا سجودها)) وعكس الطمأنينة مسابقة الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع فإن ذلك محرم لأن النبي قال: ((أما يخشى الذي يرفع رأسه مثل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يجعل صوته صوت حمار)) حتى أن بعض أهل العلم قالوا إن المسابقة تبطل الصلاة ، وأن المسابقة تدل على جهل فاعلها، وإلا لماذا يسابق الإمام وهو يعرف أنه لن يخرج من الصلاة إلا بعد أن يسلم الإمام. ويمكن الحصول على الطمأنينة بالتدرب وبخاصة في صلاة الليل فبالتدرب والتعود على الطمأنينة يحصل الإنسان على الخشوع في الصلاة، وصدق الله وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة: 45].
الأمر السابع: وهو مهم جداً, وهو أنه يجب علينا أن نعلم أن الخشوع في الصلاة ، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسلوك المسلم خارج الصلاة، أي إذا أردت الخشوع في الصلاة يا عبد الله ، فراجع سلوكك في الحياة وتصرفاتك وقسها بحالك في الصلاة ، وعندها ستعرف حقيقة نفسك. أي بمعنى فكيف تريد أن تخشع عند قولك: الله أكبر وأنت تظن أن هناك من يساويه أو يدانيه في عظمته ، كيف تريد أن تخشع عند قولك ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الفاتحة: 2] وأنت بالحلال لا تقنع، ومن الحرام لا تشبع ، وكيف تريد أن تخشع وأنت تقول ?لرَّحْمَـ?نِ ?لرَّحِيمِ [الفاتحة: 3] وتدعي دائماً أنك واثق في رحمة الله وأنت شديد البطش، قاسي القلب على الناس من حولك من أهل وعمال وجيران ، كيف تريد أن تخشع وأنت تقول مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ [الفاتحة: 4] وأنت لا تذكر الوقوف بين يدي أحكم الحاكمين.
وكيف تريد أن تخشع عند قولك إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] وأنت تعبد هواك وشهواتك ورغباتك.
وكيف تريد أن تخشع عند قولك وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وأنت تلتجئ في الشدائد إلى من تظنه قوياً من المخلوقين وتترك الالتجاء إلى خالقك وخالقهم؟.
كيف تريد أن تخشع عند قولك: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] وأنت منحرف إلى الهوى، وربما كنت قبل دخولك المسجد تتعامل بالربا أو الزنا ، أو تشرب الخمر ، أو تؤذي النساء في الشوارع ، أو كنت تقضي وقتك الطويل في لعب الورق وشرب الشيشة والدخان أو النظر إلى الحسناوات في الأفلام والمسلسلات التي لا هدف لها ولا فائدة إلا الإفساد والتخريب، ثم تريد الخشوع، من أين؟
كيف تريد أن تخشع عند قولك صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة: 7] وأنت سيئ الأخلاق حقود وحسود ، نمام مغتاب ، غشاش كذاب. كيف.
كيف تريد أن تخشع عند قولك ولا الضالين وأنت فاسد الاعتقاد ، مدبر للشر والأذى والكيد لاخوانك المسلمين كيف؟ ، إذن لابد أن يكون المسلم عبدَ الله خارج الصلاة حتى يستطيع أن يخشع في صلاته إذا وقف أمام ربه. هذه حقيقة يجب أن نفهمها.
إن المسلم ليحزن من أحوال كثير من المصلين الذي لا يتقنون أداء الصلاة ، منهم أناس يؤدونها بلا خشوع ولا خضوع ثم تجدهم بعد ذلك يمنون على الله وعلى الناس بصلاتهم هذه، ونحن نقول إذا لم نعد جميعاً ونراجع أنفسنا ونبحث عن أسباب عدم الخشوع فنجتنبها ونبحث عن ما يجلب الخشوع في صلاتنا وفي عبادتنا فنصنعه.
اللهم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/1707)
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
16/4/1417
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الثقلين. 2- معنى العبادة. 3- فقر الناس إلى الله. 4- حقيقة الإنسان. 5- التفكر في آيات الله الكونية. 6- التذكير بالموت والقبر والحشر. 7- الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـ?لَى ?للَّهُ ?لْمَلِكُ ?لْحَقُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]. ويقول سبحانه: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:1-2].
وأخرج الإمام الترمذي ومسلم في صحيحه عن النبي أنه قال: ((بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
ما الهدف والغاية من وجودنا؟ لم خلقنا - يا عباد الله - ولم أوجدنا في هذه الحياة؟! هل خلقنا لنأكل ونشرب ونلبس! أم وجدنا لنجمع الأموال الوفيرة والكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث! أم الهدف والغاية من وجودنا وخلقنا أن نتمتع بزخرف هذه الحياة وزينتها!!
لا والله - يا عباد الله - ما خلقنا في هذه الدنيا عبثاً ولم نترك فيها سدى. أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى? ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى? فَجَعَلَ مِنْهُ ?لزَّوْجَيْنِ ?لذَّكَرَ وَ?لأُنثَى? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـ?دِرٍ عَلَى? أَن يُحْيِىَ ?لْمَوْتَى? [القيامة:36-40].
لقد خلقنا والله لمهمة عظيمة وغاية جليلة، تبرأت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان، لقد خلقنا لتوحيد الله الواحد الأحد وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أحد السلف يمر على صبية صغار يلعبون، وبينهم طفل صغير يبكي، فيظن الرجل أن هذا الطفل يبكي لأنه ليس له لعبة كما لهم لعب، فقال له: يا بني أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال: ما لهذا أبكي يا قليل العقل، إنما أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له، أولم يسمعوا قول الله وهو يوبخ أهل النار: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـ?لَى ?للَّهُ ?لْمَلِكُ ?لْحَقُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]. فدهش الرجل من إجابة هذا الطفل الصغير وقال له: يا بني إنك لذو لب لذو عقل، وإن كنت صغيراً فعظني، فقال له الطفل بيتاً واحداً:
فما الدنيا بباقية لحي وما حيٌ على الدنيا بباق
فرضي الله عنكم أيها السلف يوم علمتم أن هذه الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في طاعة الله، ويوم علمتم أن هذه الحياة ليست حياة أكل وشرب وجماع وإنما حياة عبودية وتذلل وطاعة لله الواحد الأحد، والله - يا عباد الله - إننا لفي غفلة عما خلقنا لأجله، وإن قلوبنا في قسوة لا يعلم بها إلا الله، وإننا بحاجة للتفكير بهذه القضية الكبرى في كل أسبوع بل في كل يوم وفي كل لحظة، فحاجتنا إليها أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشراب والهواء، وأعظم من حاجتنا إلى النوم والجماع واللباس.
فزاد الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرت
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
معاشر المسلمين:
الله سبحانه وتعالى غني عنا وعن عبادتنا وطاعتنا، لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، بل نحن بحاجة إلى الله ونحن الفقراء إلى الله: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]. وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
وفي الأثر الإلهي يقول رب العزة: ((إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية. وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينقلب إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، وعزتي وجلالي لا يكون عبدٌ من عبيدي على ما أكره فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب)).
فنحن يا عباد الله بحاجة إلى الله، ونحن مفتقرون إلى الله فلماذا نعصي الله؟! ولماذا لا نستشعر عبودية الله؟! ولماذا لا نستشعر حاجتنا لله وافتقارنا إلى الله؟!.
فليتك تعفو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خرابٌ
إن صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب
والله إن الإنسان إذا لم يرتبط بالله الواحد الديان فهو كالبهيمة بل هو أضل لأن الله كرمه بالفعل وشرفه بالفكر وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً.
فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟ وما الذي غرك حتى تجاوزت حدود الله؟ وما الذي أذهلك حتى انتهكت حرمات الله؟! من أنت يا أيها المسكين الحقير الذليل الفقير؟!! أما أنت الذي تؤذيك وتدميك البقة؟! أما أنت الذي تنتنك العرقة؟! أما أنت الذي تميتك الشرقة؟! أما أنت الذي تحمل في جوفك العذرة؟! أما أنت الذي تتحول في قبرك إلى جيفة قذرة؟! من أنت يا أيها المسكين؟!! أما كنت نطفة؟! أما كنت ماءً؟! أما كنت في عالم العدم؟! قبل سنوات لم تكن شيئاً مذكوراً، وبعد سنوات أيضاً لن تكون شيئاً مذكوراً، إِنَّا خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـ?هُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2].
مسكين هذا الإنسان، حقير هذا الإنسان، أتى من ماء، أتى من نطفة، أتى من عالم العدم، فلما مشى على الأرض تكبر وتجبر، ونسي الله الواحد. بصق الرسول يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله عز وجل: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق!! وأنى أوان الصدقة)).
فيا أيها الإنسان تفكر في نفسك، تفكر في ضعفك وعجزك وافتقارك، وتفكر في عظمة الله وفي ملكوت الله، انظر إلى السماء بلا عمد، انظر إلى الأرض في أحسن مدد، انظر من أجرى الهواء ومن سير الماء ومن جعل الطيور تناظم بالنغمات، ومن جعل الرياح غاديات رائحات، من فجر النسمات، من خلقك في أحسن تقويم؟!!.
أهذا يعصى، أهذا يكفر، أهذا يجحد؟!! والله إن السماء بما فيها من ملكوت لا تعصي الله، وإن الأرض لا تقوى على أي معصية، وإن الجبال الرواسي الشامخات لا تعصي الله، وإن الشمس بحرارتها وقوتها لا تعصي، وإن القمر بجماله لا يعصي الله، فلا إله إلا الله كيف استطاع هذا الإنسان الضعيف الحقير أن يعصي ربه وخالقه ومولاه؟! كيف تجرأ هذا الإنسان أن يعصي جبار السموات والأرض الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد؟!
يوم تنصب الموازين فيقول الله: يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: ما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين، عندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا ليوم لو رأته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
ممات ثم حشر ثم نشر وتوبيخ وأهوالٌ عظام
ليوم الحشر قد عملت أناس فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام
يا عبد الله، والله لن يبقى معك إلا ما قدمت من أعمال صالحة في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فـ يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
وأما في القبر فسوف يرجع أهلك ومالك ولن يبقى معك إلا عملك، فإن كان عملك صالحاً أتاك رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح، فتسأله: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، ولا أفارقك، وإن كان عملك خبيثاً فسوف يأتيك رجل قبيح الوجه قبيح الثياب قبيح الريح، فتقول له: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالشر، فيقول لك: أنا عملك السيئ ولا أفارقك.
وليت أن الأمر ينتهي عند هذا الحد بل سوف تقف عارياً حافياً في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق على قدر ميل منهم، ويكون الناس في ذلك اليوم على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ عرقه ركبتيه، ومنهم من يبلغ عرقه حقويه، ومنهم من يبلغ حنجرته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فتفكر يا عبد الله يوم تقف بين يدي الله ليس بينك وبينه ترجمان، فتتلفت يميناً فلا تجد إلا ما قدمت، وتتلفت شمالاً فلا ترى إلا ما قدمت، فتتلفت أمامك فلا ترى إلا النار، وقد غضب الرب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده قط، فعجباً لك يا ابن آدم كيف تجتهد وتتعب وتنصب وتشقى من أجل خمسين أو ستين سنة في هذه الحياة الدنيا - وهذا لمن بلغ الخمسين أو الستين - ولا تجتهد ولا تعمل من أجل يوم واحد فقط مقداره خمسين ألف سنة، ومن أجل موقف خطير ومصير مجهول إما إلى نار وإما إلى جنة مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم أحد السلف الزاهدين العابدين، هذا الرجل أسرف على نفسه في المعاصي، فجاء إلى إبراهيم فقال له: عظني حتى لا أعود إلى معصية، قال له إبراهيم: إن استطعت على خمس أمور فلن تعصي الله: إذا أردت أن تعصي الله فاعصه حيث لا يراك، قال: وكيف ذاك وقد وسع علمه السموات والأرض؟ وإذا أردت أن تعصي الله فاخرج من داره، قال: وكيف ذاك وكل ما في السموات والأرض ملك لله؟ وإذا أردت أن تعطي الله فلا تأكل من رزقه، قال: وكيف ذاك وكل ما في السموات والأرض رزق الله؟ وإن أردت أن تعصي الله فإذا جاء ملك الموت فقل له: أخرني إلى أجل قريب، قال: وكيف ذاك وهو القائل: فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61]؟ وإن أردت أن تعصي الله فإذا جاءك زبانية جهنم ليأخذوك معهم فلا تذهب معهم، فما كاد أن يسمع إلى هذه الخامسة حتى بكى بكاءً شديداً وعاهد الله أن لا يعود إلى معصية.
فيا عبد الله، يا من أسرف على نفسه في المعاصي، يا من ابتعد عن الله، يا من أعرض عن الله، عد إلى الله فهو القائل: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. وهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها وهو القائل: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)).
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله من العطا لذي الخطا
لا يغرنك يا ابن آدم ستر الله فإن كنت سترت هنا فتذكر الفضيحة يوم الفضائح والكربات، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، تعرض لنفحات الله - يا عبد الله - ما دمت فوق الأرض قبل أن تصير في بطن الأرض، تزود من الأعمال الصالحة ما دمت في النور قبل أن تصير إلى ظلمة القبور، تعرض لرحمة الله وأنت تسمع المواعظ قبل أن تسمع قرع نعال من ودعوك وأودعوك في قبرك، تذكر يا عبد الله واتعظ وأنت في المهلة قبل النقلة، وأنت في دار العمل قبل أن تصير إلى دار الجزاء.
فيا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1708)
ألهاكم التكاثر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
21/1/1417
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الانشغال بالدنيا عن ذكر الله. 2- فتنة المال. 3- حقيقة السعادة. 4- مكر أعداء الإسلام بالمسلمين. 5- المال ليس مذموما لذاته. 6- ذم التكاثر بالأولاد. 7- ذم التكاثر بالعلم والشهادات والمناصب. 8- التذكير بالموت والقبر. 9- وجوب شكر النعم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ?لْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ?لْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ?لْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [سورة التكاثر].
في ظلال آيات بينات من كتاب الله سبحانه وتعالى نعيش هذه الخطبة، علَّ الله سبحانه وتعالى أن يرحمنا، وأن يفتح علينا بهذا القرآن العظيم الذي نزله الله سبحانه لهداية البشرية والإنسانية وإنقاذها من الجهالة والضلالة، والشبه والشهوة، إلى النور والإيمان والسعادة والرضوان.
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
هذه السورة التي بين أيدينا اليوم سورة قليلة الآيات قصيرة المقاطع إلا أنها من السور العظيمة في القرآن العظيم، هذه السورة تعيش بنا بين جو هذه الدنيا الآسن الماجن المتخلف العفن، وبين جو الآخرة المشرق الباهر الرائع البديع.
فلنستمع إخوة الإسلام إلى قضايا هذه السورة الكبرى، يقول الله سبحانه وتعالى: أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ [التكاثر:1]. يبدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بهذا الهجوم على من ألهتهم هذه الدنيا وشغلتهم عن ذكر الله تعالى وعبادته وطاعته، وفي آية أخرى يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بأن لا تلهيهم هذه الدنيا وتشغلهم عما خلقوا لأجله، فيقول سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ بهذه الدنيا الفانية الملعونة التي لعنها رسول الله ووصفها بأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً، هذه الدنيا التي لا تساوي عند الله شيئاً، ولو كانت تساوي عنده شيئاً لما سقى منها كافراً شربة ماء.
أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ. والتكاثر -عباد الله- على أقسام، منه التكاثر بالأموال، وهذا الذي تشير إليه الآيات ويدل عليه أيضاً الحديث عن الرسول أنه قرأ يوماً هذه السورة فقال عليه الصلاة والسلام: ((يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟!!)). ويقول أيضاً : ((قلب الشيخ شاب على حب اثنتين: طول الحياة، وحب المال)). ويقول أيضاً : ((لو كان لابن آدم واديان من ذهب أحب أن له وادياً ثالثاً، ولن يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على من تاب)).
ولذلك كان يحذر أمته من التكاثر بالأموال والانهماك على حطام هذه الدنيا ويقول: ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)). ولذلك لما جاء جبريل عليه السلام إلى الرسول بمفاتيح خزائن الأرض وقال له: يا محمد لو أردت أحول لك جبال الأرض ذهباً وفضة فعلت، قال : ((لا بل أبقى عبداً رسولاً، أشبع يوماً وأجوع يوماً إلى أن ألقى الله سبحانه وتعالى)).
أوّل من تكاثر بأمواله وكنوزه قارون، منحه الله كنوزاً كالتلال، ما جمعها بجهده ولا بذكائه ولا بعرقه لكنه كفر نعمة الله وأصر على تجريد نعم المال من الشكر، وأخذ يتكاثر بماله الذي كان يعجز الرجال الأشداء عن حمل مفاتيح خزائنه، وأخذ يسعى في الأرض فساداً، فماذا كان جزاؤه؟ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ?لأَرْضَ [القصص:81]. كان ضعفاء الإيمان من قوم قارون عندما يرون قارون متنعماً في أمواله يقولون: ي?لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَـ?رُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ [القصص:79]. فلما خسف الله به الأرض عرفوا أن النعيم والسعادة والحظ ليس في جمع المال وإنما في طاعة الرحمن وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ ?للَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْكَـ?فِرُونَ تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:82-83].
هذه الآيات يا عباد الله توبيخٌ لمن ضيع حياته في جمع الأرصدة لكنه ليس له رصيد من الإيمان والعمل الصالح، ليس له رصيد من الصلاة والقيام والصدقة والعمل الصالح بعد الإيمان بالله.
فوالله الذي لا إله إلا هو إن السعادة ليست في الدور ولا في القصور، ليست في بناء الفلل والعمارات ولا في ركوب السيارات، السعادة والله أن تكون عبداً لرب الأرض والسموات، وأن تكون من أولياء الله الذين يعملون الصالحات ويجتنبون المحرمات. إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
يقول كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ((لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)) ، ويقول عن سنة الفجر عن ركعتي الفجر أنها خير من الدنيا وما فيها، فكيف بصلاة الفجر؟
هذه هي السعادة يا عباد الله، وهذا هو الملك، وهذا هو السلطان سلطان العبودية لله والتذلل بين يديه، يقول إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله: والله إنا لفي نعيم وفي سعادة وفي لذة لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف.
وأما عبودية المال والمادة فيقول عنها : ((تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميلة والخميصة)).
معاشر المسلمين:
إن أعداء الإسلام يريدون منا أن ننشغل بحطام هذه الدنيا وأن نتكالب عليها حتى تسيطر هذه الدنيا على قلوبنا وتمتلئ بها نفوسنا، وإذا دخل حب الدنيا إلى القلب خرج منه حب الآخرة، لأن الدنيا والآخرة لا تجتمعان في قلب مسلم، فهما كالضرتين إن أرضيت إحداهما غضبت الأخرى.
يريد أعداء الأمة أن يغرقوا أمة الإسلام في الشهوات واللذات حتى يتناسوا قضاياهم الكبرى وحقوقهم المسلوبة وهذا واقع الأمة اليوم، وما أخبر عنه الصادق المصدوق محمد في قوله: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: أوَمن قلة يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
إخوة الإسلام:
إن المال في نفسه وذاته ليس مذموماً، بل هو من أكبر أسباب القوة والمنعة والعزة، وقد ملك الصحابة وكثير من السلف المال، ولكن لم يشتغلوا به ولم يلههم عما خلقوا لأجله، بل شغلوا المال في طاعة الله وصرفوه ثمناً لجنة الله، وامتثلوا قول الله: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77].
ومن التكاثر - يا عباد الله - التكاثر بالأولاد، والأولاد من متاع هذه الدنيا ومن فتن هذه الدنيا يقول سبحانه: إِنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ. ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّ مِنْ أَزْو?جِكُمْ وَأَوْلـ?دِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَ?حْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. وكثرة الأولاد ليست من علامات القبول والرضا، بل قد يكون الأولاد سبباً في شقاء الوالد وبؤسة وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحاً [سبأ:37].
وممن تكاثر وافتخر بأولاده الوليد بن المغيرة، آتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل ويتباهى بهم في المجالس، ولكنه نسي أن الذي خلقه فرداً بلا ولد هو الله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [المدثر:11-15] ولكنه كفر نعمة الله، وسخر أبناءه لمحاربة الله فماذا كان جزاؤه؟ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِى وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30].
ومن التكاثر أيضاً يا عباد الله التكاثر بالعلم والشهادات والمناصب والهيئات، والعلم يا عباد الله إن لم يورث ويكسب صاحبه خوفاً وخشية وإنابة إلى الله فهو ضلال وجهالة ولعنة، العلم إن لم يتبعه عملٌ صالح فهو حجة على صاحبه وندامة يوم القيامة.
إذا لم يفدك العلم شيئاً فليتك ثم ليتك ما علمت
وإن أرداك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمت
ولذلك نعى الله سبحانه على المتكثرين في العلم بلا عمل فقال سبحانه عن بني إسرائيل: كَمَثَلِ ?لْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5]. وكذلك نعى الرسول على المتكثرين في العلم بلا عمل فقال : ((من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من أعراض الدنيا لم يجد عرف الجنة أي رائحتها، وإن عرفها من مسيرة أربعين عاماً)).
وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن والعالم والمنفق، يقال لقارئ القرآن: قرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم يكب على وجهه في نار جهنم، ويؤتى بالعالم فيقال له: تعلمت العلم ليقال: عالم، فقد قيل، ثم يكب على وجهه في نار جهنم عياذاً بالله.
أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2]. ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد والجاه والعلم والمنصب والهيئة وبمتاع هذه الدنيا وزخرفها وما زلتم معرضين في غفلة وفي سهو ولعب حتى زرتم المقابر، وهذه الزيارة ليست كالزيارات، إنها زيارة جبرية وزيارة حتمية وزيارة لا رجعة بعدها إلى البيت، إنها زيارة بالأكفان، إما إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء منقول
فإذا حملت إلى القبور جنازة فاعلم بأنك بعدها محمول
كل يوم يا عباد الله نودع ونشيع غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه ومضى حقاً إلى ربه فنودعه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، خلع الأسباب وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما أسلف، أليس في هذا معتبر وعن البغي مزدجر؟!! كفى بالموت واعظاً، وكفى بالقبر عظة وعبرة.
عباد الله يا عباد الله:
سوف نخرج من هذه الدنيا كما دخلنا إليها حفاة عراة ولن يبقى معنا إلا العمل الصالح وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى? كَمَا خَلَقْنَـ?كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـ?كُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ?لْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ?لْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ?لْيَقِينِ [التكاثر:1-7].
إذا انتقل الإنسان من هذه الدار إلى دار القرار سوف يرى كل شيء ويعلم كل شيء، ويعرف كل شيء ويشاهد كل شيء بعينه ويندم حين لا ينفع الندم.
فيا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي.
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب.
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
يختم الله سبحانه وتعالى هذه السورة العظيمة بقوله: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ وكل ما أنعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان فهو نعيم، ونعم الله سبحانه وتعالى على عباده لا تحصى ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ?لنَّعِيمِ [التكاثر:8].
فالواجب على العبد أن يشكر هذه النعم، وشكر النعم يكون بثلاثة أمور: باللسان والقلب والجوارح، فاللسان يلهج بالشكر والثناء على الله بهذه النعم، والقلب يعترف ويقر بأن هذه النعم من عند الله، والجوارح تستمر في طاعة الله عز وجل شكراً لله.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وجاء في سبب نزول هذه الآية العظيمة كما في الصحيحين أن الرسول تلمس ذات يوم طعاماً في بيته فلم يجد طعاماً، فخرج من بيته وهو جائع وإذا به يجد في طريقه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب فيسألهم الرسول عن سبب خروجهما من البيت، فيقولان: والله يا رسول الله ما أخرجنا إلا الجوع، فيقول لهم الرسول : ((اذهبوا بنا إلى فلان من الأنصار علنا أن نجد عنده طعاماً)) ، فلما وصلا إلى بيت الأنصاري ورآهم كبر من الفرح وقال: والله ما أحد أحسن مني ضيفاً اليوم، فذبح لهم شاة وأكلوا وشربوا وشبعوا، فلما شبع قال: ((والله لتسألن يومئذ عن النعيم)).
فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، شبع مرة واحدة في أشهر طويلة، ومع ذلك يتحرى السؤال من الله عز وجل ونحن نشبع مرات في اليوم والليلة، ومع ذلك نتسخط على نعم الله عز وجل، فنسأل الله تعالى أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا، ونسأله جل وعلا أن لا يعاملنا بما نحن أهله وأن يعاملنا بما هو أهله، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1709)
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
التوحيد
الألوهية
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
12/10/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من خلق الثقلين. 2- الرزق مقدر ومضمون. 3- سر الزهد في الدنيا. 4- وجوب الأخذ بالأسباب. 5- معنى العبادة. 6- شرطا العبادة. 7- تعاهد النية وتحسينها. 8- جمع النيات في العمل الواحد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه، ثم أما بعد:
فيقول المولى جل في علاه: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
ويقول سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:1-2]. وأخرج الترمذي في جامعه عن النبي أنه قال: ((بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً منبذاً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر))، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النبي أنه قال: ((بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
لم خلقنا يا عباد الله؟ ولم أوجدنا في هذه الحياة؟ وما الهدف والغاية من وجودنا؟! هل خلقنا لنأكل ونشرب ونلبس، أم وجدنا لنجمع الأموال الوفيرة والكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث؟!!! أم الهدف والغاية من وجودنا وخلقنا أن نتمتع بزخرف هذه الحياة وزينتها؟؟!
لا والله يا عباد الله، ما خلقنا في هذه الدنيا عبثاً، ولم نترك فيها سدى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـ?لَى ?للَّهُ ?لْمَلِكُ ?لْحَقُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116]. لقد خلقنا - يا عباد الله - لمهمة عظيمة وغاية جليلة ألا وهي توحيده جل في علاه، وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
إخوة الإسلام:
إن قضية الرزق والتي أخذت مساحة شاسعة من أوقاتنا وجهدنا وتفكيرنا قد ضمنها الله وتكفل بها لجميع خلقه، فاسمع يا أيها العبد الموحد لربك وخالقك ومولاك إلى قول الحق سبحانه وتعالى وهو يقول: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]. واسمع إلى قول الله سبحانه وتعالى وهو يقول: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23]. ويقول الصادق المصدوق محمد : ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))، ويقول أيضاً كما في حديث ابن مسعود وأرضاه: ((إن الملك عندما ينفخ الروح يؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)).
لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بالرزق للحيوانات والهوام والدواب والسباع فكيف بك يا ابن آدم، يا من فضلك الله على سائر مخلوقاته، رأى رجل عصفوراً يطير من شجرة إلى شجرة وبفمه لحمة ينقلها إلى أعلى نخلة، فصعد الرجل إلى أعلى النخلة لكي يعرف سر هذا العصفور، فإذا به يجد في أعلى النخلة حية عمياء كبيرة، فكان إذا اقترب منها العصور وشوش لها فتحت فاها وألقى فيه العصفور قطعة اللحم [1]. فسبحان من سخر هذا العصفور لتلك الحية، وسبحان من دل تلك الحية على رزقها.
وخرج نبي الله سليمان عليه السلام ليستسقي بقومه في سنة مجدبة، وقد علم الله نبيه سليمان منطق الطير، فكان يكلم الحيوانات والهوام، وفي طريقه للاستسقاء رأى نملة قد استلقت على ظهرها ورفعت رجلها ويداها إلى السماء، فقال لها نبي الله سليمان: لماذا فعلت ذلك؟ قالت: أستسقي الله أن ينزل المطر، فرجع نبي الله سليمان عليه السلام إلى قومه وقال لهم: عودوا فقد سقيتم بدعاء غيركم.
وذكر أن نبي الله سليمان أراد أن يتولى رزق بعض المخلوقات، ولكن المولى سبحانه وتعالى أعلمه أنه لن يستطيع ذلك، فقال نبي الله سليمان: يا رب ولو رزق نملة؟ فقال المولى له: لك ما شئت، فأخذ نبي الله سليمان نملة، ووضعها في زجاجة، وقال لها: كم تأكلين في العام؟ قالت: آكل حبتين من القمح، فوضع لها نبي الله سليمان حبتين من القمح، ومضى عام كامل، فنظر إليها فوجدها قد أكلت حبة واحدة من القمح وأبقت على الأخرى، فقال لها: أيتها النملة ألم تخبريني أنك تأكلين في كل عام حبتين من القمح؟! فلماذا أكلت حبة واحدة؟ فقالت النملة: يا نبي الله سليمان، كنت آكل حبتين من القمح وأنا متيقنة وواثقة بإن الله الرازق سيبعث إليّ بغيرها، لكنني لما علمت أنك الذي توليت أمر رزقي خفت أن تنساني فأكلت حبة وادخرت الحبة الأخرى للعام القادم.
إن هذه النملة يا عباد الله أفقه من كثير من البشر الذين طغت المادة عليهم حتى ضاعت ثقتهم بخالقهم ورازقهم ومولاهم، ونسوا أن الرازق هو الله.
انظر يا عبد الله إلى البيضة حين تنفصل عن الدجاجة، فمن البياض يخلق الله سبحانه وتعالى الفرخ، وبالمح الذي هو الصفار يتغذى هذا الفرخ حتى يخرج من البيض، فانظر كيف هيأ الله لهذا الفرخ زاده قبل أن يوجد.
وأعجب من هذا كله بيضة الغراب إذا انفقأت خرج الفرخ أبيض اللون والأم سوداء، فتخاف الأم من فرخها وتنفر منه لمباينة اللون، فيبقى فرخ الغراب الأبيض الأعمى فاتحاً فمه، والقدر يسوق إلى فيه الذباب والهوام فيتغذى بها حتى يسود لونه فتعود إليه أمه.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
سئل الحسن البصري رحمه الله عن سر زهده في الدنيا، فقال أربعة أشياء:
1- علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأنّ قلبي.
2- وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به وحدي.
3- وعلمت أن الله مطلع عليّ فاستحييت أن يراني على معصية.
4- وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربي.
فعجباً لك يا ابن آدم كيف تجتهد في أمر مضمون قد ضمنه الله لك، ولا تجتهد في أمر خطير وموقف عظيم ومصير مجهول إما إلى نار وإما إلى جنة.
ولا يعني هذا عباد الله أن تترك العمل في طلب الرزق، وتتفرغ لعبادة الله، لا، فالإسلام يدعوك للعمل ويدعوك للسعي في مناكب الأرض والأخذ بالأسباب لتحصيل الرزق الحلال.
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها جنته ولكن كل شيء له سبب
ولكن إياك - يا عبد الله - أن تجرفك زهرة هذه الحياة وتنسيك ما خلقت لأجله.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا
ممات ثم حشر ثم نشر وأهوال وأحوال جسام
ليوم الحشر قد عملت أناس فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] ذكر هذه القصة ابن الجوزي
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد علمنا أن الهدف والغاية من وجودنا في هذه الحياة هو عبادة الله عز وجل، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
وإذا علم هذا فليعلم أن أي عبادة لا يكتب لها القبول ولا ترتفع إلى السماء إلا وهي مختومة بخاتم لا إله إلا الله محمد رسول الله ، أي أنه لا بد من توفر شرطين أساسيين في أي عبادة أو عمل لكي يقبل:
الشرط الأول: أن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الله عز وجل، غير مشوب برياء ولا سمعة ولا شرك، فالله سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء [البينة:5].
والشرط الثاني: أن يكون هذا العمل موافقاً لما جاء به محمد بن عبد الله ، يقول : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي مردود على صاحبه، وفي الأثر الإلهي يقول الرب سبحانه: ((لو جاؤوني من كل طريق واستفتحوا عليّ من كل باب ما فتحت لهم حتى يأتوا خلفك يا محمد)). ويقول سبحانه وتعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً - أي موافقاً لهدي الرسول - وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا الكهف:110].
ومن فقه العبادة أن ينوي العبد لكل عمل نية، فلا يعمل عملاً إلا بنية، فإن النية الصالحة ترفع الأعمال المباحة إلى درجة الطاعة والعبادة، إذا أخلص العبد النية فيأكل الإنسان ويشرب وهو ينوي بالأكل والشراب أن يتقوى على طاعة الله، وينام الإنسان وهو ينوي أن يتقوى بهذا النوم على عبادة الله عز وجل، ويجامع الإنسان زوجته ويقضي شهوته ووطره وهو ينوي أن يحصن فرجه عن الحرام، يقول : ((وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته فيكون له بذلك أجر؟ فقال : ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟)) ، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((فكذلك إن وضعها في الحلال يكون له أجر)).
وهكذا يا عباد الله فإن النية الصالحة تحول العادة إلى عبادة وطاعة، ولذلك قال بعض السلف: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.
ومن فقه العبادة أيضاً: أن يجمع العبد في العمل الواحد نيات كثيرة صالحة.
يقول : ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)) فلو أراد العبد أن يذهب إلى صلاة الجمعة مثلاً فليَنوِ أنه يريد أن يؤدي فرضاً من فرائض الله، وأن يستمع إلى الخطبة ويعمل بما فيها من علم ونصح، وأن يلتقي بإخوانه المسلمين ويسلم عليهم، وأن يقيم ذكر الله عز وجل في المسجد، وأن ينظف المسجد، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن الله عز وجل يثيبه على هذه الأعمال جميعاً.
ولو طرق الباب طارق فقبل أن تفتح الباب انوِ في قلبك أنه لو كان سائلاً أعطيته، ولو كان جائعاً أطعمته، ولو كان جاراً أو قريباً قضيت حاجته، فلو فتحت الباب ولم تجد أحداً كتب الله لك أجور هذه الأعمال جميعاً ولذلك قيل: تجارة النيات تجارة العلماء.
فتقربوا رحمكم الله إلى ربكم بالأعمال الصالحة، وراقبوه تبارك وتعالى في السر والعلانية، طهروا قلوبكم، وزنوا نفوسكم، فلا ينفع عند الله عز وجل إلا التقوى والعمل الصالح.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلحني وإياكم ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين سلك بهم صراطه المستقيم، وهداهم إلى البر العميم والأجر العظيم.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1710)
استقبال رمضان بالتوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
28/8/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشارة بقدوم رمضان. 2- استقبال الناس اليوم لرمضان. 3- استقبال السلف لرمضان. 4- شروط التوبة. 5- سعة رحمة الله تعالى. 6- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً. ويقول جل في علاه: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ويقول سبحانه: نَبّئْ عِبَادِى أَنّى أَنَا ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ ?لْعَذَابُ ?لأَلِيمُ [الحجر:49-50]. ويقول أيضاً رب العزة والجلال في حديث قدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
نستقبل في هذه الساعات القادمة ضيفا كريما، وشهرا عظيما، لم يبق بيننا وبينه إلا ساعات معدودة، فماذا أعددنا لهذا الضيف؟ وكيف سنستقبل هذا الشهر العظيم؟ شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
إن كثيراً من الناس يستعدون لشهر رمضان المبارك بتوفير ما يحتاجونه من مستلزمات الحياة من طعام وشراب، وكأن شهر رمضان أصبح شهراً للطعام وللأكل والشراب والنوم والخمول والكسل، لا شهراً للطاعة والعبادة والجهاد والعمل، هذا هو حالنا في هذه الأيام إلا من رحمه الله، أما صحابة محمد وسلف هذه الأمة الصالح فكانوا يستقبلون رمضان ويستعدون له ويتهيئون لقدومه قبل أن يأتي بستة أشهر يقولون: "اللهم بلغنا رمضان"، فإذا جاء رمضان أجهدوا أنفسهم في طاعة الرحمن، وفي التقرب إلى الله الواحد الديان، فإذا انقضى الشهر الكريم ودعوه بقية العام يقولون: "اللهم تقبل منا رمضان"، فكان عامهم كله رمضان، وكانت حياتهم كلها رمضان. فرضي الله عنكم يا أيها السلف يوم علمتم أن الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في مرضاة الله، ويوم علمتم أن الحياة ليست حياة الأكل والشرب والشهوة إنما هي حياة الطاعة والعبودية والاتصال بالله الواحد جل في علاه.
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدين عمران
فزاد الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرت
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون ابن متى
معاشر الأحبة:
إن علينا أن نستقبل شهر رمضان بتوبة صادقة خالصة نصوحٍ، نقلع فيها عن كل معصية، ونندم على ما مضى من أعمارنا في معصية الله، ونعاهد الله ألا نعود لمعصية.
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وربّه ولا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إلى الذنب أبداً، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف شرط رابع لهذه الشروط الثلاثة وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً رده إليه، وإن كانت غيبة استحله منها ونحو ذلك.
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
كلنا ذوو خطأ يا عباد الله، وكلنا ذاك المذنب، والخطأ من طبيعة البشر والمعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، والكمال لصاحب الكمال سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وأرضاه عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم)).
فلا بد من الخطأ والتقصير، فكلنا ذو خطأ، وكلنا ذاك المذنب.
ومن الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد مبرأ لا عيب فيه وهل نار تفوح بلا دخان
ومن الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
ولكن المصيبة يا عباد الله أن نبقى على الخطأ، وأن ندوم على الذنب، وأن نصر على المعصية التي هي والله شؤم، وهي والله وحشة وعذاب من الله الواحد الديان.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
المعصية يا عباد الله قد تكون سبباً في أن يحبس الله سبحانه وتعالى عن الأمة الخير، ولو كانت من فرد واحد من الأمة لم يؤمر ولم ينه نسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
ها هم بنو إسرائيل يلحق بهم قحط شديد على عهد موسى عليه السلام، فيجتمعون إلى نبي الله موسى عليه السلام فيقولون: يا نبي الله ادع لنا ربك أن يغيثنا الغيث، فقام معهم وقد خرجوا إلى الصحراء وعددهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع. فما زادت السماء إلا تقشعاً، والشمس إلا حرارة، فتعجب نبي الله موسى من ذلك وسأل الله عن ذلك، فأوحى الله إليه أن فيكم عبداً يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم.
فقال موسى: إلهي وسيدي، أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف، فأين يصل صوتي ويظهر وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فأوحى الله إلى موسى أن منك النداء ومنا البلاغ، فقام نبي الله موسى عليه السلام منادياً في الناس قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعاصي منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا، منك ومن ذنوبك منعنا القطر من السماء، فقام العبد العاصي ونظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج فعلم أنه المقصود، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا القطر من السماء بشؤمي وشوم ذنبي ومعصيتي، فما كان من هذا العبد العاصي إلا أن أدخل رأسه في ثيابه نادماً ومتأسفاً على فعاله ثم قال: يا إلهي ويا سيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً تائباً نادماً فاقبلني ولا تفضحني يا كريم، فما أكمل كلامه حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأمثال القرب حتى ارتوت الأرض وسالت الأودية، فقال موسى عليه السلام: إلهي وسيدي، سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال الله: يا موسى أسقيتكم بالذي به منعتكم، فقال موسى: إلهي أرني هذا العبد الطائع التائب، فقال الله: يا موسى لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟!!
فلا إله إلا الله ما أعظم شأن التوبة، ولا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله بعباده، وحلمه سبحانه وتعالى.
فيا أيها المذنب وكلنا ذاك المذنب، ويا من زل وأخطأ وأذنب، ويا من بارز الله بالمعصية وبكره الله، تب إلى الله وعد إلى رحابه قبل أن تفضح في يوم الفضائح، وتندم حين لا ينفع الندم يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
من أعظم الأمور المعينة على التوبة – يا عباد الله – أن يستحضر العبد سعة رحمة الله سبحانه وتعالى فهو القائل: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. وهو القائل جل في علاه في حديث قدسي أخرجه الترمذي يقول سبحانه: ((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لآتيتك بقرابها مغفرة)).
وهو القائل سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
وفي الصحيحين أن رجلاً أسرف على نفسه في الخطايا فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً ثم احرقوني بالنار ثم اسحقوني وذروني مع الريح، فلما توفي هذا الرجل وفعل أولاده بوصيته قال له الله: يا عبدي، ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب، خفتك وخشيت ذنوبي، فقال الله: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
وفي صحيح البخاري أن سبياً جاء إلى الرسول ، وإذا بامرأة من نساء السبي جاءت تبحث عن صبي لها فقدته، فأخذت تقلب الأطفال واحداً واحدا، ثم وجدت طفلها بعد مشقة وعناء، فألصقته في بطنها وأخذت ترضعه، والرسول وصحابته يرقبون الموقف ويرقبون المرأة وهي تذرف الدموع رحمة بوليدها، فيقول الرسول لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) ، قالوا: لا يا رسول الله، فقال : ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)).
فلا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله، وما أوسع رحمة الله، رحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، ورحمته جل وعلا سبقت غضبه، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، له سبحانه مائة رحمة، أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق كلهم، صغيرهم وكبيرهم، مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وأعجمهم، حتى إن الدابة لترفع رجلها ليرضع منها وليدها ثم يذهب بهذه الرحمة، فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، حتى إن إبليس ليتطاول في ذلك اليوم، ويظن أن رحمة الله ستشمله.
فيا من رحمتك وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك.
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرمٍ لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه
يروى أن رجلاً من بني إسرائيل أطاع الله أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فلما نظر في المرآة رأى الشيب في لحيته فقال: يا رب، أطعتك أربعين سنة، وعصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني؟ فقيل له: أطعت ربك فقبلك، وعصيته فأمهلك، وإن عدت إليه قبلك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فأعتقني من النار
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله..
أما بعد:
فمن أعظم أسباب التوبة – عباد الله – تذكر الموت والقدوم إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى.
ذكر ابن قدامة في كتاب التوابين أن امرأة بغيا زانية كانت بارعة الجمال ولا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، رآها عابد ما عصى الله، فلما رآها أعجبته وفتنت قلبه وسلبت لبه، فذهب وعمل وكدَّ حتى جمع المائة الدينار، ثم جاء إليها في بيتها وقال لها: لقد أعجبتيني فاشتغلت واجتهدت في العمل حتى جمعت لك المائة الدينار، وها أنا ذا جئت بها، فقالت له: ادخل، وأخذت منه المائة الدينار، فدخل إلى غرفتها وكان لها سرير من ذهب، فجلست على سريرها ثم قالت له: هلم إليّ، فتذكر ذاك العابد مقامه بين يدي الله وقدومه إلى الله فأخذته رعدة ورعشة، وقال لها: اتركيني لأخرج ولك المائة الدينار، فقالت له البغي: عجباً لك زعمت أنك تكد وتكدح لتجمع هذه المائة الدينار، فلما قدرت عليّ فعلت ما فعلت!! قال: فعلته والله خوفاً من الله ومن مقامي بين يديه، فرق قلب تلك المرأة وخافت وارتعدت وتذكرت القدوم على الله، فقالت له: لا أدعك حتى آخذ عليك عهداً أن تتزوجني، فأعطاها العهد، وأعطاها مكانه وهو يريد الخلاص منها، فخرج من عندها نادماً على ما فعل، وهو لم يقارف الفاحشة، وتابت تلك المرأة وكان سبباً في توبتها، ولا زال في نفس تلك المرأة أن تتزوج بمن كان سبباً في توبتها، فذهبت وبحثت عن مكان ذلك الرجل، فلما وصلت إلى بيته طرقت عليه الباب وفتح لها الباب ذلك الرجل، فلما رآها تذكر ذلك اليوم الذي كاد أن يقدم فيه على عمل الفاحشة بهذه المرأة، وتذكر موقفه أمام الله وقدومه على الله فشهق شهقة عظيمة ومات، فحزنت عليه هذه المرأة التائبة حزناً عظيماً، وقالت: أما هذا فقد فاتني، فهل له من قريب أتزوجه؟ فقالوا لها: له أخ فقير تقي، فقالت: أتزوجه إن رضي حباً لأخيه، فتزوجته فكان من نسله ونسلها سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.
وها هو شاب في الثلاثين من عمره في أوج شبابه وشهوته وقوته لكنه يخاف الله، واسمه الربيع بن خثيم، وكان في بلده فساق وفجار يتواصون على إفساد الناس، وهم في كل مكان وزمان يصدون عن سبيل الله، أتوا بزانية وقالوا لها: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قبلة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، فذهبت إليه وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت له مفاتنها فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يدي الرب العظيم؟ أم كيف بك إن لم تتوبي يوم ترمين في الجحيم؟ فصرخت وولت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله، قائمة لليل صائمة للنهار، حتى لقبت بعابدة الكوفة.
معاشر المسلمين:
إن من أعظم فرص الحياة أن بلغنا الله هذه الساعات التي نتهيأ فيها لاستقبال شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يبلغنا هذا الشهر العظيم، فكم نعرف من الأهل والإخوان والأقارب والجيران صاموا معنا في العام الماضي، وهم الآن تحت الجنادل والتراب وحدهم، أتاهم الموت، أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وآخذ البنين والبنات، فاختطفهم من بين أيدينا، أسكتهم والله فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، كأنهم والله ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمو حياً فما أقرب القاصي من الداني
الموت - يا عباد الله - يقصم الظهور ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور ويسكنهم القبور.
الموت لا يستأذن شاباً ولا شيخاً ولا طفلاً، ولا يستأذن غنياً ولا أميراً ولا ملكاً ولا وزيراً ولا سلطاناً.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدوا بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
الموت يا عباد الله أسرع وأقرب إلينا من شراك النعل، وما أسرعه هذه الأيام، وما أسهله، والحياة قصيرة - والله - جد قصيرة، إذا ولد الإنسان أذن في أذنه اليمنى أذان بلا صلاة، فإذا مات الإنسان صليت عليه صلاة الجنازة بلا أذان، فكأن حياة الإنسان قصيرة قصيرة، وكأنها كالوقت الذي بين الأذان والإقامة.
أذان الطفل في الميلاد دوماً وتأخير الصلاة إلى الممات
دليلاً أنّ محياه قليلٌ كما بين الإقامة والصلاة
فهل من تائب إلى الله؟ وهل من عائد إلى رحاب الله؟ وهل من توبة صادقة؟ وهل من عودة حميدة؟
يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره، ودنا أجله، ماذا أعددت للقاء الله؟ وماذا بقي لك في هذه الدنيا؟ يقول سفيان الثوري: "إذا بلغ العبد ستين سنة فليشتر كفناً وليهاجر إلى الله".
ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل، ماذا أعددت للقاء الله؟ متى تستفيق إن لم تستفق اليوم؟ ومتى تتوب إن لم تتب في هذه الساعات؟ ومتى تعمل إن لم تعمل في هذه اللحظات؟
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لجميع من تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1711)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
البشارة بشهر رمضان. 2- فضائل رمضان. 3- صفة الجنة. 4- صفة النار. 5- خصائص الصيام. 6- خيبة من أدرك رمضان ولم يغفر له. 7- الاجتهاد في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه، ثم أما بعد:
فيقول المولى سبحانه: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ويقول جل وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
وقال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)). وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
لقد أظلنا شهر كريم وموسم عظيم، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ ، شهر الخيرات والبركات، شهر المنح والهبات، شهر النفحات والنسمات، شهر محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها)) الخصلة الأولى: ((خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) والخلوف هو الرائحة الكريهة التي تنبعث من فم الصائم نتيجة خلو المعدة من الطعام، ولكن لما كانت هذه الرائحة ناتجة عن عبادة الله تعالى وطاعته كانت هذه الرائحة المستكرهة عند الناس أطيب من رائحة المسك.
الخصلة الثانية: ((وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا)) ، ملائكة الرحمن، عباد الله المكرمون الذين لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يستغفرون لك - يا عبد الله - حتى تفطر، فأيُّ منزلة أعظم من هذه المنزلة؟! وأيُّ مكانة أفضل من هذه المكانة؟!!.
الخصلة الثالثة: ((ويزين الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك)) ، الجنة - يا عباد الله - تتزين لعباد الله المؤمنين العاملين في كل يوم من أيام هذا الشهر، فهل من عامل كريم، وهل من مشمر لها؟!!.
الجنة - يا عباد الله - لبنة ذهب ولبنة فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، لها ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون، وموضع قدم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها أي خمارها خير من الدنيا وما فيها.
وفي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة، عن النبي قال: ((سأل موسى عليه السلام ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة فقال الله سبحانه وتعالى: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب وكيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكُ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول الله: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذَّت عينك، فيقول: رضيت رب، فيقول موسى عليه السلام: رب فأعلاهم منزلة، قال أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر)) ، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:17].
وذكر أن سفيان الثوري رحمه الله تعالى وكان من العلماء العاملين الزاهدين العابدين كان كثير الاجتهاد فقال له تلاميذه: يا إمام، هوِّن على نفسك، فقال سفيان: كيف لا أجتهد وقد بلغني أن أهل الجنة يكونون في منازلهم، فيتجلى لهم نور تضيء له الجنان الثمان، فيظنون أن ذلك نور من عند الرب سبحانه وتعالى فيخرون ساجدين، فينادون أن ارفعوا رؤوسكم ليس الذي تظنون إنما هو نور جارية تبسمت في وجه صاحبها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
منازلك الأولى وفيها المخيم
الجار أحمد والرحمن بانيها
والزعفران حشيش نابت فيها
فحيّ على جنات عدن فإنها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها
قصورها ذهب والمسك طينتها
هذه الجنة يا عباد الله فكيف بالنار؟ النار يا عباد الله أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة. نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم.
وبينما صحابة رسول الله جلوس عنده، وإذا بهم يسمعون صوتاً منكراً فقال لهم الرسول : ((أتدرون ما هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال : ((هذا حجر أرسله الله في جهنم منذ سبعين خريفاً - أي منذ سبعين سنة - فانتهى إلى قعرها الآن)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لو أن قطرة من الزقوم قُطِّرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه الزقوم؟!)).
أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً.
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
أنسته هذه الصبغة في نار جهنم كل نعيم مر به في حياته الدنيا، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عتقائه من النار في هذا الشهر الكريم.
الخصلة الرابعة: ((تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره)).
الخصلة الخامسة التي خص بها أمة محمد في هذا الشهر الكريم: ((يغفر لهم في آخر ليلة))، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفَّى أجره إذا قضى عمله)).
إخوة الإسلام:
ومن خصائص الصيام أن جعل الله سبحانه وتعالى جزاءه وأجره عليه سبحانه وتعالى، فكل عبادة من العبادات جعل الله سبحانه وتعالى أجرها محدودا كالصلاة والزكاة والحج إلا الصوم فأجره غير محدود، لأنّ الصوم يتجلى فيه الصبر، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)).
إخوة الإسلام، وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
الصوم مدرسة يتربى فيها الصائم طيلة هذا الشهر الكريم، بل جعل الله سبحانه وتعالى علة الصوم تحقيق التقوى كما قال سبحانه: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فجعل الله سبحانه وتعالى علة الصوم والحكمة من فرضيته هو تحقيق هذه الكلمة العظيمة، فالصائم يجهد نفسه في نهار رمضان بالصيام وترك الأكل والشراب والجماع مما أباحه الله له، فالمحرمات من باب الأولى، كل ذلك إيماناً بالله واحتساباً لما عند الله من الأجر والثواب، وكذلك فإن الصائم يستشعر عظمة الخالق سبحانه وتعالى ومراقبته في كل جارحة من جوارحه، وفي كل عضو من أعضائه، فكما أنه صام عمَّا أباحه الله من طعام وشراب وجماع، فكذلك يصوم عمَّا حرَّمه الله من كذب وغيبة ونميمة ونظرة آثمة.
ولذلك يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي: ((الصيام جُنَّة – أي وقاية للصائم من الوقوع في أي معصية أو ذنب – الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم)).
وهكذا يا عباد الله إذا حقق الصائم هذه الكلمة الدينيّة – كلمة التقوى –، واستشعر عظمة الله ومراقبة الله، واتقى الله في كل جارحة من جوارحه، وفي كل عضو من أعضائه، فاز في الدنيا والآخرة، وفرح في الدنيا والآخرة، يقول رسول الله : ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).
وأما إذا لم يحقق العبد هذه الكلمة فقد أتعب نفسه، وليس له حظ من صيامه إلا الجوع والعطش، كما قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، ويقول : ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
صعد النبي المنبر فارتقى الدرجة الأولى فقال: ((آمين)) ، ثم ارتقى الدرجة الثانية فقال: ((آمين))، ثم ارتقى الدرجة الثالثة فقال: ((آمين)) ، فلما نزل الرسول من المنبر قال الصحابة: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه فقال : ((إن جبريل عرض لي في الدرجة الأولى فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له، فقلت: آمين)).
هذه دعوة من أفضل أهل السماء جبريل عليه السلام، ويؤمِّن عليها أفضل أهل الأرض محمد.
فهل من مشمر لعمل الطاعات في هذه الشهر الكريم؟ وهل من مستثمر لهذا الموسم العظيم؟ كان رسول الله من أكثر الناس اجتهاداً في هذا الشهر العظيم، وكان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة.
وهكذا كان سلف هذه الأمة، كان السلف رحمهم الله يعتمدون على العصي من طول القيام في هذا الشهر الكريم، وكانوا إذا دخل هذا الشهر الكريم تفرغوا لقراءة القرآن وعبادة الرحمن، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف، وكان السلف يسمون هذا الشهر شهر القطيعة من الخلق والإقبال على الخالق، فلنتسابق عباد الله إلى الخيرات ولنتنافس على الطاعات وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:27].
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1712)
الحسد أول معصية عصي الله بها في الأرض
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, القرآن والتفسير
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
6/9/1419
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مع قصة ابني آدم. 2- الدرس الأول: من سن في الإسلام سنة. 3- الدرس الثاني: شناعة جريمة القتل. 4- الدرس الثالث: الحسد مركوز في الفطر. 5- الدرس الرابع: التفضيل بين الإخوة سبب العداوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـ?ناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ?لآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لنَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ فَبَعَثَ ?للَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ?لأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَـ?وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـ?ذَا ?لْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ ?لنَّـ?دِمِينَ [المائدة:27-31].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد رسول الله :
مع قصة من قصص القرآن نعيش اليوم لنأخذ منها دروساً وعبراً، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى ?لأَلْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? [يوسف:111].
يقول سبحانه وتعالى: وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَـ?ناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ?لآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
وَ?تْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ?بْنَىْ ءادَمَ بِ?لْحَقّ أي اقصص عليهم هذا النبأ العظيم وهذا الخبر العجيب بالحق كما كان وكما حصل وكما حدث بلا زيادة أو نقصان.
قال أهل التفسير: "لما هبط آدم وحواء إلى الأرض بدأ التناسل والتكاثر، وولدت حواء عشرين بطناً كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، فكان أول أولادهما قابيل وأخته ثم هابيل وأخته، وكان من شريعة آدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال، ولكن لا يجوز للأخ أن يتزوج بأخته التوأم ولكن يتزوج بأي أخت من أخواته غير التوأم التي لم تكن معه في نفس البطن، وكانت أخت قابيل جميلة وأخت هابيل دميمة، فطلب هابيل أن يتزوج أخت قابيل الجميلة – كما شرع الله – ولكن قابيل رفض وقال: أنا أحق بأختي مع أن هذا حرام في شريعة آدم عليه السلام.
وكان قابيل في طبعه خشونة وشدة، وأما هابيل فكان فيه ليونة ورقة، وكان قابيل يعمل في الزراعة، وأما هابيل فكان يعمل ويرعى الأغنام، وكان من شريعة آدم عليه السلام تقديم القرابين، والقربان هدية تهدى لله سبحانه وتعالى كهدي الحج، وكانت علامة قبول القربان أن تأتي نار فتأكل هذا القربان، وإذا لم تأكل النار هذا القربان فهذا علامة على عدم قبول هذا القربان، فقدم هابيل كبشاً وكان من أفضل المواشي عنده، وأما قابيل فجاء بزرع نتن غير صالح للأكل فقدمه قرباناً، فلما جاءا في اليوم التالي وجدوا أن قربان هابيل قد قبل وأكلته النار وأما قربان قابيل لم يتقبل بقي كما هو لم تأكله النار، فزاد حسده على أخيه وزاد حنقه وحقده وغضبه، وما كان من قابيل إلا أن قال لأخيه هابيل: أينظر الناس إليّ وأنت خير مني لا والله لأقتلنك، فقال له أخوه مع أنه كان أقوى من أخيه وقادرا على التغلب عليه، ولكن منعه الخوف من الله، يقول عبد الله بن عمرو قال هابيل: وما ذنبي أنا إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، وسوس الشيطان لقابيل أن يقتل أخاه، وزين له ذلك ولم يكن القتل معروفاً ولم تحدث أي جريمة قتل قبل ذلك قال قابيل لأخيه هابيل: لأَقْتُلَنَّكَ فما كان من أخيه هابيل إلا أن ذكره بالله عز وجل وقال له: لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ ?للَّهَ رَبَّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المائدة:28]. يعني لن أدافع عن نفسي ولن أقاوم ولن أعاملك بالمثل ولكن أذكرك الله رب العالمين، ولكن لم ينفع ذلك فأخذ هابيل يخوفه عذاب الله وانتقل من الترغيب إلى الترهيب وقال له: إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لنَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:29]. يعني لا تقتلني فإن فعلت ذلك فسوف تبوء بإثمي وإثمك، يعني سوف تحمل إثم قتلي فوق آثامك الماضية، وتكون من أصحاب النار عياذاً بالله. ولكن لم ينفع الترغيب ولا الترهيب لأن الشيطان قد استحوذ عليه، وأيم الله إن كان أشد الرجلين ولكن منعه الورع.
وملأ قلبه حسداً وحقداً على أخيه، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [المائدة:30]. حصلت الجريمة أول جريمة قتل في تاريخ الإنسانية سببها الحسد، فكان الحسد أول معصية يعصى بها الله سبحانه وتعالى في الأرض.
في ليلة سوداء بينما كان هابيل نائماً جاء قابيل بصخرة فهشم بها رأس أخيه فقتله، وكانت الجريمة.
احتار قابيل في جثة أخيه ماذا يعمل بها؟ كيف يستر جريمته فقد كانت أول جثة ولا يعرف ماذا يفعل؟ ما كان منه إلا أن حمل هذه الجثة على ظهره وأخذ يمشي بها في الأرض، وبينما هو كذلك إذ أنزل الله غرابين أخوين فتقاتلا وقتل أحدهما الآخر، ومات الغراب أمام نظر قابيل، ثم إن الغراب الحي بدأ يحفر التراب ثم دفع بجثة الغراب الميت وحثا عليه التراب، فتعلم قابيل من الغراب كيف يدفن أخاه، فحفر في الأرض، ووضع أخاه في الحفرة ثم حثا عليه التراب، وأصبح نادماً على ما فعل، ولكنه ما استغفر وما تاب وما أناب، وهذا قوله تعالى: فَبَعَثَ ?للَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى ?لأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَـ?وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـ?ذَا ?لْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ ?لنَّـ?دِمِينَ [المائدة:31].
أول هذه الدروس: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، يقول : ((لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل))، ولذلك يقول سبحانه وتعالى بعد هذه الآيات: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ أي من أجل قتل قابيل لأخيه هابيل: مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].
الدرس الثاني: شناعة هذه الجريمة – جريمة القتل – وعظيم عقوبتها عند الله، فهي أعظم معصية عصي بها الله تعالى بعد الإشراك بالله تعالى يقول سبحانه وتعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]. وفي الحديث الصحيح يقول : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) وفي الحديث أيضاً يقول : ((ما من فعل أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).
وقد اجتمع هذان الأمران – البغي وقطيعة الرحم – في قابيل أجارنا الله جميعاً وصرف عنا أسباب غضبه ومقته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فالدرس الثالث في قصة ابني آدم عليه السلام أن الحسد مركوز في فطر الناس، قال الحسن رحمه الله: ما خلا جسد من حسد، ولكن المؤمن يدفعه، ويعتقد أن الحسد من أكبر الخطايا والذنوب وأنه من أقبح السيئات، وأنه يأكل الحسنات، وأنه ينحل الجسم، وأنه يذهب بالتقوى والورع، وأنه يغضب الرب على العبد.
أتدري على من أسأت الأدب
لأنك لم ترض لي ما وهب
ألا قل لمن بات لي حاسداً
أسأت على الله سبحانه
من حسد فقد أساء الأدب مع الله، وقد اعترض على القضاء والقدر، وقد ضيع نفسه وكره فضل ربه على الناس أَمْ يَحْسُدُونَ ?لنَّاسَ عَلَى? مَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54]. فالحسد مقيت وهو أول ما عصي به الله في الأرض – كما عرفنا – نعوذ بالله منه.
واجب الحاسد أن يتوب إلى الله، وأن يراجع حسابه مع الله، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يحسن إلى المحسود، وأن يهدي له، وأن يدعو له، وأن يعلم أنه ارتكب خطيئة ما أعظمها من خطيئة.
الدرس الرابع: أن المحن تقع بين الإخوة إذا فضل بعضهم على بعض، فمن حسن التربية أن يساووا في كل شيء في الحب والعطاء والتكاليف، وفي كل شيء، فلا يقدم أحدهم على الآخر، ولو كان مطيعاً ولو كان باراً، فلا ينبغي أن يفضل على إخوانه، يقول النعمان بن بشير ما: ذهب بي أبي إلى رسول الله وقد ميزني بشيء من القسمة فقال : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا يا رسول الله، قال: ((فلا تشهدني إذاً، فإني لا أشهد على جور)) يعني على ظلم، أو قال: ((فأشهد على هذا غيري)). فنهى أن يقدم ويفضل أحد الأبناء على الآخرين لأن هذا يؤدي إلى المكيدة والعداوة بين الأبناء أعاذنا الله جميعاً.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1713)
الحياء
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
21/2/1418
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الحياء في الإسلام. 2- حال المرأة اليوم. 3- تعريف الحياء. 4- الحث على حفظ الجوارح. 5- الحث على تطييب المأكل والمشرب. 6- التذكير بالموت والحشر. 7- ذم الدنيا وبيان حقيقتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه، ثم أما بعد:
فحديثنا اليوم عن صفة عظيمة من الصفات الإسلامية الحميدة والتي غابت عن مجتمعاتنا في هذه الأيام وافتقدناه في هذه الأزمان المتأخرة إلا من رحمه الله.
إنها صفة جامعة لكل خصال الخير، تدفع الإنسان إلى فعل المحاسن وتبعده عن القبائح، إنها شعبة من شعب الإيمان، وسبب من أسباب السعادة والقرب من الرحمن، إنها الإيمان، وإذا غابت غاب الإيمان يقول : ((الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)).
إنه خلق الإسلام، كما قال : ((إن لكل دين خلقاً، وإن خلق الإسلام الحياء)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
الحياء لا يأتي إلا بخير بل هو خير كله، وما كان في شيء إلا زانه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق محمد ، ولقد مر على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول الرجل لأخيه: إنك لتستحيي حتى كأنه يقول: قد أضر بك، فقال رسول الله : ((دعه فإن الحياء من الإيمان)).
ولذلك - إخوة الإسلام - كان رسول الله أشد الناس حياء، يقول عنه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري : (كان رسول الله أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه) والحديث مخرج في الصحيحين، والعذراء هي البنت البكر التي لم يسبق لها الزواج، والخدر هو الموضع الذي تصان فيه عن الأعين.
رحم الله الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري، يضرب لنا مثلاً بالبنت البكر فكيف لو رآها وقد أهملت وضاعت ونزع منها جلباب الحياء؟ كيف لو رآها وهي تزاحم الرجال في وسائل المواصلات وفي الوظيفة والعمل؟! بل كيف لو رآها وهي تتسكع في الأسواق والطرقات وفي الحدائق والمنتزهات متبرجة سافرة بلا حياء ولا خجل من جبار الأرض والسموات؟! رضي الله عن فاطمة الزهراء عندما سئلت عن أفضل وصية للنساء فقالت وأرضاها: (أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال)، فأين نساء الإسلام من هذه الوصية الغالية؟ وأين هن من هذه الصفة العظيمة والخلق الجليل؟
هذه صحابية من صحابيات رسول الله تسمع قول الحق سبحانه وتعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأُولَى? [الأحزاب:33]، فبقيت في بيتها تعبد ربها وتطيع زوجها حتى لقيت ربها، وما رئيت خارج بيتها إلا وهي جنازة محمولة على الأعناق.
فيا أمة الله الحياء الحياء، فإنه تاج رأسك ورأس مالك، والحياء وإن كان صفة عامة يجب أن يتحلى به الرجال والنساء إلا أنه في خلق النساء آكد يقول سبحانه وتعالى: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25].
أمة الإسلام وإخوة الإيمان:
الحياء خلق عظيم يحمل معاني عظيمة واسعة، وقد عرفه الرسول تعريفاً جامعاً مانعاً شاملاً شافياً وافياً كافياً، فاستمعوا معي - أيها الأحبة - إلى هذا الحديث الذي أخرجه الترمذي والطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قلنا: إنا لنستحي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء)).
فأين نحن - يا عباد الله - من الحياء، ((أن تحفظ الرأس وما وعى)) نعم يا عباد الله الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، أن تحفظ عقلك وفكرك وسمعك وبصرك ولسانك، فتسخر هذه الأعضاء في طاعة الله سبحانه وتعالى، وتصرفها عن معصية الخالق جل في علاه، وتعلم أنك مسؤول محاسب على هذه الأعضاء: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
من الحياء - يا عباد الله - أن تحفظ لسانك، وتجعله رطباً بذكر الله، وتشغله في طاعة الله، وتصرفه عن معصية الله، تصرفه عن الكذب وعن الغيبة والنميمة والسخرية والفحش والهمز واللمز، وتعلم أن هذا اللسان إما أن يكون سبباً في رفع درجتك عند الله، وإما أن يكون سبباً في هوانك وضياعك، فكم من كلمة قالها صاحبها مستخفياً بها وقد هوت به في نار جهنم سبعين خريفاً؟! وكم من كلمة خير قالها صاحبها لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها رضوانه أبداً؟!
لذلك يقول الرسول لمعاذ بن جبل وهو يوصيه بوصية عظيمة وغالية يختم الرسول هذه الوصايا بقوله: ((يا معاذ، ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) ، قال: بلى، يا نبي الله، قال: ((كف عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، قال: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟!!)). نعم يا عباد الله، ولذلك أيضاً لما جاء عقبة بن عامر وأرضاه يسأل الرسول عن طريق النجاة قال له: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).
لذلك كان الصديق أبو بكر يبكي ويخرج لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، ويقول عبد الله بن مسعود : (والله ما شيء أحق بطول حبس من اللسان).
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من صريع لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
من الحياء أن يحفظ الإنسان بصره عن الحرام، فلا ينظر إلا إلى ما أحل الله، فالعين إذا انطلقت إلى الحرام فهي سهم من سهام إبليس، ومن غضَّ طرفه عن الحرام أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في صدره قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]. إن على المؤمن أن يوجه بصره للنظر في ملكوت السموات والأرض والتفكير بما فيها من الآيات العظيمة، وعليه أن يصرف بصره عن الحرام، عن النساء، عن الصور الخليعة، ويبتعد عن أماكن الفتنة، وليحذر كل الحذر، فرب نظرة واحدة أودت بصاحبها، ورب نظرة أعقبها ندم وأسى وحزن ولوعة وحسرة.
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت من قلب صاحبها كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغير موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
يا باعث الطرف يرتاد الشقاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
من الحياء أن يحفظ الإنسان سمعه، فيوجه سمعه إلى ما ينفعه ويفيده في أخراه ودنياه، يستمع لكتاب الله، يستمع للذكر والعلم، يستمع للمواعظ، يستمع لأخبار وأحوال المسلمين في كل مكان، يصرف سمعه عن الحرام عن الكذب عن البهتان عن الغيبة والنميمة والزور وعن الفحش والغناء وعن كل ما يغضب رب الأرض والسماء.
الحياء - يا عبد الله – ((أن تحفظ البطن وما حوى))، فيحفظ البطن عن المطعم الحرام فلا تأكل إلا مما أباحه الله سبحانه وتعالى، فيتخلى المسلم عن كل مصدر للمال حرام فلا يأكل الربا ولا الرشوة ولا الغش ولا يأكل إلا مما أباحه الله سبحانه، فيطيب المؤمن مأكله ومشربه ليجيب الله دعوته، في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يأَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَ?عْمَلُواْ صَـ?لِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]. وقال: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:172]. ثم قال: وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك).
((أن تحفظ البطن وما حوى)) يعني يحفظ الإنسان فرجه عن الحرام ولا يستعمله إلا فيما أباحه الله له يقول تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المؤمون:5-7]. وأما من حفظ فرجه فجزاؤه أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:10-11]. والرسول يقول: ((من يضمن لي ما بين فخذيه وما بين لحييه أضمن له الجنة)).
يأتي رجل إلى رسول الله وكان حديث عهد بالإسلام، وقد امتلأ قلبه بحب الزنا - عياذاً بالله – فيقول: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأنا لا أستطيع أن أترك الزنا، فقال له الرسول : ((هل ترضاه لأمك؟)) ، قال: لا، قال: ((هل ترضاه لأختك؟)) ، قال: لا، قال: ((هل ترضاه لابنتك؟)) ، قال: لا، قال: ((هل ترضاه لمحارمك؟)) ، قال: لا، ثم دعا له الرسول بخير، فخرج من عند رسول الله وليس في قلبه أبغض من الزنا.
وهكذا يا عباد الله لنعلم أن هذه ديون، ومن أراد أن يحفظ الله عليه زوجته وابنته ومحارمه فليتق الله في نساء المسلمين، يقول : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في قعر بيته)). نعم يا عباد الله فهذه ديون وكما تدين تدان.
حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
وهذا تاجر كان وزوجته الصالحة يعيشان حياة هنيئة، وكان عندهما سقاء طيب، رجل صالح يعمل عندهم ويجلب لهم الماء وكان رجلاً عفيفاً حيياً غاضاً طرفه، ظل يعمل عندهم عشرين سنة وما رأوا منه سوءاً، خرج التاجر ذات يوم إلى تجارته ودكانه، وأتى السقاء بالماء لزوجته فأرادت الزوجة أن تأخذ الماء فمدت يدها إليه لتحمل منه الماء فأمسك يدها وأخذ يتحسسها ويتلمس نعومتها، ففرت منه خائفة وهي تتفكر في نفسها ما الذي غير هذا السقاء، ولما عاد زوجها قالت له: ماذا صنعت اليوم؟ قال لها: لم أصنع شيئاً، قالت: اصدقني القول ماذا صنعت اليوم؟ فقد فعل بي السقاء كذا وكذا، قال: أما وقد أخبرتني فسوف أخبرك، لقد جاءت إلي اليوم في الدكان امرأة جميلة فمدت يدها لتأخذ شيئاً من البضاعة فأمسكت يدها فقالت له: تلك المرأة، دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقاء، فأصبحت هذه القصة مثلاً مشهوراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيكمل الرسول كلماته النيرة المعطاءة المشرقة في تعريف الحياء فيقول : ((وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء)) نعم يا عباد الله فكفى بالموت واعظاً.
والله يا عباد الله لو تذكر الإنسان الموت وجعل هذا المصير بين عينيه، وعلم أنه سيوضع في تلك الحفرة وفي ذلك اللحد الضيق وحيداً فريداً لاستحى من الله حق الحياء، لذلك كان الرسول دائماً يذكر صحابته بالموت ويقول : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))، ويقول: ((قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة)).
وكان عثمان بن عفان إذا شيع جنازة بكى بكاءً شديداً حتى يغمى عليه، فقيل له في ذلك، فقال: (القبر أول منازل الآخرة، إذا نجا منه العبد فقد أفلح وسعد، وإذا لم ينج خاب وخسر).
يا عباد الله:
القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر من النار، فاختر لنفسك يا عبد الله.
القبر روضة من رياض الجنان أو حفرة من حفر النيران
فإن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شراً فبعده أشد ويل لعبد عن سبيل الله ند
قال العلماء: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسى الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم
فإنه قد دنا الموت الذي ليس بعده سوى الجنة أو حر نار تضرم
تشهد أعضاء المسيء بما جنى لذاك على فيه المهيمنُ يختم
لنستفق يا عباد الله، لنستيقظ من الغفلة ونحن في هذه الدار قبل أن نصير إلى الجنة أو النار، الموت قريب جداً منا، وهو أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، يعني جلدة حذائه، وما أسرعه في هذه الأيام وما أسهله وما أقربه، وهذه الحياة - والله - إنها قصيرة، ولا تستحق كل هذا النصب والتعب، قيل لنوح عليه السلام وقد أعاشه الله أكثر من ألف عام قيل له: كيف وجدت الدنيا؟ كيف رأيت الحياة؟ قال: كبيت له بابان، دخلت من واحد وخرجت من الآخر.
فلنتق الله عباد الله، ولنستحي من الله حق الحياء، ومن لم يتعظ بالموت والآخرة فليستحي من المنعم سبحانه وتعالى الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم
يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1714)
الدعاء: فضله وآدابه وموانع إجابته
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
22/5/1417
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم شأن الدعاء. 2- الدعاء عبادة. 3- آداب الدعاء. 4- موانع إجابة الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه، ثم أما بعد:
فيقول المولى سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]. وقال جل في علاه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فُضُلاً يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرَّجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم - وهو أعلم بهم - من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا، أي رب. قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقول: رب فيهم فلان عبدٌ خطاء إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
حديثنا اليوم عن الدعاء، والدعاء أمره عظيم، وشأنه كبير، فهو حبل بين العبد وربه، وهو صلة بين العبد وربه، سماه الله في كتابه عبادة، فقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى - أي عن دعائي - سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]. هذه الآية فيها وعد ووعيد:
وعد من الله بإجابة الدعاء، فالله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يدعوه ويلجؤوا إليه، ويظهروا فقرهم واحتياجهم له، بل إن الله سبحانه يبتلي العباد بالبلايا والرزايا، حتى يتضرعوا إليه ويدعوه سبحانه أن يفرج عنهم، يقول سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى? أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42].
وعيد بالنار لمن استكبر عن عبادة الجبار ودعاء الواحد القهار، وفي الحديث يقول : ((الدعاء هو العبادة)) ، فالله سمّى الدعاء في كتابه عبادة، وفي الحديث يقول : ((من لا يسأل الله يغضب عليه)).
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يُسأل يغضب
ولذلك فإن حاجة الدعاء لا تأتي عند كثير من الناس إلا في الأزمات فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ?لْفُلْكِ دَعَوُاْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ?لْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]. يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا ربّ ذنباً جنيناه
كم نطلب الله في خير يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطئ عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
الخلائق كلها تدعو الله والكائنات كلها تسبح الله وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـ?كِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
خرج نبي الله سليمان عليه السلام يستسقي بالناس، فمر في الطريق بنملة وإذا هي قد انقلبت على ظهرها ورفعت يديها إلى الحي القيوم تقول: يا حي يا قيوم أغثنا برحمتك.
لا إله إلا الله من الذي أخبر النملة أن الله خلقها؟! من الذي أخبر النملة أن الذي يحيي ويميت ويضر وينفع هو الله؟!! إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. بكى نبي الله سليمان، وقال لقومه: عودوا فقد سقيتم بدعاء غيركم.
وورد عن روح الله عيسى عليه السلام أنَّه مر ببقرة في الولادة، وقد اعترض ابنها في بطنها فأخذت البقرة تنظر إلى السماء تطلب العون من الله، فأنطقها الله الذي أنطق كل شيء، وقالت: يا حي يا قيوم يسر عليّ، ثم قالت: يا عيسى يا روح الله، أسألك أن تدعو الله أن يسهل علي. فبكى عيسى ودعا الله أن يسهل عليها.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداك
قل لهذا الطبيب الذي يداوي الناس بإذن الله وعنده العقاقير والأدوية والبلاسم قل له: من الذي أرداك؟ من الذي أماتك؟ من الذي قتلك؟ إنه الله.
أبو بكر الصديق قالوا له في مرض موته: ماذا تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد المغفرة، قالوا: ألا ندعوا لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني، قالوا: فماذا قال؟ قال: يقول: إني فعالٌ لما أريد.
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب: من عافاك؟
إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام مرض، فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]. فانظر يا عبد الله إلى الأدب الرفيع كيف نسب المرض إلى نفسه، ونسب الشفاء إلى الله مع أن الله هو الشافي والمعافي وهو الممرض وهو النافع والضار وهو المحيي والمميت.
معاشر الأحبة:
الدعاء خير كله وليس فيه خسارة أبداً، يقول : ((ما من عبد يدعو الله تعالى بدعوة إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجلها له في الدنيا، وإما أن يدخرها له يوم القيامة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)).
ويقول أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب : (عجباً لكم معكم الدواء ومعكم الداء، داؤكم الذنوب ودواؤكم الدعاء والاستغفار).
ويقول جعفر الصادق : عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع: عجبت لمن أصابه ضر كيف يغفل عن قول الله: أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، والله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ [الأنبياء:84]، وعجبت لمن أصابه غم كيف يغفل عن قول الله: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، والله سبحانه وتعالى يقول: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [المؤمنين:88]، وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن: حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]، والله تعالى يقول: فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء [آل عمران:174]، وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44]، والله تعالى يقول: فَوقَاهُ ?للَّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء ?لْعَذَابِ [غافر:45].
إخوة الإسلام:
للدعاء آداب، ومن أعظم آداب الدعاء توحيد الله في الدعاء، فلا يجوز أن ندعوا غير الله، فالدعاء عبادة، والعبادة لا يجوز أن تصرف إلا لمستحقها سبحانه وتعالى وحده.
ومن آداب الدعاء الجزم في الدعاء والثقة بالله في حصول الإجابة، فقد صح عن النبي من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
هذا أبو الدرداء كان جالساً فجاءه جماعة يقولون له: إن بيتك قد احترق، فقال لهم أبو الدرداء: لا، ولا ينبغي له أن يحترق، كلمات سمعتها من رسول الله يقول: ((من قالهن حين يصبح لم يمسسه السوء حتى يمسي، ومن قالهن حين يمسي لم يمسسه السوء حتى يصبح: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم))، قاموا معه حتى يروا الدار، فإذا هي قائمة لم يمسسها السوء وما حولها قد احترق.
ومن آداب الدعاء الخشوع والخضوع، وإظهار الحاجة والفقر والاضطرار إلى الله، وخفض الصوت ولينه يقول سبحانه وتعالى: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، ويثني الله سبحانه وتعالى على نبيه زكريا عليه السلام بقوله: إِذْ نَادَى? رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً [مريم:3].
وسأل الصحابة الرسول وقالوا: يا رسول الله، أربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. ولذلك يقول كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري: ((اربَعوا على أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً)).
ومن آداب الدعاء عدم الدعاء على الأهل والمال والولد، يقول : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
ومن آداب الدعاء تحري الأوقات الفاضلة كيوم الجمعة في الأسبوع، ويوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، والسحر من الليل، والسجود في الصلاة، وما بين الآذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند السفر.
ومن الآداب الثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله والوضوء والسواك واستقبال القبلة ورفع اليدين في الدعاء، يقوله : ((إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما خائبتين)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فهناك موانع تمنع من إجابة الدعاء، ومن هذه الموانع: أكل الحرام، يقول سعد بن أبي وقاص : يا رسول الله، ادع الله لي أن أكون مستجاب الدعوة، فقال له الرسول : ((يا سعد، أطب مطعمك تستجب دعوتك)) ، وذكر الرسول في حديثه الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.
ومن موانع إجابة الدعاء استعجال الإجابة، يقول : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي)) ، وهذا موسى عليه السلام وقف داعياً يقول: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ?طْمِسْ عَلَى? أَمْو?لِهِمْ وَ?شْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لأَلِيمَ [يونس:88]، وأخوه هارون عليه السلام يؤمن على الدعاء، فاستجاب الله دعاءهما وقال سبحانه: قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَ?سْتَقِيمَا [يونس:89]. قال العلماء: كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
فعلى المؤمن أن يدعو الله، وأن يلح على الله في الدعاء، ولا يعجل في الإجابة، وينتظر الفرج من الله، وكما قال الشاعر اليمني الموحد في قصيدته التي سماها الجوهرة:
لطائف الله وإن طال المدى كلمح الطرف إذا الطرف سجى
كم فَرَج بعد إياس أتى وكم إياس قد أتى بعد النوى
ومن موانع الإجابة الدعاء بالإثم وقطع الرحم، يقول : ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)).
ومن موانع إجابة الدعاء عدم الصلاة على النبي محمد ، يقول : ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي)) وفي رواية: ((حتى يصلى على النبي وآل محمد)) ، وكان عمر بن الخطاب يقول: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد إلا بالصلاة على النبي محمد ).
وسئل إبراهيم بن أدهم عن قول الحق سبحانه: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ. [غافر:60]، قالوا: فإنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟!! فقال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء:
1- عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
2- وتأكلون رزق الله ولا تشكرونه.
3- وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به.
4- وادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه.
5- وادعيتم حب رسول الله وتركتم أثره وسنته.
6- وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها.
7- وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب.
8- واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم.
9- وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له.
10- وتدفنون موتاكم ولا تعتبرون. فكيف يستجاب لكم؟!
أسأل الله سبحانه أن لا يعاملنا بما نحن أهله، وأن يعاملنا بما هو أهله، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة. وأسأله جل في علاه أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطئ ولا يمنعه جلاله من العطا لذي الخطا
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1715)
الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
27/9/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الزكاة في الإسلام. 2- وعيد مانعي الزكاة. 3- فوائد الزكاة. 4- من فقه الزكاة. 5- رمضان شهر الإحسان والإنفاق. 6- الحث على الصدقة. 7- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول الله سبحانه: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر يقول : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)).
إخوة الإسلام، وأحباب الحبيب المصطفى محمد ، حديثنا اليوم عن ركن عظيم من أركان الإسلام، ألا وهو الركن الثالث من أركان الإسلام الزكاة، والتي قرنها الله في كتابه وفي سنة نبيه محمد بالصلاة، ولذلك فقد قاتل الصديق وأرضاه مانعي الزكاة، وقال : "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها".
وقال ابن عباس : "ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها: الأولى قول الله تعالى: أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ [النساء:59]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، الثانية قوله تعالى: وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ [البقرة:277]، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه، الثالثة قوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه".
وكان ابن عباس يقول: "من كان له مال تجب فيه الزكاة ولم يزك سأل الرجعة عند الموت – أي سأل العودة إلى الحياة حتى يزكي – فقال رجل لابن عباس: اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار، فتلا ابن عباس على الرجل قول الحق سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [المنافقون:10].
مانعو الزكاة سماهم الله مشركين فقال سبحانه: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ بِ?لآخِرَةِ هُمْ كَـ?فِرُونَ [فصلت:6-7].
مانع الزكاة توعده الله عز وجل بالعذاب الأليم فقال سبحانه: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35-36]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأرضاه قال: قال رسول الله : ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
قال ابن مسعود : "لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسع الله جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على جلده".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وأرضاه قال: قال رسول الله : ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع – وهو الثعبان - له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم أخذ بلهزمتيه أي شدقيه ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الحق سبحانه وتعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180].
فيا من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاة هذا المال، اتق الله فبسببك وأمثالك منع الناس القطر من السماء، يقول : ((وما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين - أي بالجدب والقحط - ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)).
الزكاة يا عباد الله طهارة للمال وطهارة للنفس، طهارة لنفس الغني من الشح والبخل، وطهارة لنفس الفقير من الحسد والبغض والحقد، يقول تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
والله الذي لا إله إلا هو لو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم لما رأينا فقيراً ولا مسكيناً ولا جائعاً ولا عارياً ولا محروماً، وهذا ما حدث في عصر الخليفة العادل الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز ، يوم أن أقيم العدل في الأمة، ويوم أن عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، جمعت الزكاة في عصر عمر بن عبد العزيز، وأراد عمر أن يوزعها فلم يجد فقيراً واحداً في أنحاء الأمة، عقمت أرحام الدولة العمرية أن تلد فقيراً أو مسكيناً! وكان عمر بن عبد العزيز يحكم أمة تمتد حدودها من الصين شرقاً إلى باريس غرباً، ومن حدود سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، ومع ذلك جمع عمر بن عبد العزيز الزكاة فلم يجد مسكيناً واحداً يأخذ الزكاة، وفاض المال في بيت مال المسلمين، فأصدر عمر بن عبد العزيز أمراً بأداء الديون وقال: "اقضوا عن الغارمين"، فقضى ديون الناس ومازال المال فائضاً، فأصدر أمراً بإعتاق العبيد من بيت مال المسلمين، فأعتق العبيد ومازال المال فائضاً في خزينة الدولة، فأصدر أمراً بتزويج الشباب وقال: "أيما شاب أراد أن يتزوج فزواجه على حساب بيت مال المسلمين" تزوج الشباب وبقي المال.
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
تجب الزكاة في أربعة أنواع من المال: في الذهب والفضة وما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية، وفي عروض التجارة، وفي الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، وفي بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، فإذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول وجبت عليه الزكاة، وقد بين الله سبحانه وتعالى مصرف الزكاة في كتابه الكريم فقال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]. فلا يجوز ولا يجزئ صرف الزكاة لغير هذه الأصناف الثمانية التي بينها الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، ولا يجوز للأغنياء ولا للأقوياء المكتسبين أن يأخذوا منها، فإن أخذوا منها فإنما يأخذون حراماً وسحتاً. في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وأرضاه قال: قال رسول الله : ((من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر)). وفي الصحيحين من حديث ابن عمر يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم)).
إخوة الإسلام:
شهر رمضان شهر البر والإحسان، شهر المواساة والرحمة، شهر الإنفاق والصدقة، كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، فما أحسن المعروف يا عباد الله وما أحسن الجميل، والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسناً، وما أقبح القبيح والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً.
ويقول الشاعر عن البذل والجود: ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلوٌ وأما وجهه فجميل
والله سبحانه وتعالى يقول: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
والرسول يقول: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً)). الخير أبقى وإن طال الزمان به والشر أخبث ما أوعيت من زوال
فيا من أراد أن يخلف الله عليه وأن يبارك له في رزقه وفي دخله، أنفق على الفقراء والمساكين، وتفقد الأرامل واليتامى والمحرومين، وأنفق من أموالك في أوجه الخير والبر.
إذا كان بعض الجاهليين – يا عباد الله - لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين وهم وثنيون لا يعرفون رباً ولا رسولاً ولا ديناً، فما بال أهل الحق يبخلون بفضل الله على عباد الله.
فقدموا لأنفسكم – يا عباد الله – شيئاً تلقونه هناك قدموا للقبر، قدموا للصراط، قدموا ليوم الفضائح والكربات، واعلموا أن من قدم خيراً فإنما يقدم لنفسه وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ [المزمل:20].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد شرع الله لنا في ختام شهرنا عبادات تزيدنا منه قرباً، وترفع درجتنا عنده سبحانه وتعالى،
من هذه العبادات زكاة الفطر، فرضها الله سبحانه وتعالى تطهيراً للصائم مما قد وقع في صيامه من لغو ورفث ونقص وإثم، وطعمة للمساكين وإظهاراً للمودة والرحمة والمواساة بين الناس، وهي فريضة على الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين.
فعن عبد الله بن عمر - كما في الصحيحين - أنه قال: فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين.
وعن ابن عباس قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات.
ومقدار هذه الزكاة صاع من قوت البلد تصرف إلى الفقراء والمساكين.
وأما وقت إخراج هذه الزكاة فهو صباح يوم العيد بعد صلاة الفجر، وقبل صلاة العيد، ولذلك سن تأخير صلاة عيد الفطر حتى يتسع الوقت لإخراج هذه الزكاة، وسن تعجيل صلاة عيد الأضحى حتى يتفرغ الناس بعد الصلاة لذبح ضحاياهم.
ويجوز إخراج صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد إلا بعذر.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم من عباده المقبولين في هذا الشهر الكريم، وأن يجعلنا من عباده الفائزين المستبشرين برضوانه وجناته، ومن عتقائه وطلقائه من النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1716)
الزهد في الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
10/7/1414
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
تصوير حقيقة الدنيا. 2- حال الناس اليوم مع الدنيا. 3- حال السلف الصالح مع الدنيا. 4- حقارة الدنيا عند الله تعالى. 5- التحذير من طول الأمل. 6- وصف الدنيا. 7- التذكير بالموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد:
فيقول المولى جل في علاه: إِنَّمَا مَثَلُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ?لنَّاسُ وَ?لأَنْعَـ?مُ حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ ?لأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَ?زَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِ?لأَمْسِ كَذ?لِكَ نُفَصّلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
ويقول الحق سبحانه وتعالى: وَ?ضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45-46].
ويقول سبحانه: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
أيها الأحبة: هذه الآيات القرآنية الكريمة في وصف الدنيا والزهد فيها والتقلل منها.
وفي هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله لا نجد تاجراً صادقاً، ولا عابداً مخلصاً، أو عاملاً يؤدي عمله كما يجب، أو موظفاً يلتزم بعمله، أو صانعاً يتقن صنعته إلا من رحم ربك، وذلك أنهم جميعاً تكالبوا على هذه الدنيا فالكل لا ينظر إلاّ إلى المادة والوصول إلى المراكز المرموقة بأي وسيلة وأي طريق، ونسوا أو تناسوا حياتهم الأخرى وكأنهم لم يقتنعوا بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه وتعالى يقول: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لأَنْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَآبِ [آل عمران:14].
ثم قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذ?لِكُمْ لِلَّذِينَ ?تَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَارُ خَـ?الِدِينَ فِيهَا وَأَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:15].
ويقول تعالى: يأَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [فاطر:5].
قال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لا يلهيك فليس متاع الغرور، ولكنه بلاغ إلى ما هو خير منه.
وقال بعض العلماء: كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا.
وهذا هو الفرق يا عباد الله بين حالنا وحال الرعيل الأول والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فإن الدنيا كانت بأيديهم ولم تكن في قلوبهم، بل كانت قلوبهم لهذا الدين ولهذا الإسلام والإيمان، وأما نحن فأصبحت الدنيا في قلوبنا، وأصبح الدين في أيدينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإذا عرضت على أحدنا الدنيا فيما يغضب الله سبحانه وتعالى بعنا ما في أيدينا من الدين واشترينا الدنيا بعرضٍ من الدنيا قليل، لأن الدنيا قد استقرت وتمكنت وتعلقت بقلوبنا إلا من رحم الله سبحانه وتعالى.
وقد وصف رسول الله الدنيا في أحاديث كثيرة منها حديث جابر الذي أخرجه مسلم في صحيحه أن رسول الله مر بالسوق والناس كنفيه - أي بجانبيه - فمر بجدي أسك ميت، أي صغير الأذن فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟)) ، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)).
وكان الرسول يقول: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء)).
وقال : ((ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى وما والاه، وعالماً ومتعلماً)).
وقرأ الرسول قوله تعالى: أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ فأخذ يقول : ((يقول ابن آدم: مالي، مالي. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!!)).
وأخذ النبي بمنكب ابن عمر، فقال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)).
وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
فما أحسن كلامه وما أروعه وما أبلغه، وما أحسن كلام أصحابه رضي الله عنهم، واتباعهم لتعاليمه ووصاياه.
فهذه الأحاديث عباد الله أصل في قصر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ هذه الدنيا وطناً ومسكناً يطمئن إليه، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لآخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]. وكان النبي يقول: ((ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها)).
ومن وصايا المسيح عليه السلام لأصحابه قال: اعبروها ولا تعمروها، وروي عنه أيضاً أنه قال: من ذا الذي يبني على موج البحر داراً؟ تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً.
ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر! أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه!! فقال: إنه لا بد من متاع ما دمت ها هنا. فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا.
وكان علي بن أبي طالب يقول: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل).
وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز:"إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر عما قريب يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة. وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]".
وقيل: إن عيسى عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء، عليها من كل زينة فقال لها: كم تزوجت؟ قالت: لا أحفظهم، قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت. فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟ كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد، ولا يكونون على حذر؟!
فتفكر يا عبد الله في هذه الدنيا فإنها دار المصائب كلها ودار التعب ودار النصب ودار الإرهاق والأرق.
أولها عناء وآخرها فناء، حلالها حساب وحرامها عقاب، من استغنى بها فتن، ومن افتقر إليها حزن، ومن سعى لها فاتته، ومن نأى عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته.
إذا حلت أوحلت، وإذا كست أركست، وإذا جلت أوجلت، وإذا أينعت نعت، وإذا دنت أودنت.
قال ابن رجب يصف الدنيا: "ما يعيب الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس، وعمارتها بالخراب، واجتماعها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب".
هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام فقولي مضحك والفعل مبكي
واعلم أخي في الله أن الدنيا ليست وحدها التي تتزين لك بل يشترك معها الكثير في إغوائك وإنزالك منازل الأشقياء كما قال القائل:
إني ابتليت بأربع ما سلطوا إلا لشدة شقوتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص فكلهم أعدائي
فتفكر يا عبد الله في دنياك كم قتلت؟ وتذكر ما صنعت بأقرانك وما فعلت؟ واحذر أن تفتن بها وأن تنقاد لزهرتها، وكن من الذين فطنوا لحالها، والتزموا بأوامر الله خالقها وباريها.
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفناً
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: وَمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ لَهِىَ ?لْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطن، فينبغي عليه أن يكون فيها على أحد حالين:
إما أن يكون كأنه غريب في بلد غربة، فلا يتعلق بها قلبه، بل همه التزود للرجوع إلى وطنه.
أو يكون كأنه مسافر، غير مقيم ألبتة، بل هو في سير دائم في الليل والنهار، إلى بلد الإقامة.
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي أصبحت لها الأعداء فينا تحكم
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة؟!!
وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يومٌ، مضى بعضك!
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقاً كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحل من الدنيا بزادٍ من التقى فعمرك أيام وهن قلائل
يا معاشر المسلمين، إلى متى الركون إلى هذه الدنيا؟ إلى متى هذا التكالب على هذه الدنيا؟ وإلى متى التسويف بالتوبة؟ فالواجب علينا أن نبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا نقدر عليها، أو يحال بينها وبيننا بمرض أو موت أو غير ذلك من الأشغال، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية.
قال تعالى: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
معاشر المسلمين، ليس معنى هذا أن نتقوقع في هذه الدنيا أو نتكهن فيها، لا فالإسلام يدعوك أن تكوِّن لنفسك مركزاً اجتماعياً مرموقاً، وأن تكوِّن مالاً وفيراً من الحلال حتى يكفيك ومن تعول من الحرام، وحتى تمكن به لدين الله تعالى، وتنفق منه على الفقراء المساكين، ولكن إياك أن تجرفك زهرة الدنيا وهذا المال إلى الضلال والإضلال والهلاك، بل عليك أن تجعل هذا المال في يديك ولا تجعله في قلبك.
فالتوبة التوبة عباد الله، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1717)
جنة العبودية
التوحيد
الألوهية
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
23/4/1417
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى العبادة. 2- العبودية طريق إلى حب الله تعالى. 3- العبودية مكمن السعادة. 4- عبودية النبي لله تعالى. 5- عبودية الصحابة والسلف الصالح. 6- التنافس في الطاعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [مريم:110]. ويقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
عرفنا في الخطبة الماضية وعلمنا أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا في هذه الدنيا عبثاً، ولم يتركنا فيها سدى، بل خلقنا لغاية عظيمة، ومهمة جليلة، ألا وهي توحيده جل وعلا وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى.
فما هي العبادة يا عباد الله؟
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.
وأول ما يجب على العبد أن يتعبد به مولاه الفرائض التي افترضها الله تعالى عليه، ففي الحديث القدسي: ((يقول رب العزة والجلال: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما إلي افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)).
وإذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. فما أعظمها من مكانة، وما أرفعها من منزلة، يوم يتشرف العبد الفقير الحقير الذليل بعبودية الرب الجليل القوي العلي القدير.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
والله - يا عباد الله - إن الشرف والرفعة والمكانة والراحة والطمأنينة والسعادة ليست في الدور ولا في الفلل والسيارات والعمارات، ولا في الأموال والمناصب والجاه، إنها – والله - في عبادة رب الأرض والسموات، إنها في التشرف بالتذلل بين يدي الله، في الخضوع لله، في الارتباط بالله، في الاتصال بالمولى جل في علاه.
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى فالكل هين وكل ما فوق التراب تراب
عرف هذه الحقيقة أصحاب محمد وسلف هذه الأمة، فباعوا أنفسهم لله، وجعلوا حياتهم كلها لله: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
هذا محمد يتشرف بعبوديته لله - وهو أشرف الأنبياء والمرسلين وسيدنا ولا فخر - ويمدحه الله عز وجل في القرآن بالعبوديه في أشرف أحواله فيقول عنه سبحانه: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأَقْصَى [الإسراء:1]. ويقول عنه: وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ?للَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19]. ويقول أيضاً: تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]. فكان محمد أعبد الناس لله، وأشد الناس خشية لله، بل كان لا يجد الراحة والطمأنينة واللذة إلا في عبودية ربه سبحانه، فكان يقول : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة))، وكان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، وكان يقول لمؤذنه بلال بن رباح : ((أرحنا بها يا بلال))، كان يقوم الليل تتفطر قدماه، وتتشقق رجلاه من طول القيام، فيقال له: هون على نفسك فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول : ((أفلا أكون عبداً شكورا؟!!)). يصوم الأيام الشديدة الحر، بل يواصل الليل بالنهار، بل يواصل اليوم باليومين بالثلاثة، فأراد بعض الصحابة أن يواصلوا فنهاهم الرسول عن ذلك وقال لهم: ((لا، إنكم لستم كهيأتي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) لا يطعمه ولا يسقيه شراباً وإنما حكماً ومعارفاًً وفتوحات ربانية وإلهامات إلهية.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد
إن هذه والله هي الحياة، حياة الركعات، حياة السجدات، حياة الخضوع والتذلل والخشوع بين يدي رب البريات، قيل للحسن البصري رحمه الله: ما بال أهل الليل - أي أهل قيام الليل - على وجوههم النور؟ قال: خلوا بالرحمن فأكسبهم نوراً من نوره.
وهذا أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب وأرضاه يعرف هذه الحقيقة، ويجد الراحة والطمأنينة في عبادة الله، فيخرج في ظلام الليل الدامس، ويمسك لحيته ودموعه ساقطة من عينيه ويقول: "يا دنيا يا دنية، غري غيري، ألي تزينت؟ فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادك حقير وسفرك طويل، آهٍ من قلة الزاد وبعد الطريق ووحشة الموت". وكان يقول موصياً أصحابه: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب لما عرف شرف العبودية لله قال: "والله لولا ثلاث لما تمنيت الحياة، - لأنه ما وجد طعم اللذة والراحة والطمأنينة والسعادة إلا في هذه الأمور -: قيام الليل، وصيام الهواجر - أي صيام الأيام الشديدة الحر -، والجلوس مع أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر".
وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد يقول: "ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب مشتاق أحب إلي من ليلة شديد قرُّها - أي شديد بردها -، كثير مطرها، أصبح فيها العدو، فأقاتلهم في سبيل الله".
وكذلك قام حنظلة من فراشه وهو في ليلة عرسه وهو جنب يوم سمع منادي الكفاح، منادي الجهاد في غزوة أحد يقول: يا خيل الله اركبي، يا خيل الله اركبي، فما كان منه إلا أن لبس درعه وحمل سيفه وخرج إلى أرض المعركة يقاتل في سبيل الله، ويتمنى الموت في سبيل الله، ويتلذذ بالأذى في سبيله ولسان حاله يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وكأن لسان حاله أيضاً يقول لزوجته:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد وحين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تآسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
قاتل حنظلة إلى أن فاضت روحه إلى الله فغسلته ملائكة الرحمن وزفته إلى الجنان، حيث الحور العين، والنعيم المقيم، فجاء إليه الصحابة، فوجدوا الماء يتقاطر من جسده، فذهبوا إلى زوجته فأخبروها، فقالت لهم: لقد خرج وهو جنب. فقال لهم الرسول : ((والذي نفسي بيده، لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة بماء المزن في صحاف من ذهب وفضة)).
وهذا عبد الله بن جحش الشهيد المجدع، يأتي في عزوة أحد فيسمع سعد بن أبي وقاص يدعو الله ويقول: اللهم ارزقني رجلاً شديداً بأسه أقاتله فيك فأقتله وآخذ سلبه، فرفع عبد الله بن جحش يديه إلى السماء وقال: يا رب إني أسألك أن ترزقني رجلاً شديداً بأسه فأقاتله فيك، فيقتلني فيك، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يا رب فقلت لي: يا عبد الله فيم جدع أنفك وقطعت أذنك؟ فأقول: فيك يا رب، فوالله ما انتهت المعركة إلا وعبد الله بن جحش شهيداً في سبيل الله قد جدع أنفه وقطعت أذنه.
هكذا كانوا رضي الله عنهم؛ رهبان الليل وفرسان النهار.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبّوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
هكذا كان سلف هذه الأمة لما عرفوا حقيقة اللذة والسعادة والراحة، ويوم اتصلوا بالله فعرفهم الله منازل الصديقين كان قائلهم يقول: "والله إنا لفي لذة وفي نعيم لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، وكان قائلهم يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، إنها جنة العبودية، إنها جنة الطاعة والتذلل والخضوع والخشوع لله والبكاء من خشية الله سبحانه وتعالى.
ولذلك كانوا يتنافسون على الطاعات، ويتسابقون إلى الخيرات، يأتي أبو ذر إلى الرسول فيقول: ذهب أهل الدثور بالأجور - يعني ذهب أهل الأموال الأغنياء بالأجور - يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم - جاءت الحسرة في نفوس الصحابة على ذلك الأجر والثواب الذي لا يستطيعونه - فقال لهم الرسول : ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؛ كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة))، وعدد أبواباً من الخير، فسمع الأغنياء ففعلوا مثلما فعل الفقراء، فجاء الفقراء إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا الأغنياء ما قلت ففعلوا كما فعلنا، فقال الرسول : ((ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)).
هكذا كان همهم، وهكذا كان تطلعهم، وهكذا كانوا يتطلعون ويتسابقون، كان فقراء الصحابة الذين لا يملكون شيئاً - كما جاء في صحيح مسلم - كان أحدهم لا يجد ما ينفق من الصدقة، وقد أعطاه الله بسطة في الجسم وقوة في البدن، فكانوا يتحملون الأحمال، يعمل أحدهم حمالاً، لا ليتوسع في الرزق ولا ليرفع من مستوى المعيشة ولا ليؤمن مستقبله - كما يقال - ولا ليزيد من رصيده في البنك، وإنما ليتصدق على الفقراء والمساكين، وليرفع من رصيده في بنك الرحمن الذي يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
لقد وصل ذلك الجيل المبارك إلى حد أن يقوم أحدهم - وهو أبو ضمضم - يصلي في الليل، ثم يتوجه إلى الله بالدعاء ويقول: "اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به في سبيلك، ولا جسم أجاهد به في ذاتك، ولكني أتصدق بعرضي على المسلمين، اللهم من شتمني أو سبني أو ظلمني أو اغتابني فاجعلها لي كفارة".
فيا معاشر المؤمنين ويا معاشر الموحدين:
علينا أن نراجع أنفسنا، وأن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الله، هل أدينا الفرائض كما أمر الله؟ هل قدمنا لأنفسنا أعمالاً صالحة تشفع لنا عند الله؟ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر على الله يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟ ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1718)
رقابة الله الواحد الديان (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أعمال القلوب
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
24/11/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية النبي لابن عباس. 2- رقابة الله طريق للتقوى. 3- قصة المجادلة.4- قصة الأعرابي الذي قتل مع عمر بن الخطاب. 5- نداء للعصاة. 6- من قصص السلف في مراقبة الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:
صح عند الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس ما قال: كنت خلف رسول الله فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)). زاد أحمد في مسنده: ((وإن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
هذه وصية رسول الله لأتباعه وأنصاره أن يتقوا الله تعالى وأن يحفظوه في السر والعلن، وهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين قال سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:130].
قال بعض الصالحين: إذا أردت أن توصي صاحبك أو أخاك أو ابنك فقل له: احفظ الله يحفظك. ولذلك قال نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام قال: تعلمنا مما تعلم الناس ومما لم يتعلم الناس، فما وجدنا كحفظ الله في الغيب والشهادة.
فهل آن لنا عباد الله أن نتواصى بتقوى الله سبحانه وتعالى، وهل لنا أن نتذاكر مراقبة الله تعالى لنا، والله إننا بحاجة إلى هذه الوصية أكثر من حاجتنا إلى الأكل والشراب، فهل تواصينا بشيء وهل أوصينا أبناءنا وبناتنا بتقوى الله.
والله إن أبناءنا لا يحتاجون إلى الوصية في جمع الدرهم والدينار، فوالله ما قصروا في ذلك ولا يحتاجون أن نوصيهم بالاعتناء بالملبس والمشرب والمطعم والمأكل والمسكن، فوالله ما قصروا في ذلك، إنهم يحتاجون إلى الوصية بتقوى الله حتى ترتفع أصولهم إلى الله.
ومن أعظم أسباب تحقيق هذه الكلمة العظيمة كلمة التقوى استشعار رقابة الله الواحد الأحد.
في يوم من الأيام على عهد رسول الله يدخل رجل على زوجته غاضباً، وكانت امرأته مغضبة وكان زوجها حديث عهد بجاهلية، فأغضبته فقال لها زوجها: أنت علي كظهر أمي، فنزلت عليها هذه الكلمة كالصاعقة، وما كان منها إلا أن ذهبت إلى من أرسله الله رحمة للعالمين، إلى رسول الله ، وكان في بيت عائشة الذي كان غرفة واحدة إذا دخل ضيف أو سائل إلى بيته جلس في طرف الغرفة وعائشة في الطرف الآخر، وبينهما ساتر أو حجاب قالت المرأة واسمها خولة بنت ثعلبة: يا رسول الله، ظاهرني زوجي - واسمه أوس بن الصامت - فقال لها الرسول : ((ما أراك إلا قد حرمت منه)) قالت: يا رسول الله أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي ظاهرني، فيقول لها الرسول : ((ما عندي في شأنك شيء، ما أراك إلا قد حرمت عليه)) ، فتقول: يا رسول الله، لي منه صبية صغار إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، تجادل وتحاور الرسول ، وعائشة في الشق الثاني من الغرفة تسمع بعض كلامهم ويخفي عليها بعضه الآخر، ويأتي الفرج من السماء مع جبريل عليه السلام من عند السميع البصير يقول سبحانه: قَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]، وتنزل كفارة الظهار وينزل الفرج من السماء، إنها رقابة الله الواحد الديان، عائشة بجانبهم ويخفى عليها بعض كلامهم، والله سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات يسمع ويرى ويعلم السر وأخفى وبين السماء الدنيا والأرض مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك الرحمن جل في علاه وتقدست أسماه يسمع تلك المرأة المجادلة للرسول ويسمع مجادلتها للرسول مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [المجادلة:7].
تقول السيدة عائشة : (تبارك الذي وسع سمعه السموات والأرض وكل شيء، لقد سمعها من فوق سبع سموات، وما سمعتها وما بيني وبينها إلا الحجاب).
إخوة الإسلام:
استشعر صحابة محمد رقابة الله، فأثرت هذه الرقابة في حياتهم وفي سلوكهم حتى كانوا خير أمة أخرجت للناس، إنهم لم يكونوا ملائكة ولم يخرجوا عن بشريتهم في يوم من الأيام، ولكنهم كانوا في أروع صورة بشرية عرفتها الدنيا، لأنهم تخرجوا من مدرسة الحبيب محمد ، وتربوا على مائدة القرآن وسنة سيد الأنام محمد.
هذا أعرابي من الصحراء، رجل من البيداء يأتي إلى الفاروق عمر بن الخطاب يقوده شابان حتى أوقفاه أمام عمر بن الخطاب قال عمر: ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، إن هذا الرجل قتل أبانا، قال عمر: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: دخل بجمله في أرضي، فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه حجراً وقع على رأسه فمات، قال عمر: القصاص، النفس بالنفس، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألكك بالذي قامت به السموات والأرض أن تتركني ليلة لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية فأخبرهم بأنك سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا، قال عمر: من يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إلي، فسكت الناس جميعاً، فالتفت عمر إلى الشابين وقال لهما: أتعفوان عنه؟ قالا: لا، من قتل أبانا لا بد أن يقتل، فقام أبو ذر الغفاري وقال: يا أمير المؤمنين أنا أكفله، قال عمر: هو قتل يا أبا ذر، قال: ولو كان قتلاً، قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: وكيف تكفله؟! قال: رأيت فيه سمات المؤمنين، فعلمت أنه لم يكذب، وسيأتي إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أن الرجل إذا تأخر بعد ثلاث، أني تاركك، قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل وأعطاه عمر ثلاث ليال، يهيئ فيها نفسه ويودع أطفاله وأهله وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي، ليقتص منه، وبعد ثلاث ليال لم ينس عمر الموعد، وفي العصر نادى في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابان واجتمع الناس، وأتى أبو ذر، وجلس أمام عمر قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين، فسكت الصحابة واجمين، وعليهم من التأثر ما لا يعلمه إلا الله، لأن هذا الرجل إن تأخر إلى الغروب فسوف يقتل أبو ذر.
وقبيل الغروب بلحظات يأتي الرجل فيكبر عمر ويكبر المسلمون، فيأتي الرجل ويقف أمام عمر فيقول عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ما شعرنا بك وما عرفنا مكانك، قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليّ منك ولكن عليّ من الذي يعلم السر وأخفى!!.
ها أنا ذا يا أمير المؤمنين تركت أطفالي في الصحراء كفراخ الطير لا ماء ولا شجر في البادية وجئت لأقتل.
الله أكبر إنها الرقابة لله، ترك أهله وأولاده من أجل الله لأنه يعلم بأن الله يراه ولأنه يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.
نظر عمر ودموعه تسيل على لحيته وقال للشابين: ماذا تريان؟ فقالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين. الله أكبر من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومن حفظ الله حفظه الله في الدنيا والآخرة هذه سنة الله سبحانه وتعالى.
فيا من تعدى حدود الله، وانتهك حرمات الله، واقتحم أسواراً حرمها الله أين الله؟!! أما تستحي من الله؟ أين ستخرج عن نظر الله؟ وأين ستذهب عن ملك الله؟ ومن أين ستأكل من غير نعم الله؟!!.
إن كنت تظن أنه لا يراك فقد كفرت بالله، وإن كنت تعلم أن الله يراك فكيف تجترئ على خالقك وربك ومولاك وتجعله أهون الناظرين إليك، لا تنظر يا عبد الله إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، انظر إلى عظمة الله وإلى جلال الله.
لا تنظر إلى اللذة العاجلة التي تحصل عليها من هذه الشهوة المحرمة، ولكن انظر إلى الحسرة والندامة والهم والغم والحزن الذي تحصل عليه بعد انقضاء هذه الشهوة، في الدنيا والآخرة.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
فأنتقل بكم معاشر المسلمين مع عصر آخر من العصور المتأخرة لنرى كيف كانت المراقبة لله وكيف كانت نتائجها، ذكر ابن رجب عليه رحمة الله في ترجمته للقاضي أبي بكر الأنصاري أنه كان يسكن مكة المكرمة، فأصابه في يوم من الأيام جوع شديد ولم يجد شيئاً يدفع به عنه ذلك الجوع، فخرج يبحث عن طعام فلم يجد، وفي طريقه وجد كيساً من حرير مشدود برباط من حرير، فأخذ هذا الكيس، وذهب به إلى بيته، وفتح الكيس فوجد به عقداً من اللؤلؤ لم ير مثله في حياته، فربط الكيس وأرجعه كما كان، ثم خرج يبحث عن طعام وإذا به يسمع شيخاً ينادي ويقول: من وجد لي كيساً صفته كذا فله خمسمائة دينار من الذهب فأخذه إلى بيته، وهو جائع فقير لا يملك من الدنيا شيئاَ لا قليلاً ولا كثيراً، فقال له: صف لي أوصاف الكيس والعقد الذي بداخله، فوصفه له كما هو عليه، فدفع له ذلك العقد فأعطاه الجائزة خمسمائة دينار، فردها على صاحب العقد ولم يقبلها، فألح عليه وأصر عليه أن يأخذها فقال له: والذي لا إله إلا هو ما آخذ عليه جزاءً من أحد سوى الله، وذهب الشيخ ومعه عقد اللؤلؤ وانتهى موسم الحج وقفل إلى بلده، وخرج هذا الرجل الصالح أبو بكر البزاز وركب البحر في رحلة بحرية، فجاءت ريح عاصفة أغرقت المركب وهلك الناس وماتوا غرقاً، وسلمه الله وحفظه الله لأنه حفظ الله في السر فحفظه الله في العلن.
من يتق يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استجار بغير الله في فزع فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
تعلق هذا الرجل على قطعة من المركب فأخذت أمواج البحر تقذفه يميناً وشمالاً إلى أن ألقته إلى جزيرة فيها قوم أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، فأغاثوه وأكرموه، وفرحوا به فرحاً شديداً فعلمهم القرآن وعلمهم القراءة والكتابة وحصل له ولهم من ذلك خير كثير، فرغبوا فيه وأحبوه حباً عظيماً، وأرادوا أن يبقى معهم، فقالوا له: عندنا صبية يتيمة معها شيء من الدنيا نريد أن نزوجك بها وتبقى معنا في هذه الجزيرة فامتنع ورفض، فألحوا عليه وأصروا عليه، فوافق وجهزوها له وزفوها إليه فلما دخل عليها إذا به يرى العقد الذي رآه في مكة معلقاً في عنقها، دهش الرجل وأخذ يتابع ويواصل النظر في ذلك العقد حتى قال له محارمها: يا شيخ كسرت قلب هذه اليتيمة، لم تنظر إليها وإنما تنظر إلى العقد، فقال الشيخ: إن لهذا العقد قصة فقص عليهم تلك القصة: فصاحوا جميعاً بالتهليل والتكبير والتسبيح، قال لهم الشيخ: ما بكم؟ قالوا: إن الشيخ الذي أخذ منك العقد في مكة هو أبو هذه الصبية وكان يقول بعد عودته من الحج ويردد دائماً: والله ما وجدت على وجه الأرض مسلماً كهذا الذي رد علي العقد بمكة، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي. وتوفي الرجل وحقق الله دعوته وزوجه بابنته، بقي معها مدة من الزمن، كانت عنده خير امرأة رزق منها بولدين ثم توفيت ثم توفي ولداه واحداً تلو الآخر، وورث العقد وباعه بمائة ألف دينار.
إنها تقوى الله ومراقبة الله وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]. فلنتق الله عباد الله، ولنراقب المولى جل في علاه، لنحفظ الله عز وجل بالرجوع إليه والتوبة من الذنوب والمخالفات، نحفظ الله عز وجل بالمحافظة على الصلوات الخمس فنأتي بهذه الصلوات في أوقاتها بخشوعها وخضوعها وأركانها وواجباتها وسننها.
نحفظ الله بحفظ جوارحنا وأموالنا وأولادنا وقلوبنا من النفاق والرياء والحقد والحسد.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت، فكما تدين تدان.
(1/1719)
سورة العصر منهاج حياة (2)
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
16/2/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم سورة العصر. 2- معنى التواصي بالحق. 3- آداب النصيحة. 4- ما هو الحق؟ 5- معنى التواصي بالصبر. 6- صور من صبر الصحابة وثباتهم في سبيل الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
مازلنا مع سورة العصر، هذه السورة القصيرة القليلة الآيات، لكنها عظيمة المعاني والدلالات.
يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله عن سورة العصر: "لو لم ينزل الله على الناس إلا هذه السورة لوسعتهم".
ويذكر بعض المفسرين كابن أبي حاتم وابن كثير أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا إذا التقوا قرأ بعضهم على بعض سورة العصر.
إخوة الإسلام أحباب الحبيب المصطفى محمد :
بيّنا أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على البشرية والإنسانية جمعاء بالخسارة والشقاء، ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من هذه الخسارة والشقاء من توفرت فيه أربع خصال: الخصلة الأولى والثانية الإيمان والعمل الصالح، وقد تحدثنا عن هاتين الخصلتين في الخطبة الماضية، والخصلة الثالثة والرابعة قوله تعالى: وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:3].
والتواصي يا عباد الله، التواصي هو التناصح وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول : ((الدين النصيحة))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
والتناصح من سمات المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [التوبة:71]. ويقول سبحانه وتعالى عن المنافقين: ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ [التوبة:67]. ولذلك يقول أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: (المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة).
النصيحة - إخوة الإسلام - لها آداب لا بد أن يتحلى بها كل ناصح، من هذه الآداب: الإخلاص، فلا بد أن تكون هذه النصيحة خالصة لوجه الله سبحانه، حتى يكتب لها القبول والتأثير بإذن الله سبحانه وتعالى.
ومن آداب النصيحة اللين، فلا بد أن تكون النصيحة بأسلوب لين هين حسن، عل الله أن يهدي القلوب، وعل الله أن يشرح الصدور، فلا ينبغي أن نحكم على الناس بأن الله ختم على قلوبهم وأبصارهم فهم لا يهتدون ولا يعقلون ولا يفهمون، الله سبحانه وتعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى الطاغية فرعون الملحد السفاح المجرم، الذي ادعى الألوهية، قال الله لموسى وأخيه هارون: ?ذْهَبَا إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:43-44]. فاللين مطلوب في النصيحة، وهو من أسباب قبول النصيحة.
ومن آداب النصيحة أيضاً الستر، يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
وجنبني النصيحة في الجماعة فإنه نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
ومن آداب النصيحة أيضاً العمل بهذه النصيحة، فإن الناصح عليه أن يكون عاملاً بما ينصح، يقول الله سبحانه وتعالى: أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ?لْكِتَـ?بَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تقدر إن وعظت ويقتدى بالقول منك ويقبل التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
يقول سبحانه وتعالى: وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ [العصر:3]. فما هو الحق يا عباد الله؟
الحق هو الشيء البين الواضح، والله سبحانه وتعالى سمى نفسه حقاً فقال سبحانه وتعالى: أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:25]، وسمى دينه حقاً فقال سبحانه وتعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23]، وسمى القرآن حقاً فقال سبحانه وتعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ [فاطر:24].
الحق إخوة الإسلام هو أداء الطاعات وترك المحرمات، الحق هو هذا الدين الحق، هو ما في الكتاب والسنة.
أتبع الله سبحانه وتعالى التواصي بالحق بالتواصي بالصبر؛ لأن الحق لا بد له من صبر، والدين لا يقوم إلا بالصبر.
للصبر منزلة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك فقد ذكر الصبر في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعاً، تارة يمدح الله الصابرين فيقول سبحانه: وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [لقمان:17]. وتارة يأمر الله بالصبر فيقول: يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. وتارة يذكر الله تعالى ثواب الصابرين فيقول سبحانه: وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].
الصبر إخوة الإسلام على ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله.
وضرب أصحاب محمد أروع الأمثلة في الصبر على هذا الدين والثبات على الحق، فهذا خبيب بن عدي عنه وأرضاه عرضه المشركون على مشنقة الموت، سألوه: ماذا تريد يا خبيب؟ قال: أريد أن أصلي ركعتين، فكان أول من سن صلاة ركعتين قبل القتل، فقام وتوضأ وصلى ركعتين واستعجل فيهما ثم فرغ منهما، وقال لهم: والله لولا أن تظنوا أني أخاف الموت لأطلت الركعتين. فلله در هذه الهمم العالية، هكذا كانوا رحمهم الله، أما نحن وصل بنا الحال إلى أن يقدم أحد المسلمين إلى الموت فيقال له: ما هي آخر أمنية لك في هذه الحياة؟ فيقول: آخر أمنية لي في الحياة أن أشرب سيجارة.
رفع خبيب بن عدي إلى المشنقة فدعا عليهم قائلاً: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحداً، قالوا له: أتريد أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك ومالك؟! قال: لا والله لا أريد أن رسول الله يصاب بشوكة وأنا في أهلي ومالي، ثم قتل وأرضاه.
يقول أهل السير - كموسى بن عقبة -: كان خبيب بن عدي يقول قبل أن يقتل: اللهم أبلغ عنا رسولك ما لقينا، والسلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا رسول الله، هو في مكة والرسول في المدينة فأخذ يقول في تلك اللحظة: عليك السلام يا خبيب، عليك السلام يا خبيب، عليك السلام يا خبيب،ثم أنشد خبيب بن عدي أنشودة الموت وهي قصيدة الفداء:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أشلاء شلو ممزع
حبيب بن زيد صحابي عمره ثلاثون سنة، يرسله رسول الله إلى مسيلمة الكذاب فيقول: سمعاً وطاعة يا رسول الله، ويتهيأ لأشد الأمور قسوة وشدة، لأنه قد يتعرض للموت، فتودعه أمه وتبكي بكاءً شديداً لفراقه، وأحست بقلب الأم أنها لن تراه بعد اليوم، ولكنها تعلم أنها سوف تلقاه في جنة عرضها السموات والأرض، فودعت ابنها ولسان حالها يقول كما قال ابن زيدون:
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تآسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقا ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وصل حبيب بن زيد إلى مسيلمة فقال له مسيلمة: من أنت؟ قال: حبيب بن زيد. قال: ماذا جاء بك؟ قال:جئت برسالة من رسول الله ، قال: أتشهد أنه رسول؟ قال: نعم أشهد أنه رسول الله، قال: أتشهد أني رسول؟ قال: لا أسمع شيئاً، قال: أتشهد أنه رسول؟ قال: نعم أشهد أنه رسول الله، قال: أتشهد أني رسول؟ قال: لا أسمع، فقال مسيلمة الكذاب لأحد جنوده: اقطع منه جزءا من اللحم، فقطع منه ثم وقعت هذه القطعة على الأرض، فأعاد مسيلمة السؤال، فأعاد عليه حبيب بنفس الإجابة كما هي، فقطع منه قطعة أخرى، وظل يقطع جسده قطعة قطعة حتى قطعه قطعاً متناثرة في مجلسه، وارتفعت روحه إلى الله إلى الخالق جل وعلا.
هكذا الصبر على دين الله والثبات على الحق.
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقوم بايعوا الغفارا
فأعاضنا ثمناً ألذ من المنى جنات عدن تتحف الأبرارا
فلمثل هذا قم خطيباً منشداً يروي القريض وينظم الأشعارا
عبد الله بن حذافه السهمي صحابي جليل يرسله الفاروق عمر بن الخطاب إلى الروم، فيصل عبد الله إلى طاغية الروم أسيراً فيقول له: يا عبد الله، تنصر وأعطيك نصف ملكي، استمعوا إلى المساومة يا عباد الله فماذا قال عبد الله؟ قال عبد الله: لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملك وجميع ملك العرب ما رجعت عن دين محمد طرفة عين، قال الطاغية: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك. فلله درك يا عبد الله، ولله در الروح العالية، ولله در الشجاعة المتناهية، إن من الناس اليوم من لو عرضت عليه سيجارة لباع ذمته وعهده وأمانته، ومنهم من يبيع دينه وعرضه وأمته بحفنة من المال المدنس، أو بقطعة من الأرض أو بسيارة، ضمائر خربة وذمم عفنة وقلوب ميتة، حتى المساجد بيوت الله عز وجل لم تسلم من هؤلاء، لم تسلم من أصحاب الضمائر الخربة والذمم العفنة والقلوب الميتة، هذا المسجد الذي نصلي فيه سرق في هذا الأسبوع مرتين، وقد سرق قبلها مرات، فإلى الله نشكو الحال التي وصلنا إليها ونسأله سبحانه وتعالى أن يشل يدي كل سارق.
قال الطاغية لعبد الله بن حذافة بعد أن رفض هذا العرض: إذن أقتلك، قال: أنت وذاك افعل ما تشاء، فأمر الطاغية بقتل عبد الله، وبضربه بالسهام في يديه ورجليه في غير مقتل، حتى يعذب العذاب الأليم، فصلب ورمي بالسهام وهو صابر محتسب ثابت على الحق، فأنزل وغلي له ماء في قدر حتى كاد جسم الإناء أن يحترق من شدة الغليان، فجيء بأسيرين من أسرى المسلمين فألقي أحدهما في هذا القدر المغلي، والطاغية يعرض النصرانية على عبد الله وهو يرفض، فقال الطاغية لعبد الله: إما أن تتنصر وإما أن تلقي بنفسك في هذا الماء، يمشي عبد الله إلى الماء فلما اقترب منه بكت عيناه، فلما رأوا أنه بكى ظنوا أنه خاف، فقال الطاغية لعبد الله: ما يبكيك؟ قال عبد الله: هي نفس واحدة، وكنت أود أن تكون لي بعدد شعري أنفس تعذب في سبيل الله، فيئس الطاغية من عبد الله وقال له: تقبل رأسي وأطلق سراحك وأخلي عنك، فقال عبد الله: وعن جميع الأسارى؟ قال الطاغية: نعم، فقبل رأسه، فأطلق سراحه وسراح إخوانه، فلما قدم عبد الله بن حذافة السهمي إلى المدينة استقبله الفاروق عمر بن الخطاب وقال: حق على كل مسلم أن يقبل رأسك يا عبد الله، وأنا أبدأ بنفسي، فقبله عمر لعزته ودينه وصبره على هذا الدين وثباته على الحق.
يا من أوذي في نفسه أو ماله أو في عرضه أو في دخله أو وظيفته أو رزقه، أصحاب محمد قدموا أموالهم وأرواحهم ودماءهم رخيصة في سبيل الله، ومن أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ومن أجل رفعة هذا الدين، ولم يتزحزحوا خطوة واحدة، بل صبروا على دينهم وثبتوا على الحق.
في صحيح البخاري من حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ( (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فالقسم الثالث من أقسام الصبر هو الصبر على أقدار الله، وهو من أركان الإيمان التي لا يتم إيمان العبد إلا به، فلا يكون العبد مؤمناً إلا إذا آمن بالقدر خيره وشره، وأقدار الله هي من البلاء الذي يبتلي به الرب سبحانه وتعالى عباده، وهي من أعظم النعم إذا تلقاها العبد بالرضا والقبول، وأما إذا تسخط منها العبد فهي من أكبر النقم والعياذ بالله، قال : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ما عن الني أنه قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)).
وعند الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)).
ولذلك فقد عدّ كثير من الصالحين الابتلاء من النعم.
عروة بن الزبير وأرضاه سقط من على فرسه فجرحت رجله وقرر الأطباء قطعها، وفي نفس اللحظة يأتيه نبأ وفاة ابنه الشاب، فتقطع رجله وتنشر نشراً وهو في الصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى فلما أفاق قال: اللهم لك الحمد إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة من الأعضاء فأخذت عضواً واحداً فلك الحمد، وأعطيتني أربعة من الأبناء فأخذت واحداً فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة أن عمران بن حصين مرض ثلاثين سنة، ظل مريضاً ثلاثين سنة فما شكا وما اكتوى حتى صافحته الملائكة بأياديها.
ومن وصايا أمير المؤمنين أبي السبطين علي بن أبي طالب للأشعث بن قيس قال له: يا أشعث، إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور.
وأخذ هذا المعنى أبو تمام منشداً:
وقال علي في التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم
تصبر للبلوى عزاءً وخشية فتؤجر أو تسلو سلو البهائم
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المؤمنين العاملين بالصالحات، المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1720)
فاستقم كما أمرت
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
11/6/1419
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على تدبر القرآن. 2- الأمر بالاستقامة. 3- ذم البدع. 4- عظم أمر الاستقامة. 5- نماذج من استقامة السلف. 6- الولاء والبراء. 7- الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه، ثم أما بعد:
فيقول المولى سبحانه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ?لنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذاكِرِينَ وَ?صْبِرْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ?لْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لْفَسَادِ فِى ?لأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:112-117].
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد رسول الله :
مع آيات بينات من القرآن الكريم نعيش اليوم، علّ الله سبحانه وتعالى أن يرحمنا بهذا القرآن، وأن يفتح علينا بهذا القرآن، وأن ينقذنا به من الغفلة والقسوة، ويخرجنا به من الظلمات إلى النور، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لأَلْبَـ?بِ [ص:29].
فيا من نام وما استيقظ، استيقظ بهذا القرآن.
ويا من غفل ولم يتذكر، تذكر بهذا القرآن.
ويا من فقد عقله، اعقل بهذا القرآن، وتدبر هذا القرآن.
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ?للَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ?خْتِلَـ?فاً كَثِيراً [النساء:82].
ونفسه محبوسة في عقال
في صبح المعالي بلال
جهله هذا في المعالي محال
أزهاره فاحت بري الشمال
وأنتم أبناؤه يا رجال
فتعال يا من حاله في وبال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن
يا مشتري الحصباء بالدر من
روض النبي المصطفى وارف
ميراثه فينا جميل الحلى
معاشر المسلمين المؤمنين الموحدين:
الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه محمداً بالاستقامة في هذه الآيات فيقول سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً قائلاً: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]. الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام بالاستقامة وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم، ولذلك كانت هذه الآية من أشد الآيات وأشقها على رسول الله ، يقول ابن عباس : (ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية)، ولذلك لما رأى الصديق الشيب أسرع إلى رسول الله ، سأل الصديق رسول الله : ما شيبك يا رسول الله، فقال : ((شيبتني هود وأخواتها)).
وهذه الآية من سورة هود وأخواتها كما جاء في بعض الروايات: الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس والمرسلات.
نعم – يا عباد الله – الرسول شيبته هود وأخواتها، ونحن شيبتنا الدنيا وهمومها وغمومها ومطامعها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]. فاستقم يا محمد كما أمرك الله عقيدة وعملاً وسلوكاً، فأخلص التوحيد لله الواحد الأحد، وائتمر بما أمرك الله، وانته عما نهى الله، وهذا الأمر ليس للرسول فحسب، بل للمسلمين جميعاً، لذا يقول سبحانه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [هود:112] أي ومن آمن معك، واتبعك من المؤمنين.
والاستقامة – عباد الله - لا تكون إلا بما شرع الله، ووفق ما أمر الله، فلا يجوز للعبد أن يعبد الله بهواه ولا بمزاجه، حتى ولو كان هذا العمل خالصاً لوجه الله عز وجل، فلا بد أن يكون موافقاً لما شرع الله، كما قال : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، يعني مردود عليه غير مقبول لذلك يقول سبحانه: وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، يعني لا تجاوزوا الحد الذي شرعه الله بغلو أو إحداث أو ابتداع في الدين، فإن الله مطلع على أعمالكم بصير بها.
إخوة الإسلام: الاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع هذا الدين عقيدة وعملاً وسلوكاً، الاستقامة على دين الله كما أمر الله أمرها عظيم يا عباد الله، قرنها الله ورسوله بالتوحيد، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، وقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31].
يأتي سفيان بن عبد الله - كما في صحيح مسلم - ويقول: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).
فتأمل أخي - رعاك الله - في هذه الآثار، وانظر كيف جمع الله ورسوله بين التوحيد والاستقامة، وما أعده من ثواب عظيم لمن استقام على أمره ودينه، ثم انظر إلى حال السلف وكيف كانت استقامتهم لترى العجب العجاب؛ هذا المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي صحابي جليل وأرضاه، حضرته سكرات الموت فبكى أهله عليه، فقال: لا تبكوا عليّ فإني لم أتلطخ بخطيئة منذ أسلمت. فلله دره عاش اثنتي عشرة سنة بعد إسلامه لم يفعل خطيئة، وكانت حياته كلها طاعة لله.
وهذا الإمام الطبري - رحمه الله تعالى – أحد علماء الإسلام، أتى إلى سفينة فركبها فلما اقتربت من الشاطئ قفز إلى الشاطئ وهو في السبعين من عمره، فأراد الشباب أن يفعلوا مثله ويقفروا إلى الشاطئ فما استطاعوا، فقالوا لشيخهم: كيف استطعت أن تقفز وأنت شيخ وما استطعنا ونحن شباب؟ فقال: "هذه أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر، والله ما عصيت الله بواحدة منها قط". فلله دره من إمام حفظ الله فحفظه الله ومتعه بجوارحه إلى أن مات.
وهذا الإمام ابن دقيق العيد - رحمه الله - يقول: "ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل". فرحم الله السلف يوم علموا أن الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في طاعة الله، ويوم علموا أن الحياة ساعة فجعلوها طاعة.
إن التشبه بالكرام فلاح
فتشبهوا إن لم تكونوا كمثلهم
ثم يقول سبحانه وتعالى بعد هذه الآية: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ?لنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [هود:113]. وهذا من لوازم الاستقامة فإن من استقام على دين الله وأمره وجب عليه أن يوالي أولياء الله المستقيمين على دينه، ويعادي أعداء الله الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وفسقهم وفجورهم، ولا يركن إليهم ولا يرضى بأعمالهم، ولا يجالسهم ولا يخالطهم، حتى لا يكون معهم ولا يحشر في زمرتهم، كما قال : ((المرء يحشر مع من أحب)).
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده المستقيمين على شرعه، المؤتمرين بأوامره والمجتنبين لنواهيه، والواقفين عند حدوده.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فما زلنا مع الآية الكريمة وهي قوله تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذاكِرِينَ [هود:114].
جاء في سبب نزول هذه الآية - كما في صحيح مسلم - من حديث ابن مسعود أن رجلاً جاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها؛ قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت، فلم يقل رسول الله شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه، فأتبعه رسول الله بصره ثم قال: ((ردوه علي)) فردوه على الرسول فقرأ عليه: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]. وفي رواية أخرى قال معاذ : يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة؟ فقال: ((بل للناس كافة)).
هذه الآية - يا عباد الله – بشرى نزفها إلى كل من أذنب وزل وأخطأ وقصَّر أن يعود إلى الله وأن يتوب إليه توبة نصوحاً، وأن يعمل أعمالاً صالحة تكفر ما مضى، فلا تتعاظم ذنوبك - يا عبد الله - ولو بلغت عنان السماء ولو كانت كالجبال، فإن رحمة الله أعظم: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:23].
فالتوبة التوبة يا عبد الله، والبدار البدار وأنت في هذه الدنيا قبل أن تصير إلى الآخرة، وأنت في الحياة قبل أن تصير في عداد الموتى، وأنت فوق الأرض قبل أن تصير تحت الأرض، وأنت في النور قبل أن تنتقل إلى الظلمة، وأنت تسمع الوعظ والتذكير قبل أن تسمع قرع نعال من ودعوك وأودعوك قبرك.
من قبل انتزاع واحتضار الروح
وإنما الأعمال بالخواتم
كان له الله أشد حباً
رحمته فضلاً ولا تتكل
فبادرن بالتوبة النصوح
لا تحتقر شيئاً من المآثم
ومن لقاء الله قد أحبا
وعكسه الكاره فالله اسأل
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1721)
فاظفر بذات الدين تربت يداك
فقه
النكاح
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
26/2/1417
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد الزواج. 2- الترغيب في الزواج. 3- معيار اختيار الزوج والزوجة. 4- صور مشرقة من زوجات السلف. 5- الزواج من أسباب الرزق. 6- الحث على تيسير أمور الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ويقول الرسول الكريم محمد : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
حديثنا اليوم عن الزواج، والزواج سنة الله في هذا الكون، فبه تستمر الحياة، وبه يتآلف الناس، وتتعارف القبائل والشعوب. والزواج حصن للفرج، وغض للبصر، وأمان من انتشار الفساد والانحلال واختلاط الأنساب وضياع الأمة.
رغب الله سبحانه وتعالى فيه، وحث عليه الرسول ، ونهى عن التبتل والانقطاع عن الزواج، ففي الصحيحين من حديث أنس أن ثلاثة رهط جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي فسألوا عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها (أي وجدوها قليلة) فقالوا: أين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟!! فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل أبداً، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال : ((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأرقد، وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) وهو القائل : ((حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ، وهو القائل أيضاً : ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) ، ولما سألت الرباب ابنة سعيد بن المسيب سيد التابعين سألت أباها عن قوله تعالى: رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201]. قالت: يا أبي أما حسنة الآخرة الجنة فما حسنة الدنيا؟ قال لها: الرجل الصالح للمرأة الصالحة، والمرأة الصالحة للرجل الصالح.
إخوة الإسلام:
إن المعيار في اختيار الزوج والزوجة هو الدين والخلق، فإذا أراد الرجل أن يتزوج فعليه بذات الدين والخلق، وإذا أراد الرجل أن يزوج ابنته أو أخته فليبحث لها عن رجل صالح صاحب دين وخلق، تقول السيدة عائشة : (النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته)، وجاء رجل إلى الحسين بن علي فقال: إن لي بنتا فمن ترى أن أزوجها؟ قال: (زوجها ممن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وأن أبغضها لم يظلمها).
والرسول يحث الرجل أن يتخير صاحبة الدين والخلق فيقول : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))، ويحث ولي المرأة أن يتخير الرجل الصالح لموليته فيقول : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
يأتي جليبيب إلى الرسول ، فيبتسم الرسول في وجهه، ويمازحه ويقول له: ((يا جليبيب أتريد الزواج؟))، فقال: يا رسول الله، ومن يزوجني ولا أسرة عندي ولا مال ولا دار ولا شيء من متاع الدنيا؟ وكان مع ذلك دميم الخلقة، ولكنه كان يملك إيماناً كالجبال الراسيات، افتقده الرسول في غزوة أحد فقال الرسول لأصحابه: ((هل تفقدون أحداً؟)) ، قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال لهم: ((هل تفقدون أحداً؟))، قالوا: لا، قال: ((ولكني أفقد جليبيباً)) ، فبحثوا عنه في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فجاء إليه الرسول فقال: ((هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، قتل سبعة ثم قتلوه)). لما جاء جليبيب قبل أن يقتل ويستشهد في هذه الغزوة إلى الرسول قال له: ((اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني)) ، فذهب وطرق عليهم الباب، وكانوا من سادات الأسر، ومن كبريات العشائر في الأنصار، فخرج رب البيت، ورأى جليبيباً وهيئته وفقره وعوزه فقال له: ماذا تريد؟ فأخبره الخبر فعاد إلى زوجته فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب؛ لا نسب ولا مال ولا دار، فلما شاورا البنت الصالحة التي تربت في مدرسة التوحيد، قالت: والله لا نرد رسول الله ، فتزوجها جليبيب، وعمر بها بيته الذي أسسه على تقوى من الله ورضوانه.
وهكذا كان سلف هذه الأمة يبحثون عن الدين والخلق، عمر بن الخطاب يتجول في شوارع المدينة ويتفقد رعيته، وإذا به يقف عند أحد الأبواب ويسمع حواراً دار بين أم وابنتها، كانت الأم تبيع اللبن وكانت تخلط اللبن بالماء فقالت لها ابنتها: يا أمي اتق الله ولا تغشي المسلمين، وتخالفي أمر أمير المؤمنين، فقالت لها الأم: وأين أمير المؤمنين منا؟ قالت لها البنت: يا أماه، إن كان أمير المؤمنين لا يرانا، فإن الله يرانا، فما كان من عمر إلا أن ذهب إلى أبنائه وقال لهم: من منكم يتزوج ببنت بائعة اللبن؟ فتزوجها عاصم بن عمر بن الخطاب، وعاش معها عيشة رضية هنية، وأنجب منها فتاة اسمها ليلى، تزوجها عبد العزيز بن مروان، فأنجبت منه خامس الخلفاء الراشدين، ومجدد القرن الأول عمر بن عبد العزيز.
وهذه ثمرة كل زواج يكون أساسه الإيمان والتقوى، وَ?لْبَلَدُ ?لطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَ?لَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا [الأعراف:58].
فليتق الله أولياء الأمور، وليبحثوا لبناتهم عن الأمناء النصحاء أصحاب الدين والخلق، وليس عيباً أن يبحث الرجل لابنته عن رجل صالح، إنما العيب أن يزوجها والخزي والندامة والحسرة في الدنيا والآخرة أن يزوجها من رجل فاسق فاجر لا يعرف لله حقاً، ولا يردعه دين ولا خلق!! كم في البيوت من المطلقات!! وكم في البيوت من الأرامل لم يتجاوز عمرهن العشرين!! والسبب في ذلك أن هذه الزواجات لم تكن على الإيمان والتقوى.
وصلتني رسالة من إحدى الفتيات تشكو فيها حالها إلى الله، وتشكو والدها الذي يريد إجبارها أن تتزوج برجل لا يصلي.
بالله عليك - يا عبد الله - كيف تأمن على ابنتك مع إنسان لا يصلي؟ مع رجل قطع الصلة التي بينه وبين الله، ونقض العهد الذي بينه وبين الله، وخان الميثاق الذي بينه وبين الواحد جل في علاه؟ ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، و((بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة))، يقول : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)).
أمر الله نبيه أن يقاتل هذا الإنسان حتى يسجد لله وحتى يركع لله، ويوم يترك الإنسان الصلاة ويتنكب عن بيوت الله يصبح لا قيمة له ولا وزن ولا كرامة ولا مكانة، يسفك دمه وتهان كرامته ويقطع رأسه بالسيف، قيل: حداً، وقيل: كفراً.
فلنتق الله عباد الله، ولنتخير الصلحاء الأمناء لبناتنا، فهذا عمر بن الخطاب يبحث لابنته حفصة عن الخطاب، ويعرضها على عثمان فيرفض، ثم يعرضها على أبي بكر الصديق فيرفض، فييسر الله لها خير الخلق محمد.
وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله سيد التابعين يتقدم لخطبة ابنته الخليفة عبد الملك بن مروان لابنه الوليد ولي العهد فيرفض سعيد، ويزوجها لتلميذ صالح صاحب دين وخلق من تلامذته اسمه عبد الله بن أبي وداعة، كان يواظب على دروس إمامه، وماتت زوجته فاشتغل بها وغاب أياماً عن دروس العلم في حلقة شيخه، فلما عاد قال له سعيد: أين كنت؟ قال: توفيت زوجتي واشتغلت بها، فقال له: وهل استحدثت امرأة غيرها؟ قال: ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: أنا أزوجك، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ، وزوجه بابنته على درهمين أو ثلاثة، فرجع التلميذ إلى بيته وهو لا يدري ما يصنع من الفرح، فلما وصل إلى البيت، إذا بالباب يقرع قال التلميذ: من الطارق؟ قال: سعيد، قال: ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فهو لم ير منذ أربعين سنة إلا بين البيت والمسجد، فيفتح الباب وإذا به سعيد بن المسيب، فقال التلميذ في نفسه: لعله رجع عن كلامه وقال لشيخه: لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال سعيد: أنت أحق أن تؤتى وقد كنت رجلاً عزباً فتزوجت، وكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، دفعها إليه وكانت قائمة خلفه، يقول التلميذ عبد الله بن أبي وداعة: فدخلت بها فإذا هي من أجمل النساء، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله ، وأعرفهم بحق الزوج، وبعد شهر عاد إلى حلقة شيخه سعيد، فقال له سعيد: ما حال ذلك الإنسان؟ فقال له: على خير حال على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال له سعيد: إن رابك منها شيء فعليك بالعصا، ثم دفع له بعشرين ألف درهم.
معاشر الإخوة:
إن قصة سعيد بن المسيب وتلميذه عبد الله بن أبي وداعة توبيخ لمن باع ابنته بالدرهم والدينار، واشترط لها أموالاً طائلة وتكاليف باهظة، لقد آثر سعيد ما يبقى على ما يفنى، فتقوى الله وحسن الخلق والعمل الصالح شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فالمال عرض زائل والتقوى قيمة ثابتة، والجاه ظل حائل والإيمان قيمة راسخة، والسعادة والله ليست في الأموال والدور والقصور، وإنما في الإيمان بالله والعمل الصالح.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا وعند الله للأتقى مزيد
وإدراك الذي يأتي قريب ولكن الذي يمضي بعيد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأَيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32].
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للأولياء بتزويج أبنائهم وبناتهم، ووعد منه سبحانه وتعالى برزقهم ورعايتهم ومن أصدق من الله قيلا؟!! والرسول يقول: ((ثلاثة حق على الله عونهم وذكر منهم: الناكح يريد العفاف)).
وكان أبو بكر الصديق يقول: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، ويقول ابن مسعود : (التمسوا الغنى في النكاح).
معاشر المسلمين:
لقد حث الإسلام على تسهيل الزواج وتيسير أموره، ونهى عن المغالاة في المهور والمبالغة في تكاليفه، فهذا خير البشر محمد يزوج ابنته فاطمة الزهراء بعلي بن أبي طالب بما يساوي أربعة دراهم، وهذه امرأة تهدي نفسها للرسول ولم يكن للرسول بها حاجة، فيقول له أحد الصحابة: زوجنيها يا رسول الله، فقال: ((هل معك شيء؟))، قال: ليس معي شيء يا رسول الله إلا إزاري، قال: ((التمس ولو خاتماً من حديد)) ، فلم يجد، فقال له الرسول: ((هل معك شيء من القرآن؟))، قال: نعم، فزوجه الرسول بما معه من القرآن على أن يعلمه زوجته.
وهذه أم سلمة تتزوج بأبي طلحة، وكان مهرها لا إله إلا الله محمد رسول الله، كان أبو طلحة مشركاً فتقدم لخطبتها، فقالت له: أنت رجل مشرك ولا يجوز لي أن أتزوجك، فإن أسلمت جعلت مهري إسلامك، فأسلم.
وفي المسند يقول عمر بن الخطاب : (لا تغالوا في صداق النساء - أي في مهورهن - فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية).
والرسول يقول: ((إن من خير النساء أيسرهن صداقاً)) أي مهرا، ويقول أيضاً: ((أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً)).
فيا معاشر الآباء، اتقوا الله في أبناءكم وفي بناتكم، تساهلوا في المهور ويسروا أمور الزواج، وتخيروا الرجل الصالح ولا تكونوا سبباً في كساد بناتكم وإعضالهن وفوات قطار الزواج عليهن، حتى لا تندموا على ذلك ولات حين مندم.
هذه امرأة في عصرنا الحاضر شابة تقدم إليها الخطاب، ولكن أبوها رفض أن يزوجها، فلما تقدم بها السن وحضرت أباها الوفاة، فقال لها: يا بنية، اجعليني في حل، سامحيني سامحك الله! قالت: والله لا أسامحك بل عليك لعنة الله كما حرمتني من حقي في الحياة.
وهذا رجل أيضاً في هذا الزمن يزور أخته في المستشفى وقد تقدم بها السن ولم تتزوج، ولما أراد أن يزورها في آخر لحظة قالت له: اقترب مني يا أخي، فلما اقترب منها، قالت له: حرمك الله الجنة كما حرمتني من الزواج وفاضت روحها إلى الله.
هذه المآسي - يا عباد الله - بسبب المغالاة في المهور وتعسير أمور الزواج، فاتقوا الله عباد الله يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1722)
مشكلات الشباب
الأسرة والمجتمع
الأبناء
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
9/1/1416
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشباب في العطلة الصيفية. 2- مشكلة الفراغ وضياع الوقت. 3- الحث على اغتنام الأوقات. 4- مشكلة عدم الاهتمام بالعلم الشرعي. 5- مشكلة جلساء السوء. 6- شباب السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:
يعيش شبابنا اليوم العطلة الصيفية، وهم في قضاء هذه العطلة على صنفين:
صنف قد صمم تصميماً جازماً، وأكد تأكيداً بالغاً على قضاء هذه الإجازة في الضياع واللهو واللغو واللعب فهذه عادته وطريقته، يبدد عمره في كل معصية ولهو ولعب لا يعرف لله حقاً ولا طريقاً.
وقسم آخر من شبابنا هم أهل الصدق والاستقامة والصلاح، قوم نظر الله إلى قلوبهم فرأى ما فيها من التقوى وحسن القصد، فكانوا أهلاً لهدايته وتوفيقه، عزموا على قضاء هذه العطلة في مرضاة الله وعرفوا أن هذه العطلة جزء من أعمارهم وأنهم محاسبون عليها بين يدي الواحد الديان أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَـ?لَى ?للَّهُ ?لْمَلِكُ ?لْحَقُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ?لْعَرْشِ ?لْكَرِيمِ [المؤمنون:15-16].
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت هؤلاء وأن يصلح أولئك.
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
إن مشكلات الشباب وقضاياهم تتلخص في قضايا:
المشكلة الأولى الفراغ وضياع الوقت، والأصل أنه ليس في حياة المسلم ما يسمى بوقت الفراغ، فالوقت أغلى شيء وأنفس شيء لأنه عمر الإنسان، لكنه كذلك عند غير المسلمين، أما عند كثير من المسلمين فما أرخصه، الساعات الطويلة والأعمار المديدة يضيعها كثير من الناس في غير فائدة، بل فيما يجلب عليهم الحسرات والضياع يوم القيامة.
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
ولذلك فإن رسول الله بين لنا أهمية الوقت وقيمة الزمن في أحاديث كثيرة، فيقول كما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) ويقول أيضاً كما في حديث معاذ بن جبل كما عند الطبراني وغيره: ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل فيه؟)).
ويقول أيضاً كما عند الحاكم من حديث ابن عباس: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
ولذلك إخوة الإسلام لما عاش سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى هذا الهدي الجامع وهذه التعاليم النبوية كانوا من أحرص الناس على العمر، ومن أكثرهم اغتناماً للزمن، فكان الحصاد فتوحاً وعلوماً ومعارف ومدنية وحضارة ليس لها نظير في تاريخ البشرية.
فها هو ابن مسعود يقول: (إني لأمقت الرجل أن أراه فارغاً ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة).
وهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: (أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه).
لأن الدينار والدرهم يمكن تعويضه، أما العمر فلا يمكن تعويضه، فما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ويقول: يا بن آدم أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني إن ذهبت فلن أعود إلى يوم القيامة.
ولذلك كان قائلهم يقول:
إذا ما مضى يوم ولم أصطنع يدا ولم اقتبس علماً فما هو من عمري
قيل لكرز بن وبرة: اجلس معنا، وكان من العباد رحمه الله تعالى فماذا قال؟ قال: امسك الشمس أجلس معك، يعني إذا توقفت الشمس وتوقف الوقت جلست معك، فهكذا كان اهتمام سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى بالوقت فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً [مريم:59].
أصبحت كثير من أوقات شباب الإسلام ضائعة بلا عمل ولا تجارة ولا وظيفة ولا كسب ولا تحصيل ولا طاعة، وإذا لم يشغل الشباب أوقاتهم في هذه الأمور شغلوها في المعصية واللهو واللغو واللعب والحرام، ولذلك يقول أبو العتاهية شاعر الحكماء:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فالقضاء على الفراغ في حياة الشباب المسلم ينبغي أن يكون من أول ما يوجه المصلحون عنايتهم له، ولا يشترط أن يقضي الشاب فراغه في الحفظ والعلم بالقراءة بل كل حسب وجهته والله عز وجل يقول: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ [البقرة:60]. فمن كانت وجهته علمية فليذهب إلى المؤسسات العلمية وينهل من منابع العلم، ومن كان له تميز وتخصص في مجال من المجالات فليذهب إلى ما يهواه من المجالات التي لا تعارض ديننا الحنيف من تجارة نافعة أو صناعة مفيدة أو حرفة شريفة وغير ذلك حتى لا يندم الإنسان على هذه الأيام وعلى عمره، ولات حين مندم، ويقول: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحاً غَيْرَ ?لَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]. فيأتيه الرد أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ ?لنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [فاطر:37].
المشكلة الثانية من مشكلات الشباب: عدم الاهتمام بالعلم الشرعي، والعلم الشرعي هو العلم النافع الذي تحتاج إليه القلوب والأبدان، ولكن للأسف أصبحت الأمة – إلا من رحم الله – أمة ثقافة سطحية، تحولت الأمة من الأصالة والعمق المتمثل في العلوم الشرعية والعلوم التجريبية إلى أمة تعرف المعلومات العامة والثقافة السطحية، وهو علم يشترك فيه الكافر والمؤمن، ولكن أين التحصيل وأين الاجتهاد في طلب العلم وأين الحرص على الاستفادة وأين الحفظ والتدبر للقرآن.
والله لساعة واحدة يقضيها المسلم في طلب العلم، في حفظ آية من كتاب الله أو فهم حديث من أحاديث رسول الله خير له من الدنيا وما فيها، يقول : ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة)).
من وصايا أمير المؤمنين أبي السبطين علي بن أبي طالب لكميل بن زياد: يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحفظك، وأنت تحفظ المال، العلم يزكو بالإنفاق، والمال تنقصه النفقة.
هو العذب المهند ليس ينبو تصيب به مضارب من أردت
وكنز لا تخاف عليه لصاً خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددت
فعلينا إخوة الإسلام أن نأتي بشباب الأمة ونحبب إليهم علم الكتاب والسنة، حتى ترتفع أصولهم إلى الله الواحد الحي القيوم، وتمتلئ قلوبهم بالنور والإيمان.
المشكلة الثالثة من مشكلات الشباب: رفقاء السوء وجلساء السوء، وهم قوم علم الله من قلوبهم الخبث فأخرهم، قوم ما أفلحوا في دين ولا دنيا، فأخذوا يصدون عن سبيل الله ويتلقفون شباب الإسلام ليجعلوا مصيرهم كمصيرهم، والرسول يحذر من قرناء السوء فيقول : ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) ، وقال : ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)). وفي الحكمة:
لا تسأل عن المرء واسأل عن قرينه فإن القرين إلى المقارن ينسب
فيا أيها الآباء، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
يقول : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة)).
وإنه لمن الغش أن يترك الأب أبناءه لا يسأل أين يذهب الابن الساعات والأيام، ولا يسأله أين ذهب ومع من كان وأين نام؟ ولا يدري هذا الأب أن ابنه كان في جولة مع شياطين الإنس يسلخونه من دينه وعقله وإسلامه.
الحذر الحذر من قرناء السوء وجلساء السوء، وعلى الشاب أن يتخير الرفقة الصالحة من أهل الخير والعقل والصلاح الذين يعينونه على الحق، ويدلونه عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فمن هم شباب السلف ومن هم شبابنا؟ شباب السلف هم حمزة وعبد الله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب وأسامة بن زيد وابن عباس وابن عمر والحسن والحسين.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
هذا عقبة بن نافع شاب في الخامسة والعشرين من عمره، يقف على المحيط الأطلنطي موحداً مصلياً يرفع سيفه إلى السماء قائلاً: والله لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضاً لخضته بفرسي هذا رافعاً راية لا إله إلا الله.
نصر الإسلام وفتح أفريقيا، فشكر الله سعيك ورفع منزلتك يا عقبة، ولكن هل تدري يا عقبة أن من شبابنا من بلغ الثلاثين والأربعين من عمره وهو لا يعرف لماذا أتى ولماذا يعيش وأين يسير؟! غاوٍ لاه، ما عرف رسالته في الحياة!!
عبد الله بن رواحة شاب في الثلاثين من عمره حمل سيفه وذهب إلى معركة مؤتة في أرض الأردنّ فلبس أكفانه ورفع سيفه وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة
وطالما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم قال:
يا نفسي إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت
ما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
جعفر أتى إلى مؤتة أيضاً مجاهداً في سبيل الله يحمل الراية، فقطعت يمناه فأخذ الراية بيده اليسرى، فقطعت فضم الراية بعضديه حتى تكسرت الرماح في صدره وهو يبتسم ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
الروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
فهؤلاء هم شباب السلف ليلهم سجود وتسبيح وذكر، ونهارهم جهاد ودعوة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فيا شباب الإسلام:
من يرفع راية لا إله إلا الله إذا توليتم أنتم؟!! ومن ينصر هذا الدين إذا أعرضتم أنتم؟!!
فعودة يا شباب الإسلام إلى الله، عودة إلى المسجد، عودة إلى المصحف، عودة إلى حلقات العلم عودة إلى ربكم.
شباب الدين للإسلام عودوا فأنتم مجده وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1723)
وصايا لقمان لابنه
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الوالدان
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من لقمان؟ 2- الحكمة في الدعوة والتربية. 3- خطورة الشرك. 4- عظم حق الوالدين. 5- عقوق الوالدين من أكبر الكبائر. 6- عبر وعظات من واقع العاقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد، فيا إخوة الإسلام يا أحباب الحبيب المصطفى :
لنستمع إلى القرآن وهو يعرض علينا مشهداً من مشاهد الآباء مع الأبناء، مع لقمان الحكيم وهو يجلس مع ابنه جلسة روحية يوصيه فيها بأعظم وصية في الحياة، لقمان الحكيم يجلس ابنه أمامه، فلذة كبده وثمرة قلبه وفؤاده، ويوصيه وصية أب مشفق على ابنه، فاسمعوا إلى القرآن وهو يعرض علينا هذه الوصايا في إبداع عجيب، وروعة متناهية وأسلوب بديع يقول سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ?لْحِكْمَةَ أَنِ ?شْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?للَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12].
فمن هو لقمان – يا عباد الله –؟ إنه مولى من الموالي وعبد من العبيد وراع من رعاة الأغنام، وفقه الله بالحكمة ومجده بالتقوى وشرفه الله بالإيمان. من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي
ما يصنع العبد بعز الغنى والعز كل العز للمتقي
آتى الله سبحانه وتعالى عبده لقمان الحكمة، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لأَلْبَـ?بِ [البقرة:269].
ومما يؤثر من حكمته أن مولاه أمره بذبح شاة وأن يخرج له أطيب مضغتين فيها، فأخرج له اللسان والقلب، ثم أمره أن يخرج له أخبث مضغتين فيها، فأخرج له اللسان والقلب، فالتفت إليه متعجباً! فقال لقمان: ليس شيء هناك أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى عبده لقمان بالشكر على هذه النعم التي أعطاها الله سبحانه وتعالى إياه، فقال سبحانه: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ ?لْحِكْمَةَ أَنِ ?شْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?للَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
إخوة الإسلام:
استمعوا إلى وصايا لقمان لابنه وإلى آثار الحكمة التي أنعمها الله عليه، يقول سبحانه وتعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. انظروا إلى روعة الخطاب قال سبحانه: وَهُوَ يَعِظُهُ ما قال: يوبخه ولا يؤنبه ولا يزجره ولا يعنفه، ثم قال له: ي?بُنَىَّ يتلطف مع ابنه ويتحنن معه، وهذه من آداب الدعوة التي ينبغي أن يتحلى بها كل داعية إلى الله وكل ناصح إلى طريق الله فإن الله سبحانه وتعالى لما بعث موسى إلى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية والربوبية مع الله ومع ذلك قال الله لموسى وأخيه هارون: ?ذْهَبَا إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:43-44].
ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. بدأ لقمان يوصي ابنه بأعظم وصية وهي التوحيد الذي قامت عليه دعوة الأنبياء والمرسلين، وهي الوصية التي كان يعلمها الرسول لأصحابه وأتباعه من بعده، في مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن الرسول ركب حماراً وأردف خلفه معاذا ، فقال الرسول لمعاذ: ((أتدري ما حق الله على العباد؟))، فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) ، ثم قال الرسول لمعاذ: ((أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟))، فقال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله : ((فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة)).
قال ابن مسعود - كما في الصحيحين -: لما أنزل الله عز وجل: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله فأتوا إليه ، قالوا: يا رسول الله وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ – وهم يعنون المعاصي – فقال : ((ليس ذلك المراد، إن المراد الشرك، أما سمعتم قول العبد الصالح لقمان: إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )).
فهل آن للآباء أن يجلسوا مع أبنائهم ويوصونهم بتوحيد الخالق جل في علاه، ويقولوا لهم: لا تشركوا بالله ولا تكفروا بالله ولا تجحدوا نعم الله، ولا تكفروا بآلاء الله ولا تراؤوا بأعمالكم غير الله، إنها والله أعظم وصية في تاريخ الإنسان وأكبر موعظة في تاريخ البشرية.
ثم يفصل الله سبحانه وتعالى وصايا لقمان بوصية من عنده فيقول: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14]. فقرن الله حقه بحق الوالدين، وقرن شكره بشكر الوالدين، فـ ((رِضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين)) كما صح ذلك عن الصادق المصدوق محمد.
لا إله إلا الله، ما للوالدين من حقوق، ولا إله إلا الله ما للوالدين من واجبات، فعن ابن عباس ما: ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها: إحداهما قول الله تعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ [التغابن:12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه، الثانية قوله تعالى: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [المزمل:20]، فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه، والثالثة قوله تعالى: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
وبدأ الله سبحانه وتعالى في الآية بحق الأم، لأن لها ثلاثة أرباع الحق، فقد جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
ذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع زوجته إلى القاضي على غلام لهما، أيهما أحق بحضانته؟ فقالت الأم للقاضي: أنا أحق به حملته مشقة، وحملته تسعة أشهر، ثم وضعته، ثم أرضعته، فقال أبو الأسود للقاضي: حملتُه قبل أن تحمِلَه، ووضعتُه قبل أن تضَعَه، فإن كان لها بعض الحق فلي الحق كله أو جله، فقالت المرأة: إن كنت حملتَه خفاً فقد حملتُه ثقلاً، ولئن وضعتَه شهوة فقد وضعتُه كرهاً، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها ودعنا من سجعك.
وهاهو ابن عمر يرى في طوافه وهو يطوف بالبيت الحرام رجلا وقد أركب أمه على ظهره وأتى بها حاجاً إلى بيت الله، فيلتفت الرجل إلى ابن عمر ويقول له: يا ابن عمر أتراني قد أوفيت حقها؟ فقال له ابن عمر: والله ما أوفيتها ولا طلقة من طلقات ولادتها.
وفي الصحيحين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: أتى رجل أبا الدرداء فقال له: إني تزوجت ابنة عمي، وهي أحب الناس إلي، وأمي تكرهها وأمرتني بفراقها وطلاقها، فقال له أبو الدرداء: لا آمرك بفراقها ولا آمرك بإمساكها، إنما أخبرك بما سمعته من رسول الله ، لقد سمعته يقول: ((الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه)).
فالله الله – يا عباد الله - في بر الوالدين، بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، يسأل : أي العمل أفضل؟ فيقول : ((الصلاة لوقتها)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)).
يأتي رجل إلى رسول الله فيقول: يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال : ((هل بقي من والديك أحد؟)) قال: نعم أمي، فقال له : ((قابل الله في برها، فإن فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد)).
ويأتيه رجل من اليمن يبايعه على الجهاد والهجرة، ويخبره بأنه أبكى والديه بهجرته، فيقول الرسول : ((ارجع إليهما ففيهما فجاهد)) ، وفي رواية: ((ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)).
ويأتيه جاهمة يستأذنه في الجهاد فقال له الرسول: ((أحيّ والدتك؟)) قال: نعم، قال: ((الزمها فإن الجنة عند رجليها)).
ولذلك كان أحد السلف يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه، فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة تحت قدمي أمي، فقد بلغني أن الجنة تحت قدميها.
ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها فقيل له: ما بك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما.
فالله الله في بر الوالدين، الله الله في بر الوالدين، من أراد السعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة فعليه ببر الوالدين، من أراد تفريج الهموم والكروب وتيسير الأمور فعليه ببر الوالدين، من أراد الرزق وطول العمر فعليه ببر الوالدين، صح عنه أنه قال: ((من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليبر والديه وليصل رحمه)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى :
روي عن الصادق المصدوق محمد أنه قال: ((إذا ظهر في أمة محمد أربع عشرة خصلة فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه، ومن هذه الخصال: إذا أطاع الرجل زوجته، وعقّ أمه، وأدنى صديقه، وأبعد أباه)).
وعند الطبراني من حديث أبي ذر : ((يأتي زمان لأن يربي أحدكم كلباً خير له من أن يربي ولداً)). ونعوذ بالله أن يكون هذا زماننا.
عقوق الوالدين من أكبر الكبائر – يا عباد الله – عاق الوالدين ملعون، عاق الوالدين حرام عليه الجنة، عاق الوالدين دعا عليه أفضل أهل السماء وأمّن على هذه الدعوة أفضل أهل الأرض، صعد المنبر فلما رقى الدرجة الأولى قال: ((آمين)) ، ثم رقى الثانية فقال: ((آمين)) ، ثم رقى الثالثة فقال: ((آمين)) ، فلما نزل سأله الصحابة عن ذلك، فقال: ((لما كنت في الدرجة الأولى عرض علي جبريل وقال: يا محمد رغم أنف من أدرك أحد أبويه أو كليهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين، فقلت: آمين)).
إلى الله المشتكى مما وصل إليه الحال من عقوق الوالدين، لقد وجد في مجتمعنا أبناءٌ قلوبهم أشد قسوة من قلوب اليهود والنصارى، وجد من سب أباه ومن شتم أباه ومن استهزأ وتنقّص أباه، ووجد من تعير بأبيه وأمه وظن أنهما لا يتناسبان مع مكانته ومركزه، ووجد من فضل زوجته على أبيه وأمه، هذا رجل يذهب هو وزوجته وأمه إلى سوق الذهب وأم الرجل تحمل ابنه على كتفها، فيدخل الرجل وزوجته إلى محل صائغ الذهب، فيشتري الرجل لزوجته ذهباً بما يساوي 600 ألف ريال، وتأخذ الأم خاتماً بما يساوي ألفين وخمسمائة ريال، ويأتي الرجل فيحاسب عن الذهب الذي اشترته زوجته فيقول له البائع: بقي عليك ألفان وخمسمائة ريال قيمة الخاتم الذي أخذته هذه المرأة، فيغضب الابن غضباً شديداً ويقول: هذه العجوز لا تحتاج إلى ذهب، فتنفجر الأم باكية وتعود إلى السيارة وهي حاملة لابن ابنها ولسان حالها يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ [يوسف:86]، ويرجع الزوج إلى السيارة وإذا بالزوجة تؤنبه وتوبخه وتأمره أن يشتري لأمه الخاتم ولسان حالها يقول: من يحمل لنا هذا الطفل إذا لم تشتر لها هذا الخاتم، يأتمر الرجل بأمر زوجته ويذهب لشراء الخاتم ويعطيه لأمه، فتلقيه الأم في الشارع وتقول: والله لا ألبس ذهباً في حياتي، حسبي الله ونعم الوكيل.
هذه أحداث ثابتة وواقعة والله ليست أساطير تروى، ولا حكايات تتلى، وعشرات مثلها في البيوت، ونعوذ بالله من العقوق والعاقين.
فنسأله تعالى أن يجعلنا من عباده البارين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
فيا أيها العاق لوالديه، اتق الله واحذر دعوة من والديك قد تصادف ساعة إجابة، فتكون سهماً صائباً يرديك ويشقيك في الدنيا والآخرة، أذكر أن أباً كان له ابن اسمه منازل، وكان هذا الابن عاقاً بأبيه ولكن الأب الصالح دائما ما يذكره بالله، وكلما ذكره بالله زاد نفوره وعقوقه، وفي ذات يوم ألح عليه في التذكير فما كان من الابن إلا أن ضرب أباه، وما كان من الأب إلا أن شد الرحال إلى بيت الله الحرام وتعلق في أستار الكعبة، ودعا الله على ذلك الابن العاق، فوالله ما أتم الأب دعاءه إلا وقد شلت يمينه أشل يد ذلك الابن لدعاء أبيه عليه، فدعوة الأب على ابنه مستجابة.
وهذه حادثة وقعت في زماننا: أب كان له ابن يعمل في مزرعته، وأراد الابن أن يسافر للعمل ويترك أباه فاستأذن الابن أباه في السفر، فلم يأذن الأب وحاول الابن مع أبيه مرات ومرات ولكن الأب يرفض، فقال الابن: سوف أذهب وأسافر رضيت أم أبيت، وسافر الابن وعصى أباه، فما كان من الأب الصالح إلا أن توجه بيده إلى السماء وقال: اللهم أرني فيه ما يكره، فوالله ما وصل إلى نصف الطريق إلا وقد عميت عيناه، فرجع إلى أبيه وهو أعمى، فقال له الأب: هل وجدت السهم؟ قال: الابن إي والله، فحزن الأب على ابنه حزناً شديداً، وتأثر عليه تأثراً بالغاً، ونام ليلته تلك ساجداً راكعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى يدعو الله بشفاء ابنه ويلحس عيني ابنه بلسانه، فوالله ما قام لصلاة الفجر إلا وقد رد الله بصر ابنه.
أيها العاق لوالديه، اتق الله وترقب عقوبة عاجلة، فكل الذنوب قد يؤخرها الله عز وجل إلى الآخرة إلا العقوق، فعقوبته معجلة في الدنيا قبل الآخرة.
ذكر العلماء أن رجلاً كان عنده والد كبير، امتدت به الحياة حتى تأفف من خدمته والقيام على شؤونه، فأخذه في يوم من الأيام على دابة وخرج به إلى الصحراء، فلما وصل بوالده إلى صخرة هناك أنزله فقال: يا بني ماذا تريد أن تفعل بي هاهنا؟ فقال الابن العاق: أريد أن أقتلك، أريد أن أذبحك، فقال له الأب: أهذا جزاء الإحسان يا بني فقال الابن العاق: لقد أتعبتني في حياتي ولا بد أن أذبحك، فقال له الأب: إن أبيت إلا أن تذبحني فاذبحني عند تلك الصخرة، قال: ولم يا أبت ما ضرك أن أذبحك عند هذه أو تلك؟ قال: يا بني لقد كنت عاقاً بوالدي وذبحته عند تلك الصخرة، فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة، والله يا بني مثلها.
حصادك يوماً ما زرعت وإنما يدان الفتى يوماً كما هو دائن
فيا أيها الأبناء اتقوا الله في آباءكم بروا آباءكم، أطيعوا آباءكم، وإياكم والعقوق، فالتوبة التوبة، لا نخرج من المسجد إلا وقد عاهدنا الله عز وجل بطاعة الوالدين وبرهما والتوبة عن كل تقصير تجاههما، فإن لم يكونوا موجودين فلندع لهما ولنتصدق عليهما، ولنصل صديقهما فإن ذلك من برهما، وأنتم يا أيها الآباء أعينوا أبناءكم على الطاعة والبر، وادعوا لهم بالهداية والتوفيق، وإياكم من الدعاء عليهم فقد تصادف الدعوة ساعة إجابة فتندمون على ذلك يوم لا ينفع الندم.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1724)
يوم الجمعة: فضله وآدابه
فقه
الصلاة
إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
صنعاء
العميري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص يوم الجمعة. 2- الحث على تعظيم يوم الجمعة. 3- التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة. 4- واجبات يوم الجمعة. 5- التذكير بيوم القيامة. 6- الشهود يوم القيامة. 7- آداب يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)).
إخوة الإسلام، وأحباب الحبيب المصطفى محمد :
يوم الجمعة أفضل الأيام عندنا أهل الإسلام، يوم الجمعة عيد لنا، يوم الجمعة تاريخ وله قصة من أعظم القصص، هذا اليوم خلق الله فيه آدم، وفي هذا اليوم أدخله الله الجنة، وفي هذا اليوم أخرجه الله منها، وفيه تقوم الساعة.
وفي هذا اليوم أيضاً كانت ساعة النزال بين موسى عليه السلام، وبين فرعون عليه اللعنة، يوم الصراع العالمي بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، وبين الهدى والضلال. يوم جاء موسى عليه السلام بالتوحيد وليس معه إلا عصاه وجاء فرعون بالصولة والصولجان ومعه دجاجلة الدنيا وسحرة الدنيا قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ?لزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ?لنَّاسُ ضُحًى [طه:59].
هذا يوم الجمعة في التاريخ، وهذا هو اليوم العظيم الذي هدانا إليه - نحن أمة الإسلام وأضل عنه الأمم من قبلنا يقول : ((ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدانا الله له وضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبع، هو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد)).
إذا علم هذا - يا عباد الله – كان لزاماً علينا أن نستشعر عظمة هذا اليوم، وأن نعظم هذا اليوم في قلوبنا وفي قلوب أبناءنا وأهلينا، وأن نتنافس فيه على أعمال الخير والبر، فهو يوم عظيم يجيب الله فيه الدعوات، ويزيد الحسنات، ويكفر السيئات، ويرفع الدرجات، وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:26].
إن من المؤسف – يا عباد الله – أن كثيراً من الناس جعلوا هذا اليوم العظيم موسماً للنزهة والخروج فيضيعون في طريقهم الجمعة والجماعة، ولا يؤدون الصلاة ولا يتهيئون لهذا اليوم العظيم.
إن الملائكة ملائكة الرحمن تقف من الصباح الباكر على أبواب المساجد، تسجل الأول فالأول، فإذا صعد الخطيب على المنبر طوت الصحف، وأنصتت لسماع الخطبة. أما الإنسان فيجعله يوماً للهو واللعب، يسهر ليلته وينام نهاره، أو يخرج فيترك صلاة الجمعة والجماعة، ويبارز ربه عز وجل بالمحاربة. والرسول يحذر من التهاون بها فيقول: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)). ويقول أيضاً : ((لينتهين أقوام عن تركهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم فليكونن من الغافلين)).
معاشر المسلمين:
إن لهذا اليوم العظيم واجبات وحقوقا علينا، ومن هذه الحقوق والواجبات الاغتسال والتطيب، وقد أوجب بعض العلماء غسل الجمعة لقوله : ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) أي على كل بالغ، وجمهور العلماء على أنه سنة مؤكدة لقوله : ((من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)).
وهذا الاغتسال والتطيب من أجل أن يتهيأ العبد للقاء الله لأن هذا اليوم عيد، ولأنه يذكر بلقاء الله وبيوم العرض الأكبر على الله، ولذلك كان يقرأ في فجر يوم الجمعة بسورتي السجدة والإنسان، وهاتان السورتان قد تضمنتا ما كان وما يكون في هذا اليوم العظيم، فقد اشتملتا على بدء خلق آدم عليه السلام وعلى ذكر يوم القيامة والحشر والمعاد وما يكون في هذا اليوم من أهوال وأحداث عظام، فكان يقرأ هاتين السورتين فجر يوم الجمعة حتى تتذكر الأمة ما سوف يحصل في هذه اليوم العظيم وتستعد للقاء الله.
وكما أنه ينبغي علينا – يا عباد الله - أن نتجمل بالاغتسال والطيب واللباس الحسن فكذلك يجب علينا أن نتجمل بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، كالصدق والأمانة والحلم والمروءة وأن نتخلى عن الأخلاق الذميمة، كالحقد والحسد والغيبة والنميمة وغيرها من الأخلاق السيئة. فما الفائدة إذا كانت الظواهر جميلة والبواطن خراب؟!!.
لبسنا واشياً من كل حسن فما سترت ملابسنا الخطايا
وتلك قصورنا بالعمر باتت وتلك قبورنا أضحت خرابا
ليس في القيامة – يا عباد الله – ثياب، وليس فيها عمائم، وليس فيها فلك ولا سيارات، ولا كل هذه الزينة الظاهرة وإنما: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]. فالسجل مكشوف، والبدن عار، والضمائر معروضة، وكتابك يا ابن آدم مفتوح أمام عينيك، ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14]، وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
وقالوا: مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49]. وهناك شهود علينا غير هذا الكتاب، وكفى بالله شهيداً وكفى بالله رقيباً وكفى بالله حسيباً. من هؤلاء الشهود محمد ، سوف يشهد على أمته يوم القيامة فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى? هَؤُلاء شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ ?لرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى? بِهِمُ ?لأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ ?للَّهَ حَدِيثاً [النساء:41-42]. وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:142]. محمد سوف يعرف أمته وسوف يشهد عليهم عند الله سبحانه وتعالى.
ومن هؤلاء الشهود أيضاً الملائكة الحفظة والكتبة، سوف يشهدون عند الله بأعمالنا، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَاماً كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18].
ومن هؤلاء الشهود أيضاً يا عباد الله الأرض، سوف ينطقها الله عز وجل يوم القيامة، فتشهد هذه الأرض التي نمشي عليها ونبطش عليها ونتكبر عليها، سوف ينطقها الله فتشهد بما عمل عليها وبما حدث عليها إِذَا زُلْزِلَتِ ?لأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ ?لإِنسَـ?نُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:1-4].
ومن هؤلاء الشهود أيضاً – يا عباد الله- وكفى بالله شهيداً وكفى بالله حسيباً الأعضاء، سوف تنطق وتشهد وتتكلم يوم القيامة، يوم تضل العقول وتضيع الأفهام، يوم يختم على اللسان فتتكلم الأيدي وتشهد الأرجل وينطق الجلد والسمع والبصر ?لْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى? أَفْو?هِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:65]، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:19-21].
فإلى الله نشكو قسوة قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب
معاشر المسلمين:
ومن حقوق وواجبات هذا اليوم العظيم علينا – يوم الجمعة – التبكير إلى الصلاة وإتيان المسجد قبل الأذان، وهذه سنة مهجورة، هجرها الكثير من الناس مع أنها من أجل القربات وأنفس الطاعات يقول كما في الصحيحين: ((من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة - أي كأنما تصدق بها لله – ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة وطوت الصحف وأنصتت لسماع الخطبة)) وفي هذا الحديث الصحيح يقول : ((من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها)).
فلا إله إلا الله ما أعظم هذه الأجور!! ولا إله إلا الله ما أزهدنا فيها ونحن في أمس الحاجة إلى حسنة واحدة!!
فأين الساعة الأولى؟! وأين الساعة الثانية؟! وأين المبكرون والرسول يقول: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)).
إن أقواماً لازالوا يتأخرون حتى يؤخرهم الله، وإن أقواماً لازالوا يتقدمون حتى يقدمهم الله فيمن عنده.
فلنبادر إخوة الإسلام للخيرات، ولنسارع إلى الطاعات ولنغتنم لحظات الزمن وفرص الحياة بالأعمال الصالحات.
((بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فمن آداب يوم الجمعة حضور الخطبة والإنصات إليها يقول كما في صحيح مسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام)).
فإذا أذن المؤذن فلا بيع ولا شراء ولا تجارة ولا دنيا ولا كلام إنما توجه إلى الله، وإنصات لأحكامه، فليس للجالس أن يكلم من بجانبه، ولا أن يسلم عليه، ولا أن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر، يقول كما في الصحيحين: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت، ومن لغا فلا جمعة له، ومن مس الحصى فقد لغا)). وليس للجالس أيضاً أن يقوم فيصلي نافلة إذا كان قد أدى تحية المسجد، فإن تأخر ودخل والإمام يخطب فله أن يصلي ركعتين خفيفتين.
ومن آداب يوم الجمعة وليلة الجمعة استحباب الإكثار من الصلاة والسلام على رسول الهدى محمد فعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله : ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) ، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ – يعني بليت – فقال: ((إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)).
ومن آداب يوم الجمعة أيضاً قراءة سورة الكهف فقد صح عن النبي أنه قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) وفي رواية: ((أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)).
ومن خصائص هذا اليوم العظيم أيضاً أن فيه ساعة إجابة لا يوافقها عبد مسلم فيدعو الله عز وجل إلا استجاب الله دعاءه، أخفاها الله سبحانه وتعالى عن العباد حتى يجتهدوا في طلبها وقيل: إنها هي هذه الساعة وقت الخطبة والصلاة، وقيل: إنها آخر ساعة من النهار، وقيل غير ذلك، والعلم عند الله تعالى.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/1725)
بدعة الاحتفال بالمولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
9/3/1422
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل القرآن الكريم. 2- وجوب اتباع النبي. 3- فضل النبي على هذه الأمة ، وعظم
الشريعة التي جاء بها. 4- افتراق المسلمين. 5- بدعة أعياد الموالد. 6- بدعة الاحتفال بالمولد
النبوي. 7- وجوب محبة النبي. 8- حقيقة محبة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد أنزل الله تعالى هذا القرآن العظيم على أفضل رسله، وخير أنبيائه محمد ، وأمرنا بالتأسي به ، واتباع هديه، والتمسك بسنته، يقول عز وجل: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
إنه القدوة في كل شيء، إذ لا خير إلا دلّ الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، لقد دعا إلى كل خير بأفعاله وأقواله وتقريراته، وإن الله تعالى قد ملأ به القلوب علماً ويقيناً وإيماناً، وشمل به العباد عدلاً ورحمة وحناناً، وطهّر الله به الأخلاق من جميع الرذائل، واستكملت به جميع الفضائل، استبدل المؤمنون به بعد الشرك إخلاصاً لله وتوحيداً، وبعد الانحراف عن الحق هداية واستقامة وتوفيقاً، وبعد الفتن والافتراق ألفةً واعتصاماً، وبعد القطيعة والعقوق براً وصلة وتعاطفاً، وبعد الظلم والجور وسوء المعاملات عدلاً ووفاءً بجميع الحقوق والواجبات.
إنه رحمة للعالمين، وهدى للناس أجمعين، جعل الله به بعد الفساد صلاحاً، وبعد الشقاء فلاحاً، إن شريعته السمحة وتعاليمه القيمة هي الكفيلة بجمع الشمل، واستتباب الأمن، وحصول الطمأنينة، وهذه حال المسلمين حينما كانوا مطبقين لها، عاملين بها، مستضيئين بنورها، فلما استبدل كثير منهم بنور الوحيين سواهما، وانفصلوا أو كادوا ينفصلون من حبله المتين، وتقاطعوا وتدابروا وتباغضوا وتنافروا، وضعفت فيهم الغيرة الدينية، والأخوة الإيمانية، وتباينت الآراء، وكثرت الأهواء، وأعجب كل ذي رأي برأيه، ورأى أن الحق فيما يراه ويهواه، واكتفى كثير منهم من دينهم بالمظاهر عن الحقائق، فجاءهم ما كانوا يوعدون، وتكالب عليهم الأعداء، وتشتت الأصدقاء، فلم يزالوا في بعد وافتراق، وتنازع وشقاق، نتج عن هذا ضعف البصيرة في الدين، والإعراض عن سنة سيد المرسلين.
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بسنة نبيكم تفلحوا، وإياكم والمحدثات في الدين، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله:
إن مما أحدثه بعض الناس هذه الأعياد التي يسمونها أعياد الموالِد، وليس في الإسلام سوى عيد الفطر وعيد الأضحى، وإن هذه الأعياد التي أحدثت بعد القرون المفضلة كلها من الأمور المحدثة، دخلت على هذه الأمة بسبب المتابعة لأهل الكتاب، والتأثر بهم وتقليدهم، ولقد حذرنا من ذلك، وأخبر أن هذه الأمة لا بد وأن تعمل عملهم، فقد قال : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذّة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) [1] ، والنبي يخبرنا بما سيكون تخويفاً وتحذيراً لنا من متابعتهم.
وإن مما أحدث بعض الناس في هذا الشهر من المحدثات الاحتفاء بمولده مشابهة لأهل الكتاب في إقامة عيد ميلاد المسيح عليه السلام، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء رحمهم الله.
وإن مما لا شك فيه أن الاحتفال بمولده لا يزيده شرفاً ولا رفعةً، فإن شرفه وفضله في القمة بين البشر أجمعين، فهو سيد الأولين والآخرين، وأكرم الخلق على رب العالمين، وإن محبته دين يدان الله بها، ولا يصح إسلام المرء حتى يحب نبيه ، ولا يكمل إيمانه حتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، كما في قصة عمر رضي الله عنه [2].
ومن المعلوم أن سلف هذه الأمة أكمل وأتمّ محبة منا له ومع ذلك لم يفعلوا شيئاً من هذه الاحتفالات، بل حذروا ونهوا عنها لعدم الدليل على مشروعيتها، وليس عنوان المحبة بإقامة الاحتفال بمولده ، ولكن محبته باتباع أمره، والاهتداء بهديه، والاقتداء بسنته، وتفهم سيرته كل وقت وحين، وسلوك طريقته التي كان عليها هو وأصحابه، ومتابعته على ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بكتاب ربكم تهتدوا، واعملوا بسنة نبيكم تفلحوا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء [3456]، ومسلم في العلم [2669] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
[2] قصة عمر أخرجها البخاري في كتاب الأيمان والنذور [6632] عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه سبحانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن هذا الشهر، شهر ربيع الأول قد كان فيه مولده ، وفيه هجرته ووفاته، فلا يجوز أن نجعله موسماً للأفراح، ولا للأتراح، بل الواجب أن نتذكر حالته على الدوام، وأن نقتدي به في قيامه بعبادة ربه، ودعوته إلى دين الله، وتبليغ رسالة ربه، وجهاده في سبيل إعلاء كلمة الله، حتى أكمل الله به الدين، وأتمّ به النعمة على الخلق أجمعين، فلتقتدوا به في أقواله وأفعاله، فذلك سبب محبته لكم ومغفرته تعالى لذنوبكم، كما قال عز وجل: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:21].
فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا أمر بكم، واقتدوا بهدي نبيكم تفلحوا وتسعدوا.
وصلوا وسلموا على الهادي النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك ربكم في محكم التنزيل في قوله عز من قائل عليم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
(1/1726)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
9/3/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ مقصد هذا الدين. 2 ـ فضل حسن الخلق. 3 ـ تعريف الخلق الحسن. 4 ـ من خصال الخلق الحسن. 5 ـ الكافر والخلق الحسن. 6 ـ أمر الله ورسوله بالخلق الحسن. 7 ـ ميزات الخلق الحسن. 8 ـ ميزات سوء الخلق. 9 ـ السلف الصالح وحسن الخلق. 10ـ خلق النبي. 11 ـ تربيته للأمة. 12 ـ المداراة والمداهنة. 13 ـ أكثر ما يدخل الناس الجنة، وأكثر ما يدخلهم النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا عقابه فلا تعصوه.
أيها المسلمون، اعملوا أن الإسلام جاء لتحقيق غاية عظيمة، وجاء ليقوم بمهمة جسيمة، ألا وهي القيام بحق الله تعالى وحقوق الخلق، لقول الله تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?ناً وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [النساء: 36]، وما سوى هذه الغاية من عُمران الأرض، وتشريع الحدود، وكف الظلم ونحو ذلك، فهو تابع للغاية الكبرى، التي هي الوفاء بحق الله وحقوق الخلق، ووسيلة إلى هذه الغاية، وتمهيد إليها.
والخلق الحسن أساس القيام بحق الله وحقوق الخلق، والخلق الحسن بالإيمان أصل الوفاء بحق الله وحق العباد، وبذلك ترفع الدرجات وتكفر السيئات، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه أبو داود [1] ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي وقال: (حديث حسن صحيح) [2] ، فالخلق الحسن هو جماع الخير كله.
والخلق الحسن هو كل صفة حميدة في الشرع والعقل المستقيم، وقال بعض أهل العلم: "الخلق الحسن بذل الخير، وكف الشر"، ويقال: "الخلق الحسن بذل الندى وكف الأذى".
والقول الجامع للخلق الحسن هو كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه، كالأمر بالتقوى والإخلاص والصبر والحلم والأناة والحياء والعفة والغيرة وبر الوالدين وصلة الأرحام والرحمة وإغاثة الملهوف والشجاعة والكرم والصدق وسلامة الصدر والرفق والوفاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الجوار والتواضع والتحمل والسماحة والأمانة ومجانبة المكر والغدر والخيانة والخديعة والفواحش والمنكرات وخبائث المشروبات وخبائث المآكل والكذب والبهتان والشح والبخل والجبن والرياء والكبر والعجب والظلم والعدوان والحقد والغل والحسد والبعد عن التهم ونحو ذلك.
والخلق الحسن ينفع المؤمن في الدنيا والآخرة، ويرفع درجته عند ربه، وينتفع بخلقه البر والفاجر، وأما الكافر فإنما ينفعه خلقه في الدنيا، ويثيبه الله عليه في العاجلة، وأما الآخرة فليس له فيها نصيب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت عبد الله بن جدعان فإنه كان يقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الدهر، أينفعه ذلك؟ فقال النبي : ((لا، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) [3].
وقد أمر الله تعالى في كتابه العظيم بكل خلق كريم، ونهى عن كل خلق ذميم، وجاءت السنة النبوية كذلك، آمرة بكل خصلة حميدة، ناهية عن كل خصلة خبيثة، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، وحسبنا في ذلك مثل قول الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151]، وقول الله تعالى: ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 134]، وقول الله عز وجل: خُذِ ?لْعَفْوَ وَأْمُرْ بِ?لْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ?لْجَـ?هِلِينَ [الأعراف: 199]، وقول الله تعالى: وَ?صْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِ?للَّهِ [النحل: 127]، وقوله عز وجل: وَلاَ تَسْتَوِى ?لْحَسَنَةُ وَلاَ ?لسَّيّئَةُ ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]، وقول الله تعالى: وَاخفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]، وقوله تعالى: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83]، وقول الله عز وجل: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَـ?ماً وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان: 63ـ 68]، وقوله عز وجل: يَأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة: 1]، وقول الله تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر: 7].
وفي الحديث عن النبي أنه قال: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه)) رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث أبي أمامة رضي الله عنه [4].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هيِّن ليِّن سهل)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" [5].
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)) رواه مسلم [6].
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله عن البر والإثم فقال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس)) رواه مسلم [7].
الخلق الحسن بركة على صاحبه وعلى مجتمعه، وخير ونماء، ورفعة عند الله وسناء، ومحبة في قلوب الخلق وطمأنينة وانشراح في الصدر، وتيسير في الأمور، وذكر حسن في الدنيا، وحسن عاقبة في الأخرى.
وسوء الخلق شؤم ومحق بركة في الأعمار، وبغض في الخلق وظلمة في القلوب، وشقاء عاجل، وشر آجل.
أيها المسلمون، اقتدوا بالسلف الصالح، الذين اتصفوا بمكارم الأخلاق وشهد لهم بذلك العليم الخلاق، في مثل قوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح: 29]، وقوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران: 110]، فهم خير الناس للناس، وقول الله تعالى: مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـ?هَدُواْ ?للَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب: 23].
وكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم أمةٌ وحدة في مكارم الأخلاق، والبعد عن سفاسف الأمور، يُعلم هذا من تفصيل سيرهم وأحوالهم.
والمثل الأعلى في كل خلق كريم، وفي كل وصف حميد عظيم، سيد البشر سيدنا محمد ، فهو القدوة التامة في كل شيء، قال الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآَخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: 21]، فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه.
واعتنى أعظم عناية بتربية الأمة على كل خلق حميد وفعل رشيد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) رواه أحمد [8].
وأثنى الله على نبيه أفضل الثناء، ثناءً يتردد في سمع الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون من الجن والإنس، ولا تُنسيه سرمدية الزمان، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28].
عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلق رسول الله ، فقالت: كان خلقه القرآن [9].
قال ابن كثير رحمه الله: "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سجية له، وخلقًا تطبّعه، وترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل" انتهى كلامه [10].
وحتى قبل البعثة لم يجدوا عليه سقطة ولا عيبًا يُذمّ به، مع كثرة أعدائه، وتوافر دواعيهم وحرصهم، ولما فجأه الوحي قال لخديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيت على نفسي)) فقالت: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها [11].
فهذا بعض خلقه الكريم قبل البعثة، فأتم الله عليه النعمة والخلق العظيم بعد البعثة.
فتأسوا ـ معشر المسلمين ـ بنبيكم ، بالتمسك بدينه القيم، والعمل بشريعته الغراء، والتخلق بأخلاقه الكريمة، بقدر ما يوفقكم الله لذلك، واحملوا أنفسكم على منهجه مخلصين لله تعالى، متبعين لسنته، غير مبتدعين في دينه، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 21].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن المداراة من الخلق الحسن، والمداهنة من الخلق المذموم، فالمداراة هي دفع الشر بالقول الحسن أو الفعل الحسن، وتبليغ الحق بأسلم وسيلة، وتكون في بعض الأحوال، والمداهنة هي السكوت عن الحق، أو الموافقة في المعصية قال الله تعالى: يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?رْكَعُواْ وَ?سْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَ?فْعَلُواْ ?لْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هو في كتاب الأدب من السنن [4798]، وأخرجه أحمد (6/90، 133)، وابن حبان [480] ـ الإحسان ـ وصححه الحاكم (1/60)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "صحيح". صحيح الترغيب والترهيب [2643].
[2] هو في كتاب البر والصلة من السنن [2002]، وأخرجه أحمد (6/442، 446، 448)، وأبو داود في الأدب [4799]، وابن حبان [481] ـ الإحسان ـ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2641].
[3] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان [214].
[4] هو في كتاب الأدب من السنن [4800]، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2648].
[5] في كتاب صفة يوم القيامة من السنن [2488]، وأخرجه أحمد (1/415)، وابن حبان [469] ـ الإحسان ـ، والطبراني في الكبير في (10/231)، وجوّد المنذري في الترغيب (2/354) إسناد الطبراني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1744)، وخرجه في السلسلة الصحيحة [938].
[6] كتاب البر والصلة [2594].
[7] كتاب البر والصلة [2553].
[8] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد [273]، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في السنن (10/ 191)، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره" وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة [45].
[9] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين [746] من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: (ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن).
[10] تفسير ابن كثير (4/403).
[11] أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي [4]، ومسلم في كتاب الإيمان [160].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأتقياء.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى كما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، فقد أمركم الله بقوله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، وهذه آية جامعة لكل خلق كريم، ناهية عن كل خلق ذميم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه الترمذي [1].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: ((الفم والفرج)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [2].
فتمسكوا ـ عباد الله ـ بأخلاق دينكم، وحافظوا على هدي نبيكم ، تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب: 56].
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة [1987]، والدارمي في الرقاق [2791] من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول".
وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395).
ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله.
فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [2655، 3160].
[2] في كتاب البر والصلة من السنن [2004]، وفيه: "صحيح غريب", وأخرجه أيضًا أحمد في المسند (2/191، 442)، والبخاري في الأدب المفرد [289، 294]، والطيالسي في المسند [324]، وابن ماجه في الزهد [4246] وابن حبان [476] ـ الإحسان ـ وصححه الحاكم (4/324) ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب [1723].
(1/1727)
الأسرة في الإسلام ـ أحكام المولود ـ
الأسرة والمجتمع
الأبناء
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ التهنئة بالمولود ذكرًا كان أم أنثى. 2 ـ حكم الأذان والإقامة في أذن المولود.
3 ـ التحنيك بعد الولادة. 4 ـ العقيقة عن الغلام والجارية وأحكامها.
5 ـ حلق رأس المولود
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فما زلنا مع بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، والتي يلزم المسؤلان عن الأسرة المسلمة ـ أي الأب والأم ـ العلم بها ليقوما بتربية أبنائهم على ضوء منها، وليحسن إعدادهم لدورهم المنتظر منهم، واستكمالاً لما مضى من الكلام على البشارة بالمولود أقول:
كان الناس في الجاهلية يهنئون بولادة الذكر وبوفاة الأنثى دون ولادتها، وكانوا يقولون للزوج عند بناءه بزوجه: (بالرفاء والبنين) أي يدعون له بالالتحام والاتفاق، وبأن يُرزق البنين دون البنات، فيُهنئون بالبنين دون البنات، وقد تقدم ذكر قول الله تعالى في سورة النحل وفي سورة الزخرف إنكارًا على هؤلاء الذين كانوا يستبشرون بالذكر، وتسود وجوههم إذا بشروا بالأنثى، قال الله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِ?لأُنْثَى? ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى? مِنَ ?لْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى? هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ?لتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ.
وندب رسول الله المسلمين إلى أن يقولوا بدلاً من "بالرفاء والبنين" تلك التهنئة الجاهلية ندبهم إلى أن يقولوا: ((بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير)).
هكذا يُدعى للزوج.
وأما عن البشارة بالمولود فذلك يكون في حينه عندما يولد له فيبُشر سواء ولد له ذكر أو أثنى، ولهذا ذكر ابن المنذر عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أن رجلاً هنأ رجلاً جالسًا عنده بالمولود الذكر فقال له: هنيئًا لك بالفارس أو كلمة نحوها. وعندها ظن الحسن البصري رحمه الله أن في الرجل بقية وآثارًا من الجاهلين ولهذا استعمل هذه التهنئة المبالغ فيها، فقال له، عندها خشية من الذين يهنئون بالذكر ويبالغون في ذلك ولا يهنئون بالأنثى، فقال له الحسن: "وما يدريك فارس هو أو حمار؟ فقال له: فكيف نقول؟ قال: قولوا: بورك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره" هذا هو آخر ما يتعلق بالبشارة بالمولود، ويبشر من ولد له بالولد الذكر أو الأنثى على السواء، ثم اعلموا أيها الأخوة الكرام رحمكم الله:
أنه يستحب التأذين في أذن الصبي اليمنى عند ولادته وقد جاء في ذلك حديث صحيح أذكره بعد قليل، وأما الإقامة فقد ورد فيها حديثان ضعيفان، فحديث الأذان هو القوي وهو الصحيح، وقد أخرجه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: "حديث صحيح" عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله أذن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن التأذين وحكمته وسره قال:
"وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته (أي كلمات الأذان) لا الطبول ولا الغناء ولا الموسيقى ولا الزغاريد ولا نحو ذلك من الأساليب التي اعتادها المسلمون في أعصارهم الأخيرة، التي طال العهد بينها وبين الصدر الأول خير القرون قرن رسول الله والقرنين اللذين بعده.
وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب (الله أكبر الله أكبر) وعظمته، والشهادة التي أول ما يُدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، فكما هو من المسنون من رسول الله أن يُلقن المحتضر كلمة لا إله إلا الله عند خروجه من الدنيا لتكون كلمة الشهادة آخر ما يتوفى عليه المرء. فكذلك يُلقنها المولود عند دخوله إلى هذه الدنيا".
ثم يقول رحمه الله: "وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، لا يستنكر أن يصل أثر التأذين إلى قلب ذلك الصبي وأن يتأثر بذلك وإن لم يعرف ولم يدرك معنى ما يُصنع به ويُفعل به، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه (كان الشيطان ينتظره حتى يولد ليقارنه) للمحنة التي قدرها الله وشاءها (من خروج الأبوين وهبوطهما من الجنة إلى الأرض، وإنظار إبليس إلى يوم القيامة، وهو الذي حلف ليجتهدن في إضلال بني آدم، إلا عباد الله المخلصين، فينتظر الشيطان المولود ليقارنه) فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه، (وهو الأذان) أول تعلقه به وفيه معنى آخر (أي في التأذين معنى آخر وما زال الكلام لابن القيم رحمه الله) وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دين الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان (يؤذن في أذنه حتى يُدعى فورًا إلى الله الأكبر وأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله يدعى إلى ذلك قبل أن يدعوه الشيطان ليكون من جنده وأحزابه وأولياءه). كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم".
ثم يستحب تحنيك الصبي وذلك أيضًا في لحظاته الأولى قبل أن ينزل إلى جوفه شيء يستحب أن يتولى من يُعرف بالصلاح مضغ تمرة في فمه ثم يضعها في فم الصبي ويديرها فيه ليكون ريقه أول ما يخالط ريق هذا الصبي [1] وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: وُلد لي غلام فأتيته النبي فسمّاه إبراهيم وحنّكه بتمرة. زاد البخاري رحمه الله: "ودعا له ودفعه إلي" وكان أكبر ولد أبي موسى رضي الله عنه.
ولما جاء في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك في قصة الولد عبد الله بن أبي طلحة أخي أنس ابن مالك لأمه أم سليم، هذا الولد الذي حملت به أمه في ليلة مات لها فيها ولدٌ كان مريضًا وكان صغيرًا، وهو الطفل الذي كان رسول الله عليه وسلم يداعبه، ويقول له: أبا عمير، ما فعل النُفير؟ كان هذا الطفل يلعب بطائر يقال له النُفير وكان رسول الله الرحيم الرقيق اللطيف إذا مَرّ بذلك الطفل يداعبه ويلاطفه ويقول له: أبا عمير ما فعل النُغير؟ ثم توفي هذا الولد، وفي الليلة التي مات فيها لم يكن أبوه موجودًا فلما عاد سأل عنه فعرضّت أم سليم ـ لم تُجب صراحة ولكن عرّضت وفي المعاريض مجال وبديل عن الكذب، يقال كلام ويُحمل على أكثر من معنى فيكون صاحبه وقائله صادقًا ـ قال لها: كيف حال الغلام؟ فقالت له: هو أسكن ما يكون الآن. وأرجو أن يكون قد استراح (إلى آخر ما جاء من الروايات في الكلام الذي عَرّضت به) ثم هيأت له نفسها فجامعها. ثم قالت له بعد ذلك: وارِ الغلام: أي ادفنه. فذهب إلى رسول الله وقص عليه الخبر فدعا له النبي بأن يبارك الله لهما في ليلتهما، فولد له من هذه الليلة التي قدر فيها هذا المولود، ولد منها عبد الله هذا الولد الصغير الذي ثبت أن رسول الله حنكه بتمرة ودعا له وهو الذي كان قد دعا له قبل أن يخرج إلى الدنيا في ليلة قدره الله تعالى حملاً. ودعا له بعد خروجه إلى الدنيا، قال الرواة: فرؤيَ له تسعة من الأولاد كلهم يحفظون كتاب الله القرآن الكريم لعبد الله هذا المولود الذي عوض الله به أبويه عن أبي عمير الطفل الذي مات.
والشاهد أن رسول الله حنكه عند ولادته بتمرات، وكذلك روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة وولدته في قباء فجاءت به إلى الرسول في المدينة، ووضعته في حجره فتفل رسول الله في فيه وحنكه بتمرة، وهذا هو الذي يعم الجميع [2] وأما التفل بفعل رسول الله لا ينبغي أن يتفل أحد بعده في فم أحد أو على رأس أحد أو في وجه أحد احتجاجًا بفعل رسول الله فهذه خصوصيات له عليه الصلاة والسلام لا تتأتى لغيره، أمّا التحنيك فهو ثابتٌ للجميع. حنكه رسول الله بتمرة ودعا له بالبركة، فرح المهاجرون بعبد الله فرحًا شديدًا لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة وكان قد قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم، فلما ولد لهم هذا المولود استبشروا خيرًا وفرحوا به فرحًا شديدًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] والصحيح أن التبرك بالريق من خصوصيات النبي ، ولا يشاركه فيها أحد مهما بلغت درجة صلاحه، لكن لو فعل ذلك بقصد تليين التمر كما تفعله الأم لولدها إذا أرادت أن تطعمه فهو أمر آخر ليس من هذا الباب ولا شك في جوازه (المنبر).
[2] انظر التعليق السابق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
ويستحب أيها الأخوة الكرام أن يُعق عن المولود يوم سابعه بشاتين إن كان ذكرًا وبشاة إن كانت أُنثى لما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: وهذا الأمر الذي لا خلاف فيه عندنا. أمر العقيقة لا خلاف فيه عندنا في المدينة.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله:" أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية، وهذا هو قول أئمة أهل الحديث قاطبة وفقهاءهم وجمهور أهل السنة، وإليه ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق فثبتت بذلك السنة، وإذا ثبتت السنة وجب القول بها بما أخرجه الإمام البخاري عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دمًا واميطوا عنه الأذى)).
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كره تسميتها بالعقيقة في بعض الآثار. قال: ((لا أحب العقوق)). وإذا استبدلت بكلمة نسيكه كان أفضل إعمالاً لهذه الآثار.
((فأهريقوا عنه دمًا)) أي ذبيحة ـ نسيكه، ((وأميطوا عنه الأذى)) يفسر ذلك بحلق شعر رأسه يوم سابعه كما سيأتي ثم أخرج أهل السنن كلهم عن سمرة ابن جندب، وقال الترمذي حسن صحيح قال: قال رسول الله : ((كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه)) رهينة بعقيقته أي حبيس الشيطان، وحبيس الشيطان لكي يفك أسره ولكي لا يستولى عليه الشيطان ينبغي أن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بدم يذبح عنه قربانًا وشكرانًا على هذه النعمة المتجددة وفداءً من أسر الشيطان واستيلاءه، وصدقة على الفقراء والمساكين مع ما يقدم للأصحاب والأهل والأقارب في حضور الدعوة للعقيقة، وما في ذلك من إطعام الطعام الذي هو علامة المسرات.
((رهينه بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)) في اليوم السابع من ولادته فإن لم يستطع فيتحرى كل أسبوع يتم على ولادته فيه إن تيسر الأمر.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: "أنه إن لم يكن في الأسبوع الأول ففي الثاني فإن لم يكن ففي الثالث".
وقال بعض العلماء: "بل يكون في أي أسبوع من ولادته عندما يتيسر المال الذي يشتري به ما يذبح للمولود ذكرًا كان أو أنثى تذبح عنه يوم سابعه، ويُسمى فيه ويُحلق رأسه".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ((عن الغلام شاتان متكافأتان وعن الجارية شاة)) عن الجارية ـ يعني عن الأنثى يقال عنها الجارية. أخرجه أحمد والترمذي. وقال الترمذي: حديث صحيح.
وفي رواية أخرى أخرجها الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أمرنا رسول الله أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين.
وعن أم كُرز الكعبية رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن العقيقة فقال: ((عن الغلام شاتين وعن الأنثى واحدة ولا يضركم ذكرانًا كن أو إناثًا)) أي لا يضركم أن يكون المذبوح ذكرًا أو أنثى ليس هذا بمشترط ولا مهم.
والوقت الذي يستحب فيه العق قد تقدم الكلام عنه منذ قليل، ولا يصح الاشتراك في العقيقة. فلا يذبح بعير مثلاً عن سبعة من الأولاد كما يكون في الأضحية فإنه بكل عضو من الذبيحة يفتدي عضو من المولود من أثر الشيطان واستيلاءه عليه، لهذا وجب تخصيصه بذبيحة لا يُشترك فيها، والذبيحة خير من الصدقة بثمنها ولو زاد الثمن على ثمن الذبيحة لما عرفتم من أثر الذبح في التخلص من أثر الشيطان على الأولاد.
ثم إنه يستحب كذلك أن يدُعى إليها الجيران والأهل والأحباب، ويتصدق بشيء منها على الفقراء ويقال عند ذبحها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((بسم الله اللهم لك وإليك هذه عقيقة فلان ابن فلان)) ومن ذبح سابقًا ولم يقل ذلك يكفيه النية في أنها عقيقة عن فلان هذا.
هذا بعض ما تيسر من أحكام العقيقة وهي كثير، والكلام عليها كثير ومُتشعب غاية التشعب. ثم إنه يُسن حلق رأس الصبي يوم سابعه أيضًا، وهذا هو المراد بقوله في حديث سلمان ابن عامر في البخاري ((وأميطوا عنه الأذى)) وهو صريح في حديث سمرة ((ويحلق رأسه)) وذلك لما فيه من الأثر الطيب على مسام الرأس، وخروج الأبخرة من الدماغ، وتقوية بصره وسمعه وشمه وظاهر هذا أنه لا فرق بين الذكر والأنثى لعموم هذه الفوائد في حق الجميع، وأما ما قاله بعض أهل العلم من التفريق بينهما فإنهم ذهبوا إلى أن الأنثى ترفل في الزينة وتنشأ في الزينة ومن تمام زينتها أن يترك شعرها. لكن الظاهر أن يسوى بينها وبين الذكر لهذه الفوائد المعلومة في حلاقة الرأس. وإلى هنا أتوقف عن ذكر بعض الأحكام الخاصة بالأولاد وعلى أمل اللقاء في جمعة قادمة لاستكمال ما بقى منها، وأهم ما ينتظره الجميع من الكلام على الأولاد وهو تربيتهم وكيفية هذه التربية والاعتناء بهم، فسوف يأتي بعد قليل إن شاء الله وقدَّر، ربما بعد جمعتين على الأكثر، وإنما أردت أن أذكر هذه الأحكام ولو بشيء من الاختصار لبيان العناية التي حظي بها المولود في الإسلام، ومن خلال ذكر هذه الأحكام يتبين لكم، كيف اعُتني بهذا الطفل وبهذا المولود من أول أيامه. بل منذ اللحظة الأولى التي يُرجى فيها وجوده عندما أوصى الإسلام بضرورة الاعتناء بالرجل الذي يزوج من مولياتنا وبناتنا وضرورة الاعتناء بالمرأة التي يختارها الرجل، كل هذا من الأسباب الممهدة للأولاد لكي يكونوا على أحسن حال، وأحسن وجه يؤهلهم للقيام بدورهم في عبودية الله تعالى والدعوة إليه والقيام بشريعته على الوجه الذي أمر به سبحانه، وأرشدت إليه الرسل والأنبياء، وأرشد عليه خاتمهم رسولنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/1728)
الأسرة في الإسلام ـ الختان ـ
الأسرة والمجتمع
الأبناء
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ معنى الختان ومقداره. 2 ـ أول من اختتن إبراهيم. 3 ـ خصال الفطرة.
4 ـ حكم الختان. 5 ـ المقدار الذي يقطع في الختان. 6 ـ متى يسقط الختان.
7 ـ يبعث الناس يوم القيامة غرلاً. 8 ـ كثرة وفيات حوادث السيارات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فهذا حكم آخر نضيفه إلى ما تقدم من أحكام الأولاد في الإسلام، هو حكم ختان المولود، وأتكلم عليه في اثنتي عشرة نقطة:
أولاً: في معنى الختان واشتقاقه ومسمّاه.
ثانيًا: في ختان إبراهيم الخليل والأنبياء من بعده عليهم صلوات الله وسلامه.
ثالثًا: في مشروعية الختان وأنه من أصل الفطرة.
رابعًا: في اختلاف أهل العلم في وجوبه واستحبابه.
خامسًا: في وقت وجوبه.
سادسًا: في اختلاف أهل العلم في الختان يوم السابع من الولادة. هل هو مكروه أم لا. وحجة الفريقان.
سابعًا: في بيان حكمة الختان وفوائده.
ثامنًا: في القدر الذي يؤخذ في الختان.
تاسعًا: في بيان أنه يعُم الذكر والأنثى.
عاشرًا: في المسقطات لوجوبه.
حادي عشر: في ختان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والاختلاف فيه هل ولد مختونًا أم لا ومتى خُتن؟
ثاني عشر: في الحكمة التي من أجلها يُبعث الناس يوم القيامة غرلاً غير مختونين.
أولاً: في معنى الختان واشتقاقه ومسمّاه:
فالختان اسم فعل الخاتن، وهو مصدر كالنزال والقتال، ويسمى به موضع الختن أيضًا، ومنه الحديث الصحيح: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل)).
ويُسمى في حق الأنثى خفضًا. يقال: ختنت الغلام ختنًا وخفضت الجارية خفضًا, والجارية كما سبق وأن أشرنا: كلمة لا تطلق على الأمة فحسب، ولكن تُطلق على الأنثى بصفة عامة. وتُعرف إن كانت أمة أو حرة بالقرينة وأكثر ما تُستعمل على العموم للصغار لصغار الإناث. ويقال لغير المختون الأقلف، والقُلفه والغرلة: هي الجلدة التي تُقطع. فختان الرجل بأن تُقطع الجلدة التي فوق الحشفة من فرجه، وختان المرأة بأن يُقطع جزء من الجلدة التي هي كعرف الديك فوق فرجها. والمقصود أن الختان اسم للمحل الذي يبقى بعده قطع الجلدة من الرجل والمرأة، واسم للفعل أيضًا وقد يطلق الختان على الدعوة إلى وليمته، كما تطلق العقيقة على ذلك أيضًا.
وأما عن ختان إبراهيم الخليل عليه السلام والأنبياء من بعده، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم)) قال البخاري رحمه الله: والقدوم مخففة وهو اسم موضع، وقال غيره: إنه اسم للآلة.
فالختان كان من الخصال التي أمر الله بها إبراهيم خليله فأتمهن وأكملهن، فجعله إمامًا للناس. وقد رُوي أنه عليه السلام أول من اختتن ولكن الذي في الصحيح لا يفيد ذلك، فإن فيه: ((اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة)) أخرجه البخاري (3356)، ومسلم (2270).
ثم استمر الختان بعده في الرسل وأتباعهم حتى في المسيح، فإنه اختتن والنصارى تُقر بذلك ولا تجحده، كما تُقر بأنه حرّم لحم الخنزير وحرم كسب السبت, وصلى إلى الصخرة ولم يصم خمسين يومًا، وهو الصيام الذي يسمونه الصوم الكبير. لم يصمه عليه السلام، وفي جامع الترمذي وقال عنه حسن غريب ومُسند الإمام أحمد عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : أربع من سنن المرسلين: الحياء (وهذه الكلمة غلَّطها الإمام الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي وقال: بل هي الختان وليست الحياء ولا الحناء؛ لأن الحياء خلق والحناء ليست من السنن، ولا ذكرها رسول الله في خصال الفطرة بخلاف الختان، وقد روى المحاملي هذا الحديث عن الشيخ الذي رواه عنه الترمذي بعينه بلفظ الختان فوقعت النون في الهامش فذهبت واختلف في اللفظة فالصحيح الختان إذن: ((أربع من سنن المرسلين: الختان، التعطر، السواك، النكاح)).
وأما عن كون الختان مشروعًا وأنه من أصل الفطرة:
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط)).
فجعل الختان رأس خصال الفطرة وإنما كانت هذه الخصال من الفطرة؛ لأن الفطرة هي الحنيفية ملة إبراهيم، وهذه الخصال أمر بها إبراهيم عليه السلام، وهي من الكلمات التي ابتلاه ربه بهن كما ذكر عبد الرزّاق عن معمر عن أبي طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال في تفسير الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها إبراهيم خليله، قال: ابتلاه بالطهارة، خمسٌ في الرأس وخمس في الجسد. التي في الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء) انتهى كلام ابن عباس، والفطرة فطرتان: فطرة تتعلق بالقلب وهي معرفة الله ومحبته وإيثاره على ما سواه، وهذا مما فطر الله الناس عليه، لولا أن الناس بدلوا بعد ذلك فمنهم من هودّ أبناءه، ومنهم من نصرّهم، ومنهم من مجسّهم.
وفطرة عملية: وهي هذه الخصال.
فالأولى تزكي الروح وتطهر القلب، والثانية تطهر البدن، وكل منهما تُمد الأخرى وتقويها. وكان رأس فطرة البدن: الختان.
وأما عن اختلاف أهل العلم في وجوبه واستحبابه: فقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال الشعبي وربيعة، والأوزاعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، والشافعي، وأحمد: هو واجب، وشدّد مالك في ذلك حتى قال: "من لم يختتن لم تصح إمامته، ولم تُقبل شهادته".
وقال الحسن البصري وأبو حنيفة: "لا يجب بل هو سُنة"، وقال ابن أبي موسى من أصحاب أحمد: هو سنة مؤكدة، واحتج الموجبون بوجوه بلغت خمس عشرة وجهًا لا تتسع هذه الخطبة لبسطها كلها، فأذكر أول هذه الوجوه وأهمها، ثم أشير إلى خُلاصة بقيتها.
أما الوجه الأول الذي احتج به الموجبون على أن الختان واجب، فهو قوله تعالى في الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة النحل: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] والختان من ملته لما تقدم.
وخلاصة خمس وجوه أُخر أحاديثُ مرفوعات وموقوفات ومراسيل يشهد بعضها لبعض أن النبي أمر بالختان، والأمر للوجوب إذا لم تصرفه قرينة إلى أمور أخرى كالاستحباب والإباحة والإرشاد ونحو ذلك.
من المرفوعات: ما رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق ورواه أبو داود عن محمد بن مخلد عن عبد الرزاق ثم عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عثيم بن كليم عن أبيه عن جده أنه جاء إلى النبي فقال: قد أسلمت فقال: ((ألق عنك شعر الكفر)) أي احلق.
قال: وأخبرني آخر أن النبي قال لآخر: ((ألقِ عنك شعر الكفر واختتن)) ، ومن الموقوفات ما روى وكيع وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الأقلف ـ وهو غير المختون كما عرفنا ـ لا تُقبل له صلاة ولا تُؤكل ذبيحته.
ومن المراسيل قول الزهري قال رسول الله : ((من أسلم فليختتن وإن كان كبيرًا)).
فهذه خلاصة خمس وجوه احتج بها الموجبون، وخلاصة ثلاث وجوه أخر: أنهم قالوا: الختان من أظهر الشعائر التي يُفرق بها بين المسلم والنصراني وغير النصراني من الكفار عباد الصليب وعُبّاد النار وغيرهم.
ولهذا قال الخطابي في أحد الوجوه: إن الختان وإن كان قد ذُكر في جملة السنن، إلا أنه عند كثير من العلماء على الوجوب لأنه من شعار الدين، وبه يُفرق بين المسلم والكافر. وعدم الاختتان من شعار عُبّاد الصليب وعُبّاد النار، والختان من شعار الحنفاء، وقد عرفنا أن إمامهم إبراهيم عليه السلام قد اختتن، فقال: شعارًا للحينفية، وتوارثه عنه بنو إسماعيل، وبنو إسرائيل صلوات الله على أنبياءه جميعًا وسلامه.
فلا يجوز موافقة عباد الصليب القَلْف في شعار كفرهم. ورد القائلون بالاستحباب على هذه الأدلة بكلام لا يدفعها واستدلوا هم أيضًا بأدلة منها:
ما يروى عن ابن عباس موقوفًا بإسناد ضعيف: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء" وقد عرفتم أنه يروى بإسناد ضعيف موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فأدلة الموجبين أظهر وقولهم في المسألة هو الحق إن شاء الله وقدّر.
وأما عن وقت وجوبه فهو عند البلوغ:عند التكليف بالعبادة، فلا يجب قبل البلوغ، ولما كان الواجب يؤدي إلى أن تتم أمور من باب تمامه، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. لما كان ذلك كذلك. كان من الأفضل أن يتم الختان قبل البلوغ. فإن أمر النبي لأصحابه أن يعلموا أبناءهم وأن يأمروهم بالصلاة لسبع وأن يضربوهم عليها لعشر دال على أنه لم يكن يسوع لهم ترك ختانهم حتى يجاوزا البلوغ، والله أعلم.
وأما عن الاختلاف في الختان يوم السابع من الولادة هل هو مكروه أم لا؟ وحجة الفريقين فالحق أنه لم يرد نهي عن الختان يوم السابع من الولادة يشهد لكراهة من كره ذلك من بعض أهل العلم.
ولم يرد في استحبابه خبر يرجع إليه؟ فبقي الأمر على التخيير والإباحة، غير أنه إذا فعل في ذلك اليوم (يوم السابع) من الولادة كان أرفق بالصبيان وكان تحريًا لبعض الصحابة الذي ورد أنهم ختنوا أبناءهم في هذا اليوم. وإذا تُرك الأولاد حتى تتقدم سنهم شق ذلك عليهم، وهذا معروف ومُجرب.
وأما عن حكمة الختان وفوائده:
فالختان من محاسن الشرائع التي شرعها الله سبحانه لعباده. وكمّل به محاسنهم الظاهرة والباطنة وهو مكمل الفطرة التي فطرهم عليها سبحانه، ولهذا كان من تمام الحنيفية ملة إبراهيم.
ولهذا قال هشام ابن العاص رضي الله عنه في وقعة أجنادين التي جرت بين المسلمين والروم: يا معشر المسلمين، إن هؤلاء القلف لا صبر لهم على السيف (أي الروم) وذكر المسلمين بشعار دينهم وصليبهم القلف: عدم الختان. وجعله مما يوجب إقدام الحُنفاء عليهم وتطهير الأرض منهم.
والمقصود أن صبغة الله هي الحنيفية التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له، وصبغت الأبدان بخصال الفطرة من الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الآباط والمضمضة والسواك، ونحو ذلك من خصال الفطرة وظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم، هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتنزيه والتزيين وتحسين الخلقة، وتعديل الشهوة، التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوان، وإن عُدمت بالكلية ألحقته بالجمادات. هذا مع ما فيه أيضًا من بهاء الوجه وضياءه وفي تركه من الكسفة التي تُرى عليه.
وأما عن القدر الذي يؤخذ في الختان فتقدم أن ختان الرجل يكون بأن تٌقطع الجلدة التي تغطي الحشفة من فرجه، وأما في النساء فيقطع جزء منها ويبقى على جزء، لما رواه أبو داود عن أم عطية أن النبي أمر ختّانة تختن، وقال لها: ((إذا ختنتي فلا تنهكي فإنه أحظى للمرأة وأحب للبعل)) [1].
ففي هذا إشارة كافية إلى القدر الذي يؤخذ في الختان، والمرأة في حاجة إلى ما الرجل في حاجة إليه من فوائد الختان، وبهذا تأتي النقطة التاسعة، وهي أن الحكم يعم الذكر والأنثى؛ لأنه قد جاء في الحديث الصحيح عن النبي ((إذا التقى الختانان)) ولا يقال ختان للمرأة إذا إذا خُتنت فعلاً، وهذا يدل على أن النساء كُن يختتن، والمرأة في حاجة إلى ما الرجل في حاجة إليه من فوائد الختان.
والنقطة العاشرة في مسقطات وجوب الختان: متى يسقط؟
يسقط لأربعة أمور مختصرة من أمور كثيرة: أولاً: أن يولد الصبي لا قُلفة له فهو مستغنٍ عن الختان إذ لم يُخلق له ما يجب ختانه، وهذا متفق عليه بين العلماء.
ثانيًا: ضعف المولود عن احتماله بحيث يخاف عليه من الختان، ويستمر به الضعف كذلك، فهذا يُعذر في تركه، إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات.
ثالثًا: أن يسلم الرجل كبيرًا فيخاف على نفسه منه فيسقط عنه وهذا عند الجمهور وإن قال البعض بضرورة ختانه عملاً بما جاء من الأقوال والأحاديث المرفوعات والموقوفات والمراسيل، إلا أن الجمهور على أنه إذا خيف على نفسه من التلف إذا أسلم كبيرًا فإنه يسقط عنه.
رابعًا: الموت، فلا يجب ختان الميت باتفاق الأمة، وهل يُستحب ؟ الجمهور على أنه لا يستحب، حتى الاستحباب لا يذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو قول الأئمة الأربعة أنه لا يستحب ختان من مات من المسلمين ولم يكن قد اختتن. وذهب بعض الأئمة المتأخرين إلى أنه يُستحب وقاسوا على إزالة شارب الميت إذا كان شاربه طويلاً، ولم يكن قد قصّه قبل وفاته، قاسوا على إزالة شاربه وحلق عانته وتقليم أظافره ونتف إبطه قاسوا الختان على هذه الأمور، وهذا مخالف لما عليه عمل الأمة، فهو قياس فاسد لأنه إزالة الشارب وحلق العانة تقليم الأظافر ونتف الإبط لتكميل الطهارة وإزالة: وسخه ودرنه، وأما الختان فهو قطع عضو من أعضاءه، والمعنى الذي شُرع لأجله في الدنيا قد زال بالموت، فلا مصلحة في ختانه، والله أعلم.
وأما ما جاء في ختان نبينا محمد والاختلاف في ذلك، هل ولد مختونًا أم لا؟ ومتى ختن؟
فالأحاديث التي وردت في أنه ولد مختونًا ضعيفة لا تصح، وتكلم العلماء فيها كلامًا وافيًا، وليس في ولادته عليه الصلاة والسلام مختونًا فضيلة أو خاصية يختص بها عليه الصلاة والسلام؛ إذ قد وجد من الناس من ولد مختونًا، ولو كان فضيلة أو خاصية لما شاركه فيها أحد ثم إن الختان ابتلاء وقد ابتلي به إبراهيم، وهو لرفع الدرجات ودرجته أعلى من درجات الأنبياء جميعًا فلا يخص عليه الصلاة والسلام من هذا البلاء لأنه من قبيل رفع درجاته.
وقال بعض أهل العلم قد ورد في بعض الروايات على ما فيها من ضعف أو كلام أو مقال أن عبد المطلب جد النبي ختنه في يوم سابعه وصنع له مأدبة ودعا إليها الناس وسماه محمدًا.
ثم قال هؤلاء العلماء: وهذا أشبه بالصواب وأقرب إلى الواقع والله أعلم.
ثم النقطة الأخيرة أيها الأخوة الكرام في الحكمة التي لأجلها يبعث الناس يوم القيامة غرلاً غير مختونين، فقد وعد الله تبارك وتعالى ـ وهو صادق الوعد ـ الذي لا يخلف وعده إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُخْلِفُ ?لْمِيعَادَ [آل عمران: 9] وعد أنه يعيد الخلق كما بدأهم أول مرة، ومن صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأه عليها كما قال في الآية الرابعة بعد المائة من سورة الأنبياء: يَوْمَ نَطْوِى ?لسَّمَاء كَطَىّ ?لسّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَـ?عِلِينَ [الأنبياء: 104] وقال في الآية الثلاثين من سورة الأعراف: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأنعام: 29].
وأيضًا: فإن القلفة لا حاجة إليها في الجنة؛ لأن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون، فليست هناك نجاسة يُصب الغُرلة فيلزم التحرز منها، وليست القلفة مما يعوق لذة الجماع ويمنعه، ثم إن هذا كله إن قُدّر استمر الخلق على ما يبعثون عليه بعد خروجهم من قبورهم فإنه من المعروف أنه تغير أحوالهم وتمد في خلقهم ويزاد في خلق أهل الجنة وخلق أهل النار في الصحيحين وغير الصحيحين، يُمد في الخلق ويزاد فيه لتكمل متعة أهل الجنة بالنعيم مع ضخامة أجسامهم بخلاف ما هم عليه عندما ماتوا فيبعثون على خلق أبيهم آدم (على طوله) على ثلاثة وستين ذراعًا وغير ذلك من الأوصاف، وأنهم يحشرون على صورة القمر، أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر، ومن بعدهم وجوههم على صورة أضوأ كوكب دري في السماء, أهل النار يزاد في خلقهم كذلك حتى يصير الضرس كالجبل ليزداد إحساسهم بالعذاب إذا جحدوا وكفروا وفسقوا ولم يستجيبوا للفطرة التي فطرهم الله عليها، فإنَّ الناس يحشرون حفاة عراة، وبعد ذلك يكسون ويزاد ويمد في خلقهم فمن الجائز أيضًا أن تزال الغرلة والقلفة بعد ذلك ومن الممكن أن تستمر وتدوم، وليس هناك خبر يُعلم يجب المصير إليه في هذه المسألة والله سبحانه وتعالى، أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] رواه أبو داود
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحتاج إلى أن أنبه إخواني أهل السنة الذين هم حريصون على سماع الحق والعمل به إلى ضرورة الاحتراز مما يبتدع في النصف من شعبان من الصلوات التي ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم، فإن في الحديث الذي جاء فيه نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان على القول بتحسينه عند بعض العلماء لا يبرر هذه العبادات التي ليس عليها دليل يرجع إليه ويُستند إليه، فمدار العبادات أيها الأخوة الكرام على الاتباع وليس على الابتداع.
ثم أحب أن أنبه أيضًا إلى أن الإحصاءات في الوفيات قد أفادت أن خمسة وثمانين بالمائة ممن يتوفون، يموتون بسبب حوادث السيارات في هذا البلد، وخمسة عشر بالمائة منهم يموتون بأسباب أخرى، فأوجه إخواني إلى أن يراعوا القواعد المرعية في قيادة السيارات وألا يلقوا بأنفسهم في المهالك إلقاءً ، وأن يراعوا أن أحوال هذه الآلات لا تنضبط ولا تضمن، فالأولى بهم أن يحافظوا على أنفسهم وأن يسيروا على القدر الذي يسمح لهم بتدارك الأمور إن حدث خلل. نسأل الله أن يُسلم الجميع من الشرور والبلايا، ونسأل الله تعالى لنا ولكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأمننا في أوطاننا ودورنا، وانصر اللهم المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في أفغانستان وفلسطين وفي كل مكان يجاهد فيه في سبيلك يا رب العالمين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، وعليك بمن عادانا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أحتاج إلى أن أنبه إخواني أهل السنة الذين هم حريصون على سماع الحق والعمل به إلى ضرورة الاحتراز مما يبتدع في النصف من شعبان من الصلوات التي ليس عليها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم، فإن في الحديث الذي جاء فيه نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان على القول بتحسينه عند بعض العلماء لا يبرر هذه العبادات التي ليس عليها دليل يرجع إليه ويُستند إليه، فمدار العبادات أيها الأخوة الكرام على الاتباع وليس على الابتداع.
ثم أحب أن أنبه أيضًا إلى أن الإحصاءات في الوفيات قد أفادت أن خمسة وثمانين بالمائة ممن يتوفون، يموتون بسبب حوادث السيارات في هذا البلد، وخمسة عشر بالمائة منهم يموتون بأسباب أخرى، فأوجه إخواني إلى أن يراعوا القواعد المرعية في قيادة السيارات وألا يلقوا بأنفسهم في المهالك إلقاءً ، وأن يراعوا أن أحوال هذه الآلات لا تنضبط ولا تضمن، فالأولى بهم أن يحافظوا على أنفسهم وأن يسيروا على القدر الذي يسمح لهم بتدارك الأمور إن حدث خلل. نسأل الله أن يُسلم الجميع من الشرور والبلايا، ونسأل الله تعالى لنا ولكم حيثما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1729)
الأسرة في الإسلام ـ تربية الأولاد ـ
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ينشأ الطفل على ما رباه أبوه عليه. 2 ـ أمور ينبغي أن يتنبه لها الوالدان في تربيتهما
للأبناء. 3 ـ عامة فساد الأبناء بسبب الآباء. 4 ـ إبعاد الأبناء عن الخنوثة. 5 ـ مراعاة
رغبات الأبناء ومصالحهم. 6 ـ تربية الأبناء واجب شرعي ومسئولية أمام الله.
7 ـ العدل بين الأبناء في العطية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
فهذا آخر ما أتكلم عليه من الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، ألا وهو حكم تربيتهم وتأديبهم وتعليمهم والعدل بينهم؛ لأنهي هذه السلسلة من الخطب، والذي كان موضوعها الأسرة في الإسلام.
أما عن تربية الأطفال فإن مما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره من حرص وغضب ولجاج وعجلة وخفة مع هواه وطيش وحِدهَ وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يومًا ما، ولذلك تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشؤوا عليها ولقنهم أثناءها المربي ما لا يجوز تلقينه ولا تعليمه من الأخلاق والعادات الرذيلة، وكذلك يجب أن يُجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء فإنه إذا علق بسمعه عَسُر عليه مفارقته في الكبر، وعزَّ على وليه استنقاذه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور [التي] يحتاج صاحبها لإستجداد طبيعة ثانية والخروج عن حكم الطبيعة عسير جدًا، وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب، فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي، وعوده البذل والإعطاء، وإذا أراده أن يعطي شيئًا فليعطه إياه على يده، وليأمره بأن يتولى هو بنفسه إعطاءه لغيره ليذوق حلاوة الإعطاء. على ولي الطفل أن يعطيه الشيء ويقول: يا بني أعطي هذا لفلان ليذوق الولد الصغير حلاوة الإعطاء، وليعتاد على ذلك.
وعلى وليه أن يجنبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السُم الناقع، فمتى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحرمه كل خير، هذا أمر في غاية الأهمية، ما ينشأ الطفل الصغير على الكذب والخيانة إلا بعد أن يرى أحد أبويه يفعله ويأتيه، يكذب إما على أقاربه أو ضيفانه أو يكذب أحدهما على الآخر، والولد يراقب ذلك فيعتاده، وينشأ على أن هذا الأسلوب مُنج ومُفلت من العقاب ومن الحرج، ينبغي على ولي الطفل أن يجنبه ذلك أعظم من حرصه على تجنيبه السُم الناقع الذي يهلكه ويميته.
ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها ولا يريحه، إلا بما يجم نفسه وبدنه للشغل فإن للكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة ندم وللجد والتعب عواقب حميدة إما في الدنيا وإما في العقبى وإما فيهما فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس، والسيادة في الدنيا والسعادة في العُقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب، قال يحيى بن أبي كثير رحمه الله: لا يُنال العلم براحة الجسم.
وقال الشافعي رحمه الله في أبيات نُسبت إليه وفي شطر منها مخاطبًا طالب العلم، يقول:
"وتنام الليلَ وأسهرُ وتبغي لحاقي"
أنت تنام الليل وأسهرٌ طالبًا له وتبغي لحاقي هيهات.
وعلى ولي الأمر أن يعود صبيه الانتباه آخر الليل، فإنّه وقت قسم الغنائم وتفريق الجوائز من الله عز وجل على خلقه فمستقل ومستكثر ومحروم. فمن الناس من يكون نصيبه قليلاً إذا استيقظ شيئًا قليلاً من آخر الليل، ومنهم من يكون نصيبه كبيرًا إذا استيقظ قبل نهاية الليل بوقت أطول، ومنهم من هو محروم ذلك الذي لا يستيقظ البتة.
فمتى اعتاد الصبي ذلك صغيرًا سهل عليه ذلك كبيرًا. ولم يشكو في كبره الحرمان من قيام الليل والانتباه آخر هذه الأوقات، وينبغي على ولي الصبي أن يجنبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام يجنبه الفضول من هذه الأمور ما لا حاجة إليه من الطعام والمنام والطعام ومخالطة الأنام التي لا حاجة إليه منها. يعود الولي ابنه على أن يتجنبها فإن الخسارة في هذه الفضلات، وهي تفوت على العبد خير دنياه وآخره، وينبغي عليه أن يجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب. فإن تمكينه من أسبابها والفتح له فيها يفسده فسادًا يعز عليه بعدها صلاحه، وكم من والد أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهوته، وبزعم أنه يُكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة.
وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من الآباء، يجيبون أولادهم إلى كل ما يطلبون، ويمكنونهم الأموال الطائلة ومن العكوف على الشهوات مادام فيها سعادتهم، وهذا من أعظم الأخطاء في التربية، بل ينبغي أن يُعود الولي ابنه على ألا يجيبه أحيانًا إلى ما يطلب وأن يمنعه أحيانًا مما يطلب فإن ذلك في صالحه.
والحذر كل الحذر من تمكينه مما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يُخشى فساده أو كلامه له أو الأخذ منه ينبغي عليه أن يجنبه ذلك، وأن يحرص على متابعته حتى لا يتعود هذه الأمور فتفسده، بل وتهلكه، وينبغي عليه أن يجنبه من يخشى فساده أو كلامه له، يكون ذا كلام سيئ، أو الأخذ منه فإن ذلك الهلاك كله.
فمتى سهل على الصبي ذلك فقد سهلت عليه الدياثة، ولا يدخل الجنة ديوث.
فما أفسد الأبناء مثل تفريط الآباء واهمالهم واستسهالهم شرر النار بين الثياب، فأكثر الآباء يعتمدون مع أبناءهم أعظم ما يعتمده العدو الشديد العداوة مع عدوه وهم لا يشعرون، فكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة وعرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حرموا أنفسهم الانتفاع بأولادهم وحرموا أولادهم خيرهم ونفعهم لهم، وهذا من عقوبة الآباء حتى إنهم ليحكون أن بعض الأبناء قال لأبيه لما عاتبه أبوه بسبب عقوقه له. قال: يا أبت عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وليس في ذلك دعوة إلى مبادلة سوء تربية الآباء بالعقوق في الكبر فمهما كان من الوالدين فإنهما يُبران ويطاعان إلا في معصية الله عز وجل، وهذا أمر إنما هو نتيجة لسوء تربيتهم لهم. حرمهم الانتفاع بأولادهم في الكبر وحرم أولادهم خيرهم ونفعهم لهم.
وينبغي لولي الأمر أن يجنب الولد دون البنت لبس الحرير والذهب؛ فإنه مفسد له ومخنث لطبيعته كما يخنثه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب.
وقد قال : ((حُرم الحرير والذهب على ذكور أمُتي وأُحل لإناثهم)).
والصبي وإن لم يكن مكلفًا فوليه مكلف، لا يحل له تمكينه من المحرم فإنه يعتاده ويعسر فطامه عنه، وهذا أصح قولي العلماء، منع الأطفال (الذكور) من لبس الحرير والذهب، هذا أصح قولهم.
ومما ينبغي أن يعتمده الولي في تربية ابنه حال الصبا وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره مادام مأذونًا فيه شرعًا، فإنه إن حُمل على غير ما هو مُستعد له لم يفلح فيه وفاته ما هو مهيأ له. ومعنى ذلك ببساطه: أن على الولي أن يلاحظ ابنه وما هو نابغ فيه متطلع إليه، فلا يحمله إلى غيره مادام هذا الذي تطلع إليه الصبي ليس حرامًا شرعًا، فإن الولي إذا حمل ابنه على غير ما هو مستعد له لم يُفلح فيه، لأنه مخلوق لهذا الأمر الذي تطلع إليه ونبغ فيه مثلاً كأن يكون مهيأ لدراسة العلم الشرعي فيُجبر على أن يطلب علم الكيمياء والرياضيات والعلوم مثلاً، فلا يُفلح في ذلك لأنه أبدى استعدادًا لحفظ القرآن والحديث وعنده ذاكرة وحافظة جيدة، لكنه لما أجبر على ما هو غير مستعد له لم يُفلح فيه، أو أن يجبر ولده على تعلم الرياضيات وهو متفوق في العلوم ونحو ذلك وهَلم جرا.
فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعيًا فهذه من علامات قبوله وتهيؤه للعلم فلينقشه إذن في لوح قلبه ما دام خاليًا، فإنه يتمكن منه ويستقر ويزكو معه.
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يُخلق له، فليمكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه مفتحة لصنعة من الصنائع مستعدًا لها وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها.
هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاجه في دينه؛ فإن ذلك ميسر على كل أحد، لتقوم حجة الله على العبد فإن له على عباده الحجة البالغة، كما له عليهم النعمة السابغة. والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعد:
فإنه ينبغي تأديب الأولاد وتعليمهم لقوله تعالى في سورة التحريم:
يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: 6]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "علموهم وأدبوهم"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "مروهم بطاعة الله وعلموهم الخير".
وفي المسند وسنن أبي داود من حديث عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربهم عليها، لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) ، ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمرهم بالصلاة وضربهم عليها، والتفريق بينهم في المضاجع.
وفي معجم الطبراني عن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين)).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدّب ابنك فإنك مسؤول عنه، ماذا أدّبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطواعيته لك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن البصري رحمه الله وسأله كثير ابن زياد عن تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
فقال يا أبا سعيد: أفي الدنيا أم في الآخرة؟ هذا المسؤول في الآية ربنا هب لنا يكون في الدنيا أم في الآخرة؟ قال الحسن: "لا والله بل في الدنيا أن يُري العبد من زوجته من أخيه من حميمه طاعة الله" لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولدًا أو والدًا أو حميمًا أو أخًا مطيعًا لله عز وجل!!.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه)) ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته، وحسبكم بذلك تنبيهًا وإيقاظًا وإرشادًا إلى ما أنتم بصدده من سؤال الله عز وجل عما استرعاكم إياه.
ومن حقوق الأولاد العدل بينهم في العطاء والمنع، ففي السنن والمسند وصحيح ابن حبان من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم)).
وفي الصحيح من حديث النعمان بن بشير أيضًا رضي الله عنهما أن أباه أتى به النبي , (بشير بن سعد أتى بابنه النعمان النبي ) فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي ـ نحلته أي أعطيته ومنحته ـ غلامًا أي عبدًا ليكون ملكًا له. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)) (أعطيت كل واحد من أولادك غلامًا كما أعطيت النعمان). قال: لا. فقال: ((أرجعه)). وفي رواية لمسلم ((فعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا. قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال النعمان بن بشير: فرجع أبي في تلك الصدقة.
وفي الصحيح أنه قال لبشير أيضًا ـ في رواية أخرى ـ : ((أشهد على هذا غيري)) وهذا أمر تهديد لا للإباحة. النبي يهدد لا يبيح له أن يُمضي هذه العطية ولكن بشهادة غيره، فإن تلك العطية كانت جورًا بنص الحديث في روايات أخرى، قال عليه الصلاة والسلام: ((هذا جَور)) كانت جورًا بنص الحديث، والرسول لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الظلم، ومن ذا الذي كان يشهد على عطية أبى رسول الله أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جورًا، وأنها خلاف العدل.
وإلى هذا الحد أصِل إلى آخر ما أمكنني أن أذكره حول موضوع الأسرة في الإسلام زوجًا وزوجة وأولادًا. سائلاً ربي عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1730)
الأسرة في الإسلام ـ تسمية المولود ـ
الأسرة والمجتمع
الأبناء
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ تسمية المولود ومتى تكون.
2 ـ حسن اختيار الاسم للمولود.
3 ـ الأسماء المستحبة والأسماء المحرمة.
4 ـ الأسماء المكروهة. 5 ـ التفاؤل والتشاؤم بالأسماء.
6 ـ تكنية المولود. 7 ـ في يوم القيام ينادى الناس بأسمائهم وأسماء آبائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أمّا بعد:
فقد مرّ بنا في الخطب الماضية بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، وذلك في إطار خطب عن الأسر المسلمة، وأستكمل اليوم شيئًا مما بقى من هذه الأحكام، فأتكلم إن شاء الله عن حكم تسمية المولود في الإسلام.
وهذا الباب ينقسم الكلام فيه على خمسة أمور اختصارًا لأمور كثيرة تكلم عليها العلماء وأفاضوا فيها، فاختصرتها في هذه الأمور الخمس:
أولها: وقت التسمية، فمتى يسمى المولود؟ وجاء في ذلك أحاديث ما يقتضي جواز تسميته يوم ولادته وبعد ثلاثة أيام، ويوم سابعه يوم العقيقة عنه.
أما ما جاء في جواز تسميته يوم ولادته ففي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه، وقد تقدم الحديث في الجمعة الماضية قال: "ولد لي مولود فأتيت به النبي فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة".
وكما أن التحنيك لا يكون إلا بعد الولادة مباشرة وقبل أن يصل إلى جوف المولد شيء، فذكر التسمية معه يفيد حصول ذلك يوم ولادته.
وفي صحيح مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم عليه السلام)).
وأما ما جاء في تسميته بعد ثلاثة أيام فقد أجاب الإمام أحمد رحمه الله وأفاد بأن ثابتًا روى عن أنس أنه يُسمى بعد ثلاثة أيام وأمّا ما جاء في تسميته يوم سابعه فقد مرّ بنا حديث سمره ابن جندب، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يعق عن المولود ويسمى ويحلق رأسه يوم سابعه)).
وقد جمع ابن القيم رحمه الله بين هذه الأخبار فقال: "إن التسمية لما كانت حقيقتها تعريف الشيء المسمى لأنه إذا وجد وهو مجهول الاسم لم يكن له ما يقع تعريفه به، جاز تعريفه يوم وجوده،وجاز تأخير التعريف إلى ثلاثة أيام، وجاز إلى يوم العقيقة عنه، ويجوز قبل ذلك وبعده والأمر فيه واسع. والحاصل أن هذا المولود الذي ولد لا بد أن يعرف باسم خاص به فيمكن بناءًا على ذلك أن يُعرف في يوم وجوده، يقال هذا فلان، ومن الممكن أن يؤخر إلى ثلاثة أيام عملاً بحديث أنس أو إلى سبعة أيام عملاً بحديث سمرة، والأمر في ذلك كما قال رحمه الله.
والأمر الثاني من الأمور التي يتكلم من خلالها عن التسمية:
بيان ما يستحب من الأسماء وما يحرم منها وما يُكره، وهذا باب عظيم يحتاج من المسلمين إلى أن يعتنوا به غاية العناية، فقد شاع في المسلمين مما يحرم من الأسماء الكثير والكثير، ولا ينتبهون إلى ما جاء عن الرسول في هذا الباب.
فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم)).
فينبغي على الوالد أن يُحسن اختيار أسماء أولاده لأنهم يدعون بها يوم القيامة، ويدعون بأسماء آبائهم ومن ثم لا ينبغي أن يُدعى يوم القيامة باسم محرم أو قبيح سُمي به في الدنيا.
وأمّا فيما يتعلق بالمستحب من الأسماء:
فكل ما أضيف إلى الله عز وجل وعُبِّد لله عز وجل أو سُمِّى بأسماء الأنبياء فإنه حسن، اتفق العلماء على استحسان تلك الأسماء: كعبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك، وكأسماء الأنبياء كمحمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ونحوهم من أسماء الأنبياء صلوات الله عليهم.
وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) ، وقال في حديث أبي وهب الحشمي قال عليه الصلاة والسلام: ((تسموا بأسماء الأنبياء)). فكل ما أضيف إلى الله تعالى أو رُوِعي فيه أن يكون موافقًا لاسم نبي فهو حسن.
وأما ما يحرم من الأسماء: فيحرم كل ما عُبِّد لغير الله تبارك وتعالى، كعبد العزى وعبد الكعبة وعبد عمرو وعبد هبل ويدخل فيها طبعًا قياسًا عليها ما لم يكن معروفًا سابقًا وعرف بعد انقضاء قرون الخير الثلاثة الأولى، كعبد الرسول وعبد النبي وعبد الحسين، وغير ذلك من الأسماء التي تُعبّد لغير الله عز وجل.
ويدخل في الأسماء المحرمة ما يُسمى: بملك الملوك أو سلطان السلاطين أو شاه شاه، بل يحرم تسمية أحد بهذا الاسم أن يكون اسمه المعروف به ملك الملوك أو سلطان السلاطين أو شاه شاه.
لما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ أخنع اسم (وفي رواية: أخنى وأضع بمعنى أوضع وأحط) إن أضع اسم عند الله تبارك وتعالى رجل تسمى ملك الملوك، وفي رواية لمسلم (لا ملك إلا الله).
وفيما يدخل في التحريم كذلك أن يُسمى أحد: سيّد الناس أو سيّد الكل. قياسًا على سيد ولد آدم؛ فإنها لا تحل إلا لرسول الله ، هذه التسمية سيد ولد آدم خاصة به عليه الصلاة والسلام فيُمنع منها كل أحد. أما أن يقال له ذلك من باب الإطراء أو المدح أو المداعبة من غير أن يُسمى بذلك، فيقال له يا سيد الكل مثلاً أو يا سيد الناس كأن يقول الرجل لابنه ذلك مداعبة أو لابنته يا سيدة الكل أو نحو ذلك، فإن ذلك لا يدخل في التحريم ويمنع أن يطلق هذا الاسم عليه، وأن امتُنع من إطلاق الاسم أو حتى المداعبة بمثل هذه الألفاظ، فرارًا من الدخول في التحريم لكان أحسن وأوجه.
وأما ما يكره فيمكن حصره تحت سبعة أنواع من الأسماء المكروهة:
أولها: ما جاء النص به عن رسول الله ويقاس على ما جاء به النص أسماء أُخر:
فقد روى مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تُسمين ولدك يسارًا ولا رباحًا ولا نجاحًا ولا أفلح؛ فإنك تقول: أثم هو؟ فلا يكون، فيقال: لا)) إذن فالعلة في ذلك أن القلوب تشمئز عندما يسأل أحدنا عمن يسمى بيسار أو رباح أو نجاح أو أفلح، فيرد عليك أحدهم مجيبًا لا، فتتشاءم أو تتطير أو تشمئز من الإجابة، بل ويقع في نفسك عدم وجود اليسار أو الفلاح أو النجاح أو نحو ذلك، فلذلك كره ذلك ولم يحرم بسبب ما قد يوقعه في القلوب من الاشمئزاز والتطير، وتدخل في باب المنطق المكروه، ولا أريد بكلمة المنطق إذا رددتها في هذه الخطبة المنطق المعروف الذي هو قسيم الفلسفة وهذه العلوم، إنما أريد المنطق أي النطق، فهذه تدخل في ضمن المنطق المكروه ويقاس عليها: سرور وخير ونعمة ومبارك ومفلح، كما قال العلماء من باب اشمئزاز القلوب وتطيرها إذا سُئل عن هذه الأسماء فأجيب بعدم وجودها.
ويكره أيضًا التسمية بالأسماء التي فيها تزكية للنفوس أن يسمى الولد أو البنت باسم فيه تزكية لصاحبه كما جاء في صحيح البخاري وأبي داود عن أبي هريرة أن زينب كان اسمها (بَرّة) من البر فغيره النبي إلى زينب وقال في رواية أبي داود ((لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم)).
ثم ننتقل إلى النوع الثاني من أنواع الأسماء المكروهة وهو التسمية بأسماء الشياطين، وورد في ذلك أسماء في السن كشيطان الصلاة وشيطان الوضوء والماء ونحو ذلك.
ورد تسمية شيطان الصلاة خنزب، والولهان شيطان الوضوء، والأجزع والأعور هذه أسماء شياطين يكره ما اسمك؟ قال: مسروق ابن الأجدع. فقال له عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: ((الأجدع شيطان)).
والنوع الثالث من أنواع الأسماء المكروهة:
يكره أن يسمى الولد بأسماء الفراعنة والجبابرة، كفرعون وهامان وقارون؛ لأنها أسماء أناس عذبهم الله تبارك وتعالى ونتظرهم من العذاب يوم القيامة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقًا على عتوهم وكفرهم.
وتكره التسمية أيضًا بأسماء الملائكة كجبريل وميكائيل وإسرائيل، وقد أورد البخاري في تاريخه حديثًا فيه: ((ولا تسموا بالملائكة)) [أخرجه البخاري في التاريخ الكبير 5/35، والبيهقي في شعب الإيمان 6/394، وقال البخاري في إسناده نظره، وقال الألباني في ضعيف الجامع (3283): ضعيف جدًا] وقال: لا يصح هذا الحديث بغير هذا الإسناد، يعني الصحيح فيه إسناده الذي عنده في التاريخ ولا يصح إسناده بغير هذا الإسناد.
كما أن تسمية الأولاد بهذه الأسماء قد تعرض هذه الأسماء للامتهان، فيُلعن الولد أو يشتم بهذا الاسم اسم الملك الذي تسمى به، ولا يُحترم فمن هنا كُره وإلا فإن احترم فقد خرج من هذه الكراهة، ثم إن من أنواع الأسماء المكروهة أيضًا الأسماء التي لها معان تكرها النفوس ولا تلائمها، وهذا النوع أطيل فيه الكلام شيئًا ما، أكثر من الأنواع السابقة لأنه ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يشتد عليه الاسم القبيح ويكرهه جدًا من الأشخاص والأماكن والقبائل والجبال.
وهذه الأسماء كحرب ومُرة وكلب وحية ونحو ذلك.
وقد مَرّ عليه الصلاة والسلم في مسير له بين جبلين فقيل له: أحدهما اسم فاضح والآخر اسمه مُخزِ فعدل عليه الصلاة والسلم عن المسير بينهما.
ولا يتصورن أحد أن هذا يدخل في باب التشاؤم، إنما يدخل في اختيار الأسماء الطيبة والتفاؤل بها، فإنه لما لم تكن هذه الأسماء طيبة فعُدل عنها للمسير في طريق يحمل اسمًا طيبًا، وهذا أمر فيه وجاهه لمن تأمله، فكان عليه الصلاة والسلام يكره هذه الأسماء القبيحة، وتشتد عليه جدًا.
وقد أورد مالك في موطئه أثرًا أن النبي أمر بشاة أن تُحلب فقام رجل يريد أن يحلبها فقال له عليه الصلاة والسلام: ((ما اسمك؟)) فقال:مُرّة، قال: ((اجلس))، فقام آخر: فقال: ((ما اسمك؟)) قال: حرب، قال: ((اجلس))، فقام ثالث: فقال: ((ما اسمك؟)) قال: يعيش. قال: ((احلبها)).
فكان عليه الصلاة والسلام يحب الأسماء التي فيها الخير، ويشتد عليه جدًا الأسماء القبيحة، ومن تأمل ذلك وجده كثيرًا في حال النبي ؛ فإنه قال عن بعض القبائل: ((أسلم ـ قبيلة أسلم ـ سلّمها الله، وغِفار غفر الله لها، وعُصيّة عصت الله ورسوله))، وقال يوم صلح الحديبية لما تقدم سهيل ابن عمر وليتولى الصلح مع النبي ، قال عليه الصلاة والسلام: سهل أمركم، وقال لبريدة ابن الحصين الأسلمي لما قدم عليه مُسلمًا: ما اسمك؟ قال: بريدة. قال: يا أبا بكر برُد أمرنا. ثم قال له ممن؟ قال: من أسلم. قال له: يا أبا بكر سلمنا. قال له ممن أيضًا من أسلم؟ قال: من أسلم، قال: من سهم. قال عليه الصلاة والسلام: ((خرج سهمك)) وهذا كثير لمن تأمله في السنة وجده جليًا وواضحًا، ومن أراد أن يعرف تأثير الأسماء في مسمياتها، للاسم تأثير في مُسماه، فإن سَمّيت ولدك باسم قبيح كان له تأثير في شخصه.
ويدل على ذلك ما رواه البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب في صحيحه: سعيد بن المسيب بن حَزن، أن جده حَزنا أتى إلى النبي فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما اسمك؟)) فقال: حَزن، فقال: ((بل أنت سهل)) نغير اسمك من حَزن إلى سهل. فقال حَزن: لا أُغير اسمًا سمّانيه أبي. قال سعيد حفيده: فما زالت تلك الحزونة فينا بعد. الحزونة ورثناها عن جدنا الذي رفض أن يُغير اسمه من حزن إلى سهل. الحزونة يعني الغلظة. فما زالت تلك الحزونة نجدها في أنفسنا، وهذا من تأثير الأسماء في مسمياتها.
وقد روى مالك في موطئه عن يحيى ابن سعيد ورواه الشعبي أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل: ما اسمك؟ فقال له: جمرة. فقال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار. قال: بأيتها؟ قال: بذات لظى. قال عمر رضي الله عنه: أدرك أهلك فقد هلكوا واحترقوا. وكان الأمر كما قال عمر رضي الله عنه.
وهنا يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد استشكل هذا من لم يفهمه، كيف يعيش هذا الرجل فترة من زمانه واسمه لم يتغير ولم يتسم به لحظة قال عمر هذا الكلام. اسمه جمرة بن شهاب من الحرقة يسكن في حرة النار بذات لظى. كيف يحصل ذلك له عندما سأله عمر عن اسمه؟! قال: وليس بحمد الله مشكلاً (ابن القيم يقول هذا).
وليس بحمد الله مشكلاً فإن الوجه موجبًا له، وأخّر اقتضاءها لأثرها إلى أن تكلم به من ضُرِبَ الحق على لسانه، وكان الملك ينطق على لسانه، وهو عمر رضي الله عنه، أخر سبحانه اقتضاء هذه المناسبات (التسمية بهذه الأسماء القبيحة)، أخر اقتضاءها لأثرها، إلى أن سأل عمر فأجيب فتكلم بما تكلم به عمر رضي الله عنه؛ لأن الله ضرب الحق على لسانه، وكان الملك ينطق على لسانه، كما جاء ذلك عنه ومن مناقبه، فحين اجتمعت رتب سبحانه عليها الأثر، ومن كان له في هذا الباب فقه نفس انتفع به غاية الانتفاع؛ لأن البلاء موكل بالقول. إذا قلت قد يقع البلاء موكلاً ومرتبًا على قولك أنت، فحفظ المنطق وتخير الأسماء من توفيق الله للعبد، وقد أخرج ابن عبد البر هذا كله في استذكاره، وروى عن النبي قوله: ((البلاء موكل بالقول)) ولهذا كان أبو بكر يتأمل كثيرًا ويتمثل كثيرًا بالبيت الذي يقول
احذر لسانك أن تقول فتُبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
ومن هنا نسمع كثيرًا من الناس يقول أحدهم: أشعر بأن هذه السنة لن تمر بخير عليّ، لن تمر هذه السنة وأنا بخير أبدًا، أو يقول مثلاً:أشعر أنني سأبتلى ببلاء عظيم، ومصيبة تقصم فقار ظهري، وأشعر أن هذا الولد سيكون فاسقًا فاسدًا عاتيًا مجرمًا، وأشعر أن هذه البنت لن يكون فيها خير ونحو هذا من الكلام. وإن البلاء متوقف على مثل هذه الأقوال، إن قيلت وقع بسببها البلاء، وله بذلك اتصال وتعلق، ومن البلاء الحاصل بالقول قول الشيخ البائس ـ نضرب مثلاً بوقوع البلاء على القول وترتبه عليه ـ ومنه قول الشيخ البائس الذي عاده النبي فقال له النبي والرجل مريض: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) ـ وقد كان مصابًا بالحمى ـ فقال له الرجل: بل حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال له النبي : ((فنعم إذن)).
أنت وشأنك، وأنت وما تراه. أنا أقول لك لا بأس طهور إن شاء الله، وأنت تقول حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فأنت وما تراه.
والحاصل أن هذا أمر ينبغي أن يهتم به الناس وأن يلتفت إليه وأن يعتنوا به غاية العناية، فإنه مهم، ومن كان له فقه نفس كما قال ابن القيم رحمه الله انتفع به غاية الانتفاع. وإنه ليقول: "وإنا لرأينا من ذلك عبرًا فينا وفي غيرنا، والذي رأيناه قطرة في بحر، أن يقول الإنسان كلامًا فيُبتلى بسبب كلامه ويكون البلاء مناسبًا لما قاله من الكلام السيء، ومن الكلام القبيح، الذي تكلم به عن نفسه أو توقعاته لنفسه، فلا ينبغي أن يقول المرء إلا خيرًا عملاً بقول رسول الله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
والنوع السادس الذي يدخل في أنواع الأسماء المكروهة:
التسمية بأسماء الرب تبارك وتعالى: الأحد والصمد؛ فإن هذا لا ينبغي إلا لله تبارك وتعالى، وأما الإخبار عن الإنسان بأنه سميع أو بصير أو رؤوف رحيم، وهي من أسماء الله عز وجل فهذا ليس مكروهًا. أن تقول: أن فلان سميع، أو أنه رؤوف بالناس رحيم بهم، أو أنه بصير بحاله وحال من معه.
أما أن يسمى بها فيقال له: يا سميع يا بصير يا رؤوف تعال. يا رحيم اذهب، فهذا مكروه لنفس الأمر الذي تكلمنا عليه في التسمية بأسماء الملائكة، وهو تعريض هذه الأسماء للامتهان ونحو ذلك.
وتكره أخيرًا التسمية بأسماء سور القرآن الكريم: كطه وياسين وحم، وليس الأمر كما هو مشهور عن العوام من أن الرسول له من الأسماء طه وياسين، فليس في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا مرسل ولا أثر عن صحابي، لا يسمى النبي بهذه الأسماء. ليس من أسمائه طه وياسين، وإنما هي حروف كـ(ألم) و(ألر)، ونحوها. أقول قول هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعد:
فإنه ينبغي تأديب الأولاد وتعليمهم لقوله تعالى في سورة التحريم:
يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم: 6]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "علموهم وأدبوهم"، وقال الحسن البصري رحمه الله: "مروهم بطاعة الله وعلموهم الخير".
وفي المسند وسنن أبي داود من حديث عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله : ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربهم عليها، لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) ، ففي هذا الحديث ثلاثة آداب: أمرهم بالصلاة وضربهم عليها، والتفريق بينهم في المضاجع.
وفي معجم الطبراني عن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لأن يؤدب أحدكم ولده خير له من أن يتصدق كل يوم بنصف صاع على المساكين)).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدّب ابنك فإنك مسؤول عنه، ماذا أدّبته؟ وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك وطواعيته لك.
وقال سعيد بن منصور: حدثنا حزم قال: سمعت الحسن البصري رحمه الله وسأله كثير ابن زياد عن تفسير قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74].
فقال يا أبا سعيد: أفي الدنيا أم في الآخرة؟ هذا المسؤول في الآية ربنا هب لنا يكون في الدنيا أم في الآخرة؟ قال الحسن: "لا والله بل في الدنيا أن يُري العبد من زوجته من أخيه من حميمه طاعة الله" لا والله ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولدًا أو والدًا أو حميمًا أو أخًا مطيعًا لله عز وجل!!.
وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالأمير راع على الناس ومسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه)) ألا فكلكم راع ومسؤول عن رعيته، وحسبكم بذلك تنبيهًا وإيقاظًا وإرشادًا إلى ما أنتم بصدده من سؤال الله عز وجل عما استرعاكم إياه.
ومن حقوق الأولاد العدل بينهم في العطاء والمنع، ففي السنن والمسند وصحيح ابن حبان من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ((اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم، اعدلوا بين أبناءكم)).
وفي الصحيح من حديث النعمان بن بشير أيضًا رضي الله عنهما أن أباه أتى به النبي , (بشير بن سعد أتى بابنه النعمان النبي ) فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي ـ نحلته أي أعطيته ومنحته ـ غلامًا أي عبدًا ليكون ملكًا له. فقال عليه الصلاة والسلام: ((أكل ولدك نحلت مثل هذا؟)) (أعطيت كل واحد من أولادك غلامًا كما أعطيت النعمان). قال: لا. فقال: ((أرجعه)). وفي رواية لمسلم ((فعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا. قال: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)) قال النعمان بن بشير: فرجع أبي في تلك الصدقة.
وفي الصحيح أنه قال لبشير أيضًا ـ في رواية أخرى ـ : ((أشهد على هذا غيري)) وهذا أمر تهديد لا للإباحة. النبي يهدد لا يبيح له أن يُمضي هذه العطية ولكن بشهادة غيره، فإن تلك العطية كانت جورًا بنص الحديث في روايات أخرى، قال عليه الصلاة والسلام: ((هذا جَور)) كانت جورًا بنص الحديث، والرسول لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الظلم، ومن ذا الذي كان يشهد على عطية أبى رسول الله أن يشهد عليها، وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جورًا، وأنها خلاف العدل.
وإلى هذا الحد أصِل إلى آخر ما أمكنني أن أذكره حول موضوع الأسرة في الإسلام زوجًا وزوجة وأولادًا. سائلاً ربي عز وجل أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1731)
الأسرة في الإسلام ـ ثقب الأذنين ـ
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
الأبناء, تراجم
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ ثقب أذن المولود.
2 ـ ثقب آذان الأبناء من معتقدات الجاهلية.
3 ـ ابن راهوية ولد مثقوب الأذنين.
4 ـ سيرة إسحاق بن راهوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أمّا بعد:
فقد مرت بنا فيما مضى بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، ونعود اليوم لنضيف إليها حكمًا آخر من الأحكام ألا وهو حكم ثقب أذن الصبي، أما أذن البنت فيجوز ثقبها للزينة نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونص على كراهته في حق الصبي والنصوص التي استند إليها فيما ذهب إليه من جوازه للأنثى وكراهته للصبي منها ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم زرع، ومنها ما ثبت في الصحيحين، وسيأتي ذكره فيما يتعلق بتحريضه للنساء على الصدقة والفرق بين الذكر والأنثى، أن الأنثى محتاجة للحلي فثقب الأذن مصلحة في حقها بخلاف الصبي وقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع الصحيح، هذا الحديث الذي يحكي قصة إحدى عشرة امرأة اجتمعن وتعاهدن على أن تقص كل امرأة منهن خبر زوجها، ولما جاء دور أم زرع أثنت على زوجها خيرًا، وكانت مما أثنت به على زوجها أنه أناس من حلي أذنها فقالت: أناس من حُلي أذني، أي: ملأ أذنها من الحلي.
ولقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع، ولم يستثن من ذلك وضع الحلي في الأذن، وهذا واضح الدلالة في جوازه.
قالت أم زرع: أناس من حلي أذني، أي: ملأ أذنها من الحلي حتى صار ينوس فيها، أي: تحرك فيها ويجول.
وفي الصحيحين: لما حرض النبي النساء على الصدقة جعلت المرأة تلقي خرصها (الحديث) والخرص: هو الحلقة الموضوعة في الأذن، ويكفي في جوازه بفعل الناس له وإقرارهم على ذلك. فلو كان مما ينهى عنه لنهى عنه القرآن أو السنة.
فإن قيل: فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن عدوه إبليس أنه قال: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ?لأَنْعَـ?مِ [النساء: 119] ، فإن قيل البتك الذي أمر إبليس به الناس في الجاهلية هو القطع، أي: يقطعون آذان الأنعام. وهذا يدل على أن قطع الأذان وشقها وثقبها من أمر الشيطان، وثقب الأذن قطع لها فهذا ملحق بقطع أذن الأنعام، إن قيل ذلك، قيل: هذا من أفسد القياس؛ فإن الذي أمر الشيطان به أنهم كانوا إذا ولدت لهم الناقة خمسة أبطن فكان البطن السادس ذكرًا شقوا أذن الناقة في الجاهلية وحرّموا ركوبها والانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء ولا عن مرعى وقالوا: هذه بحيرة. فشرع لهم الشيطان في ذلك شريعة من عنده فأين هذا من ثقب أذن الصبية ليوضع فيها الحلي التي أباح الله لها أن تتحلى به، أين ذلك من ذاك؟!
وأما ثقب أذن الصبي فلا مصلحة له فيه، وهو قطع عضو من أعضاءه لا لمصلحة دينية ولا دنيوية، فلا يجوز.
ومن أعجب ما في هذا الباب ما قال الخطيب في تاريخه؛ حيث قال: "أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزّاز، قال: أخبرنا أبو عمر عثمان بن جعفر المعروف بابن الكبار، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن راهوية ابن الإمام الحافظ المحدث الكبير يقول علىٌ هذا: ولد أبي من بطن أمه مثقوب الأذنين، قال: فمضى جدي راهوية إلى الفضل بن موسى السيناني فسأل عن ذلك، وقال: ولد لي ولد خرج من بطن أمه مثقوب الأذنين! فقال الفضل بن موسى: "يكون ابنك رأسًا إما في الخير وإما في الشر. وكأن الفضل ابن موسى والله أعلم تفرَّس فيه أنه لمّا تفرد عن المولودين كلهم بهذه الخاصية أن ينفرد عنهم بالرياسة في الدين أو الدنيا، إما أن يكون رأسًا في العلم فتكون هذه رياسة في الدين، أو أن يكون رأسًا في الدنيا بتولي وتبوء أعظم المناصب، هذا والله أعلم.
وقد كان رحمه الله تعالى ـ أي إسحاق ـ رأسًا في الخير. رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنة والجلالة والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وكسر الجهمية نفاة الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسوله في سنته، والمعروفين بالآراء الضالة والمقالات الفاسدة، كان رأسًا في كسرهم وكسر أهل البدع ببلاد خراسان، وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان وعنه انتشرت هناك. وقد كانت له مقامات محمودة عند السلطان يبصره الله بها بأعداءه ويخزيهم على يديه حتى تعجب منه السلطان والحاضرون، حتى قال محمد بن أسلم الطوسي: "لو كان الثوري حيًا لاحتاج إلى إسحاق فأخبر بذلك أحمد بن سعيد الرباطي فقال: والله لو كان الثوري وابن عيينة والحمادان (أي: حماد بن زيد وحماد بن سلمة) في الحياة لاحتاجوا إلى إسحاق"، فأُخبر بذلك محمد بن يحيى الصفّان فقال: "والله لو كان الحسن البصري حيًا لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة".
وكل ذلك لا لسبب إلا لعلمه وإمامته وجلالته وورعه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى قال هؤلاء العلماء الأجلاء: "إن السابقين المعروفين بالإمامة والجلالة والفقه والعلم والتقوى والورع لو أدركوا هذا الإمام لانتفعوا منه ومن علمه"، وسأذكر إن شاء الله وقدّر بعد جلسة الاستراحة شيئًا مما يدل على إمامته وظفره عند السلطان وخزي أعداء السنة على يديه لنبين من خلال ذلك أنه كان ـ رحمه الله ـ رأسًا في العلم كما تفرس فيه الفضل بن موسى عندما أُخبر بأنه ولد مثقوب الأذنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
فقد روى الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور قال: أخبرني أبا محمد بن زياد قال: سمعت أبا العباس الأزهري قال: سمعت علي بن سلمة يقول: "كان إسحاق (وهو صاحبنا الإمام الجليل المعروف). كان إسحاق عند عبد الله بن طاهر (يعني الأمير) وعنده إبراهيم بن صالح فسأل الأمير إسحاق عن مسألة فقال إسحاق ـ رحمه الله ـ: السنة فيها كذا وكذا، وأما النعمان وأصحابه فيقولون بخلاف هذا. قال إبراهيم بن صالح. لا يقول النعمان بخلاف هذا، فقال إسحاق: حفظته من كتاب جدك، (يقول للذي يعارضه حفظته من كتاب جدك، يعني عيبٌ عليك ألا تحفظ ما قاله جدك في كتابه وأحفظه أنا وتُعارض وتدرأ السنة بالرأي وبالهوى). فقال إبراهيم للأمير: أصلحك الله، كذب إسحاق على جدي. فقال إسحاق: ليبعث الأمير إلى جزء كذا وكذا من الجامع فليُحضر. فأُتي بالكتاب فجعل الأمير يقلب الكتاب. فقال إسحاق للأمير: عُدّ من الكتاب إحدى وعشرين ورقة ثم عُدّ تسعة أسطر، ففعل فإذا المسألة على ما قال إسحاق: فقال الأمير: ليس العجب من حفظك إنما العجب من مثل هذه المشاهدة، (هذا الاستحضار العجب منه، وليس العجب من حفظك)، فقال إسحاق: ليوم مثل هذا. (يعني: إنما وفقني الله في ذلك ليوم مثل هذا ليخزي الله على يدي عدوًا للسنة مثل هذا).
وقال عبد الله بن طاهر لإسحاق: "قيل لي إنك تحفظ مائة ألف حديث، فقال إسحاق: مائة ألف لا أدري ما هو؟ لا أدري مائة ألف قد يكون أكثر، قد يكون أقل لكني ما سمعت شيئًا إلا حفظته، ولا سمعت شيئًا فنسيته.
والمقصود صحة فراسة الفضل بن موسى وأن إسحاق يكون رأسًا في الخير وفي العلم.
يا طلاب العلم إن الذي كان عليه إسحاق بن راهوية وغيره من الأئمة في العلم لا ينال بالتمني ولا بالعجب وإطراق الرؤوس ومصمصة الشفاة، إنما يُنال ذلك كله بالإخلاص لله عز وجل في طلب العلم، واجتناب الغرور والكبر ولزوم التواضع ودوام الطلب والمذاكرة والصبر على ذلك، فصححوا النيات وأخلصوا لرب الأرض والسماوات، يوفقكم ويبؤكم في الآخرة أعلى الدرجات، كما قال عز وجل في سورة المجادلة في الآية الحادية عشرة: يَرْفَعِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَـ?تٍ.
(1/1732)
الأمر بالمعروف
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ منزلة الأمر بالمعروف من الدين.
2 ـ المنافقون يتقاعسون عن هذه الشعيرة.
3 ـ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكتاب والسنة.
4 ـ عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 ـ في الذي يأمر بالمعروف
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: إنّ الإيمان بالله عز وجل والدعوة إليه والنصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر وإشاعة الخير والفضيلة بين الناس ومحاربة الشر والرذيلة والفساد واستئصاله من المجتمع من أبرز سمات هذه الأمة أمة محمد ، يقول الله جل وعلا: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران: 110]؛ لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القطب الأعظم في هذا الدين، والمهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين، وذلك لما يشتمل عليه من الفضل العظيم، والخير العميم، والفوائد والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل، وانتشار الفساد وتفاقم المحرمات، لذلك كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القطب الأعظم في هذا الدين، والمهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمارة الإيمان، وتركهما علامة النفاق. قال الله تعالى في حق المنافقين في سورة التوبة في الآية السابعة والستين ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمَعْرُوفِ [التوبة: 67] وقال في حق المؤمنين بعد ذلك بأربع آيات: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [التوبة: 71] وهما كذلك من أعظم أسباب النصر على الأعداء والتمكين في الأرض، قال الله تعالى في سورة الحج: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لاْرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ.
وهما طوق النجاة قال الله تعالى في سورة الأعراف : فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ?لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لسُّوء وَأَخَذْنَا ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف: 165].
وبالجملة فهما من أفضل الأعمال وآكد الفرائض وأوجب الواجبات وألزم الحقوق. وقد جاء كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله بما يؤيد ذلك.
قال الله عز وجل في سورة آل عمران: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].
وقال في سورة المائدة مبينًا تقصير أحبار بني إسرائيل في القيام بهذا الواجب قال: لَوْلاَ يَنْهَـ?هُمُ ?لرَّبَّـ?نِيُّونَ وَ?لأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ?لإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ?لسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: 62] يعني هلا قام علماء بني إسرائيل وأحبارهم بما أوجبه الله تعالى عليهم من أمر بني إسرائيل بالمعروف ونهيهم عن المنكر. لماذا لم يفعلوا ذلك وقد أوجب الله عليهم القيام بهذا الأمر. وقال مبينًا استحقاق بني إسرائيل للعنة قال هذا في نفس السورة لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 78].
استحقوا اللعنة لأنهم لم يأمروا بالمعروف ولم يتناهوا عن المنكر، فلعنهم الله تبارك وتعالى، وذكر الله عز وجل أن من وصايا لقمان لابنه في سورة لقمان في الآية السابعة عشرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [لقمان: 17] وأما سنة رسول الله فقد أيدت هذا الأمر وأكدته:
ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) ، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عقب حديث أبي سعيد قال: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) وليس بعد الإنكار بالقلب وعدم الرضى. ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل. ماذا يمكن أن يكون بعد مجرد الإنكار بالقلب إذا حدث العجز عن الإنكار باليد واللسان، إذا رضى العبد بوقوع الفاحشة أو المنكر وتفاقم المحرمات شارك الفاعلين برضاه عن ذلك الأمر.
ويؤيد ذلك حديث الأربعة الذي أخرجه الترمذي عن أبي كبشة الأنماري الذي قال فيه النبي : ((إنما الدنيا لأربعة نفر)) فبيَّن أن من الناس من يكون على علم يعمل به، ويتمنى آخر ليس عنده ذلك العلم لو كان عالمًا حتى يعمل مثلما عمل فلان بعلمه فهما في الأجر سواء، وآخر له مال ينفقه في سبيل الله عز وجل وفيما يرضيه، وهناك من ليس له ذلك المال يتمنى لو كان له مثل مال فلان حتى يفعل ما يفعل هو من الإنفاق في مراضي الله عز وجل فهما في الأجر سواء. وهناك من ليس على علم ولا على مال ويتمنى أن يكون له مثل مال فلان من المال الذين ينفقه فيما يغضب الله عز وجل ويسخطه، وليس عنده ما يطغي به كما يطغي صاحب المال لكنه شاركه بالتمني فيقول النبي : ((فهما في الوزر سواء))، ثم روى الإمام أحمد والترمذي ـ والحديث صحيح ـ عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
وروى أبو داود والترمذي وحسَّن الحديث الترمذي عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول ما دخل المقت على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم قال ـ أي النبي عليه الصلاة والسلام ـ: كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة: 79].
ثم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذونَّ على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)).
والمعروف أيها الأخوة الكرام: اسم جامع لكل ما أمر الله به ورسوله من الإيمان وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ونحوها.
والمنكر: كل ما أنكره الله ورسوله ، وأعظم ذلك منكرات العقائد والأمور المبتدعة في الدين وكبائر الذنوب وسائر المعاصي، ولقد ضرب الرسول مثالاً مثاليًا لما يترتب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما يمكن أن يتسبب فيه تركها، فقال فيما رواه عنه النعمان ابن بشير رضي الله عنهما أو أخرجه الإمام البخاري رحمه الله قال : ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس حكرًا ولا مقصورًا على هيئة، بل هو واجب على المسلمين جميعًا كلٌ بحسب منزلته ومكانته واستطاعته.
فالأب مسؤول عن أسرته وأهل بيته. والمعلم في مجاله، والموظف في دائرته، والتاجر في سوقه، كلٌ على حسب منزلته ومكانته واستطاعته، والمسلم الحق أينما وقع أفاد ونفع. يؤلمه ما يؤلم إخوانه المسلمين، ويسره ما يسر إخوانه من المسلمين، وإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنذر بعذاب يعم الصالح والطالح.
اتفق البخاري ومسلم رحمهما الله على حديث صحيح عن زينب رضي الله عنها أم المؤمنين أنها قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)).
وإن الناظر إلى أحوال المجتمعات المعاصرة يرى ما ألم بها من انتشار الفواحش والأفكار الهدامة والمبادئ المنحرفة، ويرى أن ذلك ليس له سبب إلا أن الناس في هذه البلاد تركوا التواصي بالحق والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعم العذاب في تلك البلاد الصالح والطالح.
وهذا الأمر أيها الإخوة الكرام إذا أُفلت زمامه، وطُوىِ بساطه، وقل أنصاره، وأخفقت رايته، وأهمل علمه وعمله، هلك العباد وفسدت البلاد وانتشرت الفواحش والمنكرات، فلابد أن يتعاون الجميع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهذا الأمر. رائدنا جميعًا في ذلك الإخلاص والحكمة والشفقة والرفق والأناة والرحمة. تلك أبرز صفات القائم بهذا الأمر، أمر الأمر رحيمًا رفيقًا.
أيها الإخوة الكرامَ ومع ذلك فلا نيأس من رحمة الله تعالى فلا زال في أرض الله من هو قائم بحجته صادع بدعوته، لكن الأمر بحاجة إلى المزيد من الجهود الإسلامية المتضافرة ليعُم الخير وينتشر ويتوارى الباطل ويندحر، وما ذلك على الله بعزيز.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بما أوجب عليكم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد عرفتم أدلة ذلك من الكتاب والسنة، وبان لكم أسباب التأخر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النتائج الوخيمة وانتشار الباطل واستشرائه، وتفاقم المحرمات والمنكرات والفواحش، فقوموا بهذا الأمر على حسب استطاعتكم مع التحلي بالإخلاص والحكمة، والشفقة والرحمة، والحلم والأناة، فهذه هي الصفات التي ينبغي توافرها فيمن يقوم بهذا الأمر.
واعلموا رحمكم الله أن رسول الله كان شديد الغيرة على حرمات الله تعالى، يغضب لها إذا انتهكت، ويقوم بما أوجب الله عليه من الدعوة إليه ونشر رسالته، فليتعاون كلٌ منا مع أخيه في القيام بهذا الأمر وينبغي أن نترك التواكل والتلاوم والتبعة على الآخرين. ذلك واجب ينبغي أن نتعاون في القيام به ولا نتواكل ولا نتلاوم ولا يلقي كل منا التبعة على أخيه. أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1733)
الروح والجسد في ميزان القرآن
الإيمان
الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ الإنسان مركب من روح وجسد، ولكل منهما متطلبات.
2 ـ إفلاس الحضارة الغربية التي أهملت الروح واهتمت بالجسد.
3 ـ الذين بهرهم تقدم الغرب المادي أخذوا منها الضار وتركوا النافع.
4 ـ حاجات الروح مقدمة على حاجات الجسد.
5 ـ القلق والانتحار نتاج الحضارة الغربية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد:
عباد الله، كنا قد ذكرنا في الجمعة الماضية أن قوله تعالى في سورة الأنعام وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَـ?تِهِ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الأنعام: 115] دال على أن أخبار الله تعالى كلها في غاية الصدق، وعلى أن كل أحكامه تعالى في غاية العدالة والإنصاف والإحكام، ودال على أن القرآن العظيم جاء للبشرية بخيري الدنيا والآخرة، ويدخل في خير الدنيا والآخرة الذي جاء به القرآن للبشرية اعتناء القرآن العظيم للإنسان من ناحيتين من ناحيته الروحية ومن ناحيته الجسدية، لأنّ الإنسان مركب من عنصرين مختلفين في الحقيقة أشد الاختلاف، أحدهما يسمى الروح والثاني يسمى الجسد، ولا بد لكل منهما من متطلبات، فللروح متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الجسد وللجسد متطلبات لا تكفي عنها متطلبات الروح، فالقرآن العظيم جاء للإنسان بمتطلباته الروحية والجسدية، فمن الناحية الروحية بين له طرق الصلة بالله تبارك وتعالى لتتهذب روحه على ضوء النور السماوي، ومن الناحية الجسدية نظم له جميع العلاقات التي بها تقدمه في الدنيا في جميع الميادين، والروح هي التي لها الأهمية، لأن المادة إذا طغت وقويت ولم تقدها روح مرباة مهذبة، كانت ويلة عظمى على البشرية، ونحن نشاهد هذا في الدنيا فنشاهد الكتلة الشرقية والغربية لكلتاهما نجحت غاية النجاح في خدمة الإنسان من حيث أنه جسد حيواني، وأفلستا كل الإفلاس في خدمته من الناحية الروحية، وصارت هذه المادة لا تقودها روح مرباة مهذبة على ضوء تعليم سماوي فأصبحت ويلة عظمى على البشرية، وخطرًا داهمًا يهدد الإنسان، ولذلك نجدهم يعقدون المؤتمر بعد المؤتمر والمجلس بعد المجلس، ليدمروا القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس خوفًا منها، وكل منهم يبيت في قلقٍ وخوفٍ من القوة التي بذلوا فيها النفس والنفيس، كل ذلك إنما جاء من إهمالهم الناحية الروحية؛ لأن أرواحهم لو كانت مرباة مهذبة على ضوء نور سماوي من تعاليم رب العالمين لكانوا وكان البشر في أمن وطمأنينة؛ لأنّ تلك الروح المرباة المهذبة لا تقود تلك المادة الطاغية والقوة الهائجة إلا قيادة طبيعية لخير البشرية وخير الدنيا والآخرة، ومن المؤسف كل الأسف أن كثيرًا من أبناء المسلمين أذلتهم الحضارة الشرقية والغربية فانفصلوا عن تعاليم السماء، وقطعوا الصلة بينهم وبين خالقهم الذي فتح أعينهم وجعل لهم فيها النور، فيجب أن تبين لهؤلاء الحقائق وتضرب لهم الأمثال فالحضارة الشرقية والغربية بالاستقراء التام الذي لا يمكن أن يكابر فيه إلا مكابر جاحد للمحسوس، هذه الحضارة جمعت بين نافع لا مثال لنفعه، وبين ضارٍ لا مثال لضره، أما الذي حصلته من النفع فهو ما حصلت عليه من التقدم المادي والتقدم التنظيمي في جميع ميادين الحياة فهذا كالماء الزلال، فالمتواكلون العجزة المعرضون عنه متمردون على نظام السماء، مخالفون لأمر خالق السماوات والأرض جلا وعلا، الذي يقول في سورة الأنفال وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة فكأنه يقول: أعدوا ما يكون من المستطاع من القوة كائنًا ما كان، مهما تطورت القوة ومهما بلغت، فالمتواكلون العجزة الذين لا يعدون القوة متمردون إذًا على أمر الله تعالى، يصدق عليهم قوله تعالى في سورة الأحزاب: ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا ، وأما ما حصلته من الضر الذي لا مثال لضره، فهو إهمالهم للآداب الروحية وإباحتهم لكل الفواحش تحت اسم الحرية، وهو في الحقيقة رق وعبودية للشهوات، ووقوع في أثرها فهو كالسم الفاتك القتال، فالراضون به الآخذون به المشجعون له متمردون أيضًا على نظام السماء، بل هم أشد تمردًا مخالفون لأمر خالق السموات والأرض جلا وعلا الذي يقول في سورة الأنعام وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151] ولكن القرآن العظيم جمع بين نصيب الروح ونصيب الجسد، وبين أن الروح هي التي لها الأهمية، ومن نظر في القرآن وجده على خلاف هذه الحضارة باعتنائها بالأجساد وإهمالها للأرواح، من نظر فيه وجده جامعًا بين الأمرين، الأمر بالقوة والتقدم مع المحافظة على الآداب الروحية، ومن الأمثلة الدالة على ذلك قوله تعالى في الآيتين الثانية والثالثة بعد المائة من سورة النساء: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى? لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ [النساء: 102] إلى آخر الآية، فهذا وقت التحام الكفاح المسلح، والرؤوس تنزل عن الأعناق وفي هذا الوقت الحرج نظام السماء والقرآن العظيم يدبر الخطة العسكرية على أكمل الوجوه في الوقت الذي يحافظ فيه على الاتصال بخالق هذا الكون جلا وعلا وتربية الروح بأدب سماوي من آداب السماء، وهو المحافظة على الصلاة في الجماعة، والأمثلة الدالة على ذلك في القرآن كثيرة فالحضارة الشرقية والغربية فيها ماء عذب زلال وفيها سم فاتك قتال، فأما ما فيها من الماء العذب الزلال فهو كما تقدم هو ما أنتجته من القوة المادية والقوة التنظيمية في جميع ميادين الحياة، وأما ما فيها من السم الفاتك القتال فهو ما جنته من التمرد على نظام السماء والطغيان، والعصيان لخالق هذا الكون جلا وعلا، والإفلاس الكلي في الآداب الروحية السماوية، ومن المؤسف أيضًا كل الأسف أن أغلب من يحركون الدفات في بلاد المسلمين إلا من شاء الله ربما أخذوا من هذه الحضارة ضارها من الانحطاط الخلقي والزهد في الإسلام، وقطع الصلة بالله، وعُدمت صلة السماء بالأرض في الوقت الذي هم فيه مفلسون كل الإفلاس من ماءها الزلال ومنافعها الدنيوية، أخذوا ضارها وتركوا منافعها، فعلينا معاشر المؤمنين أن نتنبه لهذا، وأن نفرق بين السم والماء، وأن نأخذ من هذه الحضارة نافعها، وأن نحذر من ضارها، وعلينا أن نحافظ على تراثنا الروحي وآدابنا السماوية في الوقت الذي نحن فيه ننتفع بالمادة والقوة؛ لأن الإنسان في هذه الدنيا إذا فقد صلته بالله الذي خلقه وفتح له عينه وجعل له فيها النور، وأودعه من غرائب صنعه وعجائب ما يبهر العقول، إذا فقد الإنسان صلته بالله فقد كل شيء وخسر كل شيء في الدنيا والآخرة، أعاذنا الله وإياكم من الخسران في الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمّا بعد:
فإن كثيرًا من المنتسبين إلى الإسلام شابهوا غير المسلمين في الاهتمام والاعتناء بأجسادهم، وأهملوا أرواحهم، فحرموها من تزكيتها وغذاءها وطهارتها، والسمو بها والارتفاع عن الخبائث والرزائل والموبقات، مع أن الله تعالى أنزل عليهم كتابًا يهتم بكلا الأمرين، ويبين أن الروح هي التي لها الأهمية، فيقول مثلاً في سورة القصص في النصائح الموجهة إلى قارون: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]، هكذا أنزل الله في كتابه على المسلمين يعلمهم أن ما يحبه البدن من حظوظه ومتاعه مما يضمن له إقامته وصحته ليس إلا لخدمة الروح ولإعانتها على الاستمرار في سيرها وسفرها إلى الله والدار الآخرة؛ لأن البدن مطية الروح، فلا بد لإكرام هذه المطية وإعطاءها ما يعينها على السير بهذه الروح والسفر والبلوغ للدار الآخرة بسلام، ويقول أيضًا في سورة الشمس: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10] قد أفلح من زكاها، أي: أفلح من طهر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب ورقاها بطاعة الله وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح، وقد خاب من دساها، أي خاب من أخفى نفسه الكريمة في مذابل المعاصي وأمات استعداها للخير بالمداومة على اتباع طرق الشيطان وفعل الفجور، ومن هنا نقول للآباء وأولياء الأمور: اتقوا الله في أبناءكم فإنكم إلا من رحم الله منكم لما أغرقتم أبناءكم بإجابة متطلبات أجسادهم وأهملتم غذاء أرواحهم أصبحوا لا يجدون في دعوتهم إلى الخير إلى طاعة الله ورسوله والتباعد عن الانحطاط الخلقي وضياع الأخلاق والقيم الإنسانية الروحية؛ أصبحوا لا يجدون في ذلك قدرًا زائدًا على ما يشعرون به من السعادة الناتجة عن إجابة متطلباتهم، فإنهم أصبحوا يقيسون الأمور بما يحقق القدر الأكبر لراحة ومتعة الأجسام، فإذا قيل لهم في هذه العطلة الصيفية تعالوا إلى المساجد تعلموا شيئًا من كتاب الله تعالى ومن حديث رسول الله لم يشد ذلك انتباههم ولم يحرك لهم ساكنًا ولم يستشرف إلى ما يقال لهم، فإذا قيل لهم: لماذا؟ لم يُلفت ذلك انتباهكم؟ نحن نوجهكم إلى قضاء أوقاتكم فيما يعود عليكم بالنفع في الدنيا والآخرة لم يُجدي ذلك معهم شيئًا أيضًا فتسألهم فيما تقضون، أوقاتكم فيقولون: فيما لا شيء، في لا شيء! نعم، لا شيء على وجه الإطلاق، سبحان الله العظيم، وإن حدثوا عن مشروب جديد في المحل الفلاني أو مأكول جديد مبتكر في المحل الفلاني، أو بلد يسافر إليها في بلد ما، فيه من المتع ما ليس في البلد الذي سبق أن سافر إليه، استشرفت نفسه وتطلع وانتبه واستحضر ذهنه، وسأل أين هذه الأشياء التي حدثتموني عنها؟، وسعى في أن يصيبها ليمتع هذا الجسد الذي مهما تنعم ومهما ترفه فلن ينفك عن ضعفه، لأن الله عز وجل هو الذي وصفه بأنه ضعيف.
فقال في سورة النساء: وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفاً [النساء: 28] وقال في سورة الروم: ?للَّهُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم: 54] فيذكر الضعف ثلاث مرات مع ذكر الشيبة، ولم تذكر القوة إلا مرتين في مرحلة واحدة من مراحل عمر هذا الإنسان الضعيف، هذا المخلوق الضعيف لن ينفك عن ضعفه مهما تنعم جسده، ومهما تنعم ومهما ترفه، فأنت ترى أضعف المخلوقات تقريبًا النملة إذا ألقيت من أعلى الطوابق لم يؤثر ذلك فيها شيئًا، وأما الإنسان فعلى ما فيه من القوة وعلى ما فيه من البنيان المفتول المشدود إذا صعد الدرج أو السلم، ولم يُمَكِن قدمه من الدرجة التوت قدمه فانكسرت، فتسأله من أي شيء انكسرت رجلك؟ فيقول: من الدرج. من الدرج؟! لا من شيء مرتفع ولا من شيء شاهق؟! هذا بعض ما يمكن أن يقال في الاستدلال على ضعف هذا الإنسان، وأنت يا أخي المسلم تعلم أن الذين خدموا أجسادهم في بلاد الحضارة الشرقية والغربية لم يشعروا مع كل ما وصلوا إليه من الرفاهية بالسعادة التي تتصور أنت أنك إذا فعلت فعلهم حصلت عليها، وإلا فبرر لي أسباب كثرة الانتحار عندهم، والجنون والسفه والعبس والبطش والقتل والسلب والنهب؟ برر لي أسباب ذلك إن كانوا قد ارتاحوا حقًا واستراحوا بسبب رفاهية الأجساد؟ فلماذا هم على ما هم عليه من الضياع؟ أنريد لأنفسنا أن نكون كهؤلاء الضالين؟ لا ينبغي أن نأخذ من عندهم إلا ما يشبه الماء الزلال الصافي، وينبغي أن نعزف تمامًا عمّا عندهم من السم الفاتك القتال، لأن الإنسان لم يخلق ليعكف على كل ما يصادفه من ألوان الشهوات والمتع واللذات وإلا لكان والعياذ بالله كالبهيمة، كالحيوان تهفوا نفسه وتطلع إلى كل ما يراه ليصيبه وليناله وليس الإنسان كذلك، لا بد أن يكون بينه وبين الحيوان فرق، وهذا ليس قيدًا على الحرية، بل هو حفاظ على مكانة الإنسان وكرامته، فإن الله كرمه وفضله على سائر المخلوقات تفضيلاً نعم هذا الانسان ينبغي أن يتذكر أنه لن ينفك عن ضعف، فإذا قوَّى روحه، وغذَّى روحه مهما ألم به من المشكلات والمصائب في بدنه وماله وأهله استقبل ذلك بروح ونفس مطمئنة، واستقبل ذلك برضى؛ لأن قوة إيمانه المستمدة من قوة روحه تُمْلِي عليه أن يرضى بقضاء الله وقدره في جميع الأحوال بما جاء في صحيح مسلم عن الرسول قال: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره له كله خير ـ لا يقضي الله له قضاءً إلا خيرًا له ـ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن)) للمؤمن فحسب أما الذي يعتني بجسده فإنه إذا أصابته آفة أو مرض فأصبح طريح الفراش شعر أنه قد فاته كل شيء، ويأس واستسلم وحزن حتى أن الحزن ليكاد يقتله قبل أن يُجْهِز عليه المرض، أو هذه الآفة والأمراض كثيرة في زماننا هذا وخبيثة، ونسمع كل يوم إن فلاناً أو فلانة أصيب بالمرض الخبيث الفلاني، وكل ذلك لا ينفع مع الذين تطلعت أعينهم إلى هؤلاء الفجرة الكفرة في بلاد الغرب والشرق، فلا يعتبرون ويظنون أن كل الناس إذا أصيبوا بالأمراض فلا يعد ذلك نذيرًا لهم، ولا تنبيهًا لهم، ولا تحذيرًا لهم، هذه الأجساد التي تجمع الملايين ثم تدخر لأجل خدمتها ثم تصاب بالأمراض فينصاع الإنسان بعد ذلك رغم أنفه لأوامر الطبيب لا تأكل كذا، لا تشرب كذا، وكان في سعة من ذلك، فكان الله عز وجل قد أحل له الطيبات كلها وحرم عليه الخبائث التي تضر بنفسه وبدنه فتأبى واعترض ورفض، فآل إلى ما آل إليه فأصبح يخضع لأمر إنسان وبشرًا من البشر يمنعه من إصابة الطيبات، ومن هذه الحظوظ التي كانت حلالاً له قبل أن يلم به هذا المرض الذي إما أن يكون هو المتسبب فيه بتناول ما حرم الله أو يكون قد أُبتلي به تأديبًا وعقوبة من الله عز وجل.
فيا أولياء الأمور، يا أيها الآباء أنتم مسئولون أمام الله عز وجل عن أبنائكم أتظنون أنكم مسئولون عن طعامهم وشرابهم ولباسهم فحسب؟ إن الله سائلكم عن تربية أرواحهم، ماذا علمتموهم؟ بماذا أمرتموهم؟ عن ماذا نهيتموهم؟ فماذا أنتم قائلون؟ وبماذا أنتم مجيبون؟ أتظنون أن الرحمة والحنان والأبوة الحقيقة هي أن يلبى لأبنائكم كل ما يطلبون من مشتهيات أجسادهم، لا لا بد من الموازنة، لا بد من إجابة متطلبات الروح في المقام الأول، وإجابة ما يحتاجه البدن من المتطلبات إن الله عز وجل يقول في سورة آل عمران: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لأَنْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَأَبِ [آل عمران: 14] انظر إلى خيرية الروح وفضيلتها على الجسد قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذ?لِكُمْ أي غذُّوا أرواحهم وزكُّوها وطهروها واسموا وارتفعوا بها لِلَّذِينَ ?تَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَارُ خَـ?الِدِينَ فِيهَا وَأَزْو?جٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران: 15] فأين الأول من الثاني فاستدركوا ما فات، وأطيعوا رب الأرض والسماوات، فإن ما توعدون لآت.
(1/1734)