من طرائف حج الرسول
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, محاسن الشريعة
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحجاج يلبون دعوة إبراهيم عليه السلام. 2- معانٍ يفهمها المسلم من عبادة الحج:
أ- تذكرة الموت. ب- المساواة. ج- حقوق المرأة. د- حقوق الإنسان. هـ- رفض العبودية
لغير الله. 3- عجائب في حجة الوداع وطرائف.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول ربنا تبارك وتعالى: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم [الحج:27].
• هذا هو النداء العلوي من الله الواحد الأحد إلى الأمة الإسلامية؛ لتؤدي هذا النسك العظيم، والركن الجليل من أركان الإسلام.
قام إمام التوحيد إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، يحمل الحجر من على كتف ابنه إسماعيل عليه السلام وهما يهتفان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم [البقرة:127]. وأكمل البناء، وصعدت الكعبة في السماء ووضع الحق.
قال إبراهيم لربه: يا رب، ماذا أفعل الآن؟ قال: اصعد على جبل أبي قبيس، أعظم جبال مكة، فصعد إبراهيم، وقال: يا رب، ماذا أقول: قال: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
قال إبراهيم: يا عباد الله، يا قوم حجوا البيت، فأسمع الله دعوته نطفاً في الأرحام، أسمع دعوته الأحياء والكائنات والذرات، فأقبل الموحدون يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
البشرية تلبي، الأرض تلبي، السماء تلبي، الدنيا كلها تلبي، ويشهد لسان الحال أن النصر لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين.
• ومما يثلج صدور أهل الإسلام أن يخرج من موسكو عصمة الإلحاد ودولة الكفر والبغي والحديد والنار، يخرج منها آلاف الموحدين يلبون كما يلبي الناس: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
أيها الإخوة في الله:
إن للحج معانٍ، ومقاصد، ودلالات، ينبغي أن نتعرف عليها، وأن نعيها. فكل العبادات الإسلامية أو غالبها، يطلب من المسلم أن يتجمل لها، وأن يتزين لها، فأفضل الحجاج، الشعث الغبر، وأجمل الحجاج الحفاة، وأعظم الحجاج الجائعون الظمأى.
وفي إحرام العبد في ردائين أبيضين، تذكير له بإدراجه في كفنه، فهذا سفر إلى عرفات، وذاك سفر إلى الموقف العظيم، فإذا لبست الإحرام، ذكرك بالكفن، وذكرك بيوم الحشر، وذكرك أنك لم تخرج من الدنيا إلا بهذا الكفن الأبيض.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل سار منها بغير الطيب والكفن؟!
وفي الإحرام قضايا أخرى: منها المساواة، وهذه من القضايا التي يحرص الإسلام على تقريرها دائماً، فلا يلبس الملوك إلا لباس الإحرام، ولا يرتدي الرؤساء ولا الأغنياء إلا لباس الإحرام، الناس كلهم يشتركون في هذا، فلا تيجان، ولا أكاليل، ولا نياشين، ولا أساور، كل الناس محشورون في صعيد واحد، ليبقى العز والملك والسلطان والجبروت لله تعالى وحده. كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [القصص:88]. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [غافر:16].
فالكل ذليل، والكل مسكين لكبرياء الله وعظمته.
• أما الوقوف بعرفة، فهو مؤتمرنا العالمي، وهو سر خلودنا في الأرض، الذي نفاخر به أهل الأرض جميعاً، إنهم يجتمعون في مؤتمراتهم، بدعوات، ومراسيم، وأطروحات، وقوانين، أما أهل الإسلام، في يوم عرفة، فيفترشون الأرض، في الشمس المحرقة، التي تلهب الأجساد.
فالله أكبر الله أكبر.. ما أعظم هذا اليوم!
والله أكبر الله أكبر.. ما أروع هذا اليوم!
• ثم يفيض الله تبارك وتعالى من رحماته على أهل الموقف، فيتجلى للناس في يوم عرفة، ينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله، يجمع ملائكته فيقول: ((يا ملائكتي، انظروا لعبادي، أتوني شعثاً غبراً ضاحين، أشهدكم أني قد غفرت لهم)) [1].
شعثاً، غبراً، ضاحين، تلبدت شعورهم من الشمس، لا دهن، لا طيب، لا ظل، كل ذلك ليرضى الله عنهم.
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
• تركوا القصور والبساتين والراحة، وجلسوا على التراب تحت حرارة الشمس.
فاشهد أيها العالم، واسمعي أيتها الدنيا، هذا يوم عرفة، حيث وقف نبينا وقائدنا وزعيمنا، وقف في ردائين باكياً، أشعث، أغبر، يخاطب الدنيا كلها ويكلم الناس جميعاً، إنه وقف هناك ولكننا نذكره هنا، وسوف نذكره في كل مكان، وسوف نذوب في حبه وفي فدائيته وفي دعوته.
إن محمداً هو تاريخ هذه الأمة وعمقها وعزها، لقد وقف هذا الرسول الكريم في عرفات وأرسى قضايا ثلاث:
القضية الأولى:
القضاء على التمييز العنصري، لقد ألغى محمد كل ألوان التمييز العنصري، وداس عليه بقدميه، وذلك قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، في حين أن دولة من الدول في عصرنا الحاضر، تتبجح بأنها أعظم دولة في العالم، لا زالت تفرق بين مواطنيها بحسب ألوانهم!!.
أما في الإسلام فلا أبيض ولا أسود ولا أحمر، لا نسب، لا مال، لا جاه إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
• وقف النبي ينادي: يا أبا بكر، يا قرشي، يا سيد، أنت وبلال الحبشي أخوان، لا فرق بينكما عند الله إلا بالتقوى، وقف هناك يقول: يا عمر، يا أبا حفص، يا فاروق الإسلام، أنت وصهيب الرومي أخوان، وقف هناك يقول: يا علي أنت وسلمان الفارسي أخوان.
إنْ كِيْدَ مُطَّرَفُ الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاءٍ تالد
أو يتفرق ماء الغمام فماؤنا عذبٌ تحدّر من غمام واحد
أو يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
أما القضية الثانية:
فقد أعلن فيها حقوق المرأة وأنها إنسانة لها شأنها في المجتمع، فهي تمثل نصف الأمة، ثم هي تلد النصف الآخر، فهي أمة كاملة.
أما الذين يدعون إلى ما يسمى بحرية المرأة، فأولئك هم أعداء المرأة، وقتلة المرأة، لا يريدون إلا أن تكون المرأة جسداً مشاعاً، يفترسه ذئاب الأرض وكلابها.
أما القضية الثالثة: التي قررها رسول الله في هذا الموقف العظيم فهي قضية الإنسان، قضية حقوق الإنسان، فقد نادى هذا النبي العظيم بحقوق الإنسان، وأنه لابد أن يكون محترماً له مكانته بين الناس، لا أن يعامل كما يعامل الحيوان.
وإذا كان هذا الإنسان مسلماً، وإذا كان هذا الإنسان مؤمناً، ازدادت حرمته، وتأكدت حقوقه. ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) [2].
• ينظر إلى الكعبة ويقول: ما أعظمك، وما أشد حرمتك، والذي نفسي بيده، للمؤمن أشد حرمة عند الله منك [3].
أيها الناس:
من الذي نادى بحقوق الإنسان، من الذي طبق حقوق الإنسان على واقع الحياة.
هل جاءت المنظمات العالمية بحقوق الإنسان؟
هل طبقت هذه المنظمات العالمية مبادئ حقوق الإنسان؟
لا والله، فهؤلاء هم الذين ذبحوا الإنسان، قتلوا الإنسان، سجنوا الإنسان.
أما محمد فقد أعلن حقوق الإنسان، واحترام الإنسان، وأعلن أن الله مع الإنسان ما دام هذا الإنسان عابداً لله – عز وجل –.
نزل النبي ، ثم أتى إلى الجبل فوقف من بعد صلاة الظهر إلى صلاة المغرب باكياً، مستغفراً، متواضعاً لله تبارك وتعالى.
وقف هناك، والبشرية كلها تنظر إليه، وتسمع كلامه، لأن البشرية تعلم أنه : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4].
وقضايا عرفات أيها الإخوة طويلة طويلة، ومعاني حجة النبي كثيرة، لكنا نبحث في هذا المقام عن المعاني الخفية لبعض هذه القضايا.
يذهب عليه الصلاة والسلام ليرمي الجمار، وفي ذلك كثير من المعاني منها:
أولاً: أنك بهذه الحصيات تعلن انتصارك على الشيطان، وتعلن أنك عبد الله، تنفذ أوامره، حتى وإن جهلت حكمة هذا الأمر وتعلن كذلك أن المعركة باقية بين الحق والباطل.
إن الذين يرمون الجمرات يعلنون صدقهم، وإخلاصهم، وعبوديتهم لله تبارك وتعالى.
أما عبيد الأغنية، والكأس، والسهرات الحمراء، فلا يعرفون رمي الجمرات، ولا يعرفون الوقوف بعرفات، ولا يعرفون الطواف بالبيت العتيق.
ثانياً: وفي رمي الجمرات أيضاً انتصار الإنسان على الهوى والتخلص من عبودية غير الله تبارك وتعالى.
• وصل النبي إلى البيت ليطوف حوله، واستلم الحجر، وأتته ذكريات عند استلام الحجر، فانهارت دموعه كالمطر، فالتفت إليه عمر وقال: ما هذا يا رسول الله ؟ قال: ((هنا تسكب العبرات يا عمر)) [4].
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا
فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، ما أطهرك، ما أعظمك.
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نُلام على محبّتكم ويكفي لنا شرفٌ نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
عباد الله :
((من ذهب يحج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) [5] ، تماماً كيوم ولدته أمه، مبرأً من الذنوب والمعاصي والخطاياً.
كانت قريش تقف في مزدلفة، والناس يقفون في عرفات، فأنزل الله تبارك وتعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم [البقرة:199]. اصعدوا مع الناس، وقفوا مع الناس، لا تمييز، ولا تفرّق، وإنما وحدة واجتماع.
• إن يوم عرفة هو يوم تحطيم الطاغوت، وإظهار لقول لا إله إلا الله.
أيها المسلمون: إخوة الإسلام:
• إن الحج ليس فرصة للمظاهرات، ولا للشغب، ولا لزعزعة الأمن، وإن من يفعل هذا مجرم يريد بالبلاد والعباد سوءً. الحج هدوء وسكينة ودموع وخشوع، الحج توجه إلى الله الحي القيوم، الحج أن تصل القلوب بالله – عز وجل – وأن نعلن وحدتنا وتضامننا وتآخينا.
وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم [الأنفال:63].
• هذه بعض معاني الحج، ولكن من ذهب إلى هناك، فسوف يعيشها حيّة في الليل والنهار.
تقبل الله من الحجيج حجهم، وسمع دعاءهم، وشكر سعيهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/224) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3254) : ورجاله موثقون. وأخرجه أحمد أيضاً (2/305) عن أبي هريرة ، قال الهيثمي في المجمع (3/254) : رجاله رجال الصحيح.
[2] أخرجه البخاري (1/24) ، ومسلم (3/1305) ، رقم (1679).
[3] أخرجه ابن ماجه (2/1297) رقم (3932) ونصر بن محمد شيخ ابن ماجه ، متكلم فيه.
ورواه الترمذي موقوفاً عن ابن عمر (4/332) ، رقم (2032) وقال : حسن غريب.
[4] أخرجه ابن ماجه (2/982) ، رقم (2945) ، وفي إسناده محمد بن عون الخراساني ضعفه ابن معين وأبو حاتم وغيرهما.
[5] أخرجه البخاري (2/141) ، ومسلم (2/983 ، 984) رقم (1350).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
هناك للعلماء نكات وتعليقات وعجائب في حجة النبي أحببت أن أذكر بعضاً منها في هذه الخطبة.
فمن عجائب حجته عليه الصلاة والسلام، أنه خطب في أكثر من مائة ألف حاج، غير النساء والأطفال، ومع أنه لم يكن عنده مكبر للصوت، ولم يكن يتكلم في مكرفون، إلا أن الله تبارك وتعالى أسمعهم جميعاً وهم في أماكنهم نقل لهم الصوت حياً على الهواء، كأنه بجانبهم يتحدث إليهم ويخاطبهم.
ومن الطرائف في حجة النبي أنه لما أتى لينحر الإبل، وقد ساق معه مائة ناقة، ليفدى بها جده إسماعيل عليه السلام، فأخذ الحربة لينحرها – وهو الرجل الذي يعرف المواقف كلها، في الحرب تجده في مقدمة الصفوف، وفي السلم من أعظم المسالمين، وعند الصلاة خاشع قانت، وعند الخصومات عادل مقسط، وفي السياسة قائد محنك، وعند الصدقة جواد كريم، وفي بيته أب رحيم قريب من القلوب -.
أخذ الحربة، وتقدم إلى الإبل ليذبحها، فأخذت تتسابق إليه أيتها يُنحر قبل!! سبحان الله، حتى النوق العجماوات، تحب الموت وتتسابق عليه، إذا كان من يديه.
نعم، إنه المحبة الصادقة التي فطرها الله في القلوب له ، الجمال تحبه، والطيور في السماء تحبه، وأعواد المنبر تحن إليه وتبكي لفراقه. عند البخاري أنه عليه الصلاة والسلام، ترك منبره الأول لمنبر جديد، فبكى المنبر الأول [1].
لا إله إلا الله، أتبكى أعواد الخشب، نعم، إذا كان محمدٌ هو المفارق.
تسابقت إليه الإبل، كل جمل يقدم نحره وصدره، فأخذ يقول: ((بسم الله)) ، فنحر ثلاثاً وستين، ثم توقف، لماذا لم يكمل المائة، لأن عمره ثلاث وستون، ثم يموت كما يموت الناس، ويذهب كما يذهب الناس، ثم أعطى الحربة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكمّل مائة، فعرف كبار الصحابة أنه لن يتجاوز هذا العدد من السنين، وأنه يموت، فقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن نكات حجته أنه قال في يوم النحر لأصحابه: ((لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)) [2] ، فعرف الصحابة أنه يودعهم، فارتفع البكاء والضجيج، وكثر النحيب، وبالفعل ما رأوه بعدها أبداً.
أما نحن فسوف نراه إن شاء الله – تعالى – سوف يراه حملة السنة الصادقون، سوف يراه أتباعه المخلصون، سوف يراه تلاميذه الذين كانوا يحرصون على تعاليمه، والذين لم يقدموا على هديه هدياً، ولم يرضوا بغير سبيله سبيلاً.
أما المجرمون والفسقة الذين أعرضوا عن هديه، وسلكوا غير سبيله، فإنهم لا يذوقون من يده شربة واحدة، وسيقول لهم: سُحقاً سحقاً. نسأل الله أن يسقينا من حوضه شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
عباد الله:
ومما يتصل بانقضاء أجله ، وعلامات ذلك، أنه كان في عرفة على ناقته، يدعو، رافعاً يديه إلى السماء، ثم توقف عن الدعاء وهو يبكي، وإذا بجبريل ينزل عليه من السماء بقوله – سبحانه -: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3].
ففهم كبار الصحابة من ذلك أن أجل رسول الله قد اقترب، وأنه قد دنا موعد الفراق، فبكوا وأبكوا.
ومن طرائف حجته أيضاً: أنه لما أراد أن يحلق رأسه، قال لمعمر بن عبد الله: يا معمر، ألديك موسى، قال: نعم يا رسول الله، قال: ((سم الله واحلق رأسي)) ، فأعطاه ميمنة رأسه الشريف، الذي ما عرف إلا العدل والحق والوفاء، فأخذ يحلق رأسه وهو يتبسم، عليه الصلاة والسلام، ويقول لمعمر: ((أما رأيت رسول الله أعطاك رأسه بين يديك، والموسى في يديك)) ، قال معمر: يا رسول الله، والله إنها من نعم الله أن أحلق رأسك [3]. فلما انتهى النصف الأول قال لأصحابه: ((اقتسموه بينكم)) فكادوا يقتتلون على شعره، كل منهم يريد أن يحصل ولو على شعرة واحدة، وبعضهم ما حصل إلا على نصرف شعرة.
ليس عندنا في الإسلام كهنوت، وليس عندنا في الإسلام عبودية لغير الله – تعالى –، ولكن عندنا حب صادق لهذا النبي، الذي أنقذنا من الضلالة وهدانا إلى النور.
ثم قال لمعمر: ((احلق النصف الآخر)) ، فحلق النصف الآخر، فقال : ((أين أبو طلحة الأنصاري؟)) فأتى أبو طلحة، فقال له النبي : ((خذ هذا الشعر كله)) ، فبكى أبو طلحة من الفرح [4].
طفح السرور علي حتى أنني من هول ما قد سرّني أبكاني
عباد الله:
تلكم بعض معاني الحج وذكرياته، قصدت بها تذكير نفسي وإياكم بهذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
فيا من قصد بيت الله العتيق، أخلص نيتك، وطهر كسبك، من الحرام، فإن الله طيب، لا يقبل إلا الحلال الطيب.
إذا حججت بمالٍ أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
اجعل رفقتك من الصالحين الطيبين، قف هناك في عرفات خاشعاً مستغفراً ضارعاً إلى الله تعالى، فهو يومٌ يعتق الله فيه عباده من النار.
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً
إنا أقمنا على عذرٍ وقد راحوا ومن أقام على عذرٍ كمن راحا
عباد الله:
صلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
وقد قال : ((من صلى عليّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [5].
اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
[1] أخرجه البخاري (4/173).
[2] أخرجه مسلم (2/943) رقم (1297).
[3] أخرجه أحمد (6/4009 ، والطبراني. قال الهيثمي في المجمع (3/264) : فيه عبد الرحمن بن عقبة مولى معمر ، ذكره ابن أبي حاتم ، ولم يوثق ، ولم يجرح.
[4] رواية إعطاء النبي نصف شعره الأيسر لأبي طلحة أخرجها مسلم في الصحيح (2/947) ، رقم (130).
[5] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
(1/1512)
خطبة عيد الأضحى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الزهد والورع, قضايا دعوية
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – موعظة في التزهيد في الدنيا
2 – جدية الصحابة في الامتثال لشريعة الله
3 – تشويه صورة المتدينين في الإعلام
4 – الدعوة للصبر على الأذى في سبيل الدعوة والدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأحبة:
أهلاً وسهلاً والسلام عليكم وتحية منا تزف إليكم أحبابنا ما أجمل الدنيا بكم لا تقبح الدنيا وفيها أنتم
أيها المسلمون، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (1/1513)
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما
سيرة وتاريخ
تراجم
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض فضائل الصديق. 2- بعض فضائل الفاروق. 3- تسابقهما في طاعة الله. 4- بعض
ما جاء في فضلهما معاً. 5- ولاية الصديق لأمر المسلمين وبعض ما صنعه في خلافته. 6-
ولاية الفاروق لأمر المسلمين وبعض ما صنعه في خلافته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: ستكون خطبتنا اليوم عن أفضل رجلين في هذه الأمة، أفضل رجلين بعد النبي صلى الله عليه وسلم.. الأول عبد الله بن عثمان، أبو بكر الصديق.. عتيق رضي الله عنه، والثاني الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنني أعلم عدم استطاعتي أن أفي الرجلين حقهما في الوصف وذكر المناقب في خطبة واحدة، ولكن هي وقفات نقفها عند بعض صفاتهما ومناقبهما لنتعرف خلالها على تاريخ رجلين من سلفنا الصالح وسيرتهما المضيئة التي هي امتداد لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتي أُمرنا بالسير عليها والاهتداء بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)).
فأبو بكر أسلم دون تردد، وصّدق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به دون ريبة أوشك، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: ((ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له عنده كبوة وتردد غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم)).
لقد كان رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وصاحبه في الهجرة.. دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه حينما آذاه كفار قريش عند الكعبة وقال لهم: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)، فضربوه حتى أدموا وجهه، وأغمي عليه رضي الله عنه عند الكعبة فنقل إلى بيته، فأول ما أفاق سأل عن رسول الله فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم اطمأن وهان عليه ما لاقاه مادام رسول الله سالماً.
كان أبو بكر أبيض نحيفاً، لا يستمسك إزاره في حقويه، معروق الوجه ناتيء الجبهة أكحل العينين سابل اللحية واضح الثنايا أحمش الساقين. يضرب شعره شحمة أذنيه، هيناً ليناً متواضعاً كريماً تعرف فيه الخير حين تراه. وكان أبو بكر رضي الله عنه معروفاً بالتجارة، لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أربعون ألف درهم فكان يعتق منها ويقوي المسلمين حتى قدم المدينة بـ (5000) درهم ففعل فيها مثلما كان يفعل بمكة.
وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أرحم أمته بأمته، وأنه أحب الرجال إليه حيث سأله عمرو بن العاص فقال: قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)) قلت: إنما أعني من الرجال قال: ((أبوها)).
شهد أبو بكر رضي الله عنه بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها، وكانت معه الراية يوم تبوك، وكان فيمن ثبت يوم أحد مع رسول الله، وحج بالناس في السنة الـ 9 هـ.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، فقدمنا أبا بكر).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما لأحدٍ عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله)). أي يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمان، والخلة أعلى درجات المحبة.
أما الفاروق رضي الله عنه، لقد كان إسلامه فتحاً وكانت هجرته نصراً وكانت إمارته رحمة، كما قال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلناهم حتى تركونا نصلي...) أي كفار قريش. والقتال هنا، المضاربة باليد، لأن الجهاد لم يؤذن به إلا بعد الهجرة. لقد أعلن عمر رضي الله عنه إسلامه وجهر به وازداد المسلمون عزه وقوة بإسلامه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)).
وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً عن عمر رضي الله عنه: ((كان فيما خلا قبلكم من الأمة ناس محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب)).
والمحدث هو الملهم وهي منزلة جليلة من منازل الأولياء. وقد قيل عنه رضي الله عنه: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال عمر: إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر.
وقد وافق القرآن قول عمر رضي الله عنه في عدة مواقف منها ما قاله للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحجب زوجاته أمهات المؤمنين فنزل الأمر بالحجاب، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما طاف بالكعبة في العمرة: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزل قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى.
وحينما هجر النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته قال عمر: (عسى ربُّه إن طلقكن أن يبدلهُ أزواجاً خيراً منكن)، فنزل القرآن بمثل ما قال، وكذلك في قصة الصلاة على المنافقين وقصة أسارى بدر وغيرها كثير، وقيل أنها تصل إلى خمسة عشر موقعاً وافق فيها القرآن قول عمر رضي الله عنه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل عمر وعلمه حيث قال: ((رأيت كأني أوتيت بقدح لبن، فشربت منه، فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب)) قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: ((العلم)).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو وضع علم أحياء العرب في كفة ووضع علم عمر في كفه لرجح به علم عمر).
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)) ، قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) رواه مسلم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر دائماً أبا بكر وعمر، وكثيراً ما يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، آمنت به أنا وأبو بكر وعمر، كما حدث في قصة البقرة التي تكلمت، كما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها، التفتت إليه البقرة فقال: إني لم أخلق لهذا، ولكن إنما خلقت للحرث)) فقال الناس: سبحان الله تعجباً وفزعاً: أبقرة تتكلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر)) ولم يكونا موجودين في تلك اللحظة.
وصعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين على جبل أحد فارتج الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)).
أيها الإخوة: إن التنافس على الخير والمسابقة على فعل الطاعات هو دأب سلفنا الصالح، فهذان الخيران الجليلان كانا يتسابقان على فعل الخير، ويتنافسان على فعل المعروف، فكان السبق والفوز من حظ أبي بكر رضي الله عنه. عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي فقال رسول الله: ((ما أبقيت لأهلك؟)) قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله قلت لا أسبقه إلى شيء أبداً. وهذا اعتراف من عمر أنه لا يستطيع التقدم على أبي بكر في معروف.. وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء.
عن حذيفة رضي الله عنه قال :كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لست أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد)) أي عبد الله بن مسعود.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما)).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع أبو بكر وعمر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين)).
هذان الشخصان هما قدوتنا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وسيرتهما شرف لنا نستضيء بها في حياتنا، وباتباعها نفقه ونتعلم المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته، وبالسير على نهجهما تكون النجاة من الوقوع في البدع والمحدثات، وبالاقتداء بهما في فهمهما للقرآن والسنة نسلم من التأويلات الفاسدة ونسلم من فهم أهل الأهواء السقيم وتغليطاتهم الرديئة.
هذان اللذان كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمعت الأمة على فضلهما على جميع الخلائق بعد الأنبياء، أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة والآل ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم.
أسأل الله العلي العظيم أن يجمعنا بهم مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مستقر رحمته وأن يملأ قلوبنا بحبهم، وإننا نقول ما قاله الله تعالى: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
توفي النبي صلى الله عليه وسلم فخلفه الصديق رضي الله عنه، وكان عثمان أبو قحافة والد أبي بكر بمكة، فسأل عمن ولي أمر المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ابنك.. فسأل هل رضي الناس بذلك؟ قالوا: نعم، قال: فإنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
لقد ارتجت المدينة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا بكر حينما جاءه الخبر ثبت ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى في فراشه فكشف عن وجهه الغطاء، وقبل جبينه وقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله موتتين أبداً.. فخرج على الناس وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) ثم قرأ: إنك ميت وإنهم ميتون ثم تلى قوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين فنشج الناس يبكون.
وبعد ذلك حينما بويع بالخلافة أمضى جيش أسامة الذي عقد لواءه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه طلب من أسامة أن يترك عمر لديه ليستعين به.. انظروا أيها الإخوة يستأذن الخليفة من قائد الجيش بأن يترك لديه شخصاً من الأفراد.. فيأذن القائد لعمر بالبقاء مع الخليفة.. وبعد أيام وإذا بالخليفة يحمل متاعاً يريد أن يبيعه في السوق، فيعترضه بعض الصحابة ومنهم عمر، فسئل أبو بكر أين تريد يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: السوق فقيل له: ماذا تصنع وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالوا له: انطلق حتى تفرض لك شيئاً.. فقالوا لأنفسهم: افرضوا لخليفة رسول الله ما يغنيه، قالوا: نعم، برداه إذا اخلقا وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره إذا سافر، أي دابة يركبها، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف، قال أبو بكر: رضيت.
فلما حضرته الوفاة: وكان عنده بعض الدراهم لم يصرفها، قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين، فإني لا أخلف في منزلي من مالهم شيئاً، وارضي التي بمكان كذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم، ولقوح وعبد صيقل وقطيفة كانت تساوي خمسة دراهم، فقال عمر: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده.
لقد أعز الله الإسلام بخلافة أبي بكر رضي الله عنه حينما حارب المرتدين وأعادهم إلى الإسلام واتخذ قراره الشهير في محاربتهم دون هوادة. ولقد كان أبو بكر يراقب نفسه، حيث دخل عليه عمر بن الخطاب وهو آخذ بلسانه ينضنضه، فقال عمر: قلت سبحان الله!! فقال: إن هذا أوردني الموارد، ويقال: إنه كان يقول عن لسانه لساني سبع في فيّ إن أرسلته أتي علي.
توفي أبو بكر رضي الله عنه بعد أن عهد بالخلافة لعمر رضي الله عنه، ويروى أنه قد وضع له السم في الطعام فمرض ثم مات من أثر هذا السم بعد أن بقي في الخلافة عامين.
فتولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومكث في الخلافة عشر سنين.
أول ما تولى الخلافة حدد ما سيأخذه من بيت مال المسلمين حيث قال رضي الله عنه: (يحل لي حلتان: حلة الشتاء وحلة القيظ، وما أحج عليه واعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد ذلك من المسلمين يصيبني ما أصابهم).
ولو تكلمت عن عمر رضي الله عنه الأيام والليالي الطوال لما أتيت على خصاله.. فعن ماذا أتكلم؟ عن جهاده وفتوحاته العظيمة ضد الروم والفرس؟... عن تنظيمه للجند وبيت المال ولكثير من الولايات والأمارات وكل ما من شأنه صلاح الدولة الإسلامية؟ أم عن عدله في رعيته ومحاكمة الولاة إذا ما تعدوا وأساءوا استخدام السلطة؟ أم عن محافظته على سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بها وتأديب كل من حاول الإحداث في الدين؟ أم عن سهره ومراقبته لكل ما يحدث في البلاد ومتابعته بنفسه لكل صغيرة وكبيرة؟ أم عن زهده وتقشفه وتواضعه لدرجة أنه ظهر على ثوبه أكثر من عشرة رقع؟ أم عن قبوله النقد العلني أمام الناس وهو على المنبر من أي فرد من الأمة وتراجعه أو دفاعه عن نفسه أمام الملأ؟
مثل ما حدث له حينما قال: اسمعوا وأطيعوا أيها الناس، فرد عليه أحد الصحابة وقال: لا سمع لك ولا طاعة.. قال ولم؟ قال أعطيت الناس، كل واحد ثوباً وأنت أخذت ثوبين، فقال لابنه: قم يا عبد الله وأخبره خبر الثوبين.. فقال عبد الله: إن أبي رجل طوال ولا يكفيه ثوب واحد، فأعطيته ثوبي إلى ثوبه ليلبسه.. فقال الصحابي: الآن قل نسمع ونطيع.
أيها الإخوة: عن أبي خصلة أتكلم؟ لا أدري.
أيها الإخوة: إنها فقط إشارات ووقفات سريعة. خرج عمر رضي الله عنه إلى المسجد وهو مريض وقد وصف له العسل، وكان في بيت المال عسل فحينما أتى المنبر فقال للناس: إن أذنتم لي فيها أخذتها وإلا فإنها علي حرام، فأذنوا له فيها.
خرج ابنه عبد الله واشترى غنماً بأربعين ألف درهم، فحينما رآها عمر عرف أنها تساوي أضعاف هذا الثمن.. فقال: لقد أعطوك هذه الغنم بهذا الثمن لأنك ابن أمير المؤمنين، ولكنني سوف أبيعها وأعطيك ضعف ثمنها الذي اشتريتها به والباقي يعاد إلى بائعها الأول، فباعها بأربعمائة ألف درهم فأعطى ابنه ثمانين ألف درهم وأرسل 320 ألف درهم إلى البائع الأول.
لقد كان عمر رضي الله عنه يسأل عما صرف على رحلته إذا حج، فقد سأل مرة الرجل المؤتمن على الصرف من بيت المال كم صرفت في حجتنا هذه؟ قال: خمسة عشر ديناراً، وكان يقترض أحياناً من بعض الناس لحاجته، فقيل له: ألا تأخذ قرضة من بيت المال؟ قال: فإذا مت قلتم دعوها لورثته، فأسأل عنها يوم القيامة.. لا ولكنني آخذها من رجل حريص شحيح، فإن مت أخذها من ميراثي.
إن عمر بن الخطاب هو أول من وضع التأريخ في المراسلات والكتب، واعتبر سنة الهجرة هي بداية التاريخ بعد أن استشار الصحابة وقال أؤرخ لمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه فرق بين الحق والباطل، وهو أول من دعي أمير المؤمنين.
لقد كان يأمر الناس وينهاهم ثم يأتي إلى أهله ويقول: قد سمعتم مقالتي: فإن أتي أحد منكم شيئاً مما نهيت عنه ضاعفت له العقوبة.
وقد كانت فاجعة قتله في صلاة الصبح من أبي لؤلؤة المجوسي يوم الأربعاء في آخر محرم سنة أربع وعشرين للهجرة، ودفن في الحجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بعد أن استأذن من عائشة رضي الله عنها فأذنت له، وقد كان رأس أبي بكر بمحاذاة كتف النبي صلى الله عليه وسلم ورأس عمر بمحاذاة وسط النبي صلى الله عليه وسلم. رضي الله عنه وعن أبي بكر وعن جميع الصحابة والآل. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1514)
أثر الذكر على الفرد والمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شغل اللسان بالذكر بشغله عن المعاصي. 2- بعض الأذكار المأثورة في بعض المواطن.
3- فضل بعض الأذكار. 4- دعاء الاستخارة وفضله. 5- الحث على المواظبة على ذكر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة:
إن ذكر الله عز وجل هو الحصن الحصين من كل شيطان رجيم، وهو خير الأعمال وأزكاها عند ربنا، وأرفعها في درجاتنا، وهو خير من إنفاق الذهب والفضة، وفيه الوقاية من مصارع السوء وحفظاً للعظام والمفاصل، وهو الحياة للقلوب وبه تنال الشفاعة وحسن الخاتمة. ولما له من أهمية عظيمة فقد أمرنا الله بالذكر عند لقاء العدو. قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وكذلك أمر بذكره سبحانه وتعالى بعد أداء الفرائض، ومنها الحج كما قال سبحانه وتعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله.
أيها الإخوة: وإن مما يعين على حفظ اللسان من الغيبة والنميمة واللغو تعويده على ذكر الله في كل الأحيان، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو سيد الذاكرين، أنه قال: ((أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)) : وأفضل الذكر قراءة القرآن ثم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أذكار تقال طرفي النهار وفي الليل.. ولكن أين الناس من قراءة القرآن وخاصة فيما له فضل خاص من السور والآيات.. مثل سورة تبارك والإخلاص والمعوذتين... ومثل آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة؟ أين الأمة من الصلاة على النبي في الصباح عشراً وفي المساء عشراً؟.
أين المسلمون من الترديد خلف المؤذن، ثم الصلاة على النبي، ثم قول الدعاء: ((اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)) حتى ينالوا الشفاعة يوم القيامة.
أين المسلم من ذكر الله تعالى عند خروجه من بيته فيقول: ((بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيقال له: كفيت ووقيت وهديت)) فيأتي شيطان ليؤذيه فيقول له شيطان آخر: ما بالك بإنسان كفي ووقي وهدي. فإذا ركب السيارة قال: ((بسم الله والحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون)).
فإن أراد السفر ذكر دعاء السفر المعروف، وإن أراد السوق ذكر الدعاء المناسب... وإن ذهب إلى المسجد فدخل، قدم رجله اليمنى وقال: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم أغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك)). أما عند الخروج فيقدم رجله اليسرى ويقول الدعاء والذي آخره: ((اللهم افتح لي باب فضلك)) ، أو: ((إني أسألك من فضلك)). مع الالتزام بالأذكار التي تقال بعد الصلاة.
ثم إذا عاد إلى بيته سلم على أهله، وإذا جلس على الطعام قال: بسم الله وأكل مما يليه، وإذا انتهي قال: ((الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة)) فيغفر له ما تقدم من ذنبه.
وكذلك إذا لبس ثوباً جديداً قال: ((الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة)) فيغفر له ما تقدم من ذنبه.
فسبحان الله العظيم نأكل ونشرب ونلبس، فنحمد الله على ذلك فيغفر لنا، أين المسلمون من الجلوس في المساجد لقراءة القرآن ومدارسته، ولتعلم العلم والعمل به فيباهي الله بهم الملائكة، فإذا قاموا قال لهم: ((قوموا مغفور لكم)).
أين الناس من التسبيح والتهليل والتكبير والإستغفار حتى ينالوا من الفضائل ما الله به عليم. عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس)).
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان للرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)) هذان الذكران العظيمان مطلقان غير مقيدين بوقت ولا عدد ولا مكان، وفيهما الخير الكثير. فهل عجزنا أن نكررهما في بيوتنا وأسواقنا وسياراتنا لنحصل على الخير الكثير؟ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟)) فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: ((يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة. أو يحط عنه ألف خطيئة)).
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)). و((من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)).
فهل عجز الناس عن قول هذا الذكر خلال ربع ساعة في الصباح لينالوا هذا الخير العظيم. أين المسلمون من الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل حتى يكثر الخير وتعم البركة وتنزل الأمطار ويكثر الأولاد الصالحون؟. أم أننا كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول؟. نشتكي القحط وقلة البركة في المال والذرية ولا نفكر في التوبة وكثرة الاستغفار، فإنه من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل همّ فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب، كما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: في الذكر طمأنينة وراحة نفسية وانشراح للصدور، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. فاللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك عابدين يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
إن من أنواع الذكر أيها الإخوة دعاء الاستخارة وهو ذكر مهم يجب علينا تعلمه، جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: ((إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسمي حاجته - خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجله وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجله وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضّني به)).
فأين الناس من هذا الفعل، إذا ما أراد أحدهم سفراً أو تجارة أو زواجاً أو امتلاك شيء. إنه مع الأسف الشديد يذهب بعض الناس للكهان إذا ما أراد أن يتزوج فيعطي الكاهن اسمه واسم أمه واسم خطيبته واسم أمها ليعمل لهم الخيرة التي هي تنجيم وادعاء علم الغيب. فيقعون في الذنب العظيم والعياذ بالله.
أيها الإخوة: هذه الاستخارة الشرعية التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مثل ما يعلمهم السورة من القرآن، والواجب علينا تعلمها وفعلها عندما نحتاج إليها في حياتنا وأن لا نحيد عنها إلى غيرها من الأمور المشبوهة والبعيدة عن شرعنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: وإن على كل سلامى في أجسامنا صدقة، أي كل مفصل أو كل عظم، وعدد العظام أو المفاصل في جسم الإنسان 360 مفصلاً فعلى كل منا أن يقدم صدقة فدية عن عظامه حتى تسلم بأمر الله تعالى، وهذه الصدقة إما تسبيح أو تهليل أو تكبير أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو مساعدة المحتاج ويكفي من ذلك صلاة ركعتين في الضحى.
فهل غفل المسلمون عن هذا لكي يحافظوا على عظامهم ومفاصلهم من أن يصيبها شيء؟ وإذا أراد أحدنا السفر بأي وسيلة كانت فهناك ذكر يقال عند السفر وهو: ((الله أكبر الله أكبر الله أكبر سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وأنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى. ومن العمل ما ترضي اللهم هون علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل)). والمسافر عند خروجه من بيته يقول لأهله أو لمن يودعه: ((أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه)) فيرد المقيم على المسافر: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)). فإذا نزل المسافر منزلاً في أثناء سفره يقول: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) فلا يصيبه شيء في منزله ذلك ولا في سفره بإذن الله تعالى.
هذه الأذكار أيها الإخوة وغيرها من أذكار الصباح وأذكار المساء الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي يجب أن تكون على ألسنتنا وهناك أذكار كثيرة تقال عند زيارة المريض وعند رؤية الهلال وعند نزول المطر وعند النوم وعند الاستيقاظ من النوم وعند الوضوء وبعد الوضوء وعند الجماع كل هذه الأذكار والأدعية في مجموعها مما يحفظ الإنسان من الشيطان ومن الحوادث والبلاء، فلا يرد القضاء إلا الدعاء كما جاء في الحديث الثابت.
فأين الناس من هذه الأدعية والأذكار؟ أين إفشاء السلام؟ الذي ينشر المحبة بين المؤمنين ويجعلهم متوادين متراحمين؟
أيها الإخوة: إن في الأذكار الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة الدواء من كثير من الأدواء والمشكلات النفسية والاجتماعية، ولنأخذ مشكلة واحدة تقض مضاجعنا وهي مشكلة الحوادث المرورية.. لقد عقدت مؤتمرات واجتماعات من جهات مختلفة وكنت أتابعها عبر وسائل الإعلام وأنظر إلى هؤلاء المؤتمرين باستغراب ودهشة.. لأن كل كلامهم مثل كلام عوام الغرب.. السرعة قاتلة... مهمة ربط حزام الأمان..... احترام الإشارة المرورية..وأمور مادية بحتة وكأنهم ليسوا من هذه الأمة المحمدية، أنا لا أعارض النواحي المادية وأهميتها ولكن أين الأمور الشرعية ؟، لا بد من الأمرين.
((أعقلها وتوكل)) فلماذا لم يتكلم المؤتمرون عن أهمية صلاة الفجر وركعتي الضحى والأذكار التي تقال عند الخروج من المنزل وعند ركوب السيارة وعند السفر وعند نزول المنزل؟ ألم يتعلموا في هذه البلاد؟ إنه لشيء عجيب حقاً.
فيا أمة محمد التزموا بالشرع وحافظوا على الذكر في كل أوقاتكم تسعدوا في الدارين.
(1/1515)
أثر الذنوب والبدع على الفرد والمجتمع
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من ذنوب الشهوات والشبهات. 2- الفرق بين ذنب الشهوة والشبهة. 3- المعاصي
ميراثنا عن الأمم السابقة. 4- أثر المعاصي على القلب. 5- أثر المعاصي على المجتمع. 6-
أثر البدع في تفرقة الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله بعث إلينا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لينقذنا من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد. لينقلنا من ذل المعصية إلى عز الطاعة فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين.. ليخرجنا من ظلمات الأهواء والابتداع إلى نور الحق المبين الذي جاء به سيد المرسلين وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال تعالى: ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين.
أيها الإخوة: كلنا خطاءون، وخير الخطائين التوابون، والله يحب من عبده أن يتذلل له ويستغفره ويتوب إليه مما وقع فيه من شهوة أو شبهة خالف فيها أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه الشهوات والشبهات التي انتشرت في أيامنا هذه على جميع المستويات دون خوف أو وجل إلى حد المجاهرة بها والعياذ بالله.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) أي أن كل مذنب يرجى له التوبة والمغفرة إلا المجاهر الذي يعلن بالمعصية والمنكر، أو البدعة والإحداث في الدين.
فالمعاصي والشهوات والبدع والشبهات لها آثار على الفرد والمجتمع سأتكلم عنها باختصار.
أيها الإخوة: إن للمعاصي آثاراً على الفرد والمجتمع، فمرتكب المعاصي والمنكرات محروم من نور العلم الشرعي فإن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي ومحروم من الطمأنينة والراحة النفسية، وإن كثر ماله وزاد سلطانه، فهو في وحشة يجدها في قلبه ويعيش في قلق نفسي وفي اضطراب مستمر وفي جو مشحون بالانفعالات مع أقاربه ومع أهل الخير.
أيها الإخوة: إن كل معصية من المعاصي ميراث عن أمة من الأمم السابقة، ففعل الفاحشة والمجاهرة بها ميراث قوم لوط، والتسلط والتجبر على الناس والفساد في الأرض ميراث فرعون، وأكل أموال الناس بالباطل وبخسهم في أموالهم ميراث أصحاب الأيكة قوم شعيب عليه السلام.. والإسراف والتبذير في الأموال وإنفاقه في غير وجهه الشرعي والبطش والظلم ميراث عاد وثمود.. فمن وقع في شيء من هذه الذنوب فإنه سيناله شيء من العذاب مما جاء الأمم السابقة عاجلاً أم آجلاً في الدنيا وفي الآخرة إلا أن يشاء الله أو أن يتوب ويعود إلى الله، وإن لم يتب فإنه سيناله الإهانة ومن يهن الله فما له من مكرم.
أيها الإخوة: وإن من آثار الذنوب على الفرد أنها تورث الذل فإن العز كل العز في طاعة الله من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً أي فليطلبها بطاعة الله. قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
وإن الذنوب أيها الإخوة إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. هذا من ناحية آثار المعاصي على الفرد ذكرنا بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر. أما آثارها على المجتمع أو على الأمة كلها.
فأقول أيها الإخوة: إن انتشار المعاصي والذنوب له أضرار على المجتمعات الإنسانية، بل يتعدى الضرر إلى البهائم والزروع والجمادات. قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر الأسود: ((إنه من حجار الجنة كان أبيض من الثلج حتى سودته خطايا بني آدم)). فلا يظن ظان أن المعصية ضررها على نفسه فقط أو على من حوله فقط، بل تتعدى أضرارها إلى الأمة كلها صالحهم وفاسقهم، فهؤلاء بعض أفراد من الصحابة رضي الله عن الجميع خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصريح بعدم مغادرة الجبل في غزوة أحد، فنزلوا من الجبل مخالفين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا كانت العاقبة؟ لحق النبي صلى الله عليه وسلم أذى، وجرح وجهه الشريف وسال دمه الطاهر وقتل من الصحابة سيد الشهداء ومعه أكثر من ستين صحابياً.
لذلك، يا أيها الإخوة علينا أن لا نرضى بالمعاصي والمنكرات وننكرها بالقلب واللسان، واليد إذا كان لنا سلطة، ونبغضها ونبغض أهلها ومن يدعو إليها ويسكت عنها، فالسكوت والرضا بالمعصية كفعلها.... وما هذا الذي تعيشه الأمة من الجور والقحط والذل والهوان إلا بسبب المعاصي... فحينما انتشرت الفواحش ابتلينا بالأمراض التي لم تكن في أسلافنا، وحينما ظهر الغش في البيع والنقص في المكيال والأوزان، ابتلينا بالقحط وجور السلطان، وحينما تحايلت الأمة عل الزكاة وإخراجها قلّ المطر، ولولا البهائم لم تمطر السماء.. وحينما ركنّا إلى الدنيا ورضينا بالزرع وتبايعنا بالعينة سلط الله علينا ذلاً فأصبحنا شذر مذر بين الأمم، تداعوا علينا وقطعوا أوصالنا ونهبوا ثرواتنا، وأصبحت سفينتنا على شفا جرف هار.. فإن لم نأخذ على يد السفيه ونعيده إلى الحق ونعيد الأمة كلها إلى الجادة ونغرس في أنفسهم الإيمان والعمل الصالح والاستعداد للجهاد، فإن النكبات ستتوالى وستغرق السفينة إن لم يتداركها الله برحمة منه وفضل، وعندها نعض على الأنامل ولا ساعة ندم يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد أن عرفنا أيها الإخوة بعضاً من أضرار المعاصي على الفرد والمجتمع وأثر الشهوات على الأمة نلقي شيئاً من الضوء على أثر الشبهات والأهواء على الأمة الإسلامية.
وهذه الشبهات والبدع أخطر على الأمة من الشهوات والمعاصي.. لأن صاحب المعصية حتى وإن جاهر بها مكابراً فهو في قرارة نفسه يشعر بأنه مرتكب لذنب وأنه مقصر، أما صاحب البدعة فإنه يرى نفسه بأنه عابد يتقرب إلى الله بالطاعة التي قصر عنها غيره من العاجزين والمتكاسلين حسب زعمه.
فما هو أثر هذه البدع والأهواء؟ ما هو أثر هذه الشبهات بين الأمة؟ إن أثر ذلك أيها الإخوة هو التفرق والتناحر والتباغض.. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التفرق، وبيّن أن كل فرقة هي في النار إلا فرقة واحدة، هي التي سارت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حيث جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه اليوم وأصحابي)).
فلماذا هذه الدعوات والاحتفالات والابتداعات التي ليست مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ألا يكفينا من العبادات والقربات ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ هل قمنا بكل العبادات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من طلب للعلم وذكر في كل الأوقات وصلاة وتسبيح وصدقة وجهاد في سبيله وصلة للأرحام وتواد وتراحم وتناصر وفعل للخيرات وترك للمنكرات؟ هل هؤلاء المبتدعون أهدى سبيلاً من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى يخترعوا قربات وعبادات لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ألا يريد الناس أن يكونوا من الفرقة الناجية التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في الجنة من بين الفرق الأخرى فيسلكوا طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. ويسلكوا طريق الأئمة الأربعة وغيرهم من التابعين والعلماء كالإمام البخاري والترمذي وأبي داود والإمام مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم وغيرهم ممن عاشوا في القرون الثلاثة المفضلة.
لماذا يتعصب بعض الناس لإمام من الأئمة كالشافعي أو أبي حنيفة أو مالك أو أحمد بن حنبل رحمهم الله جميعاً.. في مسألة فرعية؟ ولا يتبعوهم في الأصول ومسائل الإتباع وعدم الابتداع؟ هل هؤلاء المبتدعة يرون أنهم أحسن من الأئمة في هذه المسائل؟
أيها الإخوة: لقد أمر الأنبياء باتباع ما أنزل عليهم وحذروا من اتباع أهل الأهواء، والأمر للجميع والتحذير للجميع. قال الله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير [الشورى:13-15].
وقال سبحانه وتعالى: لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
(1/1516)
آداب الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الدعاء من العبادة. 2- موجبات إجابة الدعاء. 3- كيف يجيب الله دعاء الداعي. 4-
بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم والمخصوصة ببعض الحالات والمواطن.
5- فضل الاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: تكلمت في الخطبة الماضية عن الذكر وفضله وأهميته، وإن الدعاء من الذكر، لذلك سوف أتكلم اليوم بإذن الله تعالى، عن الدعاء وآدابه وعن بعض الأدعية والأذكار التي لها فضل كبير والتي ينبغي على كل مسلم حفظها والعمل بها كل يوم ليزيد في درجاته ويكثر من حسناته ليفوز برضوان ربه وغفرانه.
أيها الإخوة: إن الله عز وجل أمرنا بدعائه وسؤاله في كل حين، والذي لا يسأل الله سبحانه وتعالى فإنه يغضب عليه. كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه)).
والدعاء أيها الإخوة: هو العبادة. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)) وقال الله تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم ذاخرين ، أي صاغرين. فالله عز وجل قال: ادعوني ، ثم قال: إن الذين يستكبرون عن عبادتي أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم صاغرين، فالدعاء هو العبادة. قال الله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين)).
واعلموا أيها الإخوة: أن للدعاء آداباً ينبغي على المسلم أن يلتزم بها في دعائه، من هذه الآداب، أن يكون المسلم على طهارة وأن يكون مستقبلاً القبلة إن استطاع، وأن يبدأ الداعي بالحمد والثناء على الله عز وجل ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل دعاءٍ محجوب حتى يصلى على النبي)) صلى الله عليه وسلم. وأن يكون صوت الداعي منخفضاً، ويكرر الدعاء ثلاث مرات وأن يتخير الداعي الأوقات والأحوال التي تكون أرجى للإجابة. مثل آخر الليل في السحر، أو في السجود في الصلاة، أو عند السفر أو عند نزول المطر. أو بين الآذان والإقامة، أو قبل التسليمتين في الصلاة، وآخر النهار يوم الجمعة، وفي الوتر من العشر الأواخر من رمضان، لعله يصادف ليلة القدر، ويوم عرفة.
وعلى المسلم أن يدعو الله في الرخاء والشدة. مع الإلحاح في الدعاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء)). وعلى العبد المسلم أن لا يستعجل الإجابة، وألا يدعو بإثم أو بقطيعة رحم مع يقينه بالإجابة، فالله عز وجل يعلم ما هو أنفع لعبده، فالداعي إما أن يستجاب له، أو أن يصرف عنه من السوء على قدر دعائه، أو أن تدخر له الإجابة والأجر يوم القيامة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، أو يدخر له من الأجر مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) ، وفي رواية: ((ما لم يعجل، يقول: قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي)) فقال رجل: إذاً نكثر؟ قال: ((الله أكثر)).
ومن أراد أن يكون مجاب الدعوة فلا يأكل إلا حلالاً طيباً ولا يشرب إلا حلالاً طيباً، ولا يلبس إلا حلالاً طيباً.
ومن آداب الدعاء أيها الإخوة: أن يتخير المسلم من أسماء الله تعالى ما يناسب ما يريد الداعي أن يدعو به ربه سبحانه وتعالى فمثلاً إذا أراد طلب الرزق يسأل الله بأسمائه: الرزاق الكريم الغني الحميد بالإضافة إلى أسماء الله الأخرى المناسبة، أما إذا أراد أن يدعو على الكفار، فيسأله بأسماء: العزيز الجبار الواحد القهار، أما إذا أراد أن يدعو الله بالمغفرة والرحمة فيسأل الله بأسماء: الغفور الرحيم ذو الجلال والإكرام وهكذا.
وعلى الداعي أن يكون حاضر القلب أثناء دعائه فإن الله لا يستجيب دعاء الإنسان الغافل الذي يدعو بلسانه بينما قلبه منشغل بأشياء أخرى، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وأعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ)).
أيها الإخوة: إن على الإنسان أن يكثر من الدعاء في كل الأوقات وأن يدعو لنفسه أولاً ثم لأهله وأقاربه وجيرانه وإخوانه المسلمين، فإن في الدعاء تحقيق للعبودية لله تعالى، وفيه من الخضوع والخشوع والتذلل لله سبحانه وتعالى ولكننا نرى بعض الناس لا يدعو لنفسه ولا لأولاده وأهله وإخوانه المسلمين، إنما تعلق قلبه بدعاء الأئمة والخطباء يوم الجمعة أو في دعاء القنوت في التراويح في رمضان، بينما هو لا يدعو لنفسه أبداً، فهذا مخالف لمنهج السلف الصالح، فهذه عائشة رضي الله عنها تسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمها دعاء تقوله في ليلة القدر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) فلاحظوا أيها الإخوة أن عائشة رضي الله عنها ما طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم علمها دعاءً تقوله هي بنفسها، وفي ذلك إشارة مهمة إلى أن الأصل أن يدعو الإنسان بنفسه في كل الأحوال، ثم على المسلم أن يتخير من الأدعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتمسك بجوامع الدعاء. كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك ويتعلم تلك الأدعية من القرآن والسنة وأن يخلص لله تعالى في دعائه وأن يخلص النية فإنما الأعمال بالنيات. اللهم وفقنا لم تحب وترضى واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن الأدعية والأذكار الثابتة بالقرآن والسنة النبوية الصحيحة ،كثيرة جداً تملأ عشرات بل مئات الصفحات.. فعلينا أن نلتزم بالثابت الصحيح وندع ما سوى ذلك.
وأفضل هذه الأدعية والأذكار والفاتحة: أم الكتاب، وهي رقية من لدغة العقرب كما هو معروف وثابت بالسنة النبوية، أما قراءتها على روح الميت، أو عند الخِط ْ بة، خطبة النساء أو عند إجراء العقود، كل هذه الأمور غير ثابتة بل هي من المبتدعات والمحدثات التي ينبغي على المسلم أن لا يفعلها.
ثم تأتي سورة البقرة التي لها فضل عظيم في حفظ البيت الذي تقرأ فيه، تحفظه من الشيطان ومن السحرة، وفيها آية الكرسي التي من قرأها صباحاً يحفظ يومه ذاك من الشيطان حتى يمسي، وإذا قرأها مساءً يحفظ ليله من الشيطان حتى يصبح. وأيضاً من قرأها دبر الصلاة ثم مات دخل الجنة كما جاء في الحديث عن أبي أمامة أنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)) وخاتمتها – أي خاتمة سورة البقرة - آيتان من سأل بهما الله أعطاه، ومن قرأهما في ليلة كفتاه.
وسورة الإخلاص والمعوذتان لها فضل عظيم وأجر كبير وٍحرز من الشيطان والعين، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما ثم قرأ الإخلاص والمعوذتين فمسح بهما وجهه وجسمه. يفعل ذلك ثلاث مرات، لاحظوا أيها الإخوة أن الفائدة المرجوة من هذه الآيات والسور تكون بقراءتها – قراءة تدبر ووعي وفهم – وليس بتعليقها في لوحة أوخرقة، أو ميدالية ذهبية تعلق على صدور الأطفال. فكل هذه الوسائل المحدثة يجب على المسلمين عدم فعلها، وعليهم أن يفعلوا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته ودعائه وذكره حتى يقبل منهم هذا العمل.
أما الأذكار الثابتة من السنة النبوية فأفضلها التهليل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شئ قدير. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)) وقول: ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خير مما طلعت عليه الشمس)) ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه ذكراً ودعاءً ينبغي لنا حفظه وتعلمه حيث قال له: ((ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملئ ما خلق، الحمد لله عدد ما في السموات وما في الأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله على ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملئ كل شيء، وتسبح الله مثلهن، تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك)).
أيها الإخوة: جاء في الحديث المتفق عليه: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)).
وأختم بهذا الذكر الذي من قاله مرة أعتق ثلثه من النار، ومن قاله مرتين أعتق ثلثيه من النار، ومن قاله ثلاث مرات أعتق كله من النار، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وهذا الذكر هو: ((اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك وأشهد من في السموات ومن في الأرض أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك)).
أيها الإخوة: لم أقصد في خطبتي هذه حصر الأدعية والأذكار الثابتة بالقرآن والسنة، ولكنني قصدت الإشارة.
وبالرجوع إلى كتب السنة الصحيحة يمكن الإطلاع على تلك الأدعية والأذكار، وإذا كان يصعب على المرء الرجوع إلى كتب السنة فعليه بكتاب رياض الصالحين للإمام النووي، والذي أرى ألا يخلو منه بيت مسلم، ففيه من الأمور الشرعية التي لا يستغني عنها كل من أراد الزيادة في الأجر والبعد عن الوزر.كما ينبغي على كل مسلم أن يكثر من الاستغفار بقول: أستغفر الله، أستغفر الله أو يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، أو يقول: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، فإن في كثرة الاستغفار فرج من كل همّ، ومخرج من كل ضيق، ورزق من حيث لا نحتسب. قال الله تعالى: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً وكذلك يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة في هذا اليوم يوم الجمعة، فإن في كثرة الصلاة عليه تفريج للكرب ومغفرة للذنب وزيادة في الرزق.
فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه عدد ما خلقت وعدد ما تخلق إلى يوم القيامة يا رب العالمين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1517)
آداب وسنن الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, اللباس والزينة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشبه كثير من المسلمين بعادات النصارى وأمثالهم. 2- سنن الفطرة. 3- أزرة المسلم
ولباسه. 4- آداب العطاس والشراب والطعام والنوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً. والحمد لله الذي زيننا بزينة الإسلام، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أيها الإخوة: جاء الإسلام بسنن وشرائع وآداب حافظ عليها أسلافنا ثم اجتالت الأمة، أهواء وشياطين الجن والإنس، فابتعدوا عن هذه الآداب ومالسنن حتى أصبحنا نرى من المسلمين من هو أشبه ما يكون بالنصارى واليهود والملحدين في هيئتهم وزيهم وآدابهم وحياتهم العامة.
وهذا نتيجة التميع والابتعاد عن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو نتيجة عن الابتعاد أيضاً عن سنته وما علمه للأمة من آداب وشرائع ولكن بفضل الله مع ظهور هذه الصحوة بدأت الأمة في الرجوع إلى السيرة والسنة الصحيحة والحمد لله، وسنذكر في هذه الخطبة شيئاً من السنة والمحاسن والآداب التي يجب أن يتميز بها المسلم المتبع لنبيه وسيده محمد صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن تتميز هذه الأمة وأن تكون لها خصوصيتها في جميع شؤونها رضي من رضي وغضب من غضب.
أيها الإخوة: جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء)) قال راوي الحديث مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وقيل: إن العاشرة الختان.
الفطرة هنا هي السنة، وقيل أن معناها من سنن الأنبياء، وقيل الفطرة هي الدين قال تعالى: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
أما البراجم المذكورة في الحديث هي مفاصل الأصابع، ويلحق بها كل ما يجتمع فيه الوسخ والغبار، وكذلك الأذنين والأنف، وأما الاستنشاق فهو إزالة الأوساخ من داخل الأنف وهو من فروض الوضوء، وأما أنتقاص الماء فهو كناية عن الاستنجاء، وإزالة النجاسة بالماء. وأما السواك فهو سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحيانه عند الوضوء وعند الصلاة وعند دخوله المنزل وفي كل وقت، في الصباح وفي المساء وعند قيامه من النوم.
أيها الإخوة: والمقصود بالسواك طهارة الفم وتنظيفه وإزالة الرائحة الكريهة منه ويحصل هذا بالسواك أو بالفرشاة لمن لم يجد السواك أو باستعمال المنظفات والمطهرات والمطيبات ذات الرائحة الزكية فيجب على المسلمين الاهتمام بنظافة الفم والأسنان في كل حين.
وأما قص الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أي حلق ما حول الفرج من الشعر فلا يصح تركه أكثر من أربعين يوماً كحد أقصى كما جاء عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقت َ لهم في ذلك أربعين يوماً، فعلى المسلم أن يقوم بقص أظافره وحلق عانته ونتف إبطه، أو استعمال ما يراه مناسباً لإزالة شعر الإبط إن كان يؤلمه النتف، كل ما طال دون تأخير ولا يحق له أن يتأخر عن أربعين يوماً، ويتساوى في ذلك الرجال والنساء، فلا ينبغي ترك الأظافر أكثر من أربعين يوماً، ولا تأخير إزالة شعر الإبط والعانة أيضاً، وأما قص الشارب أو حفه كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((حفوا الشوارب وأعفوا اللحى)) فيكون تقصيره بأن يؤخذ منه حتى يبدو طرف الشفة العلياً، وأما إعفاء اللحية فهو تركها على حالها. وجاء في رواية البخاري: ((وفروا اللحى)) وقد جاءت روايات أخرى بألفاظ مختلفة مثل أعفوا، وأوفوا، وأرخوا، ووفروا، قال الإمام النوري في شرح مسلم: (ومعنى هذه الألفاظ كلها تركها على حالها).ا.هـ فلا يجوز حلق اللحية، بل إن المرأة لا يجوز لها أن تزيل بعض شعر الوجه (الحاجب) كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)).
فهذا في حق المرأة التي يطلب منها التجميل والتزين للزوج. فكيف بالرجال وهم قد أمروا بإعفاء اللحى؟
وكذلك أيها الإخوة: من الآداب الإسلامية والسنة النبوية ما جاء فيما يخص اللباس والزينة. فعلى المسلم أن يرتدي ما يستر عورته ويتحلى بأحسن اللباس على أن لا يكون فيه حرير لأنه يحرم على الرجال وكذلك الذهب لا يجوز لبسه للرجال وعلى أن يكون اللباس أيضاً واسعاً وغير شفاف وبعيداً عن التشبه والخيلاء وأن يكون أقصر من الكعبين. بالنسبة للرجال، وأطول من الكعبين بقدر شبر بالنسبة للنساء، جاء في الشمائل المحمدية للترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقه أو ساقي فقال: ((هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين)).
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه وكان يقول: (هكذا كانت إزرة صاحبي) يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في صحيح الجامع وهو عند الإمام أحمد في المسند والطبراني وغيره أن عبد الله بن عمر قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلي إزار يتقعقع - أي له صوت أثناء المشي لطوله - فقال: (من هذا؟) فقلت: عبد لله بن عمر قال: (إن كنت عبداً لله فارفع إزارك) فرفعت إزاري إلى نصف الساقين.
وهذا صحابي (كما جاء في الشمائل المحمدية للترمذي) قال بينما أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي يقول: (ارفع إزارك فإنه أتقى) فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء (أي ليست للتكبر أو الغطرسة) قال: ((أما لك في أسوة؟)) فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
وإن الإسلام أيها الإخوة حض على الظهور بالمظهر اللائق للمسلم من ناحية النظافة والتطيب ولبس الثياب الحسنة والانتعال بالنعال الحسن فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح الجامع أنه قال: ((إن الله جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، ويبغض البؤس والتباؤس)) أي الخنوع والخضوع وإظهار ذلك وجاء أيضاً في صحيح الجامع عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من سبعين جزءاً من النبوة)).
وأيضاً جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها)) أي الرديء والحقير منها.
اللهم إنا نسألك أحسن الأخلاق ونعوذ بك من سيئها، اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعلنا هداة مهتدين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
كذلك أيها الإخوة: حض الإسلام على آداب وسنن كثيرة منها صفة المشي، حيث حض الرجال على أن يمشوا مشية ً فيها رجولة دون تبختر ولا ميوعة كما حض الإسلام على غض البصر والتواضع وقلة الضحك، وإفشاء السلام، وحفظ اللسان من الفحش والبذاءة مع شغله بذكر الله عز وجل.
ومن الآداب الإسلامية التي جاءت في شرعنا الإسلامي ألا يتناجى اثنان والثالث معهما لأن ذلك يحزنه فينتظر حتى يخرج الثالث أو حتى يأتي رابع في المجلس، وإذا عطس أحد الحاضرين وحمد الله كان على كل من سمعه أن يشمته، ويقول له: يرحمك الله فيرد العاطس عليه بأن يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.
وعلى المسلم أن يأكل بيمينه سواء أكل بيده أو استخدم أداة لذلك مثل الملعقة أو الشوكة، وكذلك يشرب بيمينه وأن يبدأ ببسم الله وإذا انتهى يحمد لله عز وجل.
وكذلك أن يبدأ بيمينه في لبس الثياب وفي الانتعال وفي الدخول للمساجد، وكذلك يعطي ويأخذ بيمينه، بينما يبدأ بشماله في الدخول للحمام وفي الخروج من المسجد وفي خلع الملابس والنعال ويستعمل شماله في التنظيف والاستنجاء.
وكذلك أيها الإخوة: على المسلم أن يدعُ بالبركة إذا رأى من أخيه ما يعجبه لأن العين حق، وأن يعود المريض ويدعو له بالأدعية الثابتة الصحيحة، وأما إهداء الورد فإنه تقليد النصارى وليس هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إنما هديه الدعاء للمريض، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأما ما يتعلق بالليل والنوم فقد وردت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها أنه قال: صلى الله عليه وسلم: ((من اضطجع مضجعاً، لم يذكر الله فيه كان عليه ترةً يوم القيامة)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((غطوا الإناء، وأوكئوا السقاء وأغلقوا الأبواب وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاءً ولا يفتح باباً ولا يكشف إناءً فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم)) الفويسقة هي الفأرة. وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان فإنهن يرون ما لا ترون، وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل، فإن الله عز وجل يبث في ليله من خلقه ما يشاء وأجيفوا الأبواب - أي ردوها - واذكروا اسم الله عليها فإن الشيطان لا يفتح باباً أجيف وذكر اسمُ الله عليه وغطوا الجرار وأوكئوا القرب وأكفئوا الآنية)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا استيقظ أحدكم فليقل: الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)). بل إن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نهى أن ينام الرجل على سطح ليس بمحجور عليه)) – أي ليس عليه جدار – ونهى صلى الله عليه وسلم أن يضطجع الشخص على بطنه وقال: ((إن هذه ضجعةٌ يبغضها الله تعالى)).
أيها الإخوة: هذه بعض السنن والآداب التي جاء بها الإسلام وعلمنا إياها نبينا صلى الله عليه وسلم فأين الأمة الإسلامية من هذه الآداب الشاملة لحياتنا؟ الشاملة للرجال والنساء والأطفال؟ هذه الآداب والسنن التي تميز هذه الأمة فتجعلها أمة متميزة في مظهرها، متميزة في بيوتها، متميزة في نظافتها، متميزة في توادها وتراحمها، متميزة في حفظها لمجتمعها ولبيئتها وصحتها، متميزة في علمها وتعلمها في ذهابها وإيابها في نومها وصحوتها، متميزة في صلاتها وعبادتها، متميزة في قوتها ونصرتها. أفلا نعود إلى التمسك بهذه الآداب وبهذه السنن ونعلن ذلك في حياتنا كلها ونرفع رأسنا بديننا وبشرعنا حتى نعود لقيادة العالم وسيادته.
(1/1518)
أرأيت إذا صليت المكتوبات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الجنة والنار, الصلاة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث في موجبات الجنة. 2- أهمية إتيان فرائض الله. 3- في فضل صلاة الجماعة. 4-
الترغيب مع الترهيب ، والخوف مع الرجاء. 5- كبائر تمنع من دخول الجنة. 6- فضل لا إله
إلا الله مع العمل بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان، وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) قال أهل العلم: تحليل الحلال باعتقاد حله واحتمال إتيانه وفعله، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع اجتنابه، والحلال هاهنا عبارة عما ليس بحرام، فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح، فيكون المعنى أنه يفعل ما ليس بمحرم عليه ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره ويجتنب المحرمات.
روي عن طائفة من السلف منهم ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين في تفسير قوله تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ، وقالوا: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه.
أيها الإخوة: المراد بالتحليل والتحريم فعل الحلال واجتناب الحرام. كما جاء في الحديث وقد قال الله تعالى في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور الحرم إنما النسيُء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاماً فيحلونه بذلك، ويجعلون شهراً آخر بدلاً عنه حتى تتساوى عدة الأشهر الحرم، وهي أربعة أشهر. ويمتنعون عن القتال فيه عاماً، فيحرمونه بذلك. وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً.
جاء في سبب نزول هذه الآية أن قوماً امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهداً في الدنيا وتقشفاً، وبعضهم حرم ذلك على نفسه إما بيمين حلف بها أو بتحريمه على نفسه، والبعض امتنع منه من غير تحريم ولا يمين، فسمى الجميع تحريماً، حيث قصد الامتناع منه إضراراً بالنفس.
ومن مقاصد الدين حفظ النفس فلا يجوز الإضرار بها، وبكل حال، فهذا الحديث الذي قدمناه يدل على أن من قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة، وقد توافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى أو ما هو قريب منه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبدٍ يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيَّها شاء، ثم تلا: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم )) رواه النسائي.
وأيضاً حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عبد الله، لا يشرك به شيئاً وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة)).
وفي الصحيح عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني بعمل يدخلني الجنة؟ قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان)) قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا شيئاً ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)).
وأيضاً ما جاء في الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: ((الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئاً)) فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: ((شهر رمضان إلا أن تطوع شيئاً)) فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام، فقال الأعرابي: والذي أكرمك بالحق لا أتطوع شيئاً ولا أنقص مما فرض الله علي شيئاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق – أو دخل الجنة أن صدق)).
وقد وردت أحاديث في فضل بعض الأعمال التي يترتب عليها دخول الجنة مثل الأحاديث التي تحض على الصلاة وأدائها جماعة وفي أوقاتها، منها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى الصلوات لوقتها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة)) ، وكذلك الحديث الصحيح عن ابن موسى الأشعري رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى البردين دخل الجنة)) وغيرها من الأحاديث التي تبين أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، وهذا السبب لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه.كذلك الصيام وما جاء في فضله وأنه من صام يوماً لوجه الله باعد الله بذلك اليوم بينه وبين النار سبعين خريفاً.
من هذه الأحاديث وأمثالها مما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يتضح أيها الإخوة أهمية التوحيد توحيد الله في العبادة وأهمية العمل الصالح الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى رأس هذه الأعمال الصلاة وأداؤها جماعة وفي أوقاتها المشروعة ثم بقية الأركان من صيام وزكاة وحج، فإن الله عز وجل يحب من عباده أن يتقربوا إليه بما افترضه عليهم من هذه الأركان.
كما جاء بذلك الحديث القدسي ثم يزداد العبد تقرباً إلى الله بالنوافل كصلاة السنة الراتبة وصيام بعض الأيام المشروعة والمعروفة وأداء ركعتي الضحى وصلاة الوتر والإكثار من الصدقة والذكر المشروع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)).
أسأل الله العلي العظيم أن يهدينا جميعاً سبيل الرشاد وأن يجعلنا هداة مهتدين إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: من الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس أنهم يأخذون بأحاديث الترغيب وما فيها من فضل دون النظر إلى أحاديث الترهيب وما فيها من تحذير ونذير.
ومن هذه الأحاديث التي يتشبث بها الناس أحاديث جاءت في ترتيب دخول الجنة على مجرد التوحيد ففي الصحيحين عن أبى ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك دخل الجنة)). قلت: وإن زنى وإن سرق قال: ((وإن زنى وإن سرق)) قالها ثلاثاً ثم قال في الرابعة: ((على رغم أنف أبي ذر)) فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.
وأيضاً حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمتهُ ألقاها على مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بها عند غير شاك فيحجب عن الجنة)) وغيرها من الأحاديث التي بنفس المعنى.
ولكن هذه الأحاديث تبين أولاً أن مصير الموحد الجنة ولا يمنع من ذلك أن يعذب الموحد بالنار على قدر ذنوبه التي يستحق فاعلها النار تطهيراً له، وثانياً لابد من تحقيق شروط التوحيد وانتفاء كل ما ينقضه من شرك ونفاق حتى يكون العبد من أهل الجنة.
أيها الإخوة: وكما أنه وردت أحاديث في فضل بعض الأعمال التي تكون سبباً في دخول الجنة لا بد للمسلم أن يعرف بعض الأعمال التي تكون سبباً لدخول النار أو مانعاً من دخول الجنة، فقد وردت أحاديث صحيحة تبين أن ارتكاب بعض الكبائر يمنع دخول الجنة مثل: ((لا يدخل الجنة قاطع)) أي قاطع رحم، وحديث: ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)) وأحاديث منع دخول الجنة بالدَّين حتى يقضى.
كما جاءت أحاديث تبين أن من اعتدى على مال المسلم بغير حق فقتل لذلك فهو في النار كما جاء في صحيح مسلم أن رجلاً قال يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: ((لا تعطه مالك)) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: ((قاتله)) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنت شهيد)) قال أرأيت إن قتلته؟ قال: ((هو في النار)) ، والحديث الذي فيه من: ((اقتطع من حق أخيه المسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة وإن كان قضيباً من أراك)).
وكذلك حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت لا هي بالتي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، هذا في حق هرة ضعيفة حيوان صغير فكيف بمن يفعل ذلك مع المسلمين الموحدين.. بل يفعل ذلك مع الصالحين والدعاة المخلصين بإيذائهم وقتلهم أو التضييق عليهم في معاشهم وأرزاقهم نسأل الله العافية.
أيها الإخوة: لا يكفي أن نتمسك بأحاديث الترغيب ونترك غيرها أو نأخذ حديثاً دون الجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى ودون الرجوع إلى فهم السلف له ولأمثاله من الأحاديث، فمثلاً حديث: ((إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله)) ما هو مفهومه؟ وماذا قال أهل العلم في تفسيره؟ قال العلماء: إن التوحيد مقتضٍ لدخول الجنة وللنجاة من النار، لكن له شروط وهي الإتيان بالفرائض، وموانع وهي إتيان الكبائر.
قيل للحسن إن ناساً يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها دخل الجنة.
وقيل لوهب: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال بلى: ولكن ما مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
وقال بعضهم هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص، وإخلاصها وصدقها يمنع الإصرار معها على معصية، وقيل إخلاصها أن تحجزك عما حرم الله.
أيها الإخوة: إن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله الله وحده إجلالاً وهيبة ومخافة ومحبة ورجاءً وتعظيماً وتوكلاً.. ومتى كان كذلك لم يبق فيه محبةٌ ولا إرادة ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإرادتها ووساوس الشيطان.
قال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وقال سبحانه: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان وقال صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الرهم)).
إذاً أيها الإخوة: لا يجتمع الخل والعسل في إناء واحد، فلا تتحقق كلمة التوحيد إلا لمن لم يكن في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله، وإلا كان ذلك يدل على نقص في التوحيد. ويتم ذلك أيها الإخوة بالمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم حق الاتباع دون زيادة أو نقص. قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
أسأل الله العلي العظيم أن يملأ قلوبنا بحبه وحب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وحب آل البيت الطاهرين وأصحابه الغر الميامين وكل من سار على هداهم ونهجهم إلى يوم الدين.
(1/1519)
ارحموا من في الأرض
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الولاء والبراء, مكارم الأخلاق
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحمة صفة للنبي صلى الله عليه وسلم. 2- الرحمة صفة للمؤمنين. 3- رحمة المؤمن
تعم كل من يتعامل معه ، وحتى الحيوان. 4- حرمة مكة وغلظ الذنوب فيها. 5- الغلظة على
المحاربين بدلاً من الرحمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم كان رؤوفاً رحيماً بأمته، وقد وصفه الله عز وجل بذلك وقال عنه سبحانه وتعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. فهذه الرحمة التي كانت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم هي خلقه منذ بعثه الله إلى الناس، ولو لم يكن كذلك صلى الله عليه وسلم ولو كان غليظ الكلام قاسي القلب - حاشاه من ذلك - لانفض الناس عنه وتركوه، ولكن الله جمعهم عليه وألان جانبه صلى الله عليه وسلم لهم تأليفاً لقلوبهم.
وهذه الرحمة - أيها الإخوة - بالمؤمنين كما هي بين المؤمنين يرحم بعضهم بعضاً. كما قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم فهذه الصفة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم رحماء بينهم بينما هم أشداء عنيفون على الكفار.
فالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كان كل منهم رحيماً بالمؤمنين، براً بالأخيار الطيبين الطاهرين من الأمة، غضوباً عبوساً على الكفار، كما قال تعالى: فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين ، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة تصف المؤمنين بهذه الصفة. صفة الرحمة والمودة فيما بينهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)). وهذا التراحم الذي هو من مقومات المجتمع الإسلامي مبني على حسن الخلق وعلى الرفق والتواصي بالحق بين أفراد الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)) وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار)).
وهذه الرحمة بين أفراد الأمة ليست مجرد عاطفة لا تبصر ولا تعقل بل يكون فيها الأخذ على يد الظالم، ويكون فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأيضاً إقامة حدود الله وتطبيق أحكامه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله)) ، وقال تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب وأيضا رد الظالم عن ظلمه رحمة به وهو انتصار له كما قال صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) ونصر الظالم بمنعه من الوقوع في الظلم كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد حض النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على تحقيق التعاون والتراحم فيما بينهم قال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)). وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: ((حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس)).
وهناك كثير من الأحاديث التي فيها الدعوة لكل أفراد الأمة الإسلامية بأن يرحم بعضهم بعضاً، منها ما يخص الحكام والمسؤولين وكل من كان تحته رعية يرعاها، ومنها ما يختص بشؤون الزوجين والذرية، ومنها ما يختص بأرباب الأعمال وبالعاملين، حتى في إقامة الصفوف في الصلاة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لينوا في أيدي إخوانكم)) فعند تسوية الصف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون المصلي ليناً في يد أخيه إذا جذبه ليسد الخلل ويعدل الصف.
وإن الحديثين السابقين من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم في مسألة التراحم بين أفراد الأمة على جميع مستوياتها ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ، ((وحُرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس)).
فلو وضع كل منا هذه الأحاديث نصب عينيه في تعامله مع الآخرين لارتقت أنفسنا وعلاقاتنا إلى مستوى المجتمع المسلم الحق الذي يجب أن يكون عليه.. المجتمع الذي ينتشر فيه الخير ويقصر فيه الشر، ينتشر فيه الحب والتعاون على البر والتقوى، وتقوى أواصر الإخاء والمودة والصلة بين أفراد الأمة في كل معاملاتها وشؤونها.
يكفي أيها الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وعد كل هين لين سهل بأن يحرم على النار، فلا يظن المسلم أنه لو تنازل وألان جانبه لأخيه المسلم أن هذا ضعفاً وتخاذلاً، وخاصة من بيده السلطة على إخوانه المسلمين، بل ينظر إلى الأمر أنه أمر حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم ووعد من عمل به أن لا تمسه النار. بل إن الإسلام يحض على الرحمة والإحسان للحيوان، ((في كل ذات كبد رطبة أجر)) – ((عذبت امرأةٌ في هرةٍ حبستها)) حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار ((لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)). بينما غفر الله عز وجل، ولرجل ولامرأة مومس بسبب ما قاما به من سقاية لكلبين بلغ بهما العطش مبلغه كما جاءت بذلك الأحاديث المعروفة.
أسأل الله العلي العظيم أن يجمع قلوب المسلمين على الحق وأن يوحد كلمتهم على التوحيد وأن يملأ قلوبهم بالإيمان والمحبة والشفقة على أنفسهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله: إن الرحمة اليوم لا مكان لها اليوم في كثير من القلوب إلا من رحم الله وفي إنسان دون إنسان، وفي موقف دون آخر فاتقوا الله وتراحموا فيما بينكم رحمكم الله في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: اتقوا الله وتراحموا فيما بينكم، عن جابر بن سليم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيله ولا يحبها الله، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بأمرٍ ليس هو فيك فلا تعيره بأمر هو فيه، ودعه يكون وباله عليه وأجره لك، ولا تسبن أحداً)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الناس على الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربه، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه يملأ قلبه رضي يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له - أي يقضيها - أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، ألا وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل)). وعنه أيضاً رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفشوا السلام وأطعموا الطعام وكونوا إخواناً كما أمركم الله)).
أيها الإخوة: أين الأمة الإسلامية من هذه الأحاديث النبوية أين المسؤولون عن تطبيق هذه الأحاديث؟ وقد استرعاهم الله وتحملوا في أعناقهم هذه الأمانة التي سيسألون عنها يوم القيامة. أين الأزواج من اتباع الهدى النبوي في التعامل فيما بينهم والتراحم والتواد؟. أين الآباء والأمهات من الأخذ بهذه السنة النبوية في تربية الأولاد؟. إن مما يؤسف له حقيقة أن نجد بُعد أكثر المسلمين عن هذا المنهج في جميع أنحاء العالم الإسلامي عامة وفي هذا البلد خاصة، بلد الله الحرام الذي قال الله عنه: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ، فبمجرد الإرادة فقط في هذه البلدة المحرمة، مجرد إرادة الظلم فيه، مجرد النية والقصد من الشخص بفعل أمر مخالف، فإنه مهدد بأن يذيقه الله العذاب الأليم.. لقد كان الكفار القرشيون والعرب يعظمون هذه البلدة، فقد يرى أحدهم قاتل أبيه ولا يكلمه حتى يخرج من مكة. بينما المسلمون اليوم لا يعظمونها حق التعظيم وإرادة الظلم هنا تشمل كل ذنب حتى قطع الشجر وقتل الصيد واحتكار الطعام وفعل المحظورات والتعدي على أموال المسلمين وأعراضهم وشتم المسلمين ومضايقتهم أو فعل المنكر وترك الواجبات.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان (أي منزلان) أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل لأنه كان يعتبر ذلك من الإلحاد في الحرم، مجرد المعاتبة والتأديب يراه رضي الله عنه من الإلحاد في الحرم... فكيف بمن يؤذي عباد الله المسلمين داخل مكة وخاصة المعتمرين والحجاج؟!.
أيها الإخوة: إن الغلظة والشدة لا تكون إلا في وجه الكفار والمنافقين يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم والغلظة والشدة ليس معناها الظلم، فنحن مأمورون بالعدل حتى مع الأعداء، وليس المجال لتفصيل ذلك الآن، لكن هنا وقفة سريعة في مفهوم العداوة القائمة بين المسلمين والكفار فهي عداوة باقية مادام هناك فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير ومن يقول غير ذلك فهو يضاد القرآن والسنة ويخالف التاريخ والواقع , فأهل الكفر لن يرضوا بالتوحيد، ولن يرضوا بالإسلام يرفرف على أرجاء المعمورة ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
فالكفر ملة واحدة، وهم أعداء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق.
والأولى بالمسلمين الاستعداد لهم قال تعالى: إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً ، كما أمر الله عز وجل قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم.
ومسألة العداوة للإسلام والمسلمين من الكفار والمنافقين باقية إلى يوم القيامة، وأما الدعوة للسلام العالمي فهي دعوة باطلة كاذبة، وإنما هي دعوة لإماتة روح الجهاد عند المسلمين ولإلهائهم بالدنيا وما فيها من الملذات وإدخال كل ما يفسد عقيدتهم عن طريق اللعب واللهو.
أيها الإخوة: تقول دول الكفر نريد سلاماً عالمياً ويردد الببغاوات من المسلمين نفس المقولة، ونجد الفعل مخالفاً للقول عند دول الكفر، فهم يبنون جيوشاً حديثة ويطورون الأسلحة، ويجرون التجارب النووية ويزيدون في إعداد الجيوش، فلماذا هذه الاستعدادات كلها يا من تقولون بالسلام العالمي؟
أما في بلاد المسلمين فلا يسمح لهم بزيادة عدد أفراد القوات المسلحة لديهم، وليس لهم حق تطوير جيوشهم إلا في حدود ما يسمح باستخدامها للمحافظة على الكراسي والسلطة، وهذا أمر مشاهد وواقع وملموس مع الأسف الشديد.
أيها الإخوة: أعود أقول: نحن المسلمون سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المسؤولين أو على مستوى الحكام والدول أشداء فيما بيننا، رحماء مع عدونا، يغلظ بعضنا على بعض، ويأكل بعضنا بعضاً نهاراً جهاراً، ويؤذي بعضنا بعضاً مخالفين بذلك أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في التراحم والتواد فيما بيننا.
بينما الأولى والأجدر.. أيها الإخوة أن نبث فيما بيننا روح الإخاء والمحبة والتعاون المبنية على التوحيد على الدين الإسلامي الحق الذي لم تشبه شائبة، على منهج السلف الصالح دون النظر إلى الجنس أو اللون.. حتى نكون أمة واحدة وأن نربي أنفسنا على الجهاد في سبيل الله جهاد المنافقين بالقلم واللسان والحجة والبيان، وجهاد الكفار بالسيف والسنان، حتى تعود أمجادنا، أمجاد أسلافنا، فنسود العالم بالعدل والإنصاف والرحمة الحقيقية الشرعية وليس ذلك على الله بعزيز، وإذا لم نقم بهذا فلنستعد للكوارث والزلازل والفتن حتى يأتي غيرنا يكونون أجدر بحمل هذا الدين وتطبيقه. قال تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
(1/1520)
أصول مهمة وبدعة شعبان
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات, فضائل الأزمنة والأمكنة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله الخلق لعبادته. 2- القرآن حذرنا من اتباع الهوى. 3- من أنواع الشرك شرك
الطاعة ومنه الاتباع في تحليل الحرام وتحريم الحلال. 4- الأصل في العبادات أنها توقيفية. 5-
كيف نفهم النصوص الشرعية. 6- بين ليلة القدر وليلة النصف من شعبان. 7– ما صح في
فضل هذه الليلة. 8- بدع ليلة النصف من شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن الله خلقنا لعبادته كما قال سبحانه وتعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولذلك أرسل الرسل. ولو نظرنا إلى الرسالات السماوية لوجدناها قامت على أصلين عظيمين، عبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت. قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فقاعدة: أن اعبدوا الله تعني تحقيق التوحيد والعقيدة الصحيحة السليمة وطاعة الله واتباع شرعه.
وقاعدة: واجتنبوا الطاغوت تعني تجنب الأهواء والافتراق والبدع وما تؤول إليه من الشرك والكفر والظلم والفسق والإعراض عن دين الله. لذلك جاء في القرآن التحذير من مناهج الضلال حماية للدين وحماية للتوحيد من أن يشوبه شائبة كما قال تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً فاتباع الهوى هو اتباع الطاغوت، ويؤدي بالإنسان إلى الهاوية، لأن الإنسان لا يعبد الله إلا بأمره سبحانه وتعالى لا بالآراء ولا بالأهواء، وإلا لأصبح إرسال الرسل لا فائدة منه. ولو ترك لكل صاحب رأي، وهوىً رأيه وهواه، لرأيت عبادات وطرق متنوعة ومختلفة كما هو حاصل في بعض الأماكن من هذا العالم.
واتباع الهوى ما هو إلا عبودية لغير الله عز وجل، فمن اتبع هواه وترك ما هو ثابت في الكتاب والسنة فإنما هو متخذ إلهاً غير الله عز وجل، قال تعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً وقال تعالى: إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وقال تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين.
وقال سبحانه وتعالى محذراً نبيه صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء الناس: ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين. وقال تعالى مبيناً أن المتبع للرسل هو على بينة من أمره، وأما متبع الهوى فهو على سوء وضلال أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم.
وإن من الطواغيت المتبعة أيضاً إتباع السادات والكبراء من أهل البدع الذين يشرعون ويخترعون صلوات وعبادات وقربات لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته، وهنا يكون المتبعون لهؤلاء، أشبه ما يكون بأتباع الرهبان والأحبار الذين اتخذوهم آلهة كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وذلك باتباعهم فيما قالوا وأفتوا بما يخالف شرع الله عز وجل، فأحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله وتلك عبادتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيأتي يوم القيامة هؤلاء الأتباع الذين اتبعوا السادة والكبراء في بدعهم وضلالاتهم وتركوا السنة النبوية الصحيحة الثابتة ويقولون كما قال عنهم سبحانه وتعالى: وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
أيها الإخوة: إن العبادات أصلها توقيفي - أي لا يعبد الله إلا بما شرع - فالعبادات والقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئاً عبادة أو قربة إلا بدليل شرعي، فالأصل في العبادات المنع حتى يقوم الدليل الصحيح الصريح على الفعل، وأما المعاملات والعادات والعقود فالأصل فيها الإباحة حتى يثبت الأمر بتحريمها، فإذا عرف هذا الأصل عندها لا يتعبد المسلم بعبادة لله، أو يتقرب بقربة، إلا علم أن هذا الأمر عليه دليل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمر بهذا أو أقره أو فعله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل عبادة لم يأمر بها النبي ولم يشرعها فهي مردودة كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
وهذا الأصل أيها الإخوة هو أحد أصلين عظيمين في قبول العبادة... فتوحيد الله واتباع شرعه هما ركنان أساسيان في قبول العمل، أي أن يكون العمل خالصاً لله وحده وموافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
والعمل الصالح هو الموافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً الأصل الثاني في العمل الذي يتقرب به إلى الله أن يكون موافقاً لما شرعه الله ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيها الإخوة فهم النصوص الشرعية يعتمد على أصول ثابتة، فأول ما يفسر القرآن بالقرآن ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة، وكذلك فهم السنة، فلا يحق لأحد من المخلوقين أن يأتي بشيء مخالف لفهم السلف أو مخالف للنصوص ويرفع عقيرته ويشغب به على ما هو ثابت بالكتاب والسنة، ولسان حاله يقول:
إني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تأتي به الأوائل
فيتبع ما تشابه ابتغاء الفتنة ويعارض به المحكم من قول الله متهماً بقوله وفعله هذا النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بالقصور، وحاشاهم من ذلك، وكأنه هدي إلى أمر لم يفطن له النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام.
وقد حدث مثل هذا من الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم: أقوم الليل أبداً. وقال الثاني: أصوم الدهر. وقال الثالث: لا أتزوج النساء. فردهم النبي صلى الله عليه وسلم وبين أن ذلك مخالف للسنة.
وحدث أيضاً من أشخاص جلسوا للذكر في حلقة من المسجد يعدون تسبيحهم بالحصى ففرقهم عبد الله بن مسعود وقال لهم: إما أنكم على هدى أهدى من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو أنكم مفتتحو باب ضلالة، وكذلك الأئمة أنكروا على كل من ابتدع ذكراً أو قربة إلى الله لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، والرد على هؤلاء المبتدعة والدفاع عن السنة من الجهاد في سبيل الله فهو جهاد باللسان وبالقلم وبالحجة والبيان.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
بعد أن عرفنا الأصل في فهم النصوص الشرعية وتفسيرها وكذلك الأصل في قبول العمل والقربات، كما عرفنا الأصل في دعوة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، نعرض على هذه الأصول، التي هي ميزان وقسطاس مستقيم، ما أحدثه الناس في شهر شعبان وخاصة في ليلة النصف منه.
لو نظرنا إلى هذه المحدثات والبدع لوجدناها مبنية على فهم مخالف لصريح القرآن وتفسيره، ومبنية على اتباع الهوى، واتباع السادات والكبراء، وليس لها أصل في الشرع إنما هي أمور مخترعة، صلوات وأذكار وصيام لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك ولم يفعله، لم يفعله أيضاً الصحابة ولا التابعون لهم.
لقد احتج هؤلاء المبتدعة ببعض ما نقل عن السلف في تفسير قول الله تعالى: حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم. بأن هذه الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان التي يفرق فيها كل أمر حكيم حيث يتم فصل كل ما يخص سنة كاملة من هذه الليلة من اللوح المحفوظ وفيها الأرزاق والآجال وما قدره الله عز وجل على عباده، وهو قول ضعيف فمن أين لصاحب هذا القول أن هذه الليلة، ليلة النصف من شعبان، هي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم وصريح القرآن وقول المفسرين مغاير لهذا الفهم ولهذا التفسير.
لاحظوا أيها الإخوة إلى بداية السورة: حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة فالضمير عائد للقرآن وأن الله أنزله في ليلة مباركة، فما هي الليلة التي نزل فيها القرآن؟ الكل يعلم أنها ليلة القدر وأنها في رمضان في العشر الأواخر منه إنا أنزلناه في ليلة القدر ، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. فكيف يخالف هؤلاء صريح القرآن؟ حتى ولو كانت الآية عن ليلة النصف مثلاً فمن أين لهم أن يخصصوا ليلها بقيام أو بصلاة معينة وبذكر معين ودعاء خاص؟ من أين لهم ذلك؟
إن النبي صلى الله عليه وسلم حضنا على قيام ليالي رمضان وخاصة العشر الأواخر منه. وعلمنا كيف نصلي في الليل وشرع لنا الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تحرياً لليلة القدر، فلماذا لا يكون الحرص على هذه السنة؟ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فقد وردت أحاديث يحسنها بعض أهل العلم عن ليلة النصف من شعبان وهي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه)) وقال صلى الله عليه وسلم حينما سأله أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قلت: يا رسول الله لم أراك تصوم من الشهر ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يطلع الله على جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)).
فمن أين لمن يخصص ليلة النصف بصلاة خاصة وقراءة خاصة وذكر خاص أو أي قربة لله في هذه الليلة؟ من أين له الدليل على جواز فعله هذا؟
لو نظرنا إلى هذه الأحاديث لوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الصيام في هذا الشهر وأفضل الصيام صيام يوم وترك يوم كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يستطع الشخص صيام يوم وترك يوم، فليصم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، ومن لم يستطع فليصم الأيام البيض من هذا الشهر ويكون بذلك متبعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا من جهة القربات وفعلها في هذا الشهر.
أما ما جاء في الحديثين الآخرين بأن الله يغفر للمؤمنين ولا يغفر للمشركين ولا الكفار، ويؤخر الحاقدين والمشاحنين من المسلمين فما هو الواجب علينا حتى لا يفوتنا هذا الأمر ونحظى بمغفرة الله عز وجل؟.
الواجب علينا أن نجدد إيماننا بالله ونصحح عقائدنا إن شابها شيء، ونزيل ما في قلوبنا من شحناء وحقد على إخواننا المسلمين، لقد فسر بعض أهل العلم من سلفنا الصالح أن المشاحنين هم أهل البدع وهم الحاقدون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم أن يجتنبهم ويوالي المؤمنين المتمسكين بالسنة الصحيحة، وهناك تفسير آخر هو أن المشاحنين هم المقاطعون لذوي الأرحام والمتخاصمين والمهاجرين من المسلمين فهو عام لكل مشاحن، وليس هناك تضارب بين القولين، فالمبتدع مشاحن للمؤمنين، والمتخاصم مع جاره أو مع أقاربه أيضاً مشاحن.
فما هو الواجب على المسلم في هذا الشهر وفي هذه الليلة، الواجب عليه أن يترك البدع والمحدثات ويتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويصالح أقاربه وجاره إن كان بينه وبينهم شحناء وخصام لأمر دنيوي أو لسوء تفاهم شخصي، ويرجو بذلك أن يغفر له في هذه الليلة، أسال الله أن يغفر لنا ذنوبنا ويرحمنا إنه هو الغفور الرحيم.
أيها الإخوة: علينا بالتمسك بالسنة والتقرب إلى الله بما شرع، أين نحن من الحضور في صلاة الفجر ثم الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس؟ أبن نحن من صلاة الضحى ركعتين أو أربع أو ست أو ثمان ركعات؟ أين المسلمون من الجلوس بعد صلاة العصر في المسجد حتى غروب الشمس يقرؤون القرآن ويتدارسونه ويسبحون الله ويذكرونه ؟. أين المسلمون من ذكر الله بعد الصلوات والتهليل مائة مرة في اليوم والتسبيح مائة مرة في اليوم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح عشراً وفي المساء عشراً؟ أين إكثار الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة؟ أين المسلمون من صيام الاثنين والخميس أو صيام الأيام البيض؟ أين المسلمون من قراءة السنة والسيرة الصحيحة والتمشي بموجبها والسير على نهجها؟ أين المسلمون من صلاة النوافل وصلاة الرواتب في البيوت ؟. إنه لشيء عجيب أن يترك كثير من الناس هذه السنن الثابتة ثم يتشبثون ببدع محدثة مخالفين بذلك هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومتبعين غير سبيل المؤمنين ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً.
(1/1521)
الاستغفار
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات الله أنه غفور رحيم ، ودلالة هذين الاسمين. 2- الاستغفار بالأسحار. 3-
الاستغفار أمان للمسلم في الدنيا والآخرة. 4- أوقات ينوب فيها الاستغفار. 5- صيغ الاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: لقد أمر الله عباده بالتوبة والاستغفار فهو سبحانه وتعالى الغفار، والغفور الرحيم: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير فإذا كان من غفر ذنبه ما تقدم منه وما تأخر صلى الله عليه وسلم يقول: ((وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) فكيف بمن هو دونه؟.
ولقد وردت آيات كثيرة جداً تختم باسمين من أسماء الله عز وجل: الغفور الرحيم ، الغفور الحليم حتى يرغب عباده في مغفرته ورحمته وحلمه وعفوه فيتوددون إليه بالطاعات وترك المعاصي والمنكرات مستجيبين لأمره بكثرة الاستغفار والتوبة كما أمرهم سبحانه وتعالى حيث قال: واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، وقال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
وقال تعالى: أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ولقد امتدح الله الأنبياء وعباده الصالحين بأنهم يستغفروا ربهم في آيات عدة حيث قال سبحانه: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثيرٌ فما وهنوُا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين.
وقال تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
والمغفرة من الله والتوبة أيها الإخوة لا يرجى الحصول عليها أو قبولها إلا بالإقلاع عن الذنب أولاً ثم عمل الطاعات وتقديم الصدقات والاستمرار على ذلك، وقد قيل استغفار بلا إقلاع - يعني عن الذنب - توبة الكذابين.
قال الله تعالى: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى وقال تعالى: ولا يأتلِ أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم.
وقال تعالى: وعد اللهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرةٌ وأجرٌ عظيم ، وقال سبحانه: إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير.
أيها الإخوة: وللاستغفار أوقات مفضلة يستثمرها العباد الصالحون لذلك. ألا إنها أوقات السحر في الثلث الأخير من الليل.. قال الله تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون.
وقال تعالى: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار.
أيها الإخوة: إن للاستغفار أثراً في الدنيا على المستغفرين حيث يمدهم الله بالأموال والبنين والرحمة ويمنع عنهم العذاب قال تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال أبو موسى رضي الله عنه: كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا، وبقى الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا. وقال تعالى على لسان نبيه نوح عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام: ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.
واستدلالاً بهذه الآية كان السلف يفتون بكثرة الاستغفار لمن جاءهم يشكو من القحط، أو عدم الإنجاب للأولاد، أو لقلة ذات اليد.
ففي الاستغفار فرج من كل ضيق، وطمأنينة وبشرى للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: يشرع الاستغفار في كل وقت وكل حين ودبر الصلاة وفي ختام المجلس أو ختام الحديث كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يقوم من مجلس إلا قال: ((سبحانك اللهم ربي وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)) فحينما سئل عن ذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولهن من أحدٍ حين يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس)) وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل لزوم الاستغفار حيث قال: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيثُ لا يحتسب)).
أما ألفاظ الاستغفار فهي متعددة منها: أستغفر الله، أستغفر الله، ومعناها: أطلب من الله المغفرة، أو أسأل الله أن يغفر لي، وكذلك: أستغفر الله وأتوب إليه، أو: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، أو: رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، أو: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور.
أما سيد الاستغفار فهو ما رواه البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيد الاستغفار أن يقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي - أي أقر وأعترف بنعمتك علي وأقر وأعترف بذنبي.
اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) قال: ((ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة)).
أيها الإخوة: كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) ، وجاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم)).
فعلينا أيها الإخوة: أن نروض ألسنتا على كثرة الاستغفار مع حضور القلب، بعد الإقلاع عن الذنب والندم على فعله وإتباع ذلك بالعمل الصالح حتى نسعد في الدارين. ونفوز برضى رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1522)
الإسراء والمعراج
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث الإسراء والمعراج. 2- تكذيب المشركين لحادثة الإسراء والمعراج. 3- إيمان
الصديق. 4- لم يرد شيء في فضل ليلة الإسراء. 5-بدعية ما يصنع من عبادات في هذه الليلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم الكبرى والآلاء الجسيمة العظمى، فإن نعم الله علينا سابغة وآلاءه متوالية متتابعة، لقد جعلنا الله خير أمة أخرجت للعالمين، وفضل نبينا على سائر الأنبياء والمرسلين، واختصه بخصائص لم ينلها أحد من البشر ولن يصل إليها أحد ممن تقدم أو تأخر سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير. فمن خصائصه العظيمة صلى الله عليه وسلم ذلك المعراج الذي فضله الله به قبل أن يهاجر من مكة، فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانا تهيئة لما سيقوم به، ثم أتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس، فنزل هناك وصلى ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل: هذا أبوك آدم، فسلِمْ عليه، فسلَّم عليه فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح.. فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة كل واحد منهما ابن خالة الآخر فقال جبريل: هذان يحيى وعيسى فسلِّم عليهما فسلم عليهما فردا السلام وقالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فاستفتح.. فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلم عليه فرد السلام، وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح.. فوجد فيها إدريس فقال جبريل: هذا إدريس فسلم عليه، فسلم عليه فرد السلام، وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح.. فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى عليه السلام فقال جبريل: هذا هارون، فسلم عليه فسلم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح.. فوجد فيها موسى فقال جبريل: هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
فلما تجاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، فكان بكاء موسى حزناً على ما فات أمته من الفضائل، لا حسداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عرج به جبريل إلى السماء السابعة فاستفتح.... فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل هذا أبوك إبراهيم، فسلِّم عليه فسلم عليه فرد السلام وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح.
وإنما طاف جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الأنبياء تكريماً له وإظهاراً لشرفه وفضله، وكان إبراهيم الخليل مسنداً ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون، وفي اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله ثم رُفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها. إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى. ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة، فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال: ما فرض ربك على أمتك قال: ((خمسين صلاة في كل يوم)). فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس، فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وما زال يراجع ربه سبحانه وتعالى حتى استقرت الفريضة على خمس صلوات.
فعاد صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء.. ولكنه قبل عودته ونزوله صلى الله عليه وسلم أدخل الجنة ورآها، ورأى النار وبعض من يعذب فيها، ورأى مالك خازن النار. وقدم للنبي في ليلته تلك أنواع من الشراب فاختار صلى الله عليه وسلم اللبن.
ومن العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى وهو في أثناء الإسراء من مكة إلى بيت المقدس رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة كما مر معنا، وبالطبع أنه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الصلاة، وهذه الأمور نؤمن بها لأنها وردت عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسبحان من بيده ملكوت كل شيء. سبحان من يقول للشيء كن فيكون.
وفي الصباح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فكان ذلك امتحاناً للناس في مكة.. فما كان منهم إلا أن كذبوا وضحكوا وصفقوا، فازدادوا في الطغيان والتكذيب بل إنه ارتد بعض المسلمين عن دينهم حينما سمعوا بالقصة.. وقد سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف بيت المقدس، فرفعه الله له فجعل ينظر إليه وينعته لهم فبهتوا وقالوا أما الوصف فقد أصاب، ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى.
هذه أيها الإخوة قصة الإسراء والمعراج باختصار كما جاءت في كتب السنة، فإن بعض الناس يخلط بين الإسراء والمعراج وبين الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في المنام والتي جاءت في كتب السنة والتي رأى فيها ربه في المنام، أو الرؤيا التي فيها أوصاف لبعض المعذبين في النار وأوصاف للجنة وما فيها من الدرجات والمنازل التي أعدها الله لعباده المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل هل رأيت ربك ليلة المعراج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((نور أنى أراه)) أي أنه لم ير إلا نوراً فكيف يراه وقد ثبت في الأحاديث أن حجاب الله النور.
والأشد من ذلك ما ألف من تآليف موضوعة وأحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة الإسراء والمعراج يتداولها بعض الناس ولا يعرفون الغث منها من السمين، والأولى بهم الرجوع إلى كتب السنة الصحيحة وقراءة القصة الصحيحة منها، وترك ما دون ذلك، فمن حدث بحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو أحد الكاذبين.
أسأل الله العلي العظيم أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد كرم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكبرى الإسراء والمعراج التي كفر بها المشركون وارتد بسببها بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً ولم يتحملوا سماع هذه المعجزة التي كانت فيها عبرة وتمحيص وكان فيها هدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق وكان من أمر الله على يقين.. فحينما عاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصبح في المسجد الحرام جلس واجماً ساكناً فجاءه أبو جهل عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فقال: ما بك يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر فقال له: لو جمعت لك قريشاً تخبرهم؟ قال: نعم، فجمعهم فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا في الضحك والصفير والتصفيق فازدادوا كفراً وضلالاً والعياذ بالله وارتد ضعفاء النفوس، أما الصديق فقال: إني أصدقه بخبر السماء ألا أصدقه في الإسراء.. فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه.
أيها الإخوة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخفي خبر الإسراء والمعراج الذي تم في جزء من ليلة حتى ولو كان في ذلك ارتداد بعض المسلمين ولأن هذا من الذكر الذي هو مكلف ببيانه قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين فلا يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول شيئاً على الله ولا أن يمنع شيئاً فرضه الله، وحاشاه بأبي هو وأمي أن يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم: ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي.
ولكن أيها الإخوة لم يرد في السير ولا في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحياء ليلة الإسراء والمعراج بذكر معين أو بصلاة أو بصيام يوم معين لأجل الإسراء والمعراج كما أحدثه كثير من الناس في الأيام الأخيرة مثل الصلاة التي تسمى صلاة الرغائب بصفة مخصوصة وذكر معين في أول خميس من رجب، أو في صيام أيام منه أو الاحتفال في ليلة معينة كليلة السابع والعشرين من شهر رجب على اعتبار أنها ليلة الإسراء والمعراج وقراءة القصة التي فيها زيادات وأكاذيب لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي يتداولها بعض الناس، والأدعية المخصوصة التي تقال في تلك الليلة كلها ظلمات بعضها فوق بعض.
قال العلماء: إن هذه الأعمال التي تقام في رجب أمور غير مشروعة باتفاق أئمة الإسلام، ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع. قال الحافظ ابن حجر في كتابه (تبيين العجب بما ورد في فضل رجب) ولم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء معين منه ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة.
أيها الإخوة لقد سجلت كتب السير وكتب السنة بل القرآن العظيم هذه الآية العظيمة ولم يسجل لها تاريخ معين ولم يعرف في أي يوم ولا أي شهر ولا أي عام تم الإسراء والمعراج ولم يرد في السنة تخصيص يوم أو ليلة للاحتفال بها.. فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم جاهلاً بفضلها؟ أعوذ بالله من ذلك.
أما السؤال الثاني فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم فضل هذه الليلة ولكنه كتم هذا الأمر ولم يخبر الأمة به؟ أعوذ بالله أن نقول على الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول.
إن عدم ذكر تاريخ ليلة الإسراء والمعراج وعدم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عنه وعدم معرفة الصحابة بذلك التاريخ يدل دلالة واضحة على أنه كان يمر ذلك اليوم كغيره من الأيام والليالي، إذاً لماذا يفعل الناس الآن هذه البدع والمحدثات؟ أهم أهدى سبيلاً؟ كلا والله ثم كلا.. ألا يعلمون هؤلاء الذين يفعلون هذه البدع أنهم يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير وعدم أداء الأمانة وتبليغ الأمة؟ ألا يعلم هؤلاء أنهم يكذبون بالقرآن بإحداث هذه البدع حينما قال سبحانه وتعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فكأنهم يقولون إن الدين لم يكتمل وبقي فيه بقية وهي هذه الاحتفالات والاجتماعات أو التقرب إلى الله بما لم يشرعه ولم يبلغنا به النبي صلى الله عليه وسلم.
إن العبرة من هذه الآية وهذه المعجزة ثابتة بالقرآن والسنة، ولو كان في الاحتفال بها في ليلة مخصوصة قربة إلى الله لقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مثل ما قال للأنصار حينما رآهم يحتفلون بيومين.. فقال لهم: ((لقد أبدلكم الله خيراً منها يومي الفطر والأضحى)). ولم يقل: وليلة الإسراء؟! ولو كان هناك ذكر أو عبادة معينة في يوم أو ليلة الإسراء والمعراج لقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وحض عليه مثل ما حض على قيام ليلة القدر أو العشر الأواخر من رمضان أو العشر الأول من شهر ذي الحجة أو صيام الأيام البيض أو صيام الاثنين والخميس أو غير ذلك مما هو مسجل في كتب السنة النبوية.
فلماذا هذه البدع؟ لماذا هذه المحدثات؟ فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي والداعي له، من السنة تركه، وعلينا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله أو أمر به، وعلينا إتباعه صلى الله عليه وسلم فيما تركه أو نهى عنه.
وكما قررنا في مناسبات كثيرة القاعدة المعروفة أن العبادات توقيفية. أي أنها لا تعمل ولا تشرع إلا بدليل صحيح صريح، والأصل في العبادات المنع حتى يثبت بالدليل بمشروعيتها. فما وسع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم أجمعين يسعنا، وعلينا بالتمسك بالهدي النبوي والاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين وأن نترك ما أحدثه الناس
من احتفالات وصلوات وعبادات بدعية حتى ننال الفوز في الدنيا والآخرة اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعلنا من عبادك الصالحين.
(1/1523)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصال النفاق. 2- صور متنوعة لأداء الأمانة. 3- واجبات الحاكم المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
وقال تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)).
وحديث آية المنافق ثلاث: ((إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان)).
أيها الإخوة: إن شأن الأمانة عظيم، أشفقت منها السموات والأرض والجبال وخافت من تحملها، وتحملتها قلوب بني آدم مخاطرة ليعلو من أداها إلى درجة المؤمنين المتقين، ولينزل من ضيعها إلى أسفل السافلين.
أيها الإخوة: إن الأمانة تكون في العبادات وفي المعاملات، فالأمانة في العبادات أن تقوم أيها المسلم بما أوجب الله عليك بإخلاص لله واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقص، ممتثلاً للأوامر، مجتنباً للنواهي، تخشى الله في السر والعلن، تخشاه أمام الناس وفي خلوتك فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، تحقق الشهادتين وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت وتعتمر، وتؤدي ما عليك تجاه ربك ومولاك رغبة في رضاه ورهبة من سخطه ومقته فمن كان كذلك فقد أدى الأمانة تجاه ربه وحظي بالنعيم المقيم بإذن الله تعالى، وأما الأمانة في المعاملات فمجالاتها كثيرة، منها أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به من النصح والبيان، وأن تكون حافظاً لحقوقهم المالية وغير المالية من كل ما استؤمنت عليه لفظاً وعرفاً.
وتكون الأمانة بين الرجل وزوجته، فيجب على كل منهما أن يحفظ الآخر في ماله وسره، فلا يحدث أحداً بذلك، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)).
وتكون الأمانة بين الرجل وصاحبه يحدثه بحديث سر يعلم أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد ثم يخونه ولا يفي بما أؤتمن عليه ويفشي سره ويحدث به الناس.
وتكون الأمانة في البيع والشراء والإجارة والاستئجار فلا يجوز للبائع أن يخون المشتري بنقص في الكيل أو الوزن أو زيادة في الثمن أو كتمان العيب أو تدليس في الصفقة، ولا يجوز للمشتري أن يخون البائع بنقص في الثمن أو إنكار أو مماطلة مع القدرة على الوفاء.
ولا يجوز للمؤجر أن يخون المستأجر بنقص الأجرة أو إنكارها أو تصرف يضر المستأجر من دار أو مكان أو آلة أو مركوب.
وتكون الأمانة في الوكالات والولايات، فيجب على الوكيل أن يتصرف بما هو أحسن ولا يجوز أن يخون موكله فيبيع السلعة الموكل في بيعها بأقل من قيمتها محاباة للمشتري، أو يشتري السلعة الموكل في شرائها بأكثر من قيمتها محاباةً للبائع.
وفي الولايات كل من كان والياً على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه يجب أن يؤدي الأمانة فيه، فالقاضي أمين، والأمير أمين، ورؤساء الدوائر ومديروها أمناء، يجب عليهم أن يتصرفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن في ولايتهم وفيما ولوا عليه حسبما يستطيعون، وأولياء اليتامى وناظروا الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أمناء يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن.
ألا وإن من الأمانة ما يتصل بالثقافة والإرشاد والتعليم، فعلى القائمين على ذلك من مخططي المناهج ومديري الأقسام والمشرفين عليها أن يراعوا الأمانة في ذلك، باختيار المناهج الصالحة والمدرسين الصالحين المصلحين، وتثقيف الطلبة علمياً وعملياً، ديناً ودنيا، عبادة وخلقاً.
وإن من الأمانة في ذلك حفظ الاختبار من التلاعب والتهاون، حفظه في وضع الأسئلة بحيث تكون في مستوى الطلبة عقلياً وفكرياً وعلمياً، لأنها إن كانت فوق مستواهم أضرت بهم وحطمتهم وأضاعت كل عامهم الدراسي، وإن كانت الأسئلة دون مستواهم أضرت بمستوى الثقافة العامة في البلاد.
ومن حفظ الاختبار وقت الإجابة على الأسئلة بحيث يكون المراقب فطناً حازماً لا يدع فرصة للتلاعب ولا يحابي ابناً لقريب ولا لصديق لأنهم هنا على درجة واحدة، كلهم في ذمة المراقب وعهدته سواء.
وحفظ الاختبار وقت تصحيح الأجوبة بحيث يكون التصحيح دقيقاً لا يتجاوز فيه ما يسمح به النظام حتى لا يظلم أحد على حساب الآخر ولا ينزل طالب إلا في المنزلة التي يستحقها.
إننا إذا حافظنا على هذه الأمانة في الاختبار في مواضعه الثلاثة فهو من مصلحة الأمة كلها ومن مصلحة العلم، وهو من مصلحة القائمين على الاختبارات بأداء الواجب عليهم وإبراء ذممهم، ومن مصلحة الطلبة حيث يحصلون على مستوى علمي رفيع ولا يكون حظهم من العلم بطاقة يحملونها أو لقباً لا يستحقون معناه، وهو من مصلحة العلم حيث يقوى ويزداد حقيقة ولا يهمنا عند ضبط الاختبار أن يكون الناجحون قليلاً لأن العبرة بالكيفية ولا بالكمية، وإذا كانوا قليلاً في عام كانوا كثيراً في العام الذي يليه حيث يتعودون على الجد ويستعدون له.
وفقني الله وإياكم لأداء الأمانة وإبراء الذمة وحفظنا من إضاعتها والتساهل فيها إنه جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن كُلاً منّا مسؤول عما تحت يديه من رعية، وكلاً منا قد تحمل أمانة هذه الرعية، فالأبوان راعيان، والأولاد أمانة في أعناقهما من ناحية الغذاء والكساء والتربية والعدل في المعاملة والعطية، يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً. والزوجات أمانة في أعناق أزواجهن ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف والخادم في عنقه أمانة بحفظ المال وأداء العمل، والمدير في عنقه أمانة ((وكلكم راع وكلٌ مسؤول عن رعيته)).
وتكون الأمانة في الإمامة الصغرى والإمامة العظمى، فالإمامة الصغرى وهي إمامة الناس في الصلاة، أمانة عظيمة يجب على من يقوم بها أن يخلص النية لله وأن يتبع السنة ويقتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ويعلم الناس الخير ويدلهم عليه.
وأما الإمامة العظمى وهي الخلافة وولاية أمر المسلمين. فهي أمانة عظيمة سيسأل عنها كل من تولى أمر المسلمين، فنشر الدين والدعوة إليه وتعليم الناس الخير من أهم مسؤوليات الخلفاء والحكام وفي حقه آكد الواجبات والفروض، لأنّ لديه القدرة والسلطة أكثر من غيره من أفراد الأمة، ولا بد من الاستعداد المادي والعسكري لهذه الدعوة، فهذا منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بأن يقوم بالدعوة إلى الله وترغيب الناس إلى الدخول في الإسلام، فإن أبوا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا فالسيف، فالجهاد في سبيل الله، لأن الدين جاء للناس كافة، فهذه من أهم المسؤوليات وأعظمها على الحاكم المسلم، وهي أمانة في عنقه، وسيسأل عنها يوم القيامة إذا ضيعها، وكذلك عليه أن يدافع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويحافظ عليها ويرد على أهل البدع والمحدثات والأباطيل، ويحمي الدين والشرع من كل محدثة ويحمي ديار المسلمين من الغزاة سواء كان غزواً فكرياً أو غزواً عسكرياً ويقيم الحدود وينفذ الأحكام على الكبير والصغير دون محاباة ولا مداهنة، فيقطع يد السارق أيا كان مركزه ويقتص في الجروح ويرجم الزاني ويقوم بكل ما أمره الله به بالعدل بين الناس.
ومن الأمانة أن يقوم من تولى أمر المسلمين بحفظ مال المسلمين وجبايته من وجوهه الشرعية سواء عن طريق الغنائم أو الزكاة أو الجزية أو كنوز الأرض الظاهرة والباطنة، وأن يحرص على أن لا يدخل بيت مال المسلمين مالاً حراماً عن طريق المكوس أو الرسوم أو الضرائب، ثم ينفقها في وجوهها الشرعية مبتدئاً بالأهم فالأهم لتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين.
ومن الأمانة أن يقوم الإمام باختيار الأكفاء للمناصب القيادية من المشهود لهم بالصلاح والتقوى ورجاحة العقل، وكذلك اختيار المستشارين والبطانة تكون على أساس الدين والخلق القويم، وأما من اختار رجلاً لقرابته أو لغير ذلك وهناك من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين.
ولقد مدح الله المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
لقد استمعت قبل أشهر لأحد المسؤولين بإحدى بلاد المسلمين وهو يتكلم عن سيرته الذاتية فيقول عن نفسه أنه حينما سافر إلى الخارج للدراسة مكث أكثر من عشر سنوات حتى حصل على الشهادات العالية ثم عاد لخدمة هذه البلد وهو ما زال يترقى في المناصب حتى وصل إلى ما وصل إليه، فسأله المذيع عن الكتب التي قرأها أو يقرأها فقال: إنه منذ ابتعاثه وحتى الآن لم يقرأ إلا الكتب الإنجليزية فقط وأنه (لا يقرأ الكتب العربية) أي ما يقرب من 30 سنة لا يقرأ أي كتاب عربي، وكنت أتوقع وأنا استمع إليه أن يستثنى القرآن أو شيئاً من السيرة النبوية، ولكن للأسف لم يفعل.
وحينما سئل عن مشاهداته في وسائل الإعلام؟ قال أنه لا يشاهد إلا الأخبار الأمريكية فقط. فقلت: كيف يولى هذا وأمثاله؟ تنكر للغته ولبلده، تنكرا لقرآنه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل هو يتعالى حتى على الوسائل الإعلامية التي تتكلم بلغته وتطبل له ولأمثاله وتزمر بغير حق، فيستنكف أن يستمع لها؟ فكيف يؤمن مثل هذا على أن يتولى المناصب؟ إن تولية المناصب أمانة وهي تكليف ولا تكون إلا للمتقين. جاء في صحيح الجامع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليودن رجل أنه خر من عند الثريا وأنه لم يل من أمر الناس شيئاً)).
إن أساس الولاية العدل، ولا يكون العدل إلا من المتقين الصالحين، وجاء في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟ أولها: ملامة، وثانيها: ندامةٌ، وثالثها: عذابٌ يوم القيامة إلا من عدل)).
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة تضييع الأمانة، وأن من ضياع الأمانة أن يوسد الأمر إلى غير أهله.
أيها الإخوة: إن والياً صالحاً من ولاة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال شعراً فيه مدح وتمنٍ بالخمر، فحينما سمع عمر بذلك أحضره إليه ووبخه وعزله قال: يا أمير المؤمنين والله ما شربت الخمر يوماً، وإنما هو شعر قلته فقط، فقال: بما أنك قلته فلن تلي لي ولاية بعد اليوم.
(1/1524)
الأمثال في القرآن والسنة
العلم والدعوة والجهاد
أمثال القرآن والسنة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشبيه كلمة التوحيد بالشجرة الطيبة. 2- تشبيه المؤمن بالنخلة. 3- الله لا يستحي من
ضرب الأمثال بالصغير والحقير. 4- اللجوء إلى غير الله كالتعلق ببيت العنكبوت. 5- عجز
الأوثان التي تعبد من دون الله حتى عن خلق الذباب. 6- التمثيل لمن عبد آلهة شتى بالعبد له
أكثر من سيد. 7- تمثيل النبي كرهه على أمته بصاحب النار وهو يدع الفراش والدواب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء في القرآن قصص وأمثال توضح وتؤكد وحدانية الله عز وجل وأنه هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له وأنه هو سبحانه مصدر الأوامر والنواهي التي جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك جاء في السنة من هذه الأمثال التي فيها توضيح وبيان لتحقيق التوحيد والإخلاص، وتحقيق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
وقال تعالى: وتلك الأمثال فضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. ومن هذه الأمثلة التي ضربها الله عز وجل في كتابه العزيز، ما جاء في سورة إبراهيم، قال تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فهذا مثل كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وهو مثل للمؤمن الذي وقرت في قلبه كلمة التوحيد، فهو كالنخلة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء لا يتساقط ورقها صيفاً ولا شتاءً ولا ليلاً ولا نهاراً، فالمؤمن يرفع له عمل ٌ صالح دائماً وأبداً.
جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أخبروني عن شجرة تشبه، أو كالرجل المسلم، لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاءً، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)) قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي النخلة)). وقال تعالى: ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار وهذا مثل الكافر والمنافق كشجرة الحنظل لها منظر على وجه الأرض ولكنها ليس لها أصل ثابت، سهلة الاجتثاث والاستئصال والعياذ بالله بالإضافة إلى ما تحويه من مرارة وعدم نفع، فالكافر ليس له أصل ثابت ولا فرع ولا يصعد له عمل ولا يتقبل منه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
وقد أخبر الله عز وجل أنه يضرب الأمثال بما شاء من خلقه فيزداد أهل الهدى إيماناً قال تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين.
فالله عز وجل لا يستحيي أن يضرب أي مثل لأن في ذلك من العبر والمصالح والحكم العظيمة التي ينتفع بها العباد.. فقد ضرب الله مثلاً بالعنكبوت ومثلاً بالذباب. كما قال تعالى: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
وهذا المثل واضح الدلالة فيمن يلجأ إلى غير الله فقد التجأ إلى أوهن وأضعف ملاذ ومستغاث.
ويتضح هذا في المثل الآخر الذي ضربه الله عز وجل حيث قال: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. فيامن تستغيثون وتدعون وتذبحون للأضرحة وأصحاب القبور أو لغيرهم ممن تعتبرونهم من الأولياء والسادة والعظماء، إن هؤلاء كلهم لا يستطيعون أن يخلقوا أضعف المخلوقات وهو الذباب، ولو اجتمعوا له..بل ولو اجتمع من في الأرض لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة بل وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه فهم عاجزون حتى عن مقاومته والانتصار منه لو سلبهم شيئاً مما يأكلون أو يشربون وهو أضعف وأحقر المخلوقات، والله عز وجل يضرب هذه الأمثال وإن قلّت كالبعوض وما فوقها، كالذباب والعنكبوت، فالله لا يستحيي من ذلك لأنه حق والله لا يستحيي من الحق ولكنه سبحانه يستحيي من غير الحق لأن الحياء من الحق وصف كمال وهو سبحانه متصف بصفات الكمال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حييٌ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)) وهذه صفة ثابتة لله يجب علينا الإيمان بها دون تأويل ولا تعطيل أو تحريف.
أيها الإخوة: إن الله بين لنا في هذه الأمثال الطريق الموصل إلى توحيده والطريق الموصل إلى جنته ورضوانه. هذا هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه فمن سار بثبات ويقين فاز، ومن ابتعد عن هذا الطريق وتولى سبيل غير المؤمنين فذلك كما قال تعالى: فأمه هاويه وما أدراك ماهية نار حامية كما قال تعالى في سورة النحل: وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أينما يوجهه لآيأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
فهل الذي لا يتكلم ولا ينطق بالحق ولا بالخير، ولا فعاله فعال خير، كمن يسير على الهدى والتقى ويأمر بالعدل والمعروف والقسط، فمقاله حق وفعاله حق، كلاّ.. كيف يكون من حقق العبادة وكان عبداً لله مثل من اتبع هواه واتبع الشيطان فهو يتخبط في ظلمة ويهوي في وادٍ سحيق؟ قال تعالى: ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
فهل من يتلقى الأوامر من جهة واحدة ويتبع سيداً واحداً يشبه حاله حال من يتحكم فيه عدة أسياد، ويتلقى أوامره من عدة أطراف متشاكسة.. فالجواب معروف أنهم لا يستوون.
فذلك حال من وحد الله عز وجل واستسلم له واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم.. فهو في طمأنينة وراحة نفسية، وأما حال من أشرك بالله وصرف شيئاً من العبادة لغير الله عز وجل دعاءً أو توكلاً أو استغاثة أو ذبحاً أو نذراً أو استعانة فحاله مضطربة، خسر نفسه وأهله في الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ونقول له: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن الأمثلة التي وردت في السنة هذين المثلين :-
1- عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، أي أسرعوا بالهرب، فأطاعة طائفة من قومه فأدلجوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)) رواه مسلم.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل يزعمهن - يدفعهن أو يحجزهن – ويغلبنه، فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تقحمون فيها)) رواه البخاري.
هذان مثلان عظيمان ضربهما النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من النذارة كما قال تعالى: وقل إني أنا النذير المبين وقال تعالى: إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلاً بما هو معروف عند العرب حينما يأتيهم من ينذرهم ويعلمهم بما يوجب المخافة منه بأن ينزع ثوبه ويشير به إليهم إذا كان بعيداً عنهم ليخبرهم بما داهمهم. وإنما يفعل ذلك ليكون أبين للناظر، وأغرب وأشنع منظراً وهو أبلغ في طلب سرعة التأهب. هذا النذير المبين – هذا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الحريص على أمته الرحيم بها، أنذرها بالوحي أنذرها بالقرآن – قال تعالى: قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون.
وقد أرسله الله سبحانه وتعالى كما أرسل الرسل كذلك ليأخذوا بيد البشرية إلى طريق النجاة.. لينذروا الناس عاقبة اتباع الهوى والتهافت على الشهوات، دون إدراك لمعنى الحياة دون عبادة لخالق الحياة. دون التنبه إلى أن وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى فيها النعيم المقيم أو العذاب الأليم.
فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
فهو صلى الله عليه وسلم أنذر هذه الأمة وحذرها من كل ما يؤدي بها إلى الشقاء وهو يعلم علم اليقين بأن النجاة والفوز لمن أطاعه واتبع هداه وأن الخسارة فيمن عصاه وكذبه.
وهو صلى الله عليه وسلم مشفق علينا رحيم بنا يحب لنا الخير والسعادة... ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً)). فما ترك شيئاً يوصلنا إلى الجنة إلا ودلنا عليه، ولا شيئاً يباعدنا عنها إلا وحذرنا منه.. ولكن أكثر الناس ولو حرص النبي صلى الله عليه وسلم على نفعهم وهداهم لم يستجيبوا له. ولذلك رغم حرصه عليهم ومحاولته إنقاذهم إلا أنهم زاغوا وتقحموا في النار حينما لم يستجيبوا له ولم ينصاعوا لأوامره بل وكذبوه. ولكن سيعلمون غداً من الكذاب الأشر.
لقد أعذر من أنذر، وبلغ الرسول الرسالة وأدى الأمانة ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى فقام خلفاؤه وأصحاب وورثته من العلماء وسلفنا الصالح بمواصلة البلاغ ونشر الدين وما زالوا كذلك حتى قيام الساعة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها. لا يضرهم من خذلهم لأنهم هم الطائفة المنصورة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
صلى الله عليك يا نبي الرحمة وسلم تسليماً كثيراً فقد أديت وبلغت ونصحت وأنذرت وبشرت وأردت من أمتك أن تكون خلقاً يعقل لا فراشاً يتهافت.. فدعوتنا إلى ما يحيينا حياة طيبة.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من المستجيبين لله وللرسول صلى الله عليه وسلم... من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1525)
الإيمان بالملائكة
الإيمان
الملائكة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبادة الملائكة. 2- عظم خلقة الملائكة. 3- أعمال للملائكة متعلقة بالبشر. 4- أعمال
للملائكة خاصة بالمؤمنين. 5- كلمة في السجود لغير الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن من أركان الإيمان الستة، الإيمان بالملائكة... وهو من الإيمان بالغيب الذي امتُدح المؤمنون به.
لقد خلق الله الملائكة من نور وهم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون ولا يعلم عددهم إلا الله... قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه: ((أتسمعون ما أسمع؟)) قالوا: ما نسمع من شيء قال: ((إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم)).
أيها الإخوة: لقد أوتيت الملائكة القدرة على أن يتشكلوا بغير أشكالهم فهذا جبريل عليه السلام كان يأتي على صورة أحد الصحابة اسمه (دحية الكلبي)، لكن خلقته التي خلق عليها جبريل عليه السلام خلقة عظيمة وله ستمائة جناح، سد الأفق بأجنحته، حيث قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ملك من الملائكة الذين يحملون العرش فقال: ((أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام)) وفي رواية: ((ما بين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام)) فسبحان الخلاق العظيم وللملائكة مزايا وخصائص منها سرعة الانتقال بشكل لا يتصور ولا يقاس بمقاييس البشر.
لقد ذكر بعض أهل علم الهيئة المعروف باسم علم الفلك أن هناك من النجوم التي لم يصل ضوؤها إلى الأرض إلا بعد مئات السنين الضوئية، ومن المعروف أن الشمس أقرب نجم إلى الأرض لا يصل ضوؤها إلا بعد دقائق تقريباً، وهذه النجوم كلها في السماء الدنيا... بينما يكون الملك في السماء السابعة فينزل إلى الأرض في لمح البصر،فسبحان الذي خلقهم.
وقد ذكر الله عز وجل عنهم أنهم رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، وأنهم عباد مكرمون، استجابوا لأمر ربهم حينما أمرهم بالسجود لآدم تشريفاً وتكريماً له، فأطاعوا ربهم ونفذوا أمره، وهذا فيه تحقيق منتهى العبودية والطاعة لرب العالمين، وقد وجهنا للاقتداء بهم في الصلاة حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟)) قالوا وكيف يصفون عند ربهم قال: ((يكملون الصف الأول فالأول ويتراصون في الصف)).
وللملائكة علاقة وثيقة ببني آدم عامةً وبالمؤمنين خاصةً، فالعلاقة مع بني آدم تكون في أمور منها كتابة أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وأشقياء أم سعداء، وذلك في أرحام أمهاتهم بعد إكمال 120 يوماً. كما جاء في حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. والملائكة منهم من يتولى حراسة الإنسان، له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (المعقبات هم الملائكة جعلهم الله ليحفظوا الإنسان من أمامه ومن ورائه، فإذا جاء قدر الله الذي قدر أن يصل إليه خلوا عنه) قال الله تعالى: وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.
فالحفظة الذين يرسلهم الله من الملائكة يحفظون العبد حتى يأتي أجله المقدر عليه.
وأيضاً الملائكة هم الموكلون بحفظ أعمال بني آدم من خير وشر: وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون. وقال تعالى: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ورقيب وعتيد هما صفتان للملكين، أي حاضران شاهدان لا يغيبان عن العبد، وليس اسمهما رقيب وعتيد كما يظن بعض الناس، فكل منهما رقيب عتيد.
والملائكة تحمل روح العبد بعد موته، فمنهم ملائكة للعذاب وأخرى ملائكة الرحمة حيث تأخذ كل منهما الروح التي ينزعها ملك الموت من العبد إما إلى النعيم وإما إلى الجحيم والعياذ بالله. وأيضاً هم الموكلون بسؤال العباد بعد موتهم في قبورهم، وقد روي عن اسم الملكين الموكلين بالسؤال أحاديث صححهاكثير من أهل العلم، أنهما: منكر ونكير، فيسألان الميت بعد دفنه ورجوع الروح إليه من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟
وبالمناسبة فليس هناك رواية صحيحة تثبت أن اسم ملك الموت عزرائيل أو خازن الجنة اسمه (رضوان) فملك الموت لم يذكر في القرآن والسنة إلا باسم ملك الموت، وكذلك خازن الجنة، أما خازن النار فقد ثبت اسمه بالقرآن: مالك.
وكذلك الأمين على الوحي جبريل أو جبرائيل، والموكل بالقطر والنبات ميكائيل، أو ميكال، والموكل بالنفخ في الصور إسرافيل، والرعد الموكل بالسحاب. كما جاء في سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب معه مخا ريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله)).
أما علاقة الملائكة بالمؤمنين، فهم يحبون المؤمنين ويسددونهم ويصلون عليهم وعلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وصلاتهم على المؤمنين معناه الدعاء لهم والإستغفار لهم، وهم يصلون أيضاً على معلمي الناس الخير، وعلى من يأتي المسجد للصلاة، وعلى الذين يصلون في الصف الأول، وعلى الذين يبقون في المسجد بعد انقضاء الصلاة. وعلى الذين يسدون الفرج في الصفوف، وعلى المتسحرين، وعلى الذين يزورون المرضى، وهذه كلها وردت بها أحاديث صحيحة لا يسع الوقت لذكرها كلها.. قال الله تعالى: هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
والملائكة تؤمن على دعاء المؤمن وتدعو له إذا دعا لأخيه بظهر الغيب قال صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المرء مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك يؤمن على دعائه كلما دعا له بخير قال: آمين، ولك بمثله)).
وهم يستغفرون للمؤمنين قال الله تعالى: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا.
والملائكة تحضر مجالس العلم والذكر وتحف أهلها بالأجنحة...، وكذلك تحضر خطبة الجمعة، بل يحضرون من أول النهار حيث يسجلون من حضر للصلاة: الأول فالأول حتى إذا صعد الخطيب المنبر جلسوا يستمعون الذكر، وهم يتعاقبون فينا ليلاً ونهاراً عند صلاة الفجر وصلاة العصر.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة وعن طريق الملائكة يُبلغ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة وسلام المؤمنين عليه، سواء من سلم عليه من عند القبر، أو من كان في الصين، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تعالى ملكاً أعطاه سمع العباد فليس من أحد يصلي عليِ إلا بلغنيها)) وإن من العجيب أن يكتب مؤلف في كتابه فيقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع مباشرةً من يسلم عليه ويرد السلام أيضاً على من يسلم عليه، ويقول: لو أنصت المسلم علي، قليلاً فإنه يسمع الرد مباشرةً من النبي صلى الله عليه وسلم. ولا أدري من أين جاء بهذه الكذبة على الله وعلى رسوله.
بل إن الكاتب المذكور يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من يقفون عند قبره، ويعلم خطرات قلوبهم، فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جنهم مثوى للكافرين.
أيها الإخوة: والملائكة تقاتل مع المؤمنين إذا ما جاهدوا في سبيل الله وإعلاء كلمته، ويثبتونهم في الحروب. وكذلك تشهد الملائكة جنازة الصالحين، وتظل الشهيد بأجنحتها. والملائكة تحمي مكة والمدينة من الدجال، والملائكة باسطة أجنحتها على الشام كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام)) قالوا يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: ((تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام)).
والملائكة تؤمن إذا أمن الإمام في الصلاة كما جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمن الإمام فأمِّنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)).
أيها الإخوة: إن الواجب علينا أن نتجنب كل ما يؤذي الملائكة ويبعدها عنا وعن بيوتنا، بتعليق الصور ووضع المجسمات لذوات الأرواح، والحضور إلى الصلاة برائحة كريهة، وتربية الكلاب في البيوت، هذه التربية التي دخلت على المسلمين فلحقهم الخسران، ووقعوا في الخطأ من جهات مختلفة، منها التشبه بالكفار وخسران قيراطين من الأجور كل يوم وعدم دخول الملائكة في البيت الذي فيه الكلب. نسأل الله العافية.
وعلى المسلمين موالاة الملائكة كلهم وحبهم جميعاً لأنهم جميعاً عباد الله، عاملين بأمره تاركين لنهيه، ليس كما فعلت اليهود حينما أعلنوا أن جبريل عدو لهم. قال تعالى: قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين. فأخبر سبحانه أن الملائكة كلهم وحدة واحدة، فمن عادى واحداً منهم فقد عاد الله وجميع الملائكة. فعلينا أيها الإخوة محبة جميع الملائكة وموالاتهم فهم يوالون المؤمنين.
وإن من العجيب أن غلاة الصوفية الذين يؤلفون القصائد في مدح النبي وذكر بعض خصائصه، يذكرون زوراً وبهتاناً وكذباً على الله وعلى ملائكته أموراً فيها تهمة الشرك لهؤلاء الكرام البررة، فلقد ذكر أحدهم في كتاب له رأيته بعيني أن الملائكة سجدت للنبي صلى الله عليه وسلم حينما عُرج به إلى السماء، حيث قال في قصيدته:
كلما لحت للملائك خروا في السموات سجداً وبكياً
نعوذ بالله من الضلال، إن هذا الإفك عظيم وفرية كبيرة قذف بها هذا المبتدعُ الكرامَ البررة، فويله مما قال، قال تعالى: ومن يكسب خطيئةً في أو وإثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً.
ولا أدري من أين جاء بهذه الفرية، والقرآن والسنة بينا حادثة الإسراء والمعراج ولم يذكرا فيها هذا السجود المزعوم والمصحوب بالبكاء.
بل إن الروايات ذكرت أن الملائكة لم تعرف بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم مع جبريل، فحينما كان يستفتح كل سماء فيسأله خزنتها من معك؟ فيقول: محمد، فيقولوا: قد أرسل إليه؟ فيقول: نعم، فقيل: مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، وقد يقول قائل: لقد سجدت الملائكة لآدم عليه السلام، وهذا سيد ولد آدم فلم لا يكون السجود له؟ وهذا قياس فاسد. لأن سجود الملائكة لآدم كان بأمر من الله تكرمة له، فكان السجود طاعة لله وعبادة، وتشريفاً لآدم، ولا يمكن لمخلوق أن يسجد لغير الله إلا إذا أمر الله بذلك فلو أمرنا الله بالسجود لأحد لسجدنا طاعة له كما نفعل بتقبيل الحجر الأسود، أو غيرها من أنواع القربات المماثلة التي لا يمكن أن تفعل إلا بأمر رب العالمين. فكيف لهذا الأفاك أن يقرر أن الملائكة سجدوا لغير الله سجود خشوع وخضوع مصحوباً بالبكاء وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون إلا ما يؤمرون.
أيها الإخوة: لقد عصم الله عز وجل ملائكته الكرام البررة من أن يشركوا به، بل هم معصومون من مطلق العصيان، فلا تجوز عليهم المحقرات فضلاً عن الموبقات، ولا يصدر عنهم الصغائر فكيف بأكبر الكبائر؟.
(1/1526)
التبرك
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأصل في العبادات التوقيف. 2- تبرك الصحابة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم. 3- هذا
التبرك خاص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الناس. 4- حكم تتبع آثار النبي. 5- البركة في
بعض الأقوال والأماكن والأزمنة والأطعمة والأشربة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إنه مما ينبغي للمسلم معرفته هو أن أي قربة أو أي عبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسيين:
أولاً: الإخلاص لله تعالى.
والثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فبذلك يتضح أن أي عمل كانت النية فيه خالصة لله عز وجل ولم يكن موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو عمل مردود غير مقبول، وأن أي عمل مشروع موافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولكن دخله الشرك أو الرياء فهو عمل غير مقبول ومردود على صاحبه.
وأيضاً أيها الإخوة: هناك أصل شرعي عظيم ينبغي علينا معرفته وفهمه، وهو أن العبادات الأصل فيها المنع حتى يثبت الدليل بمشروعيته.
من هذا المنطلق سنتكلم اليوم عن مسألة أخطأ فيها كثير من الناس، ألا وهي مسألة التبرك بالأشخاص أو الجمادات أو الأمكنة أو الأزمنة، وسنتعرف على مشروعية هذه الأعمال وفقاً للأصول السابقة بموجب الأدلة الشرعية الثابتة الصحيحة. فالتبرك قضية عقدية جر مخالفتها إلى البدع والشرك.
أيها الإخوة: فلنبدأ بالتعرف على مسألة، مشروعية التبرك بالأشخاص، فالتبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم أمر ثابت النصوص الشرعية الصحيحة التي لا أستطيع سردها كلها، ولكن أشير إليها، فلقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم وببصاقه وبسؤره وبوضوئه وبعرقه وبملابسه وآنتيه وما انفصل من جسده وما استعمله من آنية أو ملابس، قد جعل الله فيه من البركة ما يستشفى به ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة (مع الاعتقاد أن الواهب لهذا الخير والمعطي له هو رب السموات والأرض، وأن هذا لا ينفع إلا المؤمنين بالله المتبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم).
وهذا التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وما استعمله من آنية.
أيها الإخوة: انتهى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد فقد ما بقي من ثيابه أو شعره، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين الآن.
ولم يقم أحد من الصحابة بالتبرك بذوات أو عرق أو بصاق أو ملابس أو آنية أحد من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم كعلي بن أبي طالب أو الحسن أو الحسين أو العباس أو أبناء العباس أو أبناء جعفر رضي الله عنهم أجمعين، مما يدل على أن هذا أمر خاص بالنبي لا يجوز أن يقاس عليه أحد من آل بيته أو أزواجه أوالخلفاء الراشدين أو العشرة المبشرين بالجنة فضلاً عن غيرهم.
فالتبرك عبادة - ولو كان التبرك بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوز لفعله خير خلق الله بعد الرسل، وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفعله كبار التابعين وأتباعهم ولفعله الأئمة الأربعة، فلما أطبقوا واتفقوا على تركه دل على عدم مشروعيته - أما التبرك بالأماكن التي مشى فيها النبي صلى الله عليه وسلم أو جلس فيها أو مسكها بيده أو صلى فيها اتفاقاً أو تحنث فيها قبل البعثة، فلم يثبت مشروعية التبرك بها أو الصلاة فيها قصداً أو زيارتها لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين.
يا أيها الإخوة: بعد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لم يصعد إلى غار حراء ولم يطلب من أصحابه فعل ذلك وقد جاء إلى مكة فاتحاً ولم يقل لأصحابه: انظروا إلى المكان الذي كنت أتحنث فيه، أو اذهبوا إلى غار ثور لتروا أين اختبأت أنا وأبو بكر ليلة الهجرة، ولم يفعل ذلك الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين، بل لقد قطع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشجرة التي في الحديبية التي تمت البيعة تحتها، حينما رأى الناس يذهبون إليها للتبرك عندها، ونهى الناس عن تحري الصلاة في مكان صلى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد إلى المدينة، وقال رضي الله عنه: (إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعاً، من أدركته الصلاة في هذا المسجد، أي المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فليصل، ومن لا فليمض ولا يعتمدها) أي من مر بهذا المكان وكان وقت صلاة مفروضة فليصلِ الصلاة المفروضة مثله مثل أي مكان آخر، وأما قصد المكان بعينه للصلاة فيه تبركاً فممنوع.
فعلينا أيها الإخوة الاتباع في هذه المسائل ونبتعد عن التقليد الأعمى الذي قد يجرنا إلى الهاوية وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن التبرك بالأقوال أو الجمادات أو الأزمنة التي ثبتت بركتها بالقرآن والسنة لا يكون إلا بالكيفية الثابتة الصحيحة.. فبركة ذكر الله عز وجل ثابتة بالقرآن والسنة، وهو من التبرك بالأقوال، وأفضل أنواع الذكر قراءة القرآن ثم التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، كلها أذكار يستحق قائلها غفران الذنوب ودخول الجنة، وتفريج الكربات، ونزول المطر، وكثرة الرزق والذرية، والشفاء من الأسقام والأمراض، وهذه البركة تكون لمن وفق في القيام بذكر الله على الوجه الشرعي الثابت الصحيح دون زيادة ولا نقص، وبالكيفية الثابتة الصحيحة دون زيادة أو نقص.. فما كان منه مطلقاً في كل وقت نقوله مطلقاً في كل وقت، وما كان منه مخصوصاً بعدد معين كأذكار ما بعد الصلوات نقوله بالعدد المعين أو ما كان منه مخصصاً بمكان معين، مثل الدعاء بين الركنين أثناء الطواف نقوله في مكانه، أو بزمان معين كأذكار الصباح أو أذكار المساء نقوله في وقته وهكذا.. فلا نخصص عدداً معيناً دون دليل ولا نخصص مكاناً لذكر الله دون دليل ولا نخصص زماناً للذكر دون دليل.
إذا تقيدنا بذلك وأخلصنا النية لله حصلت لنا البركة في الدنيا والآخرة بإذن الله عز وجل.
أيها الإخوة: أما التبرك بالأمكنة فهناك أمكنة مباركة ثابتة بالقرآن والسنة ومنها المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ثم المساجد المبنية بما يوافق الشرع، ولا يكون التبرك بها إلا بما هو مشروع وثابت، فيكون بالصلاة فيها والطواف بالكعبة، وحضور مجالس الذكر فيها، وحفظ القرآن ومدارسته وطلب العلم الشرعي، وليس التبرك بها بالتمسح بالأحجار أو التراب أو تقبيل الشبابيك والأبواب.
ولا تشد الرحال تقرباً إلى الله إلا إلى المساجد الثلاثة المعروفة، ولا يطاف بأي بناء أو مكان إلا بالكعبة المشرفة المباركة إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين. والتبرك بالكعبة المباركة بالطواف حولها والاتجاه إليها في صلاتنا ودعائنا، وليس بالتمسح بثوبها أو بشيء منها، ولا يستلم غير الركنين كما ثبت في السنة الصحيحة ومن الأمكنة المباركة مكة والمدينة والشام وتحصل البركة لمن سكنها إذا قام بحقوقها ورعاية حدود الله وشرعه في تعامله مع ساكنيها، أما من تعدى وطلب التبرك بها كأن يتمسح بترابها وأحجارها وأشجارها فإنه مأزور غير مأجور لأنه سلك في التبرك مسلكاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدين ولا الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وأيضاً: هناك أزمنة مباركة خصها الله عز وجل بزيادة فضل وبركة فمن تحرى الخير فيها وقام بما شرع له فيها من عبادة ناله من البركات العظيمة ما الله بها عليم.
ومن هذه الأزمنة شهر رمضان وليلة القدر والثلث الأخير من الليل ويوم الجمعة ويوم الاثنين والخميس والأشهر الحرم وعشر ذي الحجة ويوم عرفة، وهذه كلها لها أدلة شرعية ثابتة. وأما من خصص أزمنة معينة لزيادة عبادة أو قربة بدون دليل شرعي فهو مبتدع ضال والعياذ بالله.
وأختم خطبتي بذكر بعض الأطعمة المباركة ومنها زيت الزيتون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة)). واللبن فإنه طعام وشراب مبارك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وارزقنا خيراً منه، ومن سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزيء من الطعام والشراب إلا اللبن)).
وكذلك تمرة المدينة العجوة حيث صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)) وأيضاً العسل شراب فيه شفاء للناس، وماء زمزم ماء مبارك فهو طعام طعم، وهو لما شرب له، وماء المطر ماء مبارك قال الله تعالى: ونزلنا من السماء ماءً مباركاً وكان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يتعرضون بأجسامهم وثيابهم وآنيتهم للمطر لأنه ماء مبارك حديث عهد بربه، ولحصولنا على البركة من هذه المشروبات والمأكولات علينا التقيد بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته قولا وعملاً معتقدين أن كل ذلك بفضل الله ورحمته، فنحمده تعالى على ما أنعم به علينا، ونسأله أن يبارك لنا فيها، ونلتزم بما هو ثابت دون زيادة أو نقص.
(1/1527)
التمسك بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, الفرقة الناجية
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم التفرق في الدين. 2- دعوة القرآن لالتزام الطريق المستقيم. 3- الطريق المستقيم هو
اتباع سلف هذه الأمة. 4- ما جاء في القرآن والسنة من الأمر باتباع السلف الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن الطريق الذي يضمن لنا نعمة الإسلام واحد لا يتعدد، لأن الله كتب الفلاح لحزبٍ واحدٍ فقط فقال: أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وكتب الغلبة له وحده فقال: ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.
ومهما بحثت أخي المسلم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلن تجد تفريق الأمة إلى جماعاتٍ وتحزيبها في تكتلات إلا مذموماً. قال تعالى: ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون وكيف يقر ربنا عز وجل أمة على التشتت بعدما عصمها بحبله، وهو يبرئ نبيه صلى الله عليه وسلم منها فيقول: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: ((هذا سبيل الله. ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. فدل هذا الحديث بنصه على أن الطريق واحد، وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصل إليه أحد إلا من هذا الطريق، ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله.
أيها الإخوة: إن الذي لا يختلف فيه المسلمون قديماً وحديثاً هو أن الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا هو طريق الكتاب والسنة. فإليه يردون ومنه يصدرون، ذلك لأن الله ضمن الاستقامة لمتبع الكتاب فقال على لسان مؤمن الجن: يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم كما ضمنها لمتبع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. لكن الذي جعل الأمة الإسلامية تنحرف عن الطريق هو إغفالها ركناً ثالثاً جاء التنويه به في الوحيين جميعاً ألا وهو فهم السلف الصالح للكتاب والسنة.
وقد اشتملت سورة الفاتحة على هذه الأركان الثلاثة في أكمل بيان فقوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم اشتمل على ركني الكتاب والسنة، وقوله: صراط الذين أنعمت عليهم اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط مع أنه لا يشك أحد في أن من التزم بالكتاب والسنة فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم. إلا أنه لما كان فهم الناس للكتاب والسنة منه الصحيح ومنه السقيم اقتضى الأمر ركناً ثالثاً لرفع الخلاف. ألا وهو تقييد فهم الأخلاف بفهم الأسلاف. وقال ابن القيم رحمه الله في تفسير هذه الآية: وتأمل سراً بديعاً في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره. فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح.
وقال أيضاً: فكل من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم. ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض. ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله بأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.ا.هـ. كلامه. وفي هذا تنصيص منه رحمه الله على أن أفضل من أنعم الله عليهم بالعلم والعمل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم شهدوا التنزيل وشاهدوا من هدي الرسول ما فهموا به التأويل. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة.أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم الفضل واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الصراط المستقيم).
قال الإمام أحمد رحمه الله: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، ومن حظي برضى الله من بعدهم فللاقتداء بهديهم قال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه.
فيا أيها الإخوة : ألا تحبون أن تكونوا من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.. بلى كلنا نحب ذلك فإذاً علينا اتباع الصحابة في فهمهم للكتاب والسنة ونهتدي بهم فيما فعلوا أو قالوا، ونترك ما تركوا، والله الهادي إلى سواء السبيل.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة: قد جاء تحديد زمن السلف الذين لا تجوز مخالفتهم بإحداث فهم لم يفهموه. في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)).
ولهذا الأصل نظائر وأدله من الكتاب والسنه. منها قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونُصْله جهنم وساءت مصيراً. والشاهد هنا: في ضم مجانبة ومفارقة سبيل المؤمنين إلى مشاقة الرسول لاستحقاق هذا الوعيد الشديد مع أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحده كفيلة بذلك. كما قال تعالى: إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم. ومنها ما رواه عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا. فقال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: ((ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة)) والشاهد هنا في وصف الفرقة الناجية بالجماعة، والعدول عن إضافتها إلى الكتاب والسنة مع أنها لا يمكن أن تخرج عنهما قط، والسر في ذلك يكمن في التنبيه على الجماعة التي فهمت نصوص الوحيين وعملت بهما على مراد الله ورسوله. ولم يكن يومئذ جماعة إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك صحح أهل العلم اللفظ الآخر الوارد في هذا الحديث من رواية الترمذي وهو قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الفرقة الناجية: ((ما أنا عليه وأصحابي)). إذاً الجماعة الناجية والفرقة التي في الجنة هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم، فأصحاب رسول الله هم الذين شهد الله لهم بالإيمان والصدق والفلاح وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية وأمرنا بالاقتداء بهم، فهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، فمن سار في طريق فيها مشاقة وبعد عن طريقهم فقد اختار طريق الهلاك وسوء المصير والعياذ بالله.
أيها الإخوة: النجاة والفلاح في التمسك بالوحيين بفهم وهدى السلف الصالح – الخلفاء الراشدين وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كان هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا فقال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).
(1/1528)
التوسل وأنواعه
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الألوهية, الدعاء والذكر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يجوز صرف العبادة بأنواعها لغير الله. 2- التوسل عبادة من العبادات. 3- التوسل
بأسماء الله وصفاته. 4- التوسل يصاع العمل. 5- التوسل بدعاء الصالحين. 6- التوسل
المبتدع والمحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له. قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء وقال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين. فلا يصح صرف شيء من العبادة لأي مخلوق، وإلا لكان ذلك شركاً محبطاً للعمل إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
ومن أنواع العبادة التي صرف بعض الناس منها شيئاً لغير الله قديماً وحديثاً... الدعاء، والتوسل، والتضرع، في الرخاء والشدة، بل إن المشركين قديماً يشركون في الرخاء، أما في الشدة فيدعون الله وحده، ويتوسلون بأسمائه وصفاته، ويتضرعون إليه مخلصين، كما قال تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون.
أما مشركو زماننا فإنهم يشركون في الشدة والرخاء بدعائهم الأموات أو الجن، والتضرع والتوسل بالقبور والأضرحة والعياذ بالله.
أيها الإخوة: إن الدعاء والتوسل والتضرع لا يكون إلا لله وحده قال تعالى: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.
والدعاء والتوسل والتضرع إلى الله عز وجل لابد أن يكون خالصاً لله عز وجل، وموافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذان الشرطان أساسيان في كل عبادة.. فكل عباده لا تقبل إلا إذا كانت خالصة لله عز وجل وموافقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ، فالعمل الصالح هو الموافق للسنة ولما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والخالص هو الذي يكون لله وحده لا شريك له، والتوسل من العبادات فلا بد أن يكون خالصاً لله وموافقاً لما جاء به النبي صل الله عليه وسلم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون.
وقال تعالى: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً. والوسيلة هنا معناها القربة أي تقربوا إلى الله بطاعته والعمل بما يرضيه.
والتوسل المشروع أيها الإخوة: يكون بأحد ثلاثة أمور لا رابع لها، وما سوى هذه الأنواع الثلاثة مردود، لأنه إما توسل بدعي أو توسل شركي نسأل الله العافية.
النوع الأول من التوسل المشروع: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: ولله الأسماء الحسنى مثل قولنا: اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم أن ترحمني وتغفر لي. وقد جاء في القرآن والسنة من هذه التوسلات الكثير مثل قول الله تعالى: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. وقوله تعالى: وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
ومثل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: ((قد غفر له، قد غفر له)) حينما دعا في تشهده فقال: اللهم إني أسألك يا الله، الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم، وقوله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني)) ، فهذه توسلات إلى الله باسم من أسمائه الحسنى أو بصفة من صفاته سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: التوسل إلى الله تبارك وتعالى بالعمل الصالح كما جاء في قوله تعالى: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ، وقوله تعالى: ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
فنلاحظ في هذه الآيات أنه جاء توسل فيها بالإيمان بالله وبكتبه وبرسله صلى الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً لطلب المغفرة وحسن الخاتمة، وهذا ما فعله الثلاثة الذين دخلوا في كهف فسدت الصخرة عليهم الغار، فقرروا أن يتوسلوا إلى الله بأحسن ما عملوا في حياتهم، فتوسل الأول ببره لوالديه وكيف كان لا يشرب اللبن الذي يحلبه من الماشية إلا بعد أن يشرب والديه، وأما الثاني فذكر قصة العامل الذي ترك أجرته، فقام باستثمار تلك الأجرة حتى نمت وكبرت، فحينما جاءه العامل الأجير أعطاه كل تلك الأموال التي كثرت والتي كان أصلها أجرته التي تركها منذ مدة.
أما الثالث: فقد توسل بخشيته من الله عز وجل بعد أن قارب الوقوع في فاحشة الزنا مع ابنة عمه التي كانت في حاجة للمال فأعطاها ما تريد مقابل أن تمكنه من نفسها، فحينما قالت له اتق الله، قام ولم يقارف الفاحشة خوفاً من الله عز وجل وتنازل عن المبلغ الذي أعطاها إياه.
وقد ذكر هؤلاء الثلاثة أن فعلهم ذلك كان خالصاً لله لا يريدون به إلا وجهه، فسألوا الله عز وجل أن يفرج عنهم مما هم فيه فتزحزحت الصخرة وانفتحت المغارة وخرجوا سالمين.
التوسل الثالث المشروع هو التوسل إلى الله تعالى بدعاء الصالحين.. وهذا لا ينافي ما ذكرناه في خطبة الدعاء أن الأصل في الإنسان أن يدعو لنفسه في الأوقات المرجوة وأن يكثر من الأدعية الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس أن يطلب أحياناً من أحد الصالحين أن يدعو له، وخاصة ممن يعرف عنه التقوى وإجابة الدعوة، وأخص من ذلك في حالة ما إذا كانت الدعوة لعامة المسلمين، كالدعوة للمجاهدين بالنصرة أو في حالة القحط حيث يطلب من الرجل الصالح أن يستسقي للمسلمين أو يطلب منه الدعاء بالمغفرة، فلقد طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو من هو، طلب من أويس القرني أن يستغفر له، وأويس هذا تابعي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عنه وعن تقواه... وقال لعمر: إن رأيته فاطلب منه أن يستغفر لك، وهذا معاوية رضي الله عنه أيام خلافته يطلب من أحد التابعين أن يستسقى للمسلمين لما عرف من تقواه وأنه مجاب الدعوة.
أيها الإخوة هذه هي الأنواع الثلاثة الثابتة والصحيحة من التوسل. فعلينا الالتزام بها راجين من الله قبول العمل والاستجابة للدعاء.
أسأل الله العلي العظيم أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
أيها الإخوة: إن المسلم الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى عليه وسلم رسولاً، ملتزم بما جاء به الشرع الحنيف، يقتدي ويتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين المهديين، فلا يدعو ولا يتوسل ولا يفعل من أمور الدين التي تقربه إلى الله إلا بما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤدي هذه الأعمال إلا بنية خالصة لله لا يريد منها رياء ولا سمعه، ويحرص على كل ما من شأنه قبول عبادته، وقبول دعائه، وقبول توسله، فلا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا طيباً حلالاً، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن من أسباب عدم إجابة الدعاء، ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
ومن أسباب عدم قبول الدعاء والتوسل، الابتداع في الدين، فمن أحدث بدعة لم يشرعها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عمله ذلك مردود ولا يقبل منه كما أنه لا تقبل له توبة حتى يدع بدعته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)). فكيف بمن يتوسل ويدعو بتوسلات وأدعية بدعية لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كالتوسل بالأموات وبالأضرحة، أو التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم... فنحن نعلم أن جاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله عظيم، ومكانته عالية، ولكن ليس من السنة ولا من فعل السلف الصالح التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم، أو التوسل بطريقة غير التي ذكرت في الخطبة الأولى، فتلك الطرق الثلاث هي الثابتة وهي الصحيحة، فعلى المسلم أن يلتزم بها ولا يحيد عنها إلى غيرها.
أيها الإخوة: حافظوا على السنن واجتنبوا المحدثات والبدع حتى تنالوا الفوز والفلاح، وحتى تنالوا شربة هنيئة من حوض نبيكم، واتبعوا السلف الصالح فإن في اتباعهم النجاة في الدارين، قال الله تعالى: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون ، وقال تعالى: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
أيها الإخوة: تخيروا الأوقات المرجوة لدعائكم وتوسلوا فيها بأسماء الله تعالى وصفاته وأكثروا من الدعاء والاستغفار وأكثروا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمن صلى عليه واحدة صلى الله بها عليه عشراً، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأكثروا من الصلاة على النبي في هذا اليوم الجمعة وخاصة في آخره بعد العصر.
أسأل الله العلي العظيم أن يتقبل منا أعمالنا وأن يجعلها خالصة لوجه الكريم إنه سميع مجيب.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1529)
الجمعة وفضلها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم الجمعة. 2- آداب يوم الجمعة. 3- سنن صلاة الجمعة. 4- الحضور المبكر
لصلاة الجمعة. 5- ساعة الإجابة في يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [الجمعة:9]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)) [متفق عليه]. وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)) [رواه مسلم]. وعن أبي لبابة رضي الله عنه قال.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن يوم الجمعة سيد الأيام ، وأعظمها عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم. وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله فيه آدم. وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً. وفيه تقوم الساعة. ما من ملكٍ مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحرٍ إلا وهنّ يشفقن من يوم الجمعة)) [رواه الترمذي]. وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قال: قالوا يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمَت؟ يقولون بليت، فقال: ((إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) [رواه أبو داود].
أيها الإخوة: إن هذا اليوم يوم عظيم، ومما يدل على عظمته ومكانته، أنه من مات فيه وقي من فتنة القبر ومن المعلوم لدى الجميع أنه لا يكون ذلك إلا لمن مات وهو مسلم موحد، كما جاء عند الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
أسأل الله العلي العظيم أن يقينا جميعاً فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال، أنه سميع مجيب.
أيها الإخوة: وإن هذا اليوم يوم عيد للمسلمين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين. فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل. وان كان طيب فليمس منه وعليكم بالسواك)) [رواه ابن ماجه].
فعلى المسلم أن يلبس أحسن ثيابه ويغتسل ويتطيب ويتسوك في هذا اليوم العظيم، عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الغسل يوم الجمعة على كل محتلم - أي بالغ - والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه)) [متفق عليه].
وعلى المسلم أن يحضر مبكراً للمسجد، ويصلي ما قدر له حتى حضور الإمام، ثم الإنصات للخطبتين حتى ينال الأجر العظيم الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) [رواه البخاري].
كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من اغتسل، ثم أتى الجمعة، فصلى ما قدر له. ثم أنصت حتى يفرغ من خطبته. ثم يصلي معه غفرله ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام)).
فانظر أخي المسلم إلى هذا الفضل العظيم، واحرص على الخير مع العلم أن الصلاة قبل الجمعة نافلة لاعدد لها، واعلم أنه ليس هناك سنة راتبةٍ قبل الجمعة إنما السنة الراتبة بعدها إما ركعتين في البيت أو أربعاً في المسجد كما ذكره أهل العلم جمعاً بين الحديثين التاليين:
- عن أبن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. [متفق عليه].
- وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلِ بعدها أربعاً)) [رواه مسلم].
فمن أراد أن يصلي في المسجد السنة الراتبة بعد التسليمتين فلينتظر قليلاً ويقول الأذكار المشروعة، حتى لا يصل صلاة بصلاة، فيقع فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عمر بن عطاء أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن أخت نمر يسأله عن شئ رآه منه معاوية في الصلاة فقال: نعم صليت من الجمعة في المقصورة فلما سلم الإمام قمت من مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلىّ فقال: (لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك. أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج).
أيها الإخوة: بادروا بالحضور إلى المساجد يوم الجمعة والتزموا بالسنن الثابتة حتى تنالوا المغفرة، فالجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل قال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها فلا تفوت أيها المسلم على نفسك هذا الأجر بالتأخر في الحضور أو اللغو وعدم الإنصات وقت الخطبة، واللغو يحرم المصلي أجر الجمعة، كما جاء بذلك الأثر الصحيح: ((من مس الحصى فقد لغي، ومن لغي فلا جمعة له)). وكما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب ففد لغوت)).
وعلى المتأخر إذا حضر والإمام يخطب، أن يجلس في أول فرجة يجدها ويصلي ركعتين خفيفتين. ولا يتخطى رقاب الناس فيؤذيهم ويقع في الإثم والوزر.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
جاء في سنن النسائي عن أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من غسل واغتسل وغدا وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة، صيامها وقيامها)).
فيا سبحان الله العظيم، الكريم المنان، يكتب لعبده المبكر للصلاة والماشي على قدميه، بكل خطوة يخطوها أجر سنة كاملة صيامها وقيامها في حال عدم لغوه، وحسن إنصاته للخطبتين، فاللهم لك الحمد على منّك وعطائك يا رب العالمين.
أيها الإخوة: قد جاءت الأحاديث التي تبين أن الملائكة تقف على أبواب المساجد يوم الجمعة تكتب أسماء الداخلين الأول فالأول حتى حضور الإمام، فإذا حضر الإمام وصعد المنبر جلست الملائكة للاستماع للذكر بعد أن تطوي الصحف التي كتبت بها الأسماء. فاحرص أخي المسلم على هذا الشرف العظيم، ولو أن كل مسلم استشعر هذا الأمر وكان في بؤرة اهتمامه لما تأخر عن الحضور إلى ما بعد صعود الإمام المنبر، وإذا صعد الإمام على المنبر فحاول أخي المصلي قدر المستطاع أن تستقبله بوجهك، لما جاء عند الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا.
واعلم أيها الأخ المسلم أن في هذا اليوم ساعة إجابة، وقد ورد حديثان عن هذه الساعة أحدها في صحيح مسلم وأن وقتها هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة، والآخر ما جاء في السنن أن وقتها آخر ساعة بعد العصر. وقد ذكر أهل العلم أن هذه الساعة إما أن تكون في الوقتين المذكورين في يوم الجمعة أو أنها تنتقل من جمعة لجمعة مثل ليلة القدر، وأنها أخفيت ليهتم بها المسلمون، فيحرصون على الدعاء أثناء الصلاة وخاصة وقت السجود، وقبل التسليم، وفي آخر النهار.
ويكثروا المسلمون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة صباحاً ومساءً، بل وكل يوم يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في الصباح عشراً وفي المساء عشراً، فمن فعل ذلك أدركته الشفاعة يوم القيامة بوعد من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
(1/1530)
الجهاد في سبيل الله
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدرج تشريع الجهاد. 2- الهدف من الجهاد في الإسلام. 3- فضل الجهاد والمجاهدين. 4-
عاقبة ترك الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: لقد بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرج الأمة من عبودية العباد والأهواء إلى عبودية الخالق سبحانه وتعالى، وجاء بالشرع الإسلامي الذي دعا إلى حفظ الدين والعقل والنفس والمال والنسب.
ووضع لكلٍ حدوداً وأهدافاً وطرقاً يلتزم بها كل موحد بالله مؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، فجاء الشرع الرباني بالقصاص والحدود لحفظ هذه الضروريات الخمس، الدماء، والعقل، والنفس، والمال، والنسب، والدين، وجاء الإسلام بالسبل المؤدية لتلك الغايات والمشبعة للحاجات بالطرق السليمة المباحة.
فبالزواج يحفظ النسب، وبالتجارة المباحة يكسب المال الحلال، وبالقصاص تحفظ الدماء وهكذا.
ولكون الأصل في هذا كله هو حفظ الدين، ونشره بين الناس، وحمايته من الأعداء، كان الجهاد في سبيل الله، الجهاد باللسان والحجة والبيان، والجهاد بالسيف والسنان، فكانت البداية دعوة إلى الله بالحجة والبيان، جهاد بالقرآن كما قال تعالى: وجاهد هم به جهاداً كبيراً وعند إبلاغ الدعوة للناس وقف أعداء الله في وجهها بكل السبل حتى وصل بهم الأمر إلى محاولة الاغتيال، لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، عندها جاء الإذن بالهجرة ثم الجهاد بالسنان فما هو الجهاد؟ وما هي أهدافه؟
أيها الإخوة: إن الجهاد بالسيف والسنان هو ذروة سنام الإسلام وهو استعداد على قدر الاستطاعة لإخضاع المعاندين والمكابرين لأمر الله... فإما الإسلام وإما الجزية وإما القتال.
قال صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) إن للجهاد حكماً بالغة، وأهدافاً جليلة، لأن الذي شرعه هو العليم الخبير والهدف الرئيس هو تعبيد الناس لله وحده وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً وإخلاء العالم من الفساد والبغي. قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين وقال سبحانه: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير قال المفسرون من الصحابة: حتى لا تكون فتنة أي حتى لا يكون شرك قال ابن جرير رحمه الله: فقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي حتى لا يكون شرك ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة ويكون الدين كله لله.
إن هذا الهدف السامي هو إعلاء كلمة الله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وإخلاء الأرض من الفساد وإزالة الطواغيت، وهو موضع اتفاق بين علماء المسلمين. يقول الشافعي رحمه الله: يجاهد مِنَ المسلمين مَنْ في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية ويقول محمد بن الحسن: فريضة القتال، المقصود منها إعزاز الدين، وقهر المشركين. ويقول ابن عبد البر المالكي: يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والفزارية والصقالبة والبربر والمجوس وسائر الكفار من العرب والعجم، يُقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ولتحقيق هذا الهدف الأسمى لابد من استعداد الأمة وتربيتها التربية الجهادية الحقة المبنية على العقيدة الصحيحة والتي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لنشر الدين وتعليم الناس الخير ورد اعتداء المعتدين على المسلمين، قال تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ولتقوم الأمة الإسلامية بإزالة الغشاوة والفتنة عن الناس حتى يسمعوا كلام الله وحتى يروا نظام الإسلام مطبقاً ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر، ويستخدموا في ذلك كل وسيلة إعلامية ممكنة للوصول إلى جمع سكان الأرض، وللقيام بهذا الأمر لابد من حماية لبلاد المسلمين من شر الكفار، حماية للدين، وحماية للعقيدة، وحماية للشعائر، وحماية للممتلكات، وحماية للأراضي التي عليها مسلمون يوحدون الله في أي جهة كانت، شرقاً أم غرباً، فالأرض التي عليها المسلمون هي أرض إسلامية، لابد لكل مسلم أن يهتم بها ويحافظ عليها بصفتها الإسلامية، وليس بصفتها الإقليمية أو العنصرية العرقية، فكل من يقف في وجه المسلمين من الكفار يجب قتله، فكل كافر معاند لا يستجيب لأمر الله بدفع الجزية أو التخلي عن صد الإسلام ودعاته في جميع أنحاء العالم يجب قتله وإبادته. قال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين.
وقال تعالى: ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.
وعليه فلابد أن تكون للمسلمين هيبة ورهبة، لإرهاب الكفار وإخزائهم وإذلالهم وإيهان كيدهم وإغاظتهم وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم فإرهاب الكفار وإخافتهم من مقاصد الجهاد. يقول ابن القيم رحمه الله: ولا شيء أحب على الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له.
إن للجهاد في سبيل الله منزلة عظيمة، وقد عده بعض العلماء من أركان الإسلام الذي لا استقامة للإسلام ولا قوامة لشرائعه إلا به، وقد فضل الله المجاهدين والشهداء في سبيله فضلاً عظيماً قال تعالى: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ، وقال تعالى: فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً وقال تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة.
وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)). وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل في سبيل الله مراراً وتكراراً كما جاء في الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: بعد أن عرفنا أهمية الجهاد وفضله، ومكانة المجاهدين، وأهداف وغايات الجهاد في سبيل الله نقف وقفة سريعة لنتعرف بها على عواقب ترك الجهاد وأثر ذلك على الأمة. ولا ننسى أن الجهاد بالدعوة والقرآن.... بالقلم والبيان، لا يقل أهمية عن الجهاد بالسيف والسنان، فالمنافقون ودعاة الضلالة من أهل البدع والمفسدون في الأرض من أهل الشهوات والسلطان، إذا لم يجدوا من يرد عليهم ويكشف أستارهم ويظهر الحق الساطع بالأدلة من الكتاب والسنة فإنهم سيلبسون على الناس دينهم ويلبسون الحق بالباطل فتختلط الأمور على عامة المسلمين فلا يميزون بين الحق والضلال، أو بين السنة والبدعة، بل قد يرون الضلال حقاً، والبدعة سنة والعياذ بالله.
أيها الإخوة: إن ترك الجهاد مع القدرة عليه كبيرة من الكبائر يقول الهيثمي رحمه الله في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر: الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه بأن دخل الحربيون دار الإسلام. أو أخذوا مسلماً وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين.ا.هـ. كلام.
إن ترك الجهاد علامة على النفاق، كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق)).
وإن ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة. قال تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. قال الصحابي أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم... فنزل فينا وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
وإن ترك الجهاد سبب للذل والهوان، وإن تركه ترك للدين كما قال سيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)). وفي رواية أخرى: ((لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه)).
وإن ترك الجهاد سبب للبلاء والضنك وسبب عذاب من الله. قال تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير.
وإن ترك الجهاد هو الفشل الذي يعرض الأمة للبوار يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين.
وإن ترك الجهاد سبب للفساد في الأرض وإفساد أهلها بالقضاء على دينهم ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين.. فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين ويكبت الكفار ويذلهم لأفسدوا على الناس دينهم، ولولا أن الله يدفع شبه المبطلين المخالفين من أهل البدع وأهل الشهوات بجهاد العلماء والدعاة الذين يردون عليهم بالحجة والبيان لتشوه وجه الإسلام وتهلهل وأصبح كالثوب المرقع ففسدت حياة الناس في دينهم ودنياهم.
وإن ترك الجهاد يفوت مصالح عظيمة للمسلمين، منها، الأجر والثواب والشهادة في سبيل الله، والمغنم، والتربية الإيمانية التي لا تحصل بدون الجهاد، ودفع شر الكفار وإذلالهم، ورفع شأن المسلمين وإعزازهم، وإدخال أناس في الإسلام.
أيها الإخوة: إذا كان تارك الجهاد يصاب بهذه الأمور في الدنيا والآخرة فكيف بمن يقف ضد الجهاد ويحاربه ويؤذي المجاهدين بالحبس أو التضييق في الرزق أو القتل أو غير ذلك من أصناف التعذيب.
(1/1531)
الدين النصيحة
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية النصيحة ومنزلتها في الدين. 2- معنى النصيحة لله. 3- النصيحة لكتاب الله.
4- النصيحة لأئمة المسلمين وحكامهم. 5- النصيحة لعامة المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء في صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
فالنصيحة من قوام الدين، حيث بالنصيحة يستقيم أمر العباد وبها تستضاء سبيل الرشاد، والنصيحة كلمة جامعة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له، وهو ضد ونقيض الغش، وأصل النصح الخلوص والنقاء، فالناصح هو الخالص من العسل بعد تصفيته من الشمع ومن الشوائب.
والنصيحة واجبة على المسلمين للمسلمين، فهي عماد الدين، ولذلك عد هذا الحديث أصلاً عظيماً من أصول الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة من الصحابة رضي الله عنهم على النصح لكل مسلم، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) متفق عليه.
أيها الإخوة: قال أهل العلم في شرح الحديث الأول حديث تميم الداري: النصح لله على وجهين، أحدهما فرض، والآخر نافلة.
فالنصيحة المفترضة هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترضه، ومجانبته ما حرم، والإيمان به سبحانه وتعالى وتوحيده في أفعاله وعبادته وأسمائه وصفاته دون تعطيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير والنصيحة التي هي نافلة: هي إيثار محبته على محبة النفس، فيبدأ بما كان لربه، ويؤخر ما كان لنفسه، ومن النصح لله أن لا يرضى العبد بمعصية العاصي، ويحب طاعة من أطاع الله ورسوله وأن يخلص النية في جميع أعماله.
وأما النصيحة لكتابه فبالإيمان به والعمل بما فيه والاعتقاد أنه كلام الله منه بدأو إليه يعود، وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فبالعناية بسنته والاقتداء به وتعظيم أمره ومحبته ومحبة آل بيته وصحابته رضي الله عنهم أجمعين، وتصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع، وأن نبغض كل من يخالف سنته أو يبتدع في الدين ويدين بخلاف ما شرعه لنا صلى الله عليه وسلم، وبالجملة فالنصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان، فيكمل النصح بأداء الواجبات على أكمل وجه وترك المحرمات والبعد عن المبتدعات والتنزه والتورع عن المشتبهات والمكروهات.
أما النصيحة لأئمة المسلمين فيشمل كل من ولي أمر المسلمين، سواء العلماء أو الولاة، وتكون النصيحة لهم بطاعتهم في المعروف ومحبة ورشدهم وحب عدلهم واجتماع كلمتهم على الحق، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)).
إن من تولى أمر المسلمين فإن عليه مسؤوليات جسام أولها حفظ الدين وذلك بنشره والدعوة إليه بالقلم واللسان والسنان، ودفع الشبه والبدع والأباطيل عنه ومحاربتها... وثانياً بإقامة العدل بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه، وثالثاً مراعاة مصالح الأمة والحفاظ على ثغورها وحرماتها وإقامة شعائر الإسلام وتهيئة الأجواء المناسبة للمجتمع المسلم وحمايته، سواء بنشر العلم، أو بتكثير النسل أو بالتربية الإيمانية الجهادية في نفوس الشباب، إلى غير ذلك مما هو معلوم ومكتوب في كتب أهل العلم مما هو واجب على الولاة، فلو أخطأ ولي الأمر وخالف في قضية من القضايا أو مسألة شرعية فيجب على الأمة مناصحته.
وهنا مسألة هامة يجب أن يفهمها الناس فالمناصحة والإرشاد ليس معناه الخروج على الولاة كما يقول البعض، فلقد كان السلف يناصحون الولاة علناً وأمام الجميع إذا ما رأوا أمراً مخلاً بالشرع مخالفاً للسنة يفعله الوالي أمام الجميع.
فهذا الصحابي عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه يقول للوالي وهو على المنبر يخطب الجمعة حينما رفع يديه في الدعاء: (قبح الله هاتين اليدين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زاد على هذا وأشار بأصبعه السبابة).
وهذا مروان يريد أن يخطب في العيد قبل الصلاة مخالفاً بذلك السنة النبوية فقال له أحد المصلين: خالفت السنة فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: (أما هذا فقضى ما عليه) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). فلم يقل أحد أن هذا من الخروج على الأئمة، أو أنه خالف الحكمة.
والمناصحة للعلماء تكون بتنبيههم على بعض الأخطاء وإرجاعهم إلى الدليل من القرآن والسنة، أما من تابعهم في كل ما يقولون حتى ولو خالف قولهم الدليل القطعي فإنه يخشى عليه أن يكون ممن اتخذهم أرباباً من دون الله كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم قول الله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فقال عدي: إنا لا نعبدهم. قال: ((ألم يحلوا لكم ما حرم الله ويحرموا عليكم ما أحل الله فأطعتموهم؟)) قال: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)).
أيها الإخوة: إن مراعاة تحقيق المصالح ودرء المفاسد واجب أن يؤخذ به في المناصحة للولاة، فمرة تكون المناصحة بالمراسلة، ومرة باللقاء، ومرة بالرد العلني وبالهجر وعدم الدخول على السلاطين وخاصة الظالمين المعاندين المخالفين لشرع الله محققاً بذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً)) ، فلا ينبغي لأهل العقول والعلم أن يعرضوا أنفسهم للفتن ويخالفوا بذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون دخولهم على الولاة لأجل مناصحتهم وردهم إلى الحق، وكل إنسان بحسبه ومقدرته، وكل حال وموقف بقدره.
عن كعب ابن عجرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد علي الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض)).
أيها الإخوة: النصيحة لأئمة المسلمين واجب شرعي تقويمي، فيه مصلحة للدين والدنيا، فيه مصلحة للإسلام والمسلمين.. لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون من الناس ذلك. ويطلبونه علناً أمام الجميع كما فعل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين. فالولاة الصالحون من العلماء والأمراء يقبلون النصيحة بصدر رحب ولا يجدون في أنفسهم حرجاً ولا حقداً على من يناصحهم ويبين لهم بالدليل والبرهان حتى ولو كان قاسياً في كلامه ما دام الهدف هو حماية الدين أولاً وأخيراً. أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا لما يحب ويرضا إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
والنصيحة العامة للمسلمين فتكون بأن يحب المرء لهم ما يحبه لنفسه ويكرهه لهم ما يكرهها لنفسه ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم ويحب صلاحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم ونصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم.
إن النصيحة كما ذكرت في الخطبة الأولى كلمة جامعة متضمنة قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً، فيكون فيها الإرشاد والتوجيه لما ينفع الناس وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وستر عوراتهم وسد خلاتهم ومجانبة الغش والخداع لهم وحفظ حقوقهم وأعراضهم وأموالهم، وتعليم جاهلهم ورد من زاغ منهم إلى الحق، فبالمناصحة يستقيم المجتمع، فاليد التي أصابها قذر لا يزول هذا القذر إلا بدعكها باليد الأخرى.
وهذه المسألة أيها الإخوة تكون في ولاة الأمور من علماء وأمراء أوجب وأقوى، لأن الأمة أمانة في أعناقهم، فولي الأمر مثل ربان السفينة الذي يجب عليه أن يقودها إلى بر الأمان.
قال أحد السلف: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، قال: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة في خلقه. جاء في الصحيحين عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيةً ثم لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة)).
فالعلماء ينشرون السنة بين الناس ويعلمونهم الخير وفعل الطاعات وترك المنكرات، والأمراء يقومون بالعدل والقسط والدفاع عن المحرمات وحفظ الحقوق والأموال والأعراض وكل ما من شأنه حفظ الدين والأمة، وحفظ البلاد، ورد المعتدين، فالمؤمن منهم يُستر ويُنصح، والفاجر يُهتك ويُعير والأمة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يأخذ حقه، والكل في رعاية الأمراء والعلماء الذين هم مسؤولون عما استرعاهم الله. فما من عبد يسترعيه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة كما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما رواه مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من عبد يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم)).
وإن في استقامة الولاة والأئمة استقامة للأمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم) وقال أيضاً: (الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن رتع الإمام رتعوا).
وأصل ذلك كله أيها الإخوة: الصدق.. الصدق مع الله ومع رسوله ومع الناس.. والصدق يكون في الأقوال والأفعال، فإذا وافق قول الإنسان واقعه فهذا صادق، وإذا وافق فعله وباطنه ظاهره فهو صادق... وإلا كان من المنافقين والعياذ بالله.
وقد وصف الله المهاجرين بأنهم هم الصادقون وقال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وقال سبحانه عن المنافقين: فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم.
فالمشرك ليس بصادق، والمبتدع ليس بصادق، لأنه يدعي الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم وهو ليس بمتبع، وكل أمر يظهر فيه الإنسان أمام الأمة بما يخالف قوله فهو كاذب. فالغاش لهم والخائن والشحيح والظالم والمتعدي على الحقوق والأموال والمتجسس على الناس والنمام والموالي لأعداء الله والخاذل للدعاة والمصلحين كل هؤلاء يدخلون في نفق الكذب إذ أظهروا النصح والحرص للأمة بالقول فقط، فخالف ظاهرهم باطنهم، فهم أشبه ما يكونوا بالمنافقين نسأل الله السلامة.
روى الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)).
(1/1532)
الرد على من يعظم الزنادقة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الولاء والبراء
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تصحيح في مفاهيم الناس على الولاء والبراء. 2- إكرام بعض المرتدين والمبتدعين
لبروعهم في العلوم التجريبية. 3- العلم الذي يجعل ويبجل أصحابه هو علم الشريعة. 4- من
هم الفلاسفة ، وذكر بعض أقوالهم وعقائدهم. 5- ذكر بعض الفلاسفة وقول العلماء في ضلالهم
وكفرهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: تكلمت في خطبة سابقة عن الحب في الله والبغض في الله المبني على أساس الولاء والبراء – على موالاة أولياء الله والبراءة من أعداء الله الذي هو من أهم وأعظم أسس الإيمان أسأل الله العلي العظيم أن يملأ قلوبنا بالإيمان -.
أيها الإخوة: من المؤسف حقاً أن يغيب هذا الأمر عند شباب الإسلام بل وعند كبرائهم ورجالهم ونسائهم، إلا من رحم الله، حيث أصبحنا نرى من يحب الكافر الذي كان سبباً في فوز فريقهم الكروي ويحمل على أعناق الشباب وعلى رؤوس من يسجدون لله، يحملون كافراً يسب الله ورسوله لأنه سجل هدفاً أو وضع خطة ناجحة بزعمهم لفوز فريقهم. أو لغير ذلك من الأمور.. وربما يكرم الكافر الذي أبعده الله وأهانه يكرم بسبب اختراع أو اكتشاف أو لأي أمر دنيوي.
وقد يكرم المنافق أو المرتد الذي يعلن كفره وردته ويسجل ذلك في كتبه وبحوثه بأن ينكر القدر أو ينكر البعث والجنة والنار ويسخر من عذاب القبر، يكرم ويحب لأنه من دولة إسلامية ويحمل اسماً عربياً مثل يوهم بأنه الفارابي أو ابن سينا وأمثالهم، وسبب ذلك أيها الإخوة هو جهل كثير من أبناء أمة الإسلام بعقيدة الولاء والبراء، هذا الجهل الذي جعل كثيراً من الناس يضع أسماء هؤلاء الملاحدة الفلاسفة على منشآتهم الاقتصادية أو مؤسساتهم التجارية، فأصبحنا نرى في بلاد المسلمين مصنعاً يسمى ابن سينا، وأشباههم كالفارابي وابن رشد لأنهم برعوا في الفلسفة والطب والرياضيات والكيمياء. وغيرها من العلوم الدنيوية التجريبية، ويعتبر هؤلاء عند كثير من الناس من علماء الإسلام، وهم أبعد الناس عن الإسلام حيث كفروا به وبما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اغتر كثير من الناس بما يقوله الغرب عن هؤلاء حيث يمجدونهم ويعتبرونهم من العلماء التجريبين الذين قدموا للعلم التجريبي كنوزاً من المعرفة.
ولا بأس أن يكون هؤلاء ممن برع في الطب والهندسة والكيمياء، أمثالهم أمثال كثير من الذين لم يؤمنوا بالله ولا برسوله من اليهود والنصارى وغيرهم، ولا بأس من الاستفادة من هذه العلوم ومن تجاربهم فيها، فالعلوم الدنيوية تؤخذ من أي إنسان لكن إذا لم يكن هذا الإنسان مؤمناً بالله ولا برسله فلا يوالى ولا يمجد ولا يذكر بالفخر والاعتزاز حتى ولو كان أقرب قريب.. فلقد ذم الله الكافرين وذم جميع أمم الكفر السابقة الذين يسميهم الناس اليوم أهل حضارات مثل الفراعنة أو الآشوريين أو غيرهم من عبدة الأوثان فإن الله عز وجل بين أن هؤلاء ما هم إلا كالأنعام بل هم أضل، فمهما وصل هؤلاء الكفار في علومهم التجريبية من تقدم وحضارة إذا لم يؤمنوا بالله ورسوله فهم أحط من البهائم كما أخبر الله عز وجل عنهم حيث قال: ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون فالعقول والقلوب التي لا تهتدي بهدي الله ولا تستنير بشرع الله ولا تتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابها ضالون غافلون في جهنم خالدون.
أيها الإخوة: إن العلم الحقيقي هو العلم الشرعي هو معرفة الله بأسمائه وصفاته ومعرفة دين الإسلام ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط.
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).
ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه عن أعظم آية في كتاب الله فقال: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليهنك العلم أبا المنذر)). وضرب على صدره بكفه الشريف، هنأه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العلم حيث عرف كتاب الله وعرف أعظم آية فيه لما تحويه من أسماء الله وصفاته.
هذا هو العلم أيها الإخوة، هذا هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يطلق اسم (عالم إسلامي) إلا على من جمله قولاً وعملاً.
أما من كفر وارتد فلا يقال عليه أنه من علماء الإسلام مهما بلغ في علومه التجريبية.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: حتى تتضح لنا الأمور سوف أعرفكم على عقيدة ابن سينا والرازي (الرازي الفيلسوف) والفارابي وابن رشد وأمثالهم وما قاله عنهم علماؤنا في صدر الإسلام وعن غيرهم من الفلاسفة.
فقبل كل شيء أعرفكم بمعنى فيلسوف أو معنى الفلسفة التي أساسها مبني على الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر، وأصل كلمة فلسفة يونانية مبنية على كلمتين (فيلا) أي الحب (وسوفا) الحكمة فالفلسفة تعني حب الحكمة، والفلاسفة يقسمون العلم إلى ثلاثة أقسام العلم الإلهي والعلم الطبيعي والعلم الرياضي، فأما العلم الإلهي، وهو ما يهمنا اليوم – فقد تخبطوا فيه تبعاً لأستاذهم أرسطو فقد نفوا وجود إله حقيقة بل أثبتوا وجوداً مطلقاً وقالوا: إن العالم وجد بطريق الإيجاب لا بطريق الاختيار والمشيئة، فنفوا الخالق واعتبروا وجود العالم أزلي مقارن ومساوٍ لوجود الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وأما الوحي عند الفلاسفة فما هو إلا فيض يفيض من العقل الفعال، ولذلك قال ابن سينا وغيره من الفلاسفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان خياله في غاية القوة فإنه كان يخيل إليه أنه يرى شخصاً خارجاً، ويسمع كلاماً، وإنما هو في الحقيقة صوت ينبعث من داخل فمه، وهذا تكذيب بالنبوة وبالرسالة وبالوحي والقرآن.
والفلاسفة ينفون العلم عن الله تعالى فيقولون أن الله لا يعلم إلا الكليات فقط، وينفون عن الله القدرة والإرادة والحكمة، وقد ذكر هذه الأقوال والاعتقادات ابن سينا في كتابه: (الإشارات)، وكذلك غيره من الفلاسفة ويرون أن الأجسام التي تبلى لا يمكن إعادة خلقها مرة أخرى وإنما الثواب والعقاب يكون على الأرواح فقط نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى. فماذا قال علماء الأمة عن هؤلاء الفلاسفة؟.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان عن الرازي الفيلسوف الطبيب المتوفى عام 311هـ قال: "إنه قد أخذ من كل دين شر مافيه، وصنف كتاباً في إبطال النبوات، ورسالة في إبطال المعاد، فركب مذهباً مجموعاً من زنادقة العالم".ا.هـ كلام رحمه الله.
أما ابن رشد الحفيد المتوفى في عام 595هـ فقد قال عنه الذهبي: العلامة فليسوف الوقت أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم حتى صار يضرب به المثل في ذلك لا ينبغي أن يروى عنه. وعلوم الأوائل المقصود بهم الفلاسفة.
أما الفارابي المتوفى عام 339 هـ قال عنه الذهبي: شيخ الفلسفة، وأحد الأذكياء، له تصانيف مشهورة، من ابتغى منها الهدى ضل وحار، منها تخرج ابن سينا ويقال أنه أول من اخترع القانون.. آلة العزف المعروفة.
أما ابن سينا الطبيب المشهور المتوفي عام 428هـ قال عنه الذهبي: فلسفي النحلة ضال. وقال عنه أيضاً: له كتاب الشفاء وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال، وكفر الفارابي.
وقال ابن الصلاح عنه: لم يكن من علماء الإسلام بل كان شيطاناً من شياطين الإنس. وقال شيخ الإسلام عنه: كان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض، وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض، وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتباً كباراً وصغاراً وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى. ثم قال رحمه الله: إن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك.ا.هـ.
وابن سينا كان شيعيا رافضياً من الإسماعيلية القرامطة بالإضافة للفلسفة.
وقد كفره كثير من علماء الإسلام مثل ابن القيم الذي أطلق عليه اسم شيخ الملحدين وإمام الملحدين، ومثل ابن العماد في شذرات الذهب الذي ذكر عنه وعن شيخه الفارابي تكفير أكثر العلماء لهما.
فكيف بعد ذلك يقال عنهم أنهم من علماء المسلمين ويمجدون ويذكرون بالفخر والاعتزاز، وتكتب أسماؤهم على المنشآت والمصانع والعياذ بالله.. نعوذ بالله من موالاة المنافقين، والشيء العجيب أن الصحف حينما يرسل إليها رد لتبيين الحقيقة ولتوعية الناس من هذا الأمر لا تنشره.. بينما هي تنشر لمن يمدحون هؤلاء الزنادقة ممن يسمون بعلماء الإسلام!!.
إن علماء الإسلام هم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم الأئمة الأربعة، والبخاري صاحب الصحيح ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن المبارك والقطان وابن كثير والبغوي، وغيرهم الذين حفظوا كتاب الله وحفظوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ونشروا العلم الشرعي.. أما من برع في العلوم التجريبية، فلا بأس أن يستفاد من علمه، ولكن لا نوالي إلا المؤمنين ولا نحب إلا المتقين ولا نفخر إلا بالمسلمين الصادقين الموحدين، أما المنافقين المرتدين فهم أعداؤنا ولا نذكرهم إلا لنفضحهم ونفضح عقيدتهم، والله المستعان.
(1/1533)
الزهد في الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الفتن
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الدنيا ومكانتها من الآخرة. 2- تعريف الزهد في الدنيا. 3- تحذير النبي من فتنة
الدنيا. 4- تحذير النبي من حب الجاه والإمارة. 5- الديمقراطية حكم بغير ما أنزل الله. 6-
الدخول في الانتخابات والبرلمانات. 7- كيفية اختيار الخلفاء الراشدين للخلافة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً وقال تعالى: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى.
وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
وقال سبحانه وتعالى: يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور.
والقرآن يخبرنا في مواضع كثيرة عن دناءة الدنيا ويحضنا على الزهد فيها، والإخبار عن خستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها، قال شيخ الإسلام رحمه الله، الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
فليس الزهد كما يفهمه بعض الناس بالخشونة في الملبس والمأكل أو بعدم طلب الرزق الحلال بالوجه الشرعي أو بأمور وأفعال ما أنزل الله بها من سلطان، إنما هو بأن لا يجعل المسلم همه الدنيا ولا يجعلها مبلغه في سعيه، إنما يجعلها مطية للآخرة، قال أحد العلماء في قوله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ولا يأسف منها على مفقود.
قال آخر: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، فتصغر في عينيك فيسهل عليك الإعراض عنها.وقد سئل أحد الأئمة عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهداً؟ فقال: نعم على شريطة أن لا يفرح إذا زادت ولا يحزنه إذا نقصت.
وبالإجمال فإن الزهد هو تطويع المباحات في كل ما يرضي الله عز وجل، وأن يجعل المسلم همه الآخرة ورضى الله عز وجل: ((الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف علينا من الالتفات إلى الدنيا وزخرفها فتصرفنا عن الآخرة والسعي لها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء)) يحذرنا من الافتتان بهما والتعلق بهما.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)).
وليعلم الإخوة: الفرق بين من يجعل الدنيا في يديه يطيعها لمرضات الله عز وجل وبين من يجعل همه الوصول إلى المراكز الاجتماعية الدنيوية ويسعى بكل جهده لذلك على حساب دينه.. فلو نظرنا إلى العشرة المبشرين بالجنة لوجدنا أن أكثرهم كانوا من أصحاب رؤوس الأموال الطائلة ومن التجار، فهذا أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف لو نظرنا إليهم بمنظار العصر لقيل عنهم أنهم من أصحاب الملايين، فهل تخلف أحدهم عن غزوة مع رسول الله؟ هل ألهاهم التكاثر فمنعوا الإنفاق في سبيل الله؟ كلا والله ثم كلا، هل سعوا للرئاسة والتفاخر وتزكية النفس وطلب المدح؟ لا والله ما فعلوا، بل هم أبعد الأمة عن هذه الأمور، وكانوا يجودون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ولنصرة دينه ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم.
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)) وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي قال: ((تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يُعط لم يرض)).
وفد سئل النبي صلى الله عليه وسلم من رجل فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)).
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)).
أي أننا لو تركنا ذئبين جائعين يعيثان فساداً في قطيع من الغنم لن يكون إفسادهما للقطيع أكثر مما يفسد دين الإنسان حرصه على المال أو على الرياسة في الدنيا، فبحرصه على هذين الأمرين يفسد دينه لأنه سيرتكب المحرمات من ربا ورشاوى وظلم واستبداد وتسلط على خلق الله حتى لا يفرط في رياسته، أو حتى لا ينقص رأسماله درهماً واحداً والعياذ بالله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
هذا وكما حذر القرآن والسنة من السعي وراء الدنيا والانشغال بها حتى حضور الموت ونحن في غفلة لا هين. فكذلك جاء التحذير من السعي وراء السلطة والإمارة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر: مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه)) متفق عليه.
قد يقول قائل هذا يوسف عليه السلام قال: اجعلني على خزائن الأرض فيرد على هذا القول أهل العلم بأن هذا نبي، ومن حقه طلب ذلك، والنبي معصوم ثم هذا شرع من قبلنا، وهذا لم يكن إلا بعد أن طلبه الملك وقال: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين فاختار يوسف عليه السلام من بين الولايات ولاية بيت المال.
وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك أن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها..)) الحديث.
وهذا أمر مشاهد في كل من يطلب الزعامة كم يقدم من آراء ومقترحات وبيانات ووعود وعهود ثم إذا ولي لم يفِ إلا بشيء يسير وابتلي بالنكبات لأنه وكل إلى نفسه والعياذ بالله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة)) رواه البخاري.
أقول هذا لما نراه من تبجيل وتفخيم واهتمام من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بما يسمى بالانتخابات بأنواعها في جميع بلدان العالم سواء لدى الكفار أو لدى بلاد المسلمين، وينفخون فيها على أنها ديمقراطية كما تسمى أي حكم الشعب للشعب، وهي الحكم بغير ما أنزل الله، وهو كفر، فلا حاكم إلا لله، فكيف يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ يحكم بآراء البشر ويترك حكم رب البشر نسأل الله العافية؟
فإن كان هذا في بلاد الكفر فلا عجب، فليس بعد الكفر ذنب، ظلمات بعضها فوق بعض، ولكن العجيب هو ما يحصل في بلاد المسلمين من هذه الانتخابات والأمور المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم هدي الخلفاء الراشدين وسيرتهم المنهج الصحيح للاستخلاف وللحكم، وليس بهذه الطرق المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه:-
أولاً: إن من طلب ترشيح نفسه لتولي أمر المسلمين وطلب من الناس أن يرشحوه فإنه بذلك يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في عدم طلب الإمارة.
ثانياً: أن الذي يرشح نفسه يزكي نفسه ويصف نفسه بصفات معينة والله يقول: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى.
ثالثا: أن الملايين الذين يرشحون هذا المسؤول أو الزعيم وينتخبونه سيُسألون يوم القيامة عن تعديلهم لهذا الشخص وتزكيتهم له، فيا ترى هل عاملوه؟ هل جالسوه؟ هل رأوا صلاته وصيامه؟ وتأكدوا من دينه وأمانته وأخلاقه؟ لأن ترشيحهم له إنما هي تزكية له بأنه ذا دين وخلق وأمانة – فمن أين لهؤلاء الملايين من البشر معرفة الشخص الذي يرشحونه للولاية معرفة تامة؟!.
ومن أين لهم أن يزكوه ليتولى أمر المسلمين.؟!
ثم لماذا هذا التهافت على الانتخابات البرلمانية، أو المجالس المسماة بهذه الأسماء. وفيها الحكم بغير ما أنزل الله، وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله من الفواحش والربا، وفيها معاداة لأهل الخير المصلحين؟ يقول قائلهم: لن نترك هذه الانتخابات ونترك هذه المجالس ولو كانت شراً 100 فإن استطعنا أن نقصر الشر إلى 90 كان خيراً.
ونقول سبحان الله العظيم: والله لو كانت هذه المجالس النيابية 99 خير وتوحيد وحكم بما أنزل الله، وكان فيها 1 شرك أو كفر بالله لوجب هجرها وتركها.
ونعود لأصل المسألة لماذا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونتقدم بطلب السلطة أو السعي وراءها حتى بالأمور المخالفة للشرع، لقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم الملك من كفار قريش على أن يسكت عن أصنامهم ولا يذكرها بسوء، ولكنه رفض هذا العرض.. ولا أظن أن أحداً من هؤلاء الذين يجرون وراء الانتخابات، لو أنه عرض عليه السكوت عن بعض المخالفات مقابل كرسي في البرلمان، إلا أن يرضى، فأين هؤلاء الراكضون اللاهثون وراء الانتخابات عن هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؟!.
يقول أحد علماء السلف: لئن أقدم وتضرب عنقي خير لي من أن ألي القضاء..ولئن ألي القضاء خير من أن ألي بيت المال.
أيها الإخوة: لا بد من إتيان البيوت من أبوابها واتباع الهدي النبوي وهدي الخلفاء الراشدين في تحقيق التغيير وإزالة الظالم، بأن يكون ذلك من أهل الحل والعقد القادرين على التغيير.
يا أيها الإخوة: هذا الموضوع يحتاج إلى بحث ودراسة من أهل العلم المختصين، فلا تنساقوا وراء الشعارات. فأبو بكر رشحه الصحابة في السقيفة من المهاجرين والأنصار، ولم يؤخذ رأي الناس، فبويع بالخلافة، وعمر رشحه أبو بكر للخلافة، وعثمان رشحه عمر مع خمسة من الصحابة، فاختار الخمسة عثمان فبايعوه، وبايعته الأمة، فلا يكون الأمر إلا من أهل الحل والعقد، والترشيح يكون من الغير للشخص بناء على دينه وأمانته وليس على مشاريعه وخطبه ودعاياته ووعوده وعهوده.
قال الله تعالى: فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين وقال سبحانه: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
(1/1534)
الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الصبر. 2- أنواع الصبر. 3- الصبر يرفع لمقام الأنبياء. 4- الصبر من
موجبات الجنة. 5- حالات الإنسان في السراء والضراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون. وقال تعالى: استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين.
وجاء في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفذ ما عنده فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: ((ما يكن من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)).
أيها الإخوة: إن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له ومن يتصبر، أي يحبس نفسه ويلزمها بالصبر، يصبره الله فيعينه على الصبر والصبر أنواعه ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله، فالنوع الأول: وهو الصبر على طاعة الله، من صيام وحج وزكاة وجهاد في سبيل الله وغيرها من الطاعات، لأن النفس البشرية قد تكسل ويدخلها شيء من التسويف، لأن الطاعات ثقيلة عليها سواء من الناحية البدنية أو المالية، فتحتاج إلى معاناة ومجاهدة ومصابرة حتى تقوم بأمر الله، وهنا يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم، وبين ذوي الضعف والخور. وأما النوع الثاني وهو الصبر عن محارم الله بحيث يكف الإنسان نفسه عما حرم الله عليه لأن النفس أمارة بالسوء، فيجاهدها ويمنعها من الوقوع في الكذب والغش وأكل المال بالباطل وإيذاء المسلمين والوقوع في أعراضهم وارتكاب الفواحش والوقوع في البدع وما أشبه ذلك من المعاصي والمنكرات فيحبس الإنسان نفسه حتى لا يفعلها، وهذا أيضاً يحتاج إلى معاناة وصبر.
وأما النوع الثالث: فهو الصبر على أقدار الله حيث قد يبتلى الإنسان في بدنه وماله أو أهله وأقاربه، أو يبتلى في إخوانه وجيرانه وعشيرته ومجتمعه، فهذه البلايا الكثيرة قد يصاب بها المسلم أو يصاب بشيء منها، فإذا علم أن هذا من قدر الله وأنها قد تكون بسبب منا وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكُم ويعفو عن كثير ، وصبر على ما أصابه محتسباً الأجر من عند الله فإنه ينال بذلك درجة عالية عند ربه، وهذا الصبر أيضاً يحتاج إلى قوة عزيمة وإيمان يملأ القلب ومجاهدة للهوى والشيطان.
أيها الإخوة: إن الصبر من مقام الأنبياء والمرسلين والأصفياء المتقين الذين هم عباد الرحمن: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً.
قال تعالى عن أهل الجنة: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
أيها الإخوة: إن فعل الطاعات وأداء العبادات وترك المنكرات والبعد عن المحرمات والقيام بكل أمر يحبه الله ويرضاه واجتناب كل أمر يبغضه الله ولا يرضاه، تحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة، ولذلك يجب على المسلم أن يروض نفسه ويعودها على ذلك، فإن جلس المسلم لحفظ القرآن أو طلب العلم أو أراد أن يقوم جزءاً من الليل أو ينفق جزءاً من ماله في سبيل الله أو إن أراد الشاب الالتزام بالدين والمحافظة على الصلاة واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيه فإن كلاً من هؤلاء سيجد المثبطات سواء من الشيطان أو الهوى أو من وسائل الإعلام أو من بعض أفراد المجتمع، أو غير ذلك من الأمور التي تتعرض لها أمة الإسلام ويتعرض لها المسلمون من الصد عن سبيل الله، ولكن بتعويد النفس شيئاً فشيئاً وتربيتها على الصبر وحبسها على الطاعة ومصاحبة الأخيار وملازمة الصالحين والبعد عن الأشرار تقوي لنفوس وتصمد أمام التيارات بإذن الله فلا تتأثر بعد ذلك بأي ريح تهب عليها لتميلها عن الجادة وعن الصواب.
عن حباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا. ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعلُ فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري.
أيها الإخوة: إن للصبر أجر عظيم إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي.
عن أنس رضي الله عنه قال. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخطُ)) رواه الترمذي.
ربنا افرغ علينا صبراً وألحقنا بالصالحين. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي قال: ((إن شئتِ صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها. متفق عليه.
وأيضاً في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما يُصيبُ المسلم من نصبٍ ولا وصب ولا هم ولا حَزنَ ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر اللهُ بها من خطاياه)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم أحتسبه إلا الجنة)) رواه البخاري.
أيها الإخوة: إن كل إنسان لا يخلو من إحدى حالين إما سراء وإما ضراء ففي حال السراء يجب عليه الشكر، وليعلم المسلم أن هذه السراء بفضل من الله عليه لا هي بذكائه ولا بفطنته ولا بقوته، ولولا لطف الله به وتيسيره لما حصلت له تلك النعمة، ثم يقوم بطاعة الله مع الاعتراف بالقلب واعتراف باللسان وعمل بالجوارح شكراً لله على هذه السراء.
وأما في حالة الضراء فالإنسان له أربع حالات: التسخط، أو الرضى، والصبر، والشكر، فالتسخط يكون بالقلب بأن يشعر وكأنه والعياذ بالله قد ظلمه ربه بهذه المصيبة، أو باللسان فيكون بالاعتراض والدعاء بالويل والثبور وسب الدهر والزمان فيؤذي الله بذلك والعياذ بالله، وقد يكون التسخط بالجوارح بلطم الخدود وشق الجيوب فأمثال هؤلاء الناس جمعوا بين مصيبتين مصيبة الدين ومصيبة الدنيا بما أصابهم من ضراء نسأل الله العافية.
والحالة الثانية: الرضى بأن يكون المسلم منشرحاً صدره بما أصابه ويرضى بها رضى تاماً وكأنه لم يصب بها مستيقناً أن في ذلك حكمة لا يعلمها، وأن الله قد قدر ذلك، فهو راض بما قدر الله عز وجل. وأما حالة الصبر على الضراء أو على المصيبة التي أصابته، بأن يحبس نفسه وهو يكره المصيبة ولا يحبها ولا يحب أن تقع، لكن يصبر نفسه ولا يتسخط ولا يفعل ما يغضب الله فهو صابر مع كرهه لها.
الحالة الرابعة: الشكر، وهذه بأن يقول: الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار.. لقد جرح إصبع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((هل أنت إلا إصبعاً دميت وفي سبيل الله ما لقيت)).
قال الله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.
وإذا ما أصيب المسلم بمصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أْجُرّني في مصيبتي وأخْلِف لي خيراً منها إلا أَجَرَه الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها.
أيها الإخوة: وفي حالة الكرب أو الهم والحزن يلتجئ العبد المسلم إلى الله ويدعوه بالأدعية الثابتة الصحيحة التي منها (لا إله إلا الله) يرددها وكذلك قول: ((اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن يجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي)).
وكذلك قول: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)).
وأيضاً: دعاء ذي النون عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
(1/1535)
العشرة المبشرون بالجنة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
تراجم, قضايا دعوية
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصاة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بيته. 2- ترجمة مختصرة لأبي عبيدة بن الجراح.
3- ترجمة مختصرة لعبد الرحمن بن عوف. 4- ترجمة مختصرة لسعيد بن زيد. 5- ترجمة
مختصرة للزبير بن العوام. 6- ترجمة مختصرة لطلحة بن عبيد الله. 7- ترجمة مختصرة
لسعد بن أبي وقاص. 8- كلمة أسى في واقع المسلمين والمؤامرة على دعاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد أن تكلمنا في الأسبوعين الماضيين عن الخلفاء الراشدين، سوف نتكلم عن الصحابة إجمالاً: المهاجرين والأنصار، ونخص آل البيت ببعض الحديث حيث أوصانا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم أنه قال: ((أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) وأهل بيته صلى الله عليه وسلم هم آل جعفر وآل علي وآل العباس وآل عقيل وأمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على محبتهم وحفظ حرمتهم والأخذ منهم فيما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وأهل بيتي)) نقل صاحب التحفة شارح الترمذي في شرح هذا الحديث: التمسك بالكتاب والعمل بما فيه، وهو الائتمار بأوامر الله والانتهاء عن نواهيه، ومعنى التمسك بالعتره محبتهم والاهتداء بهديهم وسيرتهم، زاد السيد جمال الدين إذا لم يكن مخالفاً للدين...ا.هـ. وهذا يكون في كل زمان ومكان حيث يجب على المسلمين محبة آل البيت وتقديرهم، وذلك من وجهين: الوجه الأول: الإسلام والتمسك بالسنة، والثاني: قرابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من ابتدع في دين الله أو أشرك بالله فإنه يكون خارجاً عن آل البيت، حتى ولو انتسب إلى بني هاشم أو إلى أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: لقد رضي الله عن المهاجرين والأنصار، ووصفهم الله عز وجل بأوصاف في القرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى: للفقراء المهاجرين... [الحشر:8-9].
وقال سبحانه: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة.
ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من الصحابة بأوصاف مختلفة وشهد لبعضهم بالجنة ومنهم العشرة المبشرين، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة عامر بن الجراح.
وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من الصحابة غير هؤلاء العشرة بالجنة، ولكن لاشتهار هذا الحديث بهؤلاء العشرة، وحيث أننا ذكرنا منهم الخلفاء الراشدين، فإننا سنقف مع الستة البقية وقفات سريعة نتعرف فيها على سيرتهم رضي الله عنهم أجمعين.
أبو عبيده عامر بن الجراح :
قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((لكل أمةٍ أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين إلى الحبشة، شهد المشاهد كلها.
سئلت عائشة رضي الله عنها من كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أبو بكر ثم عمر ثم أبو عبيدة بن الجراح، مات في طاعون عمواس بالشام، وقد انطلق يريد الصلاة ببيت المقدس فأدركه أجله فتوفي، فخطب معاذ وقال: إنكم فجعتم برجل ما أزعم والله إني رأيت من عباد الله قط أقل حقداً ولا أبر صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حياء للعاقبة ولا أنصح للعامة منه.
ويروى أهل السير أنه قتل أباه يوم بدر وهو مشرك مع المشركين حيث كان يتصدى لابنه وهو يحيد عنه، فلما أكثر قصده جابهه فقتله، ونزلت فيه: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم. والله أعلم.
عبد الرحمن بن عوف :
من السابقين إلى الإسلام ومن الذين هاجروا إلى الحبشة شهد المشاهد كلها كان تاجراً غنياً تصدق بنصف ماله ثم تصدق بأربعين ألف دينار، وحمل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلفه في إحدى الغزوات ركعة من ركعتي صلاة الصبح، حينما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عبد الرحمن بن عوف إماماً، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية وصلى خلفه.. فكانت هذه منقبة له.
وكان كثير الصدقات رضي الله عنه مواصلاً لآل البيت ولأمهات المؤمنين، قالت عائشة رضي الله عنها لأحد أبنائه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((إن أمركن مما يُهَّمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون)) رواه الترمذي. وقد أوصى رضي الله عنه بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف درهم.
سعيد بن زيد :
من السابقين في الإسلام، شهد أحداً والمشاهد كلها بعد أحد، لأنه لم يكن بالمدينة في وقت عزوة بدر الكبرى وهو زوج أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم له بسهم في غزوة بدر، وقد شهد معركة اليرموك وفتح (دمشق).
وهو من الصحابة الذين لا يتخلون عن الجهاد في سبيل الله وخاصة مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل غزواته وإن كان في الصلاة خلف النبي مباشرة.
الزبير بن العوام :
ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وحواريه – أي نصيره – قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل نبي حوارياً، وإن حواريّ الزبير بن العوام)) ما من عضو في جسمه رضي الله عنه إلا وقد أصيب بجرح، وذلك خلال جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم.
سئل الزبير رضي الله عنه عن قلة ما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال للسائل: وكان بيني وبينه من الرحم والقرابة ما قد علمت، ولكني سمعته يقول: ((من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)). أي من شدة خوفه من أن يخطيء في كلمة يقولها عن رسول الله، فيقع في دائرة هذا الوعيد الشديد رضي الله عنه.
جاء في الإصابة أنه كانت على الزبير عمامة صفراء معتجراً بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير)) وهو من الصحابة الذين قال لهم رسول الله: فداك أبى وأمي.. لقد قتل الزبير غدراً من أحد المنافقين بعد وقعة الجمل حينما أراد الرجوع إلى أهله فجاءه رجل اسمه أبن جرموز فطعنه من خلفه وأعانه بعض أعوانه حتى أجهزوا عليه رضي الله عنه.
طلحة بن عبيد الله :
من السابقين إلى الإسلام وأحد الستة أصحاب الشورى وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ((أوجب طلحة)) حيث جلس تحت النبي صلى الله عليه وسلم ليرقى على ظهره ليعلو على صخرة من الجبل، وقد أصيب رضي الله عنه في يده في ذلك اليوم.
سعد بن أبي وقاص :
من أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، آخر العشرة المبشرين بالجنة موتاً، وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارم فداك أبي وأمي)) وذلك في أحد.
فتح العراق وولّي الكوفة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أول ثلاثة دخلوا في الإسلام.
قالت عائشة رضي الله عنها: سهر رسول صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة ً فقال: ((ليت رجلاً صالحاً يحرسني الليلة)) قالت فبينما نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة السلاح، فقال النبي: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جاء بك؟)) فقال سعد: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: تكلمنا في الخطب الماضية عن بعض المواقف البسيطة عن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم عن الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر ثم عن الخليفتين الشهيدين عثمان وعلي ثم أتممنا بقية العشرة المبشرين بالجنة مع ذكر آل البيت والمهاجرين والأنصار عامة رضي الله عنهم جميعاً، وما ذكرناه ليس إلا قطرة من بحر تراثنا ومجدنا وشرفنا الحقيقي الذي يتجاهله الإعلام الإسلامي إلا من ومضات لا تكاد تبين، هذا الإعلام الذي أصبح يصف اللعب والغناء واللهو وضياع الأوقات بأنه بطولات.. وأنا هنا أتكلم عن العالم الإسلامي ككل أو ما يسمى بالدول الإسلامية التي يحتكم بعضها إلى القوانين الغربية، والتي تبيح أكثرها بيع الخمور في أراضيها وتحل الربا وترخص بعضها للبغايا بمزاولة الزنا علناً إلى غير ذلك من المحرمات التي من أحل شيئاً منها، فقد كفر، وأشد من ذلك موالاة أعداء الله من الكفار ومعاداة أولياء الله من المصلحين.
الإعلام في تلك الدول يمجد ما يسمى بالتراث تراث الآباء والأجداد، هذا التراث الذي هو في الحقيقة إما بقايا الأمم الكافرة مثل قوم عاد وثمود وفرعون وهامان أو هو عبارة عن أواني منزلية وأدوات وأشياء كانت تستخدم قبل عشرات السنين... فنجد التراث عندهم ما هو إلا الانتقال إلى عهود الكفر قبل الإسلام أو إلى أمور تافهة تثير الضحك (وشر البلية ما يضحك)، أما تراثنا الحقيقي الذي يجب أن ينال كل وقت اهتمام الإعلام الإسلامي فلا ينال إلا جزءً لا يكاد يذكر.
والافتخار عند إعلام العالم الإسلامي يكون بذكر المصانع والطائرات والشوارع والمستشفيات، ولو نظرنا إلى حقيقة ما يفتخرون به نجده كله شراءً مأخوذاً من النصارى، والمضحك المبكي في هذا أنه إذا جاءهم أحد المسؤولين من دول الكفر يعرضون عليه هذه الأشياء وهو يعلم في نفسه أن هذه الأشياء مشتراة من بلده أو من مثل بلده، فبأي أي شيء يفتخرون؟ ... أليس الأجدر بنا أن نعرض عليه الإسلام، أن نعلمه تاريخنا الإسلامي، أن ندعوه للإسلام ونقول له: إذا لم تؤمن بالرسالة ولم تصدق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم فمصيرك إلى النار.
أيها الإخوة: وإن أردنا أن ننظر إلى بلاد الكفر عن طريق إعلامنا، فلا يرينا إلا مظاهر الطبيعة أو التقدم العلمي التجريبي مخروجاً بشيء من الانبهار والاندهاش، والله عز وجل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر إلى زهرة الحياة الدنيا ومتاعها لأنه يحمل الرسالة الخالدة التي فيها السعادة الحقيقية، قال تعالى: ولا تمدن عينك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه.
وكان الأولى أن يُكشف عوار تلك البلاد الكافرة وما فيها من انحطاط خلقي وما فيها من كفر وإلحاد وأنهم أعداء لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، فهم يشتمون الله ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: لقد بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، ولكن ((لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لقد قال عمر رضي الله عنه: ((نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله)).
إن الحرب الشعواء القائمة من الكفار ومن أذنابهم المنافقين على الإسلام والمسلمين وعلى الدعاة المخلصين مستمرة، كما ذكر أحد الكتاب في مجلة إسلامية وقد حدد الخطوات المتبعة لمحاربة الدعاة والدعوة الإسلامية فيما يلي كما جاء في مجلة البيان العدد 93 صـ 5-6باختصار :-
1- المطالبة بتنحية الشريعة الإسلامية بدعوى انتهاء زمانها، والزعم أنهم بحاجة إلى المجتمع المدني الذي تضيع فيه الهوية الإسلامية.
2- عزل الأمة عن علمائها الأخيار ودعاتها الأبرار والسعي بشتى الوسائل للتقليل من شأنهم وتشويه سمعتهم.
3- اصطناع فئات مشبوهة الاتجاه تقوم مقام الغرب وتؤدي رسالته في تغريب الأمة وإبعادها عن دينها ليكونوا رموزاً يقتفى أثرهم.
4- التربص بكل توجه إسلامي مخلص وضربه ومصادرته بدعوى أنه (إرهاب وتطرف).
5- اصطناع سياسات تجفيف المنابع التي يشارك فيها ذوو الاتجاهات العلمانية بمختلف رؤاهم الفكرية للوقوف معاً ضد الصحوة الإسلامية والعمل المتواصل للقضاء عليها بتلك السياسة التي تعني: قطع الصلة العقدية في المجتمع الإسلامي بين حاضره وماضيه للوصول إلى عزل الأمة جمعاء عن دينها الحق وفهمه الصحيح بمنهاج سلفنا الصالح.
ولكي تنجح تلك السياسة الخبيثة اتخذت الخطوات التالية :-
أ - مصادرة كل توجه إسلامي صادق في المجتمع، ومحاصرته، وإخراجه بينما المجال مفتوح لكل اتجاه ساقط، حتى ولو كان شيوعياً بائداً.
ب - العمل المتواصل لتغريب المجتمعات المسلمة، بإشاعة الإعلام الفاسد بشتى صوره المرئية والمسموعة والمقروءة، ومحاولة إبعاد تأثير الدين في نفوس أبنائه بتلك الوسائل.
ت - تغيير مناهج التربية والتعليم. وقطع صلتها بدين الأمة وتاريخها. بحجة تطويرها وتحديثها لتخالف كل مسلمات الأمة، ولتتناسب مع (اتجاهات التطبيع) مع العدو الصهيوني.
وهناك دراسات علمية موثقة لهذا التوجه رصدت هذه الظاهرة بصورة كاملة توضح إلى أي مدى تسير الأمة في طريق الهاوية، إن لم تتداركها رحمة الله ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ومع كل ذلك. فمما يبشر الأمة ويجعل الدعاة إلى الله تعالى على ثقة بفشل تلك الاتجاهات المشبوهة أن الله بالغ أمره يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
إننا نعيد ونؤكد: إن كل المحاولات التغريبية التي تسعى لقطع الأمة من جذورها، مصيرها إلى الزوال بإذن الله تعالى، وهي إن نجحت في بلد ما من البلدان، أو في وقت ما من الأوقات. فإنه نجاح مؤقت، مؤذن بحول الله وقوته. إلى عودة صادقة إلى دين الإسلام.
إن هذا الدين هو قدر الله ورحمته في هذه الأرض، وظاهرة العودة إلى المنابع الأصلية هي إحدى مظاهر السنن الربانية الكريمة التي لا تتبدل ولا تتغير، وحينما يحال بين الصحوة الإسلامية وهذا السبيل بالوسائل المعيقة لأداء دورها ستكون النتائج محزنة جداً. كما هو الحال في كثير من البلدان الإسلامية، لكنها ستؤول بإذن الله إلى نصر مبين لأوليائه.
إن القافلة تسير لا يضرها من خذلها أو خالفها، تحدوها عناية العزيز القدير والله نسأل أن يكون من روادها والسائرين في ركابها على بصيرة مع الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين. وأن يقر عيوننا بعز الإسلام. وذل أعدائه.. وما ذلك على الله بعزيز.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1536)
العيد في الإسلام
الإيمان
الولاء والبراء
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد من خصائص الدين وشعائره. 2- بعض أحكام زكاة الفطر. 3- كيفية صلاة العيد
وسننها. 4- ذم أعياد الجاهلية وبيان حكم المشاركة فيها. 5- تغيير الأسماء لا يغير الحكم إذا
تحدث المسميات. 6- كلمة في الأعياد والمبتدعة بأصنافها المختلفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد ألا إله إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد القائل في كتابه العزيز: وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَـ?مِ فَإِلَـ?هُكُمْ إِلَـ?هٌ و?حِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ ?لْمُخْبِتِينَ [الحج:34]، وقال سبحانه: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ ?لْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـ?جاً [المائدة:48]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل لأصحابه رضي الله عنهم: ((وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) [1].
فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها الإخوة: اتقوا الله حق تقاته واستقيموا على شرعه وتمسكوا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تفوزوا في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة: إن العيد منسك وعبادة شرعها الله عز وجل وبلغها نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم لدى كل مسلم أنه لا يصح التقرب بأي نسك أو عبادة حتى تثبت بالدليل الصحيح الصريح ولا يقبل أي عمل يتقرب به إلى الله إلا إذا تحقق فيه شرطان: الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، والعيد لم يسمَ عيداً إلا لأنه يعود كل عام، فهو من العود سواء سمي عيداً أو يوم الفطر، أو يوم الأضحى، فلا مشاحة في ذلك.
ونحن الآن أيها الإخوة على أبواب يوم الفطر فما هي الأمور التي يجب على كل مسلم أن يعلمها بعد أداء الصيام والقيام في شهر رمضان المبارك.. إن أول ما يتبادر إلى الأذهان إخراج زكاة الفطر التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم، صاعاً من طعام يخرجها كل مسلم صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً، وأفضل أوقات إخراجها بعد صلاة الفجر يوم العيد وقبل صلاة العيد، ويصح إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
والصحيح الراجح أن تخرج زكاة الفطر من طعام الآدميين المتعارف عليه بين أهل البلد كالأرز أو الحنطة أو الشعير أو التمر أو الزبيب، فلا يصح طعام البهائم ولا يصح إخراجها من الفرش أو الملابس أو العملات، ولكن لا بأس أن يجمع المزكي بين زكاة الفطر والصدقة، فيزكي طعاماً ويتصدق بملابس أو بالنقد، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فمن أخر الزكاة بعد صلاة العيد فإنما هي صدقة من الصدقات كما أخبر ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)) [2].
أما صلاة العيد فهي ركعتان تؤديان بعد طلوع الشمس يوم العيد يجهر فيهما بالقراءة ويكبر في الأولى سبعة تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام وفي الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة الانتقال، ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة بسورة (ق) أو سَبِّحِ ?سْمَ رَبّكَ ?لأَعْلَى? [الأعلى:1]، ويقرأ في الثانية بسورة: ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ وَ?نشَقَّ ?لْقَمَرُ [القمر:1]، أو الغاشية، وبعد الصلاة يخطب الإمام خطبة، لا يلزم الناس الجلوس لها، ولا يصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها إلا إذا كانت الصلاة في مسجد فيصلي ركعتين عند دخول المسجد، والمعروفة بركعتي تحية المسجد، ومن السنة الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب والخروج للمصلى جميعاً كباراً وصغاراً نساءً ورجالاً، ولكن دون تبرج ولا تعطر من النساء، فصلاة العيد فريضة على الأعيان على الراجح من الأقوال، وقبل الخروج لصلاة عيد الفطر يسن أكل تمرات وتراً، ويشرع المشي للمصلى لأداء صلاة العيد إن أمكن ذلك ومخالفة الطريق في الذهاب والعودة، ويشرع التكبير من بعد صلاة الفجر يوم العيد حتى تقضى الصلاة لقوله تعالى: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى فعلينا أيها الإخوة أن نحيي هذه السنة فنخرج من بيوتنا لصلاة العيد رافعين أصواتنا بالتكبير كل منا يكبر لوحده، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة مخصوصة في التكبير ولكن ثبت عن بعض الصحابة منهم ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، فتكبير ابن مسعود: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد) [3] أما تكبير ابن عباس: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجل الله أكبر على ما هدانا) [4].
أيها الإخوة: هذه أعيادنا التي نتميز بها والتي شرعها الله عز وجل يجب علينا أن نقيمها كما شرعها ربنا وكما أداها نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يجوز إقامة أي عيد لأي مناسبة أخرى قديمة أو حديثة، ومن فعل ذلك فهو مبتدع في دين الله أو متشبه بالكفار.
فإن أعياد المسلمين مرتبطة بعبادتين عظيمتين الصيام والحج، فلا ارتباط للعيد في الإسلام برأس السنة حماية لنا من التشبه باليهود والنصارى والمجوس، ولا ارتباط للعيد في الإسلام بالنجوم والكواكب ولا ارتباط للعيد في الإسلام بالأشخاص والذكريات. ولا ارتباط للعيد في الإسلام بالأمور المادية والنفعيات الشخصية. ولا ارتباط للعيد في الإسلام بالقوميات العرقية والوطنية إبقاءً لرابطة الإخوة الإسلامية بين المسلمين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى واجعلنا هداة مهتدين، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا من عبادك الصالحين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه يا رب العالمين.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (4/126)، وأبو داود: كتاب السنة – باب في لزوم السنة، حديث (4607)، والترمذي: كتاب العلم – باب ما جاء في الأخذ بالسنة.. حديث (2676) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: المقدمة – باب اتباع سنة الخلفاء... حديث (42). وصححه ابن حبان (5) والحاكم (1/96)، وابن رجب في "جامع العلوم والحكم" وقال في إسناد ابن ماجه: إسناد جيد متصل، ورواته ثقات مشهورون (ص 256) وصححه الألباني في إرواء الغليل (2455).
[2] صحيح، أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة – باب زكاة الفطر، حديث (1609)، وابن ماجه: كتاب الزكاة – باب صدقة الفطر، حديث (1827)، والدارقطني: كتاب زكاة الفطر (2/138) وقال عن رجاله: ليس فيهم مجروح. وأخرجه الحاكم (1/409) وقال: صحيح على شرط البخاري. قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/313): وهو كما قال. وحسّنه الألباني، صحيح سنن أبي داود (1420).
[3] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: كتاب صلاة العيدين – باب التكبير من أي يوم هو.. (2/72)، والطبراني في الكبير (9538).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة: كتاب صلاة العيدين – باب كيف يكبّر يوم عرفة (2/74)، والبيهقي في الكبرى (3/315).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: إن من اتخذ يوماً للفرح والسرور أو للذكرى والاحتفال فيه لأي مناسبة كانت شخصية أو وطنية أو عالمية أو غير ذلك إنما هو مبتدع عيداً آخر غير ما فرضه الله عز وجل، وقد يظن بعض الناس أنه إذا لم يطلق اسم عيد على ذلك اليوم الذي اتخذ للذكرى أو للفرح والسرور فلا بأس من ذلك، وهذا خطأ فادح في فهم معنى العيد.. وهذا يشبه ما تسميه البنوك بالفوائد والمقصود به الربا، فهل تغيير الاسم يجعله حلالاً؟ أو ما يسمى بالمشروبات الروحية والمقصود بها الخمر، فهل أصبحت هذه المشروبات حلالاً بسبب تغيير الاسم؟
وقد مر معنا التعريف بكلمة عيد، وهي مأخوذة من العود، وكل يوم يتخذ لمناسبة معينة سواء سمي عيداً أو لم يسمَ فهو عيد لأنه يعود كل عام أو كل ربع قرن أو نصف قرن. وسواء سمي باليوبيل الفضي أو الذهبي أو الماسي، كلها أعياد بدعية فيها مشابهة للكفار والعياذ بالله.
لاحظوا أيها الإخوة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة ولأهلها يومان يلعبون فيهما فقال صلى الله عليه وسلم: ((قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) [1].
لاحظوا أن أهل المدينة اتفقوا فيما بينهم على يومين يفرحون فيهما ويوسعون على أنفسهم وأولادهم فيها، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبين أن في يومي الفطر والأضحى غنية عن اليومين اللذين يلعبون فيهما، مما يدل على أنه لا يجوز اتخاذ أي يوم للفرح والسرور يكرر كل عام ويعود في كل سنة إلا يومي الفطر والأضحى.
وبنظرة متأنية ومليئة بالتدبر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في سيرة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم أجمعين نجد أنهم لم يتخذوا أي يوم للذكرى أو للاحتفال أو الفرح والسرور، لا بيوم المولد النبوي ولا بيوم البعثة ونزول الوحي ولا يوم الهجرة ولا يوم غزوة بدر أو أي غزوة من الغزوات ولا يوم فتح مكة ولا يوم تأسيس الدولة الإسلامية.
والذي أحدث المناسبات في هذا الشأن هم الرافضة الشيعة، فروخ اليهود عليهم من الله ما يستحقون، وذلك في منتصف القرن الرابع الهجري حيث أحدثوا مناسبات المولد النبوي وغيرها من الأعياد المبتدعة التي لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها ولم يفعلها الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين ولم يفعلها آل البيت ولم يفعلها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من العلماء والمحدثين في تلك العصور.
ثم توسع أهل البدع في اختراع بدعهم بإحداث مناسبات قومية أو وطنية كالاحتفال باليوم الوطني أو يوم الأم أو يوم الشجرة، وقد جمعوا بين سيئتين: الابتداع والتشبه، حيث أصبحت المناسبات إما مئوية أو خمسينية أو ربع قرنية وأطلق عليها اسم اليوبيل – يوبيل فضي بعد مرور 25 سنة ويوبيل ذهبي بعد مرور 50 سنة ويوبيل ماسي بعد 60 سنة والثمانيني، والمئوي بعد مرور مائة عام، فشابهوا اليهود في هذه المناسبات وذلك لأن كلمة يوبيل هي كلمة عبرية يهودية معناها (قرن الكبش) الذي تصنع منه الأبواق التي يستعملونها في أعيادهم لإلقاء الألفاظ والترانيم الخاصة بهم عند مرور 25 سنة أو خمسين أو ستين أو ثمانية أو مائة سنة.
يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله وهو عضو هيئة كبار العلماء يقول في كتابه (عيد اليوبيل بدعة في الإسلام):
إن الاحتفال باليوبيل على اختلاف مدده وعلى اختلاف أغراضه هو احتفال بدعي في الدين، ومنازعة في أمر رب العالمين، وتشبه بالكافرين من اليهود، والنصارى وعباد الصليب والوثنيين، وتعظيم لحرماتهم، وتجاوز على صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم بما شرع الله على لسانه واستدراك عليه.
ثم قال حفظه الله: وإنه يحب على من نهى عن الاحتفالات البدعية ومنها الاحتفال بالمولد النبوي وغيرها من الأعياد المبتدعة لدى بعض المسلمين التي أدخلها المضللون.
يجب على الناهين عن هذه الأعياد البدعية وجوباً أولياً أن يعلنوا النهي عن الاحتفال بعيد اليوبيل الفضي والذهبي والماسي والثمانيني، لأي مدة كان، ولأي مكان، ولأي شخص، أو مناسبة، ومن لم يفعل فهو متناقض مضطرب، شاء أم أبى، وهذا من اتباع الهوى.ا.هـ باختصار.
وقد صدرت فتاوى متعددة من هيئة كبار العلماء ومن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعدم جواز إقامة احتفالات بمناسبة مرور عام أو مائة عام أو أقل أو أكثر مهما كانت الأسباب لأن ذلك ابتداع في دين الله وتشبه بالكفار. وهي موجودة في ما تصدره اللجنة من كتب وبحوث لمن أراد الرجوع إليها ومنها فتوى برقم (17779) وتاريخ 20/3/1416هـ.
أيها الإخوة: علينا الالتزام بشرع الله والتمسك بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في جميع أمورنا وأحوالنا حتى نسعد في الدارين ونفوز بالجنة.
[1] صحيح، أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود: كتاب الصلاة – باب صلاة العيدين، حديث (1134)، والنسائي: كتاب صلاة العيدين – باب أخبرنا على ابن حجر... حديث (1556). وصححه الحاكم (1/294)، والضياء في المختارة (5/274)، وصححه الحافظ إسناده في الفتح (2/442) وكذا الصنعاني في سبل السلام (2/70).
(1/1537)
ألفاظنا في ميزان الشريعة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1-تهذيب الإسلام للألفاظ التي تصدر من الإنسان. 2- عبارات خاطئة يرددها الناس في ثنايا
كلامهم. 3- الرطانة بغير العربية من غير داع. 4- خطورة اللسان وما يصدر عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء الإسلام في وقت كانت الأمة فيه مليئة بالشرك والمنكرات، فلا مرجع لأغلب أفرادها إلا العادات والتقاليد الموروثة عن الآباء والأجداد... فهذب الإسلام الأخلاق وضبط المجتمع بمرجعية في أسلوب حياتها وتعاملها وفي كل شئونها بعد أن رسخ في قلوب المؤمنين التوحيد والانقياد لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى الألفاظ الموهمة والتي تحتمل وجهين أحدهما موافق للشرع والآخر مضاد له نهينا عن استخدامها، فهذه كلمة (راعنا) التي كان يقولها اليهود وهي تحتمل معنى الرعونة ويريدون بذلك شتم النبي صلى الله عليه وسلم، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، جاء القرآن يأمرنا بأن لا نقولها ونقول كلمة غيرها قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم. وعلى المؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون منضبطاً في جميع أحواله بما يوافق الشرع الحنيف وخاصة فيما يتعلق بالتعبيرات والألفاظ المخالفة للإسلام والمناقضة للتوحيد.
وسأذكر في هذه الخطبة بعض الألفاظ التي يخطئ فيها كثير من الناس، سواء كانت ألفاظاً موهمة أو منافية للتوحيد أو منافية لحقائق ثابتة جاء بها الإسلام الحنيف.
وهذه الألفاظ والرد عليها جمعتها من فتاوى بعض العلماء وخاصة الشيخ محمد الصالح العثيمين وفقه الله.. ونبدأ الآن بذكرها:
- كلمة (وجه الله ما عليه غطا).. ويراد بذلك أن الحق واضح والصحيح أن الله عز وجل حجابه النور ويجب علينا الابتعاد عن هذا التعبير، بقول: الشمس لا تحتاج إلى دليل، مثلاً.
- ومن الأخطاء قول (لا حول لله).. وهذا نفي الحول والقوة عن الله عز وجل وهذا خطأ، والصحيح قول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
- ومن الأخطاء قول بعض الناس.. (وهذا تمشياً مع العادات والتقاليد الإسلامية) فالإسلام ليس تقاليد وعادات، ولكنه عبادات وشرائع، والصحيح أن يقال: تمشياً مع شريعتنا وديننا الحنيف.
ومن التعبيرات الخاطئة مصطلح (فكر إسلامي)، وهذه توهم أن الإسلام عبارة عن أفكار فيها أخذ ورد، وفي هذا خطر عظيم، فالإسلام شرائع نحن متعبدون بها، ويجب علينا الحذر من هذا الاصطلاح وتركه.
- ومن التعبيرات الخاطئة قول: (المادة لا تفنى ولا تزول، ولم تخلق من عدم)، هذه من التعبيرات الإلحادية والتي يجب على المؤمن أن لا يقولها، فكل شيء خلقه الله من عدم، فالله خالق كل شيء، وكل شيء سوى الله الأصل فيه العدم.
ومن التعبيرات الخاطئة قول بعض الناس عن الميت (دفن في مثواه الأخير) فهذا حرام ولا يجوز لأن في ذلك إنكاراً للبعث، والله عز وجل يقول: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر والزائر لا يقيم، وهذه مرحلة من المراحل التي يمر بها الإنسان. فالميت كالزائر يمر بهذه المرحلة ثم يبعث يوم القيامة، وهناك مثواه الأخير. إما إلى جنة وإما إلى نار، فلا ينبغي للمسلم أن يقول عن القبر: إنه المثوى الأخير.
- ومن الأخطاء في التعبير وصف بعض كلام الله عز وجل بأن له إيقاعاً موسيقياً وهذا الوصف لا يجوز أن يقال لكلام الله عز وجل.
- ومن الأخطاء قول بعض الناس في الدعاء، (اللهم لا نسألك رد القضاء وإنما نسألك اللطف فيه). فهذا حرام ولا يجوز.. لأن الدعاء يرد القضاء كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يرد القدر إلا الدعاء)) وهذه العبارة (اللهم لا نسألك رد القضاء..) فيه نوع تحد للرب عز وجل كأن السائل يقول: يا رب اقض ما شئت، ولكن مع اللطف، وهذا لا يجوز، فالمسلم يسأل الله المغفرة والرحمة وأن لا يعذب في القبر ولا يوم القيامة وهذه الأدعية كلها قد تكون أسباباً لمنع أو رد القضاء، ولأن ذلك الدعاء أيضاً قدر وقضاء، وعلى الإنسان أن يعزم في المسألة ويتجنب هذا الدعاء الذي لا يجوز الدعاء به.
- ومن الأخطاء في التعبير أن يوصف بعض المخلوقات بأنها (هبة الطبيعة)، والطبيعة وغيرها خلقها الله عز وجل، ولا يجوز القول بأن ذلك من هبة الطبيعة.
- ومن الأخطاء الطلب من الله أمراً مخالفاً لقضائه الكوني مثل سؤال الله عز وجل أن يجعل الشمس قمراً أو الذكر أنثى أو الأنثى ذكراً، وهذا كله من التعدي ومن الاعتداء في الدعاء ولا يجوز ذلك.
- ومن الأخطاء الحلف بالطلاق أو بأي شيء غير الله عز وجل، وهذا شرك ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) لأن الحالف يساوي بين عظمة الله وبين من يحلف به سواء الطلاق أو الشرف أو غيرهما، ولا يجوز الحلف إلا بالله، ومن أخطأ فعليه أن يقول لا إله إلا الله ويتوب من ذلك الحلف، وإذا كان لابد حالفاً فليحلف بالله..
وهناك خطأ في الحلف حيث نسمع بعض الناس يقول ورب المصحف، وهذه لفظة موهمة لأن المصحف فيه كلام الله. وكلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق وعلى المسلم أن يتجنب هذا الحلف وليقل ورب الكعبة بدلاً عنه.
- ومن الأخطاء قول بعض الناس لأمر مكروه لا سمح الله والأولى إن أراد الدعاء أن يقول: لا قدر الله أي أسأل الله أن لا يقدر ذلك الأمر، وأيضاً قول بعض الناس: (فال الله ولا فالك) وهذا لا يجوز. وعلى المسلم أن يترك هذا التعبير الخاطئ.
- ومن الأخطاء أيضاً قولنا (شاءت الأقدار أو شاءت قدرة الله) وهذا لا يجوز ولكن الصحيح أن يقال اقتضت حكمة الله، أو نقول هذا قدر الله أو هذه قدرة الله. لأن المشيئة لله عز وجل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
- ومن الأخطاء أيضاً وصف الله عز وجل بصفات لم تثبت في القرآن الكريم ولا في السنة، أو إطلاق أسماء لله لم ترد في القرآن ولا في الستة كقول بعض الناس يا ستار، أو مثل أبو خيمة زرقاء، أو مهندس الكون، وهذا لا ينبغي أن يقال، والأولى بالمسلم أن يلتزم ويتقيد بما ورد في القرآن والسنة الثابتة الصحيحة من أسماء الله وصفاته.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن ما ذكرته في الخطبة الأولى ما هو إلا غيض من فيض، وقد جمع بعض أهل العلم ما يقارب ألف لفظ خاطئ ما بين ألفاظ قد تهوي بصاحبها في نار جهنم إلى ألفاظ من خوارم المروءة، أو مما ينبغي على المسلم تركها ومنها مثلاً الرطانة باللغات الأجنبية حيث كان سلفنا الصالح يمنعون منها أبناءهم وأقاربهم لأن ذلك قد يورث محبة للكفار. فلا ينبغي للمسلم أن يتكلم بغير لغة القرآن – اللغة العربية. بل إن بعض أهل العلم يرى المحافظة على الأوزان الشعرية العربية المعروفة حتى تبقى الألسن والافهام سليمة من لوثة الحداثة والتجديد.
ولكن الأصل في كل ذلك أيها الإخوة هو الالتزام بآداب الشرع الإسلامي وتجنب الكذب والاستهزاء والسخرية فرب كلمة يقولها الشخص لا يلقي لها بالاً فيكون فيها هلاكه والعياذ بالله، انظروا إلى الذين أخذوا يخوضون ويلعبون في أعراض الصحابة. كيف أخرجهم ذلك من الإيمان إلى الكفر كما قال الله تعالى في سورة التوبة: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم. وهذا كما يقال الآن: ننكت ونضحك، فربما يكون في ذلك هلاك ودمار، لهذا الذي يريد أن يضحك الناس كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح الجامع: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له)).
فالحذر الحذر من إطلاق الألسن والتلفظ بأمور مناقضة للتوحيد أو فيها محادةٌ لله ورسوله، وليعلم كل مسلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون وعلينا ضبط ألفاظنا بميزان الشريعة بحيث تكون موافقة للقرآن والسنة وأقوال السلف الصالح ولا نغتر بالتعبيرات المنمقة الحديثة. فقد يكون فيها العطب والسم الزعاف، وإن من الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس الاستدلال بآيات أو بأحاديث لا تناسب الموقف الآن، مثل ذلك حينما يفتتح مشروع فيقول المتحدث، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وهذا لا يصح الاستدلال به لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى أعمالنا بعد وفاته.. كذلك قول: (الله ورسوله أعلم)، وهذا لا يصح الآن... إنما كان ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم وحينما كان هو الذي يسأل، فيرد الصحابة بقولهم: (الله ورسوله أعلم). أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يصح قول: (الله ورسوله أعلم) إنما يقال: الله أعلم.
أيها الإخوة: علينا أن نضبط أقوالنا وتعبيراتنا واستدلالاتنا ولا نترك لهذه الآلة، (اللسان)، العنان حتى لانكب على مناخرنا في جهنم والعياذ بالله ((وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)).
وعلينا الإكثار من التهليل والتسبيح والتحميد والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمحافظة على أداء الطاعات والابتعاد عن المحرمات. وما هي إلا سنوات معدودة حتى نكون من أصحاب القبور فإما إلى الجنة وإما إلى النار. أجارنا الله منها.
(1/1538)
الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الكبر. 2- التكبر ينازع الله في صفته. 3- جزاء الكبر. 4- مسببات الكبر. 5-
فرعون إمام المتكبرين. 6- أبو جهل مثال آخر للكبر. 7- تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)) قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)).
ففي هذا الحديث بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكبر بطرُ الحق، وهو دفع الحق ورده، أي عدم قبول الحق. وغمط الناس أي احتقارهم وإذلالهم.
فالمتكبر يريد أن يعلو على الحق وعلى الله تعالى برد الشرع والدين، ورد آيات الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. والمتكبر أيضاً يعلو على الناس ويسخر منهم ويحتقرهم ويزدريهم.
أيها الإخوة: إن الكبر برد الحق هو تمرد على العبودية وخروج عن الطاعة لله عز وجل قال تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين.
وقال تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين. فالجنة والفوز بها هي لمن لا يريد علواً في الأرض ولا تكبراً. قال شيخ الإسلام رحمه الله: من الذين يريد العلو على الناس والفساد في الأرض؟ الملوك والرؤساء المفسدون، كفرعون وحزبه، وهؤلاء هم شرار الخلق، والذين يريدون الفساد فقط بلا علو هم السراق والمجرمون من سفلة الناس. وأما أهل الجنة فهم الذين لا يريدون علواً ولا فساداً. جعلنا الله منهم.
أيها الإخوة: إن الكبر منازعة لصفة من صفات الله عز وجل كما جاء في الحديث فهو سبحانه الجبار المتكبر، إن الله تعالى يقول: ((إن العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبتهُ)).
وهذه المنازعة قد تسبب العقوبة في الدنيا قبل الآخرة كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بينما رجل يجرُ إزاره من الخيلاء خُسف به فهو يتجلجلُ في الأرض إلى يوم القيامة)) أي هو يغوص فيها والعياذ بالله، والجزاء من جنس العمل.. وكذلك يوم القيامة سيكون جزاء المتكبرين بأن يحشروا ((أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقون من عصارة أهل النار: طينة الخبال)) هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما.. فهذا جزاء التكبر.. الذل والصغار والإهانة والاحتقار يوم القيامة والعياذ بالله.
أيها الإخوة: إن التكبر قد يؤدي إلى الحسد والحقد والعياذ بالله كما قال تعالى عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين تكبروا على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى الإسلام ولم يستجيبوا للحق.. ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فهؤلاء الكفار أصبح مما يسوؤهم أن تنزل علينا الخيرات على المسلمين، حسداً وحقداً وتكبراً.
وأيضاً قد يؤدي الكبر إلى حسد الأقران بعضهم لبعض وخاصة من أهل العلم والدعاة.. فقد يرى أحدهم أنه أوتي بياناً وفصاحة فهو خطيب مفوه أو أوتي قلماً سيالاً فيقول في نفسه: مالي لا أُتبع، بينما فلان وفلان لهم طلاب وأتباع وكلمتهم مسموعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فيتحين الفرص للإيقاع بهؤلاء ويفرح بما يصيبهم من أذى ويُعلن أن ما أصابهم ما كان إلا بسبب أنهم ابتعدوا عما يراه ويظنه حقاً والعياذ بالله.
وهذه أيضاً صفة أهل البدع الذين يبتدعون في الدين ليعارضوا به ما ثبت في القرآن والسنة فيشتهروا بين الناس بما يحدثوه في الدين.
وهذه أيضاً صفة أهل السلطة الذين يقدمون السياسة التي يرونها على حكم الشرع إذا ما وجدوا أن في الشرع انتقاصاً لمراكزهم أو مساً لعروشهم، كل هذه الأمور المخالفة منبتها الكبر والعلو في الأرض، وإن من الكبر إعجاب المرء بنفسه، فقد يصاب الإنسان العابد الزاهد بالإعجاب يرى أنه بلغ المنى وعمل ما لم يعمل غيره فيكون قد وقع في ذنب عظيم من أعظم الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب)).
فالمذنب يشعر بالتقصير والندم، وأما المعُجب بنفسه فقد وقع في الخطر المفضي إلى الخسران والعياذ بالله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن قدوة المتكبرين الذين يردون الحق ويحتقرون الناس هو فرعون مصر وفرعون مكة.. أما فرعون مصر فحينما جاءه الحق من موسى عليه وعلى نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قال متكبراً: وما رب العالمين. وقال للناس: أنا ربكم الأعلى. وجمع السحرة فحينما آمنوا واتبعوا موسى قال عنهم إن هُم، إلا شرذمة قليلون، وهددهم بالقتل والتعذيب، لقد بلغ فرعون في تكبره، والعياذ بالله، احتقاره للخالق والمخلوقين.. قال تعالى: ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وأن لا تعلوا على الله أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببراهينه.
وقد ضرب فرعون مثلاً في العجب بالرأي واتخاذ القرار الذي لا يرد ولا يعاب بل يريد من أتباعه أن يستسلموا لرأيه، وأنه هو الرأي الرشيد، وأن توجيهاته لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. فهو يقول كما قال الله عنه: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ولم يتقبل النصح من الذي آمن من قومه، لقد تكبر وتجبر حتى أغرقه الله فأخذه أخذ عزيز مقتدر، وإن في سورة غافر بيان شاف كاف لما ذكرته هنا باختصار.
وأما فرعون مكة أبو جهل عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فما هو إلا صورة مشابهة لسابقه المذكور.. حيث استكبر ولم يؤمن ولم يتقبل الحق وآذى النبي صلى الله عليه وسلم وآذى المسلمين، وقد هدد بأن يدوس بقدمه على رقبة النبي صلى الله عليه وسلم لو رآه ساجداً عند الكعبة وحينما اقترب منه نكص على عقبيه وأخذ يتقى بيديه فقيل له: مالك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)) ، أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ، ورغم ذلك لم يذعن للحق ولم يؤمن بالرسالة تكبراً وعلواً.. وكان فرعون هذه الأمة أبو جهل ومن معه من الأعوان والأتباع يستهزئون بالصالحين بل إنهم استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم احتقاراً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم والله المحتقرون ومن سار على نهجهم واتبع خطواتهم.
أيها الإخوة: علينا بالتواضع وعدم التكبر، إن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع الجم ما لا يسع ذكره في خطبة واحدة.. فهو صلى الله عليه وسلم مثال يحتذى في التواضع.. في التواضع مع أصحابه مع زوجاته مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان، فهو صلى الله عليه وسلم لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمساكين، ويجيب دعوة المملوك أو المرأة حتى ولو كانت على خبز، وكان يحادث كل إنسان ببساطة ودون تكلف.
روي عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فكلمه، فجعل ترعد فرائصهُ.. أي ينتفض من الخوف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد)). لقد كان صلى الله عليه وسلم مثالاً يحتذى وأسوةً للمسلمين في لبسه وأكله وشربه وصحوه ونومه وفي كل شؤونه السياسية والاجتماعية، إن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي سيرة خلفائه الراشدين المهديين أمثلة وشواهد على تقبل الزعيم والقائد لرأي أي شخص من رعيته، ففي غزوة الخندق أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي سلمان وحفر الخندق وفي بدر أخذ برأي الحباب بن المنذر في أن يجعل مياه بدر خلفه لئلا يستفيد منها المشركون.
وكان يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أشيروا علي – أشيروا علي)).
وهذه امرأة ترد على عمر.. فيصوب قولها ويعلن تراجعه عن رأيه رضي الله عنه كما جاء في السير في القصة المعروفة والمشهورة عن تحديد المهور.
بل إنه يُروى أن رجلاً قال له: لو زللت لقومناك بسيوفنا، فقال عمر رضي الله عنه: الحمد لله الذي جعل من يقوم عمر بسيفه.
أيها الإخوة: إن التواضع رفعة وعزة، والتكبر ذل وهوان وعمى في البصيرة وسوء في الرأي وطبع على القلب كما قال تعالى: كذلك يطبع الله على كل قلبٍ متكبرٍ جبار وسيكون مصير المتكبر الازدياد في الطغيان والابتعاد عن الحق كما قال تعالى: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كلّ آيةٍ لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشدِ لا يتخذوه سبيلاً ، ويكون مصيره الخيبة والخسران والعياذ بالله وخاب كل جبار عنيد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1539)
النجاح والفوز الحقيقي
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبرة من الاختبارات المدرسية وظهور النتائج. 2- كلمة عن سؤال القبر وإجابة المؤمن.
3- الأمور التي سيسأل عنها الإنسان يوم القيامة. 4- النجاح والفوز الحقيقي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: يسعى الطلاب في جميع المراحل هذه الأيام للحصول على الحصاد بعد جهد من الدراسة والتحصيل والمذاكرة، وكل بحسبه، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، ولكل مجتهد نصيب.
والآن تشرئب الأعناق وتتلهف القلوب بسماع النتائج والنظر إلى أسماء الناجحين، عند ذلك ترتفع الأصوات من الطرفين، من الذين نجحوا وفازوا ولسان حالهم يقول: انظروا أيها الناس إلينا لقد تعبنا ودرسنا وتعلمنا وسهرنا الليل في طلب العلم فوفقنا الله ونجحنا.. فتأتيهم التهاني بهذا النجاح، أما أصوات الطرف الثاني من الذين أخفقوا في الاختبارات فتسمعها خافتة حزينة متأسفة على ما ضاع عليهم من الوقت في اللعب والهزل، ولاة ساعة ندم، فيأتيهم من يوبخهم أو من يهون عليهم ويقول لهم: أمامكم فرصة الدور الثاني لتدركوا ما فات ولتصححوا المسار وتجتهدوا وتثابروا حتى تحققوا النجاح والفلاح والفوز.
أيها الإخوة: ما أشبه هذه المواقف بموقف الناس يوم القيامة حينما تطاير الصحف فآخذ كتابه بيمينه فينطلق فرحاً أمام الجموع الحاشدة، في ذلك الموقف ويقول: هاؤم اقرؤوا كتابية إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية.
وأما الطرف الثاني الذين يأخذون كتبهم من وراء ظهورهم وبشمائلهم والعياذ بالله فكل واحد منهم يندب حظه ويقول: يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغني عني مالية هلك عني سلطانيه.
ومن العجيب أيها الإخوة: أن الأسئلة في اختبارات المدارس والجامعات غير معلومة ولا يدري الطالب من أي باب سيأتيه السؤال... ورغم ذلك يستعد المجد المجتهد ويذاكر ويضع لكل احتمال حسابه. أما الأسئلة التي تكون في الدار الآخرة، في الاختبار النهائي عند الانتقال من الحياة الدنيا الزائلة إلى الحياة الآخرة الباقية فهي معلومة، أخبرنا بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. فأول مراحل هذا الاختبار هو فتنة القبر.
الأسئلة الثلاثة التي يسألها كل ميت، من ربك؟ من دينك؟ من نبيك؟ فمن آمن بالله وعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته وآمن بها كما وردت في القرآن والسنة الصحيحة دون تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ووحد الله عز وجل وتوكل عليه وأطاع أوامره واجتنب نواهيه وجعل كل محبوباته ورغباته في كل ما يحبه الله عز وجل، وخشيه في السر والعلن، فإنه سيجيب بقوله: ربي الله، ومن أسلم وعرف أن الدين عند الله الإسلام وأن من لم يسلم فهو كافر، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو أي ملة أخرى واعتقد أن من ابتغى غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وليس هناك شيء يسمى تقارباً بين الأديان، وليس هناك موالاة ولا محبة للكفار، وأن كل من لم يسلم فهو كافر عدو لله وللرسول وللمؤمنين وأن الإسلام عنده هو الانقياد والطاعة لشرع الله عز وجل. والاستسلام استسلاماً كاملاً بالقلب والجوارح، ولا يجد في نفسه حرجاً أو شكاً من تطبيق الشرع وإقامة الحدود من رحم للزاني أو إقامة حد القصاص أو الحرابة أو قطع يد السارق أو الجلد أو حد الردة أو غير ذلك مما جاء في الشرع الحنيف ،عند ذلك يجيب المسلم: ديني الإسلام... ومن آمن بالنبي الأمي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأطاعه فيما أمر واجتنب ما نهى عنه وزجر وأحبه أكثر من حبه لنفسه وماله وأهله واتبع سيرته وسنته وقدمها على كل ما تهواه نفسه وجعل هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك يقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الكافر أو المنافق فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري، لا أدري، سمعت الناس يقولون: كذا، فقلت مثل قولهم، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضرب بمرزبة من حديد يسمعها كل شيء إلا الثقلان، الإنس والجن والعياذ بالله.
ويتمنى عندها العودة إلى الحياة الدنيا ولكن هيهات هيهات، فليس هناك دور ثان ٍ ، فقد أخذ كل إنسان فرصته في الحياة الدنيا سنوات من الحياة مرت ليراجع فيها الإنسان نفسه ويعود إلى الله عز وجل وخاصة في الوقت الحاضر التي انتشرت فيها الوسائل الإعلامية بجميع أنواعها ولا أظن أن هناك إنسان على وجه الأرض لم يسمع بالإسلام أو بخاتم النبيين وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: قال الله تعالى: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أما الأسئلة الأخرى التي سيسأل كل إنسان عنها، ما جاء في حديث عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع)) وفي رواية: ((عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به)) فالسؤال عن المال من جهتين: من جهة اكتسابه ومن جهة إنفاقه، لذلك يمكن اعتبار الأسئلة خمس.
السؤال الأول عن العمر، عن هذه السنوات التي نقضيها في هذه الحياة الدنيا، هل كانت في طاعة الله؟ وفي ما يرضي الله عز وجل؟ ويكرر السؤال حيث يأتي مركزاً على مرحلة الشباب، مرحلة القوة أين وجهت هذه القوة؟ هل وجهت في ما يرضي الله وفي الطاعات والعبادات لرفع راية الجهاد والدعوة إلى الله؟ هل وجهت لقيام الليل ولفعل القربات؟ أم ضاعت الأوقات في لعب ولهو ورقص ومجون... فالوقت هو العمر، إنما الحياة دقائق وثوان، وليس لدى المسلم وقت فراغ يضيع سدى فالصحة والفراغ نعمتان عظيمتان لمن استثمرهما في خيري الدنيا والآخرة.
ثم يأتي السؤال عن المال: هل كان اكتسابه شرعياً حلالاً، أم بالغش والخداع والاختلاس والرشوة والعياذ بالله.. ثم إذا كان الكسب حلالاً فهل أنفق في طرق صحيحة أم في غير ذلك.
ثم يأتي السؤال عن العلم والمقصود به العلم الشرعي: معرفة العبد ربه ودينه ونبيه. هل إذا سمع العبد آية أو حديثاً عمل بهما، لأن السؤال عن العمل بما علم العبد لأن القصد من العلم هو العمل، هو عبادة الله بما شرع.
أيها الإخوة: هذه الأسئلة بين أيدينا فهل نحن على استعداد لها؟
إن الإجابة أيها الإخوة على هذه الأسئلة لا تكون إلا بالاعتقاد الصحيح والعمل في طاعة الله عز وجل واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لا تكون الإجابة بالحفظ باللسان فقط، ولو كان الأمر كذلك لاستطاع المنافقون الإجابة، لأن منهم من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بل وجاهد معه، ولكن قلبه كان مبغضاً للشرع ومبغضاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل ذلك لا يستطيع الإجابة وسيرسب في الاختبار.
كذلك من ضيع حياته في لهو ولعب وفي التخبط في أموال الله بغير حق وعدم الانتفاع بما جاءه من العلم الشرعي من القرآن والسنة النبوية، فإنه على شفا جرف هار قد يهوي به في نار جهنم إن لم تدركه الرحمة ويعود إلى الجادة وإلى الصراط المستقيم.
أيها الإخوة: إن النجاح في الدراسة أمر يطلبه كل إنسان ويفرح به، وهذا لا بأس به، وأما النجاح في الدار الآخرة فهو مطلب كل مسلم، وهو النجاح والفوز الحقيقي قال الله تعالى: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ولا يكون ذلك إلا بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً وقد جاء في أكثر من آية أن دخول الجنة هو الفوز العظيم، وهو الفوز الكبير، وهو الفوز المبين. وحينما يرى الناس أصحاب الجنة يتمنون أن لو كانوا معهم فيفوزون فوزاً عظيماً لأن أصحاب الجنة هم الفائزون.
وأما الفريق الراسب الخاسر فهم أهل النار والعياذ بالله، اسأل الله أن يجيرنا منها قال تعالى: فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون.
(1/1540)
اليوم الآخر
الإيمان
اليوم الآخر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظة في الموت وما بعده. 2- أهوال يوم القيامة. 3- حقيقة الدنيا. 4- المؤثرون الدنيا
على الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: علينا بتقوى الله في السر والعلن وخشيته سبحانه وتعالى، واعلموا أن هذه الحياة الدنيا دار ممر وعبور، ودار عمل وكدح للعباد، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فتذكروا ما أنتم عليه صائرون من الموت وما بعده يوم تحشرون، واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً.
تذكروا حالتكم عند حلول الآجال ومفارقة الأوطان والأهل والعيال، تذكروا حينما تشاهدون الآخرة أمامكم وأنتم مقبلون إليها، مدبرين عن الدنيا، تذكروا حينما ينقسم الناس إلى قسمين، فمنهم من توفاهم الملائكة طيبين يقولون لهم: سلام عليكم تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم. ومنهم من توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم: ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق. قال تعالى: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون.
تذكروا إذا حملتم على الرقاب إلى القبور فانفردتم بها عن الأهل والأولاد والأموال والقصور.. جليسكم الأعمال، فإما خير تسرون به إلى يوم القيامة وإما غير ذلك، نعوذ بالله من ذلك. ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم.
تذكروا إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون يقومون من قبورهم لرب العالمين.. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.
تذكروا هذا اليوم العظيم الذي يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، في هذا اليوم الذي تندك فيه الجبال وتعظم فيه الأهوال. يوم يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به كان وعده مفعولاً ، يوم ينزل الرحمن للقضاء بين العباد قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم.
تذكروا هذا اليوم الذي سماه الله يوم التغابن لأنه هو الذي فيه الغبن العظيم الغبن الحقيقي، لأن الناس يحشرون على حسب أعمالهم، فمنهم المتقون الذين يحشرون إلى الرحمن وفداً، انعم الوفد ونعم الموفود إليه، الوفد عباد الرحمن والموفود إليه الملك الكريم المنان، ومنهم المجرمون أعاذنا الله من أن نكون منهم، المجرمون الذين يساقون إلى جهنم ورداً، أي عطاشاً فتمثل لهم النار كأنها السراب يساقون إليها ولكن لا ترويهم من ظمأ، وإنما يجدون النار والسعير والحر والزفير ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون.
فما أعظم هذا اليوم وما أشد هوله لقد قال الله تعالى في وصفه: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد مقداره خمسون ألف سنة تدنو فيه الشمس من الناس حتى تكون بقدر ميل فقط، ويبلغ العرق منهم كل بحسب عمله، إن التغابن والله في هذا اليوم وليس التغابن في نيل عرض الدنيا وزخارفها، فإنما هي لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد تزدهر قليلاً ثم تزول سريعاً واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً.
فتنافسوا أيها الإخوة في أعمال الآخرة لتدركوا بذلك الدنيا والآخرة، وإياكم أن تؤثروا الدنيا عليها فتخسروا الدنيا والآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة.. فمن زرع حصد ومن لم يزرع خسر فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: لقد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً حتى أوجدكم الله من العدم وأسبغ عليكم النعم ودفع عنكم النقم ويسر لكم من أسباب البقاء وأسباب الهداية، وبين لكم ما ينفعكم وما يضركم، وبين لكم أن للإنسان دارين: دار ممر وزوال، ودار مقر وخلود.
أما الدار التي هي دار ممر وزوال فهي دار الدنيا التي كل ما فيها فهو ناقص إلا ما كان مقرباً إلى الله تعالى.. هذه هي الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوانٌ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
أما الحياة الآخرة فهي الحياة الحقيقية التي فيها جميع مقومات الحياة من البقاء والسرور والسلام والحبور، هي الحياة الحقيقية والتي ينطق الإنسان إذا شاهد حقائقها فيقول: يا ليتني قدمت لحياتي. قال تعالى: فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون.
أيها الإخوة: قارنوا بين الحياة الدنيا وحياة الآخرة لتعرفوا الفرق بين الدارين، ففي الدار الآخرة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهي دار السلام سالمة من كل نقص ومن كل بلاء، لا مرض فيها ولا موت ولا بؤس ولا هرم، وذلك للموحدين الطائعين.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) هذا كلام الصادق المصدوق، إن موضع السوط في الجنة خير من الدنيا كلها من أولها لآخرها بكل ما فيها من زينة وأنهار وجنات وترف.. فكيف بمنزل أدنى منزلة فيها لمن يدخلها متأخراً ولا يملك فيها إلا عشرة أضعاف أو خمسين ضعفاً لمُلك ملكٍ من أهل الدنيا كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه والله ملك عظيم.. ولكننا نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلي أن يسكننا الفردوس الأعلى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إن من العجب أن يؤثر أقوام الحياة الدنيا على الآخرة والآخرة خير وأبقى يؤثرونها على الآخرة فيعملون لها ويدعون عمل الآخرة، يحرصون على تحصيل الدنيا، وإن فوتوا ما أوجب الله عليهم.. ينغمسون في شهواتهم وينسون شكر المنعم عليهم، إنهم يتكاسلون عن الصلوات وفعل الطاعات ويخونون في الأمانات ويغشون في المعاملات ويكذبون في المقالات ولا يقومون بحق الرعاية لمن هم تحت رعايتهم ولا يوفون بالعهود، ولا يلتزمون بالوعود ولا يؤدون ما عليهم تجاه الأقارب والأرحام.
أيها الإخوة: إن من آثر الحياة الآخرة على الدنيا حصل له نعيم الدنيا والآخرة قال الله تعالى: من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقال تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه.
أما من آثر الحياة الدنيا على الآخرة فإنه قد يؤتى من الدنيا ولكن ليس له في الآخرة من نصيب. قال تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.
(1/1541)
أمثال من القرآن والسنة
العلم والدعوة والجهاد
أمثال القرآن والسنة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مثال ضربته الملائكة لحال من تبع دعوة النبي ومن عصاه. 2- مثال لأنواع الناس في تقبل
الخير والعمل به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: تكلمنا في الأسبوع الماضي عن ضرب الأمثال في القرآن والسنة، ومن الأمثال التي جاءت في السنة وتبين وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتوضح للناس بأن لا خلاص لهم ولا نجاة إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأن بعثته صلى الله عليه وسلم جاءت لتفرق بين الناس.. فمنهم من أطاع واتبع، ومنهم من عصى وكذب، فريق في الجنة وفريق في السعير.
هذا المثل جاء في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً. فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.. فقالوا: أولوها له يفقهها.. فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم فمن أطاع محمداً صلى الله عليه وسلم فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس)).
ففي هذا المثل توضيح للناس بأن الله عز وجل خلق الجنة وأعدها للعباد فهو سبحانه وتعالى الملك القدوس مالك الملك.. بنى هذه الدار التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فأرسل الداعي، أرسل رسله لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وهم الدعاة إلى هذه المأدبة وإلى هذه الدار التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فمن استجاب للداعي وأطاع فقد فاز بهذه الدار، وأما من أبى وعصى فقد خسر والعياذ بالله.
قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) وهذا أيضاً يوضحه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفةً طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكان منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوْا، وأصاب طائفةً منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المثل يقسم الناس في الاستجابة للهدى والعلم إلى ثلاثة أصناف... ويشبههم بأنواع من الأرض التي نزل عليها المطر ((مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً)) فالنوع الأول أرض طيبة قبلت الماء وأنبتت الزرع.. قال تعالى: وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج فالذين استجابوا للهدى والعلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عاشت قلوبهم وانتعشت بهذا الهدي والعلم فاستجابوا للدعوة وتعلموا العلم وقاموا بحقه من العمل بأداء الطاعات وترك المنكرات ثم حملوا الشعلة ليقتبس منها غيرهم.. إنهم هداة مهتدون انتفعوا ونفعوا.. تفقهوا في الدين وحفظوه فنشروا العلم والفقه وعملوا بما علموا، فانتفع الناس بعلمهم وفقههم وبسيرتهم وسلوكهم وأخلاقهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ((فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم)).
وأما الصنف الثاني فهم أجادب.. أي الأرض التي لا تنبت ولكنها تختزن الماء كما جاء في الحديث.. وكان منها أجاذب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا. فهؤلاء الناس هم الحفاظ الذين حفظوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والهدى، ولكن قدراتهم محدودة لا يستطيعون التفقه والاستنباط، فنقلوا ما حفظوه إلى غيرهم من الأمة كما هو، فلهم فضل في ذلك النقل حيث حفظوا العلم وأدوه إلى غيرهم، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.. سئل أحد الحفاظ من السلف يسمى مطر الوراق سئل عن حديث فرواه.. ثم سئل عن معناه قال: لا دري إنما أنا زاملة، أي أنا كراس أو ملزمة أو كما نقول: (دوسية) للحفظ فقط، فقال له السائل: جزاك الله من زاملة خيراً.
وهذا يدل على أن مسألة الاستنباط والفهم لا تتأتى لكل إنسان كما لا يحق أن يفسر أحد شيئاً من القرآن والسنة برأيه وهواه.
إنما يكون العلم والفقه بمعرفة فهم وفقه السلف الصالح، جيل الصحابة والتابعين وأئمة الهدى والدين.. ويدل على أن هناك من هو حافظ للقرآن والسنة، ولكنه لا يتعدى أن يكون كجهاز التسجيل فقط للنصوص، وهذا لا يعيبه ولا ينقص من قدره.. فكل إنسان له قدرات في الفهم والعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قبل أن نتكلم عن الصنف الثالث الذين ذُكروا في الحديث السابق الذي شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كالأرض السبخة قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، أحب أن أبين أن هناك صنفاً من النوع الثاني ممن لم ينتفع بما حفظ من الهدى والعلم رغم تحمله لهذا العلم والنور فهم مثل أهل الكتاب من الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها أي أنهم حفظوا ما فيها ولكن لم يقوموا بما فيها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يعملوا بما جاء فيها من الأوامر والنواهي وبما جاء من عند الله عز وجل من الخير والصلاح.. فشبههم الله عز وجل أنهم كالحمير والعياذ بالله. كما قال تعالى: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً. منهم أناس حملوا العلم ولكنهم لم يقوموا بحقه بل واستخدموه ضد الصالحين وضد الملتزمين المتبعين للنبي صلى الله عليه وسلم ليحصلوا على مكاسب دنيوية أو ليتقربوا إلى أصحاب السلطان والجاه فهم يصدرون الفتاوى المفصلة على مقاس أهواء الزعماء وأصحاب السلطان لينالوا بهذا رضاهم ويحل عليهم سخط الله عز وجل.. قال تعالى: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث [الأعراف:136].
فهذا مثلهم والعياذ بالله لأنهم حملوا العلم ولكنهم استخدموه فيما ينالون به أمراً دنيوياً أو وجاهة وسلطاناً لدى أصحاب السلطان.. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض.. نظر إلى مكاسبه الدنيوية وترك الآخرة.. باع دينه بعرض من الدنيا قليل والعياذ بالله، فهذا الصنف من الذين قرءوا القرآن حتى إذا رأيت بهجته عليهم انسلخوا منه ونبذوه وراء ظهورهم مقابل عرض دنيوي أو منصب حكومي أو مركز اجتماعي نسأل الله العافية.
ويندرج تحت هؤلاء أيضاً المبتدعة الذين عرفوا العلم والهدى ولم يحصلوا على وجاهة، فتركوا ما عندهم من علم أيضاً وابتدعوا في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، عرفوا السنة فحينما رأوا أنه لن يكون لهم وجاهه أو شأن لدى الناس ابتدعوا البدع وزينوها للناس وأتوا بأمر ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدين ولا الصحابة أجمعين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم من التابعين، فألقوا بالسنة خلف ظهورهم وانتصروا لبدعتهم وروجوها بين الناس ليكسبوا بذلك أمراً دنيوياً أو وجاهة وسلطاناً والعياذ بالله. كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار)) وكما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه -: (ويفتح القرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل.. فيقول الرجل: قد قرأت القرآن فلم أتبع.. والله لأقومن به فيهم لعلي أتبع.. فيقوم به فيهم فلا يُتبع، فيقول: قد قرأت القرآن فلم أتبع، وقد قمت به فيهم فلم لأحتظرن في بيتي مسجداً لعلي أتبع، فيحتظر في بيته مسجداً فلا يتبع، فيقول: قد قرأت القرآن فلم أتبع، وقمت به فيهم فلم أتبع، وقد احتظرت في بيتي مسجداً فلم أتبع، والله لآتينهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلي أتبع.. قال معاذ: فإياكم وما جاء به فإن ما جاء به ضلالة).
فهذا الصنف تعلم العلم وحفظ القرآن وأراد بذلك أن يلتف حوله الناس ويقبلوا يديه.. وأراد أن يشار إليه في المجتمعات والمحافل، فوجد أنه لا يمكنه أن يحقق هذه الوجاهة والأبهة والشرف الاجتماعي إلا إذا انتصر لأمر مخترع ولسان حاله يقول:
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تأت به الأوائل
فهؤلاء الأصناف من أهل البدع والأهواء أو من الذين يسعون للمكاسب الدنيوية وإرضاء السلطان يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، علينا أن ننتبه لهم.. ونحذر منهم ولا نأخذ ديننا إلا من العلماء الربانيين الذين يعتمدون على الدليل الصحيح من الكتاب والسنة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وأخيراً نعود إلى الصنف الثالث الذي جاء ذكرهم في الحديث، فهم قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فهؤلاء هم الذين لم يستجيبوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم، وهم الكفار والمنافقون، فهؤلاء سبخة بائرة لا نفع فيهم لا لأنفسهم ولا لغيرهم إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل والعياذ بالله.
أسأل الله العلي العظيم أن يفقهنا في ديننا ويهدينا سبيل الرشاد.
(1/1542)
إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث: ((الحلال بيّن والحرام بيّن)). 2- شرح مجمل للحديث. 3- أهمية صلاح
القلب. 4- خطورة القول على الله بغير علم.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسدُ كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
أيها الإخوة: إن الحلال بين، مثل أكل الطيبات من الزروع والثمار وبهيمة الأنعام واكتساب المال من البيع والشراء فيما أحله الله أو من الميراث والهبة، وغير ذلك، من الأمور المعلومة بالكتاب والسنة.
والحرام بين كأكل الخبيث وشرب الخمر والكذب والسرقة والرشوة، وإيذاء الناس في أنفسهم وأموالهم إلى غير ذلك من الأمور المحرمة المعروفة بالكتاب والسنة.
قال تعالى: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
قال تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء. وقال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) وقال أبو ذر رضي الله عنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً.
ولكن هناك أمور مشتبهة لا يعلمها كثير من الناس لا بد من الرجوع فيها إلى العلماء الربانيين الذين يحفظون العلم ويقيسون الأمور على هدي من الله وعلى وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى المسلم إذا اشتبه عليه أمر أن يتورع فيه ويدعه حتى تستبين له الأمور.. لأن الأمر المشتبه قد يكون حراماً عند ذلك يكون تركه واجباً.. فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى التمرة ساقطة على فراشه فلا يأكلها خشية أن تكون صدقة، والصدقة معلوم أنها محرمة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في الماء لأنه ربما مات الصيد بسبب ذلك وليس بفعل الصائد – فكل أمر فيه شبهة يتقيه المسلم حفاظاً على دينه وخوفاً من الزلل والوقوع في الحرام.
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه أي طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها فقد حصّنَ عرضه من الذم والقدح الذي يصيب من لا يتقيها، ويسلم بذلك في الدنيا والآخرة.
وهذه أيها الإخوة: صفات المتقين الذين يدعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وأما الأمور المحرمة فيجب تركها بالكلية وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. أما الذي لا يحلل ولا يحرم في المسائل المشتبهة وينساق وراء هواه تقليداً للناس دون تورع فإنه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وحمى الله محارمه وسماها الله حدوداً، قال تعالى: تلك حدود الله فلا تقربوها وقال تعالى: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون.. فمن وقع في الشبهات قارب الوقوع في الحرام، فمن ترك دابته ترعى حول الحمى فإنها ستدخله وترتع فيه.
وهذا كله راجع إلى قلب المسلم راجع إلى هذا الملك. ملك الأعضاء فإذا صلح الملك انقادت له جميع الأعضاء بالصلاح والتقوى، وإن فسد فسدت، لأن الأعضاء جنود طائعون لا يخالفونه في شيء.
ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم. قال تعالى: يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ولا يستقيم القلب ولا يسلم إلا إذا امتلأ بمحبة الله عز وجل ومحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين ومحبة كل ما يحبه الله ورسوله وكراهية معصية الله عز وجل.
فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمتهُ ومحبته وخشيتهُ ومهابتهُ ورجاؤه والتوكل عليه وحتى يكون الله الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الواحد الأحد الذي لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله هو النبي المطاع المتبع. قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: ((من أعطى لله ومنع لله وأحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان)) ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك، ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه وكفت عما يكرهه وعما يخشى أن يكون مما يكرهه الله وإن لم يتيقن ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: حرم ربي الفواحش ظاهرها وباطنها والمنكرات وكل إثم يفعله الإنسان سواء ضرره على نفسه أو ضرره متعدٍ إلى غيره، وهذا هو البغي بغير الحق قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) فلا يصح أن تضر نفسك أيها الإنسان ولا تضر غيرك، وكل معصية هي في الواقع تضر الناس بل تضر كل المخلوقات، جاء عند الترمذي وابن خزيمة وهو في صحيح الجامع عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان الحجر الأسود أشدّ بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا بني آدم)) والحجر الأسود من أحجار الجنة ويشهد لكل من قبّله اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم في الطواف وكان أبيض، ولكنه اسود من خطايا بني آدم.. فالذنوب تؤثر على جميع المخلوقات.. ونحن نعيش قلة الأمطار وقلة البركة في الوقت والمال وكثرة الفتن واقتتال في العالم وما هي إلا بسبب الذنوب والمعاصي. وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وهذا من أشد أنواع الظلم، كما قال تعالى: إن الشرك لظلم عظيم والشرك لا يغفر لصاحبه كما قال سبحانه وتعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ومنها الفتاوى التي يصدرها الناس دون علم ودون خوف ولا وجل، وهي تكاد تكون أعظم من الشرك لأن الله عز وجل ذكر في هذه الآية الفواحش والذنوب والبغي ثم ارتقى إلى الشرك ثم إلى القول على الله بغير علم، فبدأ سبحانه بالأدنى من الذنوب والمعاصي إلى الأعلى، فالقول على الله بغير علم كاد أن يكون أشد ذنباً من الشرك، ويدخل تحت هذا الذين يروون الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدخل أيضاً من يدعو إلى البدع والمحدثات مما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله والذين يقيمون الأعياد ويدعون الناس للاحتفال بها غير عيدي الأضحى والفطر كالأعياد الوطنية أو القومية وما شابهها، ويدخل أيضاً الذين يصدرون الفتاوي لإرضاء الحكام فيحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله يبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل.
أسأل الله العلي العظيم أن يحفظنا بحفظه وأن يهدينا لما يحبه ويرضاه.
(1/1543)
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهدى والرشاد باتباع هدي القرآن الكريم. 2- الإقرار بالربوبية دون الألوهية لا يكفي.
3- دعاء أهل القبور أو غيرهم من الأحياء من الشرك. 4- المبتدعة خالفوا منهج النبي
وهجروا سنته. 5- آصرة التجمع في الإسلام هي الدين فحسب. 6- حفظ الضروريات الخمس
أهم مقاصد الشريعة. 7- القرآن الكريم يحل مشاكل الإنسانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: هذا كتاب الله وصراطه المستقيم فيه نور وهدى لقوم يؤمنون، من تمسك به نجا، فهو حبل الله المتين الذي يهدي للتي هي أقوم، فمن اتبعه هدي للحق وفاز في الدارين، ومن طلب الهدى في غيره ضل وخسر الدنيا والآخرة.
قال تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.
وقد حوى كتاب الله كل ما تحتاجه الأمة كما قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال تعالى: لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأمرنا الله باتباعه وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون وعلينا أن نتبعه بتدبر وعلم وفهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فإذا اتبعناه وتدبرناه هدانا للتي هي أقوم إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم. هذه الآية أيها الإخوة اشتملت على جميع ما في القرآن..لأن جميع ما فيه هدى يهدينا إلى خيري الدنيا والآخرة، وأول ذلك وأهمه التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره دعوة لتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون.
وقد جاء في القرآن توبيخ وإنكار على الذين اعترفوا بربوبية الله، ولكنهم لم يوحدوه في العبادة حيث أشركوا معه آلهة أخرى، وهو سبحانه المستحق للعبادة.
ومن هذه الآيات التي يستدل بها على اعتراف الكفار بربوبيته قوله تعالى: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار فسيقولون الله إلى قوله تعالى: قل أفلا تتقون. وقوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون.
وهكذا جاء الإنكار عليهم بعد إقرارهم بالربوبية بأساليب مختلفة مثل قوله تعالى: فأنى تسحرون وقوله تعالى: قل أفتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً وقوله تعالى: أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون وقوله تعالى: أإله مع الله قليلاً ما تذكرون. وقوله تعالى: أإله مع الله تعالى الله عما يشركون وغيرها كثير التي تعقب كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية والتي يراد منها الإقرار بتوحيد الله في ربوبيته، فإذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار لأن المقر بالربوبية، يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة.
وإنني لأتعجب من الشخص الذي يتوجه بقلبه ولسانه، فيطلب من مخلوق الشفاء أو الفوز والفلاح في الدارين، أو الرزق والذرية أو غير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ومما هو لا يطلب إلا من الخالق سبحانه وتعالى، بل ويزداد العجب ممن يطلب هذه الأمور من أصحاب القبور سواء كانوا أنبياء أو صالحين، ويترك من بيده ملكوت السموات والأرض، وصدق الله حيث قال: ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دون الله ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير. ومن هدي القرآن للتي هي أقوم – الدعوة للالتزام بما شرعه الله عز وجل والتحذير من الهوى مقتدين في ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه.
ومن هذه الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله. وقال تعالى: بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله ومالهم من ناصرين وقال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال تعالى: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين وقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم وقال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
وآيات كثيرة فيها الهدي إلى اتباع السنة التي هي الوحي الثاني كما ثبت بالأحاديث الصحيحة وإلى الاقتداء بالهدي النبوي في عبادته وتشريعه وأمره ونهيه وفعله وتركه، لأن السنة فعلية وتركية، فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة مع وجود الداعي والمقتضي لذلك، نتركه.
وإنني لأتعجب ممن ينافح ويدعو إلى البدع والمحدثات في الدين وهو يستمع إلى قول الله تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ويسمع قول الله: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ، وإن من يرفع صوته مدافعاً عن بدعة في الدين إنما يرفع صوته فوق صوت النبي، ويرفع طريقته فوق سنة النبي، ويرفع فهمه وعقله فوق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون خالف سبيل المؤمنين الصادقين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين فهموا سنته وساروا عليها دون زيادة أو نقص، هؤلاء الصحابة سلفنا الصالح الذين شهد لهم ربهم بالإيمان الحق وبالصدق وأمرنا نبينا باتباعهم والسير على خطاهم، بل لقد حضنا القرآن على التمسك والسير على طريقتهم وسبيلهم كما قال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولي ونصله جهنم وساءت مصيراً.
أيها الإخوة: ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هدية إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام، وقد وردت آيات كثيرة في ذلك منها قول الله تعالى: ولا تخرجون أنفسكم من دياركم والمقصود ولا تخرجون إخوانكم. وقال تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.. أي لا يأكل أحدكم مال أخيه... وحينما أخطأ الرماة بل بعضهم في عدم التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يغادروا الجبل في غزوة أحد، فنزلوا، أصابهم ما أصابهم لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أصيب في وجهه الشريف فتعجب الصحابة من هذا الأمر وهم على الحق ويدافعون عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم كما اخبرنا الله عز وجل في قوله تعالى: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم بالرغم من أن البعض فقط هم الذين أخطئوا ولكن الخطاب توجه للجميع لأن الأمة كلها كالجسد الواحد، فسبحان الله العظيم. كيف يحاسب الجسد كله على هذا الخطأ ويعامل الجسد كله كوحدة واحدة. إنها رابطة الدين.
لقد حصل خلاف بين أحد المهاجرين وأحد الأنصار... فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال يا للأنصاري للأنصار.. فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة)).
لا حظوا أيها الإخوة المهاجرين فيهم القرشي وغيره، والأنصار فيهم الخزرجي والأوسي وغيرهم.. ما تنادى هؤلاء بالآباء ولا بالأجداد ولا بالقومية بل بصفتين حميدتين.. الهجرة والنصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ورغم ذلك لم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم واعتبرها دعوى جاهلية منتنة فكيف بمن ينادي بالقومية أو الوطنية.
أسأل الله العظيم أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: ومن هدي القرآن للتي هي أقوم درء المفاسد عن الضروريات الستة. التي هي الدين والنفس والعقل والنسب والعرض والمال، فجاء القرآن بالمحافظة على الدين، وذلك بمقاتلة الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله حتى يكون الدين كله لله وقتل المرتدين، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)).
وأما المحافظة على النفس فيكون بالقصاص وإقامة الحدود ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
وأما العقل فيحافظ عليه من كل مخدر ومسكر ومهلوس. حيث حرم كل ذلك وهو رجس يجب على المسلم الابتعاد عنه وعن أماكنه كلية.
والنسب يحافظ عليه بالزواج وتحريم الزنى، وقد شرع للرجل أن يتزوج بأربع مع اشتراط العدل فيما يملك: النفقة والمبيت، وشرع للمطلقة العدة وكذلك المتوفى عنها زوجها حتى لا يسقى زرع الرجل بماء غيره.
ويحافظ على العرض بحفظ اللسان ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه. وقال تعالى: ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان وقد جاء القرآن بوجوب حد القاذف والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة.
وأما المحافظة على المال فيكون بمنع أخذه بغير حق شرعي فأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله.
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات حيث أمر بالعفو وأن تعفوا أقرب للتقوى ، وأمر بالعدل ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأمر بالإحسان للوالدين والضعفاء والمحتاجين قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم.
ومن مكارم الأخلاق التي حث عليها القرآن التزين عند الصلاة يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد والحث على البعد عما يشين المسلم من الفواحش ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن والحث على الإعراض عن اللغو وفضول الكلام إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها، وخاصة ما نعاني منه الآن، وهي ثلاث مشكلات الأولى: ضعف المسلمين، والثانية: تسلط الكفار على المؤمنين، والثالثة: اختلاف القلوب والتوجهات بين المسلمين.
فالمشكلة الأولى وهي ضعف المسلمين قد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها مبيناً أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بالإخلاص وصدق التوجه إلى الله تعالى وقوة الإيمان به والتوكل عليه لأن الله قوي عزيز قاهر بكل شيء، فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا، قال الله تعالى: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً وحينما وقع المسلمون في حصار شديد في غزوة الخندق، مع تحالف المشركين والكفار ضدهم، فكان الحصار عسكرياً وسياسياً واقتصادياً هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً فماذا كان رد الفعل عندهم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ، فماذا كانت النتيجة رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً وأنزل الذي ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديراً.
ولكن مع هذا الضعف أيها الإخوة لا بد من الاستعداد على قدر المستطاع، واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ومع الاستعداد الصبر والصدق والإخلاص لله، وبذلك يكون الفوز والنجاح والنصر والتأييد من الله عز وجل، والتاريخ الإسلامي مليء بالمواقف الدالة على ما يؤيد بذلك.
أما المشكلة الثانية وهي تسليط الكفار على المسلمين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء مع أن المسلمين على الحق والكفار على الباطل فهو مثل ما حصل في غزوة أحد واستشكال المسلمين لما حصل لهم، فرد الله عليهم بقوله تعالى: قل هو من عند أنفسكم ووضح ذلك بقوله تعالى: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين.
وهذا بيان من الله تعالى بأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشلهم وتنازعهم وعصيانهم أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن بعضهم يريد الدنيا مقدماً لها على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا عرف الداء عرف الدواء، وهو الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتحكيمهما في حياتنا كلها، في عباداتنا ومعاملاتنا، في سياساتنا واقتصادنا وإعلامنا وتعليمنا، ويكون التطبيق موافقاً لفهم السلف الصالح، والخلفاء الراشدين وبقية الصحابة الكرام وعلى منهجهم وسبيلهم.
أما المشكلة الثالثة وهي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية. فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء وإن جامل بعضهم بعضاً، فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلكـ وسبب ذلك هو ضعف العقل كما وصف الله اليهود بذلك حيث قال: تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ، وهذا الضعف ليس له دواء إلا بنور الوحي، يحيا به من كان ميتاً ويضيء الطريق للمتمسك به، لأن ذلك النور يكشف له الحقائق فيريه الحق حقاً والباطل باطلاً أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم.
فإذا تمسك الناس بالقرآن والسنة وفهموهما على فهم الصحابة وساروا على نهجهم استنارت القلوب وقويت العقول وأصبحوا أمة واحدة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له بقية الجسد بالسهر الحمى.
ومما يساعد على الألفة والمحبة وعدم التباغض والكراهية، إفشاء السلام، والتراص في الصفوف في الصلاة، والتصدق، وحب الخير للجميع. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1544)
أنواع من الشرك
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الشرك ووسائله
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توحيد الله حقه على العبيد. 2- أعمال القلوب ودخولها في مسمى العبودية. 3- بيان ذلك
بالشرح والتمثيل. 4- تحليل الحرام وتحريم الحلال من الشرك بالله. 5- طاعة النبي صلى الله
عليه وسلم مقدمة على طاعة من سواه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: لقد أنزل الله القرآن وبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن العبودية لغير الله إلى عبادة الله وحده، فالله خلق الخلق ليعبدوه وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فحق الله على العبيد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وتحقيق العبودية لله تكون بتوحيده وبطاعته سبحانه وتعالى في كل ما أمر، واجتناب ما نهى عته وزجر وأن لا يعبد إلا بما شرع في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة النبي واتباعه هي من طاعة الله وتحقيق عبوديته من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً. وقال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
والعبادة ليست فقط في الركوع والسجود وغيرها من الأعمال الظاهرة بل هناك من الأمور القلبية التي لو أخطأ العبد فيها وصرف شيئاً منها لغير الله لوقع في الشرك، منها الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والاستغاثة والطاعة والمحبة والرغبة والرهبة وغيرها من العبادات القلبية.
فالمحبة التي فيها تعظيم للمحبوب لا تكون إلا لله، وهي التي تستلزم الخضوع وكمال الطاعة فتخرج المحبة الطبيعية بين الناس كحب الأولاد أو الزوجة أو الوالدين وغير ذلك من أنواع المحبة التي لا يؤاخذ الناس عليها.
قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب.
وقال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.
وكذلك التوكل على الله عبادة قلبية، قال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً.
وقال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
فالتوكل على الله هو اعتماد القلب عليه سبحانه وتعالى بكفايته لعبده، فمن توكل على مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر، ومن توكل على مخلوق في أمر يقدر عليه مع تعلق القلب به في جلب المنفعة ودفع المضرّة فهذا شرك أصغر، أما من توكل على مخلوق في عمل يقدر عليه دون تعلق القلب به في جلب منفعة أو دفع مضرة فهذا جائز مثل الاعتماد على شخص في البيع والشراء ونحو ذلك.
أيها الإخوة: وإن من الشرك أن يستغيث المرء بغير الله أو يدعو غيره سبحانه وتعالى قال تعالى: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.
وقال سبحانه: ومن أضل عمن يدعو ممن دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين. وقال تعالى: يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير.
فهذه الآيات وغيرها كثير تبين أن دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله شرك أكبر فلا يجوز الاستغاثة بنبي ولا بملك ولا بالصالحين ولا بغيرهم، فالاستغاثة هي من الدعاء، والدعاء هو العبادة. فالاستغاثة لا تكون إلا بالله، فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد أشرك.
وقد يثير أهل البدع شبهاً حول مسألة الاستغاثة كقولهم: إذا ما أصيب أحد الناس بمرض أو حريق فإنه ينادي الطبيب أو رجل المطافي أو شخصاً ماراً أو جاراً أو صديقاً ليسعفه فهل هذا شرك؟ وبالطبع هناك فرق بين هذه المسألة ومسألة دعاء الأموات، أو الاستغاثة بمخلوق أو بالنبي صلى الله عليه وسلم في أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، أما الاستعانة بشخص في أمر يقدر عليه كإطفاء حريق أو إعطاء علاج لمريض يختلف اختلافاً شاسعاً وكبيراً عمن يطلب من ميت أو من أي مخلوق الولد أو الرزق أو النجاح أو الشفاعة أو غير ذلك، فتلك طلب المساعدة في أمر من شخص يقدر على فعلها، وأما الثانية فهي عبادة لا تطلب إلا من الخالق سبحانه وتعالى، فمن طلبها من غيره فقد أشرك.
وقد ذكر أهل العلم شروطاً لطلب الاستعانة من أحد من المخلوقين:
1- أن يكون المستعان أو المستغاث به حاضراً.
2- وأن يكون حياً.
3- وأن يكون قادراً.
إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [العنكبوت:30].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن من الشرك طاعة الحكام، أو طاعة العلماء، في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤقنون.
وهذا أيها الإخوة: من الإفساد في الأرض.قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين.
لقد جاء عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وكان نصرانياً، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. فقال عدي للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لسنا نعبدهم، قال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟)) قال عدي: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)).
لقد ظن عدي أن العبادة هي ركوع وسجود، لذلك حينما سمع الآية قال: (إنا لسنا نعبدهم)، أي لا نركع لهم ولا نسجد، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن المسألة غير ذلك وهي طاعتهم فيما أحلوا مما حرم الله، أو حرموا مما أحله الله، فجعلوا أنفسهم مشرعين مع الله، فمن أطاعهم فقد جعل هؤلاء أنداداً لله وشركاء واتخذهم أرباباً، والعياذ بالله.وهذا هو الطاغوت الذي أمرنا بالكفر به بعد الإيمان بالله. قال تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا.
أيها الإخوة: إن الطاعة نوع من العبادة لا تصح لأحد من الخلق استقلالاً إلا إذا كانت متمشية مع طاعة الله ورسوله، فالحكم لله وحده والتشريع له وحده سبحانه وتعالى، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الله: ((ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)).
وقال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً. وقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ، قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
أيها الإخوة: قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر). هذا القول قاله ابن عباس رضي الله عنهما حينما جاء أناس يستفتون في مسألة التمتع في الحج لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أمرا الناس بالإفراد اجتهاداً منهما لأنهما تأولا قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة وما سقت الهدي)) وأمر الصحابة الذين لم يسوقوا الهدي أن يجعلوها عمرة متمتعين بها للحج... فظنا أن ذلك خاص بتلك السنة فقط، وكانا يأمران الناس بالإفراد بالحج وعلى من يريد العمرة أن ينشئ لها سفراً جديداً إذا عاد لأهله.
ولاحظوا أيها الإخوة: أن هناك أمر باتباع أبى بكر وعمر، فهما من الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمرنا بالاقتداء بهم. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر)).ولكن لأن النص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ ابن عباس، وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفهم مقصوده رأى أن من أخذ برأي شخص آخر مخالف للنص أنه ذنب عظيم قد يستحق صاحبه العقاب في الدنيا قبل الآخرة بأن ينزل الله عليه حجارة من السماء، حتى ولو كان القائل هو أبو بكر وعمر، وهما من هما رضي الله عنهما، وقد أعلن ابن عباس رضي الله عنهما التمتع بالعمرة إلى الحج مخالفاً بذلك رأي الشيخين رضي الله عنهما.
من هذا الموقف العظيم للصحابة رضي الله عنهم يتضح أن العالم إذا أفتى بفتوى بعد اجتهاد وأخطأ فلا يلزم أن يلتزم بها غيره، وخاصة من ظهر له دليل من آية أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب عليه العمل بالدليل وترك قول العالم.
كذلك إن العالم إذا اجتهد وأخطأ فله أجر، وإذا أصاب فله أجران وأما المقلد فإن قلد دون علم ودون أن يطلع على سنة ودليل تخالف اجتهاد العالم فلا بأس به، أما من قلد العالم وقد اطلع على سنة نبوية مخالفة للفتوى فهو على خطر عظيم قال الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان. أي كيف من عرف الحديث الصحيح ويتركه لفتوى أو اجتهاد أحد العلماء ؟!أي مخالفة الفتوى إذا كانت مخالفة لسنة نبوية أو مخالفة للدليل الشرعي أمر يجب على من علمه أن يظهره للناس ويبين الحق دون محاباة ولا مجاملة، ولا يعتبر إظهار الحق من الأمور التي ينزعج منها أصحاب النفوذ والسلطان من العلماء، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما أعلن عن تمسكه بقول النبي صلى الله عليه وسلم وترك قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم بالرغم من أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان هو الخليفة فلا عمر أسكت ابن عباس ومنعه من الفتوى ولا ابن عباس جامل الخليفة وسكت عن أمر يرى الصواب في غيره، وهو عنده من الله فيه برهان ودليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: احذروا من الوقوع في الشرك، واحذروا من مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته حتى تفوزوا في الدارين، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(1/1545)
أنواع من الفرق
أديان وفرق ومذاهب
فرق خارجة, فرق منتسبة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وحدة الأمة لا تكون إلا على المنهج الصحيح. 2- قتال الصحابة لبعض المنتسبين إلى
الإسلام من المرتدين والخوارج وغيرهم. 3- حديث مختصر عن الإباضية والنصيرية والبهائية
والإسماعيلية. 4- حديث عن العلمانية وظروف نشأتها في أوربا. 5- المعتزلة وأفراضهم
العصرانيون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الافتراق في هذه الأمة ووضحنا عقيدة فرقتين ضالتين هما الشيعة وغلاة الصوفية، التي انخدع كثير من الناس بهما لما يظهرانه من حب للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته ويغالون في ذلك غلواً قد يصل إلى الشرك.
وإن كثيراً من الناس لا يود سماع شيء عن الفرق بحجة أننا في حاجة إلى الائتلاف والتقارب والتعاون ضد الملحدين والمشركين ويجدون حرجاً في الاستماع عن ضلال هذه الفرق ويحتجون بأحاديث، ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)) ، ((ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) ، وغيرها من الأحاديث التي يتمسك بها هؤلاء الناس ويتناسون أنه دخلت امرأة النار في هرة حبستها، وينسون المنافقين الذين كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة على قتال من منع دفع الزكاة رغم أنهم يصلون ويصومون ويحجون ويقولون لا إله إلا الله، واعتبروهم مرتدين، وينسون أو يتناسون حديث الفرقة الباغية التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالها وأن من قاتلهم لو يدري ما يحصل له من الأجر لا تكل عليه ولم يعمل، لعظم الأجر لمن قاتل هذه الفرقة.
اسمعوا وصف النبي صلى الله عليه وسلم لها كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)).
لاحظوا أيها الإخوة: أن هذه الفرقة كثيرة الصلاة والصيام ويحفظون القرآن ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، عباد الليل والنهار لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((تحقرون صلاتكم مع صلاتهم)). هؤلاء هم الخوارج الذين حكموا بغير ما أنزل الله حيث حكموا على المؤمنين بالكفر بارتكابهم الذنوب، فكفروا حتى الصحابة واجتمعوا على قتال المسلمين واستحلال دمائهم وسبي نسائهم واستحلال أموالهم، فقاتلهم علي رضي الله عنه وقتل منهم خلقاً كثيراً أيها الإخوة لقد خط رسول الله خطاً وقال: ((هذا سبيل الله)) وخط خطوطاً عن يمينه وشماله وقال: ((هذه سبل الشيطان وقرأ: أن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )).
فكلامنا عن الفرق وعقائدها إنما لتستبين الطريق، وليعرف المسلم على أي؟ منهج يسير؟ فالمسألة جنة أو نار، وعلى المسلم أن يسير على الطريق الصحيح التي توصله إلى الجنة وتبعده عن النار. ولا يكون ذلك إلا باتباع سبيل المؤمنين، صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ساروا على منهجه وتمسكوا بهديه وسنته.
وسنلقي الضوء الآن على بعض الفرق، والأفكار والمناهج المخالفة للصراط المستقيم والموجودة على الساحة – وذلك باختصار شديد -.
فمن هذه الفرق، الإباضية، وهي من الخوارج وتقول بخلق القرآن والعياذ بالله، وهم يكفرون من خالفهم، ويكفرون مرتكب الكبيرة – بزعمهم أن هذا كفر النعم لكنه لا يخرج من الملة -.
ومن هذه الفرق الضالة أيضاً، النصيرية المعروفة باسم العلوية. وتظهر هذه الفرقة بشكل واضح في الشام وجزء من تركيا. وهذه فرقة باطنية. ظهرت منذ صدر الإسلام وهم في الأصل من غلاة الشيعة ومتأثرين بالأفلاطونية ومزجوها بشيء من النصرانية، فخرجوا بعقيدة فاسدة باطلة ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر، وبالرغم من أصولهم الشيعية إلا أنهم يترضون على المجوسي عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل علياً رضي الله عنه ويعتقدون أن علياً لم يمت بل سكن القمر، وهم يستحلون الزواج من المحارم ويستحلون الخمر، يعظمون شجرة العنب لأنها هي أصل الخمر ويسمونها النور. ولهم صلاة تختلف عن صلاة المسلمين في بعض أركانها، ويصلونها في بيوتهم ولا يعترفون بالحج ويعتبرونه كفراً، وصيامهم فقط هو امتناعهم عن النساء في شهر رمضان، لهم قداسات واحتفالات متنوعة شبيهة باحتفالات النصارى، ولهم أعياد خاصة بهم مثل عيد النيروز وعيد الغدير وعيد الفراش، وعيد الأضحى عندهم في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة.
ومن الفرق الضالة: البهائية، وهي فرقة حديثة ليس لها أصول تاريخية، غرسها اليهود والنصارى بهدف إفساد العقيدة الإسلامية في الدول المحاذية لروسيا، وعقيدتها خليط من العقائد اليهودية والبوذية مع التظاهر بالعقيدة الإسلامية، فهم يقولون بعقيدة الحلول والاتحاد والتناسخ، وخلود الكائنات، وأن العذاب والثواب لا يكون إلا للأرواح دون الأجساد، ويقدسون العدد 19 ويجعلون السنة 19 شهراً، والشهر تسعة عشر يوماً، ويقولون بنبوة بوذا وكنفوشيوس وبراهما وزرادشت وأمثالهم ممن يسمون بالحكماء في الهند والصين والفرس. وينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء، مدعين استمرار الوحي وقد وضعوا كتباًُ معارضة للقرآن.
ومن الفرق الضالة أيضاً الإسماعيلية وهي فرقة باطنية من أجنحتها البهرة الذين يحجون إلى الكعبة على اعتبار أنها رمز على الإمام، ويصلون صلاة سرية للإمام الإسماعيلي، فهم باطنيون إسماعيليون، ينكرون صفات الله عز وجل، لديهم إباحة مطلقة، ويستبيحون المحظورات وينكرون الشرائع، يؤمنون بالتقية والسرية ويطبقونها في حياتهم حيث يظهرون شرائع الإسلام لخداع الناس، فإذا ووجهوا بعقائدهم أنكروا ذلك، جذورها التاريخية عميقة، فأصلها إسماعيلي من القرامطة الشيعية الباطنية.
هذه نماذج فقط وهناك فرق كثيرة تفرعت منها، وفرق أخرى لها أفكار وعقائد خاصة بها يرجع إليها في مظانها في الكتب المتخصصة قال تعالى: وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة للذين يتقون أفلا تعقلون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبعد الاستعراض لأفكار وعقائد بعض الفرق التي لها أصول وجذور تاريخية ولها تنظيمات سرية وعلنية وكتب ومراجع خاصة وكذلك قادة ومشايخ يرجع إليهم، نتعرض الآن إلى بعض الأفكار والظواهر التي ظهرت من القدم أيضاً، ولها كتب ومراجع، وليس لها تنظيمات وجماعات مثل تلك الفرق التي استعرضناها، إنما هي أفكار وعقائد وظواهر يأخذ بها أصناف من الناس من جميع الطبقات.
من هذه الظواهر والأفكار نأخذ ثلاثاً منها فقط، العلمانية، وظاهرة الإرجاء، وظاهرة الاعتزال.
والمعتزلة هم الذين يقدمون العقل على النقل.
فما هي العلمانية؟ هي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين وتعني في جانبها السياسي بالذات، اللادينية في الحكم، وقد نشأت في أوروبا في القرون الوسطى، بعد أن تحول رجال الكنيسة إلى طواغيت، فقامت الثورة ضدهم فانتقلت هذه الفكرة إلى المسلمين أيام الاستعمار الصليبي، وبدئ بتنفيذ القوانين الوضعية وإلغاء الشرع في تلك البلاد المسلمة، والشيء العجيب أن بعض الحكام في بعض الدول الإسلامية يعلن الآن أنه علماني أي لا ديني ولا يرغب في أن ينتسب إلى أي دين ومع هذا يعامل على أنه ولي أمر المسلمين في تلك البلاد وعلى أنه مسلم، والعلمانيون عقيدتهم أيها الإخوة مادية بحتة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العلم التجريبي وعلى فصل الدين عن الدولة، وإقامة الحياة على أساس مادي بحت وعلى أساس المصلحة المشتركة، ويعتمدون على مبدأ: الغاية تبرر الوسيلة، فبأي وسيلة مهما كانت مخالفة للشرع أو للعرف والأخلاق يستخدمونها للوصول إلى غاياتهم وأهدافهم والعياذ بالله.
أما الاعتزال فهو فكر ظهر منذ القرآن الأول يعتمد على العقل والمنطق، وأصحاب هذا الفكر يرون أن صاحب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، وهو في النار خالد مخلد فيها. ومنهم من قال بخلق القرآن والعياذ بالله.
إن أصحاب هذا الفكر يقدمون العقل على النقل، أي يحكمون عقولهم أولاً قبل الاستدلال بالقرآن والسنة، فما وافقهم من القرآن والسنة أخذوا به وما خالفهم أولوه أو ردوه، فالأصل عندهم هو العقل والمنطق لذلك هم ينفون الصفات ولا يقرون إلا بثلاث صفات للرحمن وهي الحياة والقدرة والعلم بحجة أنهم لو أثبتوا صفة للرحمن مثل اليدين أو الوجه لاعتبروا ذلك تشبيهاً له بالخلق، فإذا قيل لهم إن صفة العلم أيضاً هناك من يتصف بها من الخلق لقالوا: إن علم الله يختلف عن علم مخلوقاته فنقول لهم: إن يد الله أو وجهه يختلف عن يد وأوجه خلقه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأيضاً أصحاب هذا الفكر يردون أحاديث كثيرة ويستهزئون بمن يقول بها، منها حديث الذبابة الصحيح الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)).
ويطعنون في هذا الحديث، ويقولون لا يمكن أن يقبله العقل، وهذه قذارة ووساخة... الخ كلامهم.
وقد ظهر قبل بضع سنوات نتائج التحاليل المخبرية من مستشفيات متقدمة، وفيه أن تحت الجناح الأيمن للذبابة كيس صغير ينفجر بمجرد أن تبتل الذبابة فيخرج منه مادة مضادة لما تحمله الذبابة من جراثيم فيتحول السائل الذي غمست فيه الذبابة إلى مضاد حيوي أو مادة تطعيم ضد هذه الجراثيم، فمن تناول هذا السائل أصبح عنده مناعة ضد الجراثيم التي تحملها الذبابة.
حينما ظهر هذا الأمر ونشر في المجلات آمنوا وصدقوا وأخذوا بالحديث أو على الأقل سكتوا عن الطعن فيه، وللأسف الشديد إن أصحاب هذا الفكر يحملون كثيراً من العلوم الشرعية فيغتر بهم الناس لأنهم يتصدرون للفتيا والتفسير فنراهم في فتواهم ودروسهم وكلامهم يقدمون المنطق والعقل لدرجة أنهم يحللون بعض المحرمات كالموسيقى والدخان والمعاملات الربوية وحلق اللحية والاختلاط والخلوة بالمرأة الأجنبية ولا يعادون ويوالون في الله حيث لا يظهر عندهم عقيدة الولاء والبراء ويظهر أيضاً عندهم إنكار وتأويل صفات الله عز وجل أسأل الله لنا ولهم الهداية.
وأما الظاهرة الأخيرة وهي ظاهرة الإرجاء فهي التي تعتقد أنه لا يضر مع الإيمان معصية.. بعض فالإيمان عند أهل هذه الظاهرة هو التصديق أي الإيمان بالقلب فقط،
أما الأعمال فلا دخل لها بالإيمان. فمن صدق بالإسلام وبالرسالة فهو صديق مثل أبي بكر حتى وإن زنا وإن ارتكب الفواحش وإن تعامل بالربا وإن أكل أموال الناس بالباطل وإن ترك صلاة الجماعة وإن اظلم واستبد وطغى وآثر الحياة الدنيا فلا يضر إيمانه، فإيمانه مثل إيمان أبي بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وللأسف الشديد تظهر هذه الأفكار الارجائية عند كثير من أصحاب السلطات والجاه وعند كثير من بيدهم أزمة الأمور الاقتصادية والإعلامية والاجتماعية في العالم الإسلامي، أسأل الله أن يردهم إلى الحق رداً جميلاً.
أيها الإخوة: لقد استعرضنا بعض الفرق وعقائدها وبعض المناهج والظواهر وأصولها، وبالإجمال عن ما قلناه عن هذه الفرق، فهي تمثل التطرف الحقيقي، سواء منهم من تطرف يميناً أو شمالاً، لأن أهل الوسط هم أهل السنة والجماعة المتبعون للسلف الصالح، الذين يسيرون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فهذه الفرق سواء الشيعة أو الصوفية أو النصيرية أو الخوارج نجدها هي المتسلطة في بعض الدول الإسلامية بينما نجد دولاً أخرى علمانية، أو من يأخذ حكامها بظاهرة الإرجاء أو الاعتزال وتحكيم العقل وتقديمه على الشرع. وقد تكون هذه الفرق أو الظواهر موجودة في مجتمع من المجتمعات الإسلامية على هيئة جماعات أو أقليات.
فكيف بالله نرجو أن يكون بيننا وحدة إسلامية وتعاون على البر والتقوى ومعظم تلك البلاد تركوا الصراط المستقيم وتنكبوا الطريق وتطرفوا يميناً أو شمالاً.
إن منهج الصحابة هو الرد على المخالف وأطره على الحق أطراً كما فعل أبو بكر مع مانعي الزكاة وكما فعل علي مع الشيعة والخوارج، وكما فعل كثير من الحكام في صدر الدولة الإسلامية مع أهل التصوف والبدع والخرافات بأن أقاموا عليهم حد الردة.
ولكن اليوم لأن السلطة والقوة في كثير من بلاد المسلمين هي في يد شيعي أو صوفي أو نصيري أو علماني أو صاحب بدعة فهم جميعاً يتعاونون فيما بينهم ضد ما هو إسلامي، ويرمون كل مصلح بالتطرف، وهم المتطرفون حقيقة، يتهمون المصلحين الذين يريدون الرجوع بالأمة إلى الصراط المستقيم بالإرهابيين وهم والله هم الإرهابيون الذين يتخذون من قاعدة: الغاية تبرر الوسيلة طريقاً وخلقاً لاستمرارهم على الكراسي، فلا يتورعون عن سجن المصلحين أو قتلهم أو إيذائهم بأي وسيلة حتى يمنعوا المد الإسلامي، فيفصلون بينهم وبين الناس حتى لا يتأثر الشارع الإسلامي بدعوتهم والالتفاف حولهم.. إنها السياسة.الفرعونية، ولكن الإسلام قادم بإذن الله بعز عزيز أو بذل ذليل. بسم الله الرحمن الرحيم: طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحبي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1546)
أهمية المتابعة للسنة
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبرؤ النبي يوم القيامة ممن جاد عن طريقته. 2- الحث على التمسك بالسنة والابتعاد عن
البدعة. 3- التحذير من التعصب للرجال أو المذاهب في مخالفة الدليل. 4- صور من الابتداع
في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة قال الله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون وقال سبحانه: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها الإخوة: ليس الإسلام بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.. وقد تكلمنا في خطب كثيرة عن أهمية متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما عمل وترك، وأن الأعمال لا تقبل إلا إذا كانت موافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخالصة لله فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
فعليكم أيها الإخوة بسنة نبيكم، وإياكم والمحدثات والأهواء والمخالفات لعلكم تردون حوض نبيكم يوم القيامة فتشربوا منه، فإن مخالفته صلى الله عليه وسلم سبب للبعد عن ورود حوضه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حينما يرى أمته يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، ولكنهم يُردُّون ويمنعون من الحوض فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أمتي، أمتي)).. فيقال له: إنهم بدلوا بعدك.. لا تدري ما أحدثوا بعدك.. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((سحقاً، سحقاً)) أي بُعداً. بُعداً.
ولا حظوا أيها الإخوة: أنهم يعرفون بأثر الوضوء على أيديهم ووجوههم وأرجلهم، فهم مصلون ويتوضؤون وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ولكن لما أحدثوه من البدع يبعدون عن حوضه ويحرمون من الشراب منه والعياذ بالله.
فالاستقامة على دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم نجاة، والانحراف عنه هلاك وخسارة، وهذا الانحراف أيها الإخوة له أسباب عديدة منها التعصب للآراء والأهواء، وعدم الانتفاع بالوحيين وأقوال السلف الصالح، وعدم الإصغاء إلى المواعظ المبنية على الدليل الصحيح الصريح الموافق لفهم وأقوال السلف رضي الله عنهم أجمعين، والبعد عن تعلم العلم الشرعي الصحيح.
قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وأنا أسأله عن الشر لا حباً له، ولكن خوفاً من أن أقع فيه وأنا لا أشعر.. قلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل من شر؟ قال: ((نعم)) قلت وهل من بعده من خير قال: ((نعم وفيه دخن)) قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)) الحديث.
فالخير كل الخير في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه، والشر كل الشر فيما يحدثه الناس من البدع والأهواء، فالسعيد من وفقه الله لاتباع السنة، والشقي من خلى بينه وبين نفسه وهواه وشيطانه وقرنائه من شياطين الإنس والجن فهلك على ذلك بدون توبة.
قال أبو العالية: تعلموا الإسلام، فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه لغيره، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تعوجوا عنه، وعليكم بسنة نبيكم وإياكم واتباع الأهواء.
أيها الإخوة: قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لأصحابه، والخطاب لجميع الأمة ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).
فكيف يتعصب بعض الناس لآراء وأفعال ما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولصحابته الكرام وللأئمة الأعلام، ألم يسمعوا لقول ابن عباس رضي الله عنهما للناس في خلافة عمر رضي الله عنه حينما سألوه في مسألة في الحج، عن التمتع والإفراد وهي مسالة معروفة عند طلاب العلم... وهي مسألة اجتهاديه اجتهد فيها الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة.. ولكن ابن عباس لديه دليل صريح صحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما أجاب السائلين بقول النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: ولكن أبا بكر وعمر يقولان كذا وكذا.. فقال: (أيها الناس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون: قال: أبو بكر وعمر).
لاحظوا أيها الإخوة: معنى هذا الكلام، والذي هو في مسألة اجتهادية، ولكن إذا استبانت سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح العدول عنها لرأي مجتهد حتى ولو كان هذا المجتهد في منزلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما من هما، ولن يبلغ أحد من هذه الأمة منزلتهما.
لاحظوا قول ابن عباس رضي الله عنهما.. يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال: رسول الله وتقولون: قال: أبو بكر وعمر. الذي يفيد الوعيد الشديد لمن خالف سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتبع رأي أحد من الناس. ويفيد أيضاً أن العالم عليه أن يقول كلمة الحق ولو كان في ذلك مخالفة لرأي ولي الأمر واجتهاده دون محاباة ولا مجاملة. إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن ما ذكرناه في الخطبة الأولى وفي خطب سابقة عن أهمية المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وخطر العدول عنها إلى آراء واجتهادات مخالفة، ليس بالأمر الخفي فهو أمر واضح في القرآن والسنة وأقوال وأفعال الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وكل طالب وصل إلى المرحلة الثانوية لديه أصول قوية ثابتة عن طريق مواد القرآن والتفسير والحديث والتوحيد والفقه، ومنها حديث يعرفه طالب المرحلة الابتدائية، وهو أصل في هذه المسألة، وهو حديث: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي مردود عليه غير مقبول.
وإنني أعجب ممن يعرف هذا الأمر ثم يحيد عنه إلى البدع والمحدثات التي ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا هديه، ويزداد عجبي عندما يكون ذلك المخالف مدرساً، لقد قال لي أحد المدرسين أنه رأى زميلاً له يردد في كل وقت أثناء الدوام.. يا لطيف.. فسأله ما هذا؟ قال عليه أن يكمل 5000 مرة يا لطيف. في كل يوم من شهر رجب حتى يكمل في نهايته 150000 مرة يا لطيف، فمن أين لهذا المعلم هذا الذكر وبهذا العدد وبهذه الصفة وفي هذا الزمن؟
ظلمات بعضها فوق بعض، حيث ابتدع في دين الله ما لم يأمر به لا في الكيفية ولا في العدد ولا في الزمن.
ثم إن في هذا النداء وبهذا الأسلوب قلة حياء وقلة أدب مع الله عز وجل، وأضرب لذلك مثلاً فلو أن شخصاً اسمه حسن وناداه صديقه يا حسن يا حسن عدة مرات ولم يطلبه شيء فإنه يعتبر ذلك استهزاءً به واستخفافاً به، فكيف برب العزة والجلال مالك الملك رب العالمين، تناديه ثم لا تطلب شيئاً منه؟ إنه لأمر يثير الدهشة والاستغراب حقاً؟
أيها الإخوة: العبادات ومنها الدعاء والذكر أعمال توقيفية لا يجوز فعلها إلا بدليل ثابت صحيح صريح.. فمن أين لهذا المعلم الدليل بفعل هذا الأمر؟ ويدخل في ذلك جميع أنواع البدع المحدثة في الموالد وما يسمى بليلة الإسراء والمعراج أو ليلة النصف من شعبان سواء كانت هذه البدع اجتماعاً للذكر أو لدراسة السيرة أو كانت تقرباً بصلاة أو صيام لأيام مخصوصة مثل تخصيص أيام محدودة في رجب أو شعبان للصيام أو مثل صلاة الرغائب وصلاة الألفية وغيرها من البدع والمحدثات، فكلها من الأمور التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم وليست من سنته وهديه، فهي مردودة وغير مقبولة. بل من يفعل ذلك يكون مأزوراً غير مأجور، لأنه يرى نفسه قد توصل إلى أمر قصر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.. نسأل الله العافية.
أيها الإخوة: إن نبينا رؤوف ورحيم بهذه الأمة، وما من خير إلا ودلنا عليه، ولو كانت في هذه الأمور التي أحدثها الناس قربة أو خير لدلنا عليها أو أمرنا بها.. وإن فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لغنية وكفاية لمن أراد أن يتقرب إلى الله,
وإنني في الختام لأقول لهؤلاء المخالفين ولكل مسلم ولنفسي: لنضع أمام أعيننا حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يوضح فيه أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة.. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم من هي هذه الفرقة الناجية؟ الوحيدة إنها هي التي تكون على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.. هذه هي الفرقة الوحيدة الناجية من النار.
فعلي كل واحد منا أن يسأل نفسه سؤالاً، هل هو على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ فيعبد الله وحده لا شريك له ولا يعبده إلا بما شرعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان كذلك فهو على سيل الرشاد بإذن الله تعالى، وإن كان يفعل أموراً ويتعبد الله بما لم يشرعه ويتبع الآراء والأهواء، فإنه على خطر عظيم، وقد يدخل في إحدى الفرق التي هي في النار والعياذ بالله.
فيا أيها الأخ المسلم كن على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عبادتك، التزم ما أمرك به ربك وبلغك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واحذر من أن تحيد عن الطريق فتزل بك القدم والعياذ بالله.
(1/1547)
بعض خصائص يوم الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- يوم الجمعة سيد الأيام. 2- قراءة سورة الكهف. 3- بعض ما في سورة الكهف من عبر.
4- الصلاة على نبي الله صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة. 5- الكيفية الصحيحة للصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء في حديث صحيح أن يوم الجمعة سيد الأيام. وقد ضل عنه اليهود والنصارى وهدى الله سيد ولد آدم وأمته إليه. فالحمد لله الذي هدى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم لسيد الأيام، والحمد لله الذي جعلنا من أمته، وهدانا لسنته.
إخوتي في الله: هنيئاً لمن بكر منكم وأتى إلى المسجد قبل حضور الخطيب، وصلى ما قدر له.. وتشرف بكتابة اسمه في السجلات التي تحملها الملائكة القاعدون على أبواب المساجد في هذا اليوم العظيم، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد فكتبوا من جاء إلى الجمعة، فإذا خرج الإمام طوت الملائكة الصحف)).
وهنيئاً لمن صلى فجر هذا اليوم في المسجد واستمع للقرآن، فإن قرآن الفجر مشهود.وإن من السنة قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى والإنسان في الركعة الثانية في صلاة فجر يوم الجمعة، وإن في هاتين السورتين موعظة عظيمة عن بداية خلق الإنسان وجزاء من سار على الصراط المستقيم، وجزاء من انحرف عنه، وما له من عذاب اليم يوم القيامة. ومن السنة قراءة سورتي سبح والغاشية في صلاة الجمعة أو سورتي الجمعة والمنافقون.
أيها الأخ الكريم: هنيئاً لك إذا ما قرأت سورة الكهف في هذا اليوم وقبل أن تغرب شمسه. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) فهنيئاً لمن قرأها قراءة تدبر وفهم واتعظ بما فيها من القصص، سواء قصة أصحاب الكهف، الفتية الذين فروا بدينهم من وجه الملك الطاغية الظالم إلى الكهف ليعبدوا الله هناك فكانوا فتية آمنوا بربهم، كانوا رفقة صالحة وكان في صحبتهم الخير والسعادة، لو عرف الناس ذلك لاتبعوهم ولكان في اتباعهم الخير الكثير، ولكنهم جهلوا ذلك، فاتبعهم كلب فناله الخير الذي أصابهم ونالته الكرامة بصحبتهم، مما جعل ذكره باقياً إلى يوم القيامة معهم، فكان هذا الكلب خيراً من الآخرين.
وهذا فيه إشارة أيها الإخوة للأمة بأن يصاحبوا الصالحين الفضلاء ويجالسوهم لعل الله أن يعمهم جميعاً برحمته.
لقد جاء الخطاب في هذه السورة للنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بأن يصبر نفسه مع أهل الإيمان. قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف:28]. فهذا النبي الكريم سيد الصالحين وسيد المؤمنين وسيد المتقين هو من يحتاج الناس للجلوس معه والاستماع إلى توجيهاته وعلمه يؤمر من ربه أن يجلس مع الصالحين فكيف بمن هو دونه؟
أيها الإخوة: وهناك قصة موسى مع الخضر عليهما وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام، وقصة ذي القرنين وأمور أخرى تحويها هذه السورة فيها تصحيح للمفاهيم، وتصحيح للعقيدة وتصحيح لمنهج النظر والتفكر، تحتاج منا إلى تدبر وتأمل وقراءة تفسيرها في كتب التفسير الموثوق بها، أسأل الله العلي العظيم أن يوفق الجميع لذلك.
أيها الإخوة: ومن خصائص يوم الجمعة الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث كثيرة فيها الحث على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل الأوقات، وفي الصباح عشراً والمساء عشراً، وفي يوم الجمعة، فالله قد أمرنا بالصلاة على النبي حيث قال سبحانه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً وصلاة الله على نبيه ثناؤه عليه عند الملائكة، وقيل هي الرحمة.. والصلاة من الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن المؤمنين الدعاء.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تكون عند ذكره فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البخيل من ذكرت عنده ولم يصلِ علي)). وتكون أيضاً عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وبعد سماع الأذان وترديده مع المؤذن، وفي التشهد في الصلاة، وفي الدعاء بصفة عامة. وهنا أذكر بعض الأحاديث عن فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جلس قوم مجلساً لم يصلوا فيه على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)). فالموفق من وفقه الله لذلك، واتبع السنة في كثرة الصلاة على النبي، كما علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون زيادة أو نقص. أسأل الله لي ولكم التوفيق والصلاح إنه سميع مجيب.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واجعلنا هداة مهتدين، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا من عبادك الصالحين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يا أيها الإخوة: حينما أمر الله المؤمنين بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، جاء الصحابة إلى النبي وسألوه عن كيفية الصلاة عليه حيث قالوا: أمرنا الله يا رسول الله أن نصلي عليك.. فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)).
وجاءت صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعدة صيغ أخرى منها: ((اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) وفي لفظ آخر: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) فهذه كلها صحيحة تقال في التشهد في الصلاة، وينبغي على كل مسلم أن يحفظها ويقولها كما هي دون زيادة أو نقص، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا القرآن).
فهذا يدل على الاهتمام بالتشهد في الصلاة، ومنه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مثل ما يعلمهم السورة ،فيحفظونه كما هو دون زيادة أو نقص، مثل ما يحفظون السورة.
أما خارج الصلاة فالأفضل والأجدر بالمسلم أن يتقيد بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في كيفية الصلاة عليه، وهي التي ذكرتها آنفاً، وهي التي التزم بها السلف الصالح وأئمتنا في الدين منهم الإمام الشافعي والإمام النووي وغيرهم من المحدثين المشهورين أصحاب الصحاح والمسانية والسنن رحمهم الله جميعاً.
ولكنني أحذر إخواني المسلمين من صلوات بدعية أو شركية منافية للتوحيد ألفها أهل البدع والضلال ليلفتوا الناس عن السنة الصحيحة.
ومن هذه الصلوات البدعية ما يسمى بصلاة الفاتح، أو الصلاة النارية، أو الصلاة التازية، وغيرها من الصلوات المؤلفة بأسماء أشخاص تؤلف عليها القصص الخرافية والادعاءات الباطلة بأثرها الفعال وبأنها مجربة، وما إلى ذلك من الأقوال التي يزخرفونها حول هذه الصلوات البدعية ليبعدوا الناس عن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وما خرج من بين شفتيه الشريفتين، فيستبدل الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، نسأل الله العافية.
وأختم خطبتي بهذا الحديث عن فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: ((يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)).
قال أبي بن كعب قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ((ما شئت)). قلت: الربع؟ قال: ((ما شئت وإن زدت فهو خير)) قلت النصف؟ قال: ((ما شئت وإن زدت فهو خير)) ، قلت الثلثين؟ فال: ((ما شئت وإن زدت فهو خير)) ، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذا تكفى همك ويغفر لك ذنبك)).
قال العلماء: إن أُبياً رضي الله عنه كان يدعو بدعاء لنفسه في الليل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم كم يجعل من دعائه هذا صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الربع أو النصف أو الثلثين أو كل الدعاء يجعله صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فعل ذلك وجعل كل الدعاء صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يُكفى همه ويُغفر ذنبه. فأين المحبون المتبعون من هذا الفضل العظيم، أسأل الله العلي العظيم أن يوفق الجميع لذلك، وأن يهدينا جميعاً لما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب.
((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1548)
تحكيم القوانين
التوحيد
الألوهية, نواقض الإسلام
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحاكم إلى غير الله من أعظم البدع. 2- الكثير من بلاد المسلمين هجر التحاكم إلى شرع
الله. 3- آثار ترك التحاكم إلى الشريعة. 4- تحذير النصوص من الحكم بغير ما أنزل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أعظم البدع في الدين، البدعة في المعتقد، ومن أعظم بدع العقيدة التي ابتدعت في العصر الحديث اعتقاد أن بوسع المسلم التحاكم إلى شريعة غير شريعة الله من القوانين الوضعية، أو الأعراف القبلية، والتي هي من اتباع الهوى وترك ما شرع الله عز وجل، قال الله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله فجعل سبحانه ما سوى الحق هوىً مضلاً وطاغوتاً، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى.
وهؤلاء الذين يحكمون القوانين في أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم ويجبرونهم على التحاكم إليها سيحملون أوزارهم وأوزار من أجبروهم على ذلك وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون وصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((أول ما تفقدون من دينكم الحكم، وآخر ما تفقدون منه الصلاة)) وهذا هو حال بلاد المسلمين اليوم مع الأسف الشديد، فالحكام في كثير من بلاد المسلمين يتخيرون من شرع الله ما يروق لهم ولا يزعجهم ولا يتعارض مع مصالحهم ولا يحرجهم مع الغربيين من اليهود والنصارى أو مع غيرهم من المنافقين فيطبقونه، أما ما عدى ذلك فيتركونه قال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون.
إن ترك الأمة الإسلامية الاحتكام إلى شرع الله وإعراضها عن هذا الذكر وما فيه من أحكام هو سبب تفرقها وتشتتها واختلافها وضعفها، وما أصابها من ذل وهوان على الأمم الأخرى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى : وسواء ترك الاحتكام بالكلية، أو ترك الاحتكام في جزء وطبق في جزء آخر، فالحكم واحد على الجميع ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. وقال الله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة من أمرهم وقال سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
لقد نفى الله الإيمان عن من لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحصل بينهم من شجار وتخاصم، بل ولم يكتف بقبولهم التحكيم. للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم وهو ضيق الصدر، بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب، وأيضاً التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور صغيرها وكبيرها.
أيها الإخوة: إن الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ً لقول الله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً فشيء يطلق الله عليه أنه خير لا يتطرق إليه شر أبداً بل هو خير محض، عاجلاً وآجلاً وهو أحسن تأويلاً، أي مآلاً وعاقبة في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد والتحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى غير شرعه وسنته عند التنازع، شرٌ محض وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة، حتى وإن قال المنافقون، كما قال الله عنهم: إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً ، أو قولهم: إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وقال الله تعالى منكراً على هؤلاء الناس ومقرراً ابتغاءهم حكم الجاهلية وموضحاً أنه لا حكم أحسن من حكمه سبحانه. قال تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون فالناس في هذه الحالة قسمان: متبعون لحكم الله ومتبعون لحكم الجاهلية، وقد قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون. ومن لم يحكم بما أنز الله فأولئك هم الفاسقون.
فقد وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسوق، وهؤلاء الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله قد يدعون الإيمان والاستجابة لله وللرسول ثم هم يحكمون أو يتحاكمون إلى من ليس له حق في الحكم إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون وقال تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكوا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وقال تعالى: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون.
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذه رسالة عظيمة كتبها المفتي السابق لهذه البلاد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى، واسمها (تحكيم القوانين). وقد ذكر رحمه الله في هذه الرسالة ستة أنواع من أنواع الاحتكام إلى غير شرع الله والتي هي كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وسوف يتم توزيع هذه الرسالة عليكم أيها الإخوة بعد الصلاة إن شاء الله تعالى أسأل الله العلي العظيم أن ينفع بها إنه سميع مجيب.
(1/1549)
ثمار التمسك بالوحيين
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من ثمار التمسك بالوحيين العمة من الكفر. 2- من ثمار التمسك بالوحيين والتمكين. 3-
من ثمار التمسك بالوحيين الوقاية من الشرور والمصائب. 4- من ثمار التمسك بالوحيين الثبات
على الدين. 5- الفرقة والتنازع من ثمار ترك التمسك بالكتاب والسنة. 6- طاعة الله وهديه
مقدمة على طاعة كل أحد سواه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن في الوحيين كفاية لنا عن غيرهما إذا ما التزمنا بما فيهما وفهمناهما على فهم سلفنا الصالح، وإن لذلك الالتزام ثمار، فما هي هذه الثمار؟ وما هو واجبنا تجاه المخالفين؟ إن من ثمار التمسك بالكتاب والسنة الهداية للحق والاعتصام من الكفر، والحماية والوقاية من الأعداء. قال تعالى: يا أيها الذين أمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
وهنا فائدتان:
الأولى: عصمة أتباع الوحيين من الكفر. قال ابن كثير رحمه الله: يعني أن الكفر بعيد منكم، وحاشاكم منه، فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم. ا.هـ.
الثانية: أن الله تعالى اقتصر على ذكر أعظم كيد يدبره الكفار للمسلمين، وهو تكفيرهم. كما قال سبحانه في الآية الأخرى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق. فكأن الله يقول: مهما كان مكرهم الكبار الذي تزول منه الجبال فإن إيمانكم لا يزول ما أقمتم على تلاوة الوحي كتاباً وسنة.
وليس هذا غريباً على من أيقن بقلبه أن الله جعل معين الحياة في الوحي فقال: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.
وأعظم الحياتين حياة القلب. وأحيا الناس أتبعهم للوحي وهو آمنهم من الضلال وبهذا يدق فهمك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)).
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
فهذا الصديق يخشى على نفسه الانحراف عن الصراط المستقيم إن هو فرط في شئ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم فكيف قرت أعين المبتدعين وهدأت نفوس المخالفين؟.
أيها الإخوة: ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام أتبع الخلق للوحي اقترن بهم من تأييد الله أكمله. كما قال تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.
وقال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون.
ومن كان لهم متبعاً كان لهم مثل ما لهم من التأييد والنصرة قال الله تعالى لموسى وهارون - عليهما وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام – ولأتباعهما: أنتما ومن اتبعكما الغالبون. وقال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. قال شيخ الإسلام: ولهذا كل من كان متبعاً للرسول كان الله معه بحسب هذا الإتباع. قال الله تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي حسبك وحسب من اتبعك، فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه، وهذا معنى كون الله معه. والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق، والناقصة مع النقص، وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك، فالله حسبه وهو معه. ثم قال رحمه الله: ولو أنفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحقٍ جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تنصره الناس عليه فإن الله معه وله نصيب من قوله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان.1.هـ.
أيها الإخوة: لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة المكية إلى بطحاء مكة ومعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم ثم خط عليه خطاً ثم قال: ((لا تبرحن خطك، فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك)) قال ابن مسعود رضي الله عنه ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزط (اسم قبيلة من الحبشة أو السودان) أشعارهم وأجسامهم وينتهون إلي لا يجاوزون الخط... وقد سمع ابن مسعود أصواتاً وخشي على النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك كان حين دعوة الجن للإسلام والقصة مشهورة ومعروفة. ولا حظوا كيف سلم أبن مسعود من الأذى حينما وقف عند الخط الذي خطه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتجاوزه إنه خط النبوة إنه خط السنة والاتباع الذي فيه السلامة في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة: لقد كتب الله لاتباع نبيه صلى الله عليه وسلم الثبات على الدين وجعل مخالفيه على خطر من دينهم بأن يدخل النفاق في قلوبهم أو الشرك قال تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً.
قال ابن القيم رحمه الله: توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول، وتحكيم غيره والتحاكم إليه. كما قال تعالى: فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وقد تكون هذه المصيبة في الدين فيكفر المرء والعياذ بالله...
قال ابن تيمية رحمه الله عند قول الله عز وجل: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم من خالف أمره أن يحذر الفتنة، والفتنة الردة والكفر. قال سبحانه: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال الإمام أحمد في رواية الفضل بن زياد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثةٍ وثلاثين موضعاً ثم جعل يتلو فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلك وجعل يتلو هذه الآية: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ا.هـ كلامه رحمه الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكما أن الله عصم المتمسكين بالكتاب والسنة ونصرهم في الدنيا والآخرة. فإن الله عز وجل جعل الهزيمة للمخالفين وجعلهم مخذولين قال تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وجعل الذل والصغار على من يخالف أمري)).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والبدعة مقرونة بالفرقة كما أن السنة مقرونة بالجماعة. فيقال أهل السنة والجماعة كما يقال أهل البدعة والفرقة.ا.هـ.
كما أنه قد أجمع العقلاء على أن أعظم أسباب الهزيمة هو التنازع. ولما كان التنازع ناشئاً عن التقصير في طاعة الله ورسوله قرن الله بينهما في آية واحدة. فقال: وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، ولما كان الالتزام بالسنة هو سفينة النجاة في بحر الاختلاف. أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومها عند وقوعه. فقال: ((وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)) وقال تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات أي جاءهم من الوحي ما يجمعهم، فلما تركوه اختلفوا، والعياذ بالله، ولذلك نرى أهل الحديث مهما اختلفت بلدانهم وأزمانهم لا تجد بينهم اختلافاً. لأنهم اعتصموا بحبل الله جميعاً.
قال الله تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافاً كثيراً. أما أهل الأهواء والبدع نراهم متفرقين مختلفين، شيعاً وأحزاباً، نراهم أبداً في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولم تتفق كلمتهم: تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
فالحذر الحذر أيها المسلم من أن تكره شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو ترده لأجل هواك أو انتصاراًً لمذهبك أو لشيخك أو بلدك. فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحدٍ إلا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء به بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم.
والواجب على المسلم أن يرد على المخالف للكتاب والسنة مهما كانت منزلة ذلك المخالف ومهما كان مركزه الاجتماعي. ويكون الرد برده إلى الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، والرد على جميع المخالفين بميزان واحد، فلا يرد على مخالف في بدعة ما ويسكت عن مخالف آخر تعصباً أو تملقاً وتزلفاً لأسباب وطنية أو سياسية أو حزبية، لأنها جاهلية والعياذ بالله.
أما من كانت سجيته الرد على المخالفين جميعهم، انتصاراً لدين الله وجب علينا أن نشكره ونؤيده ولا نخذله وندعو له بظهر الغيب بأن يثبته الله على الحق. فرد الباطل واجب على كل مسلم، كل بحسبه، وكل مسلم على ثغر من ثغور الملة، قال الله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. يقول الشيخ بكر أبو زيد وفقه الله: وبهذا يقيم حملة الشريعة الحجة على الخلق حسب الوسع وهذا من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح المعاش والمعاد، وهو من أفضل الأعمال ومن كمال محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يجمع الله القلوب الله ويؤلف بينها حيث لا تتم مصالح الآدميين إلا بالاجتماع على البر والتقوى، وأما السكوت عن بيان الأحكام فهو من أعظم أسباب الفتن واختلاط الأحوال وخفاء الشريعة وظهور البدع والضلالات وأهلها.ا.هـ.
أيها الإخوة: في يوم القيامة يكون الحساب وتكون الخصومة بين يدي الله، يوم تبلى السرائر، يوم يحصل ما في الصدور: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين إبيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين.
(1/1550)
حقائق وثوابت
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
أديان, الكبائر والمعاصي
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إن الدين عند الله الإسلام ، ولا يقبل الله غيره من الأديان. 2- الله لا يقبل العمل إلا بشرطي
: الإخلاص والمتابعة. 3- تحريم الظلم بين العباد. 4- المعاصي سبب كل مصيبة وبلاء. 5-
عداء اليهود والنصارى لنا لا ينتهي. 6- المنافقون من أكثر الأعداء خطراً.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن الله عز وجل خلق المخلوقات وقدر السنن: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وشرع لنا الدين وأرسل لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وما من خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه.
ومن هذه الأمور التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم. حقائق وثوابت ومسلمات يجب ألا تتزعزع قناعاتنا وإيماننا بها في أي وقت وتحت أي ظرف.
من هذه الثوابت أولاً: أن الدين عند الله الإسلام فمن لم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ومات على ذلك فهو كافر خالد مخلد في النار.
ثانياً: أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لله وموافقاً لسنة النبي صل الله عليه وسلم.
فالشرك يحبط الأعمال كلها، فلو صرف العبد شيئاً من العبادة لغير الله لم يقبل منه أي عمل، قال الله تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين. وكل قربة يتقرب بها العبد إلى الله ليست على هدى النبي صل الله عليه وسلم ولم تكن من السنة فإنها غير مقبولة وهي مردودة على صاحبها. قال الله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً وقال النبي صل الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
ثالثاً: إن الله حرم الظلم بين عباده، وقد حرمه على نفسه سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) وأشد أنواع الظلم الشرك بالله. إن الشرك لظلم عظيم ومن الظلم أكل الأموال بغير وجه حق وانتهاك الأعراض وقتل النفس التي حرم الله بغير ذنب ((وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
هذه خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
واعلم أخي المسلم أن أحداً لا يمليك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا أن يشاء الله عز وجل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: ((يا غلام إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
رابعاً: إن المعاصي سبب لكل مصيبة وبلاء وشر يحصل في المجتمعات، نعم أيها الإخوة لا يحصل بلاءً وفتنة إلا بسبب المعاصي. قال الله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ويقول عز من قائل: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
أيها الإخوة المسلمون: فلننتبه لهذا الأمر ولنتجنب المعاصي التي هي شؤم على العباد والبلاد وسبب لكل بلاء ومصيبة.
خامساً: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فإذا كان الناس مستقيمين على أمر الله فإن الله ينعم عليهم بالأمن وسعة الرزق والراحة النفسية والطمأنينة وغيرها من النعم العظيمة، فإذا ما غيروا بأن انحرفوا عن الطريق المستقيم وعملوا المعاصي، فإن الله يغير عليهم، فيبدلهم من بعد سعة الرزق ضيقاً، ومن بعد الأمن خوفاً جزاءً وفاقاً.
وما ربك بظلام للعبيد. قال الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ويقول سبحانه وتعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم. فهل ندرك هذه الحقيقة يا إخوة الإسلام؟ وهل يدفعنا إدراكنا لها إلي فعل الطاعات واجتناب المعاصي؟ هذا ما نرجوه، ونسأل الله أن يوفقنا له، فإن المعرفة والإدارك وحدها لا تكفي بل لابد من العمل. لنغير من السيئ إلى الأحسن عسى الله أن يتداركنا برحمته فنغير ما نحن فيه من فتن وبلاء إلى الخير والأمن والاطمئنان. روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن جبير بن نفير رحمه الله قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي. فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير. ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره. بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
نسأل الله أن يوفقنا لشكره وعدم كفره، ونسأله سبحانه أن يحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، وأن يجعل الحياة زيادة في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: وأيضاً من الحقائق والثوابت:-
سادساً: أن اليهود والنصارى أعداء لنا، وهذه العداوة لا تنفك عنهم أبداً حتى لو كانت هناك هدنة أو صلح مؤقت، ولا يرضيهم عنا إلا أن نتبعهم في ملتهم لزعمهم أنهم على الحق وأننا على الباطل، قال الله تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وقال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وقال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق.
والآيات في هذا الباب كثيرة جداً، وفيما ذكرناه من كلام الله تعالى كفاية والتاريخ خير شاهد بعد كلام الله وكلام رسوله على هذه الحقيقة. وصدق الله العظيم في قوله، وكذب كل من قال خلاف كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: أن المنافقين أعداء للإسلام والمسلمين وإن رفعوا راية الإسلام وتحدثوا عنه في فترة من الفترات وظرف من الظروف بهدف استقطاب الرأي العام وجذب مشاعر المسلمين.
نعم أيها الإخوة هم أعداء للمسلمين بل إنهم أخطر أعداء الإسلام حيث يخفي أمرهم على الكثيرين من الطيبين والبسطاء من الناس، فكم من الناس من المسلمين من يتظاهر بالإسلام ويحاجج بالقرآن ويدعي أنه على منهج السلف الصالح ولكنه يبطن غير ذلك، فإذا سمعه الناس وهو يتحدث عن الإسلام ويدافع عنه اغتروا به. مصيبة والله أن يبلغ الجهل إلى هذا الحد. مصيبة أن يخفى أمر أكابر المنافقين ويغتر الناس بهم. إن علينا أن ندرك حقيقة مهمة، وهي أن المنافقين قد يصلون ويصومون ويحجون وقد يبنون المساجد وقد يتحدثون باسم الإسلام، ولكنهم مع كل هذا هم منافقون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً.
وعبد الله بن أبي سلول كبير المنافقين كان يتحدث بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو قومه لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقوف معه، والمنافقون قد بنوا مسجداً هو مسجد الضرار، والمنافقون كانوا يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاهد بعضهم معه. والمنافقون كانوا يفعلون كثيراً من أمور الخير الظاهرة ولكنهم في الباطن يكيدون للإسلام والمسلمين ويفرحون بما يؤذي المسلمين، ويفرحون بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم ويحيكون ضده المؤامرات للقضاء عليه فهم في الدرك الأسفل من النار.
أيها الإخوة: تنبهوا لأعدائكم. اعرفوا أعداء الله حقاً. واحذروا من كيد المنافقين ولا تغتروا بما يظهرونه من صلاح يريدون منه هدفاً معيناً، فإنه ما لم يُعرف عن الإنسان توبة ٌ صادقة فإن دعواه كاذبة. نسأل الله أن يعز دينه وأن يعلي كلمته. وأن يفضح أعداء دينه. وأن يذلهم بحوله وقوته. إنه سميع مجيب.
(1/1551)
حكم الدعوة إلى توحيد الأديان
أديان وفرق ومذاهب
أديان
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة. 2- أخذ الله الميثاق على الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد حال
بعثته. 3- كل من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم كافر. 4- اليهود والنصارى يجمعون
أصول الكفر والضلال. 5- الدعوة إلى تقارب الأديان وتوحيدها وإبطال العلماء لها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة لقد أرسل الله الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبُر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. [الشورى:13]. وهو سبب إيجاد الخلق أصلاً وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وأنزل الله الكتب نوراً وهدى وبها أحكام وشرائع يسير عليها من نزل عليهم.
ولكن يا أيها الإخوة: لا بد من معرفة أن الإسلام الذي جاء به سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً هو ناسخ لكل الشرائع السابقة، فمن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك فهو كافر خالد مخلد في النار.
أيها الإخوة: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو كان موسى عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)) فكيف بأتباعه إنه لا يحق لهم أن يتعبدوا الله عز وجل إلا بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أتباع عيسى عليه السلام، بل يا أيها الإخوة: إن من لم يؤمن بمحمد نبياً فهو مكذب بغيره من الرسل، ومن لم يؤمن بالقرآن فهو مكذب بجميع الكتب السماوية وذلك لأنه أيها الإخوة جاء في جميع الكتب البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الله ميثاق الأنبياء جميعهم باتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لو بعث وهم ما زالوا أحياء يقومون بالدعوة إلى الله في أقوامهم، قال الله تعالى: إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
وقال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق [المائدة:48]. وقال تعالى: إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبيانات قالوا هذا سحر مبين ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
من هذه الآيات وغيرها من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم يتضح كفر من لم يؤمن بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك أنه لا يصح أن يُعبد الله بشريعة غير شريعة الإسلام التي جاء بها خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولا يصح اتباع نبي غير محمد صلى الله عليه وسلم فهو سيد وخاتم الأنبياء، وهذا أيها الإخوة لو كانت التوراة والإنجيل باقية كما هي لم تحرف، ولو أن أتباع الرسل السابقين مقيمون على شرائعهم دون تحريف فإنه لا يقبل منهم ذلك، ولا يصح منهم إلا الإسلام الذي هو ناسخ لكل الشرائع السابقة.. فكيف وقد ثبت أن أهل الكتب السابقة قد حرفوها.. قال الله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم لعناّهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم [المائدة:13]. وقال تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون [البقرة:79].
ويضاف إلى ذلك أيها الإخوة أن اليهود والنصارى سبوا الله ورسوله وكفروا بالله ورسوله حيث نسبوا إلى الله الولد، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد وكذبوا بالرسالة.. قال الله تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [آل عمران:181]. وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.
وقال الله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ، وقال سبحانه: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة لقد جمعوا أنواع الكفر والضلال، ظلمات بعضها فوق بعض، فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , فاليهود والنصارى أمتان كافرتان بعدم إسلامهم وبعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومتابعته في شريعته وترك ما سواها، وبعدم إيمانهم بنسخ شريعة الإسلام لما قبلها من الشرائع، وبعدم إيمانهم بما جاء به القرآن العظيم وأنه ناسخ لما قبله من الكتب والصحف ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
فنعوذ بالله من طريق الأمة الغضبية المغضوب عليهم اليهود أهل الكذب والبهت والنفاق والغدر والمكر والحيل قتلة الأنبياء وأكلة السحت، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية وأبعدهم من الرحمة وأقربهم من النقمة لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، أضيق الخلق صدوراً وأظلمهم بيوتاً وأنتنهم أفنية، تحيتهم لعنة، ونعوذ بالله من طريق الضالين النصارى المثلثة، أمة الضلال وعباد الصليب الذين سبّوا الله ولم يقروا بأنه الواحد الأحد بل قالوا فيه ما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.. فدينهم شرب الخمور وأكل الخنزير وترك الختان والتعبد بالنجاسات واستباحة كل خبيث، فالحلال عندهم ما حلله القس والحرام ما حرمه.
ونعوذ بالله من كل مرتد ومن طريق كل مبتدع ضال وعابد للشيطان والهوى أو عابد النيران، ونعوذ بالله من طريق كل من تولى الكافرين واتخذهم بطانة ومستشارين ونتبرأ منهم إلى يوم الدين ونعوذ بالله من كل طريق غير طريق الإسلام إن الدين عند الله الإسلام. فالحذر الحذر من الوقوع في شراك أهل الضلال.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة: إننا نسمع بين لحظة وأخرى وبين فينة وفينة دعوة غربية صهيونية صليبية ينعق بها بعض المسلمين وخاصة ممن يتوسم فيهم الخير والصلاح مع الأسف الشديد، هذه الدعوة لها أسماء شتى وهدفها واحد، فتارة تسمى الدعوة إلى التقريب بين الأديان، وتارة نبذ التعصب الديني، أو الإخاء الديني أو وحدة الأديان أو توحيد الأديان الثلاثة، أو التعايش بين الأديان، أو تلاقي الحضارات والتعايش فيما بينها، لدرجة أن هناك من فكر في طباعة القرآن الكريم والإنجيل والتوراة المحرفتان، في كتاب واحد، بل أقيمت صلاة مشتركة حضرها مع الأسف الشديد البعض ممن يمثل بعض المؤسسات الإسلامية وكان إمامهم في الصلاة البابا النصراني الكافر، فصلى باليهود والنصارى والمسلمين وبذلك قدم نفسه أنه زعيم الأمم وحدد لهم عيداً خاصاً سماه عيد التآخي ونشيداً موحداً سماه نشيد (الإله الواحد رب وأب) تعالى الله عما يقوله الكافرون علواً كبيراً.
وقد بني في بعض الأماكن وفي إحدى الدول الإسلامية كنيسة ومعبد ومسجد في مكان واحد وكل هذا أيها الإخوة سعي من اليهود والنصارى والمنافقين لإخراج المسلمين من دينهم وإماتة روح الجهاد عند المسلمين وإلغاء عقيدة الولاء والبراء.
ولقد انبرى بعض أهل العلم والغيرة على الإسلام في الرد على هؤلاء الذين انساقوا وراء هذه الدعوات المشبوهة وشاركوا فيها بالندوات والمحاضرات والاجتماعات، وبينوا الحكم الشرعي في هذه المشاركة وحكم الاستجابة لهذه الدعوة الكفرية.. ومن هؤلاء فضيلة الشيخ بكر عبد الله أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء ورئيس المجمع الفقهي حفظه الله حيث ألف كتاباً سماه: ((الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان)) وإنني أنقل لكم بعض ما قاله في ذلك الكتاب بعد أن بين وأصّل كفر جميع الملل التي لم تؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن هذه الرسالة ناسخة لما قبلها من الرسالات، وأن القرآن ناسخ لجميع الكتب السابقة... وحذر المسلمين من خداع أهل البدع والضلالات التي منها الفرق الباطنية كالإسماعيلية أو النصيرية وغيرها، وكغلاة الشيعة الرافضة أو الصوفية أو الفرق التي أسسها اليهود والنصارى للطعن في الدين باسم الإسلام مثل البابية والبهائية والقاديانية، وقد حكم بكفر هؤلاء بإجماع من المسلمين، وكل هذه الفرق تدعو إلى نظرية الخلط بين الأديان، يقول الشيخ وفقه الله في كتابه الإبطال: يجب على المسلمين الكفر بهذه النظرية.. وهذا من بديهيات الاعتقاد والمسلمات في الإسلام، وأن الدعوة إلى هذه النظرية: نفاق ومشاقة وشقاق وعمل على إخراج المسلمين من الإسلام.
ثم قال: ويجب على جميع أهل الأرض من الكتابيين وغيرهم الدخول في الإسلام بنطق الشهادتين والإيمان بما جاء في الإسلام جملة وتفصلاً وترك ما سواه من الشرائع المحرمة والكتب المنسوبة إليها وأن من لم يدخل في الإسلام فهو كافر مشرك.
ويجب على هذه الأمة، أمة الاستجابة لهذا الدين، دعوة الناس وكل كافر إلى الإسلام حتى يسلموا، ومن لم يسلم فالجزية أو القتال. قال الله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا لجزية عن يدوهم صاغرون ثم قال الشيخ حفظه الله: لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل وتوزيعهما ونشرهما، وإن نظرية طبعهما مع القرآن الكريم في غلاف واحد من الضلال البعيد والكفر العظيم. وكذلك لا تجوز الاستجابة لدعوة بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد لما فيها من الاعتراف بدين يعبد الله به سوى الإسلام، وفيه أن الإسلام غير ناسخ لما قبله، وهذا فيه من الكفر والضلال ما لا يخفي.
ثم بين أن كل من استجاب لهذه الدعوة وقبلها وحضر اجتماعاتها ودعا المسلمين إليها فهو مرتد كافر، وبناءً على أصل شرعي أن من لم يكفر الكافر فهو كافر فقد حذر الشيخ من التميع في هذه المسالة مسألة التردد في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من الملل التي لم تؤمن بمحمد نبياً ولا بالقرآن ولا بالإسلام ناسخاً لما قبله من الشرائع والكتب.
فقال: إن دعوة المسلم إلى توحيد دين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ بشريعة الإسلام ردة ظاهرة وكفر صريح لما تعلنه من نقض جريء للإسلام أصلاً وفرعاً واعتقاداً وعملاً، وهذا إجماع لا يجوز أن يكون محل خلاف بين أهل الإسلام، وإنها دخول معركة جديدة مع عباد الصليب ومع أشد الناس عداوة للذين آمنوا فالأمر جد، وما هو بالهزل.
ثم قال حفظه الله: ولا تلتفت أيها المسلم إلى غلط الغالطين ولا إلى من خدعهم دعوة إخوان الشياطين ولا إلى المأجورين ولا إلى أفراد من الفرق الضالة من المنتسبين إلى الإسلام للمناصرة والترويج لهذه النظرية، فيتسنمون الفتيا وما هم بفقهاء، ولا بصيرة لهم في الدين وإنما حالهم كما. قال تعالى: وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
أيها الإخوة: اسمعوا وعوا، إياكم أن تتخذوا اليهود والنصارى والمنافقين أولياء ولا ترتدوا على أعقابكم، يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
أسأل الله العلي العظيم أن يهدي ضال المسلمين وأن يصرف عنهم كيد الكائدين وأن يثبتنا جميعاً على الإسلام حتى نلقاه إنه سميع مجيب.
(1/1552)
حكم الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة تحريم الغناء. 2- أقوال السلف في الغناء. 3- جواز الإنشاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن مما استهان به الناس هذه الأيام سماع الغناء والمعازف لشبه يقذفها أهل الباطل ليحلوا ما حرم الله وليبرروا فعلهم للمنكرات بحجة أن جاريتين غنتا في العيد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، وهو حق يراد به باطل.
فقبل أن أذكر هذا الحديث ومفهومه ودلالته لابد أن نعرف حكم الغناء والمعازف، ولا بد أن نحكم في الأمر بشرع الله وليس بالهوى والرأي.
فالمعازف: هي كل ما يعزف به من آلات معروفة قديماً وحديثاً وهي محرمة، لما روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)).
فهنا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين أمور محرمة يستحلها الناس وهي الزنا، والخمر، ولبس الحرير، والمعازف. وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في أمتي خسفاً ومسخاً وقذفاً)) قالوا: يا رسول الله وهم يشهدون ألا إله إلا الله؟ فقال: ((نعم، إذا ظهرت المعازف والخمور ولبس الحرير)). حديث أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وأبو عمر والداني في السنن الواردة في الفتن وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سمع صوت زمارة الراعي (المعروف بالناي) وضع إصبعيه في أذنيه وقال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت زمارة راعٍ فصنع مثل هذا) رواه أحمد وبعض أهل السنن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم ذات يوم وهم في المسجد فقال: ((إن ربي عز وجل حرم علي الخمر والميسر والكوبة والقنين)) الكوبة: الطبل، والقنين: طنبور الحبشة وآلة من آلات العزف، رواه أحمد وبعض أهل السنن. فهذا يدل دلالة قاطعة بأنه لا يجوز الاستماع إلى المعازف سواء كانت طبلة أو مزماراً أو آلة من الآلات المعروفة والتي يعزف بها.
والغناء بالمعازف أيضاً محرم لاشتماله على آلات اللهو والعزف حتى ولو كان كلاماً لا بأس به.
وقد أجمع الأئمة الأربعة على تحريم المعازف، وأما الغناء بدون معازف وهو ما يعرف بالأناشيد أو الحداء ويكون بدون آلة ولا طبل فمنه محرم ومنه الذي لا بأس به، فالغناء المحرم ما كان فيه من التشيب والغزل ووصف المحاسن أو ما يثير الشهوات أو ما شابه ذلك أو الإطراء أو المدح الكاذب أو الزائد عن الحد.
ذكر البخاري في الأدب المفرد أنه دعي مغن ليلهي الأطفال الصغار من البكاء وقد استأذنوا عائشة رضي الله عنها في ذلك فقالت: بلى، فحينما مرت عائشة رضي الله عنها على ذلك البيت الذي جيء بالمغني إليه فرأته يحرك شعر الرأس طرباً ويتغنى بالشعر فقالت عائشة رضي الله عنها: أف شيطان، أخرجوه، أخرجوه، فأخرجوه). وهذا كان يغني الشعر بصوته فيلحنه بنبرات صوته ويتمايل معه.
أيها الإخوة: جاء في تفسير قول الله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم. فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (هو الغناء والذي لا إله إلا هو).
ومعنى سامدون في قول الله تعالى: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون هو الغناء بلغة حمير، قال السمود: هو الغناء. كما قلت: إن الأئمة الأربعة رحمهم الله قد أجمعوا على تحريم آلات اللهو والعزف، وقد أفتى الإمام أحمد بكسرها إذا كانت مكشوفة. وقد قال أبو يوسف تلميذ الإمام أبى حنيفة حينما سئل عن رجل سمع صوت المزامير من داخل أحد البيوت فقال: ((ادخل عليهم بغير إذنهم لأن النهي عن المنكر فرض)).
وقال النووي رحمه الله: إن استعمال آلات اللهو محرم. وأما الغناء بدون آلات فقال عنه الشافعي رحمه الله: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن أستكثر منه سفيه ترد شهادته. وقال الإمام مالك رحمه الله: إنما يفعله عندنا الفساق. والإمام أحمد قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني. وقال المفسرون عند قوله تعالى: واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك أن صوت الشيطان هو الغناء. وأما الغناء الذي لا بأس به فهو ما يحتوي على مكارم الأخلاق ونصرة الإسلام، ويكون بدون معازف كما قلنا، وهو ما يعرف اليوم باسم الأناشيد، أو ما يكون لقطع المسافات في السفر وهو ما يعرف بالحداء، وأن لا يكثر منه في كل وقت، بل يكون في مناسبات محددة وأوقات خاصة، كالأعياد والزواج والسفر والحرب وألا يجعل هذا الغناء للتكسب وذلك بدلالة الأحاديث التالية:
ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث - قالت: وليستا بمغنيتين - فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)).
فلاحظوا أيها الإخوة: أن البنتين الصغيرتين كانتا تنشدان بشعر فيه فخر وذلك في يوم العيد وأن البنتين ليستا من محترفي الغناء، وأن أبا بكر أنكر عليهما وقال: أبمزمور الشيطان؟ فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمة ولم ينكر عليه تسمية الغناء مزمور الشيطان، ولكنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا في العيد استثناءً، لأن الأصل هو عدم الغناء.
وأما الحديث الثاني فجاء بعدة ألفاظ وفيه أن جويرات كن يضربن بالدف في العرس ويندبن من قتل يوم بدر إذ قالت إحداهن: (وفينا نبي يعلم ما في غد) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعي هذه، وقولي الذي كنت تقولين)) فلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رضي بالمدح المتجاوز للحد، ونهى الجارية عن ذلك، وأذن لها في الإنشاد الضرب على الدف في العرس.
وجاءت روايات أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حينما حضرت زواج امرأة من الأنصار: ((فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني)) فقالت عائشة تقول: ماذا؟ قال: تقول:
أتيناكم فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
ولو لا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم
وأما الحداء والأشعار في السفر أو في الجهاد فقد ورد منها:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا
وأيضاً قولهم:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
ومنها أيضاً:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أما الشعر فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعراء على رأسهم حسان بن ثابت رضي الله عنه يذبون عن الدين ويدافعون عن الإسلام وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويردون على الكفار ويكبتونهم، فكان شعرهم جهاداً ودعوة في سبيل الله، وكانوا أبعد الناس عن سفاسف الأمور.
وقد ذم الله الشعراء إلا الذين ينصرون الدين كما قال تعالى: والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وقال صلى الله عليه وسلم: ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يَرِيهِ خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً)).
وقد ترك كثير من الشعراء الشعر في صدر الإسلام بعد دخولهم الإسلام لأنهم أخذوا القرآن والسنة، فاستبدلوا الذي هو خير بالذي هو أدنى، وملأوا صدورهم بهما واهتدوا بهما في حياتهما، وتغنوا بالقرآن في الصلاة في الأسحار فنالوا بذلك السعادة في الدارين ونالوا سيادة العالم.
وبعد استعراضنا للأدلة من القرآن والسنة وقول الصحابة وإجماع الأئمة وأهل العلم يتضح لكل ذي بصيرة يريد الحق واتباعه أن المعازف من طبل ومزمار وآلات موسيقية مختلفة محرمة لا يجوز الاستماع إليها، سواء في عزف منفرد أو في مقطوعة موسيقية أو بصحبة الشعر كما هو معروف في الأغاني هذه الأيام.
وأما الغناء بالشعر الملحن بالصوت فقط وتنغيمه بالصوت فقط دون صحبة أي آلة موسيقية فلا بأس في العيد، وفي الزواج.
ولا بأس أن يضرب النساء بالدف في الزفاف ويغنين بشعر يظهر فيه فخر أو مدح للإسلام والمسلمين أو كلام مباح... وألا يكون ذلك للتكسب ولا يسمعهن الرجال.
ولا بأس بالحداء والأناشيد في السفر لإزالة الملل، وأن يكون من الشعر البعيد عن إثارة الشهوة أو وصف النساء أو المردان، وما شابه ذلك من الخنا والخسة المنتشرة في شعر كثير من الشعراء الذين يسمون بشعراء الأغنية والتي يندى لذكرها الجبين، ولا يرضاها والله أهل الجاهلية قبل الإسلام، فكيف تنشر في وسائل الإعلام هذه الأيام تحت اسم الفن، ويقدمون على أنهم شعراء فنانون وكتاب لامعون نعوذ بالله من انتكاس المفاهيم.
وأما أغاني اليوم التي تصف المحاسن للنساء أو للمردان وتثير الشهوة بصحبة الموسيقى فقد جمعت كل المفاسد والمحرمات، ذلك إذا أضيف إليها صوت المغني الذي يتغنج ويتكسر في غنائه، أو المغنية التي تزيد الطين بلة ظلمات بعضها فوق بعض فهذه كلها لا شك في تحريمها.
اسأل الله لنا ولكم الهداية وأختم خطبتي بقراءة كلام لابن القيم رحمه الله ذكره في إغاثة اللهفان حيث قال رحمه الله في الجزء الأول ص252: ومن مكايد عدو الله ومصايده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان. والحجاب الكثيف عن الرحمن وهو رقية اللواط والزنا. وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى. كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً. وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، متمايلون له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس. فلغير الله، بل للشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق. الخ. كلامه رحمه الله.
(1/1553)
حول الفرق الضالة
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير القرآن والسنة من الافتراق في الدين. 2- حديث عن غلاة الصوفية وعقائدهم. 3-
حديث عن معتقدات الشيعة الإثني عشرية. 4- نقاط تشابه بين غلاة الصوفية والشيعة. 5-
دعوة التقريب بين المذاهب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: أخبر النبي صلى وسلم عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن هذه الأمة ستتبع الأمم السابقة وأنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، إلا فرقة واحدة. هي الفرقة الناجية هي التي تسير على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولقد بدأت الأمة في الافتراق والتحزب والتشتت منذ صدر الإسلام بعد أن دخل في الدين الإسلامي من جميع الأمم شرقاً وغرباً، حيث أظهر بعضهم الإسلام وهو يخفي في صدره غلاً دفيناً على الإسلام... أظهر الإسلام نفاقاً وتقية، ثم أخذ يكيد للإسلام والمسلمين ليخرجهم من النور إلى الظلمات. وقد جاء القرآن بالتحذير من التفرق والتشيع قال الله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال سبحانه: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم. وقال تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون.
وقد نجح أعداء الله في تحقيق غرضهم فظهرت الفرق التي أخبر عنها النبي صلى وسلم عليه وسلم، ومن هذه الفرق الضالة نتعرف اليوم على فرقتين هما: الشيعة وغلاة الصوفية فرقتان باطنيتان تظهران الإسلام والغيرة عليه، وتبطنان الكفر والزندقة، فهم أشد على الإسلام من اليهود والنصارى لما يظهرونه للعوام والناس، ما يجعل الناس يغترون بهم وبأقوالهم المعسولة بينما هم يبطنون السم الزعاف، إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقاً.
إن الصوفية فرقة ضالة يدخل تحتها عدة مسميات يبلغ العشرات مثل الشاذلية والرفاعية والقادرية والخلوتية والنقشبندية والشرطية والمولوية والبكطاشية والتيجانية وغيرها كثير، ولو سألت عن هذه الفرق الصوفية عن معنى الصوفية وأصلها لاختلفوا في تعريفها لأنهم لا يقولون الحقيقة، فمنهم من يدعي أنها مأخوذة من لبس الصوف ويقصدون به لزهد في الحياة الدنيا وهم أبعد الناس عن الزهد، ومنهم من يقول نسبة إلى الصفّة ولو صح ذلك لقال صفي، ومنهم من يقول أنها بمعنى النقاء والصفاء، وهناك تعريفات تصل إلى مائتين كل واحد منها له معنى مغاير عن الآخر والسبب أنهم يخفون حقيقة الصوفية التي ألف فيها كثير من الكتاب من المسلمين وغير المسلمين وكشف في مؤلفاتهم عن أصل هذه الطريقة، فالصوفية مأخوذة من كلمة صوفيا اليونانية بمعنى كلمة الإشراق وهي طريقة قديمة معروفة من قبل الإسلام تعتمد على الفلسفة، وتعتمد طقوسهم على أسطورة غامضة، فكان المريدون يرددون عبارات مبهمة ويرقصون ويصيحون فنقلت هذه الطريقة إلى المسلمين.
وعقيدة غلاة هذه الجماعة منذ القدم هي عقيدة وحدة الوجود أو عقيدة الحلول حيث يرون، والعياذ بالله وتعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، يقولون: إن الله في كل ما نرى وأنه يحل في كل شيء... فقد يسجد أحدهم للكلب أو للبهيمة، أو يسبح نفسه كما قال البسطامي عليه من الله ما يستحق: (سبحاني. سبحاني ما أعظم شأني)، ومنهم من يقول: لم يكن هناك موحد مثل إبليس وفرعون، وقد صرح بعضهم مثل الحلاج في القرن الخامس الهجري بهذا وذكر في ديوانه المعروف بديوان الحلاج من الشعر- ولولا مكانة هذا المقام لذكرت شيئاً من أقوالهم وأشعارهم والذي يثبتون فيها أن كل معبود هو الله سواء عبدت الأرض أو الحجر أو الشمس أو القمر أو النبات أو الشجر أو حتى عبدت نفسك فإنما تعبد الله والعياذ بالله من ذلك - وقد أقيم حد الردة على هؤلاء الذين أظهروا هذه العقيدة في مؤلفاتهم وكتبهم فعاتبهم الآخرون من أقرانهم وقالوا لهم: لقد أظهرتم أمراً ما كان يجب أن تظهروه لأن الناس لم يبلغوا من العلم والفهم ما تقولونه لهم - حسب زعمهم - وهم يعلمون أنهم لو أظهروا هذه العقيدة في أقوالهم وكتبهم لقتلهم الناس ولضربوهم بالحجارة، ولكنهم يخفونها ويكتفون بالإشارة والرمز واللغز والتعمية على الناس وحتى على من تبعهم في ما يظهرون لهم.
وكذلك هم ينظرون إلى الرسالة النبوية أنها في الحقيقة ما هي إلا أمر مكتسب وأن النبي صلى الله عليه وسلم ببصيرته ولأنه الإنسان الكامل قام بهذه الدعوة بل إنهم يقولون أن من عبد محمداً فإنما هو يعبد الله، ولأن الله قال: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله. يقول الحلاج في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (طس سراج من نور الغيب بدا، وعاد وجاوز السراج وساد، ما أخبر الأعلى عن بصيرته ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته حضر فأحضر وأبصر فخبر...)، ثم يقول في آخر كلامه: (الحق ما أسلمه إلى خلقه لأنه هو وإني هو وهو هو). فهو ينكر الرسالة ويرى أن الله هو محمد وأن الحلاج هو أيضاً الله فحسب عقيدته أن الله يحل في كل مخلوق والعياذ بالله.
والصلوات التي كتبها الصوفية تشير إلى هذه العقيدة سواء صلاة الفاتح أو الصلاة التيجانية أو الصلاة النارية أو جوهرة الإسراء أو صلاة الدسوقي أو الشاذلي أو الصلوات البكرية أو السقافية أو غيرها من الصلوات المنشورة في كتبهم تثبت الألوهية للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن الأسماء الحسنى هي أيضاً أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من الضلال.
إن عقيدة غلاة الصوفية التقية، وهو النفاق، حيث يظهرون غير ما يعتقدون، وفي بعض المجتمعات يصلون مع الناس أما في مجتمعات أخرى فإنهم لا يصلون ولا يقومون بالواجبات لأنهم يرون إنما هذه الأمور لعامة الناس الذين لم تبصر أبصارهم الحقيقة التي هم يبصورنها. أما هم فقد تعدوا التكاليف.
يقول الدكتور عبد الحليم محمود في وصفهم: (فإن الصوفية جميعاً وفلاسفة الإشراق منذ فيثاغورث وأفلاطون إلى يومنا هذا يعلنون منهجاً محدداً يقرونه جميعاً ويثقون فيه ثقة تامة). نسأل الله العافية.
أما الشيعة الرافضة فهذه الفرقة ترى أن القرآن ناقص وأن الصحابة رضي الله عنهم أخفوا كثيراً من السور وخاصة سورة الولاية كما يزعمون، ويكفرون أبا بكر وعمر ويصفونهما بالجبت والطاغوت ويصرون على أن عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق الطاهرة النقية يرون أنها فعلت الفاحشة ويكذبون بذلك القرآن الذي نزل ببراءتها من السماء. ويرون أن الأئمة عندهم معصومون كعصمة الأنبياء، وأن الأولياء عندهم في منزلة أعلى من النبوة، نعوذ بالله من الضلال ومن هذه الأقوال.
ومن معتقداتهم: الرجعة والبداء والغيبة.
فالرجعة اعتقاد بأن كثيراً من الأموات سيعودون إلى الحياة وهم صنفان مؤمنون وفاسقون، وأن المؤمنين سينتقمون من الفاسقين ويقام حد الردة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وحد الزنا على عائشة رضي الله عنها، فنعوذ بالله من هذا القول.
وأما البداء فهي عقيدة يهودية قديمة وهو نسبة النسيان لله عز وجل حيث يقولون، بدا الله فعل كذا بعد ما أمر بكذا – تعالى الله عن ذلك، وهذا موجود في كتبهم الكافي في كتاب التوحيد عندهم.
وأما الغَيبة فإنهم يرون أنه لا تصلح الأرض إلا بإمام، ونظراً لموت أئمتهم الإثنى عشر، نشروا عقيدة الغَيبة، التي تجعل من المجتهد نائباً عن الإمام الغائب، يقوم مقامه ويبايع حتى يعود ويخرج الإمام المنتظر. أسأل الله العافية.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبعد الاستعراض السريع لأصول هاتين الفرقتين الضالتين نجد أنهما تلتقيان وتتفقان في عدة أمور ظاهرة وباطنة فأول ما يتفقان فيه أن أصولهما متشابهة. فالصوفية أصلها وثني إغريقي تعتمد على الفلسفة وتؤمن بعقيدة وحدة الوجود.
والشيعة الرافضة أصلها يهودي محرف بدأت بإدعاء أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة ثم بعقيدة البداء ونسبه النسيان إلى الله كما يعتقد اليهود عليهم لعنة الله، وكلا الفرقتين تبطن غير ما تظهر، فأسلوبهما أسلوب المنافقين وهذه عندهم دين يدينون به وهو ما يسمى بالتقية، ولا يكشفون سرهم إلا لمن وثقوا فيه وبلغ عندهم مبلغاً عالياً في مراتبهم الكفرية. ولو حاول بعضهم كشف سر عقيدتهم لقتلوه اغتيالاً حتى لا يظهر حقيقتهم كذلك تتفق الفرقتان على الاعتماد على قول مشايخهم وأئمتهم فقط فلا يعترفون بالقرآن والسنة الصحيحة إنما يأخذون من القرآن منه ما يجادلون به ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة.
وأما التفسير فلا يرجعون إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا قول الصحابة إنما يتبعون أقوال مشايخهم فقط. ولا يرضون بالسؤال ولا بالنقاش من أتباعهم، إنما على المريد أن يتبع شيخه ويسلم له نفسه وعقله، فالاعتماد فقط عند الفرقتين على كتبهم ومشايخهم ولا يقولون بشيء من القرآن والسنة إلا فيما يرون أنه في صالحهم وليحتجوا به على الآخرين في معتقداتهم وبدعهم.
وتتفق الفرقتان في عدم إنكار المنكرات والسكوت والرضى بما يفعل الناس، بل إن أتباع الفرقتين غلاة الصوفية والشيعة يفعلون المنكرات ويمارسونها علناً، فالشيعة يجيزون الزنا باسم زواج المتعة، الذي هو عقد بين رجل وامرأة لمدة ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين على مبلغ معين، فيستمتع بها، وبمجرد انتهاء العقد تذهب المرأة إلى رجل آخر. وهذا زنا يفعلونه ويعتبرونه زواجاً.
وأما الصوفية الغلاة فيتغزلون بالمردان وبالصبيان وبالصور الجميلة، ولذلك هم يقربون المردان في اجتماعاتهم، وأصحاب الأصوات الجميلة، لينشدوا لهم، ويفعلون فعلة قوم لوط بينهم ولا يجدون في ذلك حرجاً، والعياذ بالله.
وإن عبادتهم يصحبها الطبل والرقص والتزمير وهذه من المنكرات، وفيها مشابهة للمشركين الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاءً وتصدية، أي صفيراً أو تصفيقاً.
كما أنهما يتفقان في موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى فيحضرون احتفالات عيد رأس السنة لدى النصارى، وقبل عامين كان زعيم شيعي يخطب يوم الجمعة ويهنئ النصارى والكنيسة بعيد رأس السنة الميلادية من فوق المنبر. كما أن الصوفية يفعلون ذلك.
وأيضاً واليهود والنصارى يحضرون الاحتفالات البدعية لدى الفرقتين كالموالد وحضور المشاهد والطواف على القبور، وقد رأيت في إحدى الدول العربية قبراً يطوف عليه الصوفيون والنصارى جنباً إلى جنب وتحظى الفرقتين بالتأييد من مجلس الكنائس العالمي وبتأييد دول الكفر في كل مكان.
والفرقتان أيضاً تتشابهان في الظهور أمام الناس بأنهم حريصون على الإسلام وعلى المسلمين وعلى جمع كلمتهم وبث روح المحبة والإخاء والتعاون بينهم وتهتمان بالقبور والأضرحة، والاستعانة بالأموات والذبح عندهم وإعطاء النذور، وبالأناشيد والاحتفالات والاجتماعات المخصوصة والأذكار البدعية والشركية وبالمدائح التي فيها غلو بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله، وبالتغزل فيه بشكل مشين ويندى له الجبين، حيث يذكرون فم النبي صلى الله عليه وسلم ووجنتيه ووجهه ويديه ورجليه بأسلوب لا يكون إلا من ماجن فاسق لعشيقته والعياذ بالله، لذلك هم يذكرون كلمة العشق والتي هي أصلاً تكون بين الزوجين لأن العشق علاقة حب تنتهي بالجماع، فهم يذكرون العشق في شعرهم وفي مدحهم وفي غلوهم في النبي صلى الله عليه وسلم وغلوهم في آل البيت، وكثيراً ما يكون في هذا خداع للناس حيث يظنون أن هؤلاء الشيعة أو الصوفية إنما يفعلون ذلك لحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولآل بيته، والواقع أن هذا ستار لما وراءه من عقائد فاسدة وأصول باطلة وصفات رذيلة.
وليس معنى هذا أن كل من تابع الصوفية أو الشيعة الرافضة يكون بنفس المعتقد أو بنفس الفهم لأصولهم، كلا، بل كثير من الناس التابعين للصوفية أو للرافضة لا يعرفون منها إلا هذه المظاهر، مظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم وحب آل البيت، بل إن فيهم العباد، وكم رأينا من هؤلاء أناساً تابوا ورجعوا إلى الصراط المستقيم بعد أن انكشفت لهم الأمور.
لذلك يا أيها الإخوة: ليست المسألة بالبساطة هذه، إنما وراء الأكمة ما وراءها. وأنا أطلب من كل من يتابع زعماء هاتين الفرقتين سواء هنا في هذه البلاد أو في خارجها أن يطلب من مشايخهم والزعماء أو الأقطاب في هذه البلاد أو في خارجها إنكار المعتقد الأساسي المدون في كتبهم وحرقها وإبطالها، مثل كتاب الكافي بالنسبة للشيعة أو طبقات الشعراني بالنسبة للصوفية، وما شابههما من كتب لهم، أن يعلنوا البراءة منها واعتقاد أن أعيادهم باطلة وكذلك أعياد النصارى ولا يجوز مشاركتهم فيها، ويعلنون العودة إلى القرآن وتفسيره والصحيح من السنة والسيرة الصحيحة، ويمتنعون عن الاحتفالات البدعية والشركية ويعودوا للسير على منهج الصحابة رضي الله عنهم. إن كانوا حقيقة يحبون النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته.. فهل يستجيبون لذلك؟.أم يحيدون عن الإجابة ويلبسون على الناس بأقوال ظاهرها حق ويراد بها الباطل.
ومن التلبيس على الناس ادعاء هاتين الفرقتين أن المسائل المختلف عليها مسألة عادية مثل الاختلاف في المذاهب الأربعة، فهذا مذهبه صوفي والآخر مذهبه شيعي، وهذه مسائل الاختلاف نتركها جانباً ونتفق علي المسائل الأخرى حسب زعمهم، وهذا تضليل وكذب وافتراء لأن هذه المسائل في المعتقد وليست في المسائل التي يسوغ فيها الخلاف... المسألة توحيد أو شرك، هدى أو ضلال، صراط مستقيم أو سبل للشيطان.
كذلك مما يلبسون به على الناس أنك إذا أنكرت على أحدهم في مسألة من المسائل أو في بدعة من بدعهم التي يفعلونها قال أحدهم: أنا شافعي أو حنبلي أو مالكي أو حنفي مما يشعر المستمع أن هذا الأمر مما يقول به ذلك الإمام، وهذا بهتان عظيم بأن يرمي الأئمة بأنهم من أهل البدع، فكلهم من أهل السنة، وأما الاختلافات الفقهية التي اجتهدوا فيها فهي في المسائل الفرعية وليست في الاعتقاد أو في اتباع السنة فكلهم يعلن أنه من أهل السنة وأنه متبع للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن أبى هؤلاء المنافقون إلا أن يضللوا الناس ويتهموا الأئمة بالتهم الباطلة، وهم بريئون من ذلك.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صلاة دائمة عدد ما خلقت وعدد ما تخلق إلى يوم القيامة وعلى آله وصحبه أجمعين. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
(1/1554)
حول المولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- في الإسلام عيدان فقط : الفطر والأضحى. 2- نشأة الاحتفال بالمولد النبوي. 3- حديث
مسهب عن الفاطميين. 4- تفنيد شبهات الذين يحتفلون بالمولد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون: لقد مر معنا بعض الثوابت والأصول المهمة التي يجب أن يعلمها كل مسلم والتي منها :-
أ – وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة آل بيته وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
ب – أن من لزوم محبته صلى الله عليه وسلم، طاعته واتباعه فيما فعل وترك.
ج – أن كل قربة لا تقبل إلا بشرطين: الإخلاص والمتابعة.
د – أن العبادات توقيفية، أي الأصل فيها المنع حتى تثبت بالدليل، والأصل في العادات الإباحة حتى يثبت منعها بالدليل.
وأيضاً من الثوابت الشرعية التي يجب على كل مسلم الالتزام بها، أن الله عز وجل شرع لنا عيدين حوليين، وعيداً أسبوعياً، أما العيدان الحوليان فهما، الفطر والأضحى، وأما العيد الأسبوعي فهو يوم الجمعة.
ولذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة من اتخاذ يومين يلعبون فيهما غير يومي الفطر والأضحى، فحينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد أهلها يلعبون في يومين لهما، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ((لقد أبدلكم الله خيرا منهما: يومي الفطر والأضحى)) ولذلك لا يصح اتخاذ أي يوم حولي للفرح والسرور والاحتفال به، غير يومي الفطر والأضحى، سواء سمي ذلك اليوم عيدا أو سمي باسم آخر، فتغيير الاسم لذلك اليوم لا يبيح الاحتفال به، فالعيد ما سمي عيداً إلا للعود، ولأنه يعود، سواء سمي عيداً، أو يوماً للذكرى أو خلافه وسواء كان لمناسبة دينية أو وطنية أو اجتماعية أو ما شابهها فإنه عيد ولو لم يطلق عليه كلمة عيد ما دام يعود كل عام أو كل قرن أو ربع قرن أو نصف قرن.
فهذه القاعدة الجليلة يجب أن يعيها المسلمون ويتفهموها حتى تستبين لهم الطريق، ومن أراد الزيادة فعليه بكتاب شيخ الإسلام رحمه الله- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم - وكتاب الشيخ بكر أبو زيد وفقه الله - اليوبيل بدعة في الإسلام - حتى تتضح له الأمور.
وبعد معرفة هذه الأصول والقواعد الشرعية نتكلم عن المولد النبوي وحكم الاحتفال به، وحتى تتضح لنا الأمور، ونكون على بينة من أمرنا، لا بد أن نتعرف على تاريخ الاحتفال به، ومن هو أول من احتفل به.
أيها الإخوة: إن أول من احتفل بيوم المولد النبوي هم العبيديون كما ذكر ذلك كثير من المؤرخين، ومنهم المقريزي في كتابه – المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.
فالعبيديون، الذين سموا أنفسهم بالفاطميين، كذباً وزوراً، فنسبوا أنفسهم إلى أولاد علي رضي الله عنه، وسموا دولتهم بالدولة الفاطمية، والتي تأسست في الربع الأول من القرن الهجري الرابع وانتهت في منتصف القرن السادس، هم أول من ابتدع الاحتفال بالمولد النبوي. يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية الجزء الحادي عشر.
- وقد كانت مدة ملك الفاطميين حوالي280 سنة، فصاروا كأمس الذاهب، كأن لم يغنوا فيها وكان أول ملك منهم، المهدي وكان من سلمية، حداداً اسمه عبيد، وكان يهودياً، فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه أنه المهدي - إلى أن قال رحمه الله – وظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام لنصرانية والدرزية والحشيشية.
وقد نقل ابن كثير قول العلماء في القرن الخامس الهجري وفتواهم عن هذه الدولة العبيدية – والتي جاء فيها :- إن هؤلاء أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولا يتعلقون بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائع في الحرمين، وأن هذا الحاكم - أي أحد الحكام العبيديون في تلك الفترة – بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون، قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف وادعوا الربوبية.ا.هـ.
وذكر أيضاً رحمه الله في نفس الكتاب كيف فعل هؤلاء العبيديون في الاحتفالات التي صنعوها في يوم المولد النبوي وفي يوم مولد الحاكم وفي غيرها من الموالد التي أحدثوها، حيث كان الناس يؤمرون بالسجود عند ذكر اسم الحاكم أو عند مروره في الشوارع والعياذ بالله، فكانت هذه الدولة وحكامها هم أول من احتفل بالمولد النبوي.
وهنا يتبادر سؤال مهم للأذهان لماذا هذا اليهودي الرافضي المجوسي هو أول من احتفل بالمولد النبوي؟ هل صنع هذا حباً في النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا والله، بل هو - على ما أظن - كره في النبي صلى الله عليه وسلم، لأن اختيار يوم الثاني عشر من ربيع الأول للاحتفال به، إنما هو احتفال وفرح بيوم وفاته صلى الله عليه وسلم [1].. واليهود فرحوا بموته ويفتخرون بأنهم هم الذين قتلوه بوضع السم له في الشاة ،كما هو معلوم للجميع، ولا أظن إلا أن هذا اليهودي العبيدي قد لبّس على الناس وفعل عدة احتفالات بعدة موالد، حتى لا ينكشف أمره، وجعل الاحتفال بيوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام بزعمه احتفالاً بيوم المولد النبوي.
ومما يدل على صحة ظني هذا ما كان يفعله في الاحتفال من أمور محرمة لا يقبل المجاهرة بها الفساق من المسلمين، فكيف بمن هو يدعي محبة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وينسب نفسه إلى الأشراف؟ ومن ولاة أمر المسلمين؟
ولكن لجهل الناس بهؤلاء الحكام، وبتلك الدولة، انطلت عليهم الحيلة، وانساقوا وراءها في فعلها وبدعتها.. وبعد انتهاء حكم العبيدين، ماتت تلك الاحتفالات البدعية.
ولكن في القرن السابع الهجري، قام حاكم إربل واسمه أبو سعيد الكوكبري ابن زين الدين علي بن تبكتكين فأحيا تلك البدعة وقام بالاحتفال بيوم المولد النبوي ونقل ابن كثير رحمه الله في الجزء الثالث عشر من كتابه البداية والنهاية كلاماً لبعض المشاهدين للاحتفال، فقال: حكى بعض من حضر سماط المظفر – أي سرادق ذلك الحاكم – في بعض الموالد.. كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحون حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم.ا.هـ.
أيها الإخوة: هذا تاريخ الاحتفال بيوم المولد النبوي – بدايته من يهودي، بداية فاسقة، ثم أحياها حاكم مبتدع يحب السماع والرقص، فيامن تحتفل بيوم المولد النبوي، إن قدوتك هم هؤلاء العبيديون ومن سار في ركابهم، فهل ترضى أن تقتدي بهم وقد سمعت قول أهل العلم فيهم؟ أما من ترك الاحتفال بيوم المولد فقدوته النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين والعباس وأبناؤه وكل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقدوته الأئمة الأربعة وكبار التابعين وكل العلماء في القرون المفضلة والمحدثين فأي الفريقين أهدى سبيلاً؟
أيها الإخوة: لقد أفتى العلماء أنه لا يصح اتخاذ يوم المولد للذكرى ولا للاحتفال، ولا يصح تخصيصه بذكر معين ولا اجتماع معين، ولا يصح أيضاً اتخاذ أي يوم آخر لأي مناسبة كانت، سواء مناسبة اجتماعية أو وطنية أو سياسية، للذكرى أو الاحتفال، فإن ذلك بدعة ضلالة وإحداث في الدين، وطعن في رسالة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
[1] قال فالثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد سمعت من بعض الناس أنه يود أن يعبر عن حبه للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام الذي يصادف – حسب قول بعض المؤرخين، رغم عدم ثبوت ذلك، يوم مولده صلى الله عليه وسلم - بقراءة شيء من القرآن والسيرة النبوية وإطعام الطعام والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وأنا لا أشك في أن هؤلاء الناس يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويريدون بفعلهم هذا أن يعبروا عن حبهم له صلى الله عليه وسلم.
ويريدون أن يتقربوا إلى الله بفعلهم هذا ويرجون بذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولكن الرد عليهم: هو رد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أولئك النفر الذين جلسوا يسبحون الله في المسجد كما مر معنا فقال لهم: (وكم من مريد للخير لا يدركه). وأيضاً قوله لهم: (لقد جئتم ببدعة ظلما أو قد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم).
ونحذرهم من هذا العمل، كما حذر الإمام مالك رحمه الله ذلك الرجل الذي أراد أن يحرم من عند المسجد النبوي من جوار القبر، حيث قال له: لا تفعل إني أخشى عليك الفتنة، إني سمعت الله يقول: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
ونقول أيضاً: إن الذي أُنزل عليه القرآن علمنا متى؟ وكيف نقرأ القرآن؟ وعلمنا حبه وطاعته صلى الله عليه وسلم، وعلمنا متى وكيف نصلي عليه؟ وكيفية الصلاة عليه وفضل ذلك؟ وما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وما من أمر يحقق لنا شفاعته يوم القيامة إلا وأخبرنا به فلا حاجة لنا لهذا الاجتماع والذكر المخصوص لأنه بدعة ضلالة.
قد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين، فحينما سئل عن صيامه ذلك اليوم قال: ((ذلك يوم ولدت فيه)) فماذا تقول؟.. والرد هو أين الدلالة على الاحتفال بيوم مولده في هذا الحديث؟ أو الاجتماع والذكر فيه؟! لا يوجد في لفظ هذا الحديث ولا في معناه ما يشير من قريب أو بعيد لما تهدف إليه، ولذلك ما فهم الصحابة كلهم ولا الأئمة الأربعة ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله وهو من آل البيت – لم يفهموا من هذا الحديث ما يدل على أن يُتخذ يوم مولده للاجتماع للذكر. إنما فهموا من ذلك الحديث ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الاثنين من كل أسبوع، وخاصة أنه ورد حديث آخر يرغب في صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، لأن الأعمال تعرض في هذين اليومين. فمن أهدى سبيلاً؟ الصحابة والأئمة أم من جاء بعدهم؟ الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون فمن صام يوم الاثنين من كل أسبوع فهو على صراط مستقيم ومتبع هدى سيد المرسلين.
وهناك من يستدل بآيات وأحاديث أخرى ليس فيها دلالة على المولد النبوي، مثل الاستدلال بقوله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون فقال قائلهم: إن الله أمر بالفرح برحمته في هذه الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهذا دليل على جواز الفرح والسرور بيوم مولده، والاجتماع لذلك في كل عام.
فنقول له: إذا قلنا أن المقصود بالرحمة هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الآية لا تدل على ذلك، والفرح في هذه الآية لا يدل على ما تقول، وإن قولك هذا لم يقله أحد من المفسرين أبداً سواء من الصحابة أو من التابعين ومن تبعهم من كبار المفسرين، فهل أنتم أفهم من أولئك العلماء الأفذاذ؟ بل إن في قولك هذا وتفسيرك للفرح بأنه المقصود به الاحتفال بالمولد النبوي اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم ولصحابته بأنهم لم يفهموا مراد ربهم من هذه الآية، ولم يقوموا بتنفيذ أمر الله بالفرح مثل ما قمت أنت به، فهل أنت ومن ساروا في ركابك – الذين يقولون على الله بغير علم – أهدى وأفهم من رسول الله وصحابته؟ كلاَّ الله بل أنتم أضل وأذل أيها المبتدعة، قال الله تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون وقال تعالى: وإن كثيراً لبضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين. وقال تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم.
نسأل الله العافية من الضلال بعد الهدى ومن التقليد الأعمى.
وإن من المضحك المبكي استدلال بعض أهل البدع على جواز إقامة الاحتفال بالمولد النبوي. بأن أبا لهب عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين يخفف العذاب عنه يوم الاثنين من كل أسبوع، لأنه اعتق ثويبة فرحاً بمولد النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءته البشرى في ذلك اليوم، ومستندهم في هذه الرواية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبى سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان فقال: ((أوتحبين ذلك؟)) فقلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ذلك لا يحل لي)). قلت فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال ((بنت أم سلمة ؟)) قلت: نعم. فقال: ((لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري، ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن)).
قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أُريهَ بعض أهله بشر حِيبَةٍ، قال له: مإذا القيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة. [انظر باب النكاح في صحيح البخاري باب 19].
لاحظوا - أيها الإخوة - أن الإمام البخاري رحمه الله ذكر هذه المعلومة عن عروة وهو تابعي وليس بصحابي.. فلو أن التابعي حدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر الصحابي الذي بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لا يعتد بذلك الحديث ولا يؤخذ به، فهو مرسل، والمرسل عند المحدثين من درجات الضعيف، فكيف إذا كانت الرواية تروى عن شخص مجهول؟ وقيل أن سبب ذكره بصيغة المبني للمجهول (أُريه) لأنه مشرك أي أن الذي رأى أبا لهب في المنام مشرك، وليس النبي صلى الله عليه وسلم علماً أن تلك الرؤيا لذلك المجهول حتى لو كان مسلماً لا يؤخذ منها حكم، ولا يعتدّ بها بأي حال من الأحوال، وخاصة أن الثابت بالقرآن والسنة أن الكافر لا يجزى بعمله إلا في الدنيا، أما في الآخرة فليس له إلا النار، قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءًً منثوراً ، ثم إن الرواية لم تذكر أن أبا لهب أعتق ثويبة في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبب فرحه بمولد النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال، فليس في الرواية ما يدل على ذلك لا من قريب ولا من بعيد، وإنما ذكرت أنه أعتق ثويبة دون ذكر سبب ذلك الإعتاق، والثابت أن إعتاق ثوبية ما كان إلا بعد ما كبرت، وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الإصابة. في تمييز الصحابة لابن حجر حيث قال رحمه الله في ترجمة ثوبية: (ثوبية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وهي مولاة أبي لهب.. ثم قال: وقال ابن سعد أخبرنا الواقدي عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كانت ثويبة مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها، وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها لها فامتنع، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وبكسوة حتى جاء الخبر أنها ماتت سنة سبع، مرجعه من خيبر، ومات ابنها مسروح قبلها.
قلت: الكلام لابن حجر – ولم أقف في شيء من الطرق على إسلام ابنها مسروح، وهو محتمل.ا.هـ.
إذاً هي لم تعتق إلا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لو كان دليلهم هذا صحيحاً - وأنى لهم ذلك - فأين صحة الاستدلال على جواز الاحتفال بالمولد النبوي، فلا الدليل ثابت ولا الاستدلال به صحيح، إنما هي ظلمات بعضها فوق بعض، نسأل الله العافية.
لقد كان أبو لهب يتابع النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يدعو الناس بمكة، فيأتي بعده ويكذبه ويتهمه بالسحر وبالجنون، ويعرف الناس بنفسه بأنه أعرف الناس به حتى يصد الناس عن دعوته، فكان من أشد الناس عداوة وإيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنه من شدة إيذائه للنبي صلى الله عليه وسلم وشدة كفره، نزل القرآن بالحكم عليه بالخلود في النار، وهو ما زال حياً يرزق، أفلا يناقض هذا ما يشير به هؤلاء المبتدعة إلى أنه كان فرحاً بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولا أظن أن عاقلاً يقول مثل قولهم هذا، ولكنني أتعجب من أهل البدع وجرأتهم على الكذب والاستخفاف بعقول الناس حتى يذكروا هذه القصة ليستشهدوا بها على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي، فهل أبو لهب قدوتكم أيضاً؟ نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة.
إن كل ما يستشهد به من يبيح الاحتفال بيوم المولد النبوي، من شواهد وأدلة إما أن يكون كذباً وزوراً، أو يكون غير صالح للاستدلال ولا يدل من قريب ولا من بعيد على ذلك، إنما هو من المغالطة والشغب والتلبيس على عوام الناس، ليظهروا أمامهم أنهم متبعون للدليل وهم أبعد الناس عن الدليل.
أيها الإخوة: إن مما يدل دلالة عقلية على بطلان الاحتفال بيوم المولد النبوي أن كل الفرق الضالة تحتفل به.. فالرافضة الذين يتهمون عائشة رضي الله عنها ويلعنون الشيخين أبا بكر وعمر، ويكفرون بعض الصحابة، يحتفلون بالمولد النبوي، والنصيرية والبهائية والصوفية عباد القبور والأضرحة، وغيرهم، وغيرهم كثير من الفرق التي أفتى العلماء بضلال وكفر بعضها.
بل بعض هذه الفرق تكفر الأخرى، ولكنهم كلهم يشتركون في الاحتفال بالمولد النبوي.. فهل هذه الفرق محبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ كذلك يُدعى في يوم الاحتفال بالمولد النبوي الرسميّ الذي تقيمه بعض حكومات البلاد الإسلامية يُدعى السفراء الكفار من اليهود والنصارى، ويُدعى الفجار من الممثلين والممثلات والمطربين والمطربات، ويدعى المنحرفون من أصحاب الأفكار الهدامة، فهل هؤلاء فرحون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم ما يقال ويفعل ويمارس، وما يؤكل ويشرب في هذه الاحتفالات وما يحدث فيها من أمور مشينة، لا يرضاها الله ولا رسوله ولا المسلمون المتبعون لسنته صلى الله عليه وسلم، وهي أمور مشاهدة معلومة لا داعي لذكرها، إنما هي كلها دلائل على بطلان هذا الاحتفال، ويدل على أنه بدعة ضلالة.
وإن من أشنع ما يكون في هذه الاحتفالات، هو ما يعتقده الدعاة إليها أن من لم يحضر هذه الاحتفالات أو لا يفعلها فهو لا يحب النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن من لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم فهو منافق كافر.
وأيضاً يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بنفسه هذه الموالد أو أن روحه تحضر هذه الاحتفالات ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم يجيب دعواتهم واستغاثاتهم، وأنه يعلم الغيب وبيده مقاليد السموات والأرض وبيده إقطاع الجنة لمن يشاء، لا أقول هذا الكلام من عندي، إنما هو مذكور ومنشور في كتبهم وأشرطتهم المسجلة التي ليست ببعيدة عمن يريد تناولها أو سماعها.
لقد وقع هؤلاء المبتدعة في إثم عظيم حيث ضللوا - وهم يشعرون أو لا يشعرون - كل الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وكل من لم يحتفل بيوم المولد النبوي إلى يوم القيامة وذلك حين قالوا بأن من لم يحتفل بالمولد النبوي مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم.
وسقطوا سقطة عظيمة حينما قرروا أن النبي صلى الله عليه وسلم أو روحه الشريفة تحضر هذه الاحتفالات.. فكأن الذي يتحكم في خروج النبي صلى الله عليه وسلم من قبره، أو إهباط روحه الشريفة من أعلى عليين إلى الدنيا هم الذين يقيمون الاحتفالات.. بيوم مولده. وازدادوا فسوقاً على فسوقهم باستغاثتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الحاجات منه واعتقادهم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب وبيده مقاليد السموات والأرض نعوذ بالله من الضلال والعمى.
أفلا يدل ذلك كله أيها الإخوة على بطلان هذه الاحتفالات؟ وأنها كلها ضلالات؟ بلى ورب الكعبة، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أما نحن المتبعون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، السلفيون الذين نتبع سلفنا الصالح، المقتدون بهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم نترك هذه الاحتفالات بيوم مولده لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ذلك مع وجود الداعي والمقتضي له، ونترك فعل هذه الاحتفالات لأن الصحابة تركوها وما فعلوها، ولأن الأئمة الأربعة تركوها وما فعلوها، فهم قدوتنا في ذلك، أما أنتم يا من تفعلون هذه الأمور إما أن يكون قدوتكم أولئك الذين طردهم عبد الله بن مسعود من المسجد، فأصبحوا من الخوارج الذين قاتلوا الصحابة، كما أخبر بذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث ذكر أن أولئك الذين ابتدعوا تلك البدعة في المسجد.أنهم كانوا مع أولئك الذين قاتلوا الصحابة في النهر وان وإما أن يكون قدوتكم الدولة العبيدية اليهودية الكافرة حيث هم أول من احتفل بيوم المولد النبوي. أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم.
قال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً.
(1/1555)
دعاء ختم القرآن في الصلاة
فقه, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الصلاة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الإحداث في الدين ، والحث على الاتباع. 2- تقليد العلماء يلزمه معرفة أدلتهم. 3-
مواسم محدثة يحتفل بها الناس. 4- ما فعله السلف فعلناه وما تركوه تركناه. 5- القنوت في
صلاة الوتر في رمضان. 6- دعاء ختم القرآن في صلاة التراويح.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما جاء في حديث العرباض بن سارية: ((إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ديناً وقربة، أو مما لم يكن عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فليس اليوم ديناً.. فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله وفعله من غير أن يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذ شريكاً لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله. قال تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.
قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله أي اتخذوا العلماء والعباد آلهة من دون الله باتباعهم فيما شرعوا لهم بما يخالف شرع الله فأطاعوهم.
قد يكون أيها الإخوة: الفاعل الأول للعمل المحدث. متأولاً أو مجتهداً فيؤجر على اجتهاده حتى ولو أخطأ، ولكن لا يجوز اتباعه في اجتهاده إذا لم يكن له دليل من القرآن أو السنة.
وهذا ما قال به الأئمة فهم ينهون عن تقليدهم إلا إذا عرف الناس دليلهم، وكل منهم يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) لأن الأصل هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله، باتباعه فيما شرع، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
ومن الأمور التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها الاحتفال وتخصيص مواسم للفرح بأيام غير يومي عيد الفطر والأضحى، فهما العيدان الثابتان للمسلمين.. فلا يصح تخصيص يوم للاحتفال والفرح بالمولد، ولا بليله الإسراء والمعراج، ولا بليلة الهجرة النبوية، ولا بليلة غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان ولا بغيرها من ليالي وأيام محدثة كاليوم الوطني، أو أسبوع الشجرة، أو ذكرى العبور أو التحرير....
فكل هذه الأيام التي يحتفل فيها أو بها إنما هي من البدع المحدثة التي ينبغي للمسلمين تركها.
أيها الإخوة: لقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة المكية. وكانت غزوة بدر الكبرى في بداية هجرته للمدينة النبوية ومكث النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب ثماني سنوات بعد الغزوة فلم يجتمع بأصحابه ليلة الإسراء والمعراج ولم يخصص لها يذكر معين أو عبادة معينة ولم ذكر أصحابه بيومها أو ليلتها ولم يأمرهم بالإعلان عن هذه الذكرى المجيدة وإعلانها بين الناس أو الاجتماع ليلتها للذكر وقراءة القرآن وأكل الطعام، بالرغم من أنه ليس هناك مانع من ذلك، فما تركه النبي صلى الله عليه وسلم نتركه، فالسنة كما تكون في الفعل تكون في الترك، وكما أننا لا نتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك، فالفاعل لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم كالتارك لما فعله صلى الله عليه وسلم.
ولو استعرضنا حياة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من التابعين لم نجد أحداً منهم فعل هذه الأمور التي يفعلها بعض الناس هذه الأيام من الاحتفالات البدعية بليلة المولد أو ليلة الإسراء أو ليلة النصف من شعبان أو ليلة غزوة بدر وغيرها. وإنما كان همهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما شرعه للأمة دون زيادة أو نقص في صلاة الليل، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان وكصيام يوم عاشوراء، ويومي الاثنين والخميس، والأيام البيض من كل شهر وغيرها من الأمور الثابتة والصحيحة.
وقد ذكرنا أيها الإخوة: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وعدد ركعاتها وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس في عدة سنوات في رمضان وفي ليالي معدودة منه ثم لم يصلي بالناس التراويح خشية أن تفرض علينا، وبالتأكيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ختم القرآن مراراً وتكراراً، قراءة، وتلاوة أو في قيام الليل، وقد صلى الوتر كل ليلة فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر جماعة حينما صلى بالناس في المسجد في عدة رمضانات كما قلنا.
ولكن الصحابة في عهد عمر رضي الله عنهم اجتمعوا وقنتوا في النصف الثاني من رمضان وهذا إجماع منهم على هذا الفعل، ونحن مأمورين باتباعهم، فلذلك يكون القنوت في النصف الثاني من رمضان هو الأولى.
وأما دعاء ختم القرآن فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، لا جماعة ولا منفردين، دعاء لختم القرآن في الصلاة أي أثناء الصلاة كما يفعل الآن بعد أن يقرأ بقل أعوذ برب الناس يرفع الإمام يديه ويدعو بدعاء يسمى دعاء ختم القرآن قبل الركوع.
هذا الأمر أيها الإخوة كما قلت لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا في صلاة ولا في غيرها، كذلك الصحابة لم يثبت عنهم هذا الفعل في صلاة التراويح، وقد اجتمعوا في صلاة التراويح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين وقنتوا في النصف الثاني من رمضان ونقل لفظ القنوت الذي قنتوا به، وكان الإمام يقرأ بالمئات من الآيات في الركعة الواحدة، حتى قال الصحابة كنا نتكئ على العصي من طول القيام، فربما ختموا القرآن في ثلاثة أيام أو في سبعة أيام، ولم يفعلوا هذا الدعاء المسمى دعاء ختم القرآن وإلا لنقل إلينا ذلك، فشيء تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، ولم يفعله الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين مع وجود الداعي لذلك مع عدم وجود المانع، فالأولى تركه وعدم فعله.
وقد نقل عبد الرحمن المقدسي المتوفي سنة 665هـ في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث عن الإمام أبو بكر الطرطوشي قوله: وقد أنكر الإمام أبو بكر الطرطوشي على أهل القيروان اجتماعهم ليلة الختم في صلاة التراويح في شهر رمضان ونصب المنابر، وبين أنه بدعة ومنكر وأن مالكاً رحمه الله تعالى كرهه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: قد يقول قائل إن الحنابلة نقلوا استحباب الإمام أحمد رحمه الله الدعاء عقب الختم فما تقول؟
عليه أبين لأخوتي أن الشيخ بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء ألف جزءاً جمع فيه كل المرويات المطبوع منها والمخطوط وأقوال الإمامين أحمد ومالك رحمهما الله، وذكر أنه لم يتحصل الوقوف على شيء من مشروعية ذلك في منصوص الإمامين أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله مما يدل على أن الأمر لم يكن مشتهراً والله أعلم.
وسأقرأ من نفس الجزء بعض ما يمكن قراءته حتى لا يطول بنا الوقت للعلم والإحاطة بهذا الموضوع.
بعد ما ذكر الشيخ المرويات في دعاء ختم القرآن قال:
أولاً: إنه ليس فيما تقدم من المروي حرف واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم، يفيد مشروعية الدعاء في الصلاة بعد الختم قبل الركوع أو بعده لإمام أو منفرد.
ثانياً: أن نهاية ما في الباب: هو ما يذكره علماء المذهب من الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية: حنبل والفضل، والحربي عنه – والتي لم نقف على أسانيدها – من جعل دعاء الختم في صلاة التراويح قبل الركوع. وهذه مع جلالة القائلين بها لم يذكروا رحمهم الله تعالى ما يسند المشروعية من نص ثابت في سنده ودلالته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته رضي الله عنهم، ومن خلال تتبع المروي في (الفصل الأول) من هذه الرسالة لم نحس له بأثر ولا أثارة؟ وهذه من العبادات الجهرية التي لو وقعت لنقل إلينا وقوعها واشتهر أمرها في كتب الرواية والأثر. بل في رواية حنبل لما قال لأحمد رحمه الله تعالى: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه...: دليل على أنه لو كان عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى سنة ماضية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو متصلة العمل بعصر الصحابة رضي الله عنهم، لاعتمدها في الدلالة، وهو رحمه الله تعالى من أرباب الإحاطة في الرواية.
فلم يبق في الدلالة عنده إلا عمل المصريْن: مكة والبصرة. وكم لأهل مصر من عمل لم يتابعهم عليه أحد. مثل أهل مكة في عدة مسائل كما في (أخبار مكة) للفاكهي.
وعليه فليعلم أن توارث العمل يكون في موطن الحجة حيث يتصل بعصر التشريع كتوارث مقدار الصاع، والمد النبوي، وأعيان المشاعر، ونحو ذلك. ولهذا فإن مالكاً رحمه الله تعالى وهو عالم المدينة في زمانه كره الدعاء بعد الختم مطلقاً: وقال: ما هو من عمل الناس، وظاهر من هذا أنه من العمل المتأخر عن عصر الصحابة رضي الله عنهم والمتحرر عند علماء الأصول: أن جريان العمل فيما لا يتصل بعصر الصحابة رضي الله عنهم لا يعتبر حجة في (التعبد) ولا يلتفت إليه لقاعدة (وقف العبادات على النص ومورده) وظاهر من كلمة الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه لم يكن محل اتفاق بعدهم رضي الله عنهم.
ثالثاً: أن أمراً تعبدياً: وهو الدعاء في الصلاة لختم القرآن قبل الركوع، أو بعده، من إمام، أو منفرد – لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم – بل لم يرو فيه شيء – ولا عن صحابته رضي الله عنهم؟ ثم تعمر به (المحاريب) بدعاء فيه ما هو متكلف مسجوع، غير مأثور. يشغل نحو ساعة من الزمان. يتلى بصوت التلاوة وأدائها، وتحرير النغم فيه. يكون عن ظهر قلب، أو في رسالةٍ ربما وصلت ثمانين صفحةً – أي تعدل تلاوة خمسة أجزاء من كتاب الله تعالى. مع رفع الأيدي، ومسح الوجه بهما بعد الفراغ، ويبكي من شاء الله من مأموم وإمام – أثابهم الله على حسن نيتهم – وقوارع التنزيل، وآيات الذكر الحكيم، تتلى في ليالي الشهر، بل على ممر العام، لا تكاد تسمع ناشجاً ولا نابساً ببكاء من مأموم أو إمام، والله تعالى يقول: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله الآية.
إن أمراً شأنه كذلك لا يتعبد به إلا بنص ثابت في سنده ودلالته، والنص في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من صحابته رضي الله عنهم لم يحصل بعد التتبع البالغ، وعدم وقوف الحفاظ الجامعين على شيء في ذلك كما تقدم يدل على عدم وجوده.
ورحم الله الإمام أحمد، إذ في رواية عبدوس عنه: أن الإمام إن زاد حرفاً في دعاء القنوت على الوارد – فاقطع صلاتك؟ فكيف بدعاء يستغرق نحو ساعة من الزمان لم يرتبه النبي صلى الله عليه وسلم ولا شيئاً منه لختم القرآن. ثم قال حفظه الله: إن دعاء ختم القرآن في الصلاة، من إمام أو منفرد قبل الركوع أو بعده في التراويح أو غيرها لا يعرف ورود شيء فيه أصلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته مسنداً. وأن قاعدة العبادات: وقفها على المنصوص ومورده. وأن من مقتضيات الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبد الله إلا بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه الآية. وهذا العمل مما لم يعلم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشرع إذاً في أصح قولي العلماء رحمهم الله تعالى.
ثم ختم كتابه بكلمة كتبها فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين حفظه الله:
كلمة عن هذه الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
"الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فقد قرأت الرسالة التي كتبها أخونا الشيخ / بكر أبو زيد، حول الدعاء عند ختم كتاب الله العزيز، فألفيته قد أجاد فيها وأفاد، في بحث علمي رصين. وما ذكره من أنه لا دليل على الدعاء عند ختم القرآن الكريم في الصلاة فإن الأمر عندي كما قال فجزاه الله تعالى خيراً وجعلنا وإياه من الهداة المهتدين الصالحين المصلحين إنه جواد كريم.
قال ذلك كاتبه: محمد بن صالح العثيمين قي 24/1/1408هـ".
(1/1556)
شرح بعض أسماء الله الحسنى
التوحيد
الأسماء والصفات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيف يحصي المسلم أسماء الله الحسنى. 2- ذكر أسماء الله الحسنى وما لها من أثر في
الخلق. 3- بعض الإطلاقات المبتدعة والمنكرة في باب الأسماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: قال الله تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لله تسعة وتسعون اسماً - مائة إلا واحدة - لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)) وفي رواية: ((من أحصاها دخل الجنة)) والحفظ والإحصاء يكون بمعرفتها لفظاً ومعنى والقيام بحقها والدعاء بها. وقد وردت أسماء لله تعالى وصفات له في القرآن والسنة سنذكرها في خطبة اليوم على قدر المستطاع. بإذن الله.
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو ولا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة. ولذا قضى أن لا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير، فهو الله الذي تؤلِّهه القلوب بالمحبة والتعظيم، عالم الغيب والشهادة الذي استوى في علمه ما أسر العبدُ وما أظهر، الذي علم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. الرحمن الرحيم. رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم الراحمين، الذي غلبت رحمته غضبه كما كتب ذلك عنده في الكتاب المبين، الذي وسعت رحمته كل شيء وبها يتراحم الخلائق بينهم.
كما ثبت ذلك عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن الله يحي الموتى وهو على كل شيء قدير. الملك الحق الذي بيده ملكوت كل شيء ولا شريك له في ملكه ولا معين، المتصرف في خلقه بما يشاء من الأمر والنهي والإعزاز والإذلال والإحياء والإماتة والهداية والإضلال، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، له ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير. القدوس السلام الذي اتصف بصفات الكمال، وتقدس عن كل نقص ومحال، وتعالى عن الأشياء والأمثال، حرام على العقول أن تصفه، وعلى الأوهام أن تكيفه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. المؤمن الذي أمَّن أولياءه من خزي الدنيا ووقاهم في الآخرة عذاب الهاوية، وآتاهم في هذه الدنيا حسنة وسيحلهم دار المقامة في جنة عالية.
المهيمن الذي شهد على الخلق بأعمالهم وهو القائم على كل نفس بما كسبت، لا تخفى عليه منهم خافية، إنه بعباده لخبير بصير.
العزيز الذي لا مغالب له ولا مرام لجنابه.
الجبار الذي له مطلق الجبروت والعظمة.
المتكبر الذي لا ينبغي الكبرياء إلا له ولا يليق إلا لجنابه.
العظمة إزاره والكبرياء رداؤه، فمن نازعه صفة منها أحل به الغضب والموت والتدمير.
الخالق البارئ المصور لما شاء إذا شاء في أي صورة شاء من أنواع التصوير، وهو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ، ما خلْقكم وما بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير.
الغفار الذي لو أتاه العبد بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئاً لأتاه بقرابها مغفرة.
القهار الذي قصم بسلطان قهره كل مخلوق وقهره.
الوهاب الذي كل موهوب وصل إلى خلقه، فمن فيض بحار جوده وفضله ونعمائه الزاخرة.
الرزاق الذي لا تنفد خزائنه ولم يغض ما في يمينه، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ماذا نقص من فضله الغزير، يرزق من هذه الدنيا من يشاء من كافر ومسلم أموالاً وأولاداً وأهلاً وخدماً، ولا يرزق الآخرة إلا أهل توحيده وطاعته، قضى ذلك قضاء حتما ً مبرماً، وأشرف الأرزاق في هذه الدار ما رزقه عبده على أيدي رسله من أسباب النجاة، من الإيمان والعلم والحكمة وتبيين الهدى المستنير، من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
الفتاح الذي يفتح على من يشاء بما يشاء من فضله العميم، يفتح على هذا مالاً وعلى هذا ملكاً وعلى هذا علماً وحكمة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
العليم الذي أحاط علمه بجميع المعلومات من ماضٍ وآتٍ وظاهرٍ وكامنٍ ومتحركٍ وساكنٍ وجليلٍ وحقيرٍ. علم بسابق علمه عدد أنفاس خلقه وحركاتهم وسكناتهم وأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ومن منهم من أهل الجنة ومن منهم من أهل النار في العذاب المهين، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير.
القابض الباسط [1] ، فيقبض عمن يشاء رزقه فيقدره عليه، ويبسطه على من يشاء فيوسع عليه، وكذا له القبض والبسط في أعمال عباده وقلوبهم كل ذلك إليه، إذ هو المتفرد بالإحياء والإماتة والهداية والإضلال والإيجاد والإعدام وأنواع التصرف والتدبير.
الخافض الرافع الضار النافع المعطي المانع، فلا رافع لمن خفض، ولا خافض لمن رفعه، ولا نافع لمن ضر، ولا ضار لمن نفعه، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لمن منع، فلو اجتمع أهل السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن وما بينهما على خفض من هو رافعه، أو ضر من هو نافعه، أو إعطاء من هو مانعه لم يك ذلك في استطاعتهم، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير.
المعز المذل الذي أعز أولياءه المؤمنين في الدنيا والآخرة وأيدهم بنصره المبين وبراهينه القويمة المتظاهرة، وأذل أعداءه في الدارين وضرب عليهم الذلة والصغار وجعل عليهم الدائرة فما لمن والاه وأعزه من مذل، وما لمن عاداه وأذله من ولي ولا نصير.
السميع البصير لا كسمع ولا بصر أحد من الورى، القائل لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى ، فمن نفى عن الله ما وصف به نفسه أو شبه صفاته بصفات خلقه فقد افترى على الله كذباً وقد خاب من افترى، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
الحكم العدل في قضائه وقدره وشرعه وأحكامه قولاً وفعلاً إن ربي على صراط مستقيم. فلا يحيف في حكمه ولا يجور، وما ربك بظلام للعبيد. الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً ووعد الظالمين الوعيد الأكيد، وفي الحديث: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، فلا حاكم إلا الله ولا يجوز تحكيم قانون ولا نظام سوى حكم الله قال تعالى: ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وهو الذي يضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً بل يحصي عليهم الخردلة والذرة والفتيل والقطمير.
اللطيف بعباده معافاة وإعانة وعفواً ورحمة وفضلاً وإحساناً، الخبير بأحوال مخلوقاته وأقوالهم وأفعالهم ماذا عملوا وكيف عملوا وأين عملوا ومتى عملوا حقيقة وكيفية ومكاناً وزماناً، إنها إن تكُ مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير.
الحليم فلا يعاجل أهل معصيته بالعقاب، بل يعافيهم ويمهلهم ليتوبوا فيتوب الله عليهم إنه هو التواب العظيم.
الغفور الشكور الذي يغفر لكثير من الزلل، ويقبل اليسير من صالح العمل، فيضاعفه أضعافاً كثيرة ويثبت عليه الثواب الجلل، وكل هذا لأهل التوحيد، أما الشرك فلا يغفره ولا يقبل معه من العمل من قليل ولا كثير.
العلي الذي ثبت له كل معاني العلو، علو الشأن وعلو القهر وعلو الذات ن الذي استوى على عرضه وعلا على خلقه بائناً من جميع المخلوقات، كما أخبر بذلك عن نفسه في كتابه وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم في أصح الروايات، وأجمع على ذلك أهل الحل والعقد بلا نزاع بينهم ولا نكير: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.
الكبير الذي كل شيء دونه، والأرض قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه كما أخبر بذلك عن نفسه نصاً بيناً محكماً، الحفيظ على كل شيء فلا يعزي عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الذي وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما، حفظ أولياءه في الدنيا والآخرة ونجاهم من كل أمر خطير.
المغيث لجميع مخلوقاته فما استغاثة ملهوف إلا نجاه.
الحسيب الوكيل الذي ما التجأ إليه مخلص إلا كفاه، ولا اعتصم به مؤمن إلا حفظه ووقاه.
ومن يتوكل على الله فهو حسبه فنعم المولى ونعم النصير.
الجليل الذي جل عن كل نقص واتصف بكل كمال وجلال، الجميل الذي له مطلق الجمال في الذات والصفات والأسماء والأفعال، الكريم الذي لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، كما روى عنه نبيه المصطفى المفضال، ومن كرمه أن يقابل الإساءة بالإحسان والذنب بالغفران ويقبل التوبة ويعفو عن التقصير.
الرقيب على عباده بأعمالهم ،العليم بأقوالهم وأفعالهم، الكفيل بأرزاقهم وآجالهم وإنشائهم ومآلهم المجيب لدعائهم وسؤاله وإليه المصير.
الواسع الذي وسع كل شيء علماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً.
الحكيم في خلقه وتدبيره إحكاماً وإتقاناً، والحكيم في شرعه وقدره عدلاً وإحساناً، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، ومن أكبر من الله شهادة وأوضح دليلاً وأقوم برهاناً، فهو العدل، وحكمه عدل، وشرعه عدل، وقضاؤه عدل، فله الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
الودود الذي يحب أولياءه ويحبونه كما أخبر عن نفسه في محكم الآيات، المجيب لدعوة الداعي إذا دعاه في أي مكان كان، وفي أي وقت من الأوقات، فلا يشغله سمع عن سمع ولا تختلف عليه المطالب ولا تشتبه عليه الأصوات، فيكشف الغم ويذهب الهم ويفرج الكرب، ويستر العيب وهو السِّتير.
المجيد الذي هو أهل الثناء كما مجد نفسه وهو الممجد على اختلاف الألسن وتباين اللغات بأنواع التمجيد.
الباعث الذي بدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه، إنه هو الفعال لما يريد، الشهيد الذي هو أكبر كل شيء شهادة وكفى بالله شهيداً.
أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، القوي المتين الذي لم يقم لقوته شيء وهو الشديد المحال، الولي للمؤمنين فلا غالب لمن تولاه وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وماله من دونه من وال.
الحميد الذي ثبت له جميع أنواع المحا مد، وهل يثبت الحمد إلا لذي العزة والجلال، فله الحمد كما يقول وخيرا مما نقول، لا نحصي ثناءاً عليه هو كما أثنى على نفسه، وكيف يحصي العبد الضعيف ثناءً على العلي الكبير.
المحصي الذي أحصى كل شيء عدداً وهو القائل: وكل شيءٍ أحصيناه في إمام مبين المبدىء المعيد الذي قال وهو أصدق القائلين: كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين. وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه. وأنى يعجزه إعادته وقد خلقه من قبل ولم يك شيئاً ،كل يعلم ذلك ويقر به بلا نكير.
المحيي المميت الذي انفرد بالإحياء والإماتة فلو اجتمع الخلق على إماتة نفس هو محييها أو إحياء نفس هو مميتها لم يكُ ذلك ممكناً وهل يقدر المخلوق الضعيف على دفع إرادة الخالق العلام، الحي الدائم الباقي الذي لا يموت، وكل ما سواه زائل كما قال تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
القيوم الذي قام بنفسه ولا قوام لخلقه إلا به، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره. الواحد الأحد الذي لا شريك له في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وملكوته وجبروته وعظمته وكبريائه وجلاله، لا ضد له ولا ند ولا شبيه ولا كفء ولا عديل.
الصمد الذي يصمد إليه جميع الخلائق في حوائجهم ومسائلهم، فهو المقصود إليه في الرغائب، المستغاث به عند المصائب، فإليه منتهى الطلبات، ومنه يسأل قضاء الحاجات، وهو الذي لاتعتريه الآفات، وهو حسبنا ونعم الوكيل. فهو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في صفات الكمال، ولا تنبغي هذه الصفات لغير الملك الجليل.
القادر المقتدر الذي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض، إنه على كل شيء قدير.
المقدم المؤخر بقدرته الشاملة ومشيئته النافذة على وفق ما قدره وسبق به علمه وتمت به كلمته بلا تبديل ولا تغيير.
الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، هكذا فسره البشير النذير، الوالي فلا منازع له ولا مضاد، المتعالي عن الشركاء والوزراء والنظراء والأنداد.
البر وصفاًُ وفعلاً ومن بره المن على أوليائه بإنجائهم من عذابه كما وعدهم على ألسنة رسله إنه لا يخلف الميعاد.
التواب الذي يرزق من يشاء التوبة فيتوب عليه وينجيه من عذب السعير.
المنتقم الذي لم يقم لغضبه شيء وهو الشديد العقاب والبطش والانتقام.
العفو بمنه وكرمه عن الذنوب والآثام، الرؤوف بالمؤمنين ومن رأفته بهم أنه أنزل على عبده آيات مبينات ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، ومن رأفته بهم أن اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة مع كون الجميع ملكه ولم ينزع عنهم التوبة قبل الحِمام، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، ذي الجلال والإكرام والعزة والبقاء والملكوت والجبروت والعظمة والكبرياء، المقسط الذي أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وما للظالمين من نصير. الجامع لشتات الأمور وهو جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، الغني المغني فلا يحتاج إلى شيءٍ ولا تزيد في ملكه طاعة الطائعين ولا تنقصه معصية العاصين من العباد. وكل خلقه مفتقرون إليه لا غنى بهم عن بابه طرفة عين، وهو الكفيل بهم رعاية وكفاية وهو الكريم الجواد، وبجوده عم جميع الأنام من طائع وعاص وقوي وضعيف وشكور وكفور ومأمور وأمير. نور السموات والأرض ومن فيهن كما وصف نفسه بذلك في كتابه الكريم سبحانه وتعالى فنعوذ بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بنا غضبه أو ينزل بنا سخطه.
[1] هذه الأسماء ينبه عليها بأنه يجب أن يطلق كل أسمين متقابلين مع بعضهما – القابض الباسط، الخافض الرافع، الضار النافع، المعطي المانع – فلا يصح أن يقال – القابض – الخافض – الضار – المانع، كل اسم بمفرده أبداً. كما لا يصح اشتقاق أسماء من هذه الصفات التي وردت في القرآن على سبيل المقابلة في قوله الله تعالى ( ويمكرون ويمكر الله ) و( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) وأمثالها. فلا يصح أن نشتق اسماء، المستهزئ، أو المكار، أو الماكر، أو المخادع، وما شابهها، إشتقاقاً من تلك الصفات التي وردت في القرآن على وجه المقابلة مع المنافقين أو الكفار.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: إن الحديث الذي ذكرناه والذي فيه أن لله تسعة وتسعون اسماً، ليس معناه الحصر، فأسماء الله تعالى لا تعد ولا تحصى ولا نعلم كم هي في الحقيقة، فهناك أسماء لله تعالى أستأثر بها في علم الغيب عنده، كما جاء في الحديث الصحيح: ((اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك..)) الخ الحديث. ولكن علينا معرفة أسماء الله تعالى التي جاءت في القرآن والسنة لندعو الله بها، كما قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.
فالمؤمنون الموحدون المتبعون للنبي صلى الله عليه وسلم يحققون دعوة ربهم ويدعونه بأسمائه وصفاته كما فعل الأنبياء. وقد ذكر أهل العلم أن من الإلحاد في أسماء الله إطلاقها على غيره، والعياذ بالله من ذلك، وهذا ما يفعله أهل البدع وما يكتبونه في كتبهم، فلقد رأيت لأحدهم قولاً عجيباً حيث قال: إن أسماء الله تعالى هي أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدري كيف أطاعته يده في كتابة هذا القول العظيم الذي تكاد السموات أن يتفطرن منه وتخر الجبال هداً؟ هل يتوجه المسلم بقلبه وقالبه يدعو ربه بقوله: يا رب يا رحمن يا واحد يا كريم يا حي يا قيوم يا عزيز يا غفار يا رزاق يا كريم يا عفو يا غفور يا ذا الجلال والإكرام وفي نفسه أنه يذكر أسماء النبي صلى الله عليه وسلم لا أظن عاقلاً مؤمناً يقول ذلك..
وهل يتوجه العبد المسلم فيقول يا جبار يا واحد يا قهار أهلك الكفار وهو يقصد بذلك دعاء النبي صلى الله عليه وسلم..لا والله لا يمكن أن يقول ذلك مسلم موحد، ولكنه يقول ذلك هذا المبتدع الملحد؟ نسأل الله العافية.
ولقد رأيت قصيدة لأحد هؤلاء المبتدعة يقرر فيها أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الله الحسنى... ومنها اسم جبار. فيسمي النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم: جبار.. والله عز وجل يخاطب نبيه في سورة (ق) بقوله: ما أنت عليهم بجبار والله عز وجل يقول: وخاب كل جبار عنيد فكيف يخالف هذا المبتدع قول الله عزل وجل ويسمي النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم؟ إنه الإلحاد في أسماء الله، نسأل الله العافية.
وأما التعطيل في أسماء الله مثل قول بعض أهل البدع: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، وعلى المسلم أن يحذر من إطلاق أسماء لله أو صفات له لم تثبت، مثل النصارى الذي يطلقون على الله اسم (الأب)، أو كما يفعل الملاحدة الفلاسفة فيسمونه موجباً بذاته.. أو كما يقول بعض الكتاب فيطلقون اسم مهندس الكون على الله عز وجل، أو كما يقول العوام. أبو خيمة زرقاء ويصفونه سبحانه بأن وجهه ليس عليه غطاء.. وهذا كله مخالف لما ثبت في القرآن والسنة.
والصحيح أن أسماء الله وصفاته كلها توقيفية. فلا نثبت إلا ما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة. ولا نطلق على الله إلا ما أطلقه هو على نفسه سبحانه وتعالى.. أو ما ذكره رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: تفكروا في أسماء الله وصفاته بعد حفظها وفهم معناها، وتعبدوا الله بها، فما كان دالاً على العظمة والجبروت والكبرياء، فلنؤمن بها ولنوطن أنفسنا على الخضوع والخشوع لها، وما كان منها دالاً على الرحمة والمغفرة، فلنوطن أنفسنا على الخير والتراحم والدعاء بها لطلب المغفرة والرحمة من الله سبحانه وتعالى.
اسأل الله العلي العظيم أن يفقهنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إ له إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1557)
طرق زيادة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط قبول العمل. 2- أداء الواجبات وترك المنهيات أول طريق الجنة. 3- فعل النوافل
سبب في رفعة الدرجات. 4- اتباع النبي في سائر أفعاله وأحواله دليل محبته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: كما ذكرنا سابقاً أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تتناسب تناسباً طردياً مع الإيمان، فكلما زاد الإيمان في قلب العبد زادت محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلما نقص الإيمان نقصت المحبة، فعلى العبد المؤمن أن يسعى بكل طاقته وقدر استطاعته إلى زيادة الإيمان في قلبه بفعل المأمورات وترك المنهيات، وأول خطوة نحو تحقيق ذلك، بل وأسه وأساسه، تحقيق العبودية لله وتحقيق المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلا يقوم العبد المؤمن بأي عبادة ويرجو من الله قبولها، إلا بتحقيق الإخلاص لله عز وجل، واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويجعل نصب عينيه أن أي عمل دخله شيء من الشرك الأكبر أو الأصغر، فإن ذلك العمل غير مقبول، وأن أي عمل ليس موافقاً لسنة وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فإن ذلك العمل مردود وغير مقبول، ويستيقن العبد المؤمن في نفسه أن الشرك الأكبر يبطل جميع الأعمال، قال تعالى في خطابه لسيد الموحدين صلى الله عليه وسلم: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين فالعبد المؤمن يحقق معنى العبودية، بالإخلاص في جميع أحواله، فلا يدعو إلا الله ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوجه بقلبه في أي عبادة ظاهرة كالحج والصلاة والزكاة وغيرها من العبادات إلا لله وحده.
وكذلك في العبادات الباطنة، كالخشية والرغبة والرهبة والخوف والرجاء والإنابة وغيرها من العبادات، لا يصرفها إلا لله وحده سبحانه وتعالى، مستيقناً أن الله على كل شيء قدير، وأنه بيده ملكوت السموات والأرض، وأنه لو اجتمع من في الأرض على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، أو على أن يضروه بشيء لن يضروه بشيء إلا قد كتبه الله عليه، وأنه سبحانه وتعالى بيده الإحياء والإماتة، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وأن الشفاعة لا تكون يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن الله للشافع، وأن يرضى عن المشفع فيه، وأنها لا تكون إلا لعباده المؤمنين الموحدين، لمن كان مطيعاً لكل ما أمر الله به ولكل ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، متبعاً للحلال، مجتنباً للحرام، متورعاً ومتنزهاً عن الشبهات، وإذا ألمّ بشيء عاد وأناب، وإلى الله تاب، جاعلاً سنة النبي في بؤرة اهتماماته، إذا أراد أن يصلي اقتدى بالنبي في كيفية الصلاة، وإذا أراد أن يحج اهتدى بهداه، وكذلك في سائر العبادات، فلا يدعو إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر الله في صلاته أو حجه أو طرفي النهار، إلا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي عليه إلا بالصلاة الثابتة التي علمها لأصحابه وبالطريقة والكيفية والعدد الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، ويتشبه به صلى الله عليه وسلم في مظهره ومخبره، في أكله وشربه، في نومه ويقظته، في استقباله للضيوف والزوار، ومعاشرته لزوجاته وذريته، في تحقيق سنن الفطرة، وفي جهاده وسلمه، وفي كل شؤونه، بل وفي المباحات إن أمكن، مثل أكل الدباء وشرب العسل والشراب البارد الحلو، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب ذلك، فكان يحب أكل الدباء، كما جاء في رواية أنس رضي الله عنه الثابتة الصحيحة التي ذكر فيها تتبع النبي للدباء في الصحفة، فبعد أن روى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم، يحب أكل الدباء، يقول أنس فما زلت أحب أكل الدباء منذ ذلك اليوم.
وكذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب شرب العسل ويحب الشراب البارد الحلو، فكلما كان المسلم محققاً العبودية لله متبعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ومتشبهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون حياته وعباداته، سالكاً في ذلك سبيل المؤمنين، الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فإنه ستزداد محبة النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه، لا يشك في ذلك أحد أبداً.
وإن مما يزيد الإيمان في القلب فيزداد بزيادته حب النبي صلى الله عليه وسلم اتباع كل طريق لزيادة الأجر والثواب، وكل طريق يؤدي إلى الجنة ويباعد عن النار.
وأول الطرق هو أداء الواجبات وترك المعاصي والمنكرات، فإن الله عز وجل يحب أن يتقرب إليه عبده بالفرائض، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال الله تعالى: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضتُ عليه...
ولا يخفي على أخوتي الأحبة قصة ذلك الأعرابي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، فحينما سأل عن الصلاة، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلوات الخمس المفروضة، فقال الأعرابي: وهل علي شيء غير ذلك؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع)) وهكذا عن بقية العبادات أخبره النبي صلى الله عليه وسلم عنها، والأعرابي يسأل: وهل علي شيء غير ذلك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا، إلا أن تطوع)) ، فيقول الأعرابي: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفلح إن صدق)) وفي رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)).
وجاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت إذا صليتُ المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)).
إذاً أول طرق كسب الثواب لدخول الجنة هو أداء الفرائض، والبعد عن المحرمات، ثم بعد أداء الواجبات، تأتي النوافل والمستحبات، لمن أراد الرفعة في الدرجات، ومن تلك النوافل: السنن الرواتب، وصلاة الليل وصلاة الوتر وركعتي الضحى وصيام الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصيام الأيام البيض من كل شهر، وصيام عاشوراء، وصيام يوم التاسع من ذي الحجة لغير الحاج، وذكر الله بعد الصلوات، وفي الصباح والمساء، وعند دخول المنزل وعند الخروج منه، وعند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وكذلك عند قضاء الحاجة، وعند قضاء الوطر، وعند الطعام والشراب، وعند النوم، وعند السفر، وفي أوقات وأمكنة كثيرة، وفي أحوال مختلفة، كما هو وارد في كتب السنة، التي جمعت هذه الأذكار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، دون زيادة أو نقص، ثم تأتي أعمال البر الأخرى التي لا تخفى على جميع المسلمين، والتي أدناها: إماطة الأذى عن الطريق.
فيا أيها الإخوة: إذا سلك المسلم الطريق الصحيح مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، مهتدياً بسنته، محققاً العبودية لله تعالى، فإنه سيشعر بزيادة حبه للنبي صلى الله عليه وسلم في قلبه، لأنه يستشعر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه جالس في مسجده يعلم الناس الخير، ونحن نتلقى هذا العلم ونطبقه في حياتنا، دون زيادة أو نقص، فلا نسبقه صلى الله عليه وسلم برأي ولا استحسان، بل نسأل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وعن سنته فنتبعها، وبعد أن نطلع على سنته الثابتة الصحيحة، نقبلها فوراً ونطبقها بلا تردد، محققين قول الله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ، ومطيعين لأمر الله تعالى الذي قال: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فمن دعا إلى أمر من أمور العبادات لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم فقد رفع صوته فوق صوت النبي، وشاق الرسول صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، أما المؤمن المحب للنبي صلى الله عليه وسلم تجده دائماً متبعاً له مستجيباً لأمره، ومطيعاً لشرعه محققاً قول الله تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون.
بهذا يُعرف المحب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا تزداد محبته في القلوب، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، فحال المحبين تتنقل في دائرة السنة، والتي تكون في حالة الفتور مقتصرة على أداء الواجبات وترك المحرمات، وفي حالة الشدة والقوة تكون ملتزمة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، التزاماً حرفياً دون زيادة أو نقص، فالمحب للنبي صلى الله عليه وسلم المحبة الإرادية الشرعية يكون هواه تبعاً لما جاء به محبوبه، فبه يقتدي، وعلى نهجه يسير، ولا يحيد عن ذلك قيد أنملة.
((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1558)
عثمان وعلي رضي الله عنهما
سيرة وتاريخ
تراجم, معارك وأحداث
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض فضائل عثمان رضي الله عنه. 2- بعض فضائل علي رضي الله عنه. 3- فتنة
قتل عثمان رضي الله عنه وما تبعها من أحداث. 4- فتنة السبئية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: تكلمنا في الأسبوع الماضي عن الشيخين الجليلين، سيدي كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين غير النبيين والمرسلين، أفضل الأمة بعد نبيها، أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة والآل.
أما اليوم فنتكلم عن بطلي المواجهة، الشهيدين، ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
عثمان الحيي الذي تستحي منه الملائكة، بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبه. كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ،عبد الله بن قيس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً (أي حديقة أو بستاناً) ثم طلب من أبي موسى أن يغلق بابها ويبقى حارساً عليه، فاستفتح رجل مستأذناً بالدخول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((افتح له، وبشره بالجنة)) ، ففتح له، فإذا هو أبو بكر، فبشره بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله ودخل وسلم، ثم حدث نفس الشيء مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فجاء ثالث واستفتح.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عبد الله بن قيس قم فافتح له الباب، وبشره بالجنة على بلوى تصيبه أو على بلوى تكون)) قال: فقمت ففتحت له الباب، فإذا عثمان بن عفان.. قال فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقال: المستعان الله، أو على الله التكلان، ثم دخل فسلم وقعد، وقد جاء في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القائم بعدي في الجنة، والذي يقوم بعده في الجنة، والثالث والرابع في الجنة)) وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون وهم أول العشرة المبشرين بالجنة.
لقد أسلم عثمان بن عفان بمكة على يد أبي بكر رضي الله عنه، وتزوج برقية ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجر معها إلى الحبشة، مع الذين هاجروا هرباً من إيذاء قريش، وقد توفيت رقية رضي الله عنها بعد الهجرة أيام بدر الكبرى، وقد تأخر عثمان عن بدر لتمريضها، فكتب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه في بدر، ثم تزوج بأختها أم كلثوم رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت أيضاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان يلقب بذي النورين. لقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للتفاوض مع قريش حينما منعوه من دخولها سنة الحديبية، فأشيع أن قريشاً قتلت عثمان، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم البيعة المعروفة ببيعة الرضوان، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم إحدى يديه على الأخرى وقال: ((هذه عن عثمان)).
ولقد احتاج الناس للماء بالمدينة ولم يكن هناك ماء يستعذب إلا بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة)) فاشتراها عثمان بن عفان من ماله وأوقفها في سبيل الله.. واشترى أرضاً بجوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لتتم توسعة المسجد وجهز جيش العسرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وقد مر بنا في خطبة الأسبوع الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحد هو وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل، فقال النبي: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)).
أما أبو الحسن، أبو تراب، كما كناه النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه زوج سيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها وأبو سيدي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين رضي الله عنهما، قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)) وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) وقال أيضاً لعلي رضي الله عنه: ((أنت منى، وأنا منك)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من آذى علياً فقد آذاني)).
جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: ((لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه اللهُ ورسولُه)) قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، أي يخوضون، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها، فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟)) قالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، فقال: ((فأرسلوا إليه)) فأُتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية...الخ الحديث. وفتح الله عليه وكان فتح خيبر على يديه.
لقد كان علي رضي الله عنه من الذين أسلموا في أول البعثة وهو أول من أسلم من الصبيان حيث كان عمره يقارب ثماني سنوات أو عشر سنوات حسب ما جاء في السير، وقد كان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام معونة من رسول الله لعمه أبي طالب حيث كان كثير العيال قليل المال، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم عنده، وحينما حضرت الوفاة أبا طالب حاول النبي صلى الله عليه وسلم معه أن ينطق بالشهادتين، ولكنه لم يستجب للنبي صلى الله عليه وسلم، فبعدها خرج من عنده صلى الله عليه وسلم عائداً إلى بيته ثم جاءه علي رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله عمك الشيخ الضال، مات عمك الشيخ الضال مات. لم يقل أبي مات.. ولم يتأثر بموته لأنه مات على الكفر، فكأنما هو يعلن تبرأه منه محققاً قول الله تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من جاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
أيها الإخوة: لقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقيراً لم يكن من أصحاب الأملاك ولا تاجراً، ولكن زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وكان مهرها درعاً حطمية.. درع لاتقاء الطعن وضربات السيوف، مهراً لسيدة نساء أهل الجنة، لابنة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، لفاطمة الزهراء، وكان فراشها وسادة آدم، حشوها ليف رضي الله عنها وعن زوجها وأولادها وآل النبي أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن الخليفتين عثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما بطلان من أبطال المواجهة.. وهما شهيدان من أهل الجنة.
كانت أول مواجهة لعثمان حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية إلى مكة حينما منعت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من دخولها، فأوفد عثمان ليخبرهم أنما جاء للعمرة وليس للحرب.
وذهب عثمان رضي الله وبلغ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجاره أبان بن سعيد فقالت قريش إن أردت أن تطوف بالبيت أنت فافعل، ولكنه قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش، وعندها أشيع أنه قتل.. فكان سبباً في بيعة الرضوان: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة.
وأما المواجهة الثانية: فهي التي كانت في خلافته رضي الله عنه. فبعد أن قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعهد إلى ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان على أن يكون الأمر بينهم، فاختير عثمان وبويع بالخلافة واستمرت الفتوحات في عهده، وكان هناك من المنافقين وممن أظهر الإسلام من يكيد للإسلام.
وبعد مرور عشر سنوات على خلافته رضي الله عنه ظهر شخص يدعى عبد الله بن سبأ من يهود اليمن أظهر إسلامه أمام الناس وأخذ يؤلب الغوغاء وعامة الناس على الخليفة عثمان ويثير بعض الشبهات حوله وهكذا استمر متنقلاً بين بلاد المسلمين حتى جمع حوله من هؤلاء الغوغاء أمة - بضعة آلاف - فجاء إلى المدينة وحاصر بيت عثمان رضي الله عنه، فأراد الصحابة أن يدافعوا عن عثمان. ولكنه رفض ذلك.
وكان بإمكان الخليفة وضع حراسة مشددة حوله وتأليب أهل المدينة على هؤلاء الغوغاء ومناجزتهم بالسيوف، لكنه لم يفعل، وأقسم على الناس ألا يتدخلوا في هذا الأمر، وقال: إنه مستعد لمواجهتهم وحده، فخرج إليهم من فوق السور، وذكرهم بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله معه من توسعة المسجد النبوي، وشراء البئر ليشرب منها المسلمون، وتجهيز الجيش حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)). قالوا: نعم، نشهد بهذا، قال: الله أكبر، لقد شهدوا، فانفضوا من حوله.
ولكن المنافق الذي خطط للعملية وأمثاله لا يريدون هذا بل يريدون أن تسفك الدماء الزكية الطاهرة. فعمل حيلة بأن كتب كتاباً مزوراً بلسان الخليفة إلى والي مصر بأن يقتل هؤلاء الذين جاءوا وحاصروه في المدينة.
وأعطى الكتاب أحد أعوانه من خدم عثمان رضي الله عنه، وأخذ هذا الذي يحمل الكتاب يتظاهر أمام الناس بالخوف والترقب والحذر.. فقال أتباعه: من هذا؟ ولماذا يظهر عليه الخوف؟ فاعترف بأن لديه كتاباً من الخليفة إلى واليه على مصر، فأخذوه منه فانقلبوا إلى عثمان وحاصروه مرة أخرى في داره.. فأنكر عثمان الكتاب وقال لا علم لي به وأنه مزور، لكنهم اقتحموا عليه داره، وقتلوه وهو يقرأ القرآن، عليهم من الله ما يستحقون.
لقد رضي عثمان رضي الله عنه بأن يصبر ويتحمل هذا لوحده حتى لا تسفك دماء المسلمين في المدينة، وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وقد ورد أيضاً في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: ((يا عثمان، إن الله مقمصك قميصاً، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني)) والمراد بالقميص، الخلافة وكان المنافقون يريدون خلعه أو قتله، فصبر وبقي حتى قتلوه، وكان قتله في آخر شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة رضي الله عنه.
قرر علي رضي الله عنه أن يرسخ قواعد دولته ويختار القادة والولاة والأمراء لبلاده وجيشه أولاً ثم يأخذ بدم عثمان من كل من شارك في قتل عثمان، ولكن هناك من طالب أولاً قتل قتلة عثمان.. فقال لهم علي: أنا أريد قتلة عثمان، قتل الله من قتل عثمان، إيتوني بقتلة عثمان وأنا أقتلهم، لأنه يعلم أن هؤلاء القتلة اندمجوا في الجيوش ولهم عزوة وجماعة، ولا يمكن أخذهم إلا بعد ترسية قواعد الدولة ومؤسساتها التنفيذية، وإلا أصبحت القضية ثارات وغارات تذهب بالصالح والطالح.
وإن ما حصل بين الصحابة من اجتهادات نصون ألسنتنا عن الخوض فيه مع اعتقاد حبنا لهم جميعاً رضي الله عنهم أجمعين.
وبالمناسبة فإن ما يقال عن التحكيم بين أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وعمرو ابن العاص رضي الله عنه غير صحيح، قيل: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال: أنا أخلع علي مثل ما أخلع خاتمي هذا، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وأنا أثبت صاحبي أي معاوية مثل ما أضع خاتمي هذا. فهي قصة مختلقة ليس لها أساس من الصحة.
أيها الإخوة: أعود وأذكركم بما قلته: إن علياً رضي الله عنه أحد بطلي المواجهة وله عدة مواقف مشهودة، فأول موقف له رضي الله عنه مع المواجهة كان يوم الهجرة حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، حينما أرادت قريش قتله، فخرج صلى الله عليه وسلم ووضع علياً مكانه، حيث نام في فراشه صلى الله عليه وسلم رغم أنه يعلم بإمكان قتله تلك الليلة.
والموقف الثاني في فتح خيبر بعد أن استعصت، فأخذ الراية وتم الفتح على يديه، وقد كانت أكثر الرايات عنده في الغزوات والحروب، وفي أكثر المشاهد.
وأما الموقف الثالث والعظيم فهو موقفه من الخوارج ومن الشيعة.. فأما الشيعة فكان رئيسهم المنافق عبد الله بن سبأ، فقد وصل بهم الحال إلى أن قالوا: أنت إلهنا. أنت ربنا، فخدّ لهم علي رضي الله عنه الأخاديد وأشعل فيها النار، وقال: من لم يرجع عن قوله ألقيته فيها، فردوا عليه بقولهم: الآن ازداد يقيننا أنك ربنا، ولكنه تراجع عن حرقهم بالنار رضي الله عنه، وأخذ يقتلهم بالسيف.
أما الخوارج الذين كفروا الصحابة، وكفروا بالذنوب فقد ناجزهم وقاتلهم قتالاً شديداً، وكان له شرف قتل قائدهم وقتل جمع غفير منهم، ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فساد هذه الفرقة، وأن من قتل هؤلاء المبتدعة له أجر عظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن في قتلهم أجراً عظيماً لمن قتلهم يوم القيامة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود)) وفي رواية: ((لأقتلنهم قتل عاد)).
فكانوا في عهد علي رضي الله عنه، فحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن المنافقين المتربصين بأهل الخير أشباه النمل الأبيض (الأرضة)، قتلوا أبا الحسن غدراً قبل أن يقتل من بقي من قتلة عثمان رضي الله عنه، وقد قُتلوا جميعاً، آخرهم قتله الحجاج، وهم يبلغون ما يقرب من ألفي رجل تقريباً.
جاء في صحيح الجامع عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أحدثكم بأشقى الناس؟ رجلين، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه حتى يبل منها هذه)) وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى رأس علي وإلى لحيته. قُتل علي رضي الله عنه ليلة السابع عشر من رمضان سنة أربعين للهجرة بعد خلافة استمرت ما يقارب خمس سنين، قتل غدراً وهو خارج لصلاة الفجر ولا يعرف قبره رضي الله عنه.
هذه نبذة مختصرة عن الخليفتين الراشدين رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة والآل، وأسأل الله العلي العظيم أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1559)
عشرة النساء
الأسرة والمجتمع
المرأة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية النكاح وفوائده. 2- هدي السلف في المهور. 3- الوصاة النبوية بحسن عشرة النساء.
4- العدل بين الزوجات وهدي النبي في ذلك. 5- مواقف من عشرة النبي صلى الله عليه وسلم
لأزواجه. 6- دعوة لتخفيف مؤونة النكاح وتسهيله.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا.
وقال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((قلب شاكر ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((النكاح سنتي فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
فالزواج أيها الإخوة سنة من السنن التي حض عليها الشرع، وقد كان السلف يرغبون في الزواج ويسهلونه بينهم، وربما عُرضت المرأة على الرجل الصالح... وهذا معروف ومشتهر في القرآن والسنة ولم يكن المهر هو المقصد ولم تكن الحفلات المرهقة هي الهدف، فهذا عبد الرحمن بن عوف أحد المبشرين بالجنة تزوج ولم يكن يعلم به رسول الله لولا أن رأى عليه صفرة فسأله.. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تزوج فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أولم ولو بشاة)) وما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه فإقامة الحفلات، فبعضهن أولم لها بمدين من الشعير، وأخرى بحيس على نطع (وهو طعام من إقط وسمن وغيره على جلد شاة مدبوغ) ولم يولم بشاة إلا على زينب رضي الله عنها وعن جميع أمهات المؤمنين.
وهذه فاطمة سيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها قدم علي لها مهراً درعاً – درعٌ مهرٌ لفتاةٍ هي سيدة نساء أهل الجنة - وهذا صحابي تزوج بامرأة بما معه من القرآن، ولم يذكر لنا أن المهور والولائم بلغت ما بلغت من البذخ بعد ذلك والتفاخر والإسراف مع الأسف الشديد حتى أصبحت هي الهدف من الزواج.
وهذا الذي يطلبه بعض الناس من الزوجين، بينما المطلوب هو الصلاح والتقوى وإنشاء أسرة مسلمة تنجب أولاداً صالحين مجاهدين يقومون بأمر الله ويتبعون رسوله صلى الله عليه وسلم.. وكل من الزوجين راع، وكل منهما مسؤول عن رعيته.
وقد حض الإسلام الزوجين على حسن العشرة وأداء الحقوق بينهما. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((استوصوا بالنساء خيراً)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه)) أي صوم التطوع.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع)).
فعلينا أيها الإخوة التمسك بشرعنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم في أمر الزواج والعشرة حتى يبارك لنا في حياتنا ونفوز في آخرتنا.
وإنني أود أنقل إليكم شيئاً من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجاته، وكيف كانت معاشرته لهن، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم مات والتحق بالرفيق الأعلى عن تسع من النساء، كان يقسم لهن ويعدل بينهن رغم جهاده وكفاحه في سبيل الدعوة إلى الله في مدة بضع سنوات، هي التي قضاها في المدينة حيث هاجر وهو متزوج سودة رضي الله عنها، وقد عقد على عائشة رضي الله عنها ثم دخل عليها بعد هجرته، ثم تزوج بقية نسائه، وكان عنده من الجوارِ أيضاً ملك يمين (مارية) فلم تشغله الغزوات والدعوة والتعليم والحج والعمرة في هذه السنوات القليلة من أن يؤدي حقوق نسائه من رعاية وحسن عشرة وتأديبهن وتعليمهن ومساعدتهن والقسمة بينهن والعدل بينهن فيما يملك... لأن عدم العدل فيما لا يملك الإنسان من حب وميل قلبي لإحدى النساء معذور فيه كما قال تعالى: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً. هذا في الميل القلبي أما في المبيت والنفقة فعلى الزوج أن يعدل بين نسائه لأنه كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل )).
أقول إن في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه منهاجاً وطريقاً للمسلمين، يسلكونه في حياتهم الزوجية. فكيف كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه، وكيف كانت عشرته لهن وكيف كانت نساؤه، أمهاتنا رضي الله عنهن يتعاملن معه؟ وكيف كن يتعاملن مع بعضهن؟ حتى نتخذ من ذلك نبراساَ ومرشداً للطريق الصحيح في التعامل. فالنبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أن عنده تسع نساء كلهن ذات خلق ودين وجمال وحسب ونسب، لكن حينما سئل أي الناس أحب إليك؟ قال: ((عائشة)) رضي الله عنها قالوا: ومن الرجال؟ قال: ((أبوها)).
وقد اجتمع النساء كلهن وأرسلن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها رسول الله حتى تتوسط لديه في أن يعدل في حبه، حتى ينلن من حبه، لهن مثل ما لعائشة رضي الله عنها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي بنية ألست تحبين ما أحب؟)) قالت: بلى، قال: ((فأحبي هذه)) وأشار إلى عائشة.
فجاءت زينب بنت جحش رضي الله عنها وهي التي تفتخر بأن الله هو الذي تولى زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم تقول عائشة عنها: لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة، وقالت عنها: وكان تساميني عند رسول الله، قالت: فوقعت بي فاستطالت فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر فلما وقعتُ بها لم أنشبها حتى أفحمتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنها ابنة أبي بكر)).
لاحظوا أيها الإخوة العدل في وصف عائشة لضرتها زينب رغم ما بينهما من تنافس وغيرة، وحق لهن أن يفعلن ذلك مع حبيبهن وزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولاحظوا أيضاً كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الغيرة من زينب رضي الله عنها لأن ذلك أمر طبيعي موجود عند النساء وأيضاً عند الرجال، ولكن دون أن يحملها على الظلم أو الفحش، ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة أن ترد عليها وتدافع عن نفسها، فحينما غلبتها عائشة في النقاش والحوار... قال: ((إنها ابنة أبي بكر)) فهي الحبيبة ابنة الحبيب.
وقال صلى الله عليه وسلم عن عائشة: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). ولكنه صلى الله عليه وسلم مع حبه لها، يعدل بين نسائه في المبيت، حتى في مرض وفاته كان ينتقل بين الحجر حتى أذن له بالبقاء في بيت عائشة ولم يرض منها أو من غيرها أن تتجاوز الواحدة منهن حدها أو تفعل ما يغضب الله عز وجل.
لو استعرضنا أيها الإخوة تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله لوجدناه كريماً مبتسماً بشوشاً رياضياً.. لقد سابق عائشة في سفره مرتين فسبقها مرة وسبقته مرة، ولم يقبح ولم يضرب وكان ينهى عن ذلك ويقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)). وتقول عائشة رضي الله عنها: (والله ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادماً له قط، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله. وكان يأتي صلى الله عليه وسلم إلى إحدى نسائه ويقول: ((هل عندكم طعام؟)) فتقول: لا فيقول: ((إني صائم)).
وكان صلى الله عليه وسلم يسامر زوجاته ويمازحهن ويضع فخذه الشريف لترتقي عليه إحداهن إذا أرادت ركوب الدابة. وكانت الواحدة منهن تزوره في معتكفه في المسجد وتحادثه قليلاً فإذا أرادت الرجوع قام معها يودعها حتى باب المسجد ويقف يراقبها حتى تعود إلى بيتها. وكان يستاك إذا دخل بيته ودخل عند زوجاته فهو الطاهر الطيب الذي يتخذ من عرقه الطيب يفعل ذلك، فكيف بغيره؟.
ولننظر إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما فعل مع حبيبته حينما ارتكبت خطأًً غير مقصود فاشترت نمرقه عليها تصاوير فغضب وأمرها أن تمزقها على الفور، أو حينما تكلمت على إحدى زوجاته الأخريات فقالت له: حسبك من صفية أنها قصيرة. فقال: ((يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجتها)) ، فهذا القول غيبة من عائشة لصفية رضي الله عنهما أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الإثم الواقع عليها من جرائها حتى تتوب وتستغفر.
وكان يهجر صلى الله عليه وسلم تأديباً. وقد لكز عائشة في صدرها حتى أوجعها حينما تبعته ليلاً سراً إلى البقيع وعادت بسرعة وقد حفزها النفس فسألها عن ذلك فأخبرته بأنها تبعته غيرة عليه فقال: ((أكنت تخشين أن يحيف الله ورسوله عليك؟)) فلكزها في صدرها تأديباً.
وأخيراً: هل منع حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة من أن يطبق شرع الله عز وجل، أو أن يتأخر في واجب، في صلاة أو جهاد أو دعوة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالاستقامة على أمره وبالوقاية من كل ما يؤدي إلى عذاب جهنم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهذه الأمانة التي تحملها الإنسان إذا أداها بأن حرص على ما ينفعه هو ومن تحت رعايته في دينهم ودنياهم وتعليمهم الخير والابتعاد بهم عن مواطن الزلل فقد ربح في الدنيا والآخرة، وإلا فهو مضيع للأمانة، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)). وإن من الأمانة على عاتق من تولى أمر المسلمين أن يعينهم على الزواج وييسر لهم سبله ويهيئ لهم كل فرصة مناسبة لذلك.
وإنني أتعجب من ولاة أمر المسلمين اليوم سواء من كانت ولايته خاصة أو ولا يته عامة كيف يضعون العراقيل والصعوبات أمام الزواج بينما هناك من ييسر سبل الزنا واللواط والعياذ بالله.
انظروا إلى بعض وسائل الإعلام ومكاتب السياحة وما تنشره من دعوة للسياحة والسفر بأرخص الأسعار وبأسهل السبل حتى يذهب الناس إلى بلاد الكفر والفسوق والفجور حيث ترتكب الفواحش علناً ومجاهرة دون حسيب ولا رقيب. فيذهب السياح كما يقال وكثير منهم لا يريد إلا ممارسة المنكرات هناك.
أما إذا أراد شاب أن يعف نفسه بالحلال فإنه يجد الصعوبات الكثيرة. المادية وأحياناً النظامية.
أيها الإخوة: لقد ذهلت حينما اطلعت على مقدار ما أنفقه الذين سافروا للسياحة في العام الماضي من مئات الملايين من الريالات... بل قل بالمليارات. فيا ترى فيم أنفقت؟ ألم يسمع هؤلاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به ؟. لماذا لا يسعى المسلمون إلى التعاون والتساهل في أمور الزواج؟ لماذا لا يقوم المسؤولون عن الشباب والتعليم بمساهمة فعالة في سبيل تيسير الزواج؟ لماذا لا يكون هناك سكن بأجر رمزي لكل شاب مسلم يريد أن يتزوج وهو ما زال في دور التعليم وهو طالب؟
اسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً. قال الله تعالى: لقد أنزلنا آيات مبينات ٍ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
(1/1560)
علاج الضعف في الأمة
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, القتال والجهاد, قضايا دعوية
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بكف اليد عن العدو في فجر الدعوة الإسلامية. 2- بعض صور الأذى تلك صبر
عليها المسلمون في تلك المرحلة. 3- تمسك الصحابة بهدي القرآن والسنة سبب عزهم. 4-
أمثلة ذلك في سيرهم. 5- خطورة الحيدة عن الكتاب والسنة ومحاربة من تمسك بهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وإن من هدايته للأمة معالجته لحالة المسلمين إذا ما كانوا في ضعف وقلة وكان العدو أكثر وأقوى مثل ما كان عليه المؤمنون في بداية الدعوة المكية، وذلك بالإخلاص وصدق التوجه إلى الله تعالى.. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد الكفار في مكة بالقرآن حيث قال تعالى: وجاهدهم به جهاداَ كبيراً وقد جاء القرآن بالأمر بكف اليد حينما كان المسلمون قلة وضعفاء، قال تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة. وجاء في القصص القرآني ما يساعد المؤمنين على ذلك ويثبتهم مثل قصة نوح عليه السلام مع قومه، ويوسف عليه السلام وما حصل له، وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وهكذا سار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النهج فربى أصحابه على الالتزام بشرع الله والصبر على الأذى فيه ولم يأذن لهم إلا بالهجرة إلى الحبشة حتى يقيموا شعائر الله دون أذى ولا اضطهاد.
ولقد جاء أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد عند الكعبة فقال يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟.. فماذا كان رد النبي صلى الله عليه وسلم؟.. قال: ((والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه.. ولكنكم قوم تستعجلون)) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ولكن مع ذلك الصبر وصدق التوجه إلى الله لم يمنع المؤمن من حق الدفاع عن النفس والصدع بالحق وإغاظة الكفار والمشركين بإظهار شعائر الدين من صلاة وطواف بالبيت وقراءة للقرآن، كل بحسبه وبقدر ما يتحمل من ردة فعل تجاهه من قومه ومن الكفار، كما حصل بعد إسلام عمر وخروجه أمام الناس، وإعلان ذلك حتى ضربوه وضاربهم حتى تعب.. وقصة الرفع بالصوت عند تلاوة القرآن من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وما لقيه من أذى وضرب بسبب ذلك، وقصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بين الركنين وما لقيه بسبب ذلك من أبي جهل عليه لعنة الله حيث وضع على ظهره الشريف سلا الجزور، وغيرها كثير وكثير، حتى كثر المسلمون الموحدون الصادقون الصابرون فأذن لهم بالهجرة، ثم أذن لهم بالقتال وجهاد الكفار بعد أن أصبح لهم دولة وكيان. فكانوا كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يربيهم النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم الحكمة والالتزام بالسنة النبوية.. هذه التربية سواء عن طريق الخطب والدروس والمواعظ، أو بالممارسة الفعلية كما حصل في صلح الحديبية حينما كبر على المسلمين أن يعودوا دون طواف بالبيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم ونحر هديه وحلق رأسه فحينما رأوه، قاموا وفعلوا مثله.
هذه التربية على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم جاء أثرها وقطفت ثمارها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فكان أول درس طبق في ذلك، موقف أبي بكر رضي الله عنه من الجيش الذي كان تحت قيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه وهو ابن ثمانية عشر عاماً، وكان في الجيش أبو بكر وعمر، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وما زال الجيش بالمدينة لم يخرج منها، وبعد أن تولى أبو بكر أمر المسلمين أراد بعض الصحابة أن لا يخرج الجيش حتى يتم ترسية قواعد الدولة الإسلامية في خلافة أبى بكر، ولكن أبا بكر قال: (كيف أحل لواء عقده النبي صلى الله عليه وسلم؟) فأمضى الجيش وخرج في وداعه، وطلب من قائده أن يأذن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في البقاء معه في المدينة ليستعين بن الخليفة في تصريف شؤون الدولة فأذن له القائد بالبقاء مع الخليفة – فماذا كان أثر ذلك؟ لقد لقي هذا الجيش خيراً كثيراً، وكان في خروجه للجهاد في سبيل الله أثر على القبائل والدول المجاورة حيث دخل الرعب في قلوبهم وقالوا: لو لا أن هذه الدولة قوية لما أخرجوا هذا الجيش للجهاد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد تمسك الصحابة بهدي القرآن الذي أمرهم بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والسير عليها في جميع شؤونهم. ولو نظرنا إلى أفعالهم وأقوالهم حتى فيما كتبوه للولاة والقادة والتزامهم في قيادة الأمة وقيادة الجيوش بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، مثل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر ذلك على الأمة، لعرفنا أن النصر والتمكين والعز لا يكون إلا بذلك إلا بما ساروا عليه من الالتزام بالشرع وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لنأخذ مثالاً واحداً لمعركة من المعارك الفاصلة في الإسلام، إنها معركة نهاوند التي تسمى فتح الفتوح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في السنة الحادية والعشرين من الهجرة بعد فتح المدائن، حيث تجمع الفرس وبلغ عدد القوات أكثر من مائة وخمسين ألف مقاتل وتحصنوا في حصون منيعة وحفروا الخنادق، فاجتمع قادة الجيش بالقائد النعمان رضي الله عنه وقرروا إرسال طليعة من الجيش تستفز المجوس، فإذا ما غضبوا خرجوا من حصونهم وعندها يظهر المسلمون الانهزام أمام المجوس مما يجعلهم يلاحقونهم ظناً منهم أنهم هزموا، فإذا ما وصلت الطليعة المسلمة إلى بقية جيش المسلمين أظهروا أيضاً الانهزام جميعهم حتى يبتعد المجوس عن حصونهم وخنادقهم، عندها يكر المسلمون عليهم ويقاتلونهم حتى يقضي الله فيهم أمراً كان مفعولاً، طبقت هذه الخطة. علماً أن جيش المسلمين في هذه المعركة لا يتعدى ثلاثين ألف مقاتل أي ما يقارب خُمس جيش العدو، ولقد قامت فرقة من الجيش بالمهمة المنوطة بها واستفزوا المجوس فخرجوا وراءهم فتظاهر المسلمون بالهرب والهزيمة حتى وصلوا إلى بقية الجيش فانسحب الجيش كله متظاهراً بالهزيمة والهرب، ففرج الأعداء وخرجوا من حصونهم ومن خنادقهم وأخذوا في محاولة اللحاق بالمسلمين وأخذوا في رميهم بالنبال فاستأذن الجند بعد أن ابتعدوا عن نهاوند في الكر على المجوس، ولكن القائد لم يأذن لهم وبدأت النبال تصل إليهم وتثخن فيهم الجراح، فطلبوا من القائد أن يأذن لهم بالرد والكر عليهم، ولكنه لم يأذن بذلك، فسأله بعض الجيش لماذا لم تأذن لنا ونحن أثخنتنا الجراح؟ فقال: ما منعني من ذلك إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنه لم يقاتل أول النهار، لم يعجل حتى تحضر الصلاة صلاة الظهر وتهب الرياح ويطيب القتال، فما منعني إلا ذلك.. وفعلاً بعد الزوال صلى المسلمون صلاة الظهر ثم كبر القائد إيذاناً بالكر على العدو وقاتلهم وقال: (اللهم اعزز دينك وانصر عبادك واجعل النعمان أول شهيد اليوم) فقال الجميع: آمين وبكوا وانقضوا على الأعداء وتصافحت السيوف ولاحت بوادر النصر وانتهت المعركة بنصر مؤزر وباستشهاد القائد الذي التزم بشرع الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان فيها خيراً كثيراً والتي فيها كل المقومات والأسباب للفوز والنصر وصدق الله حيث قال: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
لو استعرضنا أيها الإخوة: تاريخ الخلفاء الراشدين وسيرة الصحابة المهديين رضي الله عنهم أجمعين لوجدنا فيها من المواقف التي تبين مقدار حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، مما جعلهم يتمسكون بسنته ولا يحيدون عنها قيد أنمله وهذا مما جعلهم في عز وتمكين ففتحوا بلاد العالم ونشروا العلم والدين وأقاموا شعائره في مشارق الأرض ومغاربها وصدق الله حيث قال: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ولن تعود الأمة الإسلامية إلى ذلك المجد والعز والتمكين إلا بالسير على نفس الخطى وعلى نفس المنهج الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم.
وإن من العجب أن يعلم الجميع ذلك ويعرف أن علاج الضعف في المجتمع المسلم – وأن عودة قوته وعزته ومجده لا يكون إلا بالتمسك بالدين وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم بفهم الصحابة وتطبيقهم، ثم لا يسعى إلى تحقيق ذلك ؟، وخاصة ممن تولى أمر المسلمين، بل إننا نرى في بعض بلاد المسلمين محاربة وظلماً وعدواناً على كل من يتمسك بالسنة ويطالب بتحقيقها. حتى أن في بعض بلاد المسلمين يرون ذلك تطرفاً وإرهاباً. وعند البعض يرى ذلك تشدداً وتزمتاً لا داعي له، وعند آخرين يرى ذلك ديناً جديداً لم يعْهدوه من قبل فيستهزئون ويسخرون ويتندرون بالملتزمين بالسنة النبوية.
إن من يرمي الملتزمين بالسنة بالتشدد أو التطرف فإنما هو يرمي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته بهذه الأوصاف.. إن النبي صلى الله عليه وسلم قام بتربية أصحابه على الالتزام بالشرع وبكل ما جاء به النبي دون زيادة ولا نقص، وكذلك الصحابة ربوا أبناءهم وطلابهم وجميع أفراد المجتمع على ذلك، فهذا صحابي لا أريد أن أذكر الأسماء والشخصيات فهذه الحوادث التي سأذكرها الآن ثابتة في كتب السنة وهي صحيحة – صحابي يرى قريبه يخذف بالحصى، تعرفون ما الخذف؟ إنه رمي حصاة - بقدر الحمص - بالسبابتين، يضعها الشخص بين سبابتيه ويرمي بها فحينما رأى الصحابي ذلك الشخص وهو قريب له يخذف. قال له: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف) فاستمر ذلك الرجل يخذف فقال الصحابي: (أقول لك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخذف ثم تخذف. والله لا أكلمك أبداً).
هكذا حب النبي صلى الله عليه وسلم وحب سنته، هكذا الغيرة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا تنازل عنها، ولا تساهل مع من لا يقدرها ولا يقدمها على رغباته وشهواته فهل هذا تشدد أو تطرف ؟!. لا والله بل هذا هو الحق، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون.. وهذا هو معنى حب النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي.
وهذا صحابي آخر يحدث بالأحاديث التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما روى الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تَفِلات)) أي غير متزينات، فرد ابنه الشاب المتحمس غيرة على النساء، على قريباته ومحارمه، فقال: والله لنمنعهن. فقال والده: أحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فترد برأيك وتخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم؟ والله لا أكلمك أبداً. فبقي والده لا يكلمه حتى مات، رغم محاولات كثيرة من الأقارب لثني الأب عن هجره لابنه، والتكفير عن يمينه إلا أنه أصر على هجره حتى مات ولم يكلم ابنه.
وهكذا كانت مواقف الصحابة مع المخالفين وأهل البدع من الناس أو من الحكام، والتي تبين أهمية السنة النبوية في قلوب المتمسكين بها ومقدار محبتهم لمن سنها لهم صلى الله عليه وسلم.. فأين الأمة الآن من هذه السنة؟.كيف نرى الضعف والذلة والهوان في مجتمعاتنا الإسلامية ولا نسعى للرفع من قوتنا وعزتنا؟.. يقولون: نحن لا نستطيع إعلان الجهاد في سبيل الله، فالتقنية لدينا متأخرة، وجيوشنا ليست في مستوى جيوش الكفار من اليهود والنصارى.. وأمور أخرى كثيرة لا تسمح لنا بمجابهتهم الآن، فنقول لهم: إذاً لنبدأ بأنفسنا لنبدأ بتحكيم شرع الله وإقامة الحدود وإقامة شعائر الإسلام في جميع البلدان الإسلامية والإعلان أن الأمة الإسلامية أمة واحدة، فلا قومية ولا وطنية، ونمنع كل ما يخالف شرعنا فلا عبودية إلا لله وحده، ونهدم كل مكان يعبد فيه غير الله سواء كان قبراً أو حجراً أو شجراً.
ويلزم ولاة الأمور في بلاد المسلمين أنفسهم بذلك ثم نبدأ بتطبيق السنة النبوية كما فعل الخلفاء الراشدون وبقية الصحابة وكما سار عليه سلفنا الصالح، فيعفي الرجال اللحى وتتحجب النساء ويمنع الاختلاط وتقام صلاة الجماعة في المساجد وتمنع المنكرات من الأسواق والبيوت والمجتمعات، ويمنع كل ما هو مخالف للشرع وللسنة فلا بنوك ربوية ولا صور نساء ولا مجلات خليعة ولا معازف ولا رقص ولا أعياد وطنية ولا قومية حتى المسابقات الرياضية تكون موافقة للسنة، وتكون في الجري وفي السباحة أو الرماية أو ركوب الخيل وغيرها من الرياضات المفيدة، ولا يكون الهدف منها إلا تربية الشباب التربية الإيمانية الرشيدة لتي تهيئهم للجهاد في المستقبل، إذا ما أصبحنا قادرين على الجهاد ومواجهة الأعداء.
وهكذا. نربي أنفسنا رويداً رويداً داخل مجتمعاتنا، ولا نسمح للمنافقين وأشياعهم، أو لدعاة الحزبية وأهل البدع بممارسة أي دور مؤثر على شبابنا داخل البلاد الإسلامية حتى لا يفسدوا الأمة ويبعدوها عن الصراط المستقيم.. فهل في هذا صعوبة على من تولى أمر المسلمين؟
(1/1561)
فضل آية الكرسي
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آية الكرسي أعظم آية في القرآن. 2- معنى كلمات الآية وبعض فوائدها. 3- الشيطان
يعرّف أبا هريرة بفضل آية الكرسي. 4- قراءة آية الكرسي من موجبات الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: لقد تكلمنا في خطب سابقة عن فضل الذكر، وأن أفضل الذكر قراءة القرآن، ولقد فضل الله عز وجل يا أيها الإخوة بعض السور، كما فضل بعض الآيات، وأن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم.
لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه عن أعظم آية في القرآن؟ فقال: الله ورسوله أعلم فسأله مرة ثانية، فقال: الله ورسوله أعلم، فحينما سأله الثالثة؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدر أبي وقال له: ((ليهنك العلم أبا المنذر)) هنأه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العلم الذي حواه صدره.. فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم.. بل لقد علم أعظم آية لما فيها من صفات لله عز وجل ولما تحويه من أسماء الله.. فهذه الآية أيها الإخوة مشتملة على عشر جمل مستقلة.
فقوله تعالى: الله لا إله إلا هو إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو سبحانه، وهو المستحق للعبادة الحي القيوم أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره.
لا تأخذه سنة ولا نوم لا تغلبه سنة وهي النعاس ولهذا قال تعالى: ولا نوم لأنه أقوى من النعاس.
جاء في الصحيح: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
له ما في السموات وما في الأرض إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه كقوله تعالى: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة... كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ((ثم آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع)) فلا شفاعة إلا بإذن الله إذن لمن يشفع ولمن يشفع له قال تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون.
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً.
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً.
وسع كرسيه السموات والأرض عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وسع كرسيه السموات والأرض فقال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة، وقيل أنها كدراهم ألقيت في ترس، فسبحان الله رب العرش العظيم.
ولا يؤوده حفظهما أي لا يثقله ولا يكترثه ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شي، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.
وهو العلي العظيم فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أ.هـ.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام. فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة قال فتخليت عنه فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟)) قال قلت: يا رسول الله شكا حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سيعود، فرصدته فجاء يحثوا من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله فأصبحت. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟)) قلت: يا رسول الله شكا حاجة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله قال: ((أما إنه كذبك وسيعود)) ، فصدته الثالثة فجاء يحثوا من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فخليت سبيله.
فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما فعل أسيرك البارحة؟)) فقلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها. فخليت سبيله قال: ((ما هي؟)) قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟)) قلت: لا: قال: ((ذاك شيطان)).
وجاء عند النسائي والطبراني وهو في صحيح الترغيب والترهيب عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان له جرن من تمر فكان ينقص فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم، فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: ما أنت؟ جني أم إنسي؟ قال جني، قال فناولني يدك، فناوله يده فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب، قال: هذا خلق الجن؟ قال: قد علمت الجن أن ما فيهم رجلاً أشد مني، قال: فما جاء بك، قال: بلغنا أنك تحب الصدقة فجئنا نصيب من طعامك، قال فما ينجينا منكم؟ قال: هذه الآية التي في سورة البقرة: الله لا إله إلا هو الحي القيوم من قالها حين يمسي أجير منا حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح أجير منا حتى يمسي، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ((صدق الخبيث)).
وقد جاء عند الترمذي وغيره وهو في صحيح الجامع حديث عن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)).
وقد وردت أحاديث تبين أن اسم الله الأعظم في هذه الآية آية الكرسي الذي إذا سئل به أجاب.
فهذه الآية العظيمة التي هي أعظم آية في القرآن حرز من الشيطان لمن قرأها وتكون سبباً في دخول الجنة لمن حضر الصلاة ثم قرأها مع أذكار الصلاة... إذاً الأجر العظيم والحرز من الشيطان يكون لمن قرأها كما وردت الأحاديث وليس لمن علقها أو زين بها المجالس أو وضعها على جثمان الميت.. إن هذه الأمور كلها محدثات لم يفعلها الصحابة ولا التابعون ولا الأئمة الأربعة ولا من سار على نهجهم. إنما كانوا يقرؤون القرآن ويعملون به، والقراءة عمل اللسان فلا بد من القراءة لمن أراد الأجر والحرز من الشيطان.
فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وعلينا الالتزام بسنته أيها الإخوة حتى نفوز في الدارين.
(1/1562)
فضل ذكر الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحاديث في فضل الذكر. 2- ذكر القلب وذكر اللسان. 3- منزلة اللسان بين الجوارح. 4-
التحذير من المجالس التي يغفل فيها عن ذكر الله. 5- بعض الأذكار المأثورة عن النبي صلى
الله عليه وسلم. 6- الأذكار منها ما هو مطلق ، ومنها ما هو مقيد. 7- قراءة القرآن من أعظم
الذكر. 8- الأدعية والأذكار التي لا أصل لها. 9- الأذكار المبتدعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة:
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً فذكر الله نور في الوجه وحياة للقلب ورضى للرب، وهو الحصن الحصين من الشيطان الرجيم.
وذكر الله يكون في كل الأحوال، في الرخاء والشدة وفي الليل والنهار، حتى عند لقاء العدو أمرنا الله بالذكر حيث قال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون فالذكر من أحب الأعمال إلى الله تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ ذكر الله)) وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يتشبث به؟ فقال: ((لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)) وجاء في الحديث الطويل عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة يحبى بن زكريا عليه السلام وما أمره ربه تبليغه لقومه. فقال: ((وأمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فأحرز نفسه فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله)).
والأصل في ذكر الله أن يكون باللسان، ولكن التفكر في خلق الله وآياته ذكر لله، والمشي في أعمال البر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر لله، والنظر في ملكوت الله ذكر لله، والخشية والرغبة والرهبة والإنابة والاستعانة وجميع العبادات القلبية كلها ذكر لله، ولكن اللسان هو الأداة المعنية بهذه العبادة العظيمة آناء الليل وأطراف النهار، فقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجميع الأذكار المطلقة والمقيدة، لا تتم إلا باللسان، وهذه الآلة الصغيرة العجيبة التي من الله بها علينا، كم هي مهمة في حياة الإنسان، فقد تكون سبباً في تعاسته كما أنها قد تكون سبباً في سعادته وفوزه ((وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان)).- أي تعلن الخضوع والانقياد له – ((تقول اتقِ الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا)) فإذا ما طُوع اللسان على ذكر الله في جميع الأوقات فاز صاحبه بحصن الحسنات التي تتضاعف إلى أضعاف كثيرة بفضل الله ومنّه، أما إذا أضاع الإنسان أوقاته في لغو وكلام غير مفيد فإنه سيتحسر ويندم ساعة لا ندم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة)) وفي رواية أخرى: ((ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله ويصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم ترة عليهم يوم القيامة)) فكل المخلوقات تذكر الله إلا الشياطين وأعتياء بني آدم أوأغبياء بني آدم كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((ما تستقل الشمس – أي ترتفع وتعلو -فيبقى شئ من خلق الله إلا سبح الله بحمده إلا ما كان من الشياطين. وأغبياء بني آدم)) وفي رواية: ((وأعتياء بني آدم)) فكم من الأيام طلعت فيها الشمس وكثير من المسلمين نيام، وكم من مجلس يجلسه الناس ويقومون عنه دون ذكر لله، هذا إذا لم يكن المجلس كله منكرات والعياذ بالله، فتكون تلك المجالس حسرة على أصحابها يوم القيامة أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
وأفضل أنواع الذكر أيها الإخوة قراءة القرآن، ثم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأذكار والأدعية الصحيحة الموجودة في كتب السنة، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأدعية والأذكار منها ما هو مقيد، ومنها ما هو مطلق، ومنها ما هو مقيد ومطلق في نفس الوقت، أي نفس الذكر أو الدعاء يكون مقيداً في حال ومطلقاً في حال أخرى، مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. حيث قيدت في الصباح والمساء بعدد معين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي)) فهنا قيد هذا الذكر بعدد معين في الصباح والمساء.وقد حض النبي عليه الصلاة والسلام الأمة على كثرة الصلاة عليه يوم الجمعة والصلاة عليه عند ذكره دون تحديد عدد معين أو دون تحديد وقت معين ولا بكيفية مخصوصة فهنا صار الذكر مطلقاً.
ومن الأذكار المقيدة الذكر بين الركنين في الطواف، وهو ذكر مقيد بمكان ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وهناك ذكر مقيد بعدد، كالتسبيح دبر الصلوات أو بعض أذكار طرفي النهار، وهناك ذكر مقيد بالزمان كأذكار الصباح وأذكار المساء وغيرها من الأذكار المقيدة الأخرى، وهناك أذكار مطلقة غير مقيدة بعدد ولا زمان ولا مكان ولا حال مثل قول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم فهاتان الكلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان للرحمن.
فعلى المسلم أن يتبع السنة في ذكر الله سواء في قراءة القرآن أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد والاستغفار وغيرها من الأذكار وأن يتقيد بما هو مقيد منها بعدد أو مكان أو زمان دون زيادة أو نقص كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن لا يقيد ما هو مطلق منها لا بعدد ولا بزمان ولا بمكان حتى يقبل منه العمل. أسأل الله العلي العظيم أن يتقبل منا أعمالنا ويجعلها خالصة لوجهه إنه سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
كما هو معلوم أيها الإخوة أن أي عبادة لا تقبل إلا بشرطين.. الإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأعمال ذكر الله تعالى وأفضل الذكر قراءة القرآن. فقراءة حرف منه بعشر حسنات، والحسنة بعشر أمثالها. وأعظم سورة هي الفاتحة فهي أم الكتاب والسبع المثاني، وأعظم آية آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
وهناك بعض السور جاء ذكر فضلها في أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل فضل سورة تبارك المنجية التي أنجت صاحبها من فتنة القبر، وكذلك سورة الإخلاص التي من قرأها عشر مرات بني له بيت في الجنة. كما أخبر الصادق المصدوق، والتي أيضاً كانت سبباً في حب الله لشخص أحبها لأن فيها صفة الرحمن. وكانت سبباً في دخوله الجنة. فهي تعدل ثلث القرآن.
ثم بعد ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل أنواع الذكر، وأيضاً التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد والإستغفار وغيرها من الأذكار الثابتة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، التي ينبغي على المسلم أن يتعلمها ويحفظها ويلتزم بها في الصلاة وغير الصلاة وفي جميع الأحوال والأوقات ((مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت)) كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين.
وقال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس).
والصلاة جامعة لجميع أنواع الذكر من قراءة قرآن وتسبيح وتهليل وتكبير وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن صلى ركعتين لله فقد ذكر الله بجميع أنواع الذكر... وعلى أي حال على المسلم أن يخلص النية لله في قراءته للقرآن وذكره لله وفي صلاته وجميع عباداته... وأن يتقيد في ذلك كله بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، دون زيادة ولا نقص.
وإنني أنبه إخواني المسلمين على وجوب الحذر مما يؤلفه بعض الناس من أدعية وأذكار مختلفة يجمعونها بطرق معينة ويدعون أن لها فضلاً خاصاً بدون دليل شرعي، إنما دليلهم أنه قالها الشيخ فلان... أو أنها مجربة. فإنها بدعة لا يصح قولها بالطريقة تلك البدعية كالأذكار المؤلفة حسب الأيام مثل ذكر يوم السبت ويوم الأحد...الخ، أو أذكار مجموعة للطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، تحدد ذكراً للشوط الأول وآخر للشوط الثاني وهكذا... فهذه كلها أعمال مبتدعة لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي مردود عليه غير مقبول. فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص كل يوم من أيام الأسبوع بذكر معين ولا تخصيص كل شوط من أشواط الطواف أو السعي بذكر معين مخصوص.
فليحذر المسلمون من الابتداع في الدين حتى تقبل أعمالهم وتوبتهم، فإن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته كما جاء في الأثر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم.
وفي السنة النبوية غنية وكفاية عن غيرها أسأل الله العلي العظيم أن يهدينا ويوفقنا لما يحب ويرضى إنه سميع مجيب.
وإن من العجيب أنك ترى بعض المسلمين يتمادون في الابتداع ويتفننون في الاختراع بابتكار طرق مختلفة لذكر الله، فمنهم من يذكر الله بذكر لفظ الجلالة فقط: الله. الله. الله، أو: هو. هو. هو، أو: يالطيف. يالطيف ويضع أرقاماً فلكية لذلك الذكر بعشرات الألوف... ومنهم من يخصص للأذكار زماناً محدداً أو كيفية مخصوصة أو يفعل ذلك الذكر مصحوباً بالطبل أو الآلات الموسيقية أو التصفير والضرب بالأرجل والترنم بها بأصوات جميلة أو يكرر كلمة في القرآن عشرات المرات مثل كلمة (يس) 40 مرة أو أقل أو أكثر عند قرائتها إلى غير ذلك من الاختراعات والمبتدعات التي ما أنزل الله بها من سلطان إنما هي من إتباع الهوى وسبل الشيطان ليضلوا بها الناس عن الصراط المستقيم الذي جاء به سيد الذاكرين الموحدين صلى الله عليه وسلم.
(1/1563)
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الزهد والورع
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث ابن عمر : ((كن في الدنيا... )). 2- قصر الأمل في الدنيا والزهد فيها.
3- الدعوة لاغتنام الأعمار قبل الفوت. 4- الاهتمام بعمل الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء في صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
أيها الإخوة: هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، فالمؤمن لا يجعل الدنيا أكبر همه فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر ويكون جاهزاً للرحيل، قال الله تعالى: إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله إن الدنيا ليست بدار قراركم كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها الظعن، أي الرحيل، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يرحل، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. فالمؤمن في الدنيا كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه التي خرج منها ليستقر بها، ووطن المؤمن الذي فيه قراره هو الجنة فقد أُخرج أبونا منها ووُعد بالرجوع إليها هو ومن صلح من ذريته، فالمؤمن يحن إلى وطنه إلى دار المقامة الأبدية، جعلنا الله من أهلها.
قال الفضيل رحمه الله: المؤمن في الدنيا مهموم حزين، فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم ولا يجزع من الذل عندهم، وقال الحسن رحمه الله: "المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن، دائماً يحن إلى وطنه الأول".
فإذاً أيها الأخ الكريم: كن في الدنيا كأنك غريب.. فالمؤمن كالغريب في هذه الدنيا أو أن المؤمن في الدنيا كعابر سبيل كأنه مسافر غير مقيم، فهو يسعى للتزود للرحيل وليس همه في الاستكثار من الدنيا ومتاعها. فهو دائب السير يساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت متوجه إليه والدنيا تطوى من ورائه، وما مضى من عمره فليس بكارّ عليه حتى يأتي عليه يوم التغابن.
سئل رجل كم أتت عليك: قال ستون سنة: فقيل له: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل له: أتعرف التفسير؟ إن تفسيرها: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف وأنه مسؤول فليعد للسؤال جواباً.
أيها الأخ الكريم جاء في إحدى روايات الحديث هذا عند الترمذي: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور)). قال بعض الحكماء كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته؟
فيا أيها الأخ الكريم: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)).
أيها الإخوة: علينا الاستعداد للرحيل والتوبة والإنابة إلى الله، فالله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فالواجب على المسلم المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ويحال بينه وبينها إما بمرض أو موت، ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأماني. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين.. وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون وقال تعالى: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: قال ابن عمر رضي الله عنهما: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح). لأن العبد يأتيه الموت إما ليلاً أو نهاراً، فالمؤمن يستعد له، فإذا أصبح يقول في نفسه لعلي لا أمسي إلا مع أهل القبور فإذا جاءه المساء قال لعلي لا أصبح إلا مع أهل القبور، فهذا أحد الصحابة من أهل العلم والفقه معاذ بن جبل رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عند الترمذي وغيره قال رضي الله عنه: قلت يا رسول الله: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)) ثم قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل)) ثم تلا: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ، ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه)). قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) ، ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)). قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: ((كف عليك هذا)) قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)).
فهذه حال الصحابي الجليل، بل وكل الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، همه الوحيد أن يعمل عملاً يدخله الجنة ويباعده عن النار، فهو مستعد للموت وللرحيل وللانتقال إلى الدار الآخرة، ويعلم أنه إما إلى الجنة أو إلى غير ذلك والعياذ بالله.
فحينما سأل جاءه الخبر من الصادق المصدوق بأنه أمر يسير على من يسره الله عليه فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما ينبغي أن يسير عليه المسلم من التوحيد وفعل الأركان وحفظ الجوارح واللسان. مع البعد عن كل ما ينقض ذلك وأن يكثر من فعل الطاعات مما شرعه نبينا صلى الله عليه وسلم من الصدقة والصيام وصلاة الليل والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس واللسان، وما يزال العبد يتقرب إلى الله حتى يكون ولياً من أوليائه كما جاء في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقربُ إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويده التي يبطشُ بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينهُ ولئن استعاذني لأعيذنه)).
اللهم اجعلنا من أوليائك الذين يعبدونك حق عبادتك، يرجون رحمتك ويخافون عذابك. اللهم وفقنا للعمل الصالح واختم بالصالحات أعمالنا واجعل خير أيامنا يوم لقائك ولا تؤاخذنا بما أسلفنا ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. هذا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم ربكم القائل في كتابه العزيز: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً. فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن جميع الصحابة والآل أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1564)
كيف نستقبل رمضان
فقه
الصلاة
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اغتنم رمضان فلا تدري لعلك لا تدركه ثانية. 2- الاستعداد لشهر رمضان بتصحيح
السلوك وتحقيق كمال الإيمان والتوبة من الذنوب. 3- بعض فضائل رمضان. 4- بعض
الأحكام المتعلقة بالصيام والقيام. 5- القنوت في صلاة الوتر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: ما أشبه الليلة بالبارحة هذه الأيام تمر بسرعة وكأنها لحظات، لقد استقبلنا رمضان ثم ودعناه، وما هي إلا فترة من الزمن وإذا نحن نستقبل رمضان مرة أخرى.
أيها الإخوة: ولو نظرنا حولنا لوجدنا أن بعضاً ممن أدرك رمضان الماضي أصبح من أهل القبور وربما البعض منا في هذا العام ممن يقدر الله له أن يصوم رمضان كاملاً. فيقدر الله ألا يكون من أهل الدنيا بعده فيكون آخر رمضان يصومه ويقومه، ولو استشعر كل منا هذا الأمر واستعد للموت بعد رمضان أو في أثنائه وصام رمضان إيماناً واحتساباً وقامه أيضاً إيماناً واحتساباً لنال السعادة والفوز بالجنة، فرغم أنف ثم رغم أنف من أدرك رمضان ولم يغفر له.
أيها الإخوة: إن الاستعداد في رمضان يكون بمحاسبة النفس على تقصيرها سواء بالتقصير في تحقيق الشهادتين أو التقصير في الواجبات أو التقصير في عدم ترك ما نقع فيه من الشهوات أو الشبهات.. فيقوم العبد سلوكه ليكون في رمضان على درجة عالية من الإيمان.. فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأول طاعة يحققها العبد هي تحقيق العبودية لله وحده وينعقد في نفسه ألا معبود بحق إلا الله فيصرف جميع أنواع العبادة لله لا يشرك معه أحداً في عبادته، ولا يرائى بعبادته، ومنها العبادات القلبية من خشية ورهبة وخوف ورجاء وتوكل وإنابة وإخبات ورغبة واستعانة واستغاثة وأيضاً وكل أنواع العبادة الظاهرة، ويستيقن كل منا أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن كل شيء بقدر.
ونمتنع عن كل ما يناقض تحقيق الشهادتين وذلك بالابتعاد عن البدع والإحداث في الدين. وبتحقيق الولاء والبراء، بأن نوالي المؤمنين ونعادي الكافرين والمنافقين، ونفرح بانتصار المسلمين على أعدائهم، ونقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونستن بسنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ونحبها ونحب من يتمسك بها ويدافع عنها في أي أرض وبأي لون وجنسية كان.
بعد ذلك أيها الإخوة نحاسب أنفسنا على التقصير في فعل الطاعات كالتقصير في أداء الصلوات جماعة وذكر الله عز وجل وأداء الحقوق للجار وللأرحام وللمسلمين وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق، والصبر على ذلك، وبالصبر عن فعل المنكرات، أو بالصبر على فعل الطاعات، أو بالصبر على أقدار الله عز وجل.
ثم تكون المحاسبة على فعل المعاصي واتباع الشهوات بمنع أنفسنا من الاستمرار عليها، أي معصية كانت صغيرة أو كبيرة، سواء كانت معصية بالعين، بالنظر إلى ما حرم الله أو بالسماع للمعازف أو بالمشي فيما لا يرضي الله عز وجل، أو بالبطش باليدين في ما لا يرضي الله، أو بأكل ما حرم الله من الربا أو الرشوة أو غير ذلك مما يدخل في أكل أموال الناس بالباطل.
ويكون نصب أعيننا أيها الإخوة أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وقد قال سبحانه وتعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين.
وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم. وقال تعالى: ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً.
بهذه المحاسبة وبالتوبة والاستغفار يجب علينا أن نستقبل رمضان، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها الإخوة: إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح والتاجر الحاذق يغتنم المواسم ليزيد من أرباحه فاغتنموا هذا الشهر بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والعفو عن الناس والإحسان للغير والتصدق على الفقراء.
ففي شهر رمضان تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد فيه الشياطين وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل هلم، ويا باغي، الشر أقصر.
فكونوا عباد الله من أهل الخير متبعين في ذلك سلفكم الصالح مهتدين بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم حتى نخرج من رمضان بذنب مغفور وعمل صالح مقبول.
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا جميعاً لذلك ويعيننا على الصيام والقيام وفعل الطاعات وترك المنكرات إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
قال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريدُ الله بكمُ اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون.
أيها الإخوة: أخلصوا النية لله في صيامكم وقيامكم، وبيتوا النية بالصيام، ويصح أن تنووا صيام الشهر كله إذا لم تخرموه بإفطار بعذر. لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)). ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)). فمن أفطر بعذر لسفر أو لمرض أو لغيره فعليه تجديد النية.
وعلى المسلم أن يتحلى بالصبر حتى وإن سابه أحد أو شاتمه كما جاء في الحديث الصحيح: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)).
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تأخير السحور وتعجيل الإفطار، ويكون تأخير السحور إلى ما قبل الفجر بما يقدر بقراءة خمسين آية، وعلى المسلم أن يتسحر ولو بقليل من الماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تسحروا فإن في السحور بركة)).
وإذا أصبح الصائم وهو جنب من الليل فليغتسل ولا شيء عليه، وكذلك من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وساقاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والمسافر مخير بين الصوم والإفطار أثناء سفره كما جاء في صحيح مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)). هذا في السفر المباح أما من سافر بقصد الإفطار أو سافر في معصية فأفطر فهو آثم وعليه وزر وعليه القضاء مع التوبة والاستغفار.
وقد شرع في رمضان الاعتكاف في العشر الأواخر منه استعداداً وتحرياً لليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا ممن يحظون بالقيام والدعاء والاستغفار في ليلة القدر إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أنه يشرع قيام رمضان وأن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.. فلله الحمد والمنة، يقوم المصلي ساعة من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننسى أيها الإخوة الاهتمام بالفرائض أولاً والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله عز وجل يحب التقرب إليه بالفرائض.فلا ننسى الأصل والفرض ونهتم بالنوافل والمستحب.
وصلاة القيام أيها الإخوة ليس لها أذان ولا إقامة، وقد سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت: لم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة)) إذاً الأفضل أن تكون صلاة الليل إحدى عشرة ركعة بقراءة مرتلة وخشوع واطمئنان في جميع الأركان ومن زاد على إحدى عشرة ركعة فلا بأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) ، سواء صلى المصلي ثلاثاً وعشرين أو ثلاثاً وثلاثين أو غير ذلك المهم أن تكون الصلاة بقراءة مرتلة وخشوع واطمئنان وسواء صلاها المسلم مع الإمام في المساجد أو صلاها منفرداً في بيته.
أما دعاء القنوت في الوتر فلم يثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في رمضان ولا في غيره، لا منفرداً ولا في جماعة حيث قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في رمضان في عدة رمضانات وفي ليالي متفرقة من كل رمضان صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة ولم ينقل عنه أنه قنت في الوتر، ولذلك أخذ المالكية بهذا الأمر فهم لا يقنتون لا في رمضان ولا في غيره وأهل بلاد المغرب يتمسكون بعدم القنوت طوال العام.
ولكن أيها الإخوة حيث ثبت أن الصحابة قد قنتوا في النصف الأخير من رمضان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلذلك رأى بعض أهل العلم أن القنوت في الوتر لا يشرع طوال العام إلا في النصف الأخير من رمضان، وبهذا أخذ الشافعية فهم لايقنتون في الوتر طوال العام إلا في النصف الأخير من رمضان ودليلهم قوي لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك.
وأما من يقنت في الوتر طوال العام بحجة الحديث الذي يروى عن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للحسن رضي الله عنه دعاء القنوت المشهور، فقد قال بعض أهل العلم لا بأس بذلك. إذاً فمن قنت أوترك. أو اقتصر على النصف الأخير من رمضان فلا بأس. ولا ينكر على أحد منهم، فالأمر واسع والحمد لله.
ولكن الأرجح هو أن يكون دعاء القنوت في النصف الأخير من رمضان، والدعاء في القنوت ينبغي أن يكون موافقاً لما ثبت عن إجماع الصحابة، مع البعد عن التعدي في الأقوال والبعد عن الإطالة والتنغيم تشبهاً بقراءة القرآن والأولى إخشاع القلوب بالقرآن وبحسن التلاوة مع تطبيق السنن في الصلاة من خشوع وطمأنينة، وقراءة دعاء الاستفتاح الذي يتهاون به كثير من أئمة التراويح هذه الأيام، نسأل الله لنا ولهم الهداية والإخلاص في القول والعمل إنه سميع مجيب.
(1/1565)
معاملة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم
أديان وفرق ومذاهب, سيرة وتاريخ
أديان, السيرة النبوية
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجاليات اليهودية في المدينة المنورة. 2- النبي صلى الله عليه وسلم يوقع مع اليهود وثيقة
الدفاع عن المدينة. 3- اليهود قوم بهت ، وقصة إسلام ابن سلام. 4- الرسول صلى الله عليه
وسلم يدعو اليهود للإسلام. 5- جلاء بني قينقاع بعد غدرهم بالمسلمين. 6- جلاء بني النضير
بعد غدرهم بالمسلمين. 7- حكم الله في بني قريظة وقد غدروا بالمسلمين. 8- ويستمر عداء
اليهود وكيدهم للمسلمين على أرض فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: هذه وقفة مع سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، مع جهاده ودعوته بعد هجرته من مكة إلى المدينة حيث هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون المهاجرون من مكة بعد أن ذاقوا الأمرين من كفار قريش، فراراً بدينهم ليجدوا الأرض التي أذن الله لهم فيها بالقيام بعبادته، بعد مناصرة الأنصار لهم والدخول في الإسلام.
ولكن لم يسلم المجتمع المدني من بعض القلاقل والمكايد من اليهود والمنافقين.. وستكون الخطبة اليوم عن العلاقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود منذ وصوله المدينة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم.
اليهود أيها الإخوة: جماعة نزلت يثرب هروباً من الرومان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي أربعمائة عام وقد بلغ المقاتلون منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي (2000) رجل، ألفي رجل قادر على حمل السلاح، فهي جالية كبيرة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام، بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.
وبعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، والأنصار بالطبع بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم المدينة وكتب وثيقة موادعة ومعاهدة مع الجالية اليهودية، واشترط عليهم أن لا يمالئوا عدوه وأن ينصروه على من دهمه، دفاعاً عن المدينة، وأقرهم على دينهم، فمن أسلم فله النصرة وهو من المؤمنين، وأن لا يخرج أحد منهم إلا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يُنفِقَ اليهودُ مع المؤمنين ما داموا في حرب وغيرها من الشروط التي أوردتها كتبُ السيرة في معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لهم والتي فيها أن أي شجار أو أي إشكال يحصل في المجتمع المدني مرده إلى الله وإلى الرسول، وخاصة لو حصل بين مسلم ويهودي.
أما ما يحصل في الأحوال الشخصية بين اليهود أنفسهم فالرسول مخير بين أن يحكم بينهم أو لا يحكم، كما قال تعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين.
أيها الإخوة: بالرغم من طباع اليهود المعروفة وكما جاء أنهم قوم بهت يبهتون الناس ويفترون عليهم، حتى عبد الله بن سلام رضي الله عنه لم يسلم من بهتانهم وزورهم حينما علموا بإسلامه، كما ذكر البخاري أن عبد الله بن سلام حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فنظرت إلى وجهه فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء فحينما أجابه النبي عما سأل أعلن إسلامه وقال يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني فأرسل إليهم فسلهم عني.
فأرسل إليهم فقال: ((أي رجل ابن سلام فيكم؟)) قالوا: حبرنا وابن حبرنا وعالمنا وابن عالمنا قال: ((أرأيتم إن أسلم تُسلمون؟)) قالوا: أعاذه الله من ذلك: فخرج عليهم عبد الله بن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا فقال: يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت!!؟.
أيها الإخوة: كان النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في التعامل معهم، وهم العدو المراوغ الذي يستخدم كل أساليب المراوغة والخداع.. لقد زار النبي صلى الله عليه وسلم ابن جارٍ له يهودي حينما علم بمرضه وعرض عليه الإسلام فقبل الابن وأسلم ففاضت روحه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد كان اليهود يحظوا بالرعاية في المجتمع الإسلامي في المدينة النبوية وما حولها. فهل هم حافظوا على هذه العلاقة بينهم وبين المسلمين؟ هل قاموا بدورهم في بناء المجتمع والحفاظ عليه؟ في الواقع أنهم ما فتئوا في طعن الإسلام وفي إيذاء المسلمين والتربص بهم وبالنبي صلى الله عليه وسلم في كل لحظة.. فغدروا ونقضوا العهد مراراً وتكراراً وأعلنوا الحرب سراً وجهاراً على الإسلام وعلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه بنو قينقاع أظهروا البغض والحسد حينما انتصر النبي والمسلمون في غزوة بدر الكبرى، وأخذوا يظهرون بغضهم وحسدهم في أقوالهم وأفعالهم، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم ونصحهم ودعاهم للإسلام، فردوا بقولهم: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا.
وهذا منتهى التحدي والتهديد بالرغم من أنهم جالية تحت رئاسة النبي صلى الله عليه وسلم بموجب المعاهدة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
وقام رجل منهم من بني قينقاع في السوق بعقد ثوب امرأة من المسلمين خلفها وهي جالسة دون أن تعلم فحينما قامت انكشفت عورتها وصاحت في المسلمين، فقام أحد المسلمين وقُاتل اليهودي فقتله، وقُتل المسلم من اليهود الذين في السوق، فجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً وحاصرهم في حيهم مدة خمسة عشرة ليلة واستسلموا ونزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم النساء والذرية فقط، أما الأموال فللمسلمين، والرجال يقتلوا، فكلمه المنافق عبد الله بن أبي سلول وألح في ذلك.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم لك)) تنازلاً لرغبة ابن سلول وأمر بإجلائهم عن المدينة.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وماذا فعل بنو النضير أيضاً؟ خططوا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في السير أنهم طلبوا من النبي أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلاً وهم أيضاً سيخرج منهم ثلاثون رجلاً ليستمعوا منه فإن صدقوه آمنوا به.. فحينما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المكان المحدد للاجتماع اقترح اليهود أن يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم، فإن أقنعهم آمنوا كلهم وكان مع الثلاثة اليهود خناجرهم مخفية تحت الثياب، ولكن النبي جاءه خبر بالمؤامرة فرجع ولم يقابلهم.
والرواية الثانية التي في السيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ومعه بعض الصحابة ليأخذ منهم دية رجلين قتلا خطأً فقالوا: نعم، اجلس هنا، وانتظر حتى نجمع لك المبلغ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت جدار.. فقال اليهود: هذه فرصة لو يصعد أحدهم بحجر فيلقيه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فيقتله ويتخلصوا منه، فجاء الوحي بالخبر ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فسواء صحت هذه الرواية أو التي قبلها، فالتخطيط واحد والغدر واحد.. فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليالٍ فنزلوا على الصلح ووقعت معاهدة ثانية معهم على أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها.
وبهذه المعاهدة الثانية حقن النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأجلاهم عن ديارهم قال تعالى: سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذابُ النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
وما زال الغدر مستمراً من اليهود وكذلك نقض العهود حيث تعاون اليهود مع الكفار والمشركين في غزوة الخندق، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم في بني قريظة بعد غزوة الخندق، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه حليفهم فقالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((قضيت بحكم الله)).
وبذلك تبرأ سعد من اليهود ومن موالاتهم خلاف المنافق عبد الله بن أبي بن سلول الذي شفع لهم ولم يرض بقتلهم موالاة لهم وحباً فيهم، فإنه منهم والعياذ بالله.
ثم نفذ القتل في كل رجل منهم، وأخذ المسلمون النساء والذرية والأموال غنيمة لهم جزاءً لخيانتهم وغدرهم حيث نقضوا العهد وتحالفوا مع المشركين، مع الأحزاب، بقصد قتل المسلمين وأخذ أموالهم وذرياتهم ونسائهم، وتبعهم بعد ذلك اليهود الذين تجمعوا في خيبر وخاصة بنو النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإسلام وأن في كتبهم ذكره وذكر بعثته وهم قد جحدوا رسالته ونقضوا العهود معه، ووقفوا مع الأحزاب ضده، ولكنهم لم يستجيبوا ولم يعتذروا عما فعلوه، فعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قتل زعمائهم ثم حاصرهم في حصونهم، وأعطى اللواء لعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه، ففتح الله على المسلمين وتهاوت الحصون أمام المسلمين فمنهم من قُتل، ومنهم من أُسر وسُبَي، ومنهم من استسلم دون قتال، فأبقاهم النبي صلى الله عليه وسلم في أرضهم لزراعتها ولهم نصف الثمار.. وبعد ما قاموا بزراعتها. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة لتقدير الثمار.. فأرادوا أن يرشوه أو يفعلوا شيئاً معه ليأثّروا على تقديره، فقال لهم: يا أحفاد القردة والخنازير، تعلمون أنكم والله أبغض الناس إلي، وأن رسول الله أحب الناس إليّ، ولكن لا يجعلني حبي له وبغضي لكم أن لا أعدل.. فحكم فيهم بالعدل، فتعجبوا منه ومن عدالته رضي الله عنه، وقالوا: رضينا بما قلت.
أيها الإخوة: هؤلاء هم اليهود وهذه أخلاقهم وطبائعهم وسيبقون كذلك، ولكن المصيبة هي فينا نحن المسلمين، وخاصة ممن هو مسؤول وتحمل الأمانة وأصبح من ولاة أمر المسلمين.
يقول أحدهم: إن السلام مع اليهود خيار استراتيجي أي أنه لا يمكن أن يحيد عنه أبداً، لأن السلام بزعمه يعتبر أهم مصلحة له ولأمته، وهذا والله عين النفاق والموالاة للكفار.
لقد تهافت هؤلاء على الصلح مع اليهود وحاولوا ذر الرماد في العيون حينما قرءوا على الناس وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وترقبت الأمة وأخذت تنظر إلى أي مدى سيكون السلام، فإذا هو استسلام وتبعية وذل وهوان وانحدار في إثر انحدار.
لقد سمعتم أيها الإخوة وشاهدتم ما عرضته وسائل الإعلام هذه الأيام من صور ومشاهد فيها استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، واستهزاء بالقرآن الكريم، فعلها اليهود، والمسلمون دون حراك، إلا من أصوات لا تكاد تبين، وكنت أتمنى كما هو حال كثير من الناس، أن يعلن الجهاد، وتستنفر الجيوش لحرب اليهود، هذه الجيوش التي تنفق عليها المليارات من الدولارات ونراها في الاستعراضات العسكرية بمناسبات مختلفة، ولا أدري هل هي تبنى فقط للاستعراضات، بينما يقوم فتية من الصغار بحمل الحجارة يلقون بها في وجه اليهود على قدر استطاعتهم، ونحن ليس لدينا إلا الاستنكار والشجب والصراخ والعويل والاستنجاد بهيئة الأمم وما يسمى بمجلس الأمن.
إن قضية فلسطين هي قضية إسلامية جهادية.. فهي ليست قضية قومية ولا قضية أرض أو حدود أو شرق أوسطية بل هي قضية تهم كل مسلم على وجه الأرض، وقريباً بإذن الله ستتحد أمة الإسلام تحت خلافة راشدة وترفع راية الجهاد في وجه اليهود... نحن شرقي نهر الأردن وهم غربيه ((حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال واقتله إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود)) هذا هو الوعد الحق، هذا وعد الصادق المصدوق. أما المنافقون ومن سار في ركابهم من الذين يرون أن السلام خيار استراتيجي، يعدون بالسلام الدائم، وهو وعد كاذب.
أيها الإخوة: إن الذي وضع السم للنبي صلى الله عليه وسلم هم اليهود الذين قتلوا الأنبياء من قبل.. وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السم حينما مرض قبل وفاته، وحينما توفى النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع أول، فرح اليهود بموته واعتبروا أنفسهم ممن شارك في قتله. فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
(1/1566)
مفهوم الإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله. 2- مواقف حمى فيها النبي صلى الله عليه وسلم
جناب التوحيد. 3- الإخلاص والمتابعة شرطان في قبول الأعمال. 4- التزام السلف بمفهوم
الاتباع وتطبيقه في حياتهم. 5- أقوال السلف في الحث على متابعة هدي القرآن والسنة. 6-
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم في التفرق والابتعاد عن نهجه. 7- من رحمة الله أنه كلفنا
الاتباع ولم يكلفنا التقليد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: من المعلوم أن الله خلقنا لعبادته، قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ولكنه سبحانه وتعالى حدد لنا كيف نعبده، فلم يتركنا للآراء ولا للأهواء ولا للأذواق، بل أرسل لنا رسولاً وأمرنا باتباعه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أُمر باتباع ما يوحى إليه والالتزام به، كما ورد ذلك في آيات كثيرة منها قول الله تعالى: اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين وقال تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها وقال تعالى: فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.
وأمرنا الله باتباع نبيه وطاعته في آيات كثيرة منها قول الله تعالى: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين وقال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال سبحانه: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذاباً أليماً.
وقال تعالى محذراً الأمة من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وقال تعالى: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وقال سبحانه: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون.
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتوحيد الله، وحمى جناب التوحيد من كل شائبة، حتى ولو كانت لفظية، فحينما قيل له ما شاء الله وشئت، لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ الذي يحتمل التسوية بينه وبين الخالق سبحانه وتعالى، فغضب وقال صلى الله عليه وسلم لصاحب ذلك القول: ((بل ما شاء الله وحده)) وقال له: ((أجعلتني لله نداً)).
وكذلك حينما جاءه وفد من وفود العرب فقال خطيبهم: أنت سيدنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((السيد الله)) ، فقال الخطيب: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فلم يرض النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول وقال للوفد: ((قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان)). وكذلك حينما نذر رجل أن يذبح قرباناً ببوانة، وهو اسم مكان معروف في ذلك الوقت، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره في ذلك المكان، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك المكان: ((هل كان به وثناً يعبد؟ أو كان فيه عيد من أعياد الجاهلية؟)) فقيل له: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ((أوف بنذرك)).
لاحظوا أيها الإخوة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة ذلك السؤالين، وما فيهما من دلالة مهمة على وجوب عدم مشابهة الكفار في أي أمر، حتى ولو كان في ذلك العمل قربة إلى الله عز وجل، ففي هذا الأمر حماية لجناب التوحيد والبعد عن كل ما يخدشه، فلننتبه لذلك، ولنلتزم به.
يا أيها الإخوة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد مسألة المتابعة له لأن كل عبادة أو قربة لا تقبل إلا بتحقيق شرطين: هما الإخلاص والمتابعة.. قال الله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً فالعمل الصالح هو الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي مردود عليه، وغير مقبول.
أيها الإخوة: ويظهر تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على متابعته، عندما أخذ الحصى لرمي جمرة العقبة، والتي كانت الواحدة منها في حجم حبة الحمص أو حبة الفول.. فيقول للناس: ((إياكم والغلو)) يحذرهم من أن يرموا بأكبر من تلك الحصيات أو بأشياء أخرى لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل منهم العمل. ويظهر ذلك أيضاً في تعليمه للصحابي البراء بن عازب رضي الله عنه دعاء النوم الذي هو: ((اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رهبة ورغبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت)). فأخذ الصحابي يردد الدعاء ليحفظه فحينما وصل إلى قوله: ((وبنبيك الذي أرسلت)) قال: وبرسولك الذي أرسلت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا.. وبنبيك الذي أرسلت)) فلاحظوا أيها الإخوة في إلزام النبي صلى الله عليه وسلم للبراء بأن يقول نفس الكلمة ولا يغيرها، بالرغم من أن الكلمة التي قالها البراء لا تغير المعنى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض منه تغييرها، وفي هذا إشارة إلى أهمية المتابعة الحرفية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويتأكد ذلك أيضاً أيها الإخوة في قصة الرهط الذين جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عبادته فتقالّوها وقالوا: هذا النبي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقرروا أن يقوموا بأعمال ليتقربوا بها إلى الله، قاصدين زيادة الحسنات ومغفرة السيئات، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل أبداً، وقال الثاني: أصوم الدهر أبداً، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) ، وهذا فيه وعيد شديد ولكل من يريد أن يفعل قربة يتقرب بها إلى الله متبعاً في ذلك هواه، فإنه سيحرم من انتمائه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأصل في العبادات أيها الإخوة المنع حتى يثبت الدليل الصحيح الصريح بالفعل، والأصل في العادات الإباحة حتى يثبت الدليل بالمنع، فعلينا فهم هاتين القاعدتين مع ما سبق من ذكره عن شرطي قبول العمل كما فهم أسلافنا ذلك.
قال الزهري رحمه الله: "من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم". وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "كل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء ولا بالأهواء". وهذا هو صراط سلفنا الصالح المستقيم الذين ساروا عليه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمرهم بذلك، ففهموا مراده، واتبعوه في هديه وسنته، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالسير على نهجهم والتزام طريقهم حيث قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)).
1- حينما أمر الله الذين آمنوا بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً جاء الصحابة إلى النبي وسألوه عن كيفية الصلاة عليه وهم العرب الفصحاء الذين يستطيعون تنفيذ قول الله تعالى... ولكن لحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحب الالتزام بما يقوله لم يتجاسروا على تأليف صلوات من عندهم بل حضروا إلى النبي وسألوه كي يعلمهم الصلاة عليه – فكيف يتجاسر أهل البدع بتأليف صلوات مخترعة ويتركون ما خرج من بين شفتي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
2- حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم الشاب جليبيب إلى أهل بيت من الأنصار ليخطب ابنتهم ويتزوجها. تردد الأب قليلاً لأن جليبيب كان دميم الخلقة. ودخل يشاور زوجته أم الفتاة المخطوبة، فقالت باشمئزاز: جليبيب ابْنَهْ [1] جليبيب ابْنَهْ ، فسمعت البنت المخطوبة من والديها ترددهما.. فقالت أتردان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إني أقبل ما اختاره لي رسول الله صلى الله عليه وسلم... إني سمعت الله يقول: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً وقوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً فهل نحن اليوم في مستوى إيمان هذه الفتاة والتزامها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد؟
3- حينما نزل قول الله تعالى: لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله جاء الصحابة وبركوا على الركب وقالوا: يا رسولّ الله هذه لا نطيقها.. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فحينما استسلموا لأمر الله وأمر رسوله واستجابوا وأخذوا يكررونها في شوارع المدينة نزل التخفيف.. حيث نزلت الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون... أليس من الأولى والأجدر أن يكون هؤلاء هم قدوتنا حيث هم فهموا التنزيل واستجابوا لأمر ربهم وحققوا مراده واستجابوا لنبيهم وحققوا سنته وهديه؟!!
4- وهذا معاوية رضي الله عنه حينما كان خليفة للمسلمين وجاء إلى مكة للحج فطاف بالبيت.. فأخذ يستلم جميع الأركان الأربعة فقال له ابن عباس رضي الله عنهما إن الاستلام لا يكون إلا باستلام الركنين فقط.. فرد معاوية وقال: لا أرى شيئاً من البيت مهجوراً.. فقال ابن عباس: (ولكم في رسول الله أسوة حسنة). قال: صدقت يا ابن عباس، وترك استلام شيء من البيت إلا الركنين.. تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في الفعل والترك.. واستجابة لأمر الله تعالى الذي أمرنا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ونجعله أسوة حسنة في عبادته وأفعاله.
5- حينما نزل قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. كيف استجاب الصحابة لهذا الأمر؟. لدرجة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بأنه يسر بصوته حينما يريد أن يحدث النبي صلى الله عليه وسلم لدرجة أن النبي لا يسمعه فيقول: هاه. هاه.. خشية من أن يرفع صوته فوق صوت النبي فيحبط عمله، وإن من يرفع صوته بدعوة الناس إلى عمل أو قربة لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو يرفع صوته فوق صوت النبي ويتحدى سنته صلى الله عليه وسلم.
هذه بعض مواقف الصحابة التي تبين مدى التزامهم بما يقوله ويفعله حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم.. هؤلاء هم سلفنا وقدوتنا الذين وصفهم الله بالصدق وأنهم المؤمنون حقاً. وقد رضي الله عنهم.. ونحن نقتدي بهم أسأل الله العلي العظيم أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته إنه سميع مجيب.
فلننظر أيها الإخوة إلى ما يدل على التزام السلف بمفهوم الإتباع وتطبيقه في حياتهم، لنستمع إلى ابن أم عبد، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ماذا قال لأولئك النفر الذين اجتمعوا في مسجد ليذكروا الله حيث تحلقوا.. فقال أحدهم لهم: سبحوا الله مائة، هللوه مائة. وأخذوا يعدون تسبيحهم بالحصى التي جمعوها من حصباء المسجد.. فجاءهم أبو عبد الرحمن، عبد الله بن مسعود، وضرب الحصى برجله وقال لهم: (عدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة). قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.. قال: (وكم من مريد للخير لن يصيبه، أو لن يدركه) فهؤلاء القوم خالفوا السنة في الكيفية وفي الكمية، وأتوا أمراً هو في ظاهره خير وبركة، ولكنهم فعلوا ما لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فبذلك كان عملهم مردوداً عليهم، ولذلك نهاهم الصحابي الجليل رضي الله عنه، ولا ننسى قول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: ((رضيت لأمتي ما رضى لها ابن أم عبد)) أي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا أحد أئمة الأعلام سعيد بن المسيب رحمه الله، رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين أي يصلي بعد السنة الراتبة للفجر عدة ركعات يكثر فيها الركعات والسجود فنهاه سعيد بن المسيب.. فقال الرجل: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا ولكن يعذبك على خلاف السنة.
وهذا الإمام مالك رحمه الله حينما جاءه رجل فقال له: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر... فقال له الإمام: لا تفعل، أحرم من حيث أحرم رسول الله، من ذي الحليفة، إني أخشى عليك الفتنة، فقال الرجل: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها، فقال مالك رحمه الله: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت الله يقول: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وكان الإمام مالك يحذر الأمة من الإحداث في الدين ويقول: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله يقول: اليوم أكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم ديناً.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) وقال أيضاً: (ستجدون قوماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق) أي القديم – أي الأصل. وقال رضي الله عنه: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة).
قال أبو العالية رحمه الله: تعلموا الإسلام فإذا علمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم: الإسلام، ولا تحرفوه يميناً أو شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وأصحابه.
وكان بعض السلف يقول: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو أصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفوه.
أيها الإخوة: لقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الانحراف عن هديه وسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والوقوع أو الانجراف إلى إحدى الفرق الضالة المخالفة لهديه وسنته والتي تبلغ اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار وذلك في الحديث العظيم الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قيل ومن هي يا رسول الله قال: ((هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) فهذه الفرقة الناجية الوحيدة هي التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لذلك من أراد منا النجاة فليلتزم غرزهم، ويسير على نهجهم.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وسهل لنا سبيل الرشاد، ولم يكلفنا بتقليد أحد من المخلوقين من الفقهاء أو العلماء أو اتباعه استقلالاً، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا ورأفته، أنه لم يكلفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا وفسدت مصالحنا لأنا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء وهم عدد فوق المئتين ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله، فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله وبلغ ما بلغ الليل والنهار، ولو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العنت والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء وإسقاطه معاً، أن كلفنا بتقليد كل عالم، وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم، فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنة من الأحكام أسهل بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلاً عن المقلد الذي هو كالأعمى، وإن كلفنا بتقليد البعض، وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا صار دين الله تبعاً لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال، فلا بد أن يكون ذلك راجعاً إلى من أمر الله باتباع قوله وتلقي الدين من بين شفتيه، وذلك محمد بن عبد الله، رسول الله وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه، ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبداً" ا.هـ كلامه رحمه الله.
فاللهم وفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[1] كلمة تقال للإنكار.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1567)
مفهوم الاستقامة على الدين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, العلم الشرعي
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الاستقامة. 2- النصوص تحث على الاستقامة. 3- استقامة القلب واستقامة الجوارح.
4- أهمية المكتبة للبيت المسلم. 5- من العلم ما لا يعذر أحد لجهله. 6- من العلوم الكفائية ما
يجب تعلمه على من احتاجه.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل أحداً عنه غيرك، قال: ((قل آمنت بالله ثم أستقم)).
وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد والنسائي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله مُرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: ((قل آمنت بالله ثم أستقم)) قلت: فما أتقي؟ ((فأومأ إلى لسانه)).
وهذا موافق لقوله الله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون وقوله عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون.
والاستقامة كما ذكر أهل العلم هي أداء الفرائض واجتناب النواهي، وقال المفسرون في تفسير قوله تعالى: ثم استقاموا لم يشركوا بالله شيئاً ولم يلتفتوا إلى إله غيره أي التوحيد، توحيد الله في عبادته، التوحيد الكامل الذي يحرم صاحبه على النار، ولأن المعاصي قادحة في التوحيد فهي إجابة للهوى والشيطان، افرأيت من اتخذ إلهه هواه ، فالذي لا يهوى شيئاً إلا فعله فإنه بذلك ينافي الاستقامة على التوحيد.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم للسائل بالإيمان حينما قال: ((قل آمنت بالله ثم أستقم)) موافق لقوله تعالى: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير وقوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه ، ولأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية أتبع الأمر بالإيمان. الأمر بالاستقامة، ولكن لابد من التقصير، فجاءت الآية السابقة تأمرنا بعدم الطغيان لأن الله مطلع علينا، وجاءت الآية الثانية بالاستغفار والتوبة والأوبة إلى الله وإلى الصراط المستقيم كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سددوا وقاربوا)) فالسداد هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال والمقاصد كالذي يرمي إلى هدف، إلى غرض، فيصيب.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن يسأل الله عز وجل السداد والهدى وقال له: ((أذكر بالسداد تسديدك السهم وبالهدى هدايتك الطريق)).
والمقاربة أن يصيب الشخص ما قرب من الهدف أو الغرض إذا لم تصب الهدف نفسه ولكن بشرط أن يكون مصمماً على قصد السداد وإصابة الغرض فتكون مقاربته من غير عمد ((سددوا وقاربوا)) ، وجاء في رواية: ((سددوا وأبشروا)) أي اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة فمن سدد في أعماله كلها قد فعل ما أمر به، ومن قارب بعد اجتهاد قد فعل ما أمر به، ومن أخطأ وجانب الطريق فعليه الإسراع بالعودة إلى الاستقامة.
فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمن استقام قلبه على معرفة الله وعلى خشيته في السر والعلن ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه، استقامت جوارحه كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء وهي جنوده، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه، وإذا وقع القلب في غير طاعة الله رتعت جنوده ورعاياه.
أيها الإخوة: أعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه، ولهذا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل بالاستقامة وصاه بحفظ اللسان، جاء في السنن عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) وجاء عند الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر - أي تعلن الخضوع له والانقياد له - اللسان فتقول: اتقِ الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
أيها الإخوة: ومما يعين على الاستقامة تكوين مكتبة منزلية صغيرة تحوي أهم ما يحتاج إليه المسلم. مثل تفسير ابن كثير للقرآن العظيم وتفسير الأشقر المعروف باسم زبدة التفسير أو ما سيصدر من تفسير من مجمع الملك فهد بالمدينة النبوية، بالإضافة إلى أحد كتب السنن مثل سنن أبي داود، وكتب السيرة وأهمها زاد المعاد لابن القيم، بالإضافة إلى رياض الصالحين، وفتاوى هيئة كبار العلماء، وأحد كتب التوحيد التي تدرس في معاهدنا العلمية منها كتاب فتح المجيد، وبعض الكتيبات الصغيرة التي توضح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية حجه وصومه. كذلك بعض الأشرطة للمشايخ المعتبرين الربانيين.
والحذر الحذر من كتب أهل البدع ومؤلفاتهم لأن فيها أخطاء عقدية جسيمة. ومع هذا يجب إزالة المنكرات والمجسمات لذات الأرواح حتى تعم السكينة داخل المنزل، ويستعين ساكنوه على استقامتهم.
أسأل الله العلي العظيم أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه وأن يجعلنا ممن استقاموا على الطريقة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الفقه في الدين هو الطريق إلى الاستقامة عليه من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، إن طلب العلم هو مطلب كل مسلم حتى يعبد الله على بصيرة، والعلم نور وهدى، والجهل ظلمة وضلال وشقاء، العلم هو إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم لم يورثوا درهماً ولا ديناراً إنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر من ميراثهم، والعلم رفعة في الدنيا والآخرة يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
قال تعالى: أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
وكلما تعلم المسلم العلم ازداد يقينه واستقام على أمر الله، وهناك حد أدنى لا يعذر المسلم بتركه أو جهله، حد أدنى من العلم، لابد لكل مسلم صغيراً كان أو كبيراً رئيساً أو مرؤوساً ذكراً أو أنثى أن يتعلمه ويعمل به، وهو معرفة الله ومعرفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومعرفة الإسلام وشرائعه، فالعلم قبل القول والعمل كما قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك. ومعرفة الله بأسمائه وصفاته، وتحقيق توحيده، واجتناب كل ما يناقض التوحيد، وكل ما يبغضه الله من القول والعمل، هو تحقيق لكلمة لا إله إلا الله، ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة سيرته واتباع سنته وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه، وزجر، وعبادة الله بما شرع وقرر، وهو تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، ومعرفة الحلال والحرام وإقامة أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج على وفق ما يريده الله منا متأسين بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو مراد كل مسلم وهو الطريق الذي يجب أن يسلكه العبد على هدى من ربه وبهذا يعرف المسلم دينه، ولا يعذر المسلم بتجاهل هذا الحد الأدنى من ما ينبغي له العلم به ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). وقد جاءت السنة بشرح كيفية الطهور، والصلاة بأركانها وواجباتها وسننها، كيف يصلي المسافر والمريض؟ ومتى يكون القصر ومتى يكون الجمع ومتى يكون وقت الصلاة ومتى يخرج وقتها إلى غير ذلك من الأمور التي يجب على المسلم معرفتها عن الصلاة المفروضة والتي هي الركن الثاني من أركان الإسلام والتي أجمع أهل العلم أن من تركها فقد كفر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم)).
فالحاج والمعتمر يجب عليه أن يتعلم قبل البدء في النسك صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وكيفية أداء النسك وكيفية الطواف والذكر وكل الأعمال المتعلقة بالحج والعمرة حتى يؤدي هذه العبادة على نور من ربه وعلى صراط مستقيم.
وعلى المسلم أن يعرف كيفية أداء زكاة الفطر وكميتها ووقتها، وإذا كان من أهل الأموال وجب عليه معرفة كيفية أداء زكاة أمواله ومتى تخرج وكميتها ولمن تعطى.
هذا هو الحد الأدنى الواجب على المسلم أن يتعلمه، وكل ما هو وسيلة لأداء هذه الواجبات ومعرفتها فهو واجب فحفظ شيء من القرآن وخاصة سورة الفاتحة واجب على كل مسلم حتى يؤدي الصلاة، وهكذا فالوسائل تأخذ أحكام المقاصد. ثم تأتي الواجبات الأخرى من شرائع الإسلام كل بحسبه، فمن أراد السفر عليه أن يتعرف على أحكام السفر وآدابه وما يشرع في حق المسافر وما هي الرخص التي رخص للمسافر فيها من قصر وجمع بين الصلاتين وإفطار للصائم وغير ذلك من أحكام السفر.
ومن أراد الزواج عليه أن يتعلم بعض الأحكام في معاشرة النساء وما يتعلق بالحياة الزوجية وكيفية التعامل مع الزوجة ومع الأولاد وكيفية تربيتهم والتعامل معهم منذ الولادة حتى سن البلوغ. وأيضاً يتعلم أحكام الطلاق والعدة وكل ما يحتاجه في هذه الحياة الزوجية.
ومن تولى رئاسة أو إدارة أو قضاء فعليه أن يعرف أحكام الشرع فيما يختص بعمله، وخاصة العدل، وكيفية التعامل مع الناس وإعطاء كل ذي حق حقه وأن يبتعد عن الظلم.
وبالمناسبة أيها الإخوة فإن من الأخطاء اللغوية أن يقال إن دين الإسلام دين مساواة، بل الصحيح إن يقال دين عدل، وقد ورد الأمر بالعدل في القرآن قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل والجندي في الجيش أو الشرطة يجب أن يتعلم ما يلزمه من كيفية الطاعة وأنه ليس هناك طاعة عمياء، كما يقال بل الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويتعلم كيف يتعامل مع المسلمين بالرحمة والمودة والشفقة، وكيف يتعامل مع الكفار والمنافقين؟. ويتعلم كل الأمور الشرعية التي تلزمه في عمله وتعامله. وكذا الموظف والمدرس والطبيب والعامل، كل إنسان لابد أن يعرف ما يحتاج إليه من العلم الشرعي في مجال عمله واختصاصه، ويجمع ذلك كله من تولى أمر المسلمين فعليه أن يتفقه قبل ذلك ويتعلم ما يلزمه من شرائع الإسلام في قيادته للأمة الإسلامية والدفاع عن حقوقها ورد المظالم عنها، يتعلم كيفية الولاء والبراء، ويتعلم كيفية التعامل مع اليهود والنصارى وأنه لا يجوز موالاتهم، ولا مشاركتهم في أعياد ولا مناسبات يفرحون بها ولا يهنئهم ولا يعزيهم، يتعلم كيف يخطب الجمعة ليصلي بالناس وكيف يخطب العيدين وكيفية إقامة الصلوات الأخرى مثل صلاة الاستسقاء والكسوف وكل ما يلزمه للإمامة والخلافة ويستعين بالعلماء الأبرار، العلماء الربانيين الذين يذكرونه إذا نسي ويعينوه على أداء واجباته.
لقد ذكر أهل السير أن هارون الرشيد رحمه الله كان يقسم الأسبوع كالتالي: يوم لقادة الجيش حتى يسير المجاهدين ويطلع على أحوالهم في الجبهات وما يحتاجونه، ويوم للقضاة، ويوم للوزراء، ويوماً لمقابلة الناس وقضاء حوائجهم، ويوم للعلماء للمدارسة والمذاكرة والحديث، ويوم لأهله وأقاربه، ويوم لنفسه يخلو فيه ويستعد للعبادة والصلاة وهو يوم الجمعة.
أيها الإخوة: إن كلاً منا مسؤول عما ولاه الله، فلذلك على كل منا أن يتعلم شرع الله في كل أمر يتولاه، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.
(1/1568)
مفهوم محبة النبي صلى الله عليه وسلم ومحبة آل بيته وصحابته رضي الله عنهم أجمعين
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة النبي صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان. 2- محبة النبي من غير إيمان به
لا فائدة منها. 3- الاتباع دليل المحبة. 4- بعض مظاهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم. 5-
وصية النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وصحابته. 6- طاعة الصحابة للنبي صلى الله عليه
وسلم. 7- السير على نهج الصحابة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)). وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
فهذان الحديثان من أوضح الأدلة على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المؤمن لا يستحق اسم الإيمان، ولا يدخل في عداد الناجين حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، وهذا الحب عمل قلبي من أجل أعمال القلوب، وعاطفة جياشة تجيش بها النفس، وهو أمر زائد على الإعجاب بمزايا النبي صلى الله عليه وسلم وسمو أخلاقه وعظمة تعاليمه، ولا يكون ذلك إلا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، لأننا يا أيها الإخوة، قد نرى من المعجبين الذين أفصحوا عن إعجابهم وتقديرهم بل وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم ينفعهم، ولن يفيدهم في آخرتهم، لأنه حب بلا إيمان، مثل حب أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم، أو مثل إعجاب بعض المستشرقين من اليهود والنصارى وغيرهم بالنبي وسيرته، فهؤلاء ما أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم المحبة الحقيقية الشرعية الإرادية الاختيارية، التي تجعل هم أحدهم وفكره وإرادته متوجهة لتحصيل ما يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، والتي هي مرتبطة بمحبة الله عز وجل والتي يتمثل فيها تمام الانقياد والطاعة، لأن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله، قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
أيها الإخوة: إن المحبة والإيمان أمران متلازمان في قلب المؤمن تلازماً مطرداً، يزيد أحدُهما بزيادة الآخر، وينقص بنقصانه، فإذا قويت المحبة في قلب المؤمن وزادت، أثمر ذلك زيادة في الإيمان، وذاق العبد حينئذ حلاوة الإيمان، ولا يصل العبد إلى هذه المنزلة إلا إذا سعى في تحصيل ما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأفعال، وتقديمها على كل المحاب والرغبات، ومما يزيد محبة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب، الوقوف على هديه، وتدبر سنته، والاسترشاد بسيرته، والاقتداء به فيما فعل وأمر به، وفيما ترك ونهى عنه، ومن المعلوم أن من السنة ترك ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود الداعي والمقتضي، وفي هذا شاهد قوي على صدق الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمحب يكون موافقاً لمحبوبه، ولا يكون ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالطاعة والاتباع له، فالسعادة في الدارين موقوفة على متابعته صلى الله عليه وسلم، والشقاء والهلكة، والعياذ بالله تكون بسبب معصيته ومخالفته صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
فيا أيها المحبون للنبي صلى الله عليه وسلم: تأسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل وترك، وليكن ما نفعله، نفعله على الوجه الذي فعله صلى الله عليه وسلم لأجل أنه فعله، وما تركه صلى الله عليه وسلم نتركه على الوجه الذي تركه، لأجل أنه تركه.
أما الأدعياء الذين يدعون حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم تجدهم مخالفين، غالباً ما يحرصون على فعل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترك ما أمر به أو فعله صلى الله عليه وسلم. فالمخالفة في الفعل، تكون بترك ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، والمخالفة في الترك، تكون بفعل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر الفرق بين الفريقين، ويظهر صدق المحبة، فالمحب للنبي صلى الله عليه وسلم يكون متبعاً له وقافاً عند سنته، راضٍ بحكمه وشرعه، معتقداً أن الرسول قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وأن الدين قد كمل في حياته صلى الله عليه وسلم، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
وإن حب النبي صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة مقيدٌ بضوابط تحكمه، ومحدد بعلامات تؤكد صدقه، وآثار تظهر على من اتصف به، فمن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم طاعته فيما أمر، واتباعه فيما شرع، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتعظيمه وتوقيره، والأدب معه عند سماع سنته، والصلاة عليه عند ذكره، وصباحاً ومساءً ويوم الجمعة، وفي كل حال شرع لنا ذلك كما هو مذكور في كتب السنة والأذكار الثابتة الصحيحة التي لا تخفى على كل مسلم محب لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ومن مظاهر محبته أيضاً، تمني رؤيته، والشوق إلى لقائه، وسؤال الله عز وجل اللحاق به، جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)) أي يتمنى أحدهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ولو فقد أهله وماله مقابل ذلك.
ومن مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم محبة آل بيته وصحابته رضي الله عنهم أجمعين، ومعرفة فضلهم وقدرهم حيث خصهم الله بهذا الشرف دون غيرهم من العالمين، وقد أثنى الله عليهم وعلى من اتبعهم بإحسان، قال تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية حيث قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) ، فحبهم إيمان، وبغضهم نفاق، واتباعهم دين، ومخالفتهم فسوق وعصيان وضلال. فالمؤمنون يحبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون آل بيته، ولا يفرطون في حب أحد منهم ولا يتبرءون من أحد منهم، ويبغضون من يبغض أحداً منهم، ولا يذكرون أحداً إلا بخير، فهم يعرفون فضلهم ويحفظون لهم حرمتهم ومكانتهم، لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بآل بيته حيث قال: ((أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)). وكذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بصحابته حيث قال: ((لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: لقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم المثل الأعلى في اتباعهم وتضحيتهم بأموالهم وأنفسهم وأهليهم في تحقيق محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وطاعتهم له، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يُضرب عند الكعبة ضرباً مبرحاً حتى أُغمي عليه، وحينما فاق كان أول كلمة قالها: ماذا فعل رسول الله؟ أين رسول الله؟ فأخبره أهله بسلامة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه بخير، ولكنه يطلب منهم حمله إليه ليراه بعينيه، فحينما رآه سالماً أعيد إلى بيته وإلى فراشه، ما اطمأن بالجواب الشفوي من أهله، لم يطمئن إلا بعد رؤيته له سالماً عندها تهون النفس وتهون كل المصائب.
وتلك المرأة التي جاء ذكرها في السير، وهذه القصة ثابتة صحيحة، حينما جاءها الخبر عن قتل ثلاثة من أقاربها، الوالد والولد والزوج، ولكنها لا تكترث للخبر بل تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال لها: هو سالم صالح، ولكنها تنطلق إلى رسول الله لتراه بعينيها سالماً، فحينما رأته كذلك قالت: كل مصيبة بعدك جلل، أي ما دمت سالماً يا رسول الله فكل مصيبة هينة، فقد الوالد والولد والزوج يهون مادمت سالماً يا رسول الله.
وبالرجوع إلى كتب السنة والسيرة الصحيحة نرى العجب العجاب أمثال هذه المواقف التي تمثل أسمى معاني الحب الحقيقي وكذلك الطاعة والاتباع مثل موقف علي رضي الله في امتثاله لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حينما أعطاه الراية ليقود الجيش في فتح خيبر حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((امش ولا تلتفت)) فحينما ركب علي رضي الله عنه على حصانه وسار قليلاً، أراد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلتفت بل رفع صوته ليسمعه النبي صلى الله عليه وسلم.
انظروا أيها الإخوة لهذا الموقف الذي يمثل منتهى الطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، سأل ولم يلتفت تنفيذاً لأمر النبي حينما قال له: ((لا تلتفت)).
ومثله فعل الصحابة رضي الله عنهم في قصة الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار حبهم له وطاعتهم الخالصة، حيث لا يتوضأ صلى الله عليه وسلم وضوءاً إلا ابتدروه، ولا يبصق بصاقاً إلا أخذوه، ولا يسقط من شعره شيء إلا استبقوا إليه - وهنا وقفه أقولها للتذكير.
إن التبرك بجسم النبي أو ببعض ما في جسمه كالشعر والعرق والبصاق، أو بموضع فيه صلى الله عليه وسلم، أو بنعله ولباسه ثابت وصحيح، ولكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وفقد كل ما بقي من ملابسه أو شعره أو عرقه، لم يثبت التبرك بآل بيته الطيبين الطاهرين، فلم يفعل أحد من الصحابة والتابعين شيئاً من ذلك، لا بالحسن ولا بالحسين ولا بعلي رضي الله عنهم أجمعين، وكذلك لا بالعباس ولا بأولاده، ولا بأولاد جعفر رضي الله عنهم أجمعين، ونحن نسير على نهجهم ونسلك طريقهم في ذلك والله المستعان.
أيها الإخوة: كان الصحابة رضي الله عنهم.لا يتكلم أحدٌ منهم حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم أنصتوا كأن على رؤوسهم الطير، لذلك قال عنهم أحد القرشيين - حينما رآهم يفعلون ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم -: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما، والله ما رأيت ملكاً قط مثل محمد في أصحابه، لقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء – هؤلاء هم الصحابة الذين أمرنا الله باتباعهم وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم.
أما أمر الله فيتمثل في قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً. فقد فسر كثير من أهل العلم، بأن المقصود بسبيل المؤمنين في هذه الآية هم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيتمثل في قوله: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)).
هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أفضلهم، بل أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر صاحب رسول الله في الغار، ورفيقه في الهجرة والخليفة الأول رضي الله عنه، ثم عمر الفاروق رضي الله عنه الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كان نبي بعدي لكان عمر)) وثالثهم عثمان رضي الله عنه، صهر رسول الله، ذو النورين، من تستحي منه الملائكة ورابعهم من كانت منزلته من رسول الله منزلة هارون من موسى عليهما السلام، غير أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، إنه أبو السبطين، علي رضي الله عنه، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة وبقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، منهم الحواري الزبير بن العوام، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة، وسيد الشهداء حمزة ومن جمع له النبي أبواه فقال له: ((ارم فداك أبي وأمي)) سعد بن أبي وقاص، وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ومن اهتز له عرش الرحمن يوم وفاته سعد بن معاذ، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس، ومن حمل لواء العلم والفقه أبي بن كعب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو هريرة، وغيرهم.
ومنهم من حمل السيف مجاهداً في سبيل الله سيف الله المسلول خالد بن الوليد، أو جاهد بلسانه وهو مؤيد بروح القدس حسان بن ثابت، وفيهم أصحاب الشجرة، والمهاجرون والأنصار وأمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، هؤلاء هم سلفنا، وهم قدوتنا في إظهار حب النبي صلى الله عليه وسلم وفي تحقيق المتابعة له، وطاعته وامتثال أوامره، فهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا التنزيل وعرفوا مراد ربهم، وعرفوا مراد نبيهم، فبهداهم نقتدي وعلى نهجهم نسير.
أسال الله العلي العظيم أن يحشرنا معهم في الفردوس الأعلى إنه سميع مجيب.
(1/1569)
من خوارم المروءة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مساوئ الأخلاق
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف العلماء للمروءة. 2- اتباع الهوى من خوارم المروءة. 3- الرطانة بالأعجمية من
خوارم المروءة. 4- الرقص والغناء من خوارم المروءة. 5- سوء عشرة الأهل والجيران من
خوارم المروءة. 6- التشبه بالكفار والنساء من خوارم المروءة. 7- أركان المروءة وكيفية
تحصيلها. 8- درجات المروءة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: جاء الإسلام بتهذيب السلوك، والدعوة إلى مكارم الأخلاق بعد تحقيق التوحيد، كما حض على كل ما يحفظ المروءة، وحذر من كل ما ينقصها.. ولقد كان أسوتنا وقدوتنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم ومروءة لا يصل إليها مخلوق كما شهد له ربه بذلك حيث قال: وإنك لعلى خلق عظيم.
ولقد عرف كثير من أهل العلم المروءة بقولهم هي كمال الإنسان من صدق اللسان واحتمال عثرات الإخوان وبذل الإحسان إلى أهل الزمان وكف الأذى عن الجيران.
وقيل: هي التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه في لبسه وحركاته وسكناته وسائر صفاته، وقال آخرون: هي صيانة النفس عن الأدناس وما يشينها عن الناس، وقيل: هي السمت الحسن وحفظ اللسان والاجتناب من السخف وأن لا يأتي الشخص ما يعتذر منه مما يبخسه من مرتبته عند العقلاء والمروءة هي من الأدلة التي يُستدل بها على أهل الفضل ومقامهم ووجوب إقالة عثراتهم، ولا يتسع المقام لذكر كل ما قيل عن المروءة وأهلها وفضلها ولكن بالضد تتبين الأشياء.
ولذلك سوف نذكر بعضاً من خوارم المروءة حتى يتجنبها المسلمون ولا يقعوا فيها، ومن وقع في شيء من هذه الخوارم والنواقص فعليه الابتعاد عنها والعودة إلى سبيل أهل المروءات.
من خوارم المروءة: اتباع هوى النفس يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه. قال معاوية: ترك الشهوات وعصيان الهوى، فاتباع الهوى يزمن المروءة ومخالفته ينعشها.
قال الشافعي رحمه الله: لو علمت أن الماء البارد يثلم مروءتي لما شربته.
أيها الإخوة: ويدخل في ذلك مما هو من اتباع الهوى الإعلان بالفسق سواء سمي فناً أو غير ذلك، والمفسد للمال، والسكوت عن الفواحش وعمن يمارسها، والتصريح بأقوال الخنا وجعل النفس مسخرة بحيث يضحك بصاحبها في كلامه أو لباسه والتشبه بالمخنثين أو بالنساء نسأل الله العافية.
ومن خوارم المروءة الرطانة بالأعجمية من غير حاجة حيث عده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من خوارم المروءة حيث قال: ما تكلم رجل الفارسية إلا خب (أي صار خداعاً)، ولا خب إلا نقصت مروءته، أخرجه بن أبي شيبة في المصنف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم: وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله أو لأهل الدار، للرجل مع صاحبه أو السوق أو للأفراد أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعجام.ا.هـ.
قال الأصمعي: ثلاثة تحكم عليهم بالدناءة حتى يعرفوا: رجل شمّيت منه رائحة نبيذ في محفل، وسمعته يتكلم في مصر عربي بالفارسية، أو رأيته على ظهر الطريق ينازع في القدر. ويدخل في هذا الوقت في ذلك جميع اللغات الأخرى المعروفة.
ومن خوارم المروءة الرقص والغناء والصفق بالأكف، وفي كتاب ابن القيم رحمه الله إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان وكتاب الشيخ حمود التويجري رحمه الله الإيضاح والتبيين، نقلٌ عن جماعة من العلماء في حرمة ذلك والرد على من تساهل فيه ونُقل عن ابن عبد السلام قوله في الرقص والتصفيق أنه خفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب، بل لقد جعل الشيخ حمود رحمه الله من خوارم المروءة التحية العسكرية وقال: لا أسفه رأياً ممن رغب عن تحية الإسلام واستبدل عنه بإشارات الإفرنج وضربهم بالأرجل.
ومن خوارم المروءة سوء العشرة مع الأهل أو الجيران وشتم الناس والبخل والشح.. ومما يدخل في إيذاء الأهل والجيران والناس شرب الدخان والشيشة بينهم ورفع الصوت والقهقهة وكشف ما جرت العادة بتغطيته من البدن، ويدخل فيه أيضاً استعمال المنبهات التي في السيارات تحت البيوت والسرعة في القيادة داخل الحواري وقفل الطريق بالسيارات دون مراعاة لحقوق الآخرين.
ومن خوارم المروءة اللعب بالنرد وبالحمام وما شابه ذلك والمزاح مع السفهاء ومد الرجلين بغير عذر في مجمع الناس ومصارعة الثيران وصراع الديكة ومصارعة النساء.
ومن خوارم المروءة عدم المحافظة على الصلوات والاعتياد على عدم الجلوس في المساجد بعد الصلوات للذكر والتسبيح والمداومة على ذلك وعلى ترك السنن الرواتب والوتر ومخالطة تاركي الصلاة ومرتكبي الفواحش والكبائر.
أيها الإخوة: نلاحظ أن بعضاً من هذه الخوارم هي محرمات وبعضها مكروهات وبعضها منافٍ للأخلاق الإسلامية وللذوق، فأما ما كان منها محرماً فالواجب تركه، ومن وقع في شيء منه فعليه العودة والتوبة من ذلك، وأما ما كان مكروهاً أو أقل من ذلك أو أكثر، فالمسلم ينبغي له أن يترفع عنه وأن يكون صاحب ذوق رفيع وهمة عالية ونفس زكية مقتدياً في ذلك بسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام، فصاحب العقل يأمره عقله بالأنفع، وصاحب المروءة تأمره المروءة بالأرفع، والأولى بالمسلم أن يصون نفسه ويحفظها عما يشينها ويسعى بكل جهده لفعل الخيرات وحصد الحسنات ويبتعد عن السيئات بالبعد عن المعاصي والمنكرات، فالحسنات تزيد نور القلوب والسيئات تطفئها والعياذ بالله. اللهم نور قلوبنا واحفظ جوارحنا واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
لقد ذكر أهل العلم أصنافاً وأفعالاً شتى من خوارم المروءة، فمثلاً اعتبروا كل تشبه من الخوارم للمروءة، سواء التشبه بالنساء أو بالإفرنج أو بأي ملة من غير المسلمين... فحلق اللحية وإطالة الأظافر ولباس الكفار، والميوعة في الكلام أو المشية إلى غير ذلك كله من خوارم المروءة.
فكل ما ينافي الرجولة وينافي الإسلام فهو من خوارم المروءة، وكذلك كل ما يشرخ الأخلاق فهو من الخوارم مثل الكذب ولو بالمزاح، والسباب واللعان والظلم والتعدي بجميع أنواعه وأشكاله – إلى غير ذلك.
ولكن كيف يبتعد الإنسان عن خوارم المروءة ومن ثم يكسب المروءة يقول صاحب كتاب المروءة وخوارمها: اعلم أن للمروءة وجوهاً وآداباً لا يحصيها عدد ولا حساب، وقلما اجتمعت شروطها قط في إنسان ولا اكتملت وجوهها في بشر إلا في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأما الناس فهم على مراتب بقدر ما أحرز كل واحد منهم من خصالها واحتوى من خلالها، ومن شروطها العفة والنزاهة والصيانة والمعاونة والمياسرة، وقد أشار الإمام الشافعي رحمه الله إلى ذلك بقوله للمروءة أربعة أركان: حسن الخلق والسخاء والتواضع والشكر، ثم قال: أما العفة فتكون إما عن المحرمات وهي ضبط الفرج وكف اللسان، وإما عن المأثم وهي كالكف عن الظلم وعن الخيانة والنزاهة تكون إما عن المطامع الدنيئة أو عن مواقف الريبة، والصيانة تكون إما بالاقتصاد أو بالاستغناء عن الناس، والمعاونة والمعونة تكون بالجاه والمال والبدن وأما المياسرة فهي العفو عن الهفوات والمسامحة في الحقوق والواجبات ولا يكون ذلك إلا لأهل الفضل فقط.
ومما يعين على المروءة: الزوجة الصالحة ومجالسة الأخيار أهل المروءات ومجانبة إخوان السوء....ا.هـ. باختصار.
أيها الإخوة: مروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه وبعده عن الفواحش، ومروءة الخلق السعة والتأني والمباسطة للحبيب والبغيض، ومروءة المال بذله في وجوهه المحمودة عقلاً وعرفاً وشرعاً، ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه ومروءة الإحسان تعجيله وتيسيره وتوفيره وبذله مع ترك الخصام والمماراة، والتغافل عن عثرات الناس، والتوقر للكبير وحفظ حرمة النظير ورعاية أدب الصغير.
والمروءة أيها الإخوة على ثلاث درجات:
1- مروءة المرء مع نفسه وهي أن يحملها قسراً على ما يحملها وترك ما يدنسها... فلا يفعل ما يستحيى منه حتى ولو كان خالياً إلا ما لا يحظره الشرع.. كالجماع والتخلي.
2- المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم ما يكرهه هو لنفسه.
3- المروءة مع الحق سبحانه وتعالى بالاستحياء منه ونستشعر مراقبته بالنظر إلينا واطلاعه علينا في كل لحظة ونفس.
واعلم أيها العبد أن عليك إصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان لأن الله قد اشتراها منك وأنت ساع في تسليم المبيع وتقاضي الثمن، وليس من المروءة تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملاً، قال بعض الحكماء: اتق مصارع الدنيا بحبل المروءة، واتق مصارع الأخرى بالتعلق بحبل التقوى تفز بخير الدارين وتحل أرفع المنزلتين. وقال آخرون: صُن عقلك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، قال الله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً.
وقال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير.
وقال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً.
أيها الإخوة: إن في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام والأئمة الأعلام نبراساً لمن أراد السير على طريق المروءة، وعلينا أيها الإخوة اجتناب مواطن الريبة والشبه والتحلي بآداب وأخلاق السلف الصالح من سماحة ونظافة وتطيب وسلامة القلوب والجوارح ومراعاة العهود والوفاء بالوعود والعقود، كن أخي المسلم ممن إذا أعطي شكر، وإذا حرم أو ابتلى صبر، وإذا قدر غفر.
(1/1570)
من يحمل هم الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصحابة يحملون همّ الدين. 2- الواجب علينا تقديم هموم الآخرة والدين على هموم الدنيا.
3- من أهتم بآخرته أعانه الله على هم دنياه. 4- تحقير النبي صلى الله عليه وسلم من شأن
الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)) رواه الترمذي.
أيها الإخوة: جاء في سنن ابن ماجه أن معاوية زار أبا هاشم وهو طعين فبكى أبو هاشم. فقال معاوية: ما يبكيك؟ أي خال أوجع يشئزك أم على الدنيا فقد ذهب صفوها؟ قال: على كلٍ لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً وددت أني كنت تبعته قال: ((إنك لعلك تدرك أموالاً تقسم بين أقوام، وإنما يكفيك من ذلك، خادم ومركب في سبيل الله)) فأدركت وجمعت.
لاحظوا أيها الإخوة: ما يبكي الصحابة؟ إنه يبكي على شيء من الأموال جاءتهم من الفتوحات والتي أفاء الله بها عليهم، جاءتهم الأموال وجاءتهم الدنيا وهي راغمة لأن همهم كان هو الدين.. همهم الآخرة لم يكن همهم الدنيا ولا المناصب، سعوا للآخرة.. انطلقوا بهذا الدين في جميع أنحاء المعمورة داعين إلى الله ومجاهدين في سبيله، فجمع الله لهم بين العز والرفعة والسؤدد، وبين الغنى والملك، ورغم ذلك يبكون على أنهم نالوا شيئاً من الدنيا زيادة على حاجتهم الضرورية. فما هو حالنا هذه الأيام. ما هو حال المسلمين اليوم؟ كم عدد الذين يحملون هم الدين؟ وكم هم الذين يحملون هم الآخرة بين الأمة يحملون إلا هموماً دنيوية زائلة؟ قال الله تعالى: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم هدفهم الدنيا، يتعلم للدنيا ويخرج فلا يفكر ولا يخطط إلا للدنيا، للسيارة – للعمارة – للوظيفة- للثروة – للجاه. وربما ينحط في تفكيره وتخطيطه.. فلا يحمل إلا هم المباريات وفوز فريقه، فيوالي ويعادي في ذلك، لا راية له إلا راية الفريق، ولا إخوان له إلا مشجعي الفريق الذي يشجعه ومن عداهم فهم خصوم وأعداء.
ليس معنى كلامي هذا أيها الإخوة أن الإنسان لا يسعى في الحياة الدنيا ويطلب الرزق الحلال ويفكر في بناء بيت وشراء سيارة لا.. إنما أقصد من كلامي هذا أن المسلم يجب أن يكون همه الأول والأخير هو الدين هو التوحيد.. هو الآخرة والفوز بالجنة، ولا بأس أن يدرس ويتعلم ويتخرج ويطلب الرزق ويتخرج ويعمر ويركب سيارة فارهة ويلبس اللباس الجميل ويستمتع بما أحل الله من متع الحياة الدنيا وكل ذلك يكون تحت مظلة الاهتمام بالدين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين أما من جعل الدين وراء ظهره ولا هم له إلا الدنيا فقد قال الله تعالى فيهم: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون.
أيها الإخوة: جاء في سنن ابن ماجه عن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من جعل الهموم هماً واحداً، هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا، لم يبال الله في أي أو ديته هلك)).
وجاء في الحديث القدسي قول الله تعالى: ((يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً، ولم أسد فقرك)).
إذاً أيها الإخوة: الأصل أن يكون الدين هو الاهتمام الرئيس في حياة المسلم وتأتي الأمور الأخرى تابعة لذلك الاهتمام فبؤرة التركيز والتفكير والتخطيط عند المسلم هو الإسلام، فيبدأ بنفسه بإصلاح نفسه، بإصلاح عقيدته، بتجديد توحيده لله تعالى وسلوك الصراط المستقيم والسعي في تحقيق سنة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع عباداته، ثم ينتقل إلى تعليم من يعول وجيرانه، مع الاهتمام بأمور المسلمين في جميع بقاع الأرض والتفكير فيهم، فهم إخواننا وإن اختلفت اللغات أو الجنسيات فيساعدهم بقدر المستطاع وأقلها الدعاء لهم بظهر الغيب في صلاته وفي قيامه وآخر الليل.
أيها الإخوة: كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم وهمه الوحيد إقامة الدين وكذلك كان هم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما أنا والدنيا! إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة. ثم راح وتركها)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا ملعونة. ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)).
والصحابة كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الآخرة وعن الجنة وما يقربهم إليها ويقدمون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله. جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك)).
فتذكر أخي المسلم هذا الأمر واجعل همك الآخرة، اجعل همك الدين ونصرة الدين وإخوانك المسلمين وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)).
فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
جاء في سنن ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: اشتكى سلمان، فعاده سعد، فرآه يبكي فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي: أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس. أليس؟ قال سلمان: ما أبكي واحدة من إثنين. ما أبكي ضناً للدنيا ولا كراهية للآخرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً. فما أراني إلا قد تعديت. قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إلي أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، ولا أراني إلا قد تعديت. وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همك إذا هممت.
هذا هو هم الصحابة. وهذا ما يبكيهم أن يكونوا توسعوا في المباحات وجمعوا مما أفاء الله عليهم من الحلال الطيب، ويوصي أحدهم أخاه بالتقوى والعدل إذا ما تولى أمراً من أمور المسلمين.. فأين حالنا من حال هؤلاء.
أين ولاة أمر المسلمين من هذه الأحاديث والآيات.أين المسؤولون عن أمة الإسلام عن هذا المنهج وعند هذا الصراط المستقيم، كلهم في وادٍ والسنة في وادٍ آخر إلا من رحم الله منهم، وقليل ما هم.
لو نظرنا بصدق وإخلاص في أحوالنا أحوال العالم الإسلامي حكاماً ومحكومين قادة وشعوباً إلا من رحم الله. لوجدنا كل الاهتمام بالدنيا وزينتها والتفاخر بها والتسابق عليها وعلى حيازة أكبر قدر من ثرواتها وزخرفتها والاهتمام بالتفاخر بالآباء والأجداد وبالعادات والتقاليد وما يسمى بالتراث. الاهتمام بالشهوات والملذات. والاهتمام بالمناصب والمراتب العالية والتنافس عليها.
أما الاهتمام بالدين والاهتمام بالمسلمين والسعي لرفعة الدين ونصرة المسلمين ورد الظلم عنهم فلا يكون إلا تبعاً لأمة الكفر سواء عن طريق الأمم المتحدة أو عن طريق غيرها.
انظروا إلى حال المسلمين اليوم في البلقان وفي فلسطين وفي كشمير وفي الفلبين وفي غيرها من دول العالم وهم في ضنك وألم وظلم. انظروا إلى دول العالم الإسلامي حيث منهم من يحتفل بمناسبة وطنية أو هو يستعد لمسابقة رياضية أو يسعى لتحقيق ثروة أو جاه أو منصب دون أن يذكر أحد منهم ولو مجرد ذكر في تصريحاته ولقاءاته الاعتداء على المسلمين وانتهاك حرماتهم في تلك البقاع، بل وقد اغتر كثير من المغفلين من المسلمين بما يقوم به النصارى من ضرب إخوانهم بالطائرات والصواريخ واعتبر هذا نصراً للمسلمين المضطهدين، ولا يدرون أن هذه التمثيلية الجديدة ولو أن فيها خسارة مالية عليهم ليست إلا لأغراض خاصة بهم، وليس القصد منها نصرة المسلمين. فالقضية معروفة منذ بضع سنوات حيث هم متفقون جميعاً على ضرب الإسلام والمسلمين.
قام حلف الأطلسي بضرب الصرب بالطائرات لإرغامهم على إعطاء الحرية والحقوق للمسلمين في البوسنة والهرسك... وقد ظهر الآن أن القنابل والصواريخ التي ألقيت في أراضي البوسنة والهرسك سيمتد ضررها على صحة المسلمين مئات السنين لأنها كانت من مواد خطيرة تسمى اليورانيوم المخصب الذي يبقى في الأرض فيسبب السرطان والتشوه الخلقي والإجهاض.
نعم هم لا يمنعون الحرية الدينية، أي يرون أن المسلم له الحق أن يصلي ويصوم ويؤدي شعائر الله، أما أن يكون لهم دولة في أوربا أو أن يكون لهم قوة فهذا ممنوع.
والقضية هي أن بعضهم يرى ألا يكون للمسلمين وجود أصلاً في تلك البلاد ويرى إبادتهم وقتلهم وتشريدهم، والبعض الآخر لا يرى بأساً أن يكونوا موجودين، ولكن بدون دولة ولا جيش إلا في حدود ضيقة جداً، ويقول وبعضهم: لا بأس أن تكون دولة مسلمة في أوربا بشرط أن تكون مثل إحدى دول الخليج العربي فالجيش محدود العدد ولا يحق لهم أن يوالوا أو يعادوا إلا ما تراه دول الكفر ولا يحق لهم نصرة أحد من المسلمين إلا بإذن منهم، بل ولا يحق لهم تقديم مساعدات غذائية أو مالية إلا بموافقاتهم.
أي أن تلك الدول لا تريد للمسلم أن يكون حراً ولا أن يبدي برأيه في القضايا العامة إلا بإذنهم.. فما أدري بماذا سيجيب المسلمون ومن تولى أمرهم يوم القيامة ربهم عن هذا الذي هم فيه من الهوان والاهتمام بالمناصب والحياة وزينتها وزخرفتها.. أين الاهتمام بالدين وبالآخرة.
فلنربِ أنفسنا وأولادنا على الجهاد في سبيل الله وعلى عقيدة التوحيد وعلى الولاء فلا نوالي ولا نحب إلا من أمرنا الله بموالاتهم ومحبتهم، ولا نعادي ولا نكره إلا من أمرنا الله بمعاداتهم وكراهيتهم. هل أنتم أمة الإسلام راضون بهذا الهوان والذل مع الانغماس في الملذات والشهوات... لا والله لا نرضى ولن نرضى بهذا، وإن في أمة الإسلام من يرضى أن يعيش عيشة بسيطة في منزل متواضع مع العز والشرف ورفع الرأس بالجهاد في سبيل الله ضد الطغاة الكفرة المعتدين على أن يعيش في الرفاهية والبذخ والقصور والمال والجاه مع هذا الذل والهوان والتبعية لأحفاد القردة والجنازير عباد الصليب الكفرة الفجرة.
(1/1571)
منهج أهل السنة في الصفات
التوحيد
الأسماء والصفات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقيدة أهل السنة هي عقيدة السلف الصالح. 2- كيف يؤمن أهل السنة بصفات الله. 3- ذكر
بعض صفات الله الذاتية وكيفية الإيمان بها عند أهل السنة. 4- تأول الأشاعرة للصفات. 5-
المعتزلة والجهمية وتعطيلهم الصفات الإلهية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن منهج أهل السنة والجماعة في فهم العقيدة الصحيحة. العقيدة الإسلامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم هو المنهج الصحيح وهو الصراط المستقيم فالعقيدة التي يجب على كل مسلم التمسك بها والإيمان بها هي عقيدة سلفنا الصالح الذين نقلوها لنا صافية نقية بعيدة عن الأهواء والضلال والعياذ بالله، قال الله تعالى: فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك ولسوف تسألون والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بالتمسك بما جاء به الوحي: القرآن والسنة.
فمنهج أهل السنة والجماعة، منهج السلف الصالح، هو اتباع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل قضية من قضايا العقيدة وعدم رد شيء منها، أو تأويلها تأويلاً باطلاً، مع الالتزام بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.. ففي هذا المنهج صيانة للعقل من الانحراف وصيانة للأمة من التفرق والضلال.
وهو ما يجب علينا اتباعه والاستمساك به، ومما يجب علينا الإيمان به متبعين في ذلك السلف الصالح: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، وقد تكلمنا منذ مدة عن الإيمان بالله وبأسمائه الحسنى، واليوم سوف نتكلم عن الإيمان بصفات الله كما وردت في القرآن والسنة من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل ولا تحريف، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله عز وجل فوق سبع سماوات على عرشه. كما جاء ذلك في القرآن قال تعالى: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وقال تعالى: الرحمن على العرش استوى وقال سبحانه: إليه يصعد الكلم الطيب وقال تعالى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقال تعالى: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فالاستواء معلوم في اللغة وهو العلو كما قال تعالى عن ركوب الدابة والسفينة: وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون فالاستواء هو العلو، والإيمان به واجب، أي بالاستواء، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة، أي عن كيفية الاستواء، فعلماء الأمة من سلفنا الصالح رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً... فلقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جارية قال لها: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله، قال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدها: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) وقال أبو حنيفة رحمه الله: من لم يعرف أين الله فهو كافر.
ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل ينزل ويجيء نزولاً ومجيئاً يليق بعظمته وجلاله دون تشبيه له بالمخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف كما جاء في السنة والقرآن، قال تعالى: وجاء ربك والملك صفاً صفاً وقال تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمام والملائكة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) فهذا المجيء والإتيان والنزول نؤمن به دون تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومن معتقد أهل السنة أن القرآن الكريم كلام الله وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر، فقد قال رسول النبي صلى الله عليه وسلم لقومه حينما أرادوا منعه من تبيلغ الرسالة: ((أتمنعوني أن أبلغ كلام ربي)) قال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وقال تعالى: وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون.
فهذا كلام الله تحفظه الصدور وتتلوه الألسنة ويكتب في المصاحف بفضل الله ومنّه، والحمد لله الذي يسر لنا ذلك ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
ومن معتقد أهل السنة، أن المتقين يرون ربهم يوم القيامة وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وأما الفجار فهم محجوبون عن رؤية ربهم كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم. وأهل السنة يثبتون لله الوجه، للذين أحسنوا الحسنى وزيادة والزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((النظر إلى وجه الله عز وجل)) ، فالحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل، وقد جاءت صفة الوجه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله وقال تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه وقال سبحانه: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. وجاء في الحديث: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين)).
ومن معتقد أهل السنة إثبات الساق كما جاء في القرآن والسنة. قال الله تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بحديث طويل فيه أن الله حينما يكشف عن ساقه يوم القيامة فيسجد المؤمنون أما المنافقون فتصبح ظهورهم طبقاً واحداً لا يستطيعون السجود فيقعون على ظهورهم والعياذ بالله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ومن معتقد سلفنا الصالح، أهل السنة والجماعة. أنهم يشهدون لله تعالى بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة والنبوة. ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله منها ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه فهم يؤمنون بالله ويثبتون له اليدين سبحانه وتعالى فيقولون: إنه خلق آدم بيديه كما نص سبحانه عليه في قوله: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين تحريف المعتزلة والجهمية أهلكهم الله. ولا يكيفونهما بكيف أو يشبهونهما بأيدي المخلوقين تشبيه المشبهة خذلهم الله، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف والتشبيه ومن عليهم بالتعريف والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وكما ورد القرآن بذكر اليدين في قوله تعالى: لما خلقت بيدي وقوله: بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ووردت الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بذكر اليد، كخبر محاجة موسى آدم عليهما السلام وقوله له: ((خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته)) وفي حديث الشفاعة الطويل حينما يخاطب الناس آدم، فيقولون له: ((يا آدم أنت خلقك الله بيديه..)) الحديث، وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ووردت بها الأحاديث الصحيحة من السمع والبصر والعين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال: ((ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)) فوضع النبي صلى الله عليه وسلم إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وقرأ قول الله تعالى: إن الله سميع بصير.
كما يثبتون العلم والقوة والقدرة والعزة والعظمة والإرادة والمشيئة والضحك، ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة)) وغيرها من الصفات من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر كما يفعل أهل البدع بل يجرونه على الظاهر ويكلون علمه إلى الله، قال تعالى: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون أما من أراد تشبيهاً، أو تأويلاً أو تعطيلاً لصفات الله نرد عليه بقوله تعالى: قل أأنتم أعلم أم الله ولقد أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بها والله عز وجل يقول: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ونختم بهذه الأبيات للشيخ حافظ حكمي رحمه الله.
وقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا
في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيقبل
هل من مسيء طالب للمغفرة يجدْ كريماً قابلاً للمعذره
يمن بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائلُ
وأنه يجيء يوم الفصل كما يشاء للقضاء العدل
وأنه يرى بلا إنكار في جنة الفردوس بالأبصار
كل يراه رؤية العيان كما أتى في محكم القرآن
وفي حديث سيد الأنام من غير شك ولا إبهام
وكل ماله من الصفات أثبتها في محكم الآيات
أوصح فيما قاله الرسول فحقه التسليم والقبول
نمرها صريحة كما أتت مع اعتقادنا لما له اقتضت
من غير تحريف ولا تعطيل وغير تكييف ولا تمثيل
بل قولنا قول أئمة الهدى طوبى لمن بهديهم قد اهتدى
لا تتبع أقوال كل مارد غاو مضل مارق معاند
فليس بعد رد ذا التبيان مثقال ذرة من الإيمان
(1/1572)
موقف المسلم من الأديان الأخرى
أديان وفرق ومذاهب
أديان
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الدعوة إلى تقارب الأديان. 2- عظيم كفر اليهود والنصارى. 3- الواجب دعوتهم
إلى الإسلام. 4- خطورة التردد في تكفير اليهود والنصارى كما يقع به البعض. 5- حقوق أهل
الذمة وواجباتهم. 6- الإيمان أصل لقبول الأعمال. 7- عودة للحديث عن فكرة تقارب الأديان
وعلاقتها بالماسونية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: لقد جابه الدعوة الإسلامية أعداء مختلفون، مستخدمين كافة الوسائل الظاهرة والباطنة للصد عن سبيل الله منذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وحتى هذه اللحظة، وستبقى العداوة بين الحق والباطل وسيبقى الصراع إلى أن يشاء الله، والأيام دول فيوم لنا ويوم علينا، ورغم ذلك فهناك بقية من أهل الحق تقل وتكثر، وتضعف وتقوى، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم بإذن الله.
أيها الإخوة: إننا نعاني هذه الأيام من اجتماع قوى الشر وتعاونهم على الباطل ضد الإسلام، وإن مما يحز في النفس أننا نرى أبناء جلدتنا وأناساً يتكلمون بلغتنا، بل ومنهم من يعتبر من الدعاة أو الكتاب الإسلاميين، من يدور في فلك هؤلاء الأعداء من الماسونية العالمية أو الصهيونية، سواء كان بعلم أو بغير علم، فإن كان لا يعلم فتلك مصيبة وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم.
إننا نسمع منذ فترة من الزمن، الدعوة إلى التقارب بين الأديان، والدعوة إلى وحدة الأديان. دعاوى يراد بها الجمع بين الحق والباطل، بين الطيب والخبيث بين الصلاح والفساد قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون....
أيها الإخوة: إن اليهود والنصارى كفار أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، فهم يكذبون بالله وبرسوله، ويسبون الله ورسوله. جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كذبني عبدي، ولم يكن ذلك له، وشتمني عبدي ولم يكن ذلك له.. أما تكذيبه إياي أن يقول :لن يعيدنا كما بدأنا، وأما شتمه إياي أن يقول: إن لله ولداً، وأنا الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد)).
وكما قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ، وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٌ وما من إله إلا إلهٌ واحد.
فكيف يتم التقارب مع هؤلاء الكفار؟ إن الواجب علينا دعوتهم إلى الحق. إلى الإيمان بالرسل، لأنهم أيها الإخوة لا يؤمنون بأحدٍ من الرسل حتى رسلهم فإنهم يكذبونهم، لأنهم أيها الإخوة: لا يؤمنون بموسى ولا عيسى، لأنهم لو آمنوا وصدقوا لدخلوا في الإسلام، لأن كل نبي يبشر أمته وقومه بقدوم محمد صلى الله عليه وسلم ويخبرهم بوجوب الإيمان به، ولكن القوم يتبعون أسيادهم الذين خالفوا الأنبياء وكذبوا على الله بأن ألفوا كتباً وقالوا: هذه من عند الله وما هي من عند الله كما أخبرنا سبحانه وتعالى عن ذلك في كتابه العزيز حيث قال: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ، لذلك الصحيح هو بيان الحق لهؤلاء المضَللون من عامة اليهود والنصارى، ومقارعة زعمائهم ورهبانهم بالحجةِ والبيان وفضح مخططاتهم وأساليبهم في تلبيس الحق بالباطل لغواية بني جنسهم ووضع غشاوة على عيونهم حتى لا يؤمنون، ونبدأ معهم بالآيات المبينة لذلك وتفسيرها لهم.
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ، ونبين لهم أن الدين عند الله الإسلام فهو دين الرسل من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. أما أن نتنازل عن ديننا ونخاطبهم باسم الإيمان أو باسم أنهم أتباع الأنبياء السابقين ونسبتهم إليهم كما يقال مسيحي، فهذه النسبة خطأ لأن كلمة مسيحي أي أنني أنسب الشخص إلى المسيح عليه السلام، فاليهودي لا يمكن أن أقول له موسوي، والمسلم لا يمكن أن أصفه محمدي، بل يقال يهودي ونصراني ومسلم. وقد حذرنا الله من اليهود والنصارى ومن موالاتهم.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. وللأسف إن هناك شبهاً تلقى على الناس حيدة عن الحق وتضليلاً للعقول وذلة وتبعية للكفار، لأن الذي يلقي هذه الشبه هم من الأذناب لليهود والنصارى، حتى وإن عُرفوا بأنهم من الدعاة أو الكتاب الإسلاميين فقائل يقول: كيف يدخل مخترع الكهرباء النار وهو قد أضاء لنا الدنيا؟ وآخر يقول: كيف نعادي اليهود والنصارى ونحن حتى الأدوات التي في المساجد من اختراعهم وصناعتهم؟ وثالث يقول: هذا رسول الله رهن درعه عند اليهودي وزار جاره المريض وهو يهودي فلماذا تدعوننا لغير ذلك؟ والصحيح أن هذا من قلب الحقائق ومن التضليل. فاليهودي الذي عامله النبي صلى الله عليه وسلم بصفته مواطناً مقيماً تحت رعاية دولة الإسلام قد أخذ عليه العهد وعلى قومه في معاهدة مشهورة معروفة، فحينما خان قومه العهد وظاهروا المشركين على المسلمين كان جزاؤهم القتل والسبي ومصادرة الأموال، أما إذا عاش الكفار بين المسلمين على الشروط التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فلا بأس بذلك مع دفعهم الجزية للخزينة الإسلامية. ونذكر من هذه الشروط ما ذكره أهل العلم ونقلوه في كتب التفسير والفقه وغيرها حيث شرط أهل الكتاب على أنفسهم أن لا يحدثوا ديراً ولا كنيسة ولا صومعة ولا يجددوا ما خرب منها وأن يقوموا بإطعام المسلمين الذين يمرون بديارهم ثلاثة أيام وأن لا يؤوا جاسوساً ولا يكتمون غشاً للمسلمين وأن لا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهرون بدعهم وشركهم وأعيادهم ولا يصدون أحداً من أهلهم أو يمنعونه من دخول الإسلام. وأن يوقروا المسلمين ويقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس وأن لا يتشبهوا بالمسلمين في لباس أو كلام أو الكنى ولا يركبون السرج ولا يتقلدون السيوف ولا يتسلحون بأي نوع من السلاح ولا يحملونه وأن لا يبيعوا الخمور ولا يظهرون الصليب ولا يدقوا الأجراس أو النواقيس ولا يرفعوا أصواتهم بترانيم صلاتهم وأن يجزوا مقدم رؤوسهم حتى يُعرفوا وأن لا يظاهروا أحداً ضد المسلمين، ولا يضربوا أحداً من المسلمين أيضاً ولا يطلعوا على بيوتهم فإن هم خالفوا ذلك فلا ذمة لهم.
هذه بعض الشروط التي عقدها أهل الكتاب على أنفسهم وقد أذلهم الله وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا نبدأهم بالسلام، وإذا لقينا أحدهم في طريق اضطررناه إلى أضيقه، ومع هذا يعيشون بين المسلمين فيبيعون ويشترون ويأكلون طعامهم مع الاستمرار في دعوتهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن جاره اليهودي الذي مرض فزاره النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه للإسلام فأسلم ثم مات.
أيها الإخوة: إن اليهود والنصارى لا يريدون لنا الخير ويكذبون بالرسل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نغتر بما يقولون من دعاوى يروج لها البعض من غير علم ولا فقه. فهذا القرآن بين أيدينا وهذه سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه سيرة الخلفاء الراشدين نبراس لنا.. قال الله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم وقال تعالى: ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وقال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير.
اللهم نور بصائرنا واحفظنا من الزيغ والضلال يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة: إن الأصل في قبول الأعمال أن تكون بعد الإيمان بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر، أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى. فهذه المخترعات التي صنعها الكفار حتى وإن تكون فيها مصلحة وفائدة للبشر فإن الله يجازيهم بها في الدنيا وذلك أيضاً حسب نياتهم.. حيث أنهم كفار لا يؤمنون بالآخرة ولا بالجنة ولا بالنار. فإنهم يريدون بذلك العمل الحياة الدنيا فقط فالله عز وجل لا يظلم أحدا،ً فيعطيهم من الدنيا ما يريدون.
قال تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وهذا ما نشاهده أيها الإخوة في حياتنا، فالكفار يتمتعون في هذه الحياة الدنيا الزائلة، وقد هيأ الله لهم كل أسباب التطور المادي.. مع ما يصيبهم من نكبات وكوارث تذكرة لهم حتى يؤمنوا ويعودوا إلى الله ويتفكروا في أنفسهم، ولكنهم مع الأسف أخذتهم الرفاهية والتقلب فى زينة الحياة وبهرجها ولم يستجيبوا إلا قليلاً منهم قال تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد حذرنا الله من الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفتها وما يتمتع به الكفار من زينتها والاستمتاع بها حيث قال سبحانه وتعالى: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.
أيها الإخوة: إن الله عدل ويأمر بالعدل والقسط، فالنصارى الذين يعيشون بين المسلمين عليهم أن يلتزموا بما وضعوا أنفسهم فيه، ولهم من المسلمين المعاملة الحسنة والعدل، ومن العدل دعوتهم للإيمان بالله ورسوله وتكرار ذلك، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن جاره اليهودي، ومثل ما فعل مع نصارى العرب، ومثل ما فعل مع رئيس أكبر دولة في ذلك العصر وهو ملك الروم. حيث قال له: ((أسلم تسلم)) بالرغم من أن الدولة الإسلامية كان عدد سكانها لا يتعدى مائة ألف بينما جيش الروم لوحده أكثر من هذا العدد وربما أضعافاً مضاعفةً.
لماذا هذا الانسياق والمذلة خلف اليهود والنصارى لدرجة أن أخبار الكفار في وسائل إعلام المسلمين تتابع كل صغيرة وكبيرة لدى اليهود والنصارى حتى إذا مرض شخص منهم يتابع كل ساعة وكل يوم بل تتابع كل أخبارهم وأخبار مواشيهم وكلابهم وقططهم وغيرها. وغيرها مع الأسف الشديد.
هناك دعوات واجتماعات في دول الكفر باسم التقارب بين الأديان، ويحضر هذه الاجتماعات مسؤولون من بلاد المسلمين، ويلقون كلمات مائعة ليست فيها دعوة إلى الله ولا دعوة إلى توحيده وإنما هي دعوة باسم الإنسانية ومحبة البشر بلا تمييز، مما يميت عقيدة الولاء والبراء وقد يكون فيها كفر صريح لما تتضمنه من تكذيب للنصوص الصحيحة الصريحة من القرآن والسنة.
قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين إنها دعوة ماسونية صهيونية كافرة. لقد قال أحد رجال الماسون الملقب بالقطب الأعظم رئيس محفل الشرك الأكبر العالمي في كتاب ألفه باسم ((النور الأعظم)) قال الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمدية يجتمعون في ميم واحد هو ميم الماسونية، لأن الماسونية عقيدة العقائد وفلسفة الفلسفات، إنها تجمع وتوحد المتفرقات، وإن ما ورثه الآباء الصالحون للأبناء هو مبادئ الحرية والمساواة والإخاء. ا. هـ.
لقد كتب كثير من الباحثين حول هذا الأمر الذي يسمى التقارب بين الأديان وكشفوا أن أصله مؤتمر صهيوني ماسوني، وأن اليهود لهم دور خطير في تحريك أطراف الحوار بما يمهد باستقرارهم وهيمنتهم في فلسطين، وإن من العجيب أن أحد النصارى حينما أكتشف ذلك كتب مقالاً في إحدى الصحف الكبيرة في بلاده مطالباً فيه بني جنسه وبني قومه باستجماع شجاعتهم للوقوف أمام التحركات الصهيونية مطالباً بإيقاف الحوار حفاظاً على مجتمعه النصراني.
قال تعالى: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.
أيها الإخوة: لنرجع إلى منهج السلف الصالح بالقول والعمل والسير على طريقهم في فهم القرآن والسنة وتطبيقها في حياتنا ومعاملاتنا مع اليهود والنصارى والمشركين والمجوس والشيعة والصوفية حتى يحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ولنحذر من الإنزلاق وراء الأهواء فننحرف إلى الهاوية ولات ساعة ندم.
قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.
وقال تعالى: ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون.
أيها الإخوة: إن من نواقض الإسلام عدم تكفير الكافر، وبهذا فإن الدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بينها ما هي إلا ناقضة من نواقض الإسلام وردة وكفر، والعياذ بالله.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)). هذا من بقي على دينه الحقيقي فكيف بمن ادعى أن عزيراً ابن الله وأن الآلهة ثلاثة. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكيف بمن يقول أنه لا دين ولا جنة ولا نار، إنما إلهه الدرهم والدولار.
كيف يُتفق معهم ويستجاب لهم على ما يسمى وحدة الأديان أو التقارب بينها نسأل الله العافية والرشاد.
(1/1573)
موقف المسلم من البدع وأهلها
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب إنكار على كل أحد. 2- أعياد ومواسم مبتدعة يحتفل بها المسلمون. 3- سلف الأمة
لم يعرفوا هذه المواسم المبتدعة. 4- تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الابتداع في الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن كل مسلم يؤمن بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً يجب عليه أن ينكر المنكر ويغيره إما بيده أو بلسانه أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان، فمن كره فقد برئ، أما من رضي وتابع فإنه يكون واقعاً في الإثم.
وقد علمنا أن إنكار المنكرات، ومنها الابتداع في الدين، يكون باليد لذوي القدرة والسلطان، سواء كانت السلطة عامة أو خاصة، أما الإنكار باللسان فهو حق كل مسلم، كذلك الإنكار بالقلب بعدم الرضى وهجر أهل البدع والمعاصي وهجر أمكنتها، وهذا من حق الإخوة الإسلامية أن نبني علاقاتنا على الدين، دون النظر إلى الجنس أو اللون، فمن التزم بشرع الله واتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو أخ لنا نواليه ونحبه، أما من ابتدع في الدين وشرع للناس منهجاً مخالفاً لهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فإننا نعاديه، ونكشف أمره، ونبغضه، ولو كان أقرب قريب.
وعلى كل مسلم أن يزن الأمور بميزان الشرع الحنيف. وبالقسطاس المستقيم، وأن يرد على أهل البدع جميعهم وعلى جميع أنواع البدع، دون محاباة سواء كانت بدعاً بمناسبات دينية أو سياسية أو اجتماعية كأيام ذكرى الزواج أو يوم العبور أو الأيام الوطنية أو يوم الجلوس أو شم النسيم أو أسبوع الشجرة أو ليلة الإسراء والمعراج أو يوم المولد النبوي أو ليلة النصف من شعبان أو غيرها من الأيام المحدثة، كدعاء ختم القرآن في الصلاة [1] أو الاحتفال بمرور ربع قرن أو نصف قرن أو مائة عام على فتح مشروع، أو الاحتفال بليلة غزوة بدر الكبرى، أو فتح مكة، أو الهجرة النبوة، كلها بدع محدثة، لا أصل لها، بل هي ابتداع في الدين، أو تشبه بالكافرين، ومنها ما يجمع بين السيئتين: البدعة والتشبه والعياذ بالله، وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد وفقه الله في كتابه (اليوبيل [2] بدعة في الإسلام). أن على جميع الدعاة الإنكار على أهل البدع جميعهم دون تفريق ودون مجاملة، وأن لا يخشوا في الله لومة لائم.
أيها الإخوة: الدين النصيحة.. ومن النصح لله والنصح لرسوله صلى الله عليه وسلم، الرد على أهل الأهواء، والذب عن الدين وعن سنة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: جاء في سير أعلام النبلاء هذه القصة التي حصلت في عهد الواثق أحد خلفاء الدولة العباسية حينما ظهرت فتنة القول بخلق القرآن، حيث جيء بشيخ كبير إلى مجلس الواثق، وكان ابن أبي دؤاد في المجلس، وهو أحد العلماء في ذلك العصر ويقول بخلق القرآن، فقال الشيخ: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة: لا سلم الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، بئس ما أدبك مؤدبك، قال الله تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها. فقال ابن أبي داود: الرجل متكلم. قال له الخليفة: كلمه، فقال: يا شيخ ما تقول في القرآن؟ قال: لم ينصفني، ولي السؤال قال: سل. فقال الشيخ: ما تقول أنت في القرآن؟ قال: مخلوق. قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ قال: شيء لم يعلموه، فقال الشيخ سبحان الله! شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، علمته أنت؟ فخجل.
فقال: أقلني – يعني أريد أن أغير إجابتي – قال الشيخ: المسألة بحالها – يعني نفس السؤال أجب عنه – قال: نعم علموه- أي أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وبقية الخلفاء علموا أن القرآن مخلوق – فقال الشيخ: علموه ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم. قال: أفلا وسعك ما وسعهم.. فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم.
فقام الواثق من مجلسه وهو يقول: شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت سبحان الله!!. شيء علموه ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم أمر بفك قيود الشيخ، منذ ذلك الوقت انتهت بفضل الله هذه الفتنة وهذه البدعة.
من هذه القصة نستخلص أن كل من لديه القدرة على مناظرة أهل البدع وإبطال حججهم وكشف شبهاتهم بالقلم واللسان، يجب عليه ألا يتأخر عن ذلك حتى ولو لقي الأذى والمضايقة والتعب، وأن كل من أراد أن يتصدى لأهل الأهواء، لابد أن يكون صاحب قدرة على الحوار والمناقشة، وفهم للنصوص الشرعية، ودراية وبصيرة بما يريد أن يناظر ويجادل من أجله.
ونحن بدورنا نوجه هذه الأسئلة لكل صاحب بدعة، نقول لكل من يدعو إلى أمر لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا فعله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ولا بقية الصحابة ولا آل البيت من أولاد علي ولا أولاد العباس ولا أولاد جعفر، ولا أمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين، ولا الأئمة الأربعة، وفيهم الإمام الشافعي وهو من آل البيت، ولا غيرهم من العلماء المحدثين كالبخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبي داود والدارمي واسحق وابن المبارك رحمهم الله وغيرهم الكثير، نقول لهذا الداعي إلى تلك البدعة: هل هؤلاء كلهم علموا ما تدعو الناس إليه أم لم يعلموه؟ فإن قال لا: لم يعلموه، نقول سبحان الله كيف علمت أمراً خفي على النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته والأئمة والمحدثين، هل أنت أهدى من أولئك؟!! وإن قال: نعم علموه.. نقول له هل علموه؟ فتركوه، ولم يدعوا الناس إليه؟ وسكتوا عنه ولم يفعلوه؟ فإن قال: نعم.. (ولا أظنه إلا أنه يقول: نعم، لأنه لو قال: بل علموه وفعلوه وأمروا به فإننا سنسأله عن إثبات ذلك.. ودون ذلك خرط القتاد، فلا يوجد قول: – ولو- ضعيف عن فعل هذه البدع في القرون الثلاثة الأولى وحتى منتصف القرن الرابع الهجري.
عندها نقول له: يسعنا ما وسع القوم، فما تركوه نتركه، وما فعلوه نفعله، أما أنتم يا دعاة الضلالة، فإنكم ستفعلون ما تركوه، إنكم تتشبثون بأمور لم يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلها، ولم تذكر عن الخلفاء الراشدين ولا الأئمة المهديين.
أيها الإخوة: بعد أن نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لم يصعد إلى غار حراء مرة أخرى، ولم يرشد أصحابه إلى ذلك، وبعد الهجرة، تم أداء العمرة وفتح مكة، لم يطلب النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الذهاب إلى غار ثور، ولم يحدد وقتاً أو يوماً لذكرى ليلة الإسراء والمعراج، حتى التحق بالرفيق الأعلى.
ثم جاء الخلفاء الراشدون من بعده، فلم يحتفلوا بيوم ولادته صلى الله عليه وسلم ولا بيوم بعثته أو هجرته، أو بليلة الانتصار في معركة بدر أو غيرها من المعارك الشهيرة، وكذلك الأئمة الأربعة وبقية العلماء والمحدثين، لم يفعلوا ذلك ولم يذكروه في كتبهم ومؤلفاتهم، فأي الفريقين أهدى سبيلا؟
فلذلك يجب على كل مسلم أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل وترك، وأن يقتدي بالخلفاء الراشدين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم حتى يحظى بالشربة الهنيئة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، أما من أحدث حدثاً فإنه سيذاد عن تلك الشربة ويمنع منها، فيقول النبي: ((أمتي أمتي)) حينما يرى أثر الوضوء عليهم، فيقال له: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول: ((سحقاً سحقاً)).
يا أيها الإخوة: التزموا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين، لتفوزوا في الدارين، وتسعدوا برضا رب العالمين، عن جابر رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخط خطاً هكذا أمامه فقال: ((هذا سبيل الله)) وخط خطاً عن يمينه وخطاً عن شماله، وقال: ((هذه سبل الشيطان)) ثم وضع يده على الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل عمل شرة- أي نشاط – ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)).
وفي الختام نعوذ بالله من الخذلان، ومن طريق أهل البدع والضلال، ونسأله سبحانه وتعالى أن لا يجعل لهم علينا سلطانا، وما أردت بهذا إلا الإصلاح ما استطعت، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[1] انظر كتاب مرويات دعاء ختم القرآن للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد.
[2] اليوبيل كلمة عبرية بمعنى قرن الخروف ، وهي أداة يستخدمها اليهود في عباداتهم واحتفالاتهم. انظر معجم المناهي اللفظية.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1574)
موقف المسلم من الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة الشرك من أعظم الفتن ، وذكر بعض صور هذه الفتنة. 2- فتنة انتشار المعازف
والغناء. 3- فتنة وحدة الأديان والتقارب بينها. 4- أمور مبنية من الفتن. 5- موقف المسلم من
الفتن ودوره في الإنكار.
_________
الخطبة الأولى
_________
تكلمنا في السابق عن الفتن التي تتعرض لها قلوبنا كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عوداً، عوداً، فأي قلب أشرنها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه)). وكان حديثنا عن هذا الحديث كله منصباً على أنواع القلوب ومواقفها من الفتن. فما هي الفتن، التي تتعرض لها قلوب المسلمين وما هو موقف المسلم من هذه الفتن وإذا أصاب أحدنا شيء منها كيف يتخلص منها أو من آثارها على نفسه وقلبه؟ إن هذا أمرٌ مهم جداً لكل مسلم حتى يخرج من هذه الدنيا خير مخرج فيلقى الله بقلب سليم ويفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
أيها الإخوة: إن أعظم فتنة تتعرض لها الأمة هي فتنة الشرك والعياذ بالله أو فتنة الردة عن الإسلام أو النفاق، لقد حُذر سيد الموحدين صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل، وحُذرت الأمة كلها من الوقوع في الشرك قال تعالى: ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين والشرك ليس فقط بالصلاة أمام الصنم أو بدعاء غير الله والاستغاثة به كما يفعل عند الأضرحة والقبور، فهذا شرك واضح وقد وقع فيه كثير من المسلمين في بلاد العالم، ولكن هناك شرك المحبة وشرك الطاعة والخوف الرجاء، فكم من منفذ لتعليمات فيها مخالفة صريحة للشرع ومخالفة لأمر الله وأمر رسوله، فحينما يقال لهذا المنفذ: إن هذا حرام مخالف للشرع، يرد عليك ويقول: أنا عبد مأمور، عبد من أنت؟ يا هذا اتق الله، العبودية لله وحده، فكيف ترضى أن تكون عبداً لمخلوق مثلك لا ينفع ولا يضر ولا يستطيع أن يرد عن نفسه خيراً ولا أن يكسبها نفعاً إلا بمشيئة الله وحده، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذا من شرك الطاعة.
وقد يكون الشرك في الطاعة، بالتعصب لقول عالم أو فقيه مع أن قوله مخالف للدليل، وفي التعصب لقول هذا العالم رد لحكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون مثل قوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وذلك بطاعتهم فيما أفتوا بأن أحلوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله فتكون طاعتهم عبودية لغير الله لأن في ذلك رد لشرع الله واتباع لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحكيم الهوى: أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم.
ولقد ظهر في المجتمع الإسلامي من يدعو لعبادة غير الله بأن أجاز التوسل بأهل القبور ودعاءهم وطلب الغوث منهم، بل وظهر في الأمة من أخذ يعلن صراحة انخلاعه من الإسلام والدخول في دين النصارى.
أيها الإخوة: وإن من النفاق المعلن في أمة الإسلام الاستهزاء بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أو الاستهزاء بشيء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الفرح بانهزام دين النبي صلى الله عليه وسلم وانحساره، والفرح بانتصار دين الكفار وانتشاره، والعياذ بالله من هذه الفتن.
وإن من الفتن المنتشرة فتنة المال وما يسعى أرباب الأموال والسلطة في العالم الإسلامي إلى فتنة المسلمين به بإباحة الربا والدعوة للمشاركة فيه بالمساهمات والاستثمارات والادخار وعرضه للأمة عن طريق التقاسيط الوهمية أو غير ذلك من الوسائل التي فيها تحايل على نشر الربا وإغراق الأمة فيه على مستوى الأفراد والمؤسسات العامة والخاصة، وهذه حرب معلنة على الله ورسوله فلتستعد الأمة لهذه الحرب، ولينتظروا نتائجها قريباً إن لم تتب إلى الله وتعود إلى الجادة وإلى الصراط المستقيم.
كذلك أكل أموال الناس بالباطل على مستوى الفرد والجماعة سواء بالرشوة أو بالمكوس والضرائب كل ذلك مما ابتليك به الأمة من الفتن تحت مسميات وأساليب متنوعة أجارنا الله منها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)).
ومن الفتن التي تتعرض لها الأمة انتشار المعازف والغناء والسعي على إخراج المرأة من حشمتها ودينها لتجاري نساء اليهود والنصارى وإماتة روح الغيرة عن طريق المجلات الخليعة أو المسلسلات والأفلام الخبيثة أو بأي وسيلة إعلامية ممكنة وفتح مجال للشباب لممارسة الرذيلة عن طريق السياحة الخارجية وتسهيلها مادياً والدعوة إليها علناً جهاراً نهاراً دون خشية أو رقابة والله المستعان.
ومن الفتن التي تتعرض لها الأمة الدعوة إلى مصادقة أعداء الله من اليهود والنصارى وإماتة روح الجهاد في قلوب الأمة وموالاة أعداء الله عز وجل مخالفين بذلك ما جاء في القرآن والسنة من أن العداوة الدينية باقية إلى يوم القيامة وأنه لا دين مقبول إلا الإسلام إن الدين عند الله الإسلام وقال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
إن هذه الدعوة الفاسدة تحت ما يسمى بالتقارب بين الأديان ما هي إلا ذلة وخضوع واستسلام وترك لما أمر الله به، وفعل ما نهى الله عنه موالاة لأعداء الله ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
وقال تعالى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً. وقال تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وقال سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
أيها الإخوة: كلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون، والفتن كثرت، والبلاء عم وطم، وما منا إلا وتعرض عليه الفتن في اليوم مراراً ن فقد يضعف أحدنا في لحظة ويقع في منكراً أو معصية أو يلتبس عليه أمر فيجد في قلبه تغيراً واضطراباً. ولا تكون النجاة من هذه الأمور ومن آثارها على قلوبنا وجوارحنا إلا بالرجوع إلى القرآن والسنة على فهم السلف الصالح صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستغفار بالليل والنهار وخاصة في الأسحار، والتوبة إلى الله بما وقعنا فيه والرجوع إليه، ونكثر الخطا إلى المساجد ونسبغ الوضوء، ونصل الرحم، ونحسن للجار، ونفشي السلام، ونصافح الإخوان، ونبتسم في وجوههم، ونحضر مجالس الذكر، وننصت للخطبة ونساعد المحتاج، ونوالي المؤمنين ونعادي الكافرين، حتى تشملنا رحمة الله إن أصاب الناس بلاء وبأس. كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسند الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع عن أم سلمة وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم قوم صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته)).
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الفتن وكثرتها كما جاء في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل ترون ما أرى إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر)).
أي مثل المطر، فالله الله في الرجوع إلى الله ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
ما هو موقف المسلم من هذه الفتن؟ أيها الإخوة من المعلوم أن تغيير المنكر يكون باليد أو باللسان أو بالقلب، وليس بعد ذلك حبة خردل من إيمان كما ثبت بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، جاء في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون، من أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)).
إذاً لا يرضى المسلم بالمنكرات وبهذه الفتن، ولا يتابع عليها أحداً، ويستبرئ لدينه وعرضه، فإذا ما عرضت على قلبه شبهة أو شهوة أنكرها وردها وتمعر وجهه، فإن كان بمقدوره تغييرها بيده بأن يكون ذا سلطة وولاية لم يتأخر، فقام وغيّر، وإن لم يكن صاحب ولاية فينكر بلسانه وقلبه، ويرد على أصحاب الشبهة والشهوة بكل وسيلة إعلامية ممكنة، وأن لم يكن يستطيع ذلك لخوف من سلطة أو بطش جبار، فلا يرضى بقلبه، فينكر عليهم ولا يشاركهم في مجالسهم، ويبغضهم ويبغض أعمالهم.
فإذا رأى المسلم شيئاً يخالف أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم في السوق أو في موقع عمله أو في طريقه، فإما أن يكون صاحب سلطة وولاية فيغير المنكر بيده، أو صاحب كلمة مسموعة ونصح وإرشاد فينكر المنكر بلسانه، أو من عامة المسلمين الذي لا يستطيع أن ينكر بيده ولا بلسانه، فينكر بقلبه ولا يغشى هذه الأماكن إلا للضرورة.
فمثلاً هذه البيوت التي تحارب الله جهاراً نهاراً في داخل بلاد المسلمين والمسماة بالبنوك يجب أن نبغضها ومن يدعو لتدعيمها والمساهمة فيها إذا اضطررنا للذهاب إليها لحوالة أو لتسديد حساب مصلحة من المصالح أو لاستلام المعاش فإننا نذهب ونحن غير راضين وندخلها خائفين من وقوع العذاب عليها ونحن بداخلها ونحاول إنهاء أعمالنا فيها بسرعة حتى نخرج منها، أما من رضي وتابع فهو منهم، ممن يحارب الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، كذلك كل المعاصي والمنكرات المعلنة في الصحف والمجلات ومحلات بيع الأشرطة للأفلام والغناء وما يعرض في جميع الوسائل من صور للنساء وتبرج وخلاعة، وما يعلن أو يباع من الدخان والجراك... فإذا رأينا محلاً لا يبيع هذه المنكرات ولا يرضاها في محله فعلينا أن نذهب إليه ونتعامل معه، وعلينا أيضاً أن نبغض كل من يساعد أو يؤيد بيع ونشر هذه المنكرات، وعلى المسؤولين منعها باليد ومعاقبة من يسعى إلى نشرها، وإلا كانوا مثلهم ومعهم حتى ولو اضطررنا للتعامل معهم كما يضطر الجائع للحم الميتة.
كذلك مسألة أكل أموال الناس بالباطل عن طريق الرسوم والضرائب ويجب أن لانرضاها حتى وإن اضطررنا لدفعها لأي جهة، ندفعها مستيقنين أنها محرمة وأنها مكوس.
أما الرشوة فلا يجوز دفعها أبداً لأن فيها تعاوناً على الباطل، ولعن الله الراشي والمرتشي والرائش.
والضرورة في مسألة الرشوة أيها الإخوة هي الضرورة التي يكون فيها إنقاذ نفس من الموت وليس تأخير المعاملة لعدة أشهر أو الإستعجال بها من الضرورات التي تبيح الرشوة.
أما مسألة المكوس والضرائب التي تدفع للجهات الرسمية فإنه ليس لنا خيار لا بد من الدفع حتى نستحصل على الرخص فندفع المبالغ ونحن كارهون مبغضون لمن يأخذ أموال الناس بالباطل ونحذرهم من هذا الأمر ونخوفهم من الاستمرار في هذا والله المستعان.
أما مسألة نشر الضلال والفتاوى المبيحة للمحرمات كفتاوى إباحة المعازف أو تحليل أنواع من الربا فلا يرضا بها المسلم ولا يتابعها ويبغض من يفتي بها ويعلنها، كذلك من يدعو لعبادة القبور ودعاء الأموات وإقامة الحفلات البدعية الشركية فيجب على المسلم الموحد بغضهم وعدم الرضا بذلك وبغض كل من يعينهم وينشر بدعهم وضلالاتهم. وأما مسألة الردة وإعلان الكفر فهنا لا بد من توضيح أهمية المسؤولين والحكام من إقامة حد الردة دون هوادة فلأن يقام حد من حدود الله خير من أن ينزل المطر أربعين يوماً فإذا لم يقام الحد تهاوناً أو خشية من دول الكفر، اليهود، والنصارى، فهذا إثم عظيم وذنب كبير يجب على الجميع إنكاره وعدم الرضا به، وأما إن كان ترك إقامة هذا الحد بسبب رضا تلك الحكومة بإعلان الردة في رعاياها وترى ما يسمى بحرية الأديان فهم يشتركون في الردة والكفر، وعلى جميع الحكومات الإسلامية مقاطعة تلك الحكومة وبغضها حتى تعود إلى أمر الله وتقيم حد الردة على هؤلاء المرتدين من رعاياها، وعلى كل مسلم غيور أن لا يرضى بالكفر ويمقت الكافرين ويبغضهم فكل كافر ما هو إلا شاتم ساب لله ولرسوله مكذب بالله وآياته ورسوله فكيف نرضى بمحبة وموالاة أعداء الله. والله لو أن أحدهم شتم أباك أيها المسلم وكذبه مع علمك بأن أباك صادق لا يكذب ولا يعتدي على أحد فإنك لن ترضى بهذا وسنعاديه وربما نقاتله انتصاراً لأبيك فكيف ترضى، بمن يشتم ربك ويكذب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم وتتخذه صديقاً وخليلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كذبني عبدي ولم يكن ذلك له، وشتمني عبدي ولم يكن ذلك له، أما تكذيبه إياي أن يقول لن يعيدنا كما بدأنا، وأما شتمه إياي أن يقول اتخذ الله ولداً وأنا الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد)).
أيها الإخوة: استعيذوا بالله من الفتن ما ظهر منها أو بطن، وقوموا بدوركم تجاه هذه الفتن، كلٌ يحسبه، وتعلموا العلم الشرعي لتتحصنوا من الوقوع فيها.
(1/1575)
نبذه مختصرة من الشمائل والمعجزات النبوية
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة سريعة عن نشأة النبي صلى الله عليه وسلم. 2- بركة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- ذكر بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم. 4- القرآن أعظم معجزاته. 5- سلوكه وأخلاقه
صلى الله عليه وسلم دليل نبوته. 6- حادثة الإسراء والمعراج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: كانت مكة وادياً غير ذي زرع ولم يكن بها سكان حتى أمر الله نبيه إبراهيم عليه السلام بأن يضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر ببطن الوادي الذي بني فيه بيت الله الحرام بعد ذلك.
وهذه القصة معروفة ولا تخفى على الجميع، ثم جاءت قبيلة جرهم، وسكنت مكة حينما رأت الماء، فتزوج منهم إسماعيل وكثرت ذريته التي كانت على ملة التوحيد، الحنيفية السمحة.
ولكن بعد مرور السنين، انتشرت البدع وانتشر الشرك في البلد الحرام، وارتكبت الآثام إلا من أفراد معدودين ممن رحمهم الله ممن بقي على التوحيد الخالص، وقليل ما هم، ولكنهم ما عرفوا كيف يعبدون الله وحده، ولا كيف كانت عبادة السابقين من الموحدين، لطول العهد، وقلة الحفظ، وكثرة الدعاة المضلين من المقيمين أو الوافدين.
فعم الظلام وانتشر الجهل حتى أذن الله ببعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ليعلم الناس الحكمة ويزكيهم، فدعا الناس إلى التوحيد، فآمن من آمن، وكفر من كفر، بالرغم من أن قريشاً كلها كانت تعرفه بالصدق والأمانة وكانوا يسمونه الأمين.
أيها الإخوة: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مباركاً منذ طفولته وحتى التحاقه بالرفيق الأعلى.. لقد ذكر أهل السير أنه حينما جاءت أمه حليمة.. فكعادة العرب آنذاك حيث يذهب النساء يبحثن عن أولاد الموسرين ليرضعوهم مقابل شيء من المال، وكان آباء الأطفال يرغبون في ذلك مما يساعد على حسن تربية أولادهم في البادية وحسن تغذيتهم، فحينما جاءت حليمة السعدية لإرضاع أبناء مكة، ما وجدت إلا هذا الصبي اليتيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فترددت في أخذه، ولكنها أخذته حتى لا تعود إلى ديارها خاوية الوفاض.
وقد كانت قليلة الدر، ومعها ناقة عجفاء وأتان لا تلحق بالركب، وكانت أرضها قليلة العشب، ولكن بعد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم در ثدييها، وإذا بالناقة حافل بالحليب، ونشطت أتانها وسبقت الركب، واخضرت الأرض ونبت الزرع، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فقد حدثت أمور متكررة في عدة مناسبات وهي ثابتة في كتب السنة تدل على بركته صلى الله عليه وسلم.. ألا وهي نبع الماء من بين أصابعه حتى شرب الناس وتوضؤوا منه وهم مئات.
إحدى هذه الحوادث كانت يوم الحديبية كما رواها البخاري رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ، فجهش الناس نحوه فقال: ((ما بكم؟)) قالوا ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا. فسأل سائل: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمسة عشر مائة.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يلمس الطعام بيده ويدعو بالبركة، فيكفي هذا الطعام القليل مئات من الناس.
ومسح النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ضرع الشاة المجهدة وسمى الله فدر الحليب. وغير ذلك من الأمور الثابتة التي لا يسع الوقت لذكرها.
ومن الآيات الباهرات.. أنه صلى الله عليه وسلم أمر الشجرة بالحضور فامتثلت وحضرت بين يديه، ثم أمرها بالرجوع إلى مكانها فرجعت، كما جاء في سنن ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة. فقال: مالك؟ فقال: فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي. قال: ادع تلك الشجرة، فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها: فرجعت حتى عادت إلى مكانها. فقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((حسبي)) وقاد شجرة بغصن من أغصانها فانقادت معه كما يقاد البعير.
وفي بداية الدعوة المكية طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدق دعوته، فأراهم القمر ليلة كان بدراً نصفين.. انفلق القمر نصفين فوق الجبل فقال: اشهدوا.. فقالوا: سحرنا محمد.. فبدلاً من أن يؤمنوا.. ازدادوا كفراً والعياذ بالله.
بينما الوحش الكاسر والشجر والحجر الأصم آمنوا به صلى الله عليه وسلم حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حجر بمكة كان يسلم عليه.. فيقول: السلام عليك يا رسول الله.
وكذلك قصة الذئب الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك الراعي، فلنستمع أيها الإخوة إلى هذه القصة التي رواها الإمام أحمد والبغوي في شرح السنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما راع يرعى بالحرة إذ عرض ذئب لشاة من شياهه، فجاء الراعي يسعى فانتزعها منه فقال الذئب للراعي: ألا تتقي الله تحول بيني وبين رزق ساقه إلي: قال الراعي: العجب لذئب يتكلم، والذئب مقعٍ على ذئبِه يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب للراعي: ألا أحدثك بأعجب من هذا؟ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، فساق الراعي شياهه إلى المدينة فزواها في زاوية من زواياها ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما قاله الذئب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للراعي: ((فأخبر الناس ما قاله الذئب)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق الراعي ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع الإنس، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، يكلم الرجلَ نعلُه وعذبةُ سوطه ويخبره فخذه بحدث أهله بعده)).
من هذه القصة وغيرها يتضح إيمان كل المخلوقات بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عاصي الجن والإنس، بل لقد اشتكى الحيوان والطير إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في قصة الحمامة التي فجعت بفراخها، وهي معروفة للجميع.. ولكن عاصي الجن والإنس هم الذين فسقوا ولم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الضلال.
لا نستطيع أن نسرد كل المعجزات والآيات الباهرات في هذه العجالة، ولكن بالرجوع إلى كتب السير الموثوقة، وإلى كتب السنة، وإلى تفسير القرآن العظيم، يطلع المسلمون على هذه الآيات التي يحار العقل عندها، ويتعجب من تلك العقول التي جحدتها وكفرت بها.
وإن أعظم آية وهي المعجزة الباقية الخالدة إلى أن يشاء الله حيث أن كل معجزة أو آية من الآيات السابقة الذكر وغيرها مما لم يذكر، قد انتهت في وقتها، وقد شاهدها من حضرها في وقتها.. إلا هذه الآية الباهرة ألا وهي القرآن العظيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)).
هذا القرآن العظيم الذي تحدى الله به فصحاء العرب أن يأتوا بمثله قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً بل بلغ التحدي أن يأتوا بسورة من مثله، كما قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.
أيها الإخوة: بنظرة شاملة على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الآيات الباهرات في حياته وفي معاملاته، نجده آية من آيات الله في أسلوب دعوته وفي جهاده، في عبادته وفي كافة سلوكياته، سواء مع زوجاته أو مع أصحابه رضي الله عن الجميع، حتى في تعامله مع أعدائه وأسراه، ومع خدمه وأصهاره.
لقد وصفه الله بأنه على خلق عظيم، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته صلاة دائمة وسلم تسليماً كثيراً، فهذا النبي الأمي محمد وأحمد كما أخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، الذي ليس بعده نبي، أنا نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملاحم..)).
لقد وصفه الصحابة رضي الله عنهم بقولهم: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير أزهر اللون كأنّ عرقه اللؤلؤ وكان شعره دون الجُمة وفوق الوفرة - الجمة الذي يصل إلى الكتفين والوفرة الذي عند شحمة الأذنين-، كان كثير شعر اللحية، وكان وجهه مستديراً مثل الشمس والقمر، وكان كلامه فصلاً يفهمه كل من سمعه.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وإن من الآيات الباهرات آية الإسراء والمعراج، وسنذكر هذه الآية باختصار حسب ما وردت في كتب السنة الثابتة الصحيحة فهذه الآية العظيمة خُص بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث لم ينلها أحد من البشر ولن يصل إليها أحد من البشر.
قال تعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير.
وكان وقت الإسراء والمعراج في أيام الدعوة المكية وقبل الهجرة إلى المدينة النبوية [1] فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آتٍ، فشق ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيماناً – وحادثة شق الصدر هذه حدثت أيضاً في صغره حينما كان عند أمه حليمة السعدية -ثم ُأتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها: البراق، يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك ؟. قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح له فوجد آدم، فقال جبريل هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، فسلَّم عليه فرد عليه السلام وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته، فإذا نظر إلى اليمين سُر وضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فوجد فيها يحي وعيسى، ثم السماء الثالثة فوجد فيها يوسف ثم الرابعة فوجد فيها إدريس.
ثم الخامسة فوجد فيها هارون، ثم السادسة فوجد فيها موسى، فالسابعة فوجد فيها إبراهيم عليه وعلى جميع الأنبياء الصلاة والسلام.
ثم فرضت الصلاة خمسين صلاة فخففت إلى خمس صلوات، وهناك رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى ورأى البيت المعمور ورأى الجنة، ورأى النار وخازنها مالك، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلى بالأنبياء ثم عاد من ليلته إلى مكة، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، فأخبر أهل مكة بالإسراء والمعراج، فقال له أبو جهل عليه لعنة الله: لو جمعت لك الناس تخبرهم؟ قال: نعم، فجمعهم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ المشركون في الضحك والصفير والتصفيق، فازدادوا كفراً على كفرهم، بل وارتد بعض ضعيفي الإيمان.
أما الصديق رضي الله عنه فحينما أُخبر بالخبر صدّق وآمن، وقال: أنا أصدقه بخبر السماء، فكيف لا أصدقه في هذا؟ وقد طلب القرشيون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم بيت المقدس ليتأكدوا من كلامه فرفعه الله له، فجعل ينظر إليه ويصفه لهم فبهتوا وقالوا: أما الوصف فقد أصاب، ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في أثناء الإسراء رأى موسى عليه السلام في قبره يصلي.. وقد رآه في السماء السادسة، ثم هو بالتأكيد كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم حينما صلى بالأنبياء، فنحن نؤمن بذلك، كما أخبر به الصادق المصدوق، ونؤمن أن الله على كل شيء قدير.
وعلينا أيها الإخوة إذا أردنا أن نعرف هذه الآيات والمعجزات بتفاصيلها الصحيحة، علينا أن نأخذها من كتب السنة الصحيحة، ولنحذر من بعض ما يكتب من أمور فيها من التهويلات والخرافات التي لم تثبت، إنما هي من الأكاذيب وعلينا أخذ العبرة والفائدة من هذه الآيات، كما ذكرها أهل العلم من السلف الصالح دون إحداث في الدين.. أسأل الله العلي العظيم أن يرزقنا العلم والفهم إنه سميع مجيب.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[1] اختلف المؤرخون في تحديد تاريخها إلى ما يقارب أربعين قولاً.
(1/1576)
نوا قض الإسلام
التوحيد
الشرك ووسائله, نواقض الإسلام
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة التوحيد هي الأصل الذي يقوم عليه سائر العمل. 2- ذكر عدد من نواقض الإسلام.
3- الحذر من الشرك الخفي ومن سائر المعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
والحمد لله الذي هيأ لنا هذه المواسم التي نتقرب فيها إلى الله عز وجل بالطاعات والعبادات. أسأل الله العلي العظيم أن يتقبل منا جميعاً ومن إخواننا المسلمين الصيام والقيام إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة: إن الأصل في الأعمال هو توحيد الله عز وجل وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعدم نقضها بما يناقضها من أفعال أو أقوال. وهذه النواقض للا إله إلا الله يجب على المسلم أن يحذر منها ويكون على حذر وانتباه حتى لا يقع فيها، وأولها الإشراك بالله. جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله عز وجل قال: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
والشرك يكون بصرف شيء من العبادة لغير الله عز وجل سواء بالدعاء أو التوكل أو المحبة أو الرجاء أو النذر أو الطواف أو الاستغاثة. أو الاعتقاد أن هناك من يتصرف في الكون، وله حق النفع ورد الضر من الأنبياء أو الأولياء من الأحياء والأموات.
فالشرك يحبط كل الأعمال. قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.
أيها الإخوة: وإن مما ينقض الإسلام، اتخاذ بعض الناس شفعاء ووسطاء بينهم وبين الله يدعونهم ويستغيثون بهم ليقربوهم إلى الله زلفى قال تعالى: والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير.
ومن نواقض الإسلام اعتقاد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أحسن وأكمل من هديه أو أن حكم غير الإسلام أكمل من الإسلام ومن أحكامه، كما يقال، والعياذ بالله من ذلك في كثير من البلدان، أو أن نظام الإسلام لا يصلح في هذا القرن أو أن سبب تخلف البلاد الإسلامية هو الدين الإسلامي أو أن الدين لا علاقة له بالنظم الاجتماعية والسياسية، وغير ذلك من الأقوال التي تنتقص من شرع الله وهدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فمن اعتقد ذلك فقد خرج من الإسلام والعياذ بالله.
ومن نواقض الإسلام: عدم تكفير المشركين واعتقاد أن في الامكان الخروج من الشريعة. قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ، وقال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام وقال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده.
ومن نواقض الإسلام: الاستهزاء بشيء من دين الله، كما فعل رجال في غزوة تبوك حين قالوا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء. فنزل قوله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم. وهذا هو أسلوب المنافقين التنقص والاستهزاء بمن يتمسك بالسنة وبمن يتسابقون إلى الطاعات وفعل الخيرات، كما قال تعالى: الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم.
ومن نواقض الإسلام: ممارسة السحر وإتيان الكهان والسحرة وتصديقهم كما جاء في السنة النبوية ما يبين ذلك، منها حديث رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول كفر بما أنزل على محمد)).
ومن نواقض الإسلام: موالاة الكفار ومظاهرتهم ومعاونتهم على المسلمين، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياءَ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
ومن نواقض الإسلام الإعراض: عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به، قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ، وقال تعالى: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون وقال سبحانه وتعالى: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ومن نواقض الإسلام بغض شيء مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من النفاق الاعتقادي وهو ستة أنواع، وصاحب هذا النفاق يكفر ويخرج من الملة والعياذ بالله.
وأنواعه هي: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض بعض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية بانتصار دين الرسول. قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم.
وأيضاً ترك الصلاة من نواقض الإسلام فمن تركها فقد كفر كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فالعهد الذي بيننا وبينهم الصلاة.
أيها الإخوة: علينا أن نحذر من هذه النواقض حتى لا تحبط أعمالنا فنكون من الخاسرين والعياذ بالله. كما علينا أن نتجنب الشرك الخفي وهو الرياء ونستغفر الله منه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل)) فقيل له: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه)).
وعلينا أيضاً أيها الإخوة أن نتجنب ما حرم الله عز وجل سراً وعلانية.. لأن انتهاك حرمات الله يفسد الحسنات ويجعلها هباءً منثوراً كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: ((لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً)) قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلّهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
كذلك مما يجب على المسلم التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتجنب البدع والمحدثات حتى يكون أرجى للقبول فلقد جاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)) ، وعنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((من رغب عن سنتي فليس مني)). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
كذلك أيها الإخوة: علينا تجنب الظلم والتعدي والغيبة والنميمة حتى لا تذهب حسناتنا وأعمالنا لغيرنا والعياذ بالله فنكون بذلك لا قدر الله من المفلسين. كما جاء عن أبي هريرة رضي الله ما رواه مسلم وغيره أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) نسأل الله العافية. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1577)
هارون الرشيد
سيرة وتاريخ
تراجم
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشويه المستشرقين لتاريخنا المجيد. 2- ترجمة مجملة للخليفة هارون الرشيد. 3- بعض
مناقب هارون الرشيد. 4- تقبل هارون الرشيد للموعظة. 5- جهاد هارون الرشيد. 6- ابن
عابد زاهد لهارون الرشيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: إن ما يقوم به بعض من المستشرقين ومن سار في ركابهم من تشويه تاريخنا والإساءة إلى بعض الشخصيات التاريخية من أسلافنا بقصد فصل هذه الأمة عن تراثها الحقيقي ومجدها الأصيل، وتحويلها إلى أمة تهتم بآثار تافهة مثل الأواني المنزلية أو آثارها جاهلية كافرة كآثار الفراعنة أو الآشوريين أو غيرها، حتى يتسنى لهم مسخ شباب أمة الإسلام، وتوجيههم إلى ما يشتهون، وإماتة روح الجهاد في أنفسهم، وإماتة عقيدة الولاء والبراء في قلوبهم. نسأل الله العافية.
ومن هذه الشخصيات التي شُوهت، شخصية خليفة من الخلفاء، وملك من ملوك المسلمين، كان يحكم من الصين شرقاً إلى بلاد المغرب غرباً، وتولى الخلافة وهو عمره 22 عاماً، وقاد الجيوش في عهد والده وهو حدث صغير يناهز الحلم، وغزا الروم وانتصر عليهم، ثم عقد معهم هدنة على أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون. كل ذلك وهو شاب صغير – وربما كان - له بعض التجاوزات أثناء توليه الخلافة، حينما توسع في الأخذ من بيت مال المسلمين، ولكن له من الأعمال العظيمة ما سنذكرها في هذه الخطبة كما جاء في كتب السير. إنه هارون الرشيد.
أيها الإخوة: ولد هارون الرشيد عام 148هـ وتولى الخلافة عام 170هـ وتوفى عام 193هـ أي أنه مكث في الخلافة 23 عاماً، وحينما توفي كان عمره 45 عاماً رحمه الله رحمة واسعة وغفر له.
أيها الإخوة: لقد كان الرشيد أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجاً... لقد كان يحج عاماً ويغزو ويجاهد عاماً آخر، ولقد كان رحمه الله ذا شجاعة ورأي وكان من أحسن الملوك وأنبلهم، كان إذا حج أخذ معه مائة من الفقهاء والعلماء وأبنائهم، وإذا لم يحج، أحج ثلاثمائة منهم بالنفقة السابغة والكسوة التامة عليهم.
كان يتصدق بألف درهم كل يوم، وكان يروي الحديث بسند متصل إلى جده النبي صل الله عليه وسلم وكان يقول ذلك على المنبر إذا خطب يوم الجمعة ويحدث بهذا الحديث: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)).
كان رحمه الله يجل العلماء ويجالسهم ويستمع منهم الحديث والموعظة.
فيبكي حتى يبل الثرى بدموعه... فقد دخل عليه يوماً أحد العلماء وكان ضريراً فوعظه – فبكى هارون... فجاءه مرة ثانية في دعوة على الطعام، وبعد تناول الطعام. صب الخليفة الماء على يدي هذا العالم ليغسلها وقال له: أتدري من يصب عليك الماء؟ قال لا: قال: أمير المؤمنين... قال: إنما أردت تعظيم العلم.
لقد كان هارون عابداً، كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة إلى أن مات. وكان يبغض أهل البدع ويبغض الجدال.. دخل رجل إلى هارون الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق، قد قطعت رأسه والسياف يمسح السيف من أثر الدم.. فقال الرشيد: إنه يقول بخلق القرآن.
لاحظوا أيها الإخوة: أن الخليفة ذكر سبب قتل ذلك الرجل قبل أن يسأل.. ولاحظوا كيف أنه قتل الرجل لبدعته المكفرة، لأن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق فكم تحتاج الأمة لهذا السيف حتى يتخلصوا من أهل الأهواء والبدع الذين ينشرون البدع والمحدثات، وينشرون الإلحاد والشرك، متسترين بحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، وهم أبعد الناس عنه، ومتخذين من الفن والمسرح واجهة لنشر كفرهم وردتهم. ولا نسمع من يقيم عليهم حد الردة.
أيها الإخوة: وكان هارون الرشيد رحمه الله يتقبل الموعظة والنصيحة من أي شخص كان، ويبكي عند سماعه لها، ومن هؤلاء رجل اسمه عبد الله بن عبد العزيز العمري حيث وعظ الرشيد يوماً فأطنب.
قال له وهو واقف على الصفا بمكة: انظر كم حولها من الناس؟ مشيراً للكعبة فقال: كثير، فقال: كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم، فبكى الرشيد بكاءً كثيراً، وجعلوا يأتونه بالمناديل ينشف بها دموعه، ثم قال له: يا هارون إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم؟ ثم تركه وانصرف والرشيد يبكي.
إذاً كان ينكر عليه التوسع في بيت مال المسلمين، وهو يتقبل هذا الإنكار علناً أمام الناس ويشعر في نفسه بالذنب، فيبكي على خطيئته غفر الله له.
لقد قال له شخص يدعى ابن السماك: يا أمير المؤمنين إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله والوقوف بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكظم، وتزل القدم، ويقع الندم. فجعل الرشيد يبكي بكاءً شديداً.
لقد شيد الرشيد قصراً فخماً وزخرفه وأكثر فيه الطعام والشراب واللذات.. ثم استدعى أحد الشعراء فقال صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال الشاعر:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
تسعى إليك بما اشتهيت لدى الرواح إلى البكور
فإذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد بكاءً كثيراً.. فقيل للشاعر: دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته فقال الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.
أيها الإخوة: لقد طلب الخليفة هارون الرشيد يوماً من الطباخ أن يحضر له لحم جزور، فلم يحضر له، لأنه لم يذبح في هذا اليوم جزوراً أي جملاً – وبعد مدة من الزمن، طلب الخليفة لحم جزور، فأحضر له لحم جزور، فقيل له: أتدري كم كلفت هذه اللقمة من لحم الجزور؟ قال: أربعة دراهم، قيل بل أربعمائة ألف درهم. قال كيف ذلك؟ فقيل له: إنك طلبت قبل مدة لحم جزور، فلم نحضر لك طلبك، ومن يومها نحن نذبح كل يوم جزوراً، ولكنك ما طلبت اللحم إلا اليوم. لذلك فقد صرف منذ ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، فقام هارون الرشيد من فوق الطعام ولم يأكل منه وأخذ في البكاء وأخذ يتصدق على الفقراء وهو يبكي يومه ذلك كله، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنك يا أمير المؤمنين باكياً في هذا اليوم؟ فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته وإنما ناله منها لقمة، فقال أبو يوسف: هل كان ما تذبحونه يفسد أم يأكله الناس؟ قيل: بل كان يأكله الناس، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الصدقة، وبما أنفقته من أموال في سبيل الله، وبما رزقك الله في هذا اليوم من الخشية والخوف، وقد قال تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان عندها هدأ الخليفة وطلب الطعام، فكان غذاؤه في هذا اليوم عشاء.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة: لقد قلت في بداية الخطبة أن الرشيد كان يحج عاماً ويجاهد عاماً وأنه قاد الجيش وهو شاب صغير في عهد والده لقتال الروم ووقع معهم هدنة وأخذ عليهم الجزية. ولكن بعد أن تولى الخلافة تولى حكم بلاد الروم نقفور.. فنقض العهد ورفض أن يرسل الجزية لخزينة الدولة الإسلامية. وأرسل رسالة إلى أمير المؤمنين قال فيها: من نقفور ملك الروم إلى هارون الرشيد ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقتهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فغضب الرشيد غضباً شديداً وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام.
فغزاهم واستولى على هرقله وسبى ابنة الملك، وغنم الأموال.. فطلب نقفور الموادعة ورضي بدفع الجزية.. فأجابه هارون إلى ذلك.. ووقع معه الاتفاقية بالهدنة ودفع الجزية تدفع كل عام إلى خزينة الدولة الإسلامية.
وجاء في كتاب البداية والنهاية لأبن كثير هذه القصة عن أحد أبناء هارون الرشيد رحمه الله أذكرها باختصار.
إنه أحمد بن هارون الرشيد الذي كان يعارض والده في التوسع في الدنيا والأخذ من مال المسلمين، لقد كان رحمه الله
زاهداً عابداً ورعاً لا يأكل إلا من عمل يده. كان يعمل في الطين في البصرة لدى أحد أصحاب المزارع كان يعمل يوماً واحداً في الأسبوع بدرهم ودانق.. فيقسم هذا الأجر على بقية أيام الأسبوع يتقوت به ويتفرغ للعبادة.. هذا الشاب هو ابن أمير المؤمنين هارون الرشيد الذي كان يحكم من الهند إلى بلاد المغرب، أي يحكم ما يقارب من خمسين دولة من الدول الموجودة الآن أو أكثر، يأتيه خراجها ومواردها، ولديه من القوة الاقتصادية والعسكرية ما قد سمعتم. هذا ابن أمير المؤمنين لم يتخذ من موقع والده مركز نفوذ له بل قد اختفى عن سمع وبصر والده حتى ظن أنه توفى وأنه ليس على قيد الحياة، ولم يكن يعرفه أحد بأنه ابن أمير المؤمنين.
هذا الشاب مرض وكان لديه خاتم لوالدته يعرفه أبوه هارون الرشيد، فحينما أحس الابن بدنوا الأجل قال للشخص الذي كان يعمل عنده: خذ هذا الخاتم وأعطه لأمير المؤمنين أثناء مروره للحج وقل له: إن صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادماً ندمه. فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار من مضى.
فلما مات أحمد بن هارون الرشيد تعرض الرجل لموكب الخليفة وأعطاه الخاتم وأخبره بقول ابنه وهو لا يعلم، فلما نظر الخليفة إلى الخاتم.. صرخ وقال: ويحك أين صاحب الخاتم فقال الرجل مات يا أمير المؤمنين... وذكر له قصته وعمله في الأسبوع يوماً واحداً ثم يتفرغ بقية الأسبوع للعبادة فلما فرغ الرجل قام الخليفة وألقى بنفسه على الأرض وجعل يتمرغ ويقول وهو يبكي: والله لقد نصحتني يا بني.. ثم سأل عن قبره وذهب إليه ليلاً وبكى عنده حتى الصبح.
إن في هذه عظة وعبرة لهذه الأمة. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وكان الرشيد قد حفر قبره في حياته، فنظر إليه وهو يقول: إلى هنا تصير يا ابن آدم ويبكي، ثم يقول: ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه. ويبكي ويقول: اللهم انفعنا بالإحسان واغفر لنا الإساءة، يا من لا يموت ارحم من يموت.
أما زوجته زبيدة فمازال الناس يشربون من العين التي ساقتها إلى مكة والمعروفة باسمها [عين زبيدة].
هذه نبذة عن هذا الخليفة الذي شوهت صورته عن طريق بعض الكتب والوسائل الإعلامية المغرضة، وهناك من الخلفاء والملوك من كانوا على دين وتقوى وتحمل للمسؤولية ورفع لراية الجهاد في عصور مختلفة، كانوا يسيرون على نهج السلف الصالح الخلفاء الراشدين، مقتدين بالنبي صلى الله عليه وسلم مستمسكين بالوحي، خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً.
(1/1578)
وقفات سريعة مع آيات من سورة البقرة
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح الآيات الأُول من سورة البقرة. 2- بيان بعض أحوال المؤمنين. 3- بيان بعض
أحوال الكافرين. 4- بيان مطول لأحوال المنافقين. 5- فضل سورة البقرة. 6- فضل آية
الكرسي.
_________
الخطبة الأولى
_________
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين.
أيها الإخوة: (الم) من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه... وهي من كلام الله المعجز والذي تحدى به فصحاء العرب.
(ذلك الكتاب): أي هذا الكتاب القرآن العظيم، (لا ريب فيه): لاشك من أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق.
(هدى للمتقين): رشد وبيان للمتقين وكما قال تعالى: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى.
والمتقون هم الذين يجتنبون ما حرم الله ويعملون بطاعته... الذين يؤمنون قولاً واعتقاداً وعملاً بالغيب، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبالجنة والنار والقيامة وكل ما أخبر الله عنه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب.
(ويقيمون الصلاة): أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها، من تلاوة وركوع وسجود وتشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
(ومما رزقناهم ينفقون): على الأولاد والأزواج والفقراء والمساكين وفي سبيل الله ويؤدون الزكاة وينفقون في ما أحل الله لهم دون إسراف ولا تبذير ولا مخيلة والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ويؤمنون بالقرآن وبالكتب السماوية وبالأنبياء والرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وباليوم الآخر والصراط والميزان هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون على رشد وبصيرة وهم الفائزون والناجون. هذه أربع آيات مرت في صفات المؤمنين: أهل التقوى، الناجون بإذن الله يوم القيامة، وهم أهل الجنة.
ثم جاءت الآيتان اللتان تبينان حال الكفار... أهل النار والعياذ بالله. قال تعالى: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون فهؤلاء متساو لديهم تخويفهم أو عدمه، لأن الله قد حكم بعلمه السابق بكفرهم وبقائهم في الشقاوة والعياذ بالله، فطبع على قلوبهم فلا تفهم خيراً ولا تعيه، ولا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وعلى أبصارهم غطاء فلا يرون نور الهدى ولهم عذاب عظيم: ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.
والكفر أيها الإخوة: على أربعة أحوال كفر إنكار، وهؤلاء هم الملاحدة، وكفر جحود، ككفر إبليس وفرعون، وكفر عناد، ككفر أبى طالب حيث قال:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وكفر نفاق كمنافقي المدينة الذين ظهروا في عهد النبي صل الله عليه وسلم ويظهرون في كل عصر ووقت. والنفاق هو الإقرار باللسان وعدم الاعتقاد بالقلب، فالمنافقون يظهرون الإسلام ويؤدون الشعائر ولكنهم يبطنون الكفر وهذه الحالة ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات الثلاثة عشر التالية.
قال تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
يعتقدون بجهلهم أنهم بذلك يخدعون الله عز وجل وأن ذلك ينفعهم كما يخدعون المؤمنين. فيعتبرونهم من المؤمنين ويجرون عليهم أحكامهم، ولكنهم يوم القيامة يكونون مع الكفار في النار فما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
في قلوبهم مرض ، شك، فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون لأنهم يظنون بفعلهم هذا من الخداع والنفاق، وما يستفيدون منه في الحياة الدنيا أنه صلاح فلا يشعرون بما هم فيه من الفساد ولا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب جزاء كفرهم ونفاقهم والعياذ بالله. يستهزئون بالمتمسكين بالكتاب والسنة ويعتبرونهم أنهم هم السفهاء ويتندرون بهم في مجالسهم وخلواتهم، فإذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ، فلكل واحد منهم وجهان: الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون فهذا جواب لهم ومقابلة على صنيعهم حيث يأتون يوم القيامة خلف المؤمنين فيقولون: انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون ، أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفئ ذلك النور وبقيت ناراً تأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون أو كصيبٍ من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين.
صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وضعفت بصائرهم عما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي ما فيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه والعمى والعياذ بالله.
أيها الإخوة: هؤلاء هم المنافقون المذبذبون المراءون، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، لهم من الفصاحة والبلاغة وجمال في الأجسام كأنهم خشب مسندة، أحدهم يشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
هذه صفات المنافقين الذين ينتشرون بين المسلمين ويتكلمون بلغتهم ومن بني جلدتهم، وهم أشد على الإسلام من الكفار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) لأنه يستخدم هذه اللغة والفصاحة في تضليل الأمة وكل واحد منهم يتلون بألوان عدة، وله وجهان يأتي لكلٍ بوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين)) ومن كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار والعياذ بالله كما جاء عن النبي صل الله عليه وسلم.
أقول هؤلاء خطر على الأمة لأنهم يتكلمون لغتنا، وأسماؤهم مثل أسمائنا، وزيهم مثل زينا، ويصلون ويصومون ويحجون. ولكن من رأى مجالسهم ومقالاتهم وآراءهم لعرفهم في لحن القول يتحاكمون إلى الطاغوت ويوالون اليهود والنصارى ويشاركونهم في أعيادهم ويصرفون اهتمام الأمة إلى التوافه من الأمور كالاهتمام بالآثار والتفاخر بها والاهتمام بالتاريخ الجاهلي وسيرتهم، كل ذلك حتى يفصلوا الأمة عن سيرة نبيهم والخلفاء الراشدين وإماتة روح الجهاد في نفوس الشباب والاستسلام لليهود والنصارى. نسأل الله العافية والسلامة.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن سورة البقرة من السور العظيمة، يقول أهل العلم: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر، وفيها أعظم آية في القرآن ألا وهي آية الكرسي التي من قرأها في يوم لا يقربه شيطان، ومن قرأها دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، هذه السورة العظيمة من قرأها في بيته فإن الشيطان لا يدخله كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه سورة البقرة. اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركه وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)). كما أن الآيتين اللتين في آخرها من قرأهما في ليلة كفتاه، كما ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم بذلك، وأنه حض على قراءتها حيث قال: ((اقرءوا هاتين الآيتين اللتين في آخر سورة البقرة فإن ربي أعطانيهما من تحت العرش)).
أيها الإخوة: إن في هذه السورة حصن من الشيطان وحصن من السحر فلماذا لا نحصن بيوتنا وأنفسنا بقراءة هذه السورة داخل البيوت؟ لماذا هذا التهافت من الناس على الدجاجلة والمشعوذين، لماذا نسهل دخول الشيطان في بيوتنا بالاستماع إلى المعازف وتعليق الصور وفعل المعاصي والمنكرات، فإذا ما أصاب أحدنا شيء من المس أو السحر... هرعنا إلى السحرة.. فنقع في مصيبة عظيمة، مصيبة في الدين، حيث من ذهب إلى كاهن وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ونترك الشفاء والعلاج الذي بين أيدينا وكأننا لا نصدق نبينا صل الله عليه وسلم في ذلك والعياذ بالله.
إخواني احذروا من الوقوع في الموبقات وعليكم بفعل الطاعات واقرءوا هذا القرآن في بيوتكم وحفظوه أبناءكم واتبعوا ما فيه من الأحكام تسعدوا في الدارين وتفوزوا برضى رب العالمين. اللهم وفقنا لفعل الطاعات وترك المنكرات، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1579)
احفظ الله يحفظك 1
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعاهد النشئ بالرعاية والتوجيه. 2- حديث احفظ الله يحفظك ورواياته. 3- حفظ حدود الله.
4- كيف يحفظ الله عبده الحافظ لحدوده. 5- الحفظ ديني ودنيوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الاعتناء بالنشء واجبٌ على المسئولين عنهم سواء كانوا الوالدين أو العلماء والدعاة في المساجد وغيرها أو المعلمين في المدارس وغيرهم. وإن تركهم يرتعون ويلعبون من غير توجيه إلى الخير وإرشاد لما يصلحهم وتعليم لما ينفعهم جريمة في حقهم ومساهمة في مزيد من معاناة المجتمع من الفساد في شتى المجالات.
وقد اعتنى ديننا الإسلامي الحنيف بهذا الأمر غاية الاعتناء، فتعالوا لنسمع كيف كان النبي يعلم الصغار مراقبة الله تعالى وتقواه في السر والعلانية مخالفاً لكثير من المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأيام الذين يعترضون على تعاهد الصغار بالتوجيهات الشرعية ويشمئزون من ذلك قائلين: لم يزل الولد بعد صغيراً.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.
تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح].
وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك)).
ورواه أحمد أيضاً ولفظ حديثه: ((يا غلام أو يا غليم أعلمك كلمات ينفعك الله بهم؟ فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)).
وقد تضمن هذا الحديث وصايا عظيمةً وقواعد كلية في أهم الأمور، لذلك سوف أفرد كل وصية منها بخطبة خاصة وليس هذا بكثير على حديث اشتمل على كل هذه الوصايا العظيمة والقواعد الكلية حتى قال بعض العلماء :تدبرتُ هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فواأسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه.
وأول وصية أوصى بها النبي في هذا الحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي كان غلاماً إذ ذاك هي قوله: ((احفظ الله يحفظك)) وهي التي سنستغرق فيها هذه الخطبة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((احفظ الله)) أي احفظ حقوقه وحدوده وأوامره ونواهيه، وحفظ ذك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز، فلا يتجاوز العبد ما أمره الله وأذن له فيه إلى ما نهاه عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله تعالى بقوله سبحانه في سورة ق: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب وفُسّر الحفيظ في هذه الآية الذي وعد بالجنة وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ، الحفيظ الذي أزلفت له الجنة وقُربت، فسر في هذه الآية: بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله تعالى: الصلاة وقد أمر الله بذلك في سورة البقرة فقال: حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى، ومدح سبحانه والمحافظين عليها بقوله في سورة المؤمنون: والذين هم على صلواتهم يحافظون.
وكذلك الطهارة: فإنها مفتاح الصلاة وقد أخرج ابن ماجه عن ثوبان وأحمد الطبراني والدارمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم - والحديث صحيح - عن النبي قال في حق الطهارة: ((ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)).
ومما يجب حفظه أيضاً الأيمان وقد أمر الله بحفظها فقال في سورة المائدة: واحفظوا أيمانكم فإن الأيمان يقع الناس فيه كثيراً ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظها ولا يلتزمها، ولا أدل على ذلك من الأسئلة الكثيرة التي توجه إلى المفتين في أيامنا هذه، وغالبها عن الأيمان. أيمان منعقدة، وأيمان معلقة، أيمان في حق أمور لا تفعل، وفي حق أمور تفعل، وفي حق طلاق، أكثر ما يعرض على المفتين في هذه الأيام أيمان. وكثير من الناس لا يلتزم ما يجب بهذه الأيمان فلا يحفظها ولا يلتزمها مع أن الله تعالى قال: واحفظوا أيمانكم.
ومن ذلك أيضاً: حفظ الرأس والبطن كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود الذي خرّجه أحمد والترمذي عن النبي قال: ((الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى)) ، فحفظ الرأس وما وعى يتضمن حفظك السمع والبصر واللسان مع المحرمات، وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله، وقد قال تعالى في سورة البقرة: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
وحفظ البطن أيضاً يتضمن حفظها من إدخال الحرام إليها من المآكل والمشارب، وقد جمع الله تعالى ذلك كله في سورة الإسراء: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً.
ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد : عن النبي قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) يعني: من يضمن لي صيانة لسانه وفرجه عما حرم الله أضمن له الجنة.
وللحاكم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)) ولأحمد عن أبي موسى عن النبي : ((من حفظ ما بين فقميه (أي لحييه) وفرجه دخل الجنة)).
وقد أمر الله تعالى بحفظ الفروج فقال في سورة النور: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ومدح الحافظين لها بقوله تعالى في سورة المعارج: والذين هم لفروجهم حافظون هذا عن قوله : ((احفظ الله)) باختصار، وإلا فما يمكن الحديث عنه بكلمة احفظ الله كثير ولكن اختصرت منه ما أمكن.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((يحفظك)) يعني: من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله تعالى، لأن الجزاء من جنس العمل.
((احفظ الله)) ، ما هو الجزاء؟ ((يحفظك)) وما أعظمه من جزاء، احفظ الله يحفظك، والجزاء من جنس العمل كما قال تعالى في سورة البقرة: فاذكروني أذكركم الجزاء من جنس العمل وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم أوفوا: أوفي، وقال تعالى في سورة القتال (محمد): إن تنصروا الله ينصركم.
وحفظ الله تعالى لعبده يدخل فيه نوعان: حفظه تعالى له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وماله وأهله كما قال تعالى في سورة الرعد: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي: بأمر الله.
للإنسان معقبات من بين يديه ومن خلفه، ملائكة يحفظونه بأمر الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلّوا عنه، يحفظونه من الجن والإنس والهوام إلا إذا قدّر الله شيئاً خلّوا عنه لينزل القدر.
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو الحديث صحيح قال: لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي أهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي.
((احفظ الله يحفظك)) يحفظك في كل هذه الأمور المدعو بها؟ نعم، كما كان يدعو النبي ، ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعفه ومتعه الله بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.
وقد يحفظ الله العبد بعد موته بصلاحه، في ذريته كما قيل في تفسير قوله تعالى في سورة الكهف: وكان أبوهما صالحاً إنهما حُفظا بصلاح أبيهما. وقال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك. وتلا قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً. يزيد في صلاته من أجل ولده مع ما يحافظ من مراقبة الله في غير ذلك من الأمور، وعليه فمن أراد حفظ أبنائه من بعده فيلزمه مراقبته تعالى في كل الأمور، فلا ينبغي له أن يكون على حال تغضب الله وتسخطه أبداً، وعليه أن يستحضر قرب الله تعالى منه وإطلاعه عليه دائماً حتى إن كان آكلاً أو شارباً أو ضاحكاً أو غير ذلك.
فلا يأكل ولا يشرب حراماً وبهذا يكون مراقباً لله، ولا يضحك من أحدٍ مستهزأً، بل يضحك من الأمور التي لا يؤذي بها أحداً ولا يرتكب بها حرام، وبهذا يكون مراقباً لله. ولا يضع شهوته في حرام ولا يسمع ولا يرى ولا يقول ما حرم الله إلى غير ذلك من الأحوال، وبهذا تكون المراقبة مع ما ينبغي له من استشعار معنى أسماء الله تعالى الخمسة، فمن أسمائه الحسنى: الرقيب – الحفيظ – العليم – السميع – البصير.
فيعلم أن الله تعالى مراقب له مطلع عليه عليم سميع بصير به، ولا يفارقه هذا الاستشعار أبداً.
يقول محمد بن المنكدر التابعي الجليل رحمه الله تعالى: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر، ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله تعالى فإن الله يحفظه في تلك الحالة، فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى كما قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيّع تقواه فقد ضيّع نفسه، والله غني عنه.
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه أنه يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى.
كما جرى لسفينة، مولى النبي ، اسمه مهران، وسفينة لقبه، كما جاء عند الحاكم بسند صححه، وحسنه غيره أنه كان في سفر هو أصحابه وثقل عليهم المتاع فقال لمهران: ابسط ثوبك فحمل عليه من متاع الأصحاب فقال له: احمل فإنما أنت سفينة، فقال: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة إلى أعداد كثيرة من الإبل لحملتها، وقر: أي حمل وثقل، ببركة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغلب عليه لقبه، اسمه مهران، وسفينة لقبه، والحديث عند الطبراني والحاكم وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
ماذا جرى لسفينة هذا؟ جاء أنه ركب البحر فانكسر بهم المركب فألقاه البحر إلى الساحل فصادف الأسد، فقال: أيها الأسد، أنا سفينة مولى رسول الله ، فدله الأسد على الطريق، قال: ثم همهم فظننت أنه يعني السلام. يعني بعد أن دله الأسد على الطريق سلم عليه مودعاً، هكذا يحفظ الله تبارك وتعالى من حفظه ولو كان من هذه الحيوانات المؤذية بالطبع، لقوله وهو الصادق المصدوق: ((احفظ الله يحفظك)).
وعكس ذلك أيها الأخوة الكرام: إن من ضيّع الله ضيّعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يحفظون الله حتى يكونوا ممن يحفظهم الله تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا ورسولنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فقد مر بنا في الخطبة الأولى قول النبي : ((يحفظك)). إن حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: أحدهما: حفظه تعالى له في مصالح دنياه وقد سبق الكلام على ذلك.
وأما النوع الثاني من الحفظ: فهو أشرف النوعين، وهو حفظ الله تعالى لعبده في دينه وإيمانه. فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة والشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان.
الله أكبر، هذا أشرف النوعين وأعظمهما، أن يحفظ الله العبد من الشبهات المضلة فلا يكون لها تأثير عليه في دينه، لا تشككه لا تجعله يمتري، بل يسير على نور من كتاب الله وسنة رسوله لا يلتفت، ويحفظ الله عبده هذا من الشهوات المحرمة فلا يقع فيما حرم الله، وأحسن من هذا أو فوقه وأعظم منه: إنه الختام. أن يحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان ويحسن له الخاتمة.
أخرج البخاري وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي كان يرشد إلى هذا القول عند النوم: ((باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)).
إرشاد إلى الدعاء بالحفظ إذا أرسلت النفس واستمرت في الدنيا، وإلى المغفرة والرحمة إذا قُبضت.
وفي صحيح ابن حبان عن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي علّمه أن يقول: ((اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تطمع فيّ عدواً ولا حاسداً)).
وعند أحمد وأبي داود والحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله كان يودّع من أراد سفراً فيقول: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)).
وعند النسائي وابن حبان بسند صحيح عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إذا استُودع الله شيئاً حفظه)) وفي الجملة فإن الله يحفظ على المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد بها بل قد يكون كارهاً للشيء الذي حال به الله بينه وبين ما يفسد عليه دينه. قد يكون كارهاً لذلك، يخرج ليفعل شيئا حرمه الله فيحول الله بينه وبينه، ويمنعه الله من هذه الشهوات المحرمة ويكره العبد ذلك لأنه كان يريد الاستمتاع بما حرمه الله. لكن يحول الله بينه وبين ما يفسد عليه دينه.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى من سورة الأنفال: واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه قال: يحول بينه وبين المعصية التي تجره إلى النار، وذكر الحسن رحمه الله تعالى أهل المعصية فقال: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم، هانوا عليه فعصوه لم يكونوا من الحافظين لحدوده تعالى فعصوه، ولم يعصمهم الله عز وجل ولو عزوا عليه لعصمهم.
(1/1580)
احفظ الله يحفظك 2
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى : احفظ الله تجده تجاهك. 2- مراقبة الله عز وجل في سائر الأحوال. 3- معرفة الله
في الرخاء هي القيام بأوامره واجتناب زواجره. 4- معرفة الله لعبده الخاصة والعامة. 5- من
عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة. 6- ثبات الصالحين عند الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: ما زلنا مع حديث ابن عباس رضي الله عنهما المشتمل على وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين، وقد انتهينا في الجمعة الماضية من فهم قوله : ((احفظ الله يحفظك)) وسنكون اليوم إن شاء الله تعالى مع وصيتين أخريين من وصايا هذا الحديث العظيمة ألا وهي قوله : ((احفظ الله تجده تُجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
أولاً: قال : ((احفظ الله تجده تُجاهك)) ومعنى هذه الوصية النبوية الشريفة: أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه، يحوطه ويستره ويحفظه ويوفقه ويسدّده كما قال تعالى في سورة النحل: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقال قتادة رحمه الله تعالى: من يتق الله يكن الله معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
وكتب بعض السلف إلى أخٍ له أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف، وإن كان عليك فمن ترجو، وهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام في سورة طه: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى.
وفي قول موسى عليه السلام في سورة الشعراء: كلا إن معي ربي سيهدين.
وقول نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبه أبي بكر في سورة التوبة: لا تحزن إن الله معنا.
وفي الصحيحين عن أنس أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال. فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
فهذه هي المعية الخاصة التي تقتضي النصر والتأييد بالحفظ والإعانة، وهذه بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى من سورة النساء: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وقوله تعالى في سورة الحديد: وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير وقوله تعالى في سورة المجادلة: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة وهذه المعية العامة تقتضي علمه تعالى واطلاعه ومراقبته لأعمال خلقه، فهذه مقتضية لتخويف العباد منه بخلاف المعية الخاصة منه فإنها تقتضي حفظه وحياطته ونصره. فمن كان الله معه - هذه للمعية الخاصة التي تقتضي الحفظ والنصر والتأييد لا سيما إذا حفظ حدود الله وراعى حقوقه - إذا كان الله معه استأنس به واستغنى به عن جميع خلقه إذا حفظ حدود الله وراعى حقوقه. كما أنشد أحدهم:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بذكرك هاديا
فيا أيها الأخوة المسلمون: اتقوا الله تعالى وراقبوه. راقبوه يعني استحضروا قربه منكم وإطلاعه عليكم، ولا تعصوا الله تبارك وتعالى فتكونوا بذلك قد جعلتموه أهون الناظرين إليكم. إن العصاة الذين يرتكبون القبائح يستترون من الناس ولا يرضون أن ينظر الناس إليهم في حال معصيتهم فكيف يرضون بأن ينظر الله إليهم. ونظره تعالى لا يفارقهم ولا ينفك عنهم طرفة عين. فمن عصى الله تعالى فقد جعل الله أهون الناظرين إليه. لا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم بل احفظوا حدوده وراقبوه وأدّوا حقوقه فلا تتعدوا الحدود ولا تتجاوزوها ولا تتركوا الأوامر وترتكبوا النواهي لا تشركوا بالله شيئاً فإن الله لا يغفر أن يشرك به، ولا تتركوا الصلوات بل حافظوا عليها في جماعة، وتعلموا ما ينفعكم في دينكم ودنياكم ولا تجعلوا العلم بالله تعالى أهون العلوم. لا تجعلوا صلتكم بالله موقوفة على حضوركم خطبة الجمعة. بل إن كثيراً من الناس لا يحضرون الخطبة إلا متأخرين جداً. بل إن كثيراً من الناس لا يحضرون إلا إذا أحسوا أن الخطيب أوشك على أن يأمر بإقامة الصلاة. لا تجعلوا صلتكم بالله موقوفة على موعظة الجمعة، بل أحضروا الصلوات في جماعة، وسلوا عما يشكل لكم في أمور دينكم، واحضروا الدروس والندوات التي تعقد لأجل تفهيم الناس أمور دينهم. صلوا قلوبكم بالله واجعلوا ألسنتكم رطبة بذكر الله تعالى.
((احفظ الله تجده تجاهك))
وقال أيضاً: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) ومعنى هذه الوصية أن من اتقى الله سبحانه وتعالى وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة. فعرفه ربه في الشدة، وراعى له تعرفه له في حال رخائه وأنجاه من الشدائد بهذه المعرفة، فهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ومحبته تعالى لعبده وإجابته لدعائه، فمعرفة العبد لربه تعالى نوعان:
أحدهما المعرفة العامة: وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان، وهذه عامة للمؤمنين لا تميز فيها للمؤمنين.
والثاني معرفة خاصة: وهي التي تقتضي ميل القلوب إلى الله تعالى بالكلية والانقطاع إليه سبحانه والطمأنينة بذكره والأنس به والحياء منه والهيبة منه سبحانه وتعالى.
وهذه المعرفة هي التي يدور عليها المخلصون من عباد الله تعالى كما يقول بعضهم: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل. أهل الدنيا مساكين يشغلون أنفسهم بزخرفها وزينتها ويخرجون منها وما ذاقوا أطيب ما فيها وهو معرفة الله عز وجل. هذا أطيب ما في الدنيا.
كما أن معرفة الله تعالى لعبده أيضاً نوعان:
معرفة عامة: وهي التي تقتضي علمه بعباده وإطلاعه على ما أسرّوه وما أعلنوه كما قال سبحانه في سورة ق: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد علم بالعباد وإطلاع على ما أسرّوه وما أعلنوه. وقال أيضاً في سورة النجم: هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم.
والنوع الثاني: معرفة خاصة من الله بعبده وهي التي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه واستجابته لدعائه وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها في قوله في الحديث الذي خرّجه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة. وفي هذا الحديث الذي يحكيه النبي عن ربه تبارك وتعالى: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر بها، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) أي أن الله تعالى يوفقه غاية التوفيق فيصون بتوفيقه سمعه عن سماع الحرام، وبصره عن رؤية ما حرم الله، ويده عن أن تبطش إلا ما أحلّ الله وأمر وشرع، ورجله عن المشي إلى ما حرم الله وكرّه إلى عباده.
ثم قال سبحانه: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) ، ولما هرب الحسن البصري رحمه الله تعالى من الحجاج. لتجبره وطغيانه وبطشه دخل إلى بيت حبيب بن محمد فقال له حبيب: يا أبا سعيد – عندما دخل البيت – أليس بينك وبين ربك من الأعمال التي أخلصت فيها فتدعوا الله بها وتسأله بها فيسترك من هؤلاء؟ أليس بينك وبين ربك ما تدعوه به فيسترك من هؤلاء؟ ادخل البيت، فدخل ودخل الشُرط على إثره فلم يروه. فذكر ذلك للحجاج فقال: بل كان في البيت. إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه.
وفي الجملة أيها الإخوة الكرام فمن حفظ الله وعامله بالتقوى والطاعة في حال صحته ورخائه عامله تعالى باللطف والإعانة في حال شدته.
كما في الحديث الصحيح الذي خرّجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: ((من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر الدعاء في الرخاء)).
وقال الضحّاك بن قيس: اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكركم في الشدة. واستدل على ذلك بقوله: إن يونس عليه السلام كان يذكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون وبماذا كان يُسبّح يونس في بطن الحوت؟ كان يقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. كما في سورة الأنبياء والآيتان المذكورتان آنفاً في سورة الصافات. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. ثم قال الضحاك: وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال آمنت فقال الله تعالى: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فلم يستجب له سبحانه وقال سلمان الفارسي : إن العبد إذا كان دعّاءً في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت معروف فشفعوا له. وإذا كان ليس بدعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف، فلا يشفعون له.
وقال رجل لأبي الدرداء : أوصني ! فقال: اذكر الله تعالى في السراء يذكرك في الضراء.
وعنه قال: ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن أعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه إن لم يكن مصير العبد إلى خير. فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده، والأعمال الصالحة في حال صحته كما قال تعالى في سورة الحشر: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.
فمن ذكر الله تعالى في حال صحته واستعد للقائه ذكره الله تعالى عند هذه الشدة العظيمة. شدة الموت، فكان معه فيها ولطف به وأعانه وتولاه وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راض. ومن نسي الله تعالى في حال صحته نسيه الله في هذه الشدائد وأعرض عنه.
وإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له أحسن الظن بربه وجاءته البشرى من الله تعالى فحينئذ يفرح ويستبشر بما قدم مما هو مقدم عليه، والفاجر بعكس ذلك فإذا نزل به الموت فإنه يستاء غاية الاستياء مما هو مقدم عليه ومما قدمه.
وأما المؤمن فيحب لقاء الله حينئذ فيحب الله لقاءه، وأما الفاجر فيكره لقاء الله حينئذ ويكره الله لقاءه ويندم ويقول: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله.
وعن هشام بن حسان أن محمد بن واسع رحمه الله تعالى: وهو الثقة العابد الورع - من رواة مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه - سُئل كيف أصبحت ؟ قال: أصبحت قريباً أجلي، بعيداً أملي, سيئاً عملي. أزرى على نفسه وهضمها وتواضع لله تعالى، ولم يكن والله كذلك. بل كان وكان السلف الصالح يراقبون الله تعالى أحسن المراقبة، وإنما ينطبق هذا الوصف علينا نحن في هذا الزمان غاية الانطباق. نحن الذين أصبحنا قريباً أجلنا، بعيداً أملنا، سيئاً خبيثاً عملنا إلا ما رحم الله تعالى. الآجال قريبة، والآمال بعيدة عريضة كثيرة طويلة, والأعمال سيئة خبيثة إلا ما رحم الله تعالى، ومع ذلك ترانا في غاية الاطمئنان. والثقة التي تصل إلى حد الغرور.
أما هم، كيف أصبحت يا فلان؟ أصبحت قريباً أجلي. بعيداً أملي. سيئاً عملي. هكذا يجيبون وهكذا يخافون في حال الصحة، فإذا كان ساعة الموت غلب عليهم الرجاء فرجوا الله تبارك وتعالى. وهذا يجب على المؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء وأن يغلب عليه الخوف في حال صحته ورخائه فإذا جاءت ساعة الأجل غلب عليه الرجاء وحسن ظنه بربه.
وسار عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في جنازة وكان خليفةً، فلما رجع خطب الناس فقال: أيها الناس: قد واريتم في التراب عزيزاً عليكم قد فارق الأحباب وباشر التراب وواجه الحساب، مرتهن بعمله، غنى عما ترك، فقير إلى ما قدم. وهذا وإن لكم موعداً ستوفون فيه آجالكم ويفصل الله بينكم، فاعملوا قبل انقضاء مواثيقكم ونزول الموت بكم، ثم بكى وأبكى من حوله.
أما عند الموت فكان الرجاء يغلب عليهم، وهذا أبو عبد الله السُلمي: القارئ المعروف في التابعين يقول وقد حضره الموت: كيف لا أرجو ربي وقد قمت له ثمانين رمضان.
وختم آدم بن أبي إياس شيخ البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، ختم القرآن وهو مسجى للموت، ختمه وهو منطرح ينتظر الموت ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع. كنت آملك لهذا اليوم. كنت أرجوك. لا إله إلا الله ثم قضى. أي ثم فارقت روحه جسده. ماذا يقول عند هذه الساعة؟ بحبي لك إلا رفقت بي هذا المصرع، كنت آملك لهذا اليوم، كنت أرجوك لا إله إلا الله، ثم قضى.
قال قتادة في قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً قال من الكرب عند الموت.
وقال ابن عباس في رواية طلحة بن علي : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ومن يتق الله يجعل له مخرجاً من الكرب عند الموت ومن كل كرب في الدنيا والآخرة.
(1/1581)
احفظ الله يحفظك 3
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إذا سألت فاسأل الله. 2- سؤال غير الله ذلة ومهانة. 3- محبة الله لسائليه وغضبه على من
ترك سؤاله. 4- أوقات فاضلة يجاب فيها السؤال والدعاء. 5- قصص لمن صدق في سؤال
الله وأجابه الله. 6- التوكل على الله وحده. 7- الأمور التي نستعين بالله عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
نواصل معاً فهم الوصايا العظيمة التي أوصى بها النبي ابن عباس رضي الله عنهما، وقد انتهينا في الخطبتين الماضيتين من فهم قوله : ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)) وفي رواية: ((أمامك)).
تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واليوم نحن على موعد مع قوله في بقية الحديث: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) ، وهذه الوصية العظيمة منتزعة من قوله تعالى في سورة الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين والتي قال العلماء فيها: إن خير الكتب جميعاً بما فيها القرآن ينحصر في هذه الآية من سورة الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين.
هذا هو المراد من كل ما نزل في الكتب السابقة ومن القرآن: ألا يعبد إلا الله وحده وألا يستعان إلا به وحده، وأما كون قوله : ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) ، مثل قوله سبحانه: إياك نعبد وإياك نستعين فإن سؤال الله تعالى هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة. كما أخرج بذلك الإمام أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح عن النعمان بن بشير عن النبي : ((الدعاء هو العبادة)) وقرأ : وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين.
ونبدأ أولاً بقوله : ((إذا سألت فاسأل الله)) ، فقد أوصى النبي ابن عباس رضي الله عنهما بألا يسأل - إذا سأل - إلا الله تبارك وتعالى وحده، فأمره بإفراد الله عز وجل بالسؤال، ونهاه عن سؤال المخلوقين، وقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بسؤاله فقال في سورة النساء: واسألوا الله من فضله وقد بايع النبي جماعةً من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، منهم أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان رضي الله تعالى عنهم، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه كما أخرج مسلم من حديث عوف بن مالك.
واعلم يا أخي أن سؤال الله تعالى دون غيره من عباده هو المتعين عقلاً وشرعاً. وذلك من وجوه متعددة منها:
أولاً: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وهذا لا يصلح إلا لله تعالى وحده، فلا يصح الذل إلا لله تعالى وحده بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة، وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك، وفي هذا المعنى قال بعضهم:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله بدلاً وإنا للغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته رجح السؤال وخفّ كل نوال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً فابذله للمتكرم المفضال
أي: إذا كنت لابد سائلاً وابتليت بالسؤال واحتجت إلى شيء فألمت بك نازلة أو شدة أو ضائقة فابذل وجهك للمتكرم المفضال، لله سبحانه وتعالى.
ولهذا كان عقوبة من أكثر المسألة في غير حاجة أن يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)).
وعند أحمد والطبراني في الكبير بسند صحيح عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل مسألةً وهو غني عنها كانت شيناً في وجهه يوم القيامة)).
قال البزار عن الحديث: إسناد حسن، وإنما كانت هذه العقوبة كذلك لأن الذي يكثر المسألة في غير حاجة يذهب عِزّ وجهه في الدنيا وصيانة مائه، فيُذهب الله في الآخرة جماله وبهاءه الحسيّ. فيصير وجهه عظماً بغير لحم والعياذ بالله تعالى، ويُذهب منه بهاؤه المعنوي أيضاً فلا يبقى له يوم القيامة عند الله تعالى وجاهةً.
ومنها ثانياً: من الأوجه التي تدل شرعاً وعقلاً على ألا يُسأل إلا الله وحده، أن في سؤال الله تعالى عبادة وعبودية، وفي سؤال المخلوق ذل. لأن المخلوق عاجزٌ عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره. وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس بقادر ويشهد لهذا المعنى ما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي فيما يروي عن ربه قال سبحانه: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ما عندي إلا كما ينقص المخيط من البحر)). لو قام الناس جميعاً في صعيد واحد، إنسهم وجنهم، وسأل كل واحد مسألته وأعطاهم الله جميعاً ما سألوا، ما نقص ذلك من خزائن الله الملأى إلا كما يمكن أن ينقص المخيط "الإبرة" التي تستعمل في خياطة الملابس – إذا كانت تنقص من ماء البحر شيئاً يؤثر في ماءه أو يُحس أو يُرى كذلك تنقص مسائل السائلين من خزائن الله تعالى. ما تنقص مما عند الله إلا كما ينقص المخيط من البحر. فكيف يُسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر إن هذا لأعجب العجب.
قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها، فكيف أسألها من لا يملكها. يعني المخلوق. يعني كأنه يصف حاله وأنه يسأل الله تبارك وتعالى من خيرات الآخرة دائماً ولا يسأله سبحانه وتعالى شيئاً من الدنيا. إذا كان كذلك يستحي من الله عز وجل، وعندما يطلب شيئاً من غير الله تبارك وتعالى من أمور الدنيا يصيبه الحياء فكيف يسألها من لا يملكها يعني المخلوق.
ومن الأوجه ثالثاً: أن الله تعالى يُحب أن يُسأل ويغضب على من لا يسأله كما سبقت الآية من سورة غافر: وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين فإن الله سبحانه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويلحوا، ويحب سبحانه الملحين في الدعاء لأن في السؤال إظهاراً للافتقار إليه واعترافاً بقدرته سبحانه على قضاء الحوائج.
وأما المخلوق فإنه غالباً يكره أن يُسأل لفقره وعجزه، أما الله سبحانه فيحب ذلك ويغضب على من لا يسأله، ولهذا قال ابن السمّاك: لا تسأل من يفر منك وأسأل من أمرك بسؤاله:
وقال أبو العتاهية:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب
فاجعل سؤالك للإله فإنما في فضل نعمة ربنا تتقلب
وأنشد بعض الأعراب قال:
أيا مالكٌ لا تسأل الناس والتمس يكفيك فضل الله فالله أوسعُ
ولو يُسأل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
إذاً الله يغضب إن تركت سؤاله
ومنها رابعاً وأخيراً: أنه سبحانه يستدعي من عباده سؤاله. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع فأستجيب له. هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له.
وكم أعرضنا والله عن انتظار هذه الساعة المباركة في ثلث الليل الآخر. كم أعرضنا عن انتظارها وترقبها وتحريها فأخذنا النوم عنها، بل ربما أخذنا من الفريضة، صلاة الفجر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له.
وقال سبحانه في سورة البقرة: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فأي وقت دعا العبد فيه ربه وجده سبحانه وتعالى سميعاً قريباً مجيباً ليس بينه وبينه حجاب ولا أبواب، وأما المخلوق فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات.
ولهذا قال طاووس لعطاء وكلاهما من التابعين الأجلاء الكرام من السلف الصالح، قال لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله، ووعدك أن يجيبك.
وذكر ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث في جزء خاص أفرده لشرح هذا الحديث العظيم وقع في مائة وعشرين صفحة ذكر مجموعة من القصص التي وقعت للسلف الصالح تدل على فضل سؤال الله وحده وإفراده سبحانه وتعالى بذلك اخترت منها قصتين إذ المجال لا يتسع لأكثر من ذلك.
قال في الأولى:
كان إسحاق بن عباد البصري نائماً فرأى في منامه من يقول له: أغِث الملهوف. فاستيقظ فسأل هل في جيرانه من هو محتاج؟ قالوا: لا ندري. فنام، فرآه ثانياً وثالثاً يقول له: أتنام ولم تُغث الملهوف؟ فقام وأخذ معه ثلاث مائة درهم وركب بغلهُ فخرج به إلى البصرة حتى وقف به على باب مسجد يصلى فيه على الجنائز فدخل المسجد فإذا رجل يصلي فلما أحس به انصرف. فدنا منه فقال له: يا عبد الله في هذا الوقت في هذا الموضع ما حاجتك؟ قال: أنا رجل كان رأس مالي مائة درهم فذهبت من يدي ولزمني دين مائتا درهم، فأخرج الدراهم وقال له: خذها. أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا إسحاق بن عباد، إذا نابتك نائبةٌ فأتني فإن منزلي في موضع كذا؟ قال له: رحمك الله، إن نابتنا نائبةٌ فزعنا إلى من أخرجك في هذه الساعة حتى جاء بك إلينا.
وأما القصة الثانية فقال فيها: قال أصبغ بن زيد -وأصبغ ابن زيد توفي سنة سبع وخمسين ومائة من الهجرة وهو صدوق من رواة الترمذي والنسائي وابن ماجه - قال أصبغ: جلست ومن عندي ثلاثاً لا نطعم شيئاً فقامت إلى ابنتي الصغيرة، خرجت إلي وقالت: يا أبتِ الجوع. فخرجت فأتيت الميضأة فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاءً دعوت به في آخرها. أي في آخر الصلاة، فقلت: اللهم افتح علي منك رزقاً لا تجعل لأحد عليّّ فيه منّة ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة – أي لا يكون الرزق من حرام – برحمتك يا أرحم الراحمين.
ثم انصرفت إلى البيت فقامت إلي ابنتي الكبيرة فقالت: يا أبت جاء عمي الساعة وترك هذه الصرة من الدراهم وجاء بحمّال عليه دقيق وحمّال عليه من كل شيء في السوق وقال: أقرؤوا أخي السلام وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك.
قال أصبغ: فوالله ما كان لي أخٌ قط ولا أعرف من هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير.
بطبيعة الحال هذه الآثار والحكايات يتلقّاها قومٌ على نحو وقوم آخرون على نحو، فيختلفون في تلقيها، فمن متلق لها على سبيل التواكل وعدم الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن متلق آخر لها على سبيل الثقة في فضل الله ومنّه ولطفه ورحمته، فيعمل ويأخذ بالأسباب الشرعية ومن جُملتها سؤال الله تعالى ودعاؤه، وبهذا يسلم الأمر من المآخذ كما قال أصبغ ابن زيد "ولكن الله على كل شيء قدير".
وهذه الآثار والحكايات كثيرةٌ جداً وهي موجودة في كتب الرقاق والزهد ويطول ذكرها وينبغي أن يُحمل حال هؤلاء الصالحين المعروفين من السلف على الأخذ بالأسباب الشرعية التي من جُملتها سؤال الله عز وجل ودعاؤه فإنهم كانوا متوكلين لا متواكلين.
وأما إن يظن البعض أن فيها شيئاً من التواكل فلا والله، فإن الإنسان قد يعمل ويسعى ويبذل ما في وسعه ثم تُلم به مُلمة أو شدة أو ضائقة فلا يقوم حاصل سعيه وبذله لوسعه وعمله بكشف هذه الغمة. فمن يسأل إذا لم يسأل خير مسؤول، الكريم الحليم الله تبارك وتعالى. الذي يعطي السائلين على كثرة حاجاتهم واختلاف أصواتهم ولهجاتهم. يعطيهم جميعاً سؤلهم، لا يسأل العبد إلا الله تبارك وتعالى، والله على كل شيء قدير، يسوق إليه من يعطف عليه وعلى حاله ويتفقده، وإن كثيراً من الناس في هذه الأيام في واقع حياتنا ليلمسون ويلاحظون ويشهدون كثيراً من هذه الأمارات التي تدل على صدق هذه القصص.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فالوصية الثانية من وصايا اليوم :
هي قوله بعدما تقدم من وصاياه العظيمة السابقة ((وإذا استعنت فاستعن بالله)) أمر بألا يطلب العون إلا من الله وحده لأن الأمر كله بيده سبحانه، لا يملك أحدٌ منه معه مثقال ذرة، الأمر كله بيده سبحانه فلا يطلب العون إلا ممن بيده الأمر لأن غيره ليس بيده الأمر.
وتقدم أن قوله : ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) هو كقوله تعالى في سورة الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين.
وفي إتيانه سبحانه وتعالى: وإياك نستعين بعد قوله: إياك نعبد إشارة إلى أنه لا ينبغي إلى أنه لا ينبغي التوكل إلا على من يستحق العبادة لأن غيره ليس بيده الأمر. أتتوكل على من ليس بيده؟، لا، بل توكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده، توكل على المستحق للعبادة، توكل على الله سبحانه وتعالى. وهذا هو المعنى المشار إليه في سورة الفاتحة جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله تعالى من سورة التوبة: فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت ، وقوله تعالى في سورة هود: فاعبده وتوكل عليه وقوله تعالى في سورة الملك: قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وقوله تعالى في سورة المزمل: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الاستعانة بالله دون خلقه فائدتان:
إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات إن لم يُعنه الله تعالى.
والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله سبحانه وتعالى. فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول. جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)).
وكان النبي يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا: ((الحمد لله نستعينه)) [رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما].
وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم أن النبي أمر معاذ بن جبل أن لا يدع دُبر كل صلاة أن يقول: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) [إسناده صحيح].
وكان النبي يقول ويدعو بهذا الدعاء: ((رب أعني ولا تعن عليّ)) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأحمد وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح].
والعبد محتاج إلى الاستعانة بالله عز وجل في فعل المأمورات التي أمره الله بها ورسوله وترك المحذورات، وفي الصبر على المقدورات، كما قال يعقوب عليه السلام لبنيه كما في سورة يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها هذه الكلمة. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما لما قال أهل الإفك ما قالوا، فبرأها الله عز وجل مما قالوا، قالت: لا أقول إلا كما قال أبو يوسف – وذهب عنها رضي الله عنها اسمه عليه السلام لما اشتد عليها من وطأة هذا الكلام وهذه الفرية فقالت: أبو يوسف، فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون فبرأها الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات.
وقال موسى عليه السلام لقومه كما في سورة الأعراف: استعينوا بالله واصبروا وقال نبينا ورسولنا محمد كما في سورة الأنبياء: رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
وفي صحيح مسلم من رواية أبي موسى والحديث في البخاري إلا أن هذه الرواية في صحيح مسلم. أنه لمّا أراد أبو موسى أن يبشر عثمان رضي الله عنهما بالجنة على بلوى تصيبه قال عثمان: الله المستعان. قال لأبي موسى : افتح له وبشّره بالجنة على بلوى تصيبه ففتح له وبشره فقال عثمان: اللهم المستعان.
هذا ولما كان الدعاء من أعظم العبادات وبعض الناس يصرفه إلى غير الله عز وجل، وهذا شرك والبعض الأخر قصّر فيه تقصيراً شديداً، فليس عنده دعاء ولا إلحاح على الله عز وجل. لما كان الأمر كذلك رأيت أن أخص الدعاء في خطب قادمة بشيء من البيان لعل الله تبارك وتعالى ينفعنا بذلك. أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يرغبون في الله عز وجل ويستعينون به على كل ما يُلم بهم.
(1/1582)
احفظ الله يحفظك 4
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, القضاء والقدر
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدر الله نافذ لا محالة. 2- الإيمان بالقضاء والقدر ودوره في سعادة وطمأنينة العلم. 3-
معتقد أهل السنة في مسألة القضاء والقدر. القضاء والمصائب. 5- الاحتجاج بالقدر على
المعايب والذنوب. 6- النصر مع الصبر والفرج مع الكرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإنه قد كانت لنا في ما مضى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتعلق بوصية النبي له وقفات، وأريد اليوم أن أتم ما بقي من الكلام على هذه الوصية العظيمة، وأحب قبل الشروع في ذلك أن أذكركم بنص هذا الحديث المبارك وبما انتهينا منه وما بقي فيه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)).
وفي رواية: ((قد جف القلم بما هو كائن، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)).
فبقيت من هذا الحديث فقرتان: إحداهما متعلقة بالقدر، والأخرى متعلقةٌ بالصبر وفضله.
أما الفقرة الأولى فهي قول النبي لابن عباس رضي الله عنهما: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك)).
والمراد من هذه الكلمات المباركات ونحوها مما جاء في الروايات الأخرى، أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه كله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من مقادير ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً. يعني – لو اجتهد الناس جميعاً على أن ينفعوا العبد بشيء لم يقدر له ولم يكتب له في الكتاب السابق لم يكن أبداً، ولو اجتهد الخلق كلهم جميعاً على أن يضروا العبد بشيء لم يقدر عليه ولم يكتب في الكتاب السابق لم يكن أبداً دل على ذلك قوله تعالى في سورة التوبة: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
وقوله تعالى في سورة الحديد: ما أصابكم من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها.
وقوله تعالى في سورة آل عمران: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم.
واعلموا رحمكم الله تعالى أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر بعده وقبله فهو متفرع عليه وراجع إليه.
فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وإن اجتهد الخلق كلهم على خلاف المقدور فاجتهادهم هذا غير مفيد البتة. بل إنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له من خير وشر ونفع وضر، لو علم العبد ذلك وأيقن به، علم حينئذ أن الله هو الضار النافع المعطي المانع، فأوجب ذلك له توحيد الله عز وجل وإفراده بالطاعة وحفظ حدوده.
ومن هنا قلنا نقلاً عن العلماء: إن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل. وما ذكر قبله من الحفظ وما ذكر بعده من الصبر وغير ذلك فهو متفرع عليه وراجع إليه. فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ولهذا ذم الله تعالى من يعبد ما لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عباده شيئاً.
فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله عز وجل أوجب ذلك له إفراد ربه بالخوف والرجاء. هل تخاف غيره وترجو غيره؟ إذن ما علمت أنه هو وحده الذي ينفع ويضر ويُعطي ويمنع، إذا علمت ذلك أوجب ذلك إفراد ربك بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وأوجب ذلك عليك اتقاء ما يسخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً.
وأريد في هذه العجالة أن أشير إلى ما يجب على المسلم نحو أمر القضاء والقدر فإن هذا الأمر إذا حصل للعبد الإيمان به على الوجه المطلوب كان من أسباب سعادته، وإذا لم يؤمن بالقضاء والقدر عاش في الدنيا شقياً، وقد يكون في الآخرة كذلك إن لم يتداركه الله برحمته.
فيجب على المسلم أن يعلم أن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان كما دل عليه حديث جبريل في صحيح مسلم عن عمر وعليه، فمن الإيمان ألا يتحسر العبد على ما أصابه من المصائب ظاناً أنه كان يمكنه أن يتلافاها، وأن لا يتحسر على ما أخطأه من الخير وفاته ظاناً أنه كان يمكنه تحصيله. لا، لا يجوز هذا، بل يعلم العبد أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، هذه أمورٌ مقدرة، إذن ماذا يجب نحوها؟ يجب الرضا والتسليم كما سيأتي في الكلام القادم إن شاء الله تعالى.
وليعلم أن مذهب السلف جميعاً سلف الأمة رحمهم الله تعالى في مثل هذه الأقوال: الله خالق كل شيء ، الله رب كل شيء ومليكه. إن الإنسان خلق هلوعاً وإذا مسّه الشر جزوعاً إذا مسّه الخير منوعاً ونحو ذلك من الأقوال التي جاءت في الكتاب وفي السنة، مذهب السلف تجاه هذه الأقوال.
أن العبد فاعل حقيقةً وأن له مشيئة وقدرةٌ لكن كل ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته، ولا تعارض، فقد أثبت الله تعالى في الكتاب العزيز، في القرآن، أثبت للعبد مشيئة ً وقدرة ً. وأخبر أن ذلك كله بمشيئته وقدرته. فقال سبحانه في سورة المدثر: فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله ، وقال في سورة الإنسان: فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً وما تشاءون إلا أن يشاء الله هكذا. للعبد مشيئةً وقدرة، وكل ذلك بمشيئة الله تعالى وقدرته. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)).
وفي صحيح مسلم أيضاً: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)).
قال: ففيم العمل؟ وهذا السؤال من المعلوم أنه يتردد كثيراً على ألسنة بعض الناس لا سيما العصاة، هم الذين يحتجون بذلك كثيراً ويقول قائلهم: ما فائدة العمل وأنا قد خلقت شقياً؟ والعياذ بالله تعالى. وما الدليل، على شقاوتك؟ يقول: الدليل انغماسي في هذه المعاصي، وارتكابي لها.
وهذا في الحقيقة كما قال شيخ الإسلام وسأنقله عنه بعد قليل: ضلال وجهل، لأنها أمور مغيّبة عن العبد لا يعلم أهو مكتوب من السعداء أم من الأشقاء حتى يحتج بهذه الحجة الواهية.
إذن قال الرجل للرسول مستفهماً مسترشداً، فيم العمل؟ إذا كان على ما جفت به الأقلام وجرت به المقادير وفرغ منه، ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)).
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، أن رجلاً قال: يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ يعني هل عرفوا وانتهي من ذلك، قال: أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: ((نعم)) ، قال: لم يعمل العاملون؟ قال: ((كل يعمل لما خُلق له أو لما ييسر له)).
وفي الصحيحين كذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان النبي في جنازة فأخذ شيئاً فجعل ينكت به الأرض فقال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة. قالوا يا رسول الله: أفلا تتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)).
أما من كان أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر لعمل أهل الشقاوة، والعياذ بالله – ثم قرأ : أما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى وانتهت قراءته في هذه الرواية إلى هاتين الآيتين. وأتم قراءة الآيات في رواية أخرى فقال: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى.
والمعنى، فأما من أدى ما أمر به من العبادات المالية كالزكوات والصدقات ونحوها وما أمر به من العبادات البدنية كالصلاة والصوم ونحوهما، وما أمر به من العبادات البدنية المالية كالحج والعمرة ونحوهما، واتقى أي انتهى عما حرم الله عليه. واتقى ما يسخط ويغضب ربه عز وجل، وصدق بالحسنى أي صدّق بلا إله إلا الله وما دلت عليه من العقائد الدينية وما ترتب عليها من الجزاء فسنيسره لليسرى ، سييسر لكل خير، وسيعان على كل خير، وسيكون من الموفقين المؤيدين.
وأما من بخل واستغنى ، أما من لم يؤد ما أمر به مما سبق بيانه واستغنى عن الله فلم يفتقر إليه وكذب بالحسنى ، كذب بالعقائد الدينية فنيسره للعسرى، سييسر لكل شر ويُخذل ولا يعان على خير.
إذن، يتبين للمتأمل المتدبر الذي لا يستولي الشيطان على عقله ولا يُفسد عليه تفكيره وتأمله، يتبين له أن لا حجة عند الذين يتركون العمل وييأسون خوفاً من أن لا يكونوا في الآخرة من السعداء، ولا حجة للذين يجترئون على ارتكاب ما حرم الله ظناً منهم أنهم قد كتبوا من الأشقياء وفرغ من ذلك، ومن ثم تطلعوا إلى ألا يحرموا أنفسهم من شيء قبل أن يعذبوا وقبل أن يدخلوا النار.
إذا تأمل العبد ما مضى من الآيات والأحاديث، علم أن لا حجة لأحد من المحتجين بالقدر. لا حجة لأحد من هؤلاء المحتجين بتلك الحجة الواهية، حُجة العاجزين والكُسالى والجرءاء والمخذولين. لا حجة لأحدهم في ذلك البتة.
ومما يتعلق بالقضاء والقدر أيضاً: أن على العبد إذا أصابته المصائب أن يصبر، وإذا أصاب هو ذنباً أن يستغفر قال تعالى في سورة يوسف: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين فإذا أصابته المصائب فليصبر وليحتسب، وإذا أصاب ذنباً فلا يقل: إني من الأشقياء. بل يستغفر إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. فذكر هنا الصبر على المصائب، والتقوى بترك المعايب.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)) على العبد أن يكثر من قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين وأن يتدبر هذا المعنى إذا ما قرأ هذه الآية سبع عشر مرةً في الفرائض، عليه أن يتأمل هذا المعنى العظيم. وأن يوقن به تمام اليقين فإنه إن لم يُعِنهُ ربه تبارك وتعالى فلا يكون ما يريده أبداً، وما دام العبد قد يفعل الذنوب أحياناً ويشعر أنه غير ميسر للخير فعلاجه أن يكثر من قول: إياك نعبد وإياك نستعين هي خلاصة الكتب كلها التي نُزلت على بني آدم كما قال بعض السلف:
أنزل الله تعالى مائة كتاب وأربعة كتب جُمعت كلها وجمع خيرها في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. ثم جمع خير ذلك كله في القرآن، ثم جمع خير ذلك كله في قوله تعالى في سورة الفاتحة في قوله: إياك نعبد وإياك نستعين.
فعليه أن يصبر على المصائب، وإذا أصاب ذنباً أن يستغفر. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي سبق بيان مصدره ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقولن: لو كان كذا كان كذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) فإن لو تفتح عمل الشيطان ولا تنفعك "لو" فلا يمكنك أن تستدرك ما فاتك وما أخطأك، ولا أن تدفع عن نفسك ما أصابك. هكذا إذن أمر العبد بالصبر عند المصائب والاستغفار عند المعايب، فعليه أن ينظر إلى القدر عند المصائب. ينظر إلى ما قُدّر عليه إذا أصابته مصيبة، فليعلم أن ذلك مكتوب ومُقدر، وبذلك لا يتحسر على ما مضى أبداً.
وعليه إذا أصاب ذنباً أن يستغفر وينيب ويتوب ويرجع إلى الله تبارك وتعالى قال الله عز وجل في سورة الحديد: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وقال في سورة التغابن: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله قال علقمة وغيره من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويُسلّم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله وأجزل له المثوبة والعطاء -: ومن احتج بالقدر على المعاصي – أي على فعل المعاصي ويقول: قدر ذلك علي – فحجته داحضة، ومن اعتذر به فعذره غير مقبول. بل هؤلاء الضالون – كما قال فيهم بعض العلماء – أنت عند الطاعة قدري. وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. يعني رحمه الله تعالى أن هذا الذي يحتج بالقدر إذا عمل صالحاً قال بعملي وجهدي وهمتي، وإذا عمل مصيبة قال: قُدر ذلك علي.
فلو أن هذا المحتج بالقدر ظلمه أحد من الناس فآذاه وضربه مثلاً ثم أراد أن يقاضيه ويحاسبه فقال له المؤذي: وماذا أفعل قُدّر ذلك علي. هل يقبل منه ذلك؟ لا، لا يقبل منه ذلك. تضربني وتؤذيني وتأخذ مالي وتقول: قُدر ذلك علي؟ لا. إذن فإذا لم يكن المقدر حجةً لغيرك على أن يظلمك، فليس القدر كذلك حجة لك على معصية الله عز وجل، فتنبه.
ثم قال أيضاً رحمه الله تعالى: وإنما يحتج أحدهم بالقدر عند هواه ومعصية مولاه. لا عندما يؤذيه الناس ويظلمونه. هل إذا آذاه الناس قال: قُدر ذلك علي وعليهم؟ لا، بل ينتقم، ولكن عند هواه ومعصية مولاه. يقول: مُقدّر ذلك علي.
وأما المؤمن فهو بالعكس من ذلك: إذا آذاه الناس نظر إلى القدر فصبر واحتسب، وإذا أذنب هو تاب واستغفر كما قال تعالى في سورة غافر: فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك فأمره بالصبر عند المصائب والاستغفار عند المعايب.
وهكذا المؤمن يصبر إذا أصابته المصائب، ويستغفر إذا أصابته المعايب، والمنافق بعكس ذلك، فلا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر إذا ما أصابته المصائب، ولهذا يكون شقياً في الدنيا والآخرة، والمؤمن سعيداً في الدنيا والآخرة والله أعلم. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وأريد أن أختم هذا الكلام مع هذا الموضوع، بكلمة لابن عباس رضي الله عنهما يقول فيها: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وآمن بالقدر ثم توحيده، ومن وحّد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المتقين وأشرف المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)).
أما قوله عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)) ، فإن العبد إذا أصابته المصائب المؤلمة المكتوبة عليه فصبر عليها كان له في الصبر خير كثير، وذلك أن الله تعالى وعد على الصبر بالأجر الجزيل في الدنيا والآخرة.
قال سبحانه في سورة البقرة: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون بشر هؤلاء الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله، نحن ملكه المحض. ما أعطانا ففضل منه سبحانه، وما منعه فإنه عدل، لأنه مُلكه المحض، ليس لأحد أن يسأله عن شيء أبداً: لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ، فإذا أصابتهم المصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال سبحانه في سورة النحل: ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
وقال في سورة الزمر: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وقال في الحديث الذي أخرجه مسلم عن صهيب رضي الله عنه: ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير – لا يقضى الله له قضاءً إلا كان خيراً له، هذا هو المؤمن – إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)).
وأما قوله : ((واعلم أن النصر مع الصبر)) : فإنه يشمل النصر في الجهادين: جهاد عدو الدين الظاهر وقتاله، وجهاد عدو الباطن، جهاد النفس والهوى والشيطان.
أما جهاد عدو الدين فيدل للنصر عليه مع الصبر قوله تعالى في سورة البقرة: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.
وقال في سورة الأنفال: إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين.
وقال سبحانه في جهاد عدو الباطن: النفس والهوى والشيطان قال في سورة النازعات: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
بجهاد عدو الباطن، جهاد النفس والهوى والشيطان يصير المجاهد ملكاً عزيزاً، فينتصر على هؤلاء الأعداء فيظفر بهم، وأما إذا استسلم لنفسه وهواه وشيطانه غُلب وقُهر وأُسر وصار ذليلاً في يد شيطانه ونفسه وهواه فأصبح كما قال القائل:
إذا المرء لم يغلب هواه أقامه بمنزلة فيها العزيز ذليل
أقامه: أي الهوى.. بمنزلة فيها العزيز ذليل.
ورحم الله عبد الله بن المبارك الذي قال هذه المقولة الجليلة المستفادة من القرآن ومن السنة. كان كلامهم كأن عليه نوراً، لأنه مُستفاد من الكتاب والسنة لا من العلوم التي تقسي القلب وتصرف العبد عن الله تعالى وتحدث الشكوك في الاعتقاد وتفضي بالناس إلى التباغض والتنافس. لا، بل يستفيد منها من كتاب الله وسنة رسوله.
قال: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع، الله أكبر. يريد أن يقول: أن من صبر عن طاعة نفسه وهواه وشيطانه ولم يطعهم، وصبر على أداء التكاليف الشرعية وطاعة ربه فلن يدوم صبره طويلاً لأن العمر قصير ولأن مدة الدنيا بالقياس إلى الآخرة لا شيء.
ومن جزع وأنف من الطاعة وقال: أمتّع نفسي وأعطيها ما تألفه وتركن إليه، فما أقل ما يتمتع لنفس السبب، لأن العمر قصير ولأن مدة الدنيا بالقياس إلى الآخرة دار النعيم - إذا أطاع وامتثل - مدة الدنيا بالقياس إليها لا شيء، ولذلك فمن صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((وأن الفرج مع الكرب)) ، وهذا من نتائج الصبر في الدنيا أن يكون معه الفرج والنصر واليُسر، وفي الآخرة أجرٌ بغير حساب.
((وأن الفرج مع الكرب)) ، يدل لذلك قوله تعالى في سورة الشورى: وهو الذي يُنزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وكم قص الله تعالى في كتابه من قصص تفريج كُربات أنبيائه عليهم الصلاة والسلام كقصة إنجاء نوح عليه السلام ومن معه في الفلك. وقصة إنجاء إبراهيم الخليل عليه السلام من النار، وفداء ولده بعدما أمر بذبحه، وقصة إنجاء موسى وقومه وإغراق عدوه في اليم، على نبينا وعلى موسى الصلاة والسلام، وقصة إنجاء يونس وأيوب وقصة إنجاء نبينا محمد يوم الغار ويوم بدر ويوم أحد ويوم الأحزاب ويوم حنين هكذا قصها الله علينا في كتابه لنفهمها ونعقلها ونعمل بمقتضاها.
وأن مع العسر يسراً : وهذا مستفاد ومنتزع من قوله تعالى في سورة الطلاق: سيجعل الله بعد عسر يسراً ومن سورة الشرح: فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً.
ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين وتعلق قلبه بالله وحده. فإنه بذلك يكون قد امتحن واختبر وثبت صدق توكله على الله عز وجل، فعندئذ يكشف الله ضره ويفرج كربه ويُذهب عُسره كما قال تعالى في سورة الطلاق: ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
وإلى هنا أنهي الكلام على هذه الوصية العظيمة الجليلة المباركة سائلاً الله أن ينفعني وإياكم والمستمعين بما جاء من ذكر الآيات والأحاديث والكلام الطيب، أسأل الله تعالى أن ينفعنا بها أعظم النفع وأحسنه وغايته، إنه كريم جواد.
(1/1583)
آداب الاستئذان
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الاستئذان قبل دخول البيوت. 2- الاستئذان ثلاثاً وإلا يرجع المستأذن. 3- كيفية
الاستئذان وآدابه. 4- الاستئذان على المحارم وأهل بيته. 5- بعض الآداب التي فرط بها
المسلمون. 6- الاستئذان في المكاتب الرسمية وأماكن النفع العام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
يقول الله تبارك وتعالى في سورة النور في الآية السابعة والعشرين إلى نهاية الآية التاسعة والعشرين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاًً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون هذه من الآداب الشرعية التي أدب الله تبارك وتعالى بها عباده المؤمنين، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده لإيناس من في البيت وإزالة الوحشة من نفوسهم ولتمكينهم من الاستعداد لاستقبالهم حتى لا يفاجئوهم على حالة لا يحبون أن يراهم عليها أحد، ولهذا فإن عليه أن يستأذن.
على الذي يريد الزيارة أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي موسى حين استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثاً فلم يؤذن له فرجع، فقال عمر بعد ذلك: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له. فطلبوه فوجدوه قد ذهب ثم جاء بعد ذلك فقال له عمر: ما أرجعك؟ فقال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف)) فقال عمر: (لتأتيني على هذا بالبينة وإلا أوجعتك ضرباً) وهذا أسلوب كان يتبعه عمر بن الخطاب حتى لا يزين لكل امرئ أن يقول قولاً ثم يقول إن رسول الله هو الذي قاله، مع حسن الظن بخير خلق الله صحابة رسول الله ، ولكن كان هذا مسلكه فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قاله عمر فقالوا: (لا يشهد لك إلا أصغرنا: أبو سعيد الخدري فذهب معه فأخبر عمر بذلك فقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق) أي أن خروجي للتجارة والعمل كان يفوت علي أن أسمع بعض ما سمعتم.
ثم إن رسول الله نفسه وهو المرغوب في دخوله البيوت والجلوس والاجتماع معه لما في ذلك الخير والعلم والتأدب، هو نفسه كان يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له رجع، وفي ذلك ما رواه أحمد عن أنس قال: ((استأذن النبي على سعد بن عبادة فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، فلم يسمع النبي ففعل ذلك النبي ثلاثاً ورد سعد ثلاثا،ً فرجع النبي فتبعه سعد وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بإذني، وإنما أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل ثم قال: أكل طعامك الأبرار وصليت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون)) ورواه أبو داود والنسائي.
وعن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: زارنا رسول الله في منزلنا فسلم فرد سعد خفياً فقلت: ألا تأذن لرسول الله ؟ فقال: دعه يكثر علينا من السلام فلما سلم ثلاثاً، انصرف فتبعه سعد وأدخله البيت - كما عرفتم في الرواية الأولى- ثم قدم إليه غسلاً فاغتسل ثم ناوله سعد خميصة مصبوغة بالزعفران أو الورث فاشتمل بها ثم رفع يده فقال: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، ثم قرب إليه طعاماً فلما أصاب من الطعام دعا لسعد فلما أراد أن ينصرف قدم سعد وقرب حماراً عليه قطيفة ليركب رسول الله إلى بيته وقال: يا قيس اصحب رسول الله فقال له الرسول : إما أن تركب وإما أن تنصرف، فأبيت أن أركب، وانصرف عني.
هكذا رسول الله يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له رجع، لا كما يفعل بعضنا على باب إخوانه يطرق ويطرق ويطرق، ويأبى أن ينصرف أبداً، حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له، وإن لم يفتحوا له رجع مغضباً حزيناً ووجد في نفسه عليهم أشد الوجد والأثر، وجعلها سبباً من أسباب القطيعة والخصام أبداً.
ما حدث لنا ذلك في هذه الأيام والأوقات والعصور إلا لما وقع بيننا وبين آداب ديننا من جفاء ولِما أصبحنا عبيداً له وأسارى من أعراف وتقاليد خاطئة.
ثم على الذي يستأذن أن لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه أن يكون عن يمين الباب أو عن يساره، فقد روى أبو داود عن عبد الله بشر قال: (كان رسول الله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، ذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور).
وروى كذلك أبو داود أن رجلاً جاء فقام على باب النبي وفي رواية أنه سعد فلما وقف على الباب استقبله استقبالاً فقال له النبي : ((عنك هكذا أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر)) ولهذا ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال - انظروا إلى ما أراده الدين الحنيف للبيوت من حرمة لا يجوز أن يستبيحها أحد من الداخلين أو الناظرين - يقول رسول الله : ((لو أن أمراً اطلع في بيتك من غير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح)).
وفي رواية الإمام أحمد والنسائي وابن أبي عاصم وصححها ابن حبان والبيهقي: ((فلا دية له ولا قصاص)) ، ((لو أن رجلاً اطلع)) أي أنه مثلاً وجد نافذة بيتك مفتوحة فوضع رأسه فيها ينظر أو كان في طاق فوضع عينه فيها ينظر ماذا بداخل البيت هل يأكلون، هل هم نائمون، هل يقولون كلاما لو سمعته أضيف إلى علمه جديد، هكذا لو أن هذا الناظر لحظه من في البيت فحذفوا عينه بحصاة ففقأت، فلا دية له ولا قصاص ((ما كان عليك من جناح)).
وروى الجماعة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أتيت النبي في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ قلت: أنا أنا، فقال النبي : أنا أنا، كأنه كرهه )) لأنه لو عبر كل أحد بلفظ: أنا، لم يحصل المقصود من الاستئذان ولما عرف الذي يستأذن حتى يتمكن أهل البيت من الإذن له أو لعلهم لا يرغبون في زيارته فيعتذرون، فأحب النبي لهذا المستأذن عليه أن يقول: فلان.
أما: أنا أنا، فكما سمعتم استنكرها النبي.
وروى أبو داود بإسناده إلى ربعي قال أتى رجل من بني عامر يستأذن على النبي فقال: أألج؟ أي أأدخل؟ فقال النبي لخادمه: ((اخرج إليه فعلمه قل له يقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ قال له النبي : ادخل)).
ثم نأتي بعد ذلك إلى ما نستفيده من آثار عديدة في الاستئذان على ذوات المحارم والقرابات وعموم الناس، فإن بعض الناس يفهمون أن المرأة ما دامت منه محرماً فليس عليه أن يستأذن عليها، ولماذا يستأذن؟ إنها محرم منه، ولكن قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم).
ثم قال عدي بن ثابت: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي فقالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي فأنزل الله قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية وقد رأيتم من سوق هذا الأثر أن الاستئذان على ذوات المحارم لسبب أنهن ربما يكن على حال لا يستحببن أن يراهن عليه أحد، كأن تكون عريانة، كأن تكون على هيئة معينة تستريح فيها ولا تحب أن يراها عليها أحد، لما في نفسها من حياء وخجل، فيفاجئها الرجل من أهلها باعتبار أنها محرم منه، فيدخل عليها على هذه الحالة.
لا ليس هذا من أدب ديننا ولا من أخلاقياته، ثم قال عطاء: قلت لابن عباس: أأستأذن على أخواتي: أيتام لي في حجري في بيت واحد؟ فقال ابن عباس: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستئذن فراجعته أيضاً، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستئذن.
فانتهى النقاش إلى هذا الحد، ما دام الأمر يتعلق بطاعة لا مجال بعد ذلك للنقاش والجدال، لا كما يفعله بعضنا من إرادة تغليب هواه على النصوص والآيات والأحاديث ليحقق ما تصبو إليه نفسه وتطلع إليه وترتاح فيه من هوى، لا والله، كانوا وقافين عند القرآن وعند السنة وعندما يعلمونه أنه أمر أو نهى من قبل الله أو رسوله كما قالت الآية الحادية والخمسون من سورة النور: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون.
وهل لهم جزاء يساوي ما غالبوا به شهواتهم وهواهم وما في أنفسهم؟ نعم قال في الآية التالية: ومن يطع الله ورسوله ويخشَ الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
وقال طاووس رحمه الله: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم. وكان يشدد في ذلك: إني لا أحب أبداً أن أرى عورة ذات محرم، هذا ما يتعلق بذات المحارم.
وقال ابن جرير: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا، وهذا محمول من عطاء على عدم الوجوب، ليس واجباً قطعاً أن يستأذن الرجل على امرأته، ولكن الأولى أن يستأذن عليها لا للوجوب ولكن للاستحباب، وليس منا من يفرط في الاستحباب إلا لضرورة أو لنسيان أو ما إلى ذلك، وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنها قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه)، يفعل أي شيء ينبه به أهله قبل أن يدخل كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. وقال أبو هبيرة فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: كان عبد الله إذا دخل البيت استأنس.
كيف يستأنس قال: تكلم ورفع صوته وكل ذلك ليعلم أهل البيت، قال مجاهد: حتى تستأنوا قال: تنحنحوا أو تنخموا، وقال الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه.
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله : ((نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً)) وفي رواية: ((ليلاً يتخونهم)) بمعنى أنه نهى أن يقدم رجل من سفر مثلاً في الليل فيطرق أهله تعمداً ليراهم في هذه الحالة ماذا يفعلون، تخوناً لهم لأنه لا يأتمنهم.
فعليه أن يبعث من ينبه أهل الدار وأن يمكنهم من الاستعداد، ومن ذلك من الأمور التي تحب المرأة أن تلقى زوجها عليها، نهى رسول الله عن ذلك، وهذا ما جعل العلماء يذهبون أن الأولى أن يؤذِن أهل بيته.
ثم جاء في الحديث الآخر أنه جاء المدينة نهاراً فأناخ بظاهرها وقال: ((انتظروا إلى العشاء إلى آخر النهار حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)) أي حتى تتطيب النساء ويستعدن للقاء أزواجهن، هكذا لا ينبغي أن يهجم عليهن هجوماً، فما ظنك بالذين يدخلون على بنات أخوالهم أو عماتهم أو خالاتهم ويقولون: إننا تربينا معاً وما إلى ذلك، نحن إخوة. أي أخوة؟ هل هي ذات محرم منك؟ لو كانت ذات محرم لكان عليك أن تستأذن عليها كما استمعت الآن، هل يجوز لك أن تتزوجها: ابنة خالك أو ابنة عمك أو ابنة خالتك؟ ليست ذات محرم منك؟
فيدخل الرجل البيت فلا يأبه لزوج بنت خالته أو بنت خاله أو بنت عمته ويتركه ويبحث عنها في غرفتها أو في المطبخ أو في أي مكان، يبدأ يكلمها وقد يتكلم معها بكلام لا يجوز إلا مع ذوات المحارم وما إلى ذلك، أي أدب هذا؟ وأي خلق هذا؟ لا. فلنرجع إلى آداب ديننا وأخلاقياتنا، فيها الخير كل الخير، لا ينبغي هذا ولا يجوز أبداً.
وقال صاحب الظلال رحمه الله عقب سوقه لحديث أن النبي قال: ((انتظروا حتى تمتشط الشعثة)) قال عقبه: إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حرص رسول الله وصحابته بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء المشرق بنور الله، إلى هذا الحد بلغ حرصهم، ولكن نحن اليوم مسلمون - والكلام له - ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت.
وإن الرجل يهجم على أخيه في بيته في أي لحظة من لحظات الليل والنهار فيطرقه ويطرقه ويطرقه، فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له.
وقد كان بإمكانه أن يستأذن متابعة لأمر الله في القرآن، ويمكن أن يكون في بيته هاتف مثلاً كان يمكنه أن يستأذن عن طريقه ليحدد له موعداً يزورهم فيه. ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان وعلى غير موعد، ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت، العرف الآن يقول: لا، لا، لا يصح هذا، أترده عن بيتك بعد أن جاءك، وربما كان قطع في ذلك ما قطع، هذا أمر الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها تستأذنوا ثلاثاً كما قال النبي.
ثم في الآية التي بعدها كما سنعلم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم هو أطهر وأفضل ليس في ذلك شيء، لكنه العرف يرفض أن يرد عن البيت، وبعد ذلك يفتح له مهما كان في ذلك من كراهة أهل البيت تلك الزيارة المفاجئة بلا إخطار ولا إنذار، هكذا.
ثم يقول أيضاً: ونحن اليوم نطرق إخواننا في أي لحظة، في موعد الطعام مثلاً، وإذا لم يقدم لنا الطعام وجدنا من ذلك في أنفسنا شيئاً، ونطرقهم في الليل المتأخر، وإن لم يدعونا إلى المبيت وجدنا في ذلك من أنفسنا شيئاً دون أن نعذرهم في هذا أو ذاك.
ثم يقول: ونرى غيرنا ممن لا يعتنقون الإسلام يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا في هذه الأمور: أمور الزيارات، فنعجب بها أحياناً ونتندر بها أحياناً ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل فنفيء إليه مطمئنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
لأجل الأعذار والحاجات والأشغال التي يمكن أن يكون عليها الناس في بيوتهم راعى الإسلام هذه الظروف كلها وترك تقديرها لأهل البيوت، وأدب كل امرئ بهذا الأدب الرفيع حتى لا يباغت أهل البيوت كما كانوا يفعلون في الجاهلية كما قاله مقاتل بن حيان: كان الرجل يلقي صاحبه فلا يسلم عليه، ولكن يقول له: حييت صباحاً أو حييت مساءً، وكانت هذه تحيتهم ثم ينطلق إلى بيته فيدخل ثم يقول: قد دخلت هكذا، وقد يكون الرجل مع أهله، لعله يكون على هذه الحال مثلاً فيشق ذلك على الرجل، فغيّر الله تبارك وتعالى ذلك كله في ستر وعفة وجعله نقياً نزيهاً من الدرن والقذر والدنس هكذا.
أما أن يفعل الناس ما يفعلونه اليوم محتجين بالأعراف الخاطئة السائدة فيطرقوا البيوت في أي وقت ويتصلون على البيوت بالهاتف في أي وقت في منتصف الليل مثلاً، فيقول الواحد منهم: ليس في عيني نوم فقلت: أدردش معك، هكذا تدردش معي توقظني أو تسألني أو ما إلى ذلك في أوقات كان ينبغي أن يكون المسلمون متهجدين بين يدي الله تبارك وتعالى، ليس في عينك نوم، قم إلى صلاتك وصل واغتنم هذا الوقت الذي جعله الله تعالى أشد وطئاً وأقوم قيلاً كما قال في سورة المزمل، وقت عظيم فيه قرب من الله تبارك وتعالى على نحو لا يظفر به المسلم في وقت آخر، لأجل هذا وذاك غيّر الله تبارك وتعالى هذه الأخلاقيات الجاهلية وقيدها بهذه الآداب العالية الرفيعة.
ثم قال بعد ذلك في الآية الثامنة والعشرين: فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها إذا استأذنتم فلم تسمعوا رداً ولم تجدوا أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم هو أطهر وأفضل لكم، ولهذا قال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية استأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع فأرجع وأنا مغتبط. يعني قوله: حاولت عمري كله إذا استأذنت على بعض إخواني أن يقول لي منهم قائل مرة: ارجع حتى أختبر نفسي: هل أذعن في أمر الله تبارك وتعالى وأرجع وأنا مغتبط أم أجد من ذلك في نفسي حرجاً، والله بما تعملون عليم، أي والله عليم بظاهركم وخافيتكم وسركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم قال: ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم أي ليس عليكم حرج ولا إثم ولا ذنب أن تدخلوا البيوت التي ليس فيها أحد من غير إذن كالفنادق والبيوت المعدة للضيافة، فإن العلة من الاستئذان منتفية لأن الموظفين والقائمين على الأمر يستقبلون الداخل عند مدخل هذه الأماكن المعدة ويكونون دائماً مستعدين للاستقبال، فهذه البيوت فيها مصلحة لكم وفيها شيء يعود على أنفسكم بما تحبونه من الراحة، ليس عليكم إثم ولا ذنب ولا جناح أن تدخلوا بغير استئذان مادامت هذه البيوت منفصلة عن السكن، أما أن تدخلوا أماكن فيها سكن وفيها أهل بيت دون استئذان، فلا.
ثم قال الله تبارك وتعالى: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون أي اطلاعه تبارك وتعالى على القلوب ضامن لطاعتها وامتثالها لأمر الله تبارك وتعالى ولأدبه الذي أدب به النفوس فيما جاء به كتابه الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل المتكامل في كل اتجاه، فلندع تلك الأعراف والتقاليد التي تنافي ما أدبنا الله تبارك وتعالى، وأمرنا أن نتخلق به من آداب وأخلاق، في ذلك خير وسعادة في الدنيا والآخرة.
(1/1584)
التوبة والإنابة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الإنابة. 2- الجنة جزاء أهل الخشية والإنابة. 3- شروط التوبة النصوح. 4- من
الشرك اتخاذ الوسطاء مع الله تعالى. 5- من الشرك اتخاذ الوسطاء مع الله تعالى. 6- شروط
الولاية الحقيقية لله. 7- حال الناس بين غفلة وعجب وغرور ونفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله تبارك وتعالى أمر بالإنابة إليه بعد أن بيّن أنه يتوب على من تاب فقال في سورة الزمر عز من قائل: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولو بلغت ما بلغت، فإن العبد إذا تاب إلى الله تبارك وتعالى وأخلص وصدق في توبته تاب الله عليه، والله يأمر بعد النزول في مقام التوبة بالإنابة إليه فيقول في هذه الآية: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له.
فما هي الإنابة التي أمر الله تبارك وتعالى بها؟ هي الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه، وهي تتضمن المحبة والخشية، فإن المنيب محب لمن أناب إليه خاضع له خاشع ذليل، وقد أخبر الله تبارك وتعالى أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال في سورة ق: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود.
وأثنى على خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال عنه في سورة هود: إن إبراهيم لحليم أواه منيب وقال حاكياً عن شعيب عليه السلام في نفس السورة: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقال الله تبارك وتعالى في سورة الرعد: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب وقال في سورة الزمر ذاكراً أن البشرى إنما هي لأهل الإنابة فقال: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد وذكر أن التبصرة والاعتبار بالآيات المبثوثة في الكون إنما تكون لأهل الإنابة فقال في سورة ق: أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب.
لكن الرجوع ينبغي أن يكون رجوع الإصلاح، فمن تاب إلى الله تبارك وتعالى فلابد أن يتبع التوبة بعمل الصالحات، قال الله تبارك وتعالى في سورة الفرقان: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً وقال في سورة البقرة وفي سورة النساء: إلا الذين تابوا وأصلحوا.
لابد أن يتبع التوبة بعمل الصالحات، وهذا الرجوع الذي ينبغي أن يكون رجوع إصلاح، لا يتم إلا بثلاثة أشياء، بالخروج من التبعات، وبالتوجع للعثرات، وباستدراك الفائتات.
فبالخروج من التبعات يتم أول شرط من شروط رجوع الإصلاح، فعلى العبد التائب أن يخرج من التبعات بأداء ما افترضه الله عليه، وما قصر فيه لابد أن يصلح فيه ويستدركه، وكذلك عليه أن يؤدي ما للعباد عنده من حقوق، لابد أن يخرج من التبعات ويتخلص.
ثم عليه أن يتوجع للعثرات، إذا ذكر ذنباً أحدثه في سابق عهد فعليه أن يتوجع وأن يستشعر الألم في قلبه، كيف مرت عليه لحظة عصى فيها الله تبارك وتعالى الذي يسمع ويبصر ولا يغيب العبد عن سمعه وبصره، فكيف استحل لنفسه أن يقع تحت سمع وبصر الله تبارك وتعالى في حال معصية وذنب.
أما إذا وجد العبد في نفسه لذة لهذا الذنب فإن ذلك دليل على فساد قلبه أو موته، العبد الذي إذا ذكر الذنب الذي أحدثه في سابق عهده ثم وجد في نفسه إحساساً باللذة لهذا الذنب وكلم الآخرين عنه مستحضراً تلك الأيام فقال: إيه أيام كانت. وتحدث عنها بأسلوب الوله الذي يتمنى لو باشر هذه اللذة مرة أخرى، لا ينفعه هذا الرجوع.
لابد أن يتوجع للعثرات التي عثر بها، ولابد أيضاً إن كان رقيق القلب وتحققت له الإنابة أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن، كأنه هو الذي عثر بها، فيدعو له ولا يشمت به، ثم بعد ذلك عليه أن يستدرك الفائتات بأن يؤدي مثل الطاعة التي تركها أيام المعصية أو يؤدي ما هو خير منها من الطاعات والإنابة.
والإنابة أيها الأخوة الكرام إنابتان: إنابة لربوبية الله تبارك وتعالى، وإنابة لألوهيته.
فأما الإنابة التي هي لربوبيته فيشترك فيها الناس جميعاً، المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كلهم ينيبون إلى الله تبارك وتعالى، خاصة إذا تعرضوا للمهلكات، عندها لا يعرفون إلا التوجه إلى الله تبارك وتعالى لتخليصهم مما أحاط بهم قال الله تبارك وتعالى في سورة يونس: هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين كل الناس يفعل هذا عند مباشرة المهلكات، ولكن من الناس من إذا صرف الله عنه الضر عاد كأن لم يدعو الله إلى ضر مسه كما قال الله في سورة يونس نفسها: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مرّ كأن لم يدعنا إلى ضُر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون.
ولكن المشركين في سابق العهد كانوا لا يعرفون إلا الله عند المهلكات والمصائب، وأما مشركو زماننا لا يعرفون إلا شركاءهم في السراء والضراء، فشركهم مركب معقد، تجدهم في السراء يدعون الموتى وأصحاب الأضرحة الذين لم يعودوا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم في الضراء.
بينما كان المشركون في سابق العهد لا يسألون إلا الله عند هذه المصائب والمهلكات، فعند الترمذي بسند حسن وعند غيره عن عمران بن حصين أن رسول الله قال لأبي: ((يا حصين كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال أبي: سبعة: ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك. قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي)).
وترك عمران الستة الذين في الأرض وأخلص العبادة لله تبارك وتعالى، لكن عمران قبل أن يسلم اعترف أن الذي يدعوه من بين هذه الآلهة عند الضر وعند المصائب هو الذي في السماء.
أما مشركو زماننا فليسوا كذلك، وإذا سئلوا في ذلك قالوا: إن الملوك من البشر لا يتوسل إلى نيل مكرماتهم إلا عن طريق أعوانهم، لا يمكن أن يدخل عليهم قبل الاستئذان، والدخول يكون عن طريق الأعوان، هذا قياس فاسد الاعتبار، لأنه يخالف النصوص التي أكدت أن الله تبارك وتعالى ليس له من خلقه وزير يتوسل به إليه أو معين يستعان به على توصيل الحاجة إليه تبارك وتعالى، يدعى الموتى وأصحاب الأضرحة وما شاكل ذلك من الآلهة التي يتوسل به ويتضرع إليها، وإن زعم الذين يدعونها أنهم لا يعتبرونها آلهة، يعتبرونها وسائط فقط بينهم وبين الله قال الله تبارك وتعالى في سورة النحل: والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين ، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً بن عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
ثم الإنابة لألوهيته تبارك وتعالى، هذه إنابة أولياء الله، وعندما يقال: أولياء الله لا يقصد بذلك الأولياء المزعومون الموتى، وإنما يقصد بالأولياء الذين قال الله عنهم: الذين آمنوا وكانوا يتقون فكل مسلم ينبغي أن يعرف أن عليه أن يكون ولياً لله تبارك وتعالى، وإن لم يكن ولياً لله فهو ولي للشيطان.
وقد قصر بعض الناس الولاية على الموتى وأصحاب الأضرحة واستثنوا أنفسهم من ذلك وهذا خطأ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
فالإنابة للألوهية إنابة الأولياء ولا تتحق إلا بأربعة أمور:
1- بمحبة الله. 2- الخضوع له. 3- الإقبال عليه. 4- والإعراض عن سواه.
فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، واسم المنيب كما قال الله تعالى في سورة غافر: هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب هذا الاسم لا يستحقه إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع.
ونحن إذا نظرنا إلى حال الناس في الإنابة لألوهيته تبارك وتعالى، وهي العبودية والمحبة وجدنا صنفاً من الناس يقارن بين طاعة الله عز وجل وبين متعة أو لذة أو شهوة من شهوات الدنيا، فيجد أن العائد على نفسه من السعادة من خلال المتعة أو الشهوة أو اللذة الدنيوية أكبر مما يعود على نفسه من الطاعة بكل أسف شديد.
إذا عكف هؤلاء على لهو أو لعب ثم نادى المنادي مثلاً للصلاة: الله أكبر الله أكبر، من كل كبير، ومن كل عظيم، فبالضرورة لابد أن يكون أكبر مما تعكفون عليه، نظروا وقارنوا وفاضلوا، فوجدوا أنهم لو قاموا إلى هذه الصلاة لعاد عليهم من السعادة نصيب أقل بكثير جداً مما يعود عليهم إذا استمروا وظلوا عاكفين على هذا اللهو واللعب، نعم يعرضون تماماً عن هذا الذي يؤذن ويدعو الناس لإجابة ربهم تبارك وتعالى، يعرضون عن إجابة المؤذن ويستنكفون، حتى ولو قالوا: سنصلي ولكن بعد الانتهاء من هذه اللعبة أو بعد مشاهدة هذه المباراة أو هذا الفيلم أو ما إلى ذلك، نحن لسنا تاركين للصلاة، سنصلي ولكن بعد أن ننتهي من مباشرة ومشاهدة هذه المتعة، عرضوا على أنفسهم الأمرين فوجدوا طاعة الله لا تحقق لهم من السعادة ما تحققه المتع واللذات والشهوات الدنيوية، وهؤلاء لابد أن يبحثوا عن قلوبهم، فإنه لا قلوب لهم.
وفي مقابل هذا الصنف نجد صنفاً آخر من الناس أعمالهم كثيرة وطاعتهم كثيرة، ولكن أثر الأعمال والطاعات لا يصل إلى قلوبهم، لأن بينهم وبين قلوبهم أسوار وحواجز وموانع، وبينهم وبين الله تبارك وتعالى قطاع طرق تجسدت في الكبر والعجب ورؤية العمل الذي يعملونه ونسيان منّة الله عليهم وأنه هو الذي تفضل عليهم فهداهم ووفقهم في الوقت الذي خذل فيه غيرهم، هؤلاء لا يصل أثر أعمالهم إلى قلوبهم، لا يجدون في أنفسهم محبة ولا خشية ولا رجاء ولا إقبالاً على الله ولا نوراً يفرقون به بين الحق والباطل، وبين أولياء الله وأعداء الله، لماذا؟ لأن بينهم وبين الله: الكبر والعجب وما إلى ذلك من الأمور التي قال فيها النبي في الحديث الثابت: ((لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أشد منه: العجب)).
وهذا الحديث قد استشهد به ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو ثابت، واستشهد به صاحب الترغيب والترهيب ((لو لم تذنبوا)) لو أمنت عليكم الذنوب ((لخفت عليكم ما هو أشد من الذنب: العجب)) أن يعجب المرء بعمله وأن يشهد فضلاً لنفسه، وأن يستشعر بأنه أفضل من غيره وأنه بقوته وإرادته أصبح طائعاً ويُدِل بعمله على الله عز وجل ويشعر بالتيه وبالفخر ولا يأمن على نفسه أن يستلب إيمانه من هذا الأمن ومن جرائه، ويقول عبد الله بن أبي مليكة (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف على نفسه النفاق، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل).
خشية من الله تبارك وتعالى أورثها العلم، العلم أورثهم الخشية من الله تبارك وتعالى، والخشية أورثتهم الحذر مما عند الله تبارك وتعالى من العقوبة للمتكبر المعجب، ولقد روى الإمام أحمد أن رجلاً قال لعبد الله بن مسعود : إنني لا أرضي يوم القيامة أن أكون من أصحاب اليمين، أنا أريد أن أكون من السابقين، من المقربين، فتكلم ابن مسعود عن نفسه وقال: (لكنّ هناك رجلاًً يود لو أنه إذا مات لا يبعث) يعني بذلك نفسه خشية من الله تبارك وتعالى ومن ذاك اليوم المهيب الرهيب العظيم.
انظروا رحمكم الله وتدبروا وتأملوا ماذا يقول ابن مسعود يقول للرجل: أنت تستقل أن تكون يوم القيامة من أصحاب اليمين، إن هناك رجلاً يود لو أنه إذا مات لا يبعث، فإنه لا يدري أيكون يوم القيامة من الناجين أم يكون من الذين أحبطت أعمالهم؟ ما ظنكم بابن مسعود؟ ما ظنكم به وبصحابة رسول الله جميعاً وخاصة من شهد لهم النبي ؟
ابن مسعود وما أدراك ما ابن مسعود؟ صحابي جليل قال عنه النبي : ((من أحب أن يقرأ القرآن كما أنزل غضاً طرياً فليقرأه بقراءة ابن أم عبد)).
عبد الله بن مسعود الذي قال عنه النبي فيما أخرجه البيهقي لما توجهوا لفتح مكة وصعد ابن مسعود الشجرة ليأتي منها بثمر الكباس وهو معروف عند أهل البادية، كان الذين يجمعون يأكلون وهم فوق لشجرة، وابن مسعود يجمع ويخبئ، حتى إذا نزل أعطى رسول الله ، ولما صعد الشجرة كشفت ساقاه فضحك بعض الصحابة من دقة ساقي ابن مسعود، فقال لهم النبي : ((أتضحكون من دقة ساقي ابن مسعود، والذي نفس محمد بيده إنهما في الميزان لأثقل من جبل أحد)) ابن مسعود حسبه هذه الشهادة وغيرها من شهادات رسول الله له، يقول: لكن هناك رجلاً يود لو أنه إذا مات لا يبعث يعني بذلك نفسه.
لم العجب والكبر والتيه وشهود الفضل والمنة، والموفق هو الله تبارك وتعالى، خسر من شهد بنفسه فضلاً وشهد للآخرين تقصيراً وبعداً ولم يرجو لهم رحمة ورجى لهم النقمة اليوم قبل الغد، حري به أن يغير رأيه وأن ينظر إليهم نظرة المشفق يرجو لهم الرحمة ويخاف عليهم النقمة كما يخافها على نفسه ويرجو الرحمة لنفسه ويسأل ربه التثبيت على ما هداه إليه وأن يحسن له الخاتمة، فمن يدري، أما ملأ إبليس الأرض عبادة لربه قبل أن يؤمر بالسجود لآدم ملأ كل موضع من مواضع الأرض عبادة وسجوداً لله تبارك وتعالى، ولكنه لما امتحن وسئل سجدة واحدة رفض فحاق به ما حاق، وآل إلى ما آل من خسران.
فعلى العبد بعد ذلك أن ينظر إلى ألطاف الله ويعلم أن كل ما هو به وما يرجوه وما تقدم له من لطف الله به منة منّ الله به عليه وصدقة تصدق الله بها عليه، ليس بسبب منه، إذ المحسن بالسبب والمسبب هو تبارك وتعالى، له الأمر من قبل ومن بعد، وهو الأول والآخر لا إله غيره ولا رب سواه.
(1/1585)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الوالدين على الأبناء ورعايتها له حال طفولته. 2- عظم حقهما يستوجب عظم شكرها
وبرهما. 3- النصوص تأكد على منزلة الوالدين. 4- بعض صور عقوق الوالدين. 5- البر
والعقوق للوالدين جزاؤها في الدنيا قبل الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن بر الوالدين فريضة عظيمة وعقوقهما حرام، والبر هو الصلة الحسنة والخير، وهو اسم جامع للخير.
وأما عقوق الوالدين فهو أذاهما ومعصيتهما والخروج عليهما، ولا ينكر فضل الوالدين إلا متوغل في النذالة، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ما قاموا به نحوهم من الطفولة إلى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالدَ مملوكاً فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) لو صح أن يجد الولد والده عبداً ومملوكاً فيشتريه فيعتقه لجزاه بما فعله معه وبما قام به نحوه من التربية والعناية والعطف والرعاية على أن الفضل دائماً للمتقدم بالفضل، للذي تقدم وبدأ، فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه على عباده نعم، لا تحصى كما قال سبحانه في سورة إبراهيم والنحل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الوِلاد والتربية الفالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكثر الخلق وأفضلهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم الوالدان اللذان جعلهما الله سبباً لوجوده واعتنيا به منذ أن كان حملاً إلى أن كبر، فأمه حملته شهوراً تسعة في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل، وإذا حان وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع، كان الأمر إذاً سهلاً، ولكن يكثر النصب ويشتد بعده كما قال تعالى في سورة الأحقاف: حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ثم ترضعه حولين كاملين غالباً فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، وفي أثناء ذلك صياح الليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما ويتعب قلبيهما ويذرف دموعهما، ومرض يصيب الولد من وقت لآخر ينخلع له قلبهما انخلاعا وتنهد به أبدانهما هداً، وتعهد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالغسل ولإفرازاته بالإزالة، ليس يوماً ولا يومين، ولا شهراً ولا شهرين، ولا سنة ولا سنتين، هما به في متاعب ليلاً ونهارً، ومشاق تصغر بجانبها متاعب المحكومين في الأعمال الشاقة، يضاف إلى ذلك امتصاص دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لم يكن منه إلا هدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها لكفى، ومن أجل ذلك قدم بر الأم على بر الأب، وكان لها من البر ثلاثة أمثال ما للأب لأنها تشقى بالحمل والوضع والرضاع، ومما يدل على تقدمها عليه في البر ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رجلاً جاء للنبي فقال يا رسول الله: ((من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)).
فإذا شب الولد وبرزت أسنانه وقويت معدته على قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له انفتح للوالدين باب فكر وكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شئونه، وربما احتمل الوالد ألم الغربة والسفر إلى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد، وكثيراً ما يضحي الوالدان في سبيل راحة الأبناء والبنات، وقد قال الشاعر:
أبى الله ألا تعبدوا غيره حتما فيا ويح شخص غير خالقه أمّاً ( [1] )
فهذا تهديد لمن قصد غير خالقه.
ببرهما فالأجر في ذاك والرحما
وكم منحا وقت احتياج من نعما
تواصل مما شقها البؤس والغم
مشقا يذيب الجلد واللحم والعظم
وأكبادها لهفاً بجمر الأسى فحما
حنوا وإشفاقاً وأكثرت الضم
وضقت بها زرعاً وذوقتها سما
مكباً على اللذات لا تسمع اللوم
تلين بها مما بها الصخرة الصما
لأنت ذو جهلٍ وأنت إذا أعمى
وأوصاكم بالوالدين فبالغوا
فكم بذلا من رأفة ولطافة
وأمك كم باتت بثقلك تشتكي
وفي الوضع كم قاست وعند ولادها
وكم سهرت وقتا عليك جفونها
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها
فضيعتها لما أسنّت جهالة
وبت قرير العين ريان ناعما
وأمك في جوع شديد وغربة
أهذا جزاها بعد طول عنائها
وفي القرآن الكريم آيات تدل على مكانة الوالدين أمر الله فيها بالإحسان إليهما، منها قوله تعالى في الآية السادسة والثلاثين من سورة النساء: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقوله تعالى في الآية الحادية والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام: قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقوله تعالى في الآيتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من سورة الإسراء: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً.
وقوله تعالى في الآية الثامنة من سورة العنكبوت: ووصينا الإنسان بوالديه حسناْ وقوله تعالى في الآية الرابعة عشر من سورة لقمان: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير وقوله تعالى في سورة الأحقاف في الآية الخامسة عشر منها: ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وقد فصل سبحانه وتعالى ما يجب من الإحسان للوالدين في الآيتين السابقتين من سورة الإسراء بقوله: إما يبلغن عندك الكبر إلى آخر الآيتين. والمعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إلى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن الفضل للمتقدم كما سبق.
ويتجلى ذلك بأن تتبع معهما أموراً خمسة أذكرها بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
( ( [1] أمّ يأم أي قصد يقصد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أول هذه الأمور الخمسة التي يجب عليك أن تتبعها مع الوالدين وفيها يتجلى إحسانك إليهما.
أولاً: ألا تتأفف من شيء تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جلا وعلا، واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ثانياً: أن لا تنغص ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما وتنهرهما به، وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، يمتنع تماماً أن تخالفهما بقولك رداً عليهما أو مكذباً لهما. يمتنع هذا تماماً ويمتنع عليك أن تنغص وتكدر عليهما بكلام تنهرهما وتزجرهما به.
ثالثاً: أن تقول لهما قولاً كريماً حسناً طيباً مقروناً بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة، كأن تقول: يا أبت ويا والدي أو يا أماه ويا والدتي، ولا تدعوهما بأسمائهما ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك، بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع.
رابعاً: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتهما بك وجميل شفقتهما عليك.
خامساً: أن تتواضع لهما وتتذلل وتطيعهما فيما أمراك به ما لم يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إلى ما يطلبانه وبذله وتشتاق وترتاح إلى ما يطلبانه منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما وعلى ضعفهما، فقد أكد جلا وعلا التوصية على الوالدين من وجوه كثيرة وكفاهما أن شفع الله الإحسان إليهما بالأمر بتوحيده، ونظمها في سلك واحد قضى بهما معاً.
وأما ما جاء في سنة رسول الله من الحث على بر الوالدين فهو كثيرٌ كثير، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) أي رغم أنف من أدرك والديه في سن الكبر فلم يفعل معهما ما يوجب دخوله الجنة بل عقهما وفعل معهما ما يوجب تعذيبه وما يوجب سخط الله تبارك وتعالى وغضبه عليه. رغم أنفه إلى غير ذلك من الأحاديث التي أكد فيها رسول الله ما أكده الله عز وجل في الآيات السابقة من كتابه تبارك وتعالى من التوصية ببر الوالدين.
وليس بر الوالدين مقصوراً عليهما في الحياة فقط بل يتعدى إلى ما بعد وفاتهما، ففي سنن أبي داود وفي صحيح ابن حبان عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذا جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما، يعني الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وصلة الرحم التي لا صلة لك إلا من قبلهما وإكرام صديقهما)).
ولذلك جاء عن ابن عمر أنه وهو في طريقه إلى مكة ومعه من بين من معه من التابعين عبد الله بن دينار، فلقي ابن عمر أعرابياً، فنزل عن حماره، وأركبه إياه، وأعطاه عمامته،فقال له ابن دينار: يا أبا عبد الرحمن يرحمك الله إن هذا من الأعراب، وهم يكفيهم القليل. فقال له ابن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، كان صديقاً له وصاحباً له وكانت بينهما مودة وإن رسول الله قال: ((من بر الولد لوالديه أن يبر أهل ودهما أو كما قال عليه الصلاة والسلام)).
فيا عباد الله أحسنوا إلى الوالدين ما أمكنكم الإحسان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام واحذروا سوء الأدب معهما وإلا هويتم في هوة شقاء ما لها من قرار، وكونوا معهما على أفضل ما يكون إجلالاً واحتراماً، وإن حصل منهما لكم ظلم فلا تبادلوهما بظلمهما، بل عليكم ببرهما مهما حصل منهما، إنما الذي يرخص لك يا عبد الله فيه ألا تطعهما إن أمراك بمعصية لله عز وجل، وما عدا ذلك فبرهما واجب لا يزول مهما حدث منهما، نعم، لأنهما هما اللذان لولا الله ثم إياهما لما خرجت إلى هذا الوجود، وهما اللذان سخرهما الله لك، فصبرا على ما لقيا من الأهوال، فالله الله في الوالدين وفي برهما، فمن كان الوالدان في حاجته اليوم منا، غداً يكون في حاجة أبنائه، وكما تدين تدان.
وقال الله في الآية الرابعة والأربعين من سورة الروم: من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا واغفر لنا ما مضى من ذنوبنا وارزقنا عملاً زاكياً ترضى به عنا وخذ إلى الخير نواصينا واختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ عنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وآمنا في أوطاننا ودورنا وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا وبلغنا بما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وصلِ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1586)
جزاء الإعراض عن ذكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الآيات القرآنية لإعراض الإنسان عن ربه حال السراء وتذكره في حال الضراء فقط.
2- جزاء المعرضين في الدنيا والآخرة. 3- جميع مشاكلنا سببها الإعراض عن الله وذكره.
4- كلمة في استقبال رمضان والتحذير من السفر للخارج تهاوناً بقيمة هذا الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن من أقبح طبائع الإنسان وأرذل صفاته إعراضه عن ربه وذكره وشكره بمجرد حصول النعمة له بعد الشدة والفرج بعد الكرب، والسعة بعد الضيق.
وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الصفة الذميمة: إعراض اللسان عن الله وعن ذكره وعن شكره في ثلاثة مواضع مبيناً إياها وتحدث عن الجزاء الذي ينتظر الذين هم عن ذكر ربهم معرضون في غير ما موضع أما الآيات التي تحدثت عن هذه الصفة في الإنسان فهي ثلاث أولها في الآية السابعة والستين من سورة الإسراء حيث يقول الله تبارك وتعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً يخير الله تبارك وتعالى أن من قبائح طباع الإنسان ورذيل صفاته أنه إذا مسته الشدة يجأر إلى الله تبارك وتعالى ويدعو ويطيل في الدعاء والمسألة، فإذا كشف الله تبارك وتعالى عنه ضره أعرض ونسى النعمة وجحدها وإذا مسكم الضر في البر ضل من تدعون إلا إياه عند معاينتكم الضر وعند معاينتكم الشدة ذهب عن قلوبكم كل من تتوجهون إليه وتظنون أنه ينفعكم ولا تعرفون في هذه الحالة إلا الله تبارك وتعالى وحده فتجأرون إليه وتدعونه أن يكشف ما حل بكم من ضر كما حدث لعكرمة بن أبي جهل فيما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما لما فر بعد فتح مكة هارباً وأراد أن يفر إلى الحبشة فركب سفينة لكن ريحاً عاصفاً فاجأت السفينة في عرض البحر وقال الذين هم على ظهر السفينة إنه لا ينجيكم إلا الإخلاص وأن تدعوا الله وحده لا شريك له فقال عكرمة: إن كان لا ينفع في البحر إلا هو، فلا ينفع في البر إلا هو وحده فلئن أنجاني الله مما أنا فيه لأذهبن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فلأجدنه رؤوفاً رحيماً وقد فعل وأسلم وأرضاه وحسن إسلامه وجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى أحسن الجهاد حتى ختم له بأحسن الخاتمة وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً أي ينسى النعم ويجحدها ومثال ذلك في القرآن كثير، في قوله تعالى في الآية الثانية عشر من سورة يونس: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه مر مروراً سريعاً، مر وتباعد عنا ونأى عنا كأن لم يدعونا يوماً إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعلمون.
كذلك زين للذين أسرفوا على أنفسهم في الباطل زين لهم عملهم ويقول الله تبارك وتعالى كذلك في حق هذه الصفة الذميمة من الإنسان ومن الناس من يعبد الله على حرف يعبد الله تبارك وتعالى على شرط يدعوه غير مثبت أقدامه ولا مرسخ إياها فإن أصابه خير اطمأن به إن جاءته الخيرات وأقبلت عليه النعم من كل مكان ثبت على ذلك وقال: هذا الدين دين خير ولا يأتي إلا بخير وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه وإن افتتن في دينه وامتحن اختبر وابتلى انقلب على وجهه عاد أدرجاه يجحد ويكفر وينسى فضل الله تبارك وتعالى عليه، حكم الله تبارك وتعالى عليه أنه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
ثم ننتقل إلى الآية الثانية من الآيات الثلاث التي تحدثت عن الإعراض في الآية الثالثة والثمانين من سورة الإسراء وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤساً وإذا أنعمنا على الإنسان، إذا أصابه ما يحب وما يريد وجاءه المال والعافية والفتح والرزق والنصر أعرض وتباعد ونأى بجانبه كما قال مجاهد: وإذا مسه الشر كان يؤساً وإذا مسه الضر والبلاء والشر قنط من رحمة الله تبارك وتعالى ولم يعد يظن أنه يحصل له بعد ذلك خير.
والآية الثالثة في سورة فصلت في الآية الحادية والخمسين تبين أنه إذا مسه الشر فهو ذو دعاء عريض بالرغم أنه لما أنعم الله تبارك وتعالى عليه أعرض عن طاعته وعبادته وذكره وشكره، الآن عند مس الضر والشر تجده ذو دعاء عريض أي يطيل في المسألة بكلام كثير قليل المعنى كثير اللفظ وعكسه الوحيد الذي هو ما قل ودل وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض يطيل في المسألة.
وأما جزاء الذين يعرضون عن ذكر ربهم تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة فذلك ما تعرضت له أكثر من آية في كتاب الله العزيز أولها في سورة طه في الآية الموفية للمائة حيث قال الله تبارك وتعالى بعد الآية التاسعة والتسعين الذي قال فيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد آتيناك من لدنا ذكراً أي قد آتيناك من عندنا ذكرا، قرءاناً، كتاباً لم يؤته أحد من الأنبياء قبلك من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً من أعرض عن هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً أي إثماً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً خالدين فيه أي لا محيد لهم عنه ولا محيص عن هذا الإثم وساء لهم يوم القيامة حملاً أي بئس الحمل حملهم يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً يوم يؤذن لإسرافيل الذي التقم الصور وحنى جبهته ينتظر أن يؤذن له بالنفخ فيه يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً أي زرق العيون يتخافتون بينهم هؤلاء المعرضون عن ذكر الله يتساررون فيما بينهم عند هذه الساعة وعند هذه اللحظة التي يشيب من هولها الوليد وتضع كل ذات حمل حملها يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً أي ما أقمتم في الدنيا إلا عشرة أيام مدة يسيرة وليلة نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقةً إلا لبثتم إلا يوماً الله يعلم بما يتساررون إذ يقول أحسنهم طريقة وأحسنهم كلاماً ما لبثتم إلا يوماً واحداً، إنما قالوا هذا لدرء الحجة عنهم، استقلوا الدنيا وعدوها قليلة ليدرءوا الحجة عن أنفسهم لكي يقولوا كانت المدة قصيرة فلم نستطع الفهم والتدبر، ويكذبهم الله تبارك وتعالى فيقول في الآية الخامسة والخمسين والتي بعدها من سورة الروم: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون يكذبون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ويقول في الآية السابعة والثلاثين من سورة فاطر عندما عاين المعرضون أمارات العذاب وأنه قد حاق بهم يقول لهم لما طلبوا الرجعة أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ويقول الله تبارك وتعالى في آيات أخر محدداً جزاء المعرضين، في الآية الرابعة والعشرين بعد المائة من سورة طه: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قبل هذه الآية بآية بين القرآن الكريم أن من أتبع ذكر الله تبارك وتعالى وأتبع الهدى لا يضل ولا يشقى كما قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير والحاكم وغيرهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل به في الدنيا ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه فإن له معيشة ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك، ولا يزال في ريبه يتردد ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى أعمى البصيرة أعمى عن الحجة أعمى البصر قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً لا أدري ما حجتي كنت بصيراً بحجتي في الدنيا كنت إذا جودلت عرفت أدافع عما أنا فيه من باطل، أين حجتي أين كلامي أين دفاعي قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها نسيتها والجزاء من جنس العمل وكذلك اليوم تُنسى تنس من رحمة الله تبارك وتعالى بسبب نسيانك للآيات وبسبب نسيانك للقاء هذا اليوم، قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف في الآية الحادية والخمسين فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ننساهم بسبب نسيانهم لهذا اليوم وبسب جحودهم للآيات.
وقال في الآية الرابعة والثلاثين من سورة الجاثية: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين هكذا هذا هو الجزاء، وهو من جنس العمل كما ترون، ويقول الله تبارك وتعالى في نهاية هذا الموضع في سورة طه في الآية السابعة والعشرين بعد المائة وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه هذا جزاؤنا لمن أسرف على نفسه وكذب بالآيات أن تكون معيشته في الدنيا ضنكا لا يهتدي ولا يرتاح، صدره ضيق حرج بالرغم من تقلبه في أعطاف النعيم ولا يدري ما سبب تعبه ولا حيرته لا يدري ما سبب ذلك، لأن الله تبارك وتعالى جزاه فقيض له شيطاناً لما تعاشى وتعامى وتغافل وتصامم عن ذكر الله قيض له شيطاناً يصده عن السبيل، والجزاء من جنس العمل قال في الآية السادسة والثلاثين من سورة الزخرف: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين من يتعامى عن ذكر الله تبارك وتعالى يهيأ له من الشياطين من يصده وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون تصدهم الشياطين عن السبيل وتصدهم عن الحق ويحسبون أنهم على هدى وعلى بصيرة حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين حتى إذا مثل بين أيدينا، حتى إذا جثى على ركبتيه ومثل أمامنا لفصل القضاء قال لقرينه: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين يا ليت ما بين وبينك كما بين المشرق والمغرب، إنما قال المشرقين تغليباً كما يقال: القمرين، ويراد القمر والشمس، والعمرين، ويراد أبو بكر وعمر يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين بئس القرين أنت وبئس الصاحب ويقول الله تبارك وتعالى خاتماً هذا الموضع في سورة الزخرف ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون لن ينفع الذي أعرض عن ذكر الله أن يرى قرينه معذباً معه، لن ينفعه ذلك ولن يغني عنه شيئاً.
أيها الأخوة الكرام: احرصوا على ما ينفعكم واحرصوا على ذكر الله تبارك وتعالى وشكره وإياكم والإعراض وأقبلوا على كتاب الله تبارك وتعالى ذكراً وفهماً وتدبراً تكونوا من الذين يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يوم القيامة من المؤمنين الذين يقال لهم: بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد.
فجلّ مشاكلنا ترجع إلى سبب واحد هو التباعد عن الله تعالى وعن ذكره وشكره كلما عرضت مشكلة وتأملت حق التأمل لم ير لها سبباً إلا الإعراض عن الله تبارك وتعالى وعن ذكره وشكره، كما قال الله في الآية الثلاثين من سورة الشورى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير لا يجازيكم بكل ما تفعلون، إنما يعفو الله تبارك وتعالى عن كثير، يُنظر في المشاكل فلا يُرى لها سبب إلا البعد والإعراض عن الله تبارك وتعالى وشكره وعبادته وطاعته، المشاكل التي غصت بها البيوت من طلاق وسباب وشتم وعدم قيام الأبناء نحو الآباء بالبر وما إلى ذلك من أمور غصت بها البيوت وجأر العباد منها إلى الله تبارك وتعالى وضجوا بها ضجيجاً وعجوا بها عجيجاً، لا يرى لها سبب إلا الإعراض عن الله تبارك وتعالى وعن ذكره وشكره، وهذا من المعيشة الضنك التي أخبر بها الله تبارك وتعالى، أفيحسب الناس أن الضنك فقط هو الفقر والحاجة والاحتياج ومد الأيدي بعد الغنى، أهذا هو الضنك؟ لا بل كما قلت ولا أطيل في إعادة الكلام مرة أخرى: إنما هو الصدر الضيق الحرج بسبب الضلال وإن تنعم الظاهر ورؤي على الإنسان ما يرى من الحلى ومن أسباب النعيم.
مشاكلنا كلها راجعة إلى هذا السبب فيا ليتنا نختصر الكلام والطريق ونبتغي لأنفسنا هذا الحل الذي هو ليس بمكلف ولا مجهد، عود حميد إلى الله تبارك وتعالى، واعتذار عما سلف ومضى وبدر منا، وعزم على عدم العودة إلى الذنوب، ولو كان ذلك كذلك لتحسنت الأحوال ولرأيت البسمة تعلو الشفاه وقد وافق القلب عليها قبل ما ترتسم على الوجه بخلاف من يتبسم وقلبه غاص بالأحزان والآلام والهموم.
نعم وهذا الشهر الفضيل الذي أوشك أن يظلنا بظلاله هو موسم من مواسم الخيرات شهر رمضان المبارك يفتح ذراعيه لكل من أراد أن يصل إلى الله تبارك وتعالى ويعود إليه، وبين طيات لياليه ليلة خير من ثلاث وثمانين سنة وثلث السنة، ليلة القدر.
لكننا نعلم ونسمع بمن يتركون هذه الأرض المطهرة، يتركونها في هذا الشهر الفضيل ويغادرونها إلى بلاد تعلن الكفر والإلحاد والمعاصي، وقد عرفنا من أقوال العلماء والسلف الصالح أن الأرض تهجر إذا كان يصنع فيها المنكر جهاراً، فهل تترك الأرض التي فيها بقعتان شريفتان طاهرتان يضاعف في كل منها الثواب بما لا تعرفه أرض سوى هذه الأرض، تترك إلى أرض قلَّ أن يوجد فيها المؤازر والمناصر، في بلد كثر واتره وقل ناصره، في بلد من هذه البلاد التي يسافر إليها، ويعرض بها عن أرض يجتمع فيها المسلمون حول أقدس البقاع وأطهرها يتوجهون إلى ربهم تبارك وتعالى طالبين أن يغفر لهم وأن يرحمهم وأن يعفو عنهم وأن يتقبل منهم وأن يثبتهم، هذا من الإعراض الذي يدخل تحت طائلة الإعراض الذي تكلمنا عنه، وإن فارقه وتباعد عنه في شيء من اللفظ وشيء من المعنى، لكنه يلتقي معه، وفيه من الإعراض الأول شبه كبير.
فيا أيها الأخوة الكرام: المسلمون هذه الأرض التي يتمنى كثير من المسلمين أن يروها وأن يتعبدوا فيها وأن يزوروا بقاعها المطهرة، وقد لا تتاح لهم هذه الفرصة وقد أُتيحت لكم ونولكم الله إياها سهلة يسيرة هينة لينة، أتفرطون فيها؟ لا تفرطوا في هذا الخير ولا تعرضوا عن ربكم ولا عن أرضه المطهرة المقدسة، واستقبلوا هذا الشهر المبارك الكريم أحسن استقبال عازمين على أداء الطاعات فيه والعبادات على أكمل الوجوه وأحسنها تسعدوا وتكونوا من الناجين الفائزين المفلحين.
(1/1587)
دعائم البيت المسلم 1
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور المسجد والبيت والمدرسة في عملية الإصلاح. 2- فساد نظرة الناس في مسألة الزواج
وآدابه. 3- حكمة الزواج وحث الإسلام عليه. 4- مبنى الشريعة الإسلامية على التيسير
والاقتصاد. 5- جواز استعمال الطيبات والاستمتاع بها. 6- صفات المرأة التي ينبغي أن
يخطبها المؤمن لنفسه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن للمسجد والبيت والمدرسة أثراً عظيماً في صلاح المجتمع الإسلامي واستقامة أفراده وانتشار الفضائل واختفاء الرذائل وحب فعل الخيرات وترك المنكرات، هذا إذا قام المسجد بدوره في الدعوة إلى الله وبيان الحق ونشر العلم النافع وتعريف الناس بحق الخالق عليهم وحق الخلق، وكذلك إذا قام البيت بدوره والمدرسة.
والكلام هنا أيها الأخوة الكرام على البيت بصفة خاصة، فإن كثيراً من بيوت المسلمين قد تخلفت عن دورها المنوط بها لما أقيمت على دعائم غير راسخة وأسس غير متينة، فدعائم البيت المسلم وأسسه زوجان صالحان تقيان يعرفان ما لله عليهما وما للناس، ويعرف كل منهما ما للآخر عليه، ويعرفان ما لأولادهما عليهما من الحقوق، ويعرفان كيف يربيانهم وينشآنهم ويغرسان فيهم حب الله وحب رسوله وحب الطاعات والإقبال عليها والتأدب بالآداب الإسلامية من حسن خلق وبر وصدق وتوقير للكبير ورحمة للصغير وإكرام للضيف وحياء وتواضع وغير ذلك من الآداب الإسلامية الكبيرة.
ونظراً لما دب في المسلمين من الضعف والهوان والذل في العصور الأخيرة فقد تغيرت نظرة كثير من أولياء الزوجين إلى ما ينبغي مراعاته في أمور الزواج وتغيرت نظرة الزوجين أنفسهما كذلك، فصار قاصرو النظر من المسلمين يقلدون ويحاكون في الزواج من يرونهم أهلاً للتقليد من وجهة نظرهم من غير المسلمين في الغرب والشرق على حد سواء، فلم يعد الزواج أصلاً يبادر إليه الشباب إذا بلغوا النكاح، فتراهم مؤثرين لما يزعمونه من الحرية، وهو التحلل في الحقيقة من كل قيد، هاربين من الزواج الذين يظنونه بل يصفونه بأنه رق وحبس.
وليس الزواج كذلك بل هو رابطة كريمة بين المسلم والمسلمة تحت راية من رضى الله تبارك وتعالى ومباركته على الزوجين. هكذا أصبحت النظرة إلى الزواج.
وساعد على احترام آراء غير المسلمين وعدم احترام هذه الرابطة الكريمة التي يرضاها الله تبارك وتعالى ما أصبح يشترط في الزواج من شروط لا دليل عليها من كتاب أو سنة كاشتراط المركز الاجتماعي والحسب والنسب، ولو تخلف الدين والخلق، وكاشتراط مهور باهظة مبالغ فيها وكاشتراط تزويج الكبرى قبل الصغرى وغير ذلك من الشروط السائدة في هذه الأيام التي أبعد بها أصحابها عن إرادة وجه الله والدار الآخرة.
ورحم الله الإمام الصنعاني إذ قال: وللناس في هذه المسألة عجائب لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع، ولا إله إلا الله كم حرمت المؤمنات النكاح لكبرياء الأولياء واستعظامهم لأنفسهم. ثم قال: اللهم إنا نبرأ إليك من شر ولده الهوى وسباه الكبرياء.
ومن هنا فإن على كل مسلم أن يرجع في أمور الزواج وغيرها إلى الكتاب والسنة، فتعالوا أيها الإخوة الكرام نتعرف على ما أرشد إليه الكتاب والسنة في أمور الزواج لنعرف ما السبب في تحول بيوت المسلمين عن دورها إلى مباءة فساد وتنشئة أجيال تعيث في الأرض فساداً ولا تطلِع بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها للتقدم بالإسلام والمسلمين نحو ما يحب الله تبارك وتعالى ويرضاه وأرشد إليه رسوله من نشر الحق في ربوع الأرض والقيام بأمر الله تبارك وتعالى.
لقد حث الإسلام أيها الأخوة الكرام على الزواج وكره تركه لمن يقدر عليه، حض عليه وكره تركه لمن يقدر عليه قال الله تعالى في سورة النساء: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وقال في سورة الروم جاعلاً الزواج آية من الآيات التي يتفكر فيها: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. والسكن هو الاطمئنان بالقلب والبدن.
وقال في سورة النحل ممتناً على عباده بنعمة الزواج والأولاد والرزق من الطيبات والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [متفق عليه].
((يا معشر الشباب)) المعشر جماعة يشملهم وصف ما، والشباب اسم لمن بلغ النكاح إلى أن يكمل الثلاثين على الصحيح، ووقع خطابه للشباب خاصة لأنهم مظنة الشهوة للنساء فأرشدهم أنه من كان منهم قادراً على الوطء مستطيعاً لمؤنة الزواج فليتزوج فإنه أغض للبصر أي أشد غضاً للبصر وأحصن للفرج أي أشد إحصاناً للفرج ومنعاً له من الوقوع في الفاحشة، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، ذلك لما فيه من الجوع ومنع مثيرات الشهوة ومستدعيات طغيانها، وشبه رسول الله الصوم بالوجاء، وهو الاختصاء كما وقع تفسيره مدرجاً عند ابن حبان، شبه الصوم بالوجاء لأن الصوم يضعف شهوة النكاح.
وعن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالوها أي عدوها قليلة، فقالوا: أين نحن من رسول الله ؟ قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر أي أنه قليل القدر في العبادة لأنه قد سبقت له المغفرة ولكنا لسنا كذلك، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا،ً وقال الآخر: فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: فأعتزل النساء فلا أتزوج.
فجاء رسول الله إليهم فقال: ((أنت قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
أرشد صلى الله عليه وآله وسلم أن المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الإنهاك والإضرار بالنفس وهجر المألوفات كلها، وأن هذه الملة المحمدية مبنية شريعتها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
قال الطبري: في الحديث الرد على من منع استعمال الحلال من الطيبات مأكلاً وملبساً، وأما قوله تعالى في سورة الأحقاف: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فالحق أن هذه الآية في الكفار كما قال القاضي عياض، وأول الآية يدل على ذلك قال الله تعالى: ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها.
وقد أخذ النبي بالأمرين فلم يترك استعمال الحلال من الطيبات ولم يسرف في ملازمتها، والأولى التوسط في الأمور وعدم الإفراط في ملازمة الطيبات، فإنه يؤدي إلى الترفه والبطر ولا يؤمن من الوقوع في الشبهات، فمن اعتاد ذلك فلا يجده أحياناً فلا يستطيع الصبر عنه فيقع في المحذور، كما أن من منع من تناول ذلك أحيانا قد يفضي به إلى التنطع وهو التكلف المؤدي إلى الخروج عن السنة، وخيار الأمور أوسطها.
وأراد بقوله: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) أي ليس من أهل طريقتي، ليس من أهل الحنيفية السهلة، فإن الأخذ بالتشديد في العبادات يؤدي إلى الملل القاطع لأصلها، والملازمة على الاقتصار على الفرائض مثلاً يفضي إلى عدم النشاط إلى العبادة ويفضي إلى البطالة، وخيار الأمور كما سبق أوسطها، بل الذي يتعين على المسلم أن يفطر ليقوي على الصيام، وينام ليقوي على القيام، وينكح النساء ليعف نظره وفرجه.
وقيل: إن أراد من خالف هديه وطريقته أن ما أتى به من العبادة أرجح مما كان عليه فالمعنى ليس مني أي: ليس من أهل ملتي.
إن اعتقاد ذلك يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله، وفي أحاديث النبي الكثير مما يحث على الزواج وكراهية تركه لمن يقدر عليه اكتفيت منها بهذا القدر، وأسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله فأولئك هم أولو الألباب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
أيها الأخوة: بيّن النبي الصفة التي لأجلها تنكح المرأة والتي لأجلها يقبل الرجل زوجاً فقال في صفة المرأة ما أخرجه الإمام أحمد وصححه ابن حبان عن أنس قال: كان رسول الله يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل، وينهانا عن التبتل نهيا شديداً ويقول: ((تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)).
والتبتل هو الانقطاع عن النساء وترك النكاح انقطاعاً إلى عبادة الله، هذا قد نهى النبي وقال فيما أخرجه الطبراني عن سعد بن أبي وقاص: ((لقد أبدلنا الله بالرهبانية الحنيفية السمحة)).
ثم الصفة التي قالها النبي للمرأة ورغب في الزواج منها هي المرأة الولود، معناها: كثيرة الولادة، ويعرف ذلك في الأبكار بحال قرابتها، والودود هي المحبوبة بكثرة ما هي عليه من خصال الخير وحسن الخلق والتحبب إلى زوجها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه مع بقية الجماعة].
هذا الحديث بيّن فيه النبي أن الذي يدعو الرجال إلى التزوج إحدى أربع: إما الحسب وإما الجمال وإما المال وآخرها عند الرجال ذات الدين.
فأمرهم أنهم إذا وجدوا ذات الدين ألا يعدلوا عنها، ولهذا قال لمن لم يظفر بذات الدين: تربت يداك أي التصقت بالتراب من الفقر.
وفي الحديث دليل على أن مصاحبة أهل الدين في كل شيء هي الأولى لأن مصاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبركتهم وطرائقهم، والزوجة هي أولى من يعتبر دينه لأنها ضجيعته وأم أولاده وأمينته على ماله وعلى منزله وعلى نفسه، فينبغي أن ينظر إلى دينها قبل النظر إلى ما سواه.
ثم إنه قد نهى عن نكاح المرأة لغير الدين فقال فيما رواه عنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأخرجه ابن ماجه وغيره: ((لا تنكحوا النساء لحسنهن فلعله يرديهن)) لعل الحسن يكون سبباً في الردى والسقوط والدلال ((ولا لمالهن فلعله يطغيهن)) لعل المال يكون سبباً في الطغيان ((وانكحوهن للدين، ولأَمَة سوداء خرقاء ذات دين أفضل)).
أما إذا انضم إلى الدين صفات أخرى مرضية، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ثم بين النبي كذلك الصفة التي يقبل الرجل لأجلها زوجاً فقال: فيما أخرجه الترمذي بسند حسن عن أبي حاتم المزني قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. قال ذلك ثلاث مرات)).
وعد أولياء الزوجات إذا ردوا من كان ذا دين وخلق أنهم سيتسببون في فتنة وفسادً كبير في الأرض، وهنا ينبغي أن يقال أن اعتبار الدين في الرجل أكثر أهمية من اعتباره في المرأة لأن الرجل يمكنه مفارقة الزوجة غير ذات الدين بالطلاق، ولكن الزوجة لا يمكنها مفارقة الزوج غير ذي الدين إلا بمشقة، فينبغي إذاً أن يتريث وأن يتأمل في الخاطب وأن يعتبر فيه الدين قبل كل شيء.
ولقد انصب نظر الكثيرين من الرجال عند التقدم للنساء إلى اشتراط المظهر الخارجي دون النظر إلى الجوهر والمخبر، ولهذا ما تلبث البيوت أن تقام حتى تهدم من جديد كأنها لم تكن بالأمس قائمة، والسبب في ذلك أن هذا المظهر الذي يعتني به أهل الخطاب ما يلبث أن يزول أثره وتبقى الحاجة إلى الرحمة والمودة والرعاية والأمانة وغير ذلك من الصفات التي لا يأتي بها ولا يؤدي إليها ولا يوجدها إلا الدين والالتزام بالدين.
هذا وسيأتي مزيد لبيان ذا في الخطب القادمة إن شاء الله وقدر.
(1/1588)
دعائم البيت المسلم 2
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النظر إلى المخطوبة. 2- خطبة المرء على خطبة أخيه المسلم. 3- نكاح الكتابية. 4-
حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي والعبر والآداب المستخلصة من الحديث. 5-
أحكام متعلقة بالمهر. 6- دعوة لتيسير أمور الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنا كنا قد بدأنا في الجمعة الماضية الكلام على ما ورد في الكتاب والسنة بشأن الزواج، ومر بنا كيف أن الإسلام حث على الزواج وكره تركه لمن يقدر عليه ومر بنا كذلك بيان رسول الله لصفة المرأة التي تنكح لأجلها، وأنه رغب في المرأة ذات الدين، فذكر أن الرجل يعرض عن هذه الصفة غالباً ويقدم عليها الصفات الثلاث: الحسب والجمال والمال، وأرشد إلى أنه ينبغي أن يقدم الدين على هذه الصفات ومر بنا بيانه لصفة الرجل التي يقبل لأجلها زوجهاً وأنه قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه)).
فبين أنه لابد من النظر في دين الرجل وخلقه، ولا ينبغي أن يقدم عليه ما سواه كما بين ذلك في أمر المرأة.
واليوم نستكمل بعض ما ينبغي علمه في أمور الزواج فنقول وبالله التوفيق: إذا تقدم الرجل إلى امرأة ليخطبها فلا ينبغي أن يحال بينه وبين النظر إليها، وقد شاع في بعض الناس كراهية ذلك ويحولون بين الرجل وبين النظر إلى مخطوبته فلا يراها إلا ليلة الزفاف، وكيف يكره الناس ما رضيه رسول الله وأرشد إليه بل أمر به، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) قال جابر فخطبت جارية - والجارية لا يراد بها الأمة إنما الأنثى حديثة العهد بالسن صغيرة السن - خطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها. [رواه الإمام أحمد وأبو داود ورجاله ثقات].
وللحديث شاهد عن المغيرة بن شعبة قال فيه رسول الله لرجل خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) أي إن النظر إليها يكون سبباً في دوام العشرة بينكما وفي ارتياحك إليها. رواه الترمذي والنسائي.
وله أيضاً شاهد عن محمد بن سلمة عند ابن ماجه وابن حبان.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال لرجل تزوج امرأة: ((هل نظرت إليها؟ قال: لا، قال: اذهب فانظر إليها)).
ودلت الأحاديث على أنه يندب تقديم النظر إلى من يريد نكاحها وهو قول جماهير العلماء.
والنظر أيها الإخوة الكرام على الصحيح من أقوال العلماء يكون إلى الوجه والكفين لأنه يستدل بالوجه على الجمال أو ضده، وبالكفين على خصوبة البدن أو عدمها، وقال بعض العلماء: يستحب للرجل أن ينظر إلى المرأة قبل الخطبة، إن كرهها تركها من غير إيذاء يعني ينظر إليها من غير أن تعلم بذلك، فلا يشترط علمها لما جاء في حديث جابر فإن الأمر يكون بخلافه بعد الخطبة إذا نظر إليها وتركها قد يؤذيها ذلك.
ومما قالوا: إن عز عليه النظر إليها قبل الخطبة استحب له أن يبعث إليها امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره بصفتها ثم يمكنه بعد ذلك أن يذهب لينظر إليها نظر الخاطب بعد أن تكون المرأة قد أعلمته بما فيها من الصفات التي يحب أن تكون في زوجته.
ثم بعد الكلام على النظر إلى المخطوبة يأتي الكلام على ما ينبغي مراعاته من عدم جواز تقدم الرجل على أخيه في الخطبة.
إذا خطب رجل امرأة فلا ينبغي لمسلم أن يتقدم عليه بعد أن يجيب أهل الزوجة وأولياؤها الخاطب الأول لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما والحديث متفق عليه واللفظ للبخاري قال رسول الله : ((لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له)) والمراد بالخطبة التي نهى المسلم أن يتقدم على أخيه فيها ما يتم بعدها ربط وإجابة بالقبول، فإذا لم يقبل وإذا لم يتلق رداً جاز أن يتقدم غير واحد كما جاء في حديث فاطمة بنت قيس الصحيح: أنه تقدم لها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم وأسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعاً وأنها استشارت رسول الله واختار لها أسامة.
وهذا ما لم يكن أهل الزوجة قد ردوا وأجابوا الخاطب الأول.
وأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تبارك وتعالى بأن من تقدم على خاطب أجيب وتلقى رداً بالقبول ثم عقد على هذه المرأة صح العقد على قول العلماء.
ولكن ينبغي أن يؤدب من أخل بحق الخاطب الأول بعقوبة تردعه وتردع أمثاله، لأن هذا على التحريم، يحرم على المسلم أن يتقدم على أخيه وأن ينازعه في حق له وأن ينافسه فيه إنما المؤمنون إخوة.
وأما الكافر فإذا تقدم إلى كتابية مع العلم أن الكتابية يجوز للمسلم أن يتزوجها، إذا تقدم الكافر لخطبة كتابية وأجيب وتلقى رداً فإنه يجوز للمسلم أن يتقدم عليه لأنه لا يدخل في لفظ أخيه: إنما المؤمنون أخوة وهذا ليس من المؤمنين.
وأما الفاسق فلا كفاءة، الكفاءة ينبغي مراعاتها في الدين، فإذا قبلت فلا كفاءة، ولهذا إذا وافق جميع الأولياء على هذا الفاسق إلا ولياً واحداً فيجوز لهذا الولي من أولياء الزوجة أن يرفض وأن يفسخ نكاح هذا الفاسق لما ينبغي مراعاته من الكفاءة في الدين.
ثم على الخاطب أن يقدم بين يديه إذا خطب المرأة تشهد الحاجة الذي علمه رسول الله لأصحابه كما روى الإمام أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: ((علمنا رسول الله التشهد في الحاجة: إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)) زاد ابن كثير في الإرشاد إلى النكاح ((ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله)).
ويقرأ ثلاث آيات: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً.
يستحب له أن يقدم بين يديه هذا التشهد للحاجة، وقد روى البيهقي هذا الحديث بإسناده إلى شعبة رحمه الله أنه قال: قلت لأبي إسحاق: هذا في خطبة النكاح وغيرها؟ قال: في كل حاجة.
ويؤكد سنية ذلك في النكاح وغيره، وهذا من السنن المهجورة، هذا من السن الذي هجرت ولم يعد الخطاب يستعملونها، ولم يعودوا يقدمون بها بين أيديهم إذا تقدموا إلى أولياء أمور الزوجة.
ثم هذا أيها الأخوة الكرام حديث كثير الفوائد، أقرأ نصه فقط الآن، وأذكر فوائده بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدر: فعن سهل بن سعد الساعدي قال: ((جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله ، فصعّد النظر فيها وصوبه ثم طأطأ رسول الله رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، قال: فهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال فاذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً، فذهب ثم رجع، فقال: لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئاً، فقال: اذهب فانظر ولو خاتماً من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري قال سهل بن سعد الراوي: مالَه رداء، إزار ليس له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله : ما تصنع بإزارك إن لبسَته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسْته لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله مولياً فأمر به فدعي به، فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا. عدَدَها.
قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن)) [متفق عليه واللفظ لمسلم].
وفي رواية قال له: ((انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن)) وفي رواية للإمام البخاري: ((أمكناكها بما معك من القرآن)) وفي رواية لأبي داود عن أبي هريرة قال له : ((ماذا تحفظ؟ قال: سورة البقرة والتي تليها. قال: قم فعلمها عشرين آية)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن نبينا وإمامنا وقدوتنا ورسولنا محمد عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
في هذا الحديث جواز النظر إلى من يريد نكاحها كما تقدم فإن رسول الله صعد فيها النظر وصوبه،
وفيه من الفوائد أيها الأخوة الكرام:
الفائدة الأولى جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.
والفائدة الثانية للإمام الولاية على المرأة التي لا قريب لها إذا أذنت، وأنه يعقد للمرأة من غير سؤال عن وليها هل هو موجود أم لا.
الفائدة الثالثة: لا تثبت الهبة إلا بالقبول فإنها لما وهبت نفسها ولم يقبل رسول الله ما ثبتت الهبة.
الفائدة الرابعة: لابد من الصداق في النكاح ويصح أن يكون شيئاً يسيراً لقوله ولو بخاتم من حديد، فيصلح بكل ما تراضى عليه الزوجان أو من إليه ولاية العقد بما فيه منفعة، وضابطه أن كل ما يصلح أن يكون قيمة وثمناً لشيء صح أن يكون مهراً.
الفائدة الخامسة: ينبغي ذكر الصداق في النكاح لأنه أقطع للنزاع وأنفع للمرأة، ولو عقد بغير ذكر الصداق صح العقد ووجب لها مهر المثل بالدخول، إذا لم يذكر صداقاً صح العقد ووجب للمرأة بعد الدخول مهر مثلها من النساء، ويستحب تعجيل المهر.
وهنا أقول يظن بعض الناس عندما يشترطون على الرجل عاجلاً من المهر وآجلاً أن العاجل هو المهر وأن الآجل عقاب رادع لكل من سولت له نفسه أن يطلق امرأته، وهذا شائع، ويغالون في تعين هذا القدر المؤجل ويبالغون مبالغة شديدة لكي لا يفكر أبداً مهما أساءت إليه امرأته أن يطلق، وهي نفسها تذكره كلما ضاقت نفسه أن يتخلص منها إذا كانت سيئة الخلق وغير ذات دين تذكره وتقول له: إذا أردت أن تطلق فعليك أن تتذكر أن عليك كذا وكذا من الأموال التي اشترطوها عليه. وهذا كلام غير صحيح بل الذي يتعين على كل زوج إن رضى بعاجل وآجل من المهر أن يعلم أن عليه أن يؤدي لزوجته هذا الآجل لا كما يظنون أنه لا يدفع إلا عند الطلاق.
إن اتفقا أن يكون العاجل ثلاثين ألفاً مثلاً والآجل عشرين ألفا فينبغي أن يعلم أن عليه أن يؤدي هذه العشرين متى استطاع.
ومما قال العلماء: يستحب تعجيل المهر يعني لو أراد خاطب أن يدفع المهر كله لأولياء الزوجة فليسوا لهم أن يمنعوا ذلك، وليس لهم أن يقولوا لا بل عاجل وآجل، لأن هذا يدل على أنهم عند نفس الظن بأن الآجل عقاب رادع لمن أراد أن يطلق، من أحب أن يعجل المهر فليسمح له بذلك، وينبغي أن تختفي هذه العادة، أي مال يساوي أن تعود المرأة بعد حين إلى بيت أبويها كأنها لم تكن بالأمس متزوجة.
وتبدأ المشاكل مشاكل الإنفاق عليها والأولاد إن كانت قد رجعت بأولاد وما ليس بخاف من المشاكل الكثيرة التي غصت بها بيوت المسلمين في هذه الأيام.
الفائدة السادسة: يجوز الحلف وإن لم يكن عليه يمين لأن الرجل كان يحلف لرسول الله من غير أن يستحلفه رسول الله ولم ينكر عليه ذلك، ويجوز أيضاً الحلف على ما يظنه لأن رسوله قال: ((اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً)) فدل هذا على أن الرجل حلف على ما يظن ولو كانت لا تكون إلا على العلم لما كان أمر رسول الله له بالذهاب إلى أهله.
الفائدة السابعة: لا يجوز للرجل أن يُخرج من ملكه ما لا بد له منه كالذي يستر عورته أو ما يسد خلته من الطعام والشراب، لأن رسول الله علل منعه عن قسمه ثوبه بأنها إذا لبسته لم يكن عليه منه شيء، فلا ينبغي أن يُخرج الرجل من ملكه ما لا بد له منه إلا أن يفرض عليه ذلك فرضاً، لأن هذا الرجل لو أراد أن يفيء لها بما اشترطه على نفسه وقسم الإزار بينهما وأعطاها النصف وبقي له النصف لما عاد النصف صالحاً لستر عورته فلا ينبغي.
الفائدة الثامنة: اختبار مدعى الإعسار فإن رسول الله لم يصدقه في أول دعواه الإعسار حتى ظهر له قرائن صدقه، وفيه دليل على أنه لا يسمع دليل مدعي الإعسار حتى تظهر قرائن إعساره، يعني الذي يقول: أنا في عسر، أنا في ضنك، أنا في فقر، أنا في ضيق، لا ينبغي أن يصدق حتى تظهر قرائن إعساره وقرائن فقره وضنكه، فإن النبي لم يوافقه عندما قال: لا أجد شيئاً. قال: ((اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا))ً.
ومما ينبغي التحري في أمور الذين يتكففون الناس ويسألونهم كثيراً ويعتادون هذه المسألة فينبغي أن ينظر في أمورهم كي لا يكون عطاؤهم من باب الإعانة على البطالة وعلى استجلاب الأموال من غير تعب ولا جد ولا معاناة فيها، وهذه فائدة كما ترون مستنبطة من هذا الحديث العظيم وهي جلية وواضحة.
التاسعة: لا تجب الخطبة للعقد، فلو تم العقد من غير خطبة، من غير أن يتقدم الرجل ويقول: أخطب إليك ابنتك مثلاً، واتفقوا على أن يعقد مباشرة صح ذلك، لأن الخطبة لم ترد في شيء من طرق هذا الحديث، حديث سهل بن سعد.
ويجوز أن يكون الصداق منفعة كالتعليم لأن صداق هذه المرأة على الرجل أن يعلمها ما معه من القرآن، فيجوز أن يكون الصداق منفعة كالتعليم، ويدل عليه قصة موسى مع شعيب إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج.
الفائدة العشرة: قوله : ((ملكتكها وزوجتكها وأمكناكها)) ، هذه الروايات في حديث واحد دلت على أنه لا يشترط صيغة معينة للعقد، فإذا عقد بلفظ يفيد معنى النكاح صح النكاح، خاصة إذا قُرن به الصداق أو قصد به النكاح.
وأختم هذا الحديث أن أقول: ينبغي علينا جميعاً أن نعلم بأن من يسر الزواج فقد عسّر الزنا، ومن عسر الزواج فقد يسر الزنا، فمن يسر على المسلمين الزواج فقد أغلق الأبواب دون ارتكاب هذه الفاحشة ذات الأثر السيء على المسلمين، حيث تنذرهم ببطش الله وانتقامه وعقابه.
فمن يسر الزواج فقد غلق الأبواب على هذه الفاحشة المنكرة التي يكفينا من نكارتها أنها قرنت بالشرك في سورة النور حيث قال الله تبارك وتعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك الزاني لا تمكنه من الزنا إلا زانية أو مشركة، لا تمكنه من ذلك إلا من كانت فيها هذه الصفات الذميمة، وكذلك بالنسبة للزانية لا ينكحها إلا زان فيه هذه الخصال.
فمن عسر الزواج فقد فتح أبواب الزنا على مصراعيها لمن لا طاقة له بهذه الشروط يستسهل من خلالها تصريف غريزته التي أودعت فيه.
ومما قال النووي رحمه الله في الحديث المتفق عليه عن أنس بن مالك قال النبي : ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) قال النووي رحمه الله تبارك وتعالى قوله : ((يسروا)) مقترن بقوله: ((ولا تعسروا)) ، لأنه لو قال: يسروا فقط ولم يعطف عليها بقوله: ((ولا تعسروا)) لفهم المخاطبون أن من يسر مرة واحدة فقد نفذ أمر رسول الله ، فأضاف ((ولا تعسروا)) ليفيد منع التعسير مطلقاً، وأن على المسلم أن ييسر دائماً، وهذا من بلاغة كلام رسول الله ، لو قال يسروا واكتفى، لقال كل أحد: يسرت مرة، وتقال هذه الكلمات كثيرة: لقد أعطيت مرة، لقد تصدقت مرة، لقد فعلت مرة، لا تطالبوني بالمزيد، فقد فعلت هذا مرة سابقة وهنا لو قيل: يسروا فقط لكان الناس فيهم غلظة وشدة، ولاحتجوا أنهم قد يسروا مرة من المرات في حياتهم، ولسوف يكونون معسرين بعد ذلك ولا حجة عليهم.
لكن قوله ((ولا تعسروا)) منع منعاً باتاً.
وأقول أيضاً: من رمي بسهم مسموم من سهام إبليس فأصيب بداء العشق المحرم بسبب النظرة فإنه يوصف له الدواء الآتي: عليه أن يبادر إلى الزواج لأنه كما قال رسول الله ((أغض للبصر وأحصن للفرج)) وهذا لمن ليس بمتزوج.
وأما المتزوج فإن أصيب بنفس الداء فليعمل بما قاله رسول الله قال: ((فليأتي أهله فإن معها مثل الذي معها)).
ثم عليه أيضاً أن يحافظ على الصلوات الخمس، من أصيب بهذا الداء، داء العشق المحرم، عليه أن يبادر إلى الزواج، وإن كان متزوجاً عليه أن يأتي أهله عليه، كذلك أن يحافظ على الصلوات الخمس، فبالمحافظة عليها خير كثير خاصة إذا كانت في جماعة.
ثالثاً: عليه أن يكثر من التضرع وقت السحر بالدعاءين الصحيحين الواردين عن رسول الله : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ، ((اللهم مصرف القلوب صرّف قلبي إلى طاعتك)) عليه أن يكثر من هذا الدعاء ليصرف الله قلبه إلى طاعته، وليفرغ قلبه من محبة ما سوى الله إلا ما كان لله تبارك وتعالى كمحبة الزوجة لله والأهل لله والأخوة لله، نحبهم لأن الله أمرنا بمحبتهم والرفق بهم ونحبهم لأن بهم خصالاً يحبها الله تبارك وتعالى.
أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا جميعاً من يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
(1/1589)
دعائم البيت المسلم 4
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, قضايا الأسرة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صيغة تهنئة الزوجين على النكاح في الجاهلية والإسلام. 2- استحباب الوليمة في النكاح
وآدابها. 3- ماذا يصنع من دعي إلى أكثر من دعوة في وقت واحد. 4- ماذا يصنع من دعي
إلى وليمة وبها منكرات. 5- النهي عن التزين بالوشم والنمص. 6- آداب الجماع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه لم يبق لنا في الإرشاد إلى هدي النبي في أمور الزواج إلا لقاءان، هذا أحدهما:
نستكمل ما قد مضى من الكلام على ما ينبغي مراعاته في أمور الزواج، فنقول وبالله التوفيق يستحب أن يدعى لمن تزوج بما كان النبي يدعو به، فعن أبي هريرة أن النبي كان إذا رفأ إنساناً إذا تزوج، أي كان إذا دعى للمتزوج بالالتئام وجمع الشمل قال: ((بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)) [رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي].
وعن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة من بني جشم فقالوا: بالرفاء والبنين، وهذا ما كان يقال في الجاهلية فقال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله : ((اللهم بارك لهم وبارك عليهم)) [رواه النسائي وابن ماجه وأحمد بمعناه].
وفي رواية له: ((لا تقولوا ذلك فإن النبي قد نهانا عن ذلك قولوا: بارك الله لها فيك وبارك لك فيها)) وإنما كره ما كان يقال في الجاهلية، لأنه ليس فيه حمد ولا ثناء على الله ولا ذكر له تبارك وتعالى، وخص البنين دون البنات فكرهه لذلك، واستبدل بهذا الدعاء الجامع الذي فيه خير كثير ((بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير)).
وأما عن الوليمة واستحبابها فلقد كان النبي يولم وأكثر ما يولم به النبي شاة وأولم بما دون ذلك، فليس لأكثر ما يولم به الزوج حد ولا لأقله كذلك، كما سيأتي عن القاضي عياض وقال النبي لعبد الرحمن بن عوف كما أخرجه البخاري وغيره: ((أولم ولو بشاة)).
وعن أنس قال: ما أولم النبي على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة.
وأما ما دون الشاة أيضاً فقد أولم به النبي كما رواه أنس في قصة زواج صفية رضي الله عنها وأخرجه الإمام أحمد ومسلم أن النبي : ((جعل وليمتها التمر والأقط أي اللبن المجفف والسمن)).
ولهذا قال القاضي عياض رحمه الله: أجمعوا على أنه لا حدّّ لأكثر ما يولم به، وأما أقله فكذلك، وبما تيسر أجزأ.
والمستحب أنها على قدر حال الزوج، ويجب على من دُعي أن يجيب خاصة إذا لم يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، وإذا لم تكن عند الداعي مناكر وما يتأذى به كما سيأتي في الشروط.
يجب الإجابة على من دعي إذا لم يكن له عذر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((شر الطعام طعام الوليمة تدعى لها الأغنياء وتترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) [متفق عليه]. طعام الوليمة الذي يكون شراً الذي يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء.
ففي رواية أخرى لمسلم قال رسول الله : ((شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) يدعى إليها من يأباها قد لا تكون له رغبة في حضورها ويمنع منها من إذا دعي أجاب.
وأما إن كان المدعو صائماً ففي حاله ما رواه أبو هريرة أيضاً، عن النبي وأخرجه أحمد ومسلم وأبو داود قال: ((إذا دُعي أحدكم فإن كان صائماً فليصل)) أي فليدع لصاحب الدعوة وإن كان مفطراً فليطعم.
وشرط وجوب إجابة الدعوة ما يلي:
أن يكون الداعي مكلفاً حراً رشيداً وأن لا يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، وأن لا يظهر قصد التودد لشخص لرغبة فيه أو رهبة منه، وأن يكون الداعي مسلماً- على الأصح- وأن يختص باليوم الأول، فقد تكون الوليمة أياماً، فعلى المشهور إن دُعي في اليوم الأول منها وجب عليه أن يجيب وإن دُعي في الأيام التالية لم يتوجب عليه الإجابة.
وإن سبق داعٍ غيرَه وجبت إجابته دون الثاني لما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجلٍ من أصحاب النبي أن النبي قال: ((إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما باباً فإن أقربهما باباً أقربهما دياراً، فإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق)) إذا دعاك اثنان أجب أقربهما باباً فله حق الجوار، وإذا سبق أحدهما فأجب الذي سبق ولو كان المسبوق جاراً والسابق غير جارٍ.
فإن استويا في القرب والبعد قال العلماء أقرع بينهما. وهذا الحديث أحد رجاله وهو أبو خالد بن زيد بن عبد الرحمن المعروف بالدالاني، وفيه مقال، ويشهد له ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت سألت النبي : ((إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال: إلى أقربهما منكِ باباً)) ويشهد للحديث الأول وينبغي أن لا يكون عند الداعي من يتأذى من حضوره من منكر أو غيره من الشروط.
ولا ينبغي أن يلام المدعو في ذلك أو أن يقال له: سبقتنا بهذه المناكر لما تزوجت قبلنا وتنكر علينا، لا ينبغي أن يخاف اللوم، فمن هداه الله تعالى وبصره بالحق لا ينبغي أن يعير، وإن فُعل وعير بما كان يفعله سابقاً فلا عليه، لا عليه مطلقاً، وليس عليه أن يلتفت إلى ما يقال عنه إن كان هناك ما يتأذى بحضوره من منكر وغيره ليس له أن يحضر.
فإن قدر على إزالة المنكر وجب أن يحضر فلعله أن يكون مهاباً محترماً موقراً يزال المنكر لأجله، فإن ساعد على تغير المنكر فليحضر، وإن لم يتغير المنكر فليرجع، وأما إن فُعل المنكر بحضرته بعد حضوره فليخرج إلا إن خشي على نفسه من ضرر محقق.
ومن الشروط كذلك أن لا يكون له عذر، فإن كان معذوراً بسفر أو مرضٍ أو نحو ذلك فله أن يتخلف، وليس عليه حرج أن يتخلف.
ثم كان من هدي النبي إذا زفت المرأة إلى زوجها كما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه ابن ماجه وأبو داود بمعناه أن النبي قال: ((إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادماً أو دابة فليأخذ بناصيتها، وليقل: اللهم إني أسألك من خير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)).
وهذا دعاء جامع لأن الإنسان إذا لقي الخير من زوجته أو خادمه ودابته وجنب الشر من تلك الأمور كان من ذلك جلب النفع واندفاع الضر، وعلى المرأة أن تتجنب أن تتزين بأي من الأمور التي نهى عنها النبي في ليلة زفافها وفي غيرها، فعن أسماء رضي الله عنها قالت أتت النبي امرأة فقالت يا رسول الله إن لي ابنة عريساً يعني عروساً تصغير، وإنه أصابها حصبة فتمرق شعرها أي فسقط شعرها أفأصله؟ أي: أفاصل الشعر بشعر أجنبي، شعر إنسان آخر فقال رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) [متفق عليه].
وقد لعن النبي النامصة والمتنمصة وهي التي تزيل الشعر من وجهها ويستثنى منه ما إذا نبت لها لحية أو شارب، هذا يزال طبعا، وأما ما عدا ذلك فإن النبي لعن النامصة والمتنمصة، وهي التي تزيل الشعر من وجهها، ولعن الواشرة والمستوشرة وهي التي تشر أسنانها حتى تكون حادة صغيرة، وهي المتفلجة التي تجعل فرجاً بين الأسنان تتشبه بالفتاة الصغيرة لتبدو في أعين الناس صغيرة حسناء، هذه لعنها أيضاً النبي ، ولعن كذلك القاشرة والمقشورة وهي التي تزيل الطبقة العليا من جلد الوجه لتبدو الطبقة التي تحتها، ولعن الواشمة والمستوشمة وهي التي تدق الوشم في يدها أو معصمها أو غير ذلك، هذا كله يسير تجنبه، وفيما أباحه الشرع كفاية وسعة، فللمرأة أن تتزين بالحناء والخضاب والذهب والحرير وغير ذلك، أسأل الله العلي العظيم أن يأخذ بناصيتنا للحق أخذاً جميلاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء، وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وثمة أيها الأخوة الكرام أمور قد يستحى من ذكرها لكن قد قالت عائشة رضي الله عنها كما أخرجه البخاري: ((نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)).
وقال مجاهد – رحمه الله – تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة: ((لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر)). الذي يستحي أن يسأل لا يتعلم، والمستكبر لا يتعلم، ولولا أن الكثيرين أصبحوا يصدرون في أعمالهم التي تتعلق بالزواج عن مشكاة غير مشكاة النبوة، لولا أن الكثيرين أصبحوا يقلدون غير النبي ويسترشدون بغيره في هذه الأمور لما نبهت على هذه الأمور لما فيها من خروج عن بعض الحياء، لكن مشكاة النبوة فيها مصباح يستمد ضوؤه من أصلين عظيمين هما: القرآن والسنة.
فأرشد النبي الرجل إذا باشر أهله أن يقول هذا الذكر، ففيه خير كثير وعظيم، وربما حرمنا هذا الخير لما أصبحنا نجهل هذا الذكر وأصبحنا لا نكرره ولا يرد على الألسنة إلا القليلين ممن رحم الله تبارك وتعالى، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر في ذلك ولد لن يضر ذلك الولد الشيطان أبداً)) [رواه الجماعة إلا النسائي].
ولا يحل للزوجين أن يتجردا ولا يحل لهم التعري الكامل، ينبغي أن يستترا ولا يحل لهما بل يحرم عليهما تماماً أن يتحدث أي منهما عن حال الوقاع، هذا حرام فقد أخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) ولم يتوقف الأمر على نشر السر فحسب بل قد سمعتم، ولا يخفى على الكثيرين منكم أن الأمر قد ازداد سوءً إذا أصبح بعض الأزواج يسجلون ويصورون ما أمر الله بستره وما يستحي منه وما ينبغي أن يستعف عنه.
فالعفاف العفاف أيها المسلمون، والحياء الحياء أيها المسلمون استروا عن الناس ما أمركم الله بستره، الحياء رحمكم الله، والعفاف رحمكم الله.
ومما حذر منه النبي كذلك ما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأبو داود أن النبي قال: ((ملعون من أتى امرأة في دبرها)) وفي لفظ لابن ماجه: ((لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها)) وللحديث شواهد كثيرة تنهض للاحتجاج به فالزموا هذا العفاف وهذا الحياء وهذه التعاليم.
واعلموا أن الزواج مسؤولية عظيمة، ليس قضاء وطر فحسب، بل ينبغي على كل زوجين أن ينويا بزواجهما إقامة بيت مسلم يعرف كل منهما فيه ما لله من حق وما للآخر عليه من حقوق وما للناس عليهما من حقوق، وينبغي عليهما أن ينويا أن ينشآ ما يرزقهما الله تبارك وتعالى بهما من البنين والبنات تنشأة إسلامية سليمة، يعرف الأولاد بها أن لهم رباً يُخاف ويرجى ويعرفون أن لهم ديناً تلتزم تعاليمه منذ نعومة أظفارهم، وأن لهم نبياً يُحب أشد من حب المال والوالد والولد، وأن لهم إخواناً في الدين ينبغي الإحسان إليهم والرفق بهم ومواساتهم وسد خلاتهم وحاجاتهم.
(1/1590)
قدر الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمثلة الدنيا كما جاءت في القرآن الكريم. 2- مثال الدنيا كما جاء في سورة الكهف.
3- أمثلة الدنيا في السنة. 4- أنواع الناس في نظرتهم للدنيا. 5- من ترك شيئاً لله عوضه الله
خيراً منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى ضرب للدنيا مثلاً كرره في أربعة مواضع من كتابه العزيز: في الآية الرابعة والعشرين من سورة يونس، وفي الآية الخامسة والأربعين من سورة الكهف، والآية الحادية والعشرين من سورة الزمر، والآية العشرين من سورة الحديد، كلها تحكي معنىً واحداً تدور حوله وتشتمل عليه، تمثل الدنيا بمثال لا يكاد يتغير في الآيات.
وأختار من هذه المواضع الموضع الذي في سورة الكهف لأتكلم عليه في خطبة اليوم مُتبعاً إياه بمثال من الأمثلة التي ضربها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم أختم ذلك بالمثال الثامن عشر من الأمثلة التي ذكرها ابن القيم – رحمه الله – كذلك للدنيا في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين".
يقول الله تبارك وتعالى في سورة الكهف: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً.
يقول الله تعالى لنبيه أصلاً ولمن قام بوراثته من بعده تبعاً، أي لمن تعلم العلم الذي جاء به يقول تعالى: واضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينهما وبين الدار الباقية ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار، وإن مثل هذه الحياة الدنيا كمثل المطر الذي ينزل على الأرض فيختلط بنباتها وتنبت من كل زوج بهيج، فبينما زخرفها وزهرتها تسر الناظرين وتفرح المتفرجين وتأخذ بعيون المتفرجين إذ أصبحت هشيماً تذروه الرياح فذهب ذلك النبات الناضر والزهر الزاهر والمنظر البهي فأصبحت الأرض غبراء تراباً قد انحرف عنها النظر وصدف عنها البصر وأوحش القلب.
كذلك هذه الدنيا بينما صاحبها قد أعجب بشبابه وفاق فيها على أترابه وأقرانه وحصّل درهمها ودينارها واقتطف من لذته أزهارها وخاض في الشهوات جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره وذهبت لذته وحبوره واستوحش قلبه من الآلام وفارقه شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح أو سيء أعماله، هنالك يعض الظالم على يديه حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العودة إلى الدنيا لا ليستكمل الشهوات بل ليستدرك ما وقع منه من الغفلات بالتوبة والأعمال الصالحات.
وهيهات هيهات، فالعاقل الحازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحالة ويقول لنفسه: قدّري أنك قد مُتِّ ولابد أن تموتي، فأي الحالتين تختارين، الاغترار بالزخرف في هذه الدار والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل لدار أكلها دائم وظلها ظليل، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه وخسرانه.
وأما المثال النبوي الكريم الذي اخترته من بين الأمثلة الكثيرة التي جاءت بها السنة المطهرة للدنيا فهو المقال الذي جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم – رحمه الله تعالى – في صحيحه. عن المستورد بن شداد عن النبي قال: ((والله ما الدنيا في الأخرى إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ – أي البحر – فلينظر بم يرجع)).
فتأمل وانظر إلى المقال العظيم كيف شبّه الآخرة بماء البحر الكثير الهائل العظيم. وشبه الدنيا بقطرة من مائه، والعاقل لا يعدل عن الماء الكثير الهائل العظيم إلى قطرة حسبها أن تعلق بالإصبع.
فهذا قدر الدنيا في الآخرة، هي بالنسبة للآخرة كقطرة من بحر عظيم هائل.
وأما المقال الذي ذكره ابن القيم – رحمه الله تعلى – في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين".
فإنه المقال الثامن عشر من بين الأمثلة الاثنين والعشرين التي ذكرها في هذا الكتاب الجليل، وقال عن هذا المقال: إنه من أحسن هذه الأمثلة – أي الأمثلة التي ذكرت – سواءً المعدودة منها أو التي لم تعد.
قال رحمه الله تعالى ممثلاً للدنيا والآخرة: ملكٌ بنى داراً لم ير الراؤون مثلها، ولم يسمع السامعون أوسع ولا أجمع لكل ملاذّ النفوس منها. ونصب لها طريقاً – أي نصب لهذه الدار العظيمة الجميلة البهية طريقاً – وبعث داعياً يدعو الناس إليها، هذا طبعاً مثل الآخرة، والداعي هو كل رسول يرسله الله تبارك وتعالى إلى أمته ليدعوهم إلى هذه الدار العظيمة، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة (هذا مثال الدنيا) وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُينت بكل أنواع الزينة وألبست أنواع الحلي والحلل، وممر الناس كلهم عليها. وجعل لها أعواناً وخدماً تحت يديها، وبيدي أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق.
فقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك ولم يشتغل بك عنّي وابتغى منكِ زاداً يوصله إليّ فاخدميه وزوّديه ولا تعيقيه عن سفره إليّ، بل أعينيه بكل ما يبلّغه في سفره، ومن مدّ إليك عينيه ورضي بك وآثرك عليّ وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب. وأذليه غاية الهوان واستخدميه، واجعليه يركض خلفك ركض الوحش، وما يأكل منكِ فاخدعيه بك قليلاً ثم استرديه منه واسلبيه منه كله، وسلّطي عليه أعوانك وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله إهانةً وهجراً حتى تتقطع نفسه عليك حسرات.
ثم قال رحمه الله بعد سوق هذا المثال: فتأمل هذا المقال وحال خُطّاب الدنيا وخُطّاب الآخرة الله المستعان.
فأقول بعد هذه الأمثلة المضروبة في الدنيا: الناس على أقسام:
- فمنهم من يعيش فيها يكسب ويمشي في مناكب الأرض ويبتغي من رزق الله ليقوم بحق بدنه دونما التفات إلى حق روحه.
- ومنهم من يسعى ويكسب لمجرد الكسب وإن كان يقوم بطاعة الله من غير تركيز ومن غير إمعان ومن غير تأمل ونظر، لكنه يعتني بالكسب والتزود منه لا لأنه لا يكفيه، لا بل يكون عنده ما يكفيه وزيادة ولكنه لا يقنع بما عنده. فهو في سعي وكسب دائمين حتى وإن حصّل ما يكفيه إلى يوم القيامة.إنه لا يقنع بما عنده.
- ومنهم من يكسب لينافس غيره في الدنيا، يريد العلو فيها والمفاخرة لأهلها ومباهاتهم فقط غير ناظر إلى ما أوجب الله عليه في هذه المال، وغير قائم بما أوجب الله عليه من طاعته سبحانه.
وخير هذه الأقسام: من يسعى ويكسب ويمشي في هذه الأرض ويأكل من رزق الله مستعيناً بذلك على طاعة الله عز وجل، نائياً بنفسه عن الأسباب التي توبقه في العذاب والشقاء والنكال، جاعلاً ذلك كله بلاغاً إلى الآخرة وإلى دار النعيم، دار البقاء والخلود والفوز.
وهذا هو خير الأقسام لأنه يعرف أن الناس في الآخرة على حالين: فريق في الجنة وفريق في السعير. كما قال تعالى في سورة الشورى، وكما قال السحرة لفرعون في سورة طه: إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فالأمر كما استمعتم في الخطبة الأولى وكما قال السحرة لفرعون: إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى هذا قسم من قسمي الناس في الآخرة: ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى. وذلك هو القسم الثاني قسم الخير قسم المنعمين، فإنه من كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً وعمل صالحاً ولم يشرك بعبادة ربه أحداً فإن الله تعالى يشكر سعيه ويثيبه عليه.
ولما كان الله تبارك وتعالى شكوراً حليماً فإنه يشكر عبده إذا أحسن طاعته ويغفر له إذا تاب عليه ويجمع له سبحانه بين شكره لإحسانه ومغفرته لإساءته إنه غفور شكور.
وهو سبحانه يؤتي العبد ويوفقه لما يشكره عليه، وهو سبحانه يشكر القليل من العمل والعطاء فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة ويشكر عبده بقوله بأن يثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى، ويلقي له القبول والشكر بين عباده ويشكر بفعله أيضاً. فإذا ترك العبد شيئاً لله تبارك وتعالى أعطاه أفضل منه وإذا بذل له شيئاً ردّه عليه أضعافاً مضاعفة مع أنه سبحانه هو الذي يوفقه للترك والبذل ويشكره على هذا وذاك.
وهاكم بعض الأمثلة التي تدل على أن من ترك لله شيئاً عوّضه الله خيراً منه وأعطاه أفضل منه.
- لما عقر سليمان النبي عليه السلام الخيل غضباً لله إذ شغلته عن ذكره فأراد أن لا تشغله مرةً أخرى أعاضه عنها متن الريح، لما عقر هو عليه السلام الخيل لربه إذ شغلته عن ذكر الله عوضه الله عنها متن الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب.
- ولما احتمل يوسف الصديق عليه السلام ضيق السجن شكر الله له ذلك بأن مكن له في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
- ولما بذل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أعراضهم في الله تعالى فنالوا منهم وسبوهم أعاضهم سبحانه من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته وجعل لهم أطيب الثناء في سماواته وبين خلقه، فأخلصهم بخالصةٍ ذكرى الدار.ومعنى أخلصهم بخالصةٍ ذكرى الدار: أي جعل ذكر الدار في قلوبهم والعمل لها صفوة وقتهم. والإخلاص والمراقبة لله وصفهم الدائم، وجعلهم ذكرى الدار، يتذكر بأحوالهم المتذكر، ويعتبر بأحوالهم المعتبر، ويذكرون أحسن الذكر فأخلصهم بخالصةٍ ذكرى الدار.
- ولما ترك الصحابة رضوان الله عليهم ديارهم وخرجوا منها في مرضاة الله سبحانه أعاضهم عن ذلك بأن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم.
- ولما بذل الشهداء أبدانهم لله حتى مزّقها أعداؤه شكر لهم ذلك بأن أعاضهم عنها طيراً خضراً، أقر أرواحهم فيها ترِد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث، فإذا كان يوم البعث رد عليهم أبدانهم خير ما تكون وأجمله وأبهاه فسبحانه، سبحانه.
هو المحسن بإعطاء الإحسان، وهو المحسن بإعطاء الشكر، يشكر عبده على إحسانه إلى نفسه، العبد يحسن إلى نفسه فيشكر له إحسانه ذلك، بينما المخلوق يشكر من أحسن إليه.
فمن أولى وأجدر وأحق بالعمل: زخرف الدنيا وزهرتها وزينتها أم الله العظيم الحليم الرؤوف الشكور؟
من أولى بالعمل؟ ما أظننا إلا حتماً قائلين: الله أولى وأجدر وأحق وأعلى وأجل.
(1/1591)
قسوة القلب
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم قسوة القلب في القرآن. 2- مفسدات القلب. 3- محبة الله والسعي لرضائه سبب في
سعادته. 4- الخلطة مع الخلق سبب لقسوة القلوب وفسادها. 5- أثر خلطة الفجار والكفار على
القلب ثم على المخالط في الآخرة. 6- خلطة الصالحين ومجالستهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فلما كنا قد تكلمنا في الجمعة الماضية عن الإعراض عن ذكر الله وعن الجزاء المترتب عليه كان لزاماً أن نتكلم عن أهم أسباب الإعراض، وهو قسوة القلب التي تحدث القرآن الكريم عنها في سبعة مواضع، في موضعين من سورة البقرة في الآية الرابعة والسبعين، وموضع في سورة المائدة في الآية الثالثة عشرة، وموضع رابع في سورة الأنعام في الآية الثالثة والأربعين، والخامس في سورة الحج في الآية الثالثة والخمسين، والسادس في سورة الزمر في الآية الثانية والعشرين، والسابع في سورة الحديد في الآية الخامسة عشرة.
وفي الموضع السادس من هذه المواضع توعد الله القاسية قلوبهم فقال: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالة مبين.
ولا تقسو القلوب حتى تجتمع عليها مفسدات خمس، مفسدات القلب إذا اجتمعت على القلب قسى، وهي: كثرة الخلطة، التمني، التعلق بغير الله، والشبع، وكثرة المنام.
الإفراط في مخالطة الناس خاصة الذين تكون مجالسهم على غير طاعة الله وذكره، التمني وهو طول الأمل والرغبة في البقاء في هذه الدنيا واتخاذها وطناً، التعلق بغير الله تبارك وتعالى، كثرة الشبع والإفراط في الأكل، كثرة النوم.
هذه مفسدات القلب فنذكر آثارها التي اشتركت فيها وما تميز به كل واحد منها.
ونبدأ بالحديث عن أولها، عن كثرة الخلطة.
واعلم أن القلب يسير إلى الله عز وجل والدار الآخرة ويكشف عن طريق الحق ونهجه، وآفات النفس والعمل السيء قطاع الطريق القلب، يقطعون يسير إلى الله وإلى الدار الآخرة ويكشف عن طريق الحق وعن آفات النفس وعن قطاع الطريق الموصلة إلى الحق وإلى رضى الله عز وجل، بماذا يكشف القلب وبماذا يسير؟
بنوره وحياته وقوته وصحته وعزمه وسلامة سمعه وبصره وغيبة الشواغل والقواطع عنه، وهذه المفسدات الخمس تطفئ نور القلب وتغمض عين بصيرته وتثقل سمعه إن لم تصمه وتبكمه وتضعف قواه كلها وتوهن صحته وتفتر عزيمته وتوقف همته وتنكسه إلى ورائه، أرأيتم إلى هذه المذكورات الناشئة عن مفسدات القلب ومن لا شعور له بهذا، فميت القلب من لم يشعر بهذا الأثر من مفسدات القلب على قلبه، فميت القلب وما لجرح بميت إيلام، فهي عائقة له عن نيل كماله، هذه المفسدات تعوق المسلم عن نيل كماله، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، خلق لعبادة الله وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه، فإنه لا نعيم له ولا لذة ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته والطمأنينة بذكره والفرح والابتهاج بقربه والشوق إلى لقائه، فهذه هي جنته العاجلة، هذه هي جنة القلب العاجلة، أن يعرف الله ويحبه ويطمئن بذكره ويفرح ويبتهج بقربه ويشتاق إلى لقائه، هذه هي جنته العاجلة كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة، فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إذا لم يدخل الأولى، لا يدخل الجنة الثانية في جوار الله إن لم يدخل الجنة الأولى التي يدخلها كما قلت بمعرفة الله ومحبته إلى غير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال بعض السلف: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثلها ألا إنهم لفي عيش طيب.
انظروا إلى هذا الصالح حين استشعر أثر معرفة الله ومحبته على قلبه وأحس بذلك واطمئن قلبه بذكر الله يقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، إن كانوا يشعرون في قلوبهم ما أشعر من حب الله والاطمئنان بذكره إنهم لفي عيش طيب.
وقال بعضهم أيضاً: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وكل من له قلب حي يشهد هذا ويعرفه ذوقاً.
وهذه المفسدات الخمس قاطعة عن هذا، حائلة بين القلب وبينه، عائقة له عن سيره، ومحدثة له أمراضاً وعللاً، إن لم يتداركها المريض خيف عليه منها، وهذا ما حدث.
تركنا قلوبنا للمفسدات تعمل فيها حتى وقع ما وقع، ويحار الإنسان إذا وقف خطيباً بين الناس ماذا يقول وماذا يدع؟ ماذا يقول ليستيقظ الناس ويفيقوا من غفلتهم؟ ماذا يقول لتتخلص قلوبهم من قسوتها؟ ماذا يقول لتفيض بالدمع أعينهم؟ ماذا يقول؟
إن القرآن الكريم يمدح المؤمنين بصفات تمكنوا منها فصارت لهم سجية، قال في الآية الثالثة والثمانين من سورة المائدة: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ويقول في الآية الثانية والثمانين من سورة التوبة: فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون وروى البخاري ومسلم عن أنس عن النبي قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) أي لو تعلمون ما أعلم مما عند الله من النعيم، ولو تعلمون ما أعلم مما عند الله من العذاب والنكال والجحيم لبكيتم كثيراً، فغطى القوم وجوههم ولهم خنين، أي ولهم بكاء.
يا لقسوة قلوبنا، يا لجمود أعيننا، يا لسهونا ولغونا ولهونا وإعراضنا عن ذكر ربنا. ما هذا تركنا قلوبنا للمفسدات تعمل فيها، وقد كانت من صفات المؤمنين الخشوع والدقة ومعرفة الله ومحبته والإقبال عليه. قال الله في مثل أحوالنا في الآية التاسعة والخمسين والستين من سورة النجم: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون.
فأما ما تؤثره كثرة الخلطة فامتلاء القلب بدخان أنفاس بني آدم حتى يسْوَد القلب مما يدور في مجالس الناس من الغيبة واللهو واللغو والإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، ولذلك قال نعيم بن حماد: كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش بكثرة جلوسك في بيتك؟ فقال: وكيف أستوحش وأنا مع النبي والصحابة؟ نعم، كان رجلاً من أعظم رجالات الحديث، إذا جلس في بيته وأكثر الجلوس فإنه مع النبي في قوله ، مع الصحابة في رواياتهم عنه، فلماذا يستوحش؟ وهل يستوحش إلا من لم يكن له حظ من القرب إلى الله والإقبال عليه؟ هل يستوحش إلا من كان كل همه الدنيا والإقبال عليها والنيل منها؟ وقال شقيق البلخى: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أنا أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ولا يفهم من هذه الآثار التي أسوقها الآن الدعوة إلى الاعتزال وإلى عدم المخالطة، لا بل يخالط الناس ويصبر على أذاهم، ولكن بقيود سأبينها، ولكن لا نرضى أن يفرط ذلك الإفراط فلا يكون لنا نصيب من تخل وجلوس مع أنفسنا محاسبين وذاكرين لله عز وجل، ومنقين ومصفين ومتداركين للقلوب.
هذا ما تؤثره الخلطة: امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود ويوجب لو تشتتاً وتفرقاً وهماً وغماً وضعفاً وحملاً لما يعجز عنه، حمله من مؤونة قرناء السوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأموره وتشتت فكره في أودية مطالبهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة إذا أفرط في مخالطة القلب واشتغل بهم؟ ماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟ هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة؟ وكم أنزلت من محنة وعطلت من منحة وأحلت من رزية وأحلت في بلية، وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء؟ أبو طالب عم النبي قام إلى جنبه ابن أخيه أشرف خلق الله قاطبة يقول له: يا عم أسلم، قل كلمة واحدة، قل: لا إله إلا الله.
لم يزل به أبو جهل وأمثاله حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد، حالوا بينه وبين كلمة السعادة الأبدية.
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر، بعضهم من بعض، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، تنقلب هذه المودة التي تكون لأجل الدنيا، تنقلب عندما تحق الحقائق عداوة، ويعض المخالط أصبعه عليها ندماً كما قال الله في سورة الفرقان من الآية السابعة والعشرين إلى نهاية الآية التاسعة والعشرين: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً وقال أيضاً تبارك وتعالى في الآية السابعة والستين من سورة الزخرف الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وسواهم بعضهم لبعض عدو، وقال خليله إبراهيم لقومه في الآية الخامسة والعشرين من سورة العنكبوت: وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم الناس وما لكم من ناصرين.
نعم وهذا شأن كل مشتركين في غرض، يتساعدون ويتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً ولعنة وذماً من بعضهم لبعض كما انقلب ذلك الغرض حزناً وعذاباً كما يشاهد في هذه الدار من أحوال المشتركين في خزيه إذا أخزوا وعوقبوا، ألا تشاهدون أحوال المشتركين في الخزي إذا قبض عليهم وأخزوا وعوقبوا، ألا تعلمون ماذا يفعلون عندما يعاقبون، فكل متساعدين على باطل متوادين عليه لابد أن تنقلب مودتهم بغضاً وعداوة، لابد أن تنقلب مودتهم بغضاً وعداوة.
ثم ما هو أيها الأخوة الضابط النافع في أمر الخلطة؟
الذي ينبغي أن نعلمه هو ما يلي:
على المسلم أن يخالط الناس في الخير، في الجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة وأن يعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتدالهم، تعذر عليه ذلك وأجبر عليه إجباراً ماذا يفعل؟
فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنه لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكنه أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم وثناء عليه منهم، أول من يثني عليه الذين خالطهم في الشر وأجبروه على مخالطتهم وأن يكون معهم، وله أيضاً من المؤمنين ومن رب العالمين.
وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ورمن ب العالمين، فليصبر على آذاهم فهذا خير وأحسن عاقبة وأحمد مآلاً، وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فيما لا حرمة في الاجتماع عليه من دعوة إلى وليمة أو طعام أو عقيقة أو مجلس للتعارف وما إلى ذلك فليجتهد أن يقلب هذا المجلس طاعة لله إن أمكنه، ليجتهد أن لا يسمح للجالسين أن يدوروا هنا وهنا وهنا، غيبة ولغواً وإعراضاً ونسياناً لرقابة الله لهم واطلاعه عليهم وقربه منهم، ويشجع نفسه ويقوي قلبه، ولا يلتفت للوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك بأن هذا رياء ومحبة لإظهار علمك وحالك ونحو ذلك، فليحارب الشيطان وليستعن بالله ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه، هذا أيها الأخوة هو ما ينبغي أن نلم به مما نحتاج إليه في أحوال الخلطة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وبعد
بعد هذا البيان أقول: فإن أعجزته المقادير عن ذلك، إن أعجزته المقادير عن كل ما وصفنا في حال خلطة الناس في الشر وفي فضول المباحات، فليسل قلبه من بينهم كسلِّ الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً غائباً قريباً بعيداً نائماً يقظاناً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، يسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية، ليفعل ذلك وما أصعب هذا وأشقه على النفوس وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى.
ماذا يمكن العبد من هذا إذا اضطر إلى ذلك؟ أن يصدق الله ويديم اللجوء إليه وأن يلقي نفسه على بابه طريحاً ذليلاً ولا يعينه على هذا إلا المحبة صادقة والذكر والدائم بالقلب واللسان وتجنب المفسدات الأربع الباقية الآتي ذكرها إن شاء الله وقدر في الجمعة القادمة، وما ينال هذا إلا بعدة صالحة ومادة قوة من الله عز وجل وعزيمة صادقة وفراغ من التعلق إلا بالله تبارك وتعالى.
(1/1592)
من أشراط الساعة المسيح الدجال
الإيمان
أشراط الساعة
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
21/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرب الساعة والأدلة على ذلك. 2- وقوع أكثر العلامات الصغرى يدل على قرب وقوع
العلامات الكبرى للساعة والتي من أعظمها فتنة المسيح الدجال. 3-صفات الدجال وقصة فتنته.
4- الأمور التي تقي من فتنة الدجال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون فإن الله قد بعث نبيه محمداً بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً،فحذر قرب قيام الساعة في أحاديث كثيرة وذكر من أشراطها وعلاماتها الصغرى حتى لكأنما تقوم غداً أو بعد غدْ أو في زمانه عليه الصلاة والسلام.
ولقد تكاثرت النصوص من القرآن والسنة الصحيحة في الدلالة على قرب الساعة ودنوها قال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون وقال تعالى: وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً وقال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإصبعيه فيمدهما)) البخاري.
وقال : ((بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني)) أحمد بسند حسن. وهذا إشارة إلى شدة قربها من بعثته حتى خشي أن تسبقه لعظم قربها.
ولقد كان يكثر من ذكر أشراطها وعلاماتها محذراً أصحابه من قرب وقوعها، فكان وقع كلامه عليهم عظيماً فكان من تصديقهم ويقينهم لكأنهما هم مصبحون عليها مع أن أكثر علاماتها التي حدثهم بها لم تقع في زمانهم.
وأما حالنا اليوم فإنه ومع حدوث أكثر علامات الساعة الصغرى التي أخبر بها النبي والتي تنبئ عن قرب حدوث العلامات الكبرى والتي تعقبها الساعة إلا أننا في غفلة مع ذلك، بل إنه حين يتحدث الخطباء والوعاظ عن أشراط الساعة الكبرى يظن كثير من الناس أنها بعيدة الوقوع وأنه لن يدركها لا محالة ولن تقع في زمانه،بل إن بعض الناس ممن غلبت عليهم الماديات وضعف الإيمان في قلوبهم حين يسمع عن أشراط الساعة الكبرى لكأنهما يسمع شيئاً من القصص الخيالي فهو وإن لم ينطق بذلك لسانه إلا أن قلبه لم يبلغ من اليقين والتصديق مبلغاً يجعله يصدق التصديق الجازم بوقوع هذه العلامات فضلاً عن قربها.
أيها المؤمنون: وإن مما يدلل على قرب وقوع العلامات الكبرى للساعة وقوع أكثر العلامات الصغرى كما أخبر النبي ومن ذلك تقارب الزمان والأسواق وظهور الشرك في هذه الأمة وظهور الفحش وقطيعة الرحم وسوء الجوار وكثرة القتل وانتشار الزنا والربا وظهور المعازف واستحلالها وكثرة شرب الخمر واستحلاله وزخرفة المساجد والتباهي بها وكثرة الزلازل، وهذا ظاهر بين في هذا الوقت وظهور الكاسيات العاريات والتهاون بالسنن وكثرة الكذب وكثرة موت الفجأة إلى آخر تلك العلامات التي أخبر بها المصطفى.
وهي ولاشك إيذان بقرب وقوع العلامات الكبرى والتي من أولها وأعظمها فتنة وأشدها خطراً، بل ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة من فتنة إلا وهي تضع لها، لشدتها وهولها، تلكم هي فتنة المسيح الدجال، هذه الفتنة العظيمة التي ما من نبي من الأنبياء إلا وحذر أمته منها يقول : ((ما كانت ولا تكون فتنة حتى تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، وما من نبي إلا وحذر قومه الدجال)).
بل إن النبي من شدة خوفه على أمته من هذه الفتنة أكثر من ذكره لأصحابه حتى بلغ يقينهم به أن ظنوا أنه قريب منهم. فعن النواس بن سمعان : أنه ذكر الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما جئنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ((ما شأنكم؟ قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال غداة حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم)) مسلم.
والدجال رجل من بني آدم عظيم الخلقة له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث الصحيحة حتى يعرفه الناس، فإذا خرج عرفه المؤمنون. ومن هذه الصفات التي أخبر بها النبي أنه شاب أحمر قصير أفحج، جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوخ العين اليمنى، وعينه اليسرى عليها لحمة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مسلم يكتب أولا يكتب، وهو عقيم لا يولد له.
عن ابن عمر قال: قال حين ذكر الدجال: ((إن الله ليس بأعور ألا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كان عينه عنبة طافية)) متفق عليه.
وعن أنس أن رسول الله قال: ((الدجال ممسوخ العين، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم)) متفق عليه.
قال الإمام النووي "الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية جعلها آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله" أ هـ.
وأما مكان خروجه أول ما يخرج فهو في جهة المشرق من خراسان من بلدة أصبهان عن أنس قال: قال رسول الله : ((يخرج الدجال من يهودية أصبهان معه سبعون ألفاً من اليهود)) أحمد بسند صحيح.
وأصبهان بلد في المشرق بها حرة يقال لها: اليهودية، فإذا خرج منها الدجال لم يدع بلداً إلا دخله ما عدا مكة والمدينة، فإنهما محروستان منه، محرمتان عليه كما أخبر عن الدجال أنه يقول: ((وإني أوشك أن يؤذن في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها)) مسلم.
وأما أتباع الدجال فأكثر أتباعه من اليهود والعجم والترك وأخلاط من الناس، غالبهم الأعراب والنساء. قال : ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة)) مسلم.
وقال : ((وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك)).
وأخرج الإمام أحمد بسند صحيح أيضاً عن النبي : ((ينزل الدجال في هذه السبخة فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه)).
أيها المؤمنون: إن فتنة الدجال أعظم الفتن وذلك بسبب ما يخلق الله تعالى معه ويجريه على يديه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول وتحير الألباب ليبتلي الله سبحانه عباده فيميز المؤمن من الكافر.
قال : ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال)) مسلم.
وعن حذيفة قال: قال رسول الله : ((لا أنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض ثم ليطأطئ رأسه يشرب منه فإنه ماء بارد)) مسلم.
ومما جاء في فتنته أيضاً قوله في وصفه: ((إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً. يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.
قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم قال: لا اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذُراً أي سناماً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل)) الحديث أخرجه مسلم.
وجاء عند البخاري من حديث أبي سعيد : ((أن الدجال يأتي، وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينزل بعض السباخ التي على المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر؟ (يعني إنه إلاههم) فيقولون: لا، فيقتله ثم يجيبه فيقول الرجل: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه)).
ثم لا يزال الدجال بعد خروجه طوال الأربعين يوماً التي أخبر عنها النبي يعيث في الأرض فساداً يضل الله به الكافرين والمنافقين ويثبت به المؤمنين وتعم فتنته، فلا ينجو منها إلا القلة من المؤمنين حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام على المنارة الشرقية بدمشق فيلتف حوله عباد الله المؤمنين فيسير بهم قاصداً المسيح الدجال، ويكون الدجال عند نزول عيسى متوجهاً إلى بيت المقدس فيلحق به عيسى عند باب لد، وهي بلدة قرب بيت المقدس، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح فيقول له عيسى عليه السلام: إن لي فيك ضربة لن تفوتني فيتداركه فيقتله بحربته وينهزم اتباعه فيتبعهم المؤمنون فيقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله وسلوه الثبات على دينه والسلامة من الفتن، فإن فتنة الدجال عظيمة وخطرها كبير. وإن على المسلم أن يتقي الله سبحانه وأن يحرص على الثبات على الدين بإخلاص العبادة لله، فإن العمر قصير، والزمن يمضي قال : ((ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)) مسلم.
عباد الله: لقد أرشد النبي أمته إلى ما يعصمها من فتنة الدجال، فقد ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومما أرشد إليه النبي أمته التمسك بهذا الدين والإنابة إلى الله رب العالمين بمعرفة أسمائه وصفاته التي لا يشاركه فيها أحد فيعلم أن الدجال بشر جعله الله فتنة لعباده وأن صفاته لا تشبه صفات الرب سبحانه، وإن ادعى أنه هو الإله بما جعله الله على يديه من الفتنة للعباد من إجراء الرزق وإحياء الموتى وغيرها من الفتن.
ومما يقي من فتنة الدجال التعوذ بالله من فتنته وخاصة في الصلاة كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت إن النبي كان يدعو في صلاته فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن فتنة المسيح الدجال)).
ومما يعصم من الدجال بإذن الله حفظ آيات عشر من سورة الكهف فعن أبي الدرداء أن النبي قال: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) وفي رواية: ((من آخر سورة الكهف)) أخرجه مسلم.
وفي الجملة فإن لزوم التقوى والبعد عما يغضب الله، وإخلاص العمل له كفيل بإذن الله للوقاية من فتنة المسيح الدجال، كما ينبغي تذكر هذه الفتنة والتحذير منها وعدم نسيانها والغفلة عنها فإنه قد جاء في الأثر أن علامة خروج الدجال نسيان ذكره على المنابر قال : ((لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر)) البيهقي.
قال الإمام السفّاريني: "مما ينبغي لكل عالم أن يبث أحاديث الدجال بين الأولاد والنساء والرجال، ولا سيما في زماننا هذا الذي اشرأبت فيه الفتن وكثرت فيه المحن واندرست فيه معالم السنن، وصارت السنن فيه كالبدع، والبدعة شرع متبع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين يا رب العالمين.
(1/1593)
السحر والكهانة
الإيمان
نواقض الإيمان
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
13/7/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإعراض عن الإيمان والركض وراء الماديات سبب للبلاء وقسوة القلب وهؤلاء هم رواد
السحرة والكهنة والدجالين من أجل البحث عن حلول لمشاكلهم. 2- حقيقة السحر والكهانة. 3-
حكم الساحر وعقوبته. 4- حكم الذهاب إليهم. 5- أسباب الذهاب إلى السحرة والكهنة. 6-
أسباب الإصابة بالسحر. 7- أسباب الحفظ والوقاية من السحر وكذلك المعين قبل وقوعه
وعلاجه بعد وقوعه. 8- أمور تميز بين الساحر وبين الذي يرقي الرقية الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن الإيمان بالله والعلم الصحيح والعقل السليم نعم امتن الله بها على عباده ومتى ما فقد الإنسان هذه النعم فإنه سيتخبط في مهاوي الضلال أيما تخبط ولن يردعه بعد ذلك رادع عن أن يحصل شهواته أو أن يدفع عن نفسه الضرر بأي وسيلة محرمة كانت أو مباحة.
لقد جرت الحياة المادية الجافة اليوم على البشرية بلاء عظيماً حيث لا تقيم للإيمان بالله وزناً فتعلقت القلوب بالماديات واللهاث خلفها طلباً للحياة السعيدة فتسبب البعد عن الإيمان بالله والتعلق به وعن اللجوء إليه، تسبب في قساوة القلوب وجفوف ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس ممن تعلقت قلوبهم وأرواحهم بالدنيا وشهواتها وغفلوا عن الآخرة ففقدوا بذلك راحة القلب وطمأنينة النفس وطعم الإيمان فما إن تحل بهم المصائب أو تعرض لهم المشكلات حتى يلجئوا إلى كل وسيلة وسبب ولو كان محرماً، ومن ذلك لجوء عدد ليس بالقليل من الناس إلى السحرة والمشعوذين والكهنة والدجالين يطلبون عندهم حلاً لمشاكلهم ظانين بذلك أنهم قادرون على جلب السعادة لهم، غافلين عما يجره فعلهم ذلك من ويلات في الدنيا قبل الآخرة، ولو كانوا يؤمنون بالله حق الإيمان لعلموا أن الله سبحانه بيده الضر والنفع وأنه لا يتم أمر في هذا الكون إلا بإذنه.
أيها المؤمنون: إن السحر والشعوذة والكهانة حقيقة موجودة ولها تأثيرها في واقع الناس، ولو لم تكن موجودة لما جاءت النواهي الشرعية والوعيد والعقوبات على فاعلها. وكما أن السحر حقيقة واقعة فإن الساحر والكاهن لا يغير في حقائق الأشياء ولا يعلم الغيب ولا يقدر على شيء، ومن اعتقد أن الساحر أو الكاهن المشعوذ يعلم الغيب أو يقدر على كل شيء فقد كفر بالله العظيم القائل في كتابه: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وقوله: إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى.
وحقيقة أعمال السحرة والكهان هو الاستعانة بالشياطين حيث إن الشياطين خبيثة نفوسهم فإذا تقرب إليهم هذا الساحر أو الكاهن بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة لهم فيلبون له بعض أغراض،من استراق السمع والتفريق بين الأزواج والتخريب والإفساد بين الناس،فلذا تجد كثيراً من السحرة يتقرب إلى هؤلاء الشياطين بالسجود لهم أو يذبح لهم أو يستغيث بهم أو يطأ على المصحف أو يوقع النجاسات عليه أو ما شابه ذلك من أنواع الكفر والضلال.
وربما يغتر بعض السذج من الناس فيقولون إن هؤلاء السحرة والكهان يحدثون بأشياء تصدق أحياناً فيقال لهؤلاء قد سئل النبي عنهم فقال: ((ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون بالشيء أحياناً يكون حقاً، فقال رسول الله : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني - أي يسمعها من الملائكة تتحدث بها - فيقرقرها في أذن وليه - أي الساحر أو الكاهن - كقرقرة الدجاج فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة)) أخرجه البخاري.
عباد الله: إن حكم الساحر هو الكفر والردة عن دين الله عز وجل باتفاق علماء المسلمين وقال تعالى: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وفي الصحيح قال : ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله والسحر)).
وأما عقوبة الساحر فهي القتل كما صح عن جمع من الصحابة كما جاء في البخاري عن عمر أنه قال: (اقتلوا كل ساحر وساحرة) وقتل في زمنه ثلاث سواحر.
أما الذهاب إلى هؤلاء السحرة والكهان فهو خطر عظيم يتهدد من ذهب إليهم بالكفر والخروج من هذا الدين قال : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)).. هذا إذا كان مجرد سؤال فقط فكيف بمن يصدقهم ويعمل بما يأمرونه به قال : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) أخرجه أبو داود.
ففي هذه الأحاديث دليل على كفر الكاهن والساحر الذي يدعي الغيب ويتوصل إلى مقصوده بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله وكذلك يكفر كل من أتاهم فصدقهم بما يقولون وتلقى هذه الكفريات التي يفعلونها وتعاون معهم عليها.
وإن من أعظم أسباب الذهاب إلى هؤلاء السحرة والكهان هو ضعف الإيمان بالله والتصديق بموعوده وقلة التوكل عليه، كذلك ضعف الصبر فما إن يصاب بمصيبة أو بلية أو مرض حتى يذهب إلى مثل هؤلاء يطلب الخلاص والله لا يصلح عمل المفسدين.
كذلك من الأسباب الحسد والحقد الذي يوجد في نفوس بعض الناس وبالأخص النساء حيث يؤدي ببعضهم إلى محاولة إيقاع الأذى بالمحسود أو إزالة النعمة عنه، وكم في هذا من قصص يدمى لها القلب كان سببها الحسد والحقد والبغضاء والعداوة التي تحصل من ضعاف الإيمان فيذهب إلى هؤلاء السحرة ليشفوا حسده وحقده على أخيه المسلم فيتلذذ بتألمه وتعذيبه وإزالة النعمة عنه والله لا يصلح عمل المفسدين.
وكما أن للذهاب إلى هؤلاء السحرة والكهان أسباباً فكذلك للإصابة بالسحر أسباباً يقول الله عز وجل: إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون وقال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
فمن أعظم أسباب الإصابة بالسحر ضعف التوحيد في القلوب حيث إن التوكل والاعتماد على غير الله مما يناقض التوحيد. فلما ضعف توكل كثير من الناس على الله واعتمد بعضهم على الأسباب وكلوا إليها، ومن وكل إلى غير الله خذل.
كذلك من الأسباب وهو من أعظمها: الغفلة عن ذكر الله قال تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. فلما أعرض كثير من الناس عن ذكر الله وهجروا كتابه وامتلأت بيوتهم بآلات اللهو والغفلة تسلطت عليهم الشياطين فأزتهم إلى المعاصي وأفسدت بين الأزواج والإخوان والأحباب فامتلأت القلوب بالوساوس والشكوك والهموم وامتلأت البيوت بالخصومات والمشكلات.
ومن صور هذه الغفلة عن ذكر الله التهاون بالأذكار والأوراد عند الصباح والمساء وعند النوم ودخول المنزل وعند دخول الخلاء وأدبار الصلوات وغير ذلك.
ومن الأسباب كذلك ترك الواجبات الشرعية والتهاون في فعل المحرمات فإن ذلك من أسباب الوقوع في المصائب والعقوبات والتي فيها الابتلاء بالسحر والعين وغير ذلك.
كذلك من الأسباب توسع بعض الناس في استقدام الخادمات والسائقين دون مراعاة للضوابط الشرعية ودون العناية باختيارهم من حيث الأصلح في دينه، ثم إذا استقدمهم لا يعتني بتعليمهم أمور دينهم والتي من أعظمها التوحيد والنهي عن الشرك كذلك تجده لا يتورع عن ظلمهم والاعتداء على حقوقهم وإهانتهم مما يسبب اعتداءهم عليه بالمثل.
عباد الله: قد شرع الله سبحانه لعباده ما يتقون به شر السحر والعين قبل وقوعهما وأوضح لهم ما يعالجونها به بعد وقوعها، فمن أسباب الحفظ والوقاية من السحر وكذلك العين.
أولاً: التوكل على الله، فهو أعظم ما تدفع به الآفات وأنفع ما تحصل به المطالب، فمن توكل على الله كفاه أموره كلها ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ثانياً: امتثال أوامر الله ونواهيه، فمن حفظ الله في أوامره ونواهيه حفظه الله قال : ((احفظ الله يحفظك)).
ثالثاً: كثرة ذكر الله من تلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والمحافظة على الأوراد ومن هذه الأوراد:
- قراءة آية الكرسي عند النوم فإنه لا يقربك شيطان حتى تصبح.
- قراءة سورة البقرة، فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة.
- قراءة خواتيم سورة البقرة فمن قرأها في ليلة كفتاه، والمعنى والله أعلم: كفتاه من كل سوء.
- الأذكار عندما تصبح وتمسي، وعند نزول منزل، ودخول البيت والخروج منه، وعند ركوب الراحلة، وغيرها من المناسبات.
- تعويذ الصبيان كما كان النبي يعوذ الحسن والحسين ((أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة)).
رابعاً: من أسباب الوقاية إمساك الصبيان ساعة الغروب قال: ((إذا جنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم)) أخرجه البخاري ومسلم.
خامساً: من أسباب الوقاية تطهير البيت من الصلبان والتماثيل وصور ذوات الأرواح وبالذات المعلقة منها، وكذلك الكلاب، فقد ثبت عن النبي أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه هذه الأشياء ولاشك أن بيتاً تهجره الملائكة يكون مأوى للشياطين، كذلك تطهيره من آلات اللهو والمعازف والغناء، فإن بيتاً تتلى فيه سورة البقرة أو غيره من كلام الله ليس كبيت يعلو فيه صوت الشيطان.
سادساً: كذلك من أسباب الوقاية ما جاء في البخاري عنه أنه قال: ((من تصبح بسبعة تمرات عجوة - وهو نوع من تمر المدينة - لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر)) قال الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله ويرجى أن يعم ذلك جميع أنواع التمر فإن المعنى موجود فيه.
وأما العلاج لمن أصيب بالسحر وكذلك العين فهو كما قال ابن القيم رحمه الله:"فإن من أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية بل هي أدويته النافعة، فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله مغموراً بذكره، وله من الدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه". ا هـ.
وليحذر المسلم حيث يصاب ببعض هذه الأمور أو غيرها من الأوجاع الذهاب إلى السحرة والمشعوذين فإن فيه ذهاب الدين والوقوع في سخط رب العالمين فإن الأمور كلها بيد الله فهو الذي يضر وينفع. فالواجب على كل مسلم اللجوء إلى الله بالدعاء والرقية الشرعية والإلحاح على الله مع الصبر وعدم الجزع وتذكر موعود الله للصابرين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني إياكم بما فيه من الآيات والذكر..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقواه واعلموا أنه ما راجت بضاعة الدجالين من السحرة والمشعوذين إلا بتقاعس الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالواجب على كل مسلم أن ينهي عن هذا المنكر بالإبلاغ عن كل من يعلمه يفعل هذا الكفر العظيم فإن في الإبلاغ عنه حماية لنفسك أولاً ثم لغيرك من إخوانك المسلمين فكم في المجتمع ممن تأذى بهذه الأفعال الخبيثة يئن منها سنين طوالاً، كذلك ينبغي على كل مسلم أن ينكر على من يعلمه يذهب إلى هؤلاء السحرة ويتعاطى سحرهم فإن كثيراً ممن يقع في هذا المنكر العظيم إنما يقع بسبب ضعف إيمانه أو بسبب جهله بما يؤدي به ذلك من كفر وخروج من الملة.
ومما يعين في الإنكار على من يعمل السحر والشعوذة معرفة ما يتميز به الساحر والمشعوذ عن القارئ قراءة شرعية حيث إن بعض السحرة والمشعوذين يظهر بلباس القارئ الذي يعالج الناس بالقرآن، ومما يميز الساحر والمشعوذ أمور منها:
- سؤاله عن اسم المريض واسم أمه.
- أن يأخذ أثراً من المريض كقطعة من لباسه.
- أن يطلب ذبح حيوان بصفات معينة وربما أمر بتلطيخ مواضع من البدن بالدم.
- كتابة الطلاسم أو الحروف المقطعة والكلام غير المفهوم.
- التمتمة بكلام غير مفهوم.
- إعطاء المريض أشياء يدفنها في الأرض أو يخفيها في المنزل.
- اخبار المريض بمعلومات خاصة عنه.
- ظهور علامات الفسق عليه وعدم الارتياح لمظهره.
وهناك علامات أخرى غيرها،والحاصل أن السحر والشعوذة داء عظيم لا يروج وينتشر إلا بالتغاضي عنه والذهاب إليه ودفع الأموال إليهم مما يعينهم على البقاء والاستمرار في هذا الكفر العظيم نسأل الله العظيم أن يقينا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار وأن يتمم علينا نعمه ظاهرة وباطنه إنه على كل شيء قدير.
عباد الله: صلوا وسلموا على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله اللهم صل وسلم وبارك على عبد ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
(1/1594)
الحياء
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
6/7/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل حسن الخلق وأهميته. 2- فضل الحياء ومكانته وكيف يكون الحياء من الله. 3- أن
فقد الحياء سبب لانتشار البلاء والمحن. 4- صور من انعدام الحياء عند بعض الناس. 5-
الحياء المحمود والحياء المذموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى فهي وصيته لعباده يا عبادي فاتقون.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: إن شأن الأخلاق في الإسلام عظيم، فالخلق من الإيمان، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وأحسنهم أخلاقاً أقربهم من النبي يوم القيامة. ولقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق فحثت وحضت ورغبت في محاسن الأخلاق وحذرت ونفرت من مساوئها.
بل إن النبي بين أن الغاية من بعثته إنما هي في إتمام مكارم الأخلاق،ومن شمولية هذا الدين وعظمته أنه دين الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة، ولذا جاءت تعاليمه وقيمه بالأمر بالمحافظة على الخلق الحسن بل جعل ذلك أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.
أيها المؤمنون: وكما أن حسن الخلق هو معيار الإيمان وعلامته، فإن لحسن الخلق معياراً وعلامة به يقاس ويعرف، ذلك هو الحياء، فالحياء علامة الإيمان وحسن الخلق. ولذا لا غرابة أن يكون الحياء هو خلق الإسلام كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)) أخرجه ابن ماجه بسند حسن.
فالحياء خلق نبوي كريم كله خير ولا يأتي إلا بخير، وهو شعبة من شعب الإيمان.
قال عليه الصلاة والسلام: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) وفي رواية: ((خير كله)). وقال عليه الصلاة والسلام حين مر على رجل يعظ أخاه في الحياء أي ينهاه عن كثرة الحياء قال له رسول الله : ((دعه، فإن الحياء من الإيمان)) متفق عليه.
والحياء شعبة من شعب الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام، كما أن فقده دلالة على نقص الإيمان كما جاء في الأثر: ((الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر)).
وعلة ذلك أن المرء حينما يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.
والحياء هو الخلق الذي يحمل على ترك القبيح من الصفات والأفعال والأقوال، ويمنع من التقصير في حق الله المتفضل المنعم سبحانه. والدعوة إلى التخلق بالحياء وملازمته إنما هي دعوة إلى الامتناع عن كل معصية وشر، فالحياء خُلة من خلال الخير، وعليه مدار كثير من أحكام الإسلام. قال الفضيل بن عياض رحمه الله "من علامات الشقوة القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل". وقال ابن حبان رحمه الله "فالواجب على العاقل لزوم الحياء لأنه أصل العقل وبذر الخير وتركه أصل الجهل وبذر الشر" اهـ.
لذا فإن الإنسان إذا تعرى من الحياء وعطل من التحلي به فلا تسل عما سيتصرفه من رذائل ولا تعجب مما سيرتكبه من حماقات، فقليل الحياء لا يأبه بدنو همته ولا يبالي بسفول قدره ولا يجد ما يبعثه للفضائل ولا ما يقصره عن الرذائل فإنه إذا فقد حياءه سينطلق في تحصيل شهواته غير آبه بحق الله ولا بحق الناس، وسيهوي في دركات الحماقة والوقاحة، فلا تزال خطواته تقوده من سيئة إلى أخرى حتى يصير بذيئاً جافياً فيه قبائح الأفعال وسيء الأقوال.
وقد جاء في الأثر: ((أن الله تعالى إذا أبغض عبداً نزع فيه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضاً مبغضاً)).
فالحياء - أيها المؤمنون - سياج منيع من الوقوع في المعاصي والمحرمات، وهو علامة حياة القلب. كما أن اقتراف القبائح والمنكرات مما يذهب بالحياء ويدل على موت القلب، وفي الصحيح عنه : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
قال ابن القيم رحمه الله الحياء مشتق من الحياة،فمن لا حياء فيه فهو ميت في الدنيا، شقي في الآخرة، وبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازم، فكل منهما يستدعي الآخر ويطلبه، ومن استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من الله تعالى ومن معصيته لم يستح الله من عقوبته" اهـ.
ورب قبيحة ما حال بيني وبين ركوبها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
أيها المؤمنون: وكما يستحي المسلم من الخلق فلا يكشف لهم عورة ولا يقصر لهم في حق ولا ينكر لهم معروفاً فإن عليه أن يستحي من الخالق فإن الحياء في أسمى منازله وأكرمها يكون من الله عز وجل، فنحن نطعم من خيره وندرج على أرضه ونستظل بسمائه فهو أحق أن يُستحي منه فلا يقصر في طاعته ولا في شكر نعمته، فإذا كان الرجل يخجل من الإساءة إلى من أسدى إليه نعمة صغيرة فكيف لا يوجل الناس من الإساءة إلى ربهم الذي تغمرهم آلاؤه من المهد إلى اللحد وإلى ما بعد ذلك.
إن حق الله على عباده عظيم، ولو قدروه حق قدره لسارعوا إلى الخيرات يفعلونها من تلقاء أنفسهم ولباعدوا عن السيئات خجلاً من مقابلة الخير المحض بالجحود والخسة.
هب البعث لم تأتنا رسله وفاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم
عن ابن مسعود قال: قال : ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحي يا رسول الله قال: ليس ذلكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) أخرجه الترمذي.
وهذه الموعظة منه عليه الصلاة والسلام تستوعب كثيراً من آداب الإسلام ومناهج الفضيلة فإن على المسلم أن ينزه سمعه وبصره ولسانه من كل ما حرم الله وأن يفطم بطنه من أكل الحرام، كما عليه أن لا تستخفه الدنيا بمتعتها الزائلة فيصرف وقته كله في اللهاث خلفها فيكتب من الغافلين،فإن فعل ذلك كله عن شعور بأن الله يراقبه مطلع عليه فقد استحيا من الله حق الحياء.
أيها المؤمنون: إن ما تعانيه اليوم المجتمعات من المحن وتتابع الفتن واستباحة المحرمات ومعانقة الرذيلة، ما ذاك إلا بسبب فقد الحياء من الله. فهل استحيا من الله حق الحياء من أنعم الله عليه بالصحة والمال والأولاد والحياة الرغيدة ثم هو لا يعرف لله قدراً بأن يشكر نعمته عليه بإقامة الصلاة وإخراج الزكاة، فيدعوه داعي الفلاح في اليوم خمس مرات ثم هو لا يستحي فيجيب دعوة صاحب الفضل عليه، وهو الله سبحانه وتعالى، وهل استحيا من الله حق الحياء رجال ونساء يجاهرون بمعصية الله ليل نهار في الطرقات وفي مجامع الناس والحفلات والأفراح، فيقابلون نعم الله بمعصيته فلا حياء منه سبحانه ولا حياء من خلقه.
وهل استحيا من الله حق الحياء من أدخل إلى بيته تلك الفضائيات التي ما عادت تخدش الحياء وإنما تكسره ينظر إليها هو وبناته وأبناؤه. فأي حياء يبقى حين تشاهد البنت فاجراً وفاجرة يتبادلان العهر في مشاهد عارية أو شبه عارية يخجل منها الرجل الهرم فكيف بالشباب والشابات.
وهل استحيا من الله حق الحياء نساء لا رقيب عليهن من الرجال العقلاء، دفقن ماء الحياء من وجوههن يتسكعن في الأسواق والطرقات، يخالطن الرجال بحجاب مخرق يكشف أكثر مما يستر، متطيبات متبخترات يغرين ضعاف النفوس وعديمي الحياء والمروءة، فكم قتلن من فضيلة وكم هتكن من ستر، وكلٌ مسؤول عن رعيته.
وهل استحيا من الله حق الحياء من يأكل أموال الضعفة من المسلمين من اليتامى والعمال مع إنعام الله عليه بكثرة الأموال أو ذاك الذي يستدين الأموال ثم هو يماطل في ردها مع قدرته على ذلك فينكر الجميل ويتعرض لسخط الله.
وهل استحيا من الله حق الحياء من إذا خالط الناس أظهر لهم الحسن، وإذا خلى بربه أظهر له القبيح فينتهك محارم الله.
وهل استحيا من الله حق الحياء من يعامل الناس والأصحاب بمكارم الأخلاق ثم هو يبخل بها على والديه وزوجته وأولاده، فلا يجدون منه إلا الفظاظة والغلظة والبخل.
وهل استحيا من الله حق الحياء من أنعم الله عليه بالمال الكثير ينفقه يميناً وشمالاً في شهواته ثم هو حين يدعى للإنفاق في سبيل الله يبخل فإنما يبخل على نفسه.
وهل استحيا من الله حق الحياء ذاك الذي شغف بالأغاني الماجنة يزعج الناس في طرقاتهم ومنازلهم أو ذاك المدخن الذي يدخن في مجامع الناس ينفث الدخان في وجوههم أو ذاك الذي ضيع أبناءه بلا تربية ولا خلق، يسيحون في الأرض يؤذون المسلمين، فإذا نصح أو نبه قابلك بالإساءة والتأفف.
إن الذي حمل هؤلاء وغيرهم على النزول إلى هذه المستويات الهابطة من الأخلاق هو ذهاب الحياء وصدق رسول الله : ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
اللهم إنا نسالك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن واهدنا لأقوم الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها يا رب العالمين.
أقول قولي هذا..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اعلموا رحمكم الله أنه إذا كان الحياء محموداً والوقاحة مذمومة فإنه لا حياء يمنع من قول الحق أو طلب العلم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنما يمنع من هذا الخجل، والخجل منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود، وأما الحياء فهو خير كله كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقد كان عليه الصلاة والسلام أشد الناس حياءً كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال: ((كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها)).
وعلى هذا كان صحبه رضوان الله عليهم تقول عائشة رضي الله عنها: (يرحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتعلمن أمور دينهن).
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله صوراً من الحياء عظيمة يجدر بالمسلم أن يتخلق بها، فمن ذلك حياء الشرف والعزة، وهو حياء النفس العظيمة التي إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل وعطاء وإحسان فإنه يستحي مع بذله وعطائه وإن كان كثيراً.
ومن ذلك أيضاً حياء الإنسان من نفسه فهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة فلا ترض لنفسها بالنقص ولا تقنع بالدون، فيجد نفسه مستحياً من نفسه حتى كأن له نفسين يستحي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
والحديث عن مواضع الحياء الممدوحة طويل، ولكن ليعلم المسلم أن الحياء الممدوح هو الذي يكف صاحبه عن مساوئ الأخلاق كلها ويحمله على مكارم الأخلاق كلها، وأما ما يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في الدنيا والآخرة فليس بحياء وإنما هو خجل مذموم وتخذيل من الشيطان.
فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على التخلق بهذا الخلق الكريم وتجنبوا الذنوب والمعاصي فإنها تضعف الحياء في العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية بل ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله ولا باطلاعهم عليه بل قد يصل له الحال أن يخبر هو عن حاله وقبح أفعاله،والحامل له على ذلك انسلاخه من الحياء، وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمع إلا أن يشاء الله.
وأما من قوي حياؤه صان عرضه ودفن مساوئه ونشر محاسنه، وكان ذكره محموداً وعند الله مرفوعاً.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحابته وأتباعه إلى يوم الدين.
(1/1595)
التوبة فضلها وأخطاء في مفهومها
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التوبة ودعوة الشارع إليها وحرص الصالحين عليها. 2- آثار التوبة الحسنة على
الفرد والمجتمع. 3- بعض الأخطاء في باب التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقواه وتوبوا إليه وأنيبوا، فإن التوبة من الذنوب منزلة عظيمة من منازل الدين مدح الله أهلها وأفاض عليهم بمنه وكرمه ورضاه، واعلموا أيها المؤمنون أن النقص في بني آدم وصف لازم فإن كل بني آدم خطاء ولا عصمة لهم من الخطأ، ولكن الخير كل الخير فيمن إذا أخطأ تاب وأناب واستغفر، وخير الخطائين التوابون.
إن التوبة والإنابة مقام عظيم من مقامات النبوة ابتدأه آدم عليه السلام حين عصى ربه فتاب وأناب فتاب الله عليه، وتتابع الأنبياء والرسل من بعده وأتباعهم يتسابقون في التوبة والإنابة إلى ربهم كما حكى الله عن كثير منهم في كتابه بل وصفهم ومدحهم بالتوبة والإنابة حتى جاء إمامهم وخاتمهم نبينا محمد فرفع لواء التوبة ودعا إليها بقوله وفعله. عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) أخرجه البخاري.
وعن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) مسلم.
وقد تضافرت النصوص من القرآن والسنة بالدعوة إلى التوبة يقول الله عز وجل: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
وقال : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) مسلم.
لقد فتح الله باب التوبة لكل عبد ووعد بقبولها ومن يعمل سوءاًً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً. بل قال في أصحاب الأخدود الذين قتلوا المؤمنين: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق قال الحسن البصري رحمه الله انظروا إلى هذا الجرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة، بل لقد حذر سبحانه من القنوط من رحمته فقال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم.
قال ابن عباس : (من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله).
وما كل هذا الاعتناء بالتوبة إلا لما لها من الفضائل العظيمة فهي سبب للفلاح والسعادة في دار الدنيا والآخرة وهي كذلك سبب لتكفير السيئات بل ابدالها بحسنات قال تعالى: يا آيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
وإذا أحسنت هذه التوبة بدل الله سيئاتك حسنات قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً.
قال ابن عباس ما: (ما رأيت النبي فرح بشيء فرحه بهذه الآية لما أنزلت وفرحه بنزول إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ).
والتوبة كذلك سبب للمتاع الحسن ونزول الأمطار وزيادة القوة والأموال والبنين قال تعالى حاكياً عن أنبيائه في مخاطبتهم لأقوامهم: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.
ثم بعد هذا كله يفيض الله على عباده التائبين محبته وفرحه بتوبتهم إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
أيها المؤمنون: ومع هذه المكانة العظيمة للتوبة إلا أن كثيراً من الناس يقع في أخطاء وفي باب تلاعب الشيطان وتغريره أو قد يكون ضعف الدين وقلة المبالاة بهذا الأمر العظيم.
ومن هذه الأخطاء:
1) تأجيل التوبة فمن الناس من يعلم حرمة ما يقع فيه من المعاصي لكنه يؤجل ويسوف التوبة، ومن المعلوم أن المبادرة بالتوبة من الذنوب واجبة لا يجوز تأخيرها بل قد يخشى من تأخير التوبة أن تكون المعاصي راناً على قلبه فلا يقبل المعروف لأنه قد طبع عليه أو قد تعاجله المنية وهو مصر على الذنب لم يتب منه.
قال : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى يغلف قلبه فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) أخرجه الترمذي وصححه.
2) ترك التوبة مخافة الرجوع للذنوب مرة أخرى، وهذا كثير في الناس فإن منهم من يرغب في التوبة لكن لا يبادر إليها مخافة العودة إلى الذنب مرة أخرى، وهذا ناشئ عن فهم خاطئ من أن التوبة لا تقبل إذا عاد إلى الذنب مرة أخرى أو أن هذا تلاعب،ولاشك أن هذا خطأ،نعم من شروط التوبة العزم على عدم العودة إلى الذنب لكن لا يعني أن الشيطان لن يغريه بالذنب مرة أخرى، ولا يعني أنه إن خانته نفسه فعاد أن توبته الأولى كاذبة، بل على العبد أن يسارع إلى التوبة في كل ذنب، إذ إنه لا يمكن أن يعلم أنه سيعود مرة أخرى أم لا، فقد يعصمه الله من هذا الذنب بصدق توبته ثم أيضاً قد تأتيه منيته وهو تائب قبل أن يعود إلى الذنب مرة أخرى فيختم له بالسعادة، ثم على العبد أن يحسن الظن بربه فإن الله عند ظن عبده به وأن يستحضر أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، فمهما عمل من معصية ثم تاب منها بحق ثم عاد فتاب ثم عاد فتاب فإن الله يتوب عليه، فرحمته سبحانه وسعت كل شيء.
3) ترك التوبة خوفاً من لمز الناس، فمن الناس من تحدثه نفسه بالتوبة ولزوم الاستقامة لكنه يخشى من لمز بعض الناس وبالأخص أصحابه في المعاصي فقد يتعرض من بعض السفهاء منهم للمز والوصف بالوسوسة والتشدد، فيحجم عن التوبة لأجل ذلك، ولا شك هذا خطأ فادح إذ كيف يقدم خوف الناس على خوف الله عز وجل وعقابه. ثم إن ما يلاقيه من استهزاء إنما هو ابتلاء وامتحان ليظهر الصادق من الكاذب ثم إن حسنت توبته واستمر على الاستقامة انقلب المستهزئ به مبجلاً له بل قد يقتدي به.
4) ترك التوبة مخافة سقوط المنزلة وذهاب الجاه والشهرة، فقد يكون لشخص ما منزلة وحظوة وجاه فلا تطاوعه نفسه على إفساد ذلك بالتوبة. ولا ريب أن ذلك نقص في الدين والمروءة والعقل إذ إن الشهرة والجاه عرض زائل ينتهي بنهاية الإنسان. ولن ينفعه إذا هو قدم على ربه إلا ما قدم من عمل صالح، وأما ما هو فيه من وظيفة محترمة أو تجارة قائمة على السحت أو معصية جعلت له مكانة عند السفهاء من الناس فهذا الغرور الزائل ومن نفخ الشيطان الذي يقوده إلى الهلاك.
ثم إن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وأجل ما يعوض به العبد أن يأنس بالله وأن يرزقه محبة الله وطمأنينة القلب بذكره.
5) التمادي في الذنوب اعتماداً على سعة رحمة الله فإذا زجر العاصي قال: إن الله غفور رحيم على حد قول القائل:
وكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم
ولا ريب أن هذا سفه وجهل بدين الله، فرحمة الله قريب من المحسنين لا من المسيئين المفرطين المعاندين المصرين، وقد قرن الله مغفرته بأليم عقابه في أكثر من آية في كتابه قال تعالى: نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم وقال تعالى: إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم وما ذاك إلا ليستقيم العبد بين الخوف من الله والطمع في رحمته فلا يترك التوبة يأساً من رحمة الله ولا يتركها كذلك اغتراراً بسعة رحمته. تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى درك الجنان بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحد
فحسن الظن بالله ورجاء رحمته ومغفرته إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما حسن الظن بالله مع انعقاد أسباب الهلاك والانغماس والإصرار على المعاصي فهذا غرور وجهل بالله ودينه.
6) الاغترار بإمهال الله للمسيئين، فمن الناس من يسرف في المعاصي، فإذا نصح وحذر من عاقبتها قال ما بالنا نرى أقواماً قد امتلأت فجاج الأرض بمفاسدهم ومعاصيهم وظلمهم وأكلهم أموال الناس بالباطل وأكل الربا ومع ذلك نراهم قد درت عليه الأرزاق وطالت أعمارهم وهم يعيشون في رغد من العيش، وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بسنن الله عز وجل لأن الله سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وهؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فما هذا الذي هم فيه من النعيم في الدنيا إلا استدراج وإمهال من الله حتى إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ قوله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما يحب من الدنيا على معاصيه فإنما هو استدراج)) ثم تلا قوله تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة وربما جاءت مستعجلة،وقد تَبْغَتُ العقوبات وقد يؤخرها الحلم من الله، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل".
7) الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي فهناك من الناس من إذا قيل له: لم لا تصلي؟ لم لا تتوب من المعصية؟ قال: إذا أراد الله ذلك أو يقول: مكتوب علي ذلك. وهذا خطأ وضلال وانحراف في إيمانه بالقدر حيث إن الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة في ترك الواجبات أو فعل المحرمات.
ولو كان هذا مقبولاً لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وانتهاك الأعراض ثم يحتج بالقدر ولا يناله العقاب.
نعم قد كتب الله ما سيقع من ابن آدم من طاعة ومعصية وذلك لعلمه سبحانه الغيب لكن العبد ليس مجبراً على فعل المعصية أو الطاعة. وليسأل نفسه هذا الذي يحتج بالقدر أكنت تعلم أنه كتب عليك فعل المعصية قبل فعلها،وليسأل نفسه كذلك لو اعتدى أحد على مالك أو نفسك واحتج بالقدر أكنت ترضى له الاحتجاج بالقدر وسقوط العقوبة عنه؟
وبالجملة فالاحتجاج بالقدر إنما يكون عند المصائب لأنها من فعل الله لا حيلة للعبد في ردها وأما الذنوب والمعاصي فلا يجوز الاحتجاج بالقدر في فعلها لأن ذلك مخاصمة لله واحتجاج عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى ثم اعلموا أن الغفلة عن التوبة والتمادي في العصيان إنما هو مرض في القلب يجب تداركه وتصفية القلب منه بالإنابة إلى الله واستغفاره والرجوع إليه بالعمل الصالح،وليحرص العبد على التوبة العامة من جميع الذنوب التي يعلمها والتي لا يعلمها فإن من الناس من قد يتوب مما يعلم من الذنوب ويغفل عن التوبة العامة ولذا جاء في دعاء النبي في صلاته: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، إنك أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)) متفق عليه.
وليحذر المسلم من التوبة الكاذبة وهي التي يهجر فيها العصاة معاصيهم هجراً مؤقتاً بسبب مرض أو مناسبة أو عارض أو خوف أو رجاء جاه أو خوف فوات مصلحة أو عدم تمكن من فعل المعصية، فإذا واتتهم الفرصة وزال العارض رجعوا إلى ذنوبهم فهذه ليست بتوبة نصوح صادقة وهذا بخلاف ما قلنا سابقاً من أنه قد يتوب توبة صادقة يعزم فيها على عدم العودة إلى المعصية ثم يغريه الشيطان فيعود فإن هذا توبته صادقة ولكنه نقضها وعليها أن يجددها مرة أخرى.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/1596)
مفاهيم خاطئة للمعصية
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض المفاهيم الخاطئة عند الناس التي تجعلهم يقعون في المعاصي كالمجاهرة بالمعصية
وكبغض أهل الخير وكالاستهانة بالمعصية وكالتهاون في الطاعات وغيرها. 2- حث الناس
على التوبة وتحقيق شروطها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: فقد سبق وتحدثنا في الجمعة الماضية عن التوبة وفضلها ومفاهيم خاطئة فيها، وذكرنا ما للتوبة من منزلة عظيمة عند الله عز وجل فهو يفرح بتوبة عبده بل ويحب التوابين وما ذاك إلا لسعة رحمته وفضله على عباده مع أنه الغني عنهم.
قال : ((لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش. قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده)) متفق عليه.
ولم يجيء هذا الفرح من الرحمن في شيء من الطاعات سوى التوبة، ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيراً عظيماً في حال التائب وقلبه.
عباد الله: وكما أن هناك مفاهيم خاطئة للتوبة عند بعض الناس فكذلك هناك مفاهيم خاطئة للمعصية عند بعض الناس. ومن هذه المفاهيم الخاطئة للمعصية:
- أن بعض العباد ممن ابتلى بمعصية من المعاصي يسوغ لنفسه فعل غيرها بحجة أنه لم يتب بعد من المعاصي أو لم يستقم استقامة حقة، وهذا خطأ فاحش فسماع الحرام لا يسوغ رؤية الحرام، وأكل الربا لا يسوغ شرب الخمر. ومثل ذلك أيضاً من إذا ابتلي ببعض المحرمات كأكل الربا أو شرب الخمر أو سماع الحرام ورؤيته أو غيرها من المنكرات سوّغ لنفسه ترك الطاعات كالصلاة مثلاً، وهذا كله من تسويل الشيطان وتلاعبه ومخادعته لابن آدم فهو يزين له المعصية تلو الأخرى، ويأتي له بالحجة الشيطانية: أن التوبة تجب ما قبلها إذاً فأكثر من المعاصي، فالمعصية الواحدة كالعشر لا فرق. ثم لا يزال به الشيطان حتى يزين له ترك العبادات والطاعات بحجة شيطانية أخرى، وهي أن يلقي في قلب صاحب المعصية أنه منافق إذ كيف يصلي وهو لم يتب من هذه المعاصي وما يريد إبليس منه إلا الازدياد في المعاصي والتدرج فيها حتى يخرجه من دائرة المعصية إلى دائرة الكفر.
- ومن المفاهيم الخاطئة في المعصية أن بعض الناس قد يجاهر بمعصيته أو يدعو إليها بقوله أو بفعله، ولا شك أن المجاهرة بالمعاصي أو الدعوة إليها أشنع في الجرم من مجرد المعصية وأبعد عن المعافاة والتوبة قال : ((كل أمتي معافى إلى المجاهرين)) متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من دل على ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)) مسلم.
- ومما ينبغي التنبيه له كذلك أن فعل المعاصي لا يسوغ للإنسان بغض الطاعة وأهلها وحب المعصية وأهلها.
بل الواجب على العبد أن يجاهد نفسه على حب الطاعة وأهلها وإن كان مقصراً في فعلها ولم يلحق بأهلها، وكذلك يجاهد نفسه على أن يبغض المعصية وأهلها وإن كان فاعلاً لها مبتلاً بها فالمرء يحشر مع من أحب يوم القيامة ويؤجر على حب الخير وبغض الشر.
وإنه لمن المؤسف أن ترى بعض الناس ممن قد ابتلي ببعض المعاصي تنفرج أساريره وتنبسط حين يجالس أشباهه ممن يرتكبون تلك المعاصي في حين أنه يضيق ذرعاً وتنقبض نفسه حين يجلس مع من ينكرون عليه معاصيه من أهل الخير والاستقامة. مع أن الواجب عليه أن يفرح بمجالستهم واللقاء بهم لعل الله أن يسلك به طريقهم ويوفقه للتوبة النصوح بسببهم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن الأخطاء أيضاً الاستهانة بالمعصية فإذا ابتلي العبد بمعصية من المعاصي لم يسغ له أن يستهين بها ولو كانت صغيرة في نظره، فلا يليق به أن ينظر إلى صغر المعصية ولكن ينظر إلى عظم من عصاه، فالاستهانة بالذنوب دليل الجهل وقلة توقير الله في القلب قال ابن مسعود : (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا) أخرجه البخاري.
وليس بغائب عنا قصة المرأة التي دخلت النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت. فالاستهانة بالذنب الصغير قد يصيره كبيراً لما قارنه من قلة الحياء والخوف من الله وعدم المبالاة.
- ومن المفاهيم الخاطئة أن صاحب المعصية قد يستهين بالطاعات اليسيرة بحجة أنه واقع في أمور كبيرة فماذا تفعل هذه الطاعة اليسيرة بجانب ما يفعله من الكبائر وهذا تلبيس من إبليس فقد تكون هذه الطاعة اليسيرة بحجة أنه واقع في أمور كبيرة فماذا تفعل هذه الطاعة اليسيرة بجانب ما يفعله من الكبائر، وهذا تلبيس من إبليس فقد تكون هذه الطاعة اليسيرة في نظره سبباً لمغفرة ذنوبه خصوصاً إذا قام بقلبه الإخلاص في فعلها والإقبال على الله، وفضل الله عظيم فقد يغفر الله ذنباً من أعظم الذنوب بسبب عمل يسير قال : ((بينما كلب يُطيف بركيه - أي يدور حول بئر - كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها - أي خفها - واستقت له به فسقته إياه فغفر لها به)) متفق عليه.
فهذا فضل الله ورحمته بسبب سقيا كلب فكيف بمن سقى مسلماً أو أحسن إلى الناس أو نصر المستضعفين من المسلمين. وهذا لا يعني أن يستهين بفعل الكبائر مادام أنه محسن يفعل الخير للناس.
- ومن المفاهيم الخاطئة أيضاً عند من يفعل المعصية ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ما دام أنه يرتكب بعض المنكرات بحجة أنه مقصر وأنه يفعل خلاف ما يأمر به بل قد ينكر من يأمر بمعروف وينهى عن منكر وهو واقع فيه ويحتج عليه بقوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم.
وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف لا للأمر بالمعروف.
بل الواجب على أهل المعاصي أن ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر وإن كانوا واقعين فيه قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
فانظر كيف ذمهم الله بسبب تركهم التناهي عن المنكر مع أنهم مشتركون فيه.
قال سعيد بن جبير رحمه الله: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يكون سالماً ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر".
- ومن المفاهيم الخاطئة كذلك ما يظنه بعض العصاة من أن معاصيهم لا أثر لها على من حولهم مع أن النصوص الشرعية أوضحت أنه قد يحرم المجتمع الخير والغيث بسبب ذنوب العصاة، وكذلك قد يعمهم الله بالعقوبة بسبب ذنوب المذنبين حيث لم يأخذوا على أيديهم قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
- ومن المفاهيم الخاطئة كذلك أن بعض الناس قد يكون له حالٌ حسنة مع الله فيكون ذا خشية وعلم ومسارعة إلى الخيرات ثم يطوف به طائف من الشيطان فيزله ويغويه ويطوح به عن سبيل الخير فتنزل رتبته السابقة ويفقد أنسه بالله فيقع في بعض المعاصي ثم بعد ذلك يوفق للتوبة، ولكن يظن أنه وإن تاب فلا يمكن أن يعود إلى منزلته السابقة وحاله الأولى فيدب الضعف والفتور إليه ويترك ما كان يقوم به من خير ومسارعة إليه وخشية وتأله لله، وهذا قصور في فهم مقاصد الشرع، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فمن التائبين من يعود إلى حاله الأولى قبل المعصية ومنهم من يعود إلى أحسن من حاله قبل المعصية والتوبة.
وهذه مسألة مهمة تعتري كثيراً من الناس فيستسلمون لها ويركنون إلى خاطر اليأس ويرضون بالدون فيظنون أنهم لا يمكن أن يرجعوا إلى حالتهم السابقة من الخير والقرب من الله.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله وتوبوا إليه جميعاً لعلكم تفلحون، واعلموا أن التوبة النافعة هي التوبة النصوح المشتملة على الشروط، الشاملة لجميع الذنوب.
وليحذر المسلم من الغفلة عن بعض الذنوب فيدركه الموت قبل التوبة منها، ومما يغفل عنه كثيراً رد المظالم إلى أهلها كالأموال سواء كانت مستلبة بالقوة أو كانت ديوناً قادراً على ردها ومع ذلك يماطل بها ويتهاون بها، وفي الحديث الصحيح أن النبي امتنع من الصلاة على من مات وعليه ديناران حتى قضيت عنه، وكذلك من المظالم التي يغفل عنها المظالم في الأعراض كالغيبة والقذف والنميمة، فلابد من التحلل ممن أساء إليهم وإصلاح ما أفسد قدر الإمكان إلا إذا كان في التحلل منهم مفسدة أكبر فكيفي الاستغفار لهم والثناء عليهم في الأماكن التي أساء إليهم فيها.
قال : ((من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات)) أخرجه البخاري.
أيها المؤمنون: إن للتوبة والإنابة إلى الله أسباباً وأموراً معينة على تحصيلها قد يطول عرضها وذكرها في هذه الخطبة سنعرض لها في خطبة قادمة إن شاء الله تعالى.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1597)
بر الوالدين والتحذير من العقوق
الأسرة والمجتمع
الوالدان
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الوالدين وحث الشارع على برهما والإحسان إليهما. 2- بعض صور العقوق
والإساءة إليهما. 3- عقوبة من عق والديه وثواب من برهما. 4- حال بعض السلف في برهم
لآبائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: فإن من أعظم الروابط بين الناس رابطة خصّها الشرع الحنيف بمزيد من الاهتمام والذكر بل لقد جعلها من فرائض الدين الكبرى فأمر بوصلها والإحسان إليها والقيام بحقها ورتب عليه أعظم الأجر وأزكاه. وفي المقابل حذر من المساس بهذه الرابطة الوثيقة والإخلال بها والاعتداء عليها حتى ولو بأدنى لفظ أو نظر.
تلكم الرابطة هي ما يجمع كلاً منا بأصله الذي جعله الله تعالى سبباً لوجوده، رابطة الوالدين حيث إن شأنهما عظيم وحقهما كبير ولست في مقامي هذا أعلم جاهلاً بحقهما فالكل يعلم هذا الحق، ولكني أذكر نفسي أولاً وأذكركم ثانياً بهذا الحق العظيم الذي قرنه الله بحقه سبحانه في أكثر من آية في كتابه قال تعالى: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: فلا تقل لهما أف أي لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ ولا تنهرهما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله: ولا تنهرهما أي لا تنفض يدك عليهما.
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال: وقل لهما قولاً كريماً أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم واخفض لهما جناح الذل والرحمة أي تواضع لهما بفعلك وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً أي في كبرهما وعند وفاتهما".
عباد الله: لقد أكثر الله من ذكر شأن الوالدين وأوجب الإحسان إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما على ولدهما قال تعالى: يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين.
وقال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير.
وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً.
وإن كنت تظن يا عبد الله أن وقوع الوالدين في معصية يبيح لك نهرهما والإخلال بحقهما من الأدب ولين الجانب فقد أخطأت الجادة فلا أعظم جرماً من الشرك بالله والدعوة إليه ومع هذا يقول الله عز وجل معظماً لحقهما: وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا.
ولقد جاءت نصوص السنة متضافرة في الدلالة على هذا الحق العظيم فمن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها قلت ثم أي؟ قال بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة)) أخرجه مسلم. ورغم أنف أي ذل ولصق بالرغام وهو التراب.
وعن عبد الله بن عمرو قال أقبل رجل إلى النبي فقال أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال : ((فهل لك من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) متفق عليه.
ومع كثرة النصوص والآثار الدالة على عظم شأن الوالدين ورفع مكانهما إلا أن بعض الناس قد أخلوا بهذا الجانب إخلالاً عظيماً فكم سمع الناس وقرؤوا وشاهدوا من مظاهر العقوق القولية والعملية ما يندى له الجبين ويتفطر له القلب.
ويزداد الأمر شناعة إذا كان بعض أولئك المقصرين في حق الوالدين من أهل الصلاة والجمعة والجماعة.
عباد الله: إن لعقوق الوالدين صوراً كثيرة منها إظهار العبوس عند مقابلة الوالدين بخلاف ما لو قابل أصحابه. وإنك لتعجب ممن يتكلف البشاشة والابتسامة مع الآخرين بينما يتثاقل في إظهار ذلك مع والديه.
ومن صور العقوق أيضاً رفع الصوت عليهما أو مقاطعة كلامهما بزجرهما وفرض الرأي عليهما، وهذه الطباع مما يذمها العقلاء مع الناس فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين.
ومن صور العقوق أيضاً النظر إلى الوالدين شزراً وذلك بإحداد النظر إليهما وكأنه ينظر إلى أحد أبنائه لزجره أو كأنه ينظر إلى عدو. قال مجاهد "ما بر والديه من أحدّ النظر إليهما".
ومن صور العقوق التأخر في قضاء حاجاتهما والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان من سؤاله بعد ذلك.
ومن صور العقوق القيام بحق الزوجة والاعتناء به في مقابل عدم الاعتناء بحق الوالدين وعدم الاكتراث له بل وتضييعه، ولا حاجة بنا لذكر صور من العقوق بغيضة ليست من صفات المسلمين بل ولا من عادة عرب الجاهلية كضرب الوالدين أو لعنهما أو البصق عليهما أو رميهما في دور العجزة والتخلص منهما نعوذ بالله من الخزي والخذلان في الدنيا والآخرة.
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالها: ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين..)) الحديث متفق عليه.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان)) أخرجه النسائي.
وعقوبة العاق معجلة لصاحبها في الدنيا لقوله : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) أخرجه الإمام أحمد.
وهذا مشاهد ظاهر لا يحتاج إلى دليل.
وفي المقابل فبر الوالدين مفتاح كل خير ومغلاق من كل شر فهو من أعظم أسباب دخول الجنة والنجاة من النار ثم هو دين يدخر لك في ذريتك حين ترى ثمار برك بوالديك قد أينعت في ذريتك فكما تدين تدان.
وبر الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر وكذلك سبب في دفع المصائب كما جاء في خبر أصحاب الغار. كما أنه سبب في إجابة الدعاء كما جاء في صحيح مسلم في خبر أويس القرني أنه كان باراً بأمه. إلى غير ذلك مما هو مدخر للبار بوالديه من خيري الدنيا والآخرة.
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "إني رأيت شبيبة من أهل زماننا لا يلتفتون إلى بر الوالدين ولا يرونه لازماً لزوم الدين، يرفعون أصواتهم على الآباء والأمهات وكأنهم لا يعتقدون طاعتهم من الواجبات ويقطعون الأرحام التي أمر الله بوصلها ونهى عن قطعها بأبلغ الزجر وربما قابلوها بالهجر والجهر. إلى أن قال رحمه الله:وليعلم البار بالوالدين أنه مهما بلغ في برهما لم يف بشكرهما. عن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر فقال إن لي أماً بلغ بها الكبر وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها وأوضئها وأصرف وجهي عنها فهل أديت حقها قال لا. قال أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها. فقال عمر إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها.
وجاء رجل إلى ابن عمر فقال: (حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيت بها مناسك الحج أتراني جزيتها. قال: لا ولا طلقة من طلقاتها).
إلى أن قال رحمه الله: وبرهما يكون بطاعتهما فيما يأمران به ما لم يكن بمحظور، وتقديم أمرهما على فعل النافلة والاجتناب لما نهيا عنه، والإنفاق عليهما،والتوخي لشهواتهما، والمبالغة في خدمتهما، واستعمال الأدب والهيبة لهما فلا يرفع الولد صوته ولا يحدق إليهما ولا يدعوهما باسمهما، ويمشي وراءهما ويصبر على ما يكره مما يصدر منهما" انتهى كلامه يرحمه الله.
اللهم ارزقنا البر لوالدينا أحياءً وأمواتاً واجعلنا لهم قرة أعين وتوفنا وإياهم وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: لما كان بر الوالدين من القربات العظيمة تسابق إليها الأتقياء من عباد الله من الأنبياء والرسل وأتباعهم.
هذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بالمغفرة بقوله: رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات.
وكذا حال عيسى ابن مريم عليه السلام حين قال عنه الله عز وجل: وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً.
وكذا يحيى عليه السلام قال عنه الله عز وجل: وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً.
وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام مع أبيه ودعوته إياه وتحببه له فأمر قد بلغ في البر غايته قال تعالى: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً.
وما جاء عن السلف في هذا الشأن كثير جداً فمن ذلك ما جاء عن أبي حنيفة رحمه الله في بره بأمه حيث كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر حتى تسأله عما أشكل عليها مع أن ابنها فقيه زمانه، ومع ذلك قال أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة رأيت أبا حنيفة يحمل أمه على حمار إلى مجلس عمر بن ذر كراهية أن يرد على أمه أمرها.
ومن ذلك ما جاء عن محمد بن بشر الأسلمي أنه قال: لم يكن أحد بالكوفة أبر بأمه من منصور بن المعتمر وأبي حنيفة، وكان منصور بن المعتمر يفلي رأس أمه.
وأما حيوة بن شريح أحد الأئمة الأعلام فقد كان يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه قم يا حيوة فألق الشعير للدجاج فيقوم ويترك التعليم.
وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.
وكان حجر بن الأدبر يلمس فراش أمه بيده ويتقلب بظهره عليه ليتأكد من لينه وراحته ثم يضجعها عليه.
وأما الإمام ابن عساكر محدث الشام فقد سئل عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي.
رحم الله هؤلاء الآئمة الأبرار ما أعظم شأنهم مع والديهم، وألحقنا بهم في دار كرامته إنه جواد كريم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين.
(1/1598)
القوامة على النساء
الأسرة والمجتمع
المرأة
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن من حكمة الله أنه سخر بعض البشر لبعض وأنه جعل القوامة للرجل على المرأة. 2-
تأثر بعض الناس اليوم بدعوة الكفار إلى ما يسمونه حقوق المرأة ومساواتها بالرجل. 3- أثر
هذه الدعوة السيء على المجتمعات. 4- أقسام الناس في القوامة على المرأة. 5- معنى القوامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله خلق الخلق من ذكر وأنثى وسخر بعضهم لبعض، وجعل بعضهم قائداً وسيداً وولياً على بعض، فبذلك استقامت شؤونهم واستمرت حياتهم قال تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
ولما كانت حياة الناس لا تستمر إلا بتسخير بعضهم لبعض جاء في الشريعة التأكيد على مراعاة جانب الولاية والسيادة.
ومن أنواع الولاية التي أولتها الشريعة بالاهتمام ولاية الرجل على المرأة وقوامته عليها.
وهي من فطرة الله للخلق أن جعل الرجل راعياً للمرأة قائماً على شؤونها. ولذا ركب الله في الرجل من خصائص القوامة والولاية ما لا يوجد عند المرأة.
قال الله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم.
عباد الله: إن قوامة الرجل على المرأة شرع الله الذي لا محيد عنه. ولا خيار لنا في العدول عنه. فمن أراد الفلاح والسعادة في الدارين فعليه بالتمسك به. فما من شيء شرعه الله إلا وفيه الصلاح والفلاح، حيث إنه الخالق سبحانه وهو أعلم بما يصلح عباده.
ولقد تأثر فئام من الناس بما يبثه الغرب الكافر من أفكار عفنة حول قوامة الرجل على المرأة ظاهرها الدفاع عن حقوق المرأة المضيعة والعدل والرحمة، وباطنها دفع الناس إلى حرية فاجرة حائرة ضاعت بسببها مجتمعاتهم وتخلخلت بها أسرهم، وأنتجت لهم هذه الحرية المزعومة مجتمعاً هوايته الإجرام، وتسليته الزنا، وتفثات غضبه القتل. مجتمع المواليد غير الشرعيين فيه يقارب أو يزيد أحياناً على مواليد النكاح الصحيح كما أثبتته إحصائياتهم. مجتمع تخالل فيه المرأة من تشاء وإن كانت متزوجة، وتدخل إلى بيتها من تشاء بل إلى قعر دارها من تشاء،مجتمع صغيرات السن فيه يعرفن ويعملن مثل أو أكثر مما تعرفه وتعمله المتزوجات. تقول إحدى إحصائيات واحدة من أكبر الدول الأوربية إن 9 آلاف فتاة صغيرة لم يتجاوزن سن 16 سنة حملن سفاحاً في عام 96 فقط، ويولد في هذه الدولة أيضاً نحو 43 ألف طفل من سفات لأمهات غير متزوجات تتراواح أعمارهن بين 15 - 19 سنة إذا فما حال من هن فوق هذا السن.
وأما حال العلاقات الزوجية فحدث ولا حرج عن عدد حالات الطلاق ونسبتها الكبيرة، إضافة إلى حالات الاعتداء من الطرفين بالجرح والضرب والقتل.
وإنك لتعجب مع هذا كله ممن هم من أبناء المسلمين أو من المحسوبين على الإسلام من قد تأثر بأفكار أولئك، فحذا حذوهم، فلا حسن إلا ما رأوه حسناً، ولا قبيح إلا ما رأوه قبيحاً.
فأجلب هؤلاء بخيلهم ورجلهم يشوهون ويسخرون من قوامة الرجل الشرعية فيتهمونها بالتخلف والتسلط. وينفثون في المسلمين ما تلقوه عن أسيادهم من الكفرة والملاحدة.
ولقد تولى نشر أفكارهم العفنة التي هي زبالة أفكار الغرب تلك المجلات العاهرة والقنوات الفضائية التي امتلأت بكل شيء إلا من الدين والأدب والفضيلة والفائدة.
فأخذت تطنطن بكل ما تزعمه من حقوق للمرأة مضيعة، ضيعتها قوامة الرجل الشرقي أي المسلم فحملوا الراية لمحاربة الفضيلة،وشعاراتهم التي يهتفون بها: أعتقوا المرأة. دعوها تنطلق. دعوها تعيش كما تشاء، تلبس ما تشاء. تعمل ما تشاء، تجالس من تشاء، تخالط من تشاء.
فلما أعياهم مخاطبة الرجل وإغراؤه بترك قوامته والتخلي عنها وجهوا خطابهم إلى المرأة الضعيفة،فأغروها ببعض الشعارات البراقة المخادعة حيث أظهروا لها المرأة المطيعة لزوجها الحافظة لحقوقه، القارة في بيته، بصورة المرأة المتخلفة الجاهلة ضيقة الأفق بخلاف ما عليه المرأة المتحضرة زعموا حيث جعلوا تفلتها عن قوامته وخروجها عن طاعته إثباتاً لذاتها وحريتها. وانعتاقاً من رق القرون المتخلفة.
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
عباد الله: الناس في القوامة على المرأة طرفان ووسط.
- طرف ضيع القوامة ولم يرع الأمانة فألهته دنياه عن أن ينظر في حال بيته، ومن تحت يده من النساء.
فالمرأة عنده تخرج متى تشاء، إلى أي مكان تشاء، من غير إذنه، تلبس ما تشاء، بل وصل الأمر في بعض البيوت إلى أن الزوجة هي التي تأمر وتنهى، وتطاع فلا تعصى.
ولا عجباً أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيب، ترى بعض الأزواج لا يشارك الرجال إلا في صورته الظاهرة، بينما المرأة تدبر أمر بيتها وتتحكم في مصير أولادها دون رجوع إلى رأي الزوج، بل ولا حتى مشاورته أو إشعاره بما عزمت عليه من الرأي والتدبير.
وما يلاحظ في المجتمع من منكرات في صفوف النساء ممثل السرف والبذخ في حفلات الزواج وما يلبس في هذه الحفلات من ألبسة تخل بالدين والأدب وكذا ما يحدث في الأسواق من تبرج وسفور وكشف للوجه أو بعضه كالعينين وغيرها، هذه المنكرات إنما منشؤها وأحد أسبابها التراخي في القوامة الشرعية التي وكلها الله إلى الرجل.
والطرف الآخر طرف استبدل القوامة الشرعية بقوامة بهيمية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فالمرأة عنده بلا حقوق مرعية، مسلوبة الرأي والقدرة على المشاركة الزوجية. تواجه الضرب والشتم واللعن لأسباب واهية. ولئن قيل له: اتق الله تلا عليك قوله تعالى: الرجال قوامون على النساء.
وهناك قسم آخر هم أهل القوامة الشرعية التي أمر الله بها وشرعها في كتابه وعمل بها نبيه واقتدى به أصحابه من بعده.
وهذه القوامة هي التي يراعي فيها الزوج حق المرأة الشرعي في نفسها ومالها ورأيها. مع الإمساك بزمام الأمور. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتربية الحسنة لها والمعاشرة بالتي هي أحسن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن القوامة التي جعلها الله بيد الرجل يجب أن يعمل بها وفق ما شرع الله وليست كما يظن بعض الناس أنها سلطة مطلقة لا يسأل فيها عما يفعل. فالقوامة مبناها على العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، وهي كذلك ليست مقتصرة على الزوجة بل على كل من هم تحت يدك من أهل بيتك من النساء والصبيان. وليحذر من ضيعها قول النبي المتفق على صحته: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
وليحذر من استعملها في غير محلها قوله : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)) أخرجه مسلم.
وكذلك قوله : ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) أخرجه مسلم.
عباد الله: إن شأن المسؤولية عظيم، فكل منا مسؤول عما ولاه الله تعالى من الذرية كما قال : ((الرجل راع في بيت أهله ومسؤول عن رعيته)). ومتى ما ضيع الرجل مسؤوليته أو وكلها إلى من ليس بأهل لها فقد عرض نفسه للإثم والعصيان، وكيف لا يكون ذلك وفيه ضياع لمصالح كثيرة وإحلال لمفاسد كثيرة.
فعليك أيها الرجل أن تتقي الله في نفسك وما تحملته ذمتك من الأمانة فإن ضيعت نفسك عن ذلك أو عن بعض ذلك فادع الله تعالى بطلب العون والتوفيق واستشر أهل الرأي والحزم، فلعل الله أن يعلم ما في قلبك من حب لإصلاح أهل بيتك والإحسان إليهم فيجعل لك من أمرك يسراً ومخرجاً.
ثم صلوا وسلموا عباد الله على الرحمة المهداة محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1599)
تعظيم نصوص الشريعة وأحكامها
التوحيد
شروط التوحيد
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الاستسلام لله والانقياد لشرعه والطاعة له هي مناط القبول عند الله والرضا, 3- إن
تعظيم الله وتمجيده تستلزم تعظيم أحكامه وشرعه. 3- دلالات وعلامات تعظيم النصوص
الشرعية. 4- أمثلة على مبادرة الصحابة ومسارعتهم لامتثال أمر الله وتعظيم شرعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله عز وجل لما منّ علينا بأن هدانا للإسلام خاتم الشرائع وأفضلها وأرسل إلينا أفضل رسله وخاتمهم وأنزل علينا أكمل كتبه وأشرفها، إنه لما منّ علينا بهذا كله جعل الاستسلام والانقياد لشرعه والطاعة له هي مناط القبول عنده والرضا، ولذا فمن لم يستسلم لله وينقد إليه بالطاعة ويتخلص من الشرك فليس بمسلم.
ولما كان في نصوص الشريعة وأحكامها ما يخالف شهوات بعض الناس وشبهاتهم كان تلقيهم لتلك النصوص والأحكام مصحوباً بنوع من التردد والتقاعس مع التثاقل والحرج في صدورهم، هذا إن لم يدفعوا تلك الأحكام الشرعية بالكلية أو يتعسفوا ويتحذلقوا بتأويل نصوص الشرع والتحايل عليها في سبيل تحقيق شبهاتهم وشهواتهم.
وهذا المزلق الخطير لا يستغرب حين يصدر ممن ليس لهم حظ في الإسلام من اليهود والنصارى وأشياعهم فهم كما قال الله: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.
ولكن الغريب في ذلك أن ينزلق في هذا المسلك الخطير بعض المسلمين ممن فرحوا بما عندهم من العلم الدنيوي فأخذوا يزنون النصوص الشرعية بميزان عقولهم، فما وافق عقولهم قبلوه وما لم يوافق عقولهم أولوه وحرفوه بما يوافق الهوى، فجعلوا عقولهم حاكمة مهيمنة على الشرع، فلم يعد لهذه النصوص الشرعية في قلوبهم تعظيما أو تقديساً أو انقياداً.
عباد الله: إن تعظيم الرب تعالى وتمجيده مستلزم لتعظيم أحكامه ونصوص شرعه من القرآن والسنة قال الإمام ابن القيم رحمه: "أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر" اهـ.
أيها المؤمنون: إن لتعظيم النصوص الشرعية من القرآن والسنة دلالات وعلامات من افتقدها فهو على خطر عظيم، فمن علامات تعظيم النصوص الشرعية عدم الاختيار أو المشورة في قبول حكم الله تعالى بل التسليم الكامل المطلق دون تردد أو شك وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً.
قال ابن كثير رحمه الله: "فهذه الآية عامة في جميع الأمور. ذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحدٍ مخالفته. ولا اختيار لأحدها هاهنا ولا رأي ولا قول" اهـ.
ومن علامات تعظيم النصوص الشرعية عدم وجود الحرج عند سماع النص الشرعي ويتأكد هذا عند تطبيقه قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً. فدلت الآية على وجوب الانقياد لحكم الله ظاهراً وباطناً برحابة صدر وطمأنينة نفس.
ومن العلامات أيضا عدم التنطع في البحث عن الحكمة أو العلم والتعمق في ذلك، فتلك الصفة تنافي كمال التسليم والانقياد لله. بل قد يستمرئ صاحبها ذلك فتجره إلى الاعتراض على بعض الأحكام الشرعية إلا حين يعلم الحكمة منها، فالواجب على المسلم الإمساك والتأدب مع مقام التشريع فالله عز وجل لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
ومع هذا لا مانع من السؤال والاستئناس بطلب الحكمة من الحكم الشرعي إن أمكن ظهورها مع الرضا والقبول التام أولاً.
قال شارح الطحاوية رحمه الله: "اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها. بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته ولا جعلت ذلك من شأنها وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك" اهـ.
ومن علامات تعظيم النصوص الشرعية الغضب لله تعالى إذا انتهكت محارم الله ومحاولة التغيير ما استطاع المرء إلى ذلك سبيلاً.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) أخرجه البخاري.
فمتى كان العبد غيوراً على محارم الله مسارعاً إلى إنكارها وإصلاح أهلها كان ذلك دليلاً على تعظيمه للنصوص الشرعية ومراعاة حدودها وآدابها.
ومن علامات تعظيم النصوص الشرعية أن يمسك عما ليس له به علم وأن يحذر من الخوض في ذلك وأن يجعل نصب عينيه قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً.
فالخوض في معاني كلام الله وكلام رسوله دون دراية أو سؤال،من القول على الله بلا علم وهذا من الذنب العظيم فضلاً عما يجره من المفاسد، من ضلال الآخرين وإضلالهم.
وإنه لمن المؤسف أن يجعل كلام الله وكلام رسوله وأحكام الشرع المطهر ميداناً للحوار والنقاش والجدل من أناس ليس لهم حظ من العلم الشرعي وأحياناً من العقل فيحصل في هذه الحوارات من السفه والتأويل والتحريف للنصوص الشرعية مما يضعف تعظيمها والانقياد لها في نفوس من يستمع إلى مثل هذه الحوارات في مجالس الناس أو فيما يبث في الفضائيات فيستسهل الناس الأمر ويتعودوا القول على الله بغير علم، وكأن ما يطرح في الحوار قضية سياسية أو أدبية.
عباد الله: لقد ضرب أصحاب النبي أروع الأمثلة وأصدقها في المبادرة والمساعدة لامتثال أمر الله ورسوله وتعظيم نصوص الشرع والوقوف عندها والغضب عند مخالفتها وانتهاكها. وحرصهم هذا وتعظيمهم ليس مقصوراً على ما كان واجباً فحسب بل تعدى ذلك إلى المستحبات، ويكفيهم شرفاً وفخراً تزكية الله لهم وثناؤه عليهم.
وما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الشأن كثير يصعب حصره فمن ذلك ما ورد عن أبي بكر الصديق إذ لما برأ الله عائشة رضي الله عنها من خبر الإفك قال أبو بكر : (والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، وكان ممن وقع في شأن عائشة، وكان أبو بكر ينفق عليه قبل ذلك، فلما نزل قوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم قال أبو بكر : بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة، وقال والله لا أنزعها أبداً) متفق عليه.
وجاء في شأن عمر الفاروق من ذلك الكثير فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه. فأذن له عمر فلما دخل عليه قال عيينة: هيه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم به فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. وإن هذا من الجاهلين قال ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله.
ومن تعظيم الفاروق لشأن النبي وأمره ما أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن أنه قلع ميزاباً للعباس على ممر الناس فقال له العباس : أشهد أن رسول الله هو الذي وضعه في مكانه، فأقسم عمر : لتصعدن على ظهري ولتضعنه في موضعه.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إن عبد الله بن رواحة أتى النبي وهو يخطب فسمعه يقول: اجلسوا، فجلس ابن رواحة مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي من خطبته، فبلغ ذلك النبي فقال له: ((زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله)) أخرجه البيهقي.
وأمثلة ذلك مما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم كثير جداً، وعلى نهجهم سار أتباعهم ومن تبعهم من أئمة السلف إلى زماننا هذا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى واعلموا أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة في الدين بدعة ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)).
(1/1600)
خطر المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن المعاصي سبب لكل شر وبلاء في الدنيا والآخرة. 2- آثارها السيئة على الأفراد
والجماعات. 3- ثلاثة أمور يعظم الذنب وخطره بسببها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن تقوى الله هي الزاد ليوم الرحيل،وهي وصية الله لعباده أجمعين: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها.
عباد الله: إنه ما من شر وداء في الدنيا والآخرة إلا وسببه الذنوب والمعاصي، تأمل رعاك الله كتاب ربنا سبحانه حين قص علينا ما حل بالأمم السابقة من أنواع العقوبات جزاء معصية الله ومخالفة أمره، تأمل ما الذي أخرج الوالدين من الجنة، دار اللذة والنعيم إلى دار الآلام والأحزان. وتأمل ما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه وبدله بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً، فهان على الله غاية الهوان وحل عليه غضب الرب، فمقته أكبر المقت، كل هذا بمخالفة أمر الله وارتكاب نهيه،وتأمل ما حل بالأمم المخالفة لرسل ربها كيف كان عذاب الله لها أليماً شديداً.
انظر ما حل بقوم نوح من الغرق فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين.
وانظر ما حل بعاد قوم هود حيث سلط عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، وانظر ما حل بقوم صالح عليه السلام حيث أرسل عليهم الصيحة فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وانظر ما حل بقوم لوط حيث قلبت عليهم قراهم وأمطروا حجارة من السماء وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين.
وانظر ما حل بفرعون وقومه حين كذبوا وكذا ما حل ببني إسرائيل، وهكذا تتوالي نذر الله على عباده الذين خالفوا أمره بأنواع العقوبات فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره، فكم أهلك من القرون بسبب عصيانهم وتكذيبهم.
أيها المؤمنون: المعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، فما حلت بديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها، وما هلك من هلك إلا بالذنوب، وما نجا من نجا بعد رحمة الله إلا بالطاعة والتوبة، وإن ما يصيب الناس من ضر وضيق في أبدانهم وذرياتهم وأرزاقهم وأوطانهم إنما هو بسبب معاصيهم وما كسبته أيديهم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
إنه لما طغت الماديات على كثير من الناس وأشربوا حب الدنيا،غفلوا عن إدراك سنن الله الكونية والنظر في آياته الشرعية التي بينت كيف كان حال من قبلهم من الأمم حين خالفوا أمر الله،وغفلوا كذلك عن إدراك أن ما أصابهم وما قد يصيبهم من بلاء وشدة ونقص إنما هو بسبب ذنوبهم، لذا لم يلتفتوا إلى محاسبة النفس وكفها عن غيها فانتشرت بذلك الفواحش وكثرت المنكرات واستبيحت المحرمات لغياب الرقيب وضعف الإيمان في النفوس وقلة الخوف من الله والجهل به سبحانه، فهانوا بذلك على الله ولو عزوا عليه لعصمهم.
عباد الله: إن ضرر المعاصي وشؤمها عظيم وخطير على الفرد والجماعات.
فأما أفراد الناس، فللمعصية أثر ظاهر لمن تأمل وأنار الله بصيرته، دل على ذلك النصوص الشرعية والواقع المشاهد.
فمن هذه الآثار:
- حرمان العلم، فهو نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، قال مالك رحمه الله للشافعي لما رأى فطنته وذكاءه: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية".
- ومن الآثار حرمان الرزق كما في الأثر: ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) أحمد.
- ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه، بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وكلما قويت هذه الوحشة بعد عن مجالسة أهل الخير وقرب من حزب الشيطان وأهله.
- ومنها تعسير الأمور فكما أن من يتق الله يجعل له من أمره يسراً فبخلافه من عصى الله.
- ومنها ظلمة يجدها العاصي في قلبه تقوى هذه الظلمة حتى تظهر على الوجه يراها كل أحد قال ابن عباس : (إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر والقلب).
- ومنها حرمان الطاعة.
- ومنها أن المعصية تورث الذل، فأبى الله إلا أن يذل من عصاه من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً.
- ومنها سوء الخاتمة، فإن العبد قد تخونه جوارحه أحوج ما يكون إليها، وأعظم من ذلك أن يخونه قلبه ولسانه عند احتضاره وقرب وفاته.
وأما آثار الذنوب والمعاصي على الأمة بأجمعها فكثيرة جداً قال تعالى: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.
- ومن هذه الآثار أن الذنوب تزيل النعم بمختلف أنواعها وتحل النقم والمحن قال تعالى: وضرب الله مثلاُ قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
فكم أزالت الذنوب والمعاصي حين تنتشر في الأمة من الأموال والأرزاق والأمن والعافية.
ومن ذلك حبس القطر من السماء قال : ((ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)). بل إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم إذا أمسك المطر.
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي قتادة أنه مُر على النبي بجنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه)) قالوا: يا رسول الله ما المستريح؟ وما المستريح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)).
قال تعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم.
أيها المؤمنون: إن أثر الذنوب وخطرها ليعظم في حق المذنب وفي حق عموم الأمة حيث يقترن هذا الذنب بأمور،نذكر ثلاثة منها.
أولاً: الاستهانة بالمعصية وعدم استعظام الذنب، فإنه بقدر ما يصغر الذنب عند العاصي بقدر ما يعظم عند الله، قال ابن القيم رحمه الله: "فاستقلال العبد للمعصية عين الجرأة على الله وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه" نعم لأنه إذا استصغر المعصية هان أمرها وخفت على قلبه ولم يجد حرجاً الاستزادة منها.
إن استعظام الذنوب يولد عند صاحب الذنب الاستغفار والندم والتوبة، أما أولئك الذين يحتقرون الذنوب فإنهم وإن عزموا على التوبة كانت العزيمة باردة، لأن داعي التوبة ضعيف.
روى البخاري عن أنس قوله لأهل زمانه الذين هم من خير القرون: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات).
وجاء عن حذيفة قال: (إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد النبي فيصير بها منافقاً وإني لأسمعها من أحدكم في المجلس الواحد أربع مرات).
وإن المسلم ليتساءل ماذا عسى هؤلاء أن يقولوا لو رأوا ما نحن فيه.
قال ابن مسعود مصوراً حال المؤمن وحال الفاجر: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فطار).
قال المحب الطبري رحمه الله: "وإنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته وسخطه،والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قل خوفه من الله واستهان بالمعصية.
أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه).
ثانياً: مما يعظم به أثر الذنوب وخطرها على الأمة المجاهرة بها وإعلانها.
إن المجاهرة بالمعصية إثم كبير ووزر عظيم يترفع عنه المؤمنون بالله تعظيماً له وإجلالا وخوفاً منه ورهبة، وطلباً للعفو والستر والمغفرة في الدنيا والآخرة، ولا يقدم على المجاهرة بالمعصية إلا كل جهول ضال عن سواء السبيل، لا يعرف لله قدراً قد خف خوف الله والحياء منه من قلبه.
ولقد ذم الله الأمم الخالية ممن جاهر بالعصيان وأمن مكر الله، فأخذهم الله على غرة وهم في غيهم يعمهون وهكذا سنة الله فيمن عصاه، فإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [طه:128].
تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. قال بعض السلف بغت القومَ أمرُ الله، وما أخذ الله قوماً إلا عند سلوتهم ونعمتهم وعزتهم فلا تغتروا بالله.
قال : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) متفق عليه.
وإن المجاهرة بالمعصية تغري الغافل ومن في قلبه مرض على مجاراة العاصي وتقليده في معصيته، فيكون قد جمع إلى معصيته معصية أخرى وهي الدلالة على الضلالة فيكون عليها وزرها ووزر من عمل بها.
ثالثاً: مما يعظم به خطر الذنوب على المجتمع عدم الإنكار على أهل الذنوب والمعاصي، بل قد يتطرق ذلك إلى مجالستهم ومشاركتهم بالسكوت عنهم، وهذا من أسباب عموم العذاب واللعنة قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
ثم إن النجاة حين ينزل العذاب تكون للمصلحين فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.
والمتأمل في كتاب الله وسنة رسوله يجد أن سنة الله في هذا جلية واضحة فإن الله قد نجى رسله أجمعين لما نزل العذاب والعقاب. فإن الله يعذب من عصاه ومن سكت، وهو قادر على الإنكار كما جاء في الحديث.
عن أبي بكر قال سمعنا رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) وإني سمعت رسول الله يقول: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) أبو داود وابن ماجه.
إن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لحفظ المجتمع وصلاحه وفلاحه،وترك ذلك سبب في هلاكه وفساده كما شبه ذلك النبي بالسفينة حيث يتهاون أهلها في ردع من يريد خرقها لأنهم سيغرقون جميعاً، وإن أخذوا على يده ومنعوه نجو جميعاً، فأصحاب المنكرات اليوم يدقون بمعاولهم في مجتمع المسلمين، فالزاني وتارك الصلاة ومانع الزكاة والمستهزئ بالدين ودعاة السفور والفجور وشياطين القنوات وآكل الربا وآكل أموال الناس بالباطل وأصحاب الرشاوي وغيرهم كثير، كل هؤلاء ينخرون في سفينة المجتمع، فإن لم يمنعوا وينكر عليهم صار العذاب عاماً والعقوبة مطبقة.
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : ((نعم إذا كثر الخبث)).
وما أحسن ما قال الإمام الشوكاني رحمه الله: "اعلم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما من أعظم عُمُد الدين لأن بهما حصول مصالح الدنيا والآخرة فإن كانا قائمين قام بقيامهما سائر الأعمدة الدينية والدنيوية. أما إذا كان هذان الركنان العظيمان غير قائمين إلا قياماً صورياً لا حقيقياً فيالك من بدع تظهر،ومن منكرات تستبين، ومن معروف يستخفي ومن جولان العصاة وأهل البدع تقوى وترتفع، ومن ظلمات بعضها فوق بعض تظهر في الناس، ومن هرج ومرج في العباد يبرز للعيان وتقرّ به عين الشيطان، عند ذلك يكون المؤمن كالشاة العائرة، والعاصي كالذئب المفترس، وهذا بلا شك ولا ريب يمحو رسوم هذا الدين، وحينئذ يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً ويعود الدين غريباً كما بدأ".اهـ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1601)
وقفات مع العبودية
التوحيد
الألوهية
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الله تعالى خلق الخلق وأرسل الرسل لتحقيق العبودية له سبحانه. 2- بعض الأمور
المهمة في العبودية. 3- شرطي قبول العمل. 4- بعض شوائب العبودية. 5- التحذير عداوة
إبليس للإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله عز وجل خلق الخلق لغاية عظيمة هي أشرف الغايات وأولاها بالاهتمام ومن أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب، وإلى هذه الغاية دعا جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم فقال نوح لقومه: اعبدوا الله مالكم من إله غيره وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم قال الله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال سبحانه: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.
وقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إنها العبودية لله فهي الغاية التي لا يدانيها في الشرف غاية، ولذا لا عجب أن جعلها الله وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه وأعلاهم عنده منزلة في العبودية فقال سبحانه: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً. سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً.
وقال سبحانه: لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً.
ولما كانت العبودية لله بهذه المنزلة كان لزاماً على كل عبدٍ لله أن يتفقد حاله هل هو ممن تنبه لعبادة ربه مراقب له في حركاته وسكناته يستشعر معنى العبودية لله في كل ما يأتي ويذر أم هو ممن ألهاه معاشه وطلب رزقه عن غاية خلقه ومقصود وجوده.
ولعل الناظر في حال الناس اليوم يلحظ خللاً ظاهراً في جانب العبودية لله عز وجل وغفلة عما من أجله خلقوا، ولذا لا عجب أن نرى آثار هذا الخلل في العبودية لله عز وجل ظاهرة في عبادات بعض الناس ومعاملاتهم وفي انتشار صور من المنكرات لا يزيدها الوقت وطول الزمن إلا استفحالاً وتشكلاً.
ولعلنا نقف بعض الوقفات مع العبودية لا تفي بالمقصود كله، وإنما هي إشارات وتنبيهات الوقفة الأولى / اعلم رحمك الله أن العبودية لله تقوم على أصلين عظيمين لا تصلح إلا بهما ألا وهما الإخلاص لله والمتابعة لرسوله قال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
ولذا فالناس منقسمون في العبودية بحسب هذين الأصلين إلى أربعة أقسام.
القسم الأول: أهل الإخلاص والمتابعة فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكوراً ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هرباً من ذمهم، وكذلك أعمالهم كلها موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه.
القسم الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقاً لشرع، وليس هو خالصاً للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل، وهذا القسم يكثر فيمن انحرف من العلماء والعباد عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص فهم أهل الغضب والضلال.
القسم الثالث: من هو مخلص في أعماله لكنها على غير ما شرع الله وشرع رسوله كجهال العباد والمنتسبين إلى الزهد.
القسم الرابع: من أعماله وفق ما شرع الله لكنها لغير الله كطاعة المرائين فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير خالصة فلا تقبل.
الوقفة الثانية / في تهذيب العبودية والقصد من الشوائب التي قد تشوبها، فإن العبد وإن لم يكن مراقباً لنفسه متيقظاً لما قد يتسلل إليها من شوائب العبودية فإنه ولابد مع مرور الزمن يغلب ويران على قلبه.
ومن هذه الشوائب وأعظمها الشرك بالله بأنواعه الكبير والصغير والخفي.
فالشرك بالله يهدم أصل العبودية وأساسها الذي لا يبقى بعده شيء ولا ينفع بدونه عمل قال تعالى: لئن أشركت ليحبطن عملك.
والرياء أو الشرك الخفي قد يكثر عند بعض الموحدين، ولذا خافه النبي على أصحابه حيث قال: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) فسئل عنه فقال: ((الرياء)) الحديث أخرجه أحمد وحسنه ابن حجر، فإن كان هذا في حق من هم أكمل الناس إيماناً فما الظن بمن دونهم.
- ومن الشوائب أيضاً الجهل، قال ابن القيم رحمه الله: إن الجهالة متى خالطت العبودية أوردها العبد غير موردها ووضعها في غير موضعها وفعل أفعالاً يعتقد أنها صلاح وهي إفساد لعبوديته. اهـ.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: إن الباب الأعظم الذي يدخل منه ابليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، وقد قال الربيع بن خيثم: تفقه ثم اعتزل.
- ومن الشوائب التي تصيب العبودية العادة، فالعادة إذا مازجت العبودية وصاحبتها وألفت النفس هذه العبادة أصبحت تطلبها وتأنس لها، فيعتقد صاحبها أن ذلك قربة وطاعة وأنه محض العبودية، وما درى أن ذلك إنما هو إلف النفس وشهوتها، وعلامة هذا أنه إذا عرض على نفسه طاعة دون ذلك وأيسر منه وأتم مصلحة لم تؤثرها على ما اعتادته وألفته.
فالواجب على العبد أن يعبد الله على مقتضى أمره لا على ما تراه نفسه ولا يكون الباعث له العادة.
ولا شك أن العبادة متى ما أصبحت عادة لا روح فيها ولا استشعار للعبودية فإنها تفقد نورها وأثرها في تزكية النفس كما قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. فالصلاة التي أمر الله بإقامتها كما شرع هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر لا الصلاة التي تؤدى بحركات اعتيادية لا خشوع فيها ولا تدبر.
الوقفة الثالثة / في مراقبة العمل يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن العابدين أناس توفرت هممهم على استكثارهم من الحسنات دون مطالعة عيب النفس والعمل والتفتيش على دسائسها، ويحملهم على استكثارها رؤيتها والإعجاب بها، ولو تفرغوا لتفتيشها ومحاسبة النفس عليها لشغلهم ذلك عن استكثارها، ولأجل هذا كان عمل العابد القليل المراقبة لعمله خفيفاً عليه فيستكثر منه ويصير بمنزلة العادة، فإذا أخذ نفسه بتخليصها من الشوائب وتنقيتها من الكدر وجد لعمله ثقلاً كالجبال، وقل في عينه، ولكن إذا وجد حلاوته سهل عليه حمل أثقاله والقيام بأعبائه والتلذذ والتنعم به مع ثقله.
وإذا أردت فهم هذا القدر كما ينبغي فانظر وقت أخذك في القراءة، إذا أعرضت عن تدبرها وتعقلها وفهم ما أريد بكل آية والتقيد بها كيف تدرك الختمة بسهولة وخفة مستكثراً من القراءة.
لكن إذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد والتعبد به وتنزيل دوائه على أدواء قلبك والاستشفاء به فإنك لا تكاد تجاوز السورة والآية إلى غيرها.
وكذلك إذا جمعت قلبك كله على ركعتين أعطيتهما ما تقدر عليه من الحضور والخشوع والمراقبة لم تكد أن تصلي غيرهما إلا بجهد، فإذا خلا القلب من ذلك صليت عدداً من الركعات بلا حساب.فالاستكثار من الطاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها دليل على قلة الفقه، وقد يرى فاعلها أن له حقاً على الله في مجازاته على تلك الحسنات بالجنات والنعيم والرضوان، ولهذا كثرت في عينه مع غفلته عن أعماله لا يدري أنه لن ينجو أحد البتة من النار بعمله إلا بعفو الله ورحمته، ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح من غير حضور ولا مراقبة ولا إقبال على الله قليل المنفعة دنيا وأخرى". انتهى كلامه رحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإنه مما ينبغي على العبد مراعاة والانتباه له في باب العبودية لله التحرز من العدو اللدود إبليس الذي لم ييأس من صرف العبد عن عبوديته لربه وتلبيسه عليه في عباداته ومحاولة إيقاعه في عقبات بعضها أصعب من بعض لا ينزل من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.
فأول ما يبدأ به من هذه العقبات عقبة الكفر بالله وبدينه ولقائه وبما أخبرت به رسله.
فإن نجا منها انتقل به إلى عقبة البدعة، فإن نجا انتقل به إلى عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء، فإن نجا منها بتوبة نصوح طلبه عن عقبة الصغائر، وهكذا يتدرج به الشيطان لعله يوقعه في عقبة من هذه العقبات كي تعيقه عن السير إلى ربه ومعبوده.
فإذا نجا مما سبق لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وهي عقبة تسليط جند الشيطان على المؤمن بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جدّ في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في معاداته وإغواء جنده به قال ابن القيم رحمه الله: فهذه عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه منها قوله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة. فمن تعبد لله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة، وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول، وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح، فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1602)
تحقيق التقوى في صيام رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصوم ومكانته. 2- فضل شهر رمضان وحال السلف فيه. 3- حال الناس هذه الأيام
في رمضان. 4- الحكمة من مشروعية صوم رمضان هي تحقيق التقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: قد أظلنا شهر الرحمات والبركات شهر الطاعات والصدقات، شهر يجازي فيه الله على القليل بالكثير، ويضاعف فيه الحسنات شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
قال : ((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين،لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حرم)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)).
وقال : ((ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)).
وقال : ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)). أي أن أجره عظيم تكفل الله به لعباده الصائمين المخلصين.
عباد الله: شهر رمضان عند سلفنا الصالح ليس شهر النوم والبطالة والبدانة، إنه شهر عظيم عرفوا قدره ومكانته وعلموا أن من حرم الخير والرحمة فيه فهو المحروم حقاً.
شهر رمضان عندهم هو شهر الجد والنشاط والاستعداد للدار الآخرة، فشهر رمضان عندهم هو شهر جميع الطاعات، فهو شهر الصلاة والقيام حيث كانوا يحيون ليله كله قياماً وتهجداً، وهو شهر القرآن حيث كانوا يختمون في كل يوم مرة أو مرتين، فكان لبعضهم في رمضان ستون ختمة، وهو شهر الصدقات حيث كانوا يطعمون الطعام ويفطرون الصوام،ورمضان عندهم هو شهر الجهاد حيث وقعت فيه أعظم فتوحات الإسلام، فيه معركة الفرقان الكبرى معركة بدر التي فرق الله فيها بين التوحيد والشرك،وفي رمضان كذلك كان الفتح الأعظم فتح مكة الذي فيه أزهق الباطق وهدمت قلاعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
إذاً شهر رمضان عند أسلافنا ليس شهر النوم والكسل والعبث بل شهر ملؤوا ساعاته ولياليه بالطاعات والعبرات والبكاء والانطراح بين يدي الله يرجون رحمته ومغفرته. إذا كان هذا حالهم في رمضان فما هي حالنا في رمضان كيف هو حال الأمة يدخل عليها هذا الشهر الكريم هل استعدت للقائه؟ هل عزمت على استثماره واغتنامه؟ هل أعطته حقه من التكريم والتعظيم؟نعم قد استعد سفهاء هذه الأمة لهذا الشهر الكريم بقنواتهم الفضائية وبرامجهم التي يصدون بها عن دين الله عز وجل. نعم قد استعدت الأمة بأسواقها لتلقي أفواج الناس الذين تمتلئ بهم الأسواق أضعاف ما يكون في صلاة التراويح، قد استعدت الأمة لإعداد أصناف المأكولات بخاصة برمضان، بل إنك لتعجب أن يأخذ الطعام في رمضان من الهم والوقت والجهد أكثر مما تأخذه العبادة عند كثير من الناس، وبالأخص النساء.
إن حال الأمة في استقبالها لهذا الشهر حال يرثى له فصنف منها يستثقل هذا الشهر وقدومه لأنه سيفقد فيه ما اعتاده من الشهوات المباحة وغير المباحة في النهار، ولذا لو تسنى له السفر عن بلاد المسلمين لسافر وتخفف من هذا الشهر وتكاليفه، فتجده يقضي نهاره كله بالنوم وتضييع الصلوات، وليله بالسهر والعبث، وصنف آخر من هذه الأمة لا يستثقل هذا الشهر الكريم لكنه أيضاً لم يستعد له بالقيام وتلاوة القرآن وبذل المعروف، فمثل هذا قد استعد ببطنه وجسمه لا بروحه وقلبه.
وصنف آخر من هذه الأمة أولو بقية قد استقبلوا هذا الشهر الكريم بالفرح والاستبشار وحمد الله أن بلغهم رمضان،قد عقدوا العزم على اغتنام نهاره ولياليه بالطاعات والقربات والبعد عن المحرمات قد امتلأت بمثل هؤلاء المساجد وخلت منهم الأسواق، فهؤلاء هم صلة السلف الذين عرفوا لهذا الشهر قدره ومنزلته، فعمروه بطاعة الله وطلب رضوانه.
أيها المؤمنون: هذه وقفتان نقفهما عند آية وحديث.
الوقفة الأولى: عند قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون فهذه الآية دلت على أن الغاية الكبرى من هذا الصيام هو حصول تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالصائم الذي لم يحقق تقوى الله في صيامه قد خسر الثمرة من هذا الصيام الذي لم يشرعه الله لمجرد الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) والمعنى من لم يترك الكذب والميل عن الحق.
إذاً هل حقق التقوى من يدخل عليه الشهر الكريم ويخرج ولم يحرك فيه ساكناً، فصلاته مضيعة، ومنكراته مستمرة، فإن لم يزده رمضان بعداً عن الله فلم يزده قرباً. أم هل حقق التقوى ونال ثمرة الصيام من حافظ على الصلوات وتصدق وقرأ القرآن وتخفف من المنكرات لكنه ما إن يهلَّ شهر شوال حتى يعود كما كان في شعبان.
وهل حقق التقوى من يصوم ويصلي ويقرأ القرآن لكنه لا يتورع عن تضييع ليالي هذا الشهر الكريم في جلسات وسهرات منكرة قد امتلأت بالغيبة والمشاهد المحرمة.
الوقفة الثانية: عند قوله : ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)).
ومعنى قوله: ((إيماناً واحتساباً)) أي مصدقاً بوجوبه راغباً في ثوابه طيبة به نفسه غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه.
ولا نعجب أيها المؤمنون ممن يصوم ويصلي مع الناس ومع ذلك لا نجد أثراً للصيام في أعماله وتصرفاته بل يوم صومه وفطره سواء، وسر ذلك أن كثيراً من الناس يصومون ويصلون التراويح مع الناس، لكن فعلهم هذا قد غلبت فيه العادة نية العباد، ولذلك لا نجد للصيام والقيام أثراً في حياتهم قال جابر : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليكم وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء).
فإذاً قوله في صيام رمضان وقيامه وقيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً هو سبب حصول ثمرة الصيام، وهو غفران الذنوب وحصول الرضى من الله. وأما من صام لأن الناس يصومون وقام لأن الناس يقومون غافلاً عن إصلاح النية واحتساب الأجر على الله، فهذا قد خسر الخسران المبين.
أيها المؤمنون: هذا الشهر الكريم قد هل علينا وما أسرع ما تنقضي أيامه ولياليه، وصدق الله إذ يقول عن هذا الشهر أياماً معدودات. فبادروا فيه بالأعمال الصالحة والتوبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، فهو فرصة للتوبة والدعاء والعتق من النيران، فمن لم يتب فيه فمتى يتوب؟ ومن لم يدع فيه المعصية ولم يستجب له فمتى يدع؟ ومن لم يعتق من فيه من النار فقد خسر أعظم الخسارة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: تستقبل الأمة الإسلامية شهر رمضان الكريم بجراحها وآلامها، فكم لها في بقاع الأرض من جريح وصريع وشريد، فأمتنا بحاجة لأن يلتفت إلى جراحها وآلامها المخلصون من أبنائها، وبالأخص من أنعم الله عليهم بالمال والسعة في الرزق، فتذكروا أيها المؤمنون في هذا الشهر الكريم وفي هذا الشتاء البارد إخواناً لكم قد ألمّت بهم مصائب الحروب والمجاعات والفقر، لا يجدون الطعام واللباس والمأوى، في حين أنك في بيتك آمن دافئ طاعم كاسي، فوالله لتسألن عن هذا النعيم.
عباد الله: أبشروا بموعود الله، فربنا غفور رحيم يقبل التوبة من عباده ويغفر الذنب العظيم ويجازي على العمل اليسير بالأجر العظيم، قد أعد جنة عرضها السماوات والأرض، فتحت أبوابها في هذا الشهر الكريم وجرت أنهارها وتزينت حورها واكتمل نعيمها وأعدت للمتقين.
اللهم أعنا على صيام رمضان وقيامه وتقبله منا يا أرحم الراحمين.
عباد الله صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه..
(1/1603)
أهمية التوحيد والتنبيه لبعض القضايا فيه
التوحيد
أهمية التوحيد
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد وخطر الشرك. 2- أن جميع الرسل إنما أرسلوا لدعوة إلى التوحيد. 3-
فضل التوحيد وثمراته. 4- أصناف الناس بالنسبة للتوحيد والعمل به. 5- بعض التنبيهات
المتعلقة بالتوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وصيته للأولين والآخرين، ومن أعظم ما يتقى الله به إقامة التوحيد واجتناب الشرك، فالتوحيد أعظم الطاعات وأجلها عند الله، وأهله هم أهل الله وخاصته وأحسن الناس مقاماً عنده،والشرك هو أقبح ذنب عصي الله به وأخزى الذنوب وأسوأها مآلاً يوم القيامة وأهله هم أبعد الناس من الله منزلة يوم القيامة.
والتوحيد هو عمود الإسلام ورايته، وهو لب الرسالات السماوية كلها، ولقد كان الناس منذ آدم عليه السلام أول الأنبياء على التوحيد عشرة قرون حتى حدث الشرك في قوم نوح فأرسله الله إليهم، وهكذا توالت من بعده الرسل في إقامة صرح التوحيد في أممهم فما من رسول إلا وينذر قومه ويحذرهم الشرك بالله ويدعوهم إلى التوحيد لأنهم عليهم الصلاة والسلام علموا أنه لا يصلح عمل مهما كان كثيراً إلا بالتوحيد ولن يصل أحدٌ إلى رضى الله ورضوانه إلا بالتوحيد.
ولقد بعث نبينا محمد خاتم الأنبياء والرسل، فكان أول ما دعى إليه التوحيد، وأول ما حذر منه الشرك بالله.
فالتوحيد - عباد الله - أساس الدين وعموده الذي لا يقوم إلا به، ولما له من هذه المكانة العظيمة كانت ثمراته جليلة، ومما يدعو إلى معرفة مكانة التوحيد وتعظيمه في القلوب هو التعرف إلى ثمرته وفضائله.
فمن فضائله وأعظمها أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه وأن أسعد الناس بشفاعة محمد من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوى التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وسمت، ومن فضائله أيضاً أنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
ومن فضائله أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة.
ومنها أيضاً أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه نفسه من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه.
ومن أعظم فضائله أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألها لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمله كثيراً وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، وترجح كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض.
ومن فضائله أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا ويمن عليهم بعد ذلك بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره، وشواهد هذه الفضائل في الكتاب والسنة كثيرة معروفة.
عباد الله: إن أمراً هذا شأنه وهذه ثمراته وفضائله وهذا عظيم خطره لحري بالعبد المسلم أن يحرص على التمسك به والسؤال عنه وتعلمه وتعليمه والدعوة إليه.
والناس في شأن التوحيد أصناف وطوائف، فطائفة قامت بالتوحيد وأعلت شأنه في نفوسها وأقامت به جميع أعمالها وخلصته من جميع الشوائب وتعلمته ودعت إليه، فهؤلاء هم الطائفة المنصورة.
وطائفة أخرى من أهل التوحيد والإسلام لكنها خلطت توحيدها بشوائب تخل به وتنفي كماله كما قال تعالى: خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً وسبب هذا الخلط هو قلة الاهتمام به تعلماً وتعليماً ودعوة.
وطائفة ثالثة: كثيرون ابتلوا بالجهل بالتوحيد فضاعت عندهم حدوده ورسومه وانصرفت قلوبهم إلى أصحاب القبور يدعونهم من دون الله ويستغيثون بهم ويتضرعون أمام عتباتهم بل ويطوفون بها ويقربون إليها القرابين والنذور فألهتهم زخارف القبور عن تدبر معاني آيات التوحيد.
ومن هذه الطائفة من ضيع التوحيد أمام أبواب السحرة والمشعوذين والكهان يسألهم غيباً تفرد الله بعلمه أو شفاءً ولا شافي إلا الله. إلا غير ذلك من أنواع الشرك الذي وقعت فيه هذه الطائفة بسبب جهلها وبعدها عن الله، ومن سمات هذه الطائفة أنها تجهد في البدعة وتكسل عن السنة إن لم تحاربها. عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية.
عباد الله: ومما ينبغي التنبيه له في هذا المقام عدة أمور منها:
أولاً: إن الشرك لا يقع في الموحدين إلا تدرجاً كما أوقع إبليس قوم نوح في الشرك في الصحيح عن ابن عباس في قول الله تعالى: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت.
ثانياً: مما ينبغي التنبيه له أن الجهل بالتوحيد وعدم تعلمه وتعليمه يؤدي بصاحبه إلى الوقوع في الشرك صغيره وكبيره، ومما يصرف كثيراً من الناس عن تعلم التوحيد والاهتمام به عدم معرفة فضله وشأنه وحصرهم للشرك في صور قد لا تكون موجودة في مجتمعهم كعبادة الأوثان والأصنام كما في الجاهلية الأولى وظنهم أن الشرك انتهى ببعثة النبي وأنه لن يقع في هذه الأمة، وهذا خلاف ما أخبر به النبي.
ثالثاً:مما ينبغي التنبه له أن التوحيد لا ينحصر في صور يظنها بعض الناس أنها هي التوحيد فقط وما عداها ليست من التوحيد كإفراد الله بالدعاء والاستغاثة والحلف به والاستعاذة به ولا شك أن هذه من أهم التوحيد إلا أن هناك صوراً أخرى غفل عنها كثير من الناس فنقص بسبب غفلتهم عنها توحيدهم، فمن هذه المسائل التي أخل بها كثير من الناس مسألة الولاء والبراء. يقول الله تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
ويقول تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده.
وانظر إلى حال الناس اليوم ترى عجباً كيف هي مقاييس المحبة والبغضاء والعداوة والولاء عندهم كما قال ابن عباس: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي عن أهله شيئاً".
ومن مسائل التوحيد أيضاً التي غفل عنها كثير من الناس إما لجهلهم بها وإما لظنهم أنها ليست من التوحيد مسألة الأمن من مكر الله يقول الله تعالى: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وعن ابن عباس أن رسول الله سئل عن الكبائر فقال: ((الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)).
يقول ابن سعدي رحمه الله: وللأمن من مكر الله سببان مهلكان أحدهما إعراض العبد عن الدين وغفلته عن معرفة ربه وماله من الحقوق وتهاونه بذلك، فلا يزال معرضاً غافلاً مقصراً عن الواجبات منهمكاً في المحرمات حتى يضمحل خوف الله من قلبه ولا يبقى في قلبه من الإيمان شيء.
السبب الثاني: أن يكون العبد عابداً جاهلاً معجباً بنفسه مغروراً بعمله فلا يزال به جهله حتى يدل بعمله ويزول الخوف عنه ويرى أن له عند الله المقامات العالية فيصير آمناً من مكر الله متكلاً على نفسه الضعيفة المهينة، ومن هنا يخذل ويحال بينه وبين التوفيق إذ هو الذي جنى على نفسه. انتهى كلامه يرحمه الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن مسائل التوحيد المهمة التي غفل عنها كثير من الناس حسن الظن بالله.
يقول الله تعالى: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله.
ويقول تعالى: الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء.
وفي الحديث القدسي المتفق عليه قال الله تعالى: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني)).
وأخرج مسلم عن جابر أنه سمع النبي قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله عز وجل)).
يقول ابن القيم رحمه الله وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم فقلَّ من يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وهو موجب حكمته وحمده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله تعالى ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء. انتهى كلامه.
فكم من إنسان حين يرى صولة الباطل وجولته وضعف الحق يظن دوام علو الباطل واضمحلال الحق، ولاشك أن هذا ظن السوء بالله حيث لا يليق ذلك بجلاله وكماله وصفاته. وحكمته وعزته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المعاندين له فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته.
وكم من إنسان أيضاً حين يشتد عليه المرض والألم أو الفقر والحاجة أو غيرها من كرب الدنيا يظن بالله ظن السوء أن لا يغير الله ما به من شدة وأن لا يفرج ما به من كربة، وهذا لا شك من قوادح التوحيد التي تخل به وتنقصه.
وانظر لحالك كيف لو أسيء الظن بك كيف تغضب وتنكر ذلك وأنت أهل لكل نقص فكيف يحسن بك أن تسيء الظن بربك وهو أهل لكل صفات الكمال والجلال.
ومسائل التوحيد التي ينبغي التنبيه والتنبه لها كثيرة فحري بالعبد المسلم الذي يرجو الله والدار الآخرة أن يعتني بهذا الأمر العظيم الذي من أجلها خلقنا، وعنه سنسئل في القبور ويوم العرض والنشور.
ثم اعلموا عباد الله أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.
وصلوا وسلموا على الهادي البشير كما أمركم بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1604)
حسن الظن بالله والتحذير من سوء الظن به سبحانه
الإيمان
الله عز وجل
فهد بن عبد الرحمن العبيان
الرياض
30/12/1419
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية حسن الظن بالله. 2- الفهم الخاطئ لحسن الظن بالله عند بعض الناس. 3- آثار حسن
الظن بالله على المؤمن في حياته وبعد مماته. 4- صور من صور سوء الظن بالله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن من مسائل التوحيد المهمة والتي يغفل عنها كثير من الناس بل حتى بعض من لهم حظ من العلم مسألة حسن الظن بالله، وقد بوب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على هذه المسألة في كتاب التوحيد منبهاً بها على وجوب حسن الظن بالله لأن ذلك من واجبات التوحيد، ولذلك ذم الله من أساء الظن به، لأن حسن الظن به مبني على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة التوكل عليه، فإذا تم العلم بكل هذا أثمر حسن الظن بالله سبحانه.
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني)) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن جابر قال: سمعت رسول الله قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله عز وجل)) أخرجه مسلم.
وعن الترمذي: ((حسن الظن بالله من حسن العبادة)).
ومما يجلي أهمية هذا الأمر واقع الناس وحالهم مع حسن الظن بالله، فمن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي متناسياً ما توعد الله به من وقع في ما يسخطه ويغضبه، غافلاً عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور.
قال ابن القيم رحمه الله: "ولا ريب أن حسن الظن إنما يكون مع الإحسان، فإن المحسن أحسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه وأن لا يخلف وعده وأن يقبل توبته، وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فإن وحشة المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حسن الظن بربه" اهـ.
وفي مقابل هذا الصنف من الناس صنف آخر على النقيض ساء ظنه بربه فاعتقد خلاف مقتضى أسمائه وصفاته، فوقع فيما وقع فيه الكفار والمنافقون الذين ظنوا بالله غير الحق ظن الجاهلية.
قال ابن القيم رحمه الله في وصفه لحال هذا الصنف من الناس: "فأكثر الخلق بل كلهم إلا ما شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحق ونفسه تشهد عليه وإن كان لسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها. ولو فتشت من فتشته لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر". اهـ.
أيها المؤمنون: إن لحسن الظن بالله أثراً في حياة المؤمن وبعد مماته، فأما في حياته فإن المؤمن حين يحسن الظن بربه لا يزال قلبه مطمئناً ونفسه آمنة راضية بقضاء الله وقدره، يتوقع الخير منه سبحانه دائماً في حال السراء والضراء.
كما أن من أحسن الظن بربه فأيقن صدق وعده وتمام أمره وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين اجتهد نفسه في العمل لهذا الدين والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بماله ونفسه، يقدم إقدام الواثق بنصر الله وموعوده لا يصدفه عن ذلك تسلط الكافرين وتخاذل المسلمين وضعفهم وهوانهم.
وأما بعد الممات فإن لحسن الظن أثراً في مغفرة الذنب وقبول التوبة، ولذا أوصى به النبي عند الموت.
فمن ظن أن الله يغفر له ويتوب عليه فإن الله يكون عند ظن عبده به ولا يخيب رجاءه فيه.
ولذا عني السلف بهذا الأمر أشد الاعتناء، فكانوا أحرص الناس عليه وأكثرهم دعوة إليه وحثاً عليه، قال ابن مسعود : (والذي لا إله إلا غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله ظنه، ذلك بأن الخير بيده).
وكان سعيد بن جبير رحمه الله يدعو: "اللهم إني أسألك صدق التوكل عليه وحسن الظن بك".
أيها المؤمنون: وكما أن حسن الظن بالله سمة المؤمنين في حياتهم تطمئن به قلوبهم، فإن سوء الظن بالله أو ظن ما لا يليق به سبحانه هو صفة المنافقين والمشركين قال الله تعالى: ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء.
ولو تأمل المتأمل في أحوال كثيرٍ من الناس لظهرت له صور وأحوال من الظن السيء بالله لا تخطر لهم على بال.
فمن ظن بالله أنه إذا تضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء، فكم من الناس يدعو ويتضرع وفي نفسه أن لا يستجاب له أقرب من أن يستجيب الله دعاءه وإن كان لا ينطبق بذلك لسانه.
ومن ظن بالله أنه إذا ترك شيئاً لأجله طلباً لرضاه لم يعوضه الله خيراً فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه ينال ما عنده من النعيم والرحمة والغفران بمعصيته ومخالفته كما ينال ذلك بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به خلاف حكمته وهو من ظن السوء.
وكم من الناس ممن استهان بمحارم الله ولم يقم لها وزناً قد أسرف على نفسه بالمعاصي،حين يكلم في ترك ما حرم الله والقيام بأمر الله يتعلق بأحاديث من الرجاء يجعلها حاجزاً له عن التوبة دافعة له في الانهماك في معصية الله، وما علم المسكين أن هذا من الاغترار والأمن من مكر الله.
ومن ظن أن الله يعذب أولياءه مع إخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه أو أنه يترك خلقه سدى بلا أمر ولا نهي أو أن لا يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب أو ظن أن الله يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه على وفق أمره، من ظن ذلك كله فقد ظن به ظن السوء.
هذه صور من الظن السيء فيما يخص العبد نفسه وهناك ظن سيء فيما يخص غيره.
فكم من الناس يظن أن لن ينتصر هذا الدين ولن يتم أمره أو يظن أنه لا يؤيد الله حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم، ويظن كذلك أن الله يجعل الغلبة للباطل وأهله على الحق وأهله غلبة ظاهرة دائمة لا تقوم للحق بعده قائمة.
وكل هذا من ظن السوء بالله، وهو خلاف ما يليق بكماله سبحانه وجلاله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلاهيته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، فمن ظن به ذلك فما عرف الله ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله، وقد دعا هؤلاء إلى مثل هذا الظن السيء بالله ما يشاهدونه من المحن والمآسي التي تصيب المسلمين في الشرق والغرب فما إن تنفرج محنة حتى تقوم أخرى فيستبطئ هؤلاء الفرج ويغفلون عن أسباب النصر والتمكين إضافة إلى ما بهر عقولهم من قوة العدو ومكره غافلين عن قوة الله وعظمته ومكره بأعدائه.
ولو تأمل هؤلاء التاريخ لظهر لهم مثل هذه الابتلاءات التي حلت بالمسلمين لحكمة أرادها الله ثم أعقبها الله بالنصر والتمكين لأوليائه حين حصل المقصود من البلاء، فهذه غزوة أحد قد حصل فيها الابتلاء للمؤمنين، وبين ظهرانيهم رسول الله كسرت رباعيته وشج رأسه وقتل كوكبة من أصحابه وفر بعضهم حينها ظن المنافقون بالله ظن السوء. وكل هذا لحكمة أرادها الله، فكان من حكمة هذا التقدير والابتلاء أن تميز صف المؤمنين وظهر المنافقون وتكلموا بما في نفوسهم،فلله كم من حكمة في هذا الحدث العظيم وكم فيها من تحذير وتخويف وإرشاد وتنبيه وتعريف بأسباب الخير والشر، وكل هذا قد حكاه الله في كتابه فكان أول الأمر محنة وآخره منحة.
وقل مثل ذلك فيما حدث في غزوة الأحزاب حيث زلزلت القلوب وبدا النفاق وقطعت اليهود المواثيق وحصل للمؤمنين ما حصل من البلاء فأعقبهم الله نصراً مبيناً وفرق شمل عدوهم وقذف الرعب في قلوب اليهود.
ومثل ذلك ما حدث للمسلمين حين غزاهم التتار فحصل من الابتلاء ما الله به عليم، ومثله ما حصل للمسلمين بسبب الحملات الصليبية، وكل ذلك لحكمة أرادها الله فحصل من بعد ذلك نصر عظيم للمؤمنين قوض الله به صروح الباطل وأحيا به قلوب المؤمنين التي غلب عليها حب الدنيا والركون إلى أعدائهم، فكان بعد ذلك النصر والتمكين لأولياء الله.
وما أشبه الليلة بالبارحة فما يصيب المسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها من تقتيل وتنكيل وتسلط لأعدائهم عليهم إنما هو لحكمة أرادها الله، فنظن به سبحانه أن يكون ذلك إرهاصاً وتقدمة لعودة الأمة إلى دينها وتبصيراً لها بأعدائها من اليهود والنصارى والملحدين ممن لا يقيمون لدم المسلم وزنا، وإن تعالت صيحاتهم بالعدل والمساواة وحقوق الإنسان وتنبيهاً للأمة أيضاً بأن أعداءها لم يتخلوا عن توراتهم وإنجيلهم وعداواتهم وأحقادهم في الوقت الذي تخلت فيه الأمة عن العمل بكتابها وتاريخها، هذا ظننا بربنا أن يعلي كلمته وينصر دينه وهو سبحانه عند ظن عباده به. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقواه، وتوبوا إليه واستغفروه كل وقت، واحذروا الظن به ظن السوء، وليعلم المؤمن أن النفس مأوى كل سوء ومنبع كل شيء مركبة على الجهل والظلم، وهي أولى بظن السوء بها من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه.
ثم اعلموا عباد الله أن خير الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ثم صلوا وسلموا على إمام المتقين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين وعن أهل بيته الطيبين الطاهرين وعن زوجاته أمهات المؤمنين.
(1/1605)
الصلاة: أهميتها وحكم تاركها
التوحيد, فقه
الصلاة, نواقض الإسلام
إبراهيم بن عبد الله الدويش
الرس
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة في الإسلام. 2- تقصير بعض المسلمين في أداء الصلوات جماعة. 3- ترك صلاة الجماعة علامة ضعف الإيمان. 4- قصة وعبرة من تارك صلاة. 5- أحاديث تدعو للمحافظة على الصلاة. 6- كيفية التعامل مع تارك الصلاة. 7- حِكم وفوائد صلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، واعلموا أن مقام الصلاة عظيم، وقد نوه الله بشأنها في كتابه الكريم، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الفارقة بين المسلم والكافر، وهي عمود الإسلام، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة.
أيها المسلمون:
إن الشيطان يحرص كل الحرص على صرف المسلم عن هذه الصلاة، لعلمه أنه إذا انصرف عنها، انصرف عن بقية أحكام الدين من باب أولى، فإنه لا دين لمن لا صلاة له، لا حظّ له في الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة)). وإن الشيطان يأتي لصرف المسلم عن هذه الصلاة من طرق كثيرة، فإن تمكن من منعه منها بالكلية فإنه يبذل لذلك كل ممكن، وإن لم يتمكن من منعه منها، احتال عليه بمنعه من الصلاة مع الجماعة، ثم بمنعه من أدائها في وقتها، فإن لم يستطع منعه من الجماعة، أغراه بالتكاسل والتأخر عن الحضور إلى المسجد ،حتى يفوته بعضها، ويحرمه فضيلة السبق إلى المسجد، وحضور الصلاة من أولها. وهذا هو الواقع اليوم من كثير من المسلمين، فمنهم أعداد كثيرة من جيران المساجد لا يدخلون المساجد للصلاة فيها، أو يدخلونها لبعض الصلوات ويتركون بعضها، وأعداد كثيرة تحضر إلى المساجد متأخرة لا تدرك إلا بعض الصلاة مع الإمام، أو لا تدرك منها شيئا.
فما عذرك يا من تسمع النداء؟ ما عذرك يا من تسمع النداء،وقد يكون المسجد إلى جانب بيتك؟ وأنت صحيح البدن آمن من الخوف، ثم لا تحضر لصلاة الجماعة، هل أنت لم تسمع الآيات والأحاديث؟ أو سمعتها وقلت سمعنا وعصينا؟
أيها الأخوة: إن حالتنا اليوم مع الصلاة حالة سيئة، خفّ ميزانُها لدينا وتساهلنا في شأنها، وصار التخلّف عنها أمرا هيّنا! بل أمرا عاديا! فالأسرة الكبيرة في البيت لا يحضر منها إلا الأفراد، وبعض البيوت لا يحضر منا أحد، والذين يحضرون لا ينكرون على المتخلفين، وقد يكونون من أولادهم الذين كُلِّفوا بأمرهم بها وضربهم عليها، فأنت ترى البيوت والأسواق مكتظة بالناس، ولا يرتاد المساجد منهم إلا الأفراد، والغالبية رضوا بأن يكونوا مع الخوالف! رضوا بالعقوبة! رضوا بوصف النفاق! فإن من أبرز صفات المنافقين التي وصفهم الله تعالى بها في كتابه العظيم التكاسل عن صلاة الجماعة، حيث قال تعالى في وصفهم: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس وقال سبحانه: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ، وقال ابن مسعود – رضي الله عنه-: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها – أي صلاة الجماعة - إلا منافق معلوم النفاق". فهل ترضى - أخي الحبيب- هل ترضى أن تكون في زمرة المنافقين الذين هم أشد الناس عذابا يوم القيامة؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيماً.
إن التخلف عن صلاة الجماعة دليل على ضعف الإيمان وخواء القلب من تعظيم الله،وتوقيره واحترامه، وإلا فكيف يليق بمسلم صحيح آمن يسمع منادي الله كل يوم خمس مرات وهو يناديه (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ثم لا يجيبه! ويسمع منادي الله وهو يقول: (الله أكبر) ثم يكون اللعب عنده أكبر! ومشاهدة الأفلام والمباريات أكبر! والبيع والشراء أكبر! ومشاغل الدنيا الفانية أكبر!! ويسمعه وهو يقول: (الصلاة خير من النوم) ثم يكون النوم عنده خير من الصلاة!
يقول أحد المغسلين للموتى: ولقد جيء بميت يحمله أبوه وإخوانه، ودخلنا لغسله فبدأنا بتجريده من ملابسه، ها هو جثة نقلبها بأيدينا، لقد آتاه الله قوة في جسمه، وفتوة في عضلاته، وبياضا ناصعا في بشرته، وبينما نحن نقلب الجثة، وفجأة، وبدون مقدمات، انقلب لونه كأنه فحمة سوداء، فتجمدت يداي، وشخصت عيناي خوفا وفزعا، فخرجت من مكان الغسيل وأنا خائف، وسألت أباه: ما شأن هذا الشاب، فقال: إنه كان لا يصلي، إنه كان لا يصلي. يقول المغسل: فقلت لهم: خذوا ميتكم فغسلوه. فرفض المغسل أن يغسله، ورفض إمام المسجد أن يصلي عليه.إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ولا إله إلا الله.لا يُغسَّل ولا يصلي عليه المسلمون، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، هذا حكم الله فيه.
سُئل الشيخ العلامة ابن عثيمين: ما حكم تارك الصلاة؟
فأجاب – رحمه الله تعالى- بقوله: إن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة، فالذي لا يصلي كافر خارج عن الملة، وإن كان له زوجة انفسخ نكاحه منها، ولا تحل ذبيحته، ولا يقبل منه صوم ولا صدقة، ولا يجوز أن يذهب إلى مكة فيدخل الحرم، وإذا مات فإنه لا يجوز أن يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين، وإنما يخرج به إلى البر، ويحفر له حفرة يرمس فيها, ومن مات له قريب وهو يعلم أنه لا يصلي، فإنه لا يحل له أن يخدع الناس ويأتي به إليهم ليصلوا عليه،لأن الصلاة على الكافر محرمة، لقوله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله. انتهى كلامه مختصرا رحمه الله.
وسئلت اللجنة الدائمة للإفتاء: هناك أناس لا يصلون الفرائض الخمس مطلقا إلا صلاة الجمعة، فما حكم الميت منهم؟ وهل يجب على المسلمين دفنه والصلاة عليه؟
فأجابت اللجنة بقولها: إذا كان الواقع كما ذكر، فإن ترَكَها جاحدا لوجوبها عليه فهو كافر بإجماع المسلمين، أما إن تركها كسلا، مع اعتقاده بوجوبها، فهو كافر على الصحيح من أقوال العلماء للأدلة الثابتة الدالة على ذلك. وعلى هذا القول الصحيح لا يغسل ولا يصلي عليه المسلمون صلاة الجنازة، ولا يدفن في مقابر المسلمين. ا.هـ
فأي خاتمة سيئة لهذا العبد! وأي عار وفضيحة لأهله وإخوانه!. هذا في الدنيا، وما عند الله أشد! فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون.
فيا أخي الحبيب، أيها المتهاون في الصلاة، يا تارك الجماعة: اسمع قبل أن لا يُصلى عليك، اسمع قبل أن لا يترحم عليك، اسمع ما دمت تسمع، واستجب ما دمت في مهل، واسمع لهذه الكلمات، واستمع لهذه التوجيهات، من قلب أحبك، ويخشى عليك من غضب الجبار. فلا يغرنّك حلم الله وإمهاله لك.
إن بعض الناس قد يسخر بالمصلين ويستهزئ بالصلاة، ويلمزهم إن نصحوه أو أمروه بالصلاة مع الجماعة، وقد يتفوه البعض بكلمات الفسق والفجور، كلمات تتزلزل لها الأرض والسماوات، وتتقطع لها قلوب المؤمنين والمؤمنات، فلا إله إلا الله، ما أحلم الله على عباده! وما أوسع صبره على أولئك! أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير.
يا من تتكلم بتلك الكلمات، وتسخر بالصالحين الناصحين، ألم تحسب لغضب الله حسابا؟ أليس الله قادر عليك؟ أليس الله قادر على أن يشلّ جسدك؟ أو يوقف أركانك؟ أو يخرس لسانك؟ ألم يكفك ترك الصلاة لتتفوه بهذه الكلمات؟ وتبارز بها جبار الأرض والسماوات؟. ولكن، صدق الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
أخي الكريم، يا أخي الحبيب، يا من فقدناه في مسجد حَيِّنا، يا من تخلف عن صلاة الجماعة، ألم يأن لك أن تندم على سيئاتك وتقلع عنها؟ ألم يأن لقلبك أن يخشع لذكر الله وما نزل من الحق؟ إلى متى؟ إلى متى؟ إلى متى وأنت بعيد عنا؟ فلو مرضت أو مت ما علمنا. ألم تعلم أننا نحزن إذا فقدناك؟ ونفرح والله إذا رأيناك؟ وليس لنا من الأمر شيء. من اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها. إلى متى وأنت تحرم نفسك الراحة والسعادة؟ والأمن والاطمئنان؟.
إننا نسمع ونقرأ قصص التائبين والتائبات، وبعضهم يقول: لم نركع لله ركعة، ولم نسجد لله سجدة. سبحان الله! أيعقل أن مسلما يشهد أن لا إله إلا الله لا يصلي؟
أيها الحبيب: كل شيء إلا الصلاة!
أيها الأخ: اسمعها واحفظها: كل شيء إلا الصلاة، إلا الصلاة، فإنها العهد الذي بيننا وبين الكافرين، ((وبين الرجل والكفر ترك الصلاة)). أترضى أن يقال لك: كافر؟ لا والله فإننا لا نرضاه لك. نعوذ بالله من حال الكافرين.
أخي الحبيب: إنك إن حافظت على الصلاة فأنت على خير مهما وقع منك، إنها الصلة بينك وبين الله، فهل استغنيت عن الله؟ هل استغنيت عن الله يوم أن قطعت الصلة بينك وبينه؟ إن لك ربا برّا رحيماً، يفرح بتوبتك، فأقبل عليه. إن حلم الله أوسع من إصرارك، ورحمته أعظم من ذنبك، فتب إلى الله. تب إلى الله قبل أن يحال بينك وبين التوبة، أسألك بالله العظيم، أيسرك أن تموت وأنت على هذه الحال مع الصلاة؟ اسأل نفسك، حاسب نفسك، كن عاقلا، ارجع لنفسك، ألم تسمع للمجرمين عندما يسألون: ما سلككم في سقر ، فأول الإجابة: قالوا لم نك من المصلين. فكر بحالك يوم القيامة، يوم تدعى إلى السجود فلا تستطيع، يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون. كانوا يدعون بـ(حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويسمعون فلا يستجيبون.
أخي الكريم: يا جارنا العزيز، يا من فقدناه في مسجدنا، ألم تسمع لهذا الوعد والوعيد، والتهديد الشديد، من النبي الحبيب –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عندما قال: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) وفي رواية للإمام أحمد أنه قال: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية، أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتيانا يحرقون ما في البيوت بالنار)). إن الرسول- صلى الله عليه وسلم - هم أن يحرق على هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة تلك البيوت التي تؤويهم عن أداء هذا الواجب العظيم، فيذهب الحريق بنفوسهم وأموالهم عقابا لهم على ترك هذه الشعيرة،وهذه عقوبة غليظة، لا تكون إلا على جريمة عظيمة. إنه لو أحرق بيت على من فيه بالنار، لفزع الناس من ذلك فزعا شديدا. ولو فعل ذلك بمن يترك الجماعة لكان جزاؤه شرعا.
إن الصحابة كانوا يهتمون بصلاة الجماعة، وينكرون بشدة على من تخلف عنها، ويصفونه بالنفاق. ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو أنكم تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)).
هذا ما قاله عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - عن مكانة صلاة الجماعة عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكمهم على من تخلف عنها، إنه عندهم منافق معلوم النفاق، ينبذونه ويهجرونه. والمتخلف عن الصلاة اليوم، أخ عزيز لدينا نكرمه ونخالطه ونعاشره، ما كأنه ارتكب جريمة! وما كأنه عصى الله ورسوله!. وهذا مما يدل على أن ميزان الصلاة لدينا خفيف، وأمرها هين.
فتبيَّن لنا من القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وعمل الصحابة، وعمل المسلمين إلى يومنا هذا وجوب صلاة الجماعة، ووجوب الإنكار على من تخلف عنها، ومعاقبته. ويتعين ذلك على ولي أمره وإخوانه، وعلى إمام المسجد وجماعته، فإنهم يشتركون في الإثم إن سكتوا عنه.
فالله الله بتارك الصلاة، بنصحه والإنكار عليه، فإن لم يستجب فالتضييق عليه وهجره، ورفع أمره للهيئات والمحاكم، وعدم قبوله في الحي حتى يرحل عنه، أو يصلي مع جماعة المسلمين. ولا يجوز تركه بحال من الأحوال.وويل لأولئك الآباء الذين يرون أبناءهم على ذلك المنكر العظيم فلا يحركون ساكنا، بل ويجلسون معهم، ويشربون ويأكلون معهم، فلا ينصحون، ولا يضربون، ولا يهجرون، وكلها وسائل شرعية، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بالنصح تارة، وبالضرب تارة، وبالهجر تارة.فويل لأولئك الآباء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من عبد يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصحه، إلا لم يجد رائحة الجنة". فتنبه يا ولي الأمر، انتبه لأبنائك وبناتك ونسائك، واهتم بأمر الصلاة فإن شأنها عظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين. وهو نص في وجوب صلاة الجماعة ومشاركة المسلمين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لاكتفى بقوله في أول الآية: وأقيموا الصلاة.
أخي الحبيب: يا من فقدناه في مسجد حيِّنا، أرجوك أن تسمع هذه الكلمات، وأن تفكر بهذه البراهين والدلائل الواضحات، إن كنت تريد الحق ونبذ الهوى. ألم تعلم أن الله لم يعذر المسلم في حال الحرب في تركه للجماعة؟ بل أمره بها في وقت عصيب، يواجه المسلمون فيه عدوهم، فقال جل وعلا: وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك. فهل تظن - يا أخي الحبيب - أن صلاة الجماعة تجب على هؤلاء في هذه الظروف الحالكة، ولا تجب على رجل يتقلب في فراشه الوثير، آمنا مطمئنا معافى؟! ألم تعلم أن الله لم يعذر الأعمى بتركه الجماعة؟ بل أمره بها رغم ظروفه العصيبة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه - قال: ((أتى النبيَّ رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخّص له.فلما ولّى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم. قال: فأجب)) وفي رواية لأبي داود قال: ((إني ضرير البصر شاسع الدار)). وفي رواية لأبي داود أيضا والنسائي قال: ((يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع)).
أتظن - يا أخي الحبيب - أن صلاة الجماعة تجب على هذا الصحابي الذي جمع بين فقد البصر، وبعد الدار، وخوف الطريق، وعدم القائد، ولا تجب على المبصر المجاور للمسجد الذي يسمع عند كل صلاة أكثر من عشرين مؤذنا كلهم ينادي (حي على الصلاة، حي على الفلاح)؟ حتى المريض لم يعذره الله بترك الصلاة، بل أمره الله بها على أي حال وأي صفة قدر عليها.
فيا من فقدناه في صلاة الجماعة، هل تجد لك رخصة بعد هذه الأدلة؟! فإن لم يعذر هؤلاء، فما هو عذرك غدا أمام الله؟! وما هي إجابتك في أول سؤال ستُسأله؟ فإن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة عن الصلاة.
ثم تعال، تعال وانظر لحِكَم الصلاة وفوائدها العظيمة. فإن منها:
أولاً: أنها سبب للمودة والألفة والترابط بين جماعة المسلمين، فنحن نراك خمس مرات في اليوم والليلة، فلم حرمت نفسك من المودة والترابط؟ فأنت بحاجة إلى إخوانك وجيرانك.
ثانيا: هي سبب لتحصيل الأجور والحسنات، وتكفير الذنوب ومحو السيئات، فبكل خطوة ترفع لك درجة ويحط عنك خطيئة، وهي كفارة لما بينها، والملائكة تصلي عليك وتستغفر لك ما دمت في مصلاك، أفَتُراك استغنيت عن هذا كله بترك الصلاة في المسجد؟.
ثالثا: هي سبب للسعادة والاطمئنان، وطرد الهموم والقلق، فإن الصلاة نور لصاحبها في قلبه،وفي وجهه، وفي قبره. وقد مزقت الهموم والغموم قلوب كثير ممن هجروا المساجد، فتعال وانظر لحالهم! فإن سيماهم في وجوههم من أثر المعاصي والذنوب.
وفوائد الصلاة كثيرة جدا، ولو لم يكن منها إلا أنها طاعة لله الذي خلقك فأحسن خلقتك، وأنعم عليك ورزقك، وامتن عليك بصحة وعافية، أفيجوز أن يعطيك هذا كله ثم يأمرك فتعصي؟! إنها صفة اللئام، وإنها الدناءة والخسة والفجور، أن ينعم عليك فتعصيه! إن الإصرار على المعصية قد يكون سببا في سوء الخاتمة! فإن الذنوب ما تزال بالرجل العظيم حتى تميت قلبه،وتورده جهنم عياذا بالله.
فاصدق مع الله، اصدق مع الله، حاسب نفسك، ارجع إلى نفسك قبل غرغرة الروح، تضرّع إلى الله بالدعاء، خذ بالأسباب المادية من نوم مبكر ووضع منبه، وجاهد النفس، وتذكر وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون.
هذه رسالة، رسالة إلى أخينا وجارنا الذي فقدناه في صلاة الجماعة، فهل بعد هذا البيان من عذر؟ وهل لهم حجة أمام الله؟ هذه الرسالة أمانة في عنق كل مصل لإيصالها إلى كل تارك لصلاة الجماعة، فلنجتهد في نصحهم، ولنجتهد في إيصال مثل هذه الرسالة لهم، ولنذكرهم بالله، ولنخوفهم بالله، ولنعذر أمام الله، ولنبرئ أنفسنا أمام الله.
اللهم فاشهد. اللهم إني بلغت؟
وأسأل الله الكريم المنان أن يمن علي وعليك وعلى جميع المسلمين بهداية وتوفيق دائمين، حتى نلقاه.
(1/1606)
اتباع الجنازة (حقوق الجار)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحق السابع : اتباع الجنازة. 2- حكم تشييع الجنائز وغسلها. 3- فضل تشييع الجنائز.
4- آداب المشي مع الجنازة. 5- مكروهات الجنائز.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله،واستعدوا رحمكم الله للقاء الله مصداقاً لقوله تعالى: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: مازلنا مع حقوق الجار المأخوذة من الأثر الوارد عن رسول الله ، واليوم مع الحق السابع الذي يقول: ((وإذا مات اتبعت جنازته)) أي تشيعها حتى تدفن. وهذا الحق هو من أعظم الحقوق الواجبة عليك لأخيك الجار بصفة خاصة، ولا سيما إذا كان مسلماً، فهذا الحق كما عرفت هو من حقوق المسلم على أخيه المسلم.
فما هي أحكام تشييع الجنازة في الإسلام؟ وكيف تكون؟ وما هي الأمور التي تكره مع الجنازة؟
أيها المسلمون: إن حمل الجنازة واتباعها كدفنها والصلاة عليها وغسلها، كل هذه من الفروض الكفائية التي إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين،وإن تركت فإن الإثم على الجميع. لقوله البراء بن عازب قال: (أمرنا رسول الله باتباع الجنازة وعيادة المريض وتشميت العاطس وإجابة الداعي ونصر المظلوم) رواه الجماعة.
واتباع الجنازة يتطلب من المتبع لها ثلاثة أشياء:
1) أن يصلي عليها قال زيد بن ثابت: (إذا صليت فقد قضيت الذي عليك).
2) أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن.
3) أن يقف بعد الدفن فيستغفر للميت ويسأل الله له التثبيت عند السؤال ويدعو له بالرحمة والمغفرة.
كما روي عن رسول الله أنه كان إذا دفن ميتاً وقف وقال: ((استغفروا له،واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل)) رواه أبو داود والبزار وقال الحاكم: صحيح الإسناد. كما ورد في فضل تشييع الجنازة أحاديث كثيرة نذكر منها الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: ((من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد)). وفي رواية لهما: ((القيراطان مثل الجبلين العظيمين)). قال عبد الله بن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
ومن السنة في تشييع الجنازة الإسراع بها إسراعاً أقل من الجري حتى لا يضطرب الميت لحديث البخاري ومسلم واللفظ للبخاري: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحة فخير تقدمونها، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)).
كما يسن في حق المتبع للجنازة أن يكون خاشعاً متفكراً في مصيره متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميت ولا يتحدث في أحاديث الدنيا ولا يضحك. ورأى بعض السلف الصالح رجلاً يضحك في جنازة فقال: أتضحك وأنت تتبع الجنازة؟ لا كلمتك أبداً.
كما يسن عند الإمام مالك والشافعي رحمهم الله تعالى المشي أمام الجنازة إذا كانوا ماشين أما إذا كانوا راكبين فإنهم يسيرون خلفها لما رواه الخمسة عن ابن عمر أنه رأى النبي وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة لأن المشيع شفيع للميت، والشفيع يتقدم مع المشفوع له. والصحيح أن الأمر واسع هنا لما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم وابن حبان عن المغيرة بن شعبة عن النبي أنه قال: ((الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريباً منها عن يمينا وعن يسارها)). وأما القيام للجنازة إذا مرت فمنسوخ وهو قول الأئمة الأربعة بدليل قول علي : ((كان رسول الله أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعدئذ وأمرنا بالجلوس)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
عباد الله: أما المكروهات التي كرهها الشرع الحكيم في اتباع الجنازة فكثيرة أيضاً نذكر منها ما يلي:
اتباعها بنار أو صوت لما أخرجه أحمد عن أبي هريرة أنه قال: ((لا تتبع الجنازة بنار ولا صوت)) ولما أخرجه الطبراني في الكبير عن زيد بن أرقم أن رسول الله قال: ((إن الله عز وجل يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة)) ولهذا أفتى العلماء القدامى والمحدثون بأن السنة في السير مع الجنازة ألا يكون معها صوت ولا نار ولا رايات ولا طبل ولا موسيقى ولا مجامر ولا رفع صوت بذكر ولا قرآن، وإن الصواب ما كان عليه السلف من السكون والسكوت حال السير معها لأنه أسكن للخاطر وأبقى للفكر فيها، وفقد أفتى محمد عبده رحمه الله أنه يكره للماشي مع الجنازة رفع الصوت بالذكر فإن أراد أن يذكر الله فليذكره في نفسه،وهذا أمر محدث لم يكن في عهد رسول الله ولا أصحابه ولا التابعين ولا تابعيهم.
ومن الأمور المكروهة في الجنازة الجلوس للمشيع قبل دفنها لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه وأبو داود والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((إذا اتبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع)) ويكره تحريماً أيضاً تغيير اللباس حزناً على الميت لما أخرجه ابن ماجه عن عمران بن حصين وأبي برزة الأسلمي قال: خرجنا مع النبي في جنازة فرأى قوماً قد طرحوا أرديتهم يمشون في قمص فقال : ((بفعل الجاهلية تأخذون؟ أو بصنع الجاهلية تتشبهون؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوة ترجعون في غير صوركم، فأخذوا أرديتهم ولم يعودوا لذلك)).
ويكره عند الإمام مالك رحمه الله أيضاً صلاة فاضل على بدعي لم يكفر ببدعته وعلى مظهر كبيرة كشرب الخمر أمام الناس بلا مبالاة، ويكره عنده أيضاً تكبير نعش لميت صغير لما فيه من المباهاة وفرش نعش بحرير أو خز.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من النار وغفر لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن المكروهات المحرمة التي نشاهدها مع الجنائز خروج النساء في حالة مزرية من إظهار شعورهن وصدورهن إلى جانب الصياح والعويل والبكاء بدعوى الحزن والجزع عن الميت،فلا يجوز لهن اتباع الجنائز لما يقع منهن من الصياح والنياحة ولطم الخدود وإزعاج الميت وتألم الحي، وقد وردت عدة أحاديث فيها مقال ولكن إذا جمعت إلى بعضها فإنها ترتفع إلى درجة الحديث الحسن كما هو مقرر عند المحدثين، من ذلك ما أخرجه الطبراني في الكبير أن النبي كان يصلي على جنازة فجاءت امرأة بمجمر تريد الجنازة فصاح بها حتى دخلت في آجام المدينة. وعن محمد بن الحنفية عن علي قال:خرج النبي فإذا نسوة جلوس فقال: ((ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة قال: هل تغسلن؟ قلن:لا قال: هل تحملن؟ قلن: لا. قال: هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا. قال: ارجعن مأزورات غير مأجورات)) أخرجه ابن ماجة والحاكم. ويؤيده المعنى الذي أشارت إليه أمنا عائشة رضي الله عنها بقولها: (لو إن النبي رأى من النساء ما رأينا لمنعهن المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها) أخرجه الشيخان وأحمد وأبو داود والبيهقي. هذا في زمن عائشة رضي الله عنها فما ظنك بنساء زماننا، وقال ابن الحاج المالكي وهو من علماء القرن السابع:واعلم أن الخلاف المذكور بين العلماء إنما هو في نساء ذلك الزمان – يعني زمن السلف الصالح. وأما خروجهن في هذا الزمن فمعاذ الله أن يقول أحد من العلماء ممن له مروءة أو غيرة في الدين بجواز ذلك. فهذا ابن الحاج يقبح ما كان عليه نساء زمانه، نساء القرن السابع، فما بالك بنساء القرن الخامس عشر الكاسيات العاريات المائلات المميلات يخرجن نائحات هائمات لاطمات كاشفات الصدور والسيقان ناشرات الشعور صابغات الأيدي والوجوه نعوذ بالله من ذلك وأختم أيها المسلمون بكلمة لأحد علماء الإسلام وهو الإمام ابن قدامة صاحب المغني يقول رحمه الله: فإن كان مع الجنازة منكر يراه أو يسمعه فإن قدر على إنكاره وإزالته أزاله، وإن لم يقدر على إزالته ففيه وجهان: أحدهما: ينكره ويتبعها فيسقط فرضه بالإنكار ولا يترك حقاً لباطل والثاني يرجع لأنه يؤدي إلى استماع محظور ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك. وحسبي وحسبكم أيها المؤمنون ما قاله الفضل بن عياض رحمه الله تعالى: الزم طريق الهدى ولا يغرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين فاتقوا الله...
عباد الله: وسارعوا إلى الخيرات والأعمال الصالحات لعلكم ترحمون وأدوا هذا الحق لجيرانكم ولإخوتكم المسلمين اللهم وفقنا لطاعتك واجعلنا من أهل مرضاتك والفائزين بجنتك ورضوانك..
(1/1607)
استغلال فصل الصيف
موضوعات عامة
الترفيه والرياضة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرارة الصيف تذكر المؤمن بحرارة جهنم. 2- فصل الصيف فصل حلول النعم. 3- منكرات يصنعها البعض في فصل الصيف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معشر المسلمين والمسلمات، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل والحذر كل الحذر من معصيته، فإنه سبحانه وتعالى قضى رضاه في طاعته، كما قضى غضبه في معاصيه، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق: 5].
عباد الله، نلتقي في هذا اليوم الأغر الكريم على مائدة الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، حيث إننا نعيش في أجواء فصل الصيف، وهذا الفصل له معانٍ متعددة عند الناس، فهو أحد الفصول الأربعة كما يعرف ذلك طلاب وتلاميذ المدارس والثانويات، ويمتاز عن بقية الفصول الأخرى بارتفاع درجة حرارة الجو؛ مما يؤدي إلى نضج الثمار والزروع والفواكه، فينهض الفلاحون لجني الثمار وجمع المحاصيل الزراعية، فيدخر الفلاح منها ما شاء ويبيع منها ما يشاء، كل على قدر طاقته وإنتاجه، والقاسم المشترك عند الناس جميعًا أن موسم الصيف هو موسم الخير والبركة والفرح بما قدمه الفلاح من تضحية وصبر وتفان في سبيل حرث الأرض وزرعها وتسميدها.
ومن جهة أخرى ـ أيها المسلمون ـ فإن فصل الصيف هو وقت العطل والراحة والاستجمام والاصطياف، حيث يفكر كثير من الناس في الهروب من الحرارة إلى أماكن باردة تناسب جسم الإنسان وفكره، هذا هو فصل الصيف في مفهوم كثير من الناس، فما منظور الإسلام إلى فصل الصيف؟ هذا السؤال يحتاج إلى جواب عام وتام، فأقول وبالله التوفيق:
إن فصل الصيف في الإسلام تذكرة وموعظة. نعم، إنه يذكر المؤمن من جهة بحرارة جهنم وسعيرها، تلك النار التي جاء في كثير من الأحاديث وصفها، ومنها حديث السنن وهو قوله : ((إن الله أوقد على جهنم ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم)) رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي. وجاء في القرآن الكريم في سورة التوبة قوله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 81، 82].
والمؤمن يتذكر أن رسول الله أخبره أن النار تتنفس مرتين في السنة، مرة في الشتاء حيث يكون الزمهرير والبرد القارس، ومرة في الصيف حيث تكون الحرارة مرتفعة، ومن ثم فقد روى الشيخان وغيرهما أنه قال: ((إذا اشتد الحر فابردوا بالصلاة؛ فإن الحر من فيح جهنم)) ، أعاذنا الله منها.
ومن جهة أخرى فإن فصل الصيف يذكر المؤمن بنعم الله عليه، فهو إذا حصد الزرع والثمار أعطى منه حق الفقراء المساكين امتثالاً لأمر الله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141]. ولقد امتن الله تعالى على قريش قبلنا برحلتيهم إلى اليمن صيفًا وإلى الشام شتاءً، فقال عز من قائل: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [سورة قريش]. وإن كانت السورة خاصة بقريش فهي عامة لجميع الناس أن يشكروا النعمة في الصيف والشتاء، وبلدنا هذا المغرب من بلدان الله التي حباها الله الجو المناسب والماء الكثير والخصوبة في الأرض والإنتاج المهم في جميع المحاصيل الزراعية والنباتية، أفلا يدعونا هذا إلى الشكر والاعتراف بالجميل حتى يزيدنا الله من فضله وهباته. وقد وعد الله الشاكرين بالزيادة، وتوعد الجاحدين النعم والذين يسخرونها في المعاصي بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7].
أيها المسلمون، لقد أعطانا الله المثل من أمة كانت قبلنا سكنت اليمن وأغدق الله عليها من الخيرات والنعم الشيء الكثير بسبب المياه العذبة التي كانوا يحصلون عليها من سد مأرب، لكنهم بدل أن يشكروا ويسخروا النعم في طاعة الله وعبادته حرفوها في المعاصي والخمور والفجور، فأبدل الله حالتهم من اليسر إلى العسر، ومن النعيم إلى الشقاء، ومن الرخاء إلى الغلاء، فكانوا عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين، قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ: 15-17].
روى البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم)) ، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: ((إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابه المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: بعد أن عرفنا معاني فصل الصيف عند الناس ومفهوم الشرع الإسلامي نجد أمامنا الآن سؤالاً يطرح نفسه وهو كالتالي: كيف يستقبل الناس فصل الصيف في مجتمعنا اليوم؟
والجواب نأخذه من واقعنا الذي نعيشه اليوم، حيث إن فصل الصيف تظهر فيه ثلاثة أمور في مجتمعنا، وهي أمور يراها ويشاهدها كل واحد منا، ولا يكاد أحد من الناس يكذب بها أو يعاند في تكذيبها وهي: 1- قامة المواسم حول الأضرحة والقبور، 2- إقامة الحفلات والأعراس للزواج أو الختان أو غيره، 3- الاصطياف في الشواطئ والجبال.
فلنستعرض ما يفعله الناس في هذه الأشياء الثلاثة مع شيء من الاختصار والإيجاز، ثم نحكم عليها انطلاقًا من كتاب الله وسنة رسوله.
فالأمر الأول: هو إقامة المواسم حول الأضرحة والقبور، فترى الناس يشدون الرحال إلى كل مكان فيه قبر أو ضريح أو مشهد، بدعوى المحبة والتوسل والتبرك، فيحملون الزروع والأبقار والأغنام التي هي من نعم الله، لا من أحد غيره، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل: 53]، فيبذّرون الأموال ويصرفون النعم في ما يغضب الله تعالى ويتنافى مع الشكر المأمور به شرعًا، إضافة إلى شرب الخمور وسماع الغناء الفاحش وتعاطي الفجور والفساد واختلاط الرجال بالنساء والإساءة إلى القبور والموتى وإهانتهم بالذبائح عليها وتلويثها بالدماء واتخاذها شريكًا مع الله تعالى بالدعاء والاستغاثة والنداء والطواف، حتى أصبح بعضهم يسمي بعض القبور بحج المسكين.
فخبروني بربكم يا مسلمون: ماذا تقولون في هذا وأنتم عقلاء؟! فكل هذه الأشياء تتنافى مع العقل السليم، فكيف لا تتنافى مع الشرع الحكيم؟! فكل هذه الأشياء والأعمال ضروب من الشرك التي جاء الإسلام للقضاء عليه، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65]. هذا هو حكم الإسلام على هذا الأمر الأول.
أما الأمر الثاني فهو إقامة الحفلات والأعراس، نعم إن الإسلام لا يعارض إقامة حفلات الزواج أو العقيقة، ولكن ليس كما يفعله كثير من الناس من إسراف في الطعام والشراب والاجتماع على المغنين والمغنيات بما يسمى المجموعات (الكروبات) من الشباب الماجن الخليع، وما يصاحب ذلك من إحضار الخمر الملعونة والملعون كل من شربها أو ساعد على وجودها وبيعها وتداولها, زد على ذلك إحداث الفوضى والضجيج وأذى الجيران وإذاية المرضى والنائمين أثناء الليل كله بل حتى الصباح؛ وذلك بإطلاق العنان لأصوات أبواق السيارات واستعمال مكبرات الصوت التي تنقل الغناء الفاسق والكلام الساقط، وقد يقع ذلك في ليالي متوالية ومتعددة، وقد قال تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان: 19]. وفي تعبير القرآن الكريم بصوت الحمير إشارة إلى التنفير من الأصوات المرتفعة، فكيف بالأصوات المزعجة؟! حتى أصبح كثير من الجيران يتشاءمون من إقامة مثل هذه الحفلات. إذن فكل هذه الأمور لا علاقة بينها وبين الإسلام البتة، وهي أمور مرفوضة من أساسها لأنها إسراف وتبذير من جهة وإزعاج وفوضى من جهة ثانية، ومعصية وغناء وخمر واختلاط من جهة ثالثة.
وأما الأمر الأخير الثالث فهو ما يقع على الشواطئ البحرية، فالله تعالى سخر البحر لعباده للانتفاع به، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الجاثية: 12]. فكلنا ـ يا عباد الله ـ نريد التمتع بجمال البحر وبرماله ومياهه، ولكن ما أحسنه لو كانت الشواطئ نظيفة من الاختلاط الخليع والعري السافر والتبرج الممقوت، حيث استوى في ذلك الكبير والصغير والرجال والنساء والأطفال والشيوخ، حتى زال الحياء وارتفعت المروءة بين الأسرة الواحدة من الأسرة المسلمة، فترى الرجل يسبح عريانًا أمام بناته، وترى الأم تسبح عريانة هي الأخرى أمام أبنائها وأمام صهرها، أهكذا تكون الأسرة المسلمة التي يفترض أن تكون محل تقدير واحترام ووقار؟! فكل هذه الأمور تتنافى مع الرسالة التي نحملها، ونحن مجتمع إسلامي يهتدي بكتاب الله وسنة رسوله والأصالة العربية العريقة التي ورثناها عن أسلافنا الصالحين وأجدادنا المتقين من الصحابة والتابعين.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تبدلوا نعم الله عليكم كفرًا وجحودًا، ولا تكونوا سببًا في إحلال البوار والدمار الذي توعد الله به كل من عصى الله تعالى بنعمه، قال سبحانه: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة: 211]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ [إبراهيم: 28-31].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا ممن يشكرون نعمتك ولا يكفرونها، اللهم اهدنا لشكر النعم فإنك أنت واهبها يا أرحم الراحمين.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن رسول الله أنه قال لجبريل: ((ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكًا قط؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار)).
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد...
(1/1608)
الأمانة وتكاليفها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الخيانة. 2- أمانة طاعة الله والقيام بحقوقه ومنهجه. 3- أمثلة للخيانة (معاصي
وذنوب). 4- الأمانة المنوطة بمن استرعاه الله أمر المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: خير ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله عز وجل والعمل بطاعته، والحذر كل الحذر من مخالفته ومعصيته، ومن المخالفة الظلم في تحمل المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان قال تعالى: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: يقول الله تعالى في كتابه العزيز من سورة الأنفال: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم.
أيها المسلمون: هذه آية من كتاب الله عز وجل، يحذرنا الله تعالى من خيانة الأمانة وينهانا عن ذلك لأن فيه إثماً عظيماً وجرماً كبيراً يظهر أثره على المجتمع وتكون عاقبته وخيمة بين الناس. فما هي أنواع الأمانة؟
إن الأمانة تنقسم إلى قسمين: أمانة بين العبد وربه، وأمانة بين العبد ومخلوقٍ مثله.
فأما الأمانة بين الله تعالى والعبد فتتمثل في فرائض الله ومحرماته، وأول الفرائض توحيد الله عز وجل وعبادته وحده دون إشراك أو رياء أو نفاق، والتوحيد حق الله تعالى على عباده قال لمعاذ بن جبل : ((أتدري ما حق الله على عباده؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم قال : حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)).
ثم إن إقامة الصلاة من أعظم الأمانات، على كل مسلم ومسلمة أن يؤديها ويقيمها كما أمر الله ورسوله قال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين.
والصيام أمانة وسر بين العبد وربه، عليه أن يصوم صياماً صحيحاً خالياً من اللغو والرفث وسائر المفطرات المادية والمعنوية، والزكاة أمانة عند المسلم مطلوب منه أن يؤديها كاملة غير منقوصة إذا توفرت الشروط الواجبة فيها لأنها تطهر المال وتبرأ منها ذمة المسلم ليسلم من عقوبة تركها، والحج أمانة الله في عنقك أيها المسلم إن كنت ممن توفرت لديك الشروط والاستطاعة.
أيها المسلمون: ثم إن المحرمات كلها أمانة حرمها الله تعالى، لأن فيها الضرر الذي يضر إما الجسم أو العقل والمال أو المجتمع، كالخمر والزنا والسرقة والرشوة والظلم والتبرج، والكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور وأكل الربا وأكل مال اليتيم فكلها محرمات أمانة في مجتمع المسلمين عليهم ألا يقربوها ولا يقترفوها قال تعالى: ومن تق السيئات فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم.
جاء في تفسير قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً. عن ابن عباس يعني بالأمانة الطاعة التي عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقها فقال لآدم إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فلعلك أنت آخذ بما فيها قال: يا رب وما فيها قال:إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها فذلك قول الله تعالى: وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
والطاعة أيها المسلمون تتمثل في أداء الفرائض واجتناب النواهي فكلها أمانات أمرنا الله تعالى بالمحافظة عليها. وجوارحنا أيها المسلمون أمانة فلسانك أخي المسلم أختي المسلمة أمانة، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالناس والتجسس عليهم والقذف والفحش واستعملته في ذكر الله وتلاوة القرآن وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن فعلت ذلك فقد أديت أمانة لسانك وجنبت نفسك عذاب الله في الدنيا والآخرة. وعيناك أمانة عندك فإن جنبتهما النظر إلى ما حرم الله واستعملتهما فيما يعود عليك بالنفع فزت دنيا وأخرى، وأذناك أمانة لديك فجنبهما الاستماع إلى ما يغضب الله من سماع اللهو والغناء والغيبة والنميمة واستعملهما في الاستماع إلى الموعظة الحسنة وذكر الله وتلاوة كتابه إذا فعلت ذلك أخي المسلم فقد أديت أمانة أذنيك، ورجليك أمانة فلا تمش بهما إلى أماكن اللهو والفسق والفجور وأماكن الظلم والزور والاعتداء والمنكر، وسر بهما إلى صلاة الجماعة في المسجد وصلة الرحم والإصلاح بين الناس وإلى الجهاد في سبيل الله. ويداك أمانة فلا تمدهما إلى ما يغضب الله. واعمل بهما أعمالاً تعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة، والبطن أمانة فلا تدخل فيه ما حرم الله من المال، والفرج أمانة فقد مدح الله الحافظين لفروجهم وأخبر أنهم مفلحون ومن أهل جنة الفردوس فقال تعالى من سورة المؤمنين: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون أي المعتدون، والعقل أمانة فاحذر أن تفسده بالمخدرات والمسكرات، فالخمر ما خامر العقل وغطاه وعطله عن وظيفته، والمال أمانة فاحذر أن تبذره وأن تصرفه فيما حرم الله وأنفقه على المساكين وأخرج منه الزكاة، وهكذا أيها المسلمون ما وهبنا الله إياه من جوارح وعقل ومال وأولاد وزوجة كلها أمانات قال تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: إن من أعظم الأمانات التي يحاسب عليها العبد يوم القيامة تحمل المسؤوليات في المجتمع، سواء كانت مسؤولية عظمى أم غير ذلك، والله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، يبني ويشيد، ويرحم ويشفق، يقوم بالخلافة خير قيام ، ولا يصلح حال الناس إلا إذا تفرقت مهام المسؤولية بين أفراد المجتمع ليسهل حملها وتيسير القيام بها، وإذا لم يقم كل مسؤول بمسؤوليته كما أمره الله تعالى ضاعت الحياة وانتشر فيها الفوضى، وعم الفساد الأرض والعباد، جاء في حديث البخاري أن رجلاً جاء إلى الرسول فقال يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال الرجل: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)).
فنعوذ بالله أيها المسلمون من ضياع الأمانة فواجب على المسلمين أن يختاروا من هو أهل لحمل الأمانة عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.
وهكذا رأينا أيها المسلمون أن الأمانة لا تنحصر في الودائع فقط، إنها إحساس الإنسان وشعور في كل أمر يوكل إليه أنه مسؤول عنه أمام الخالق عز وجل كل إنسان في المكان الذي وضع فيه، فاتقوا الله عباد الله وقدروا المسؤولية حق قدرها واعطوا للأمانة العامة والخاصة ما تستحق. واعملوا أنه لا أيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له. روى الديلمي في فردوسه أن رسول الله قال: ((إذا أراد الله بقوم خير ولى عليهم حكماءهم وقضى بينهم علماؤهم وجعل المال في سمحائهم، وإذا أراد الله بقوم شراً ولى عليهم سفهاءهم وقضى بينهم جهالهم وجعل المال في بخلائهم)).
(1/1609)
التشبه بالكافرين
الإيمان
الولاء والبراء
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التشبه المذموم بالكافرين. 2- الأخذ المقبول من الكافرين متى يكون. 3- مفاسد التشبه
بالمشركين: أ- الشك في عقائد الدين. ب- المجاهرة في الطعن في الدين. ج- انتشار حرية
الدين والأخلاق. د- تضييع الفرائض واستحلال المحرمات. 5- إفساد المرأة المسلمة. 6-
انتشار الفكر الإرجاني.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: خير ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله عز وجل، ومن التقوى الاقتداء بالسلف الصالح من هذه الأمة ونعني بالسلف الصالح رسول الله وصحابته والتابعين لهم بإحسان فبذلك يسلم لنا ديننا، وتطهر حياتنا ويسود الأمن والاطمئنان سائر المجتمع الإسلامي قال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: نلتقي اليوم كعادتنا كل يوم جمعة لنتناصح فيما بيننا، فلا خير في قوم لا يتناصحون، ولا خير فيهم إذا لم يقبلوا النصيحة، ومن النصائح الأكيدة التي يجب أن يذكر بها بعضنا بعضا أن الله تعالى نهى المسلمين عن اتباع الكافرين وتقليدهم في أخلاقهم وعاداتهم واحتفالاتهم لأن من تشبه بقوم فهو منهم، ولأن القدوة المثالية لكل مسلم ومسلمة هو رسول الله وأصحابه وأزواجه قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
واليوم أيها المسلمون نستعرض النتائج السلبية التي نتجت عن تقليد الكافرين والمشركين، وكيف جنت هذه النتائج على الأمة الإسلامية أسباب التأخر والانحطاط، ولكن وقبل ذلك نذكر مسألة تتعلق بهذا الموضوع وهي أن المذموم من التشبه بالكفار هو ما يكون بسببه اندثار الدين والقضاء على الشريعة وفساد الأخلاق وما يتعارض مع أحكام الإسلام، وأما ما لم يكن كذلك فليس بمذموم ولا يمنع الشارع منه كالمشاريع التي تعود بالخير والفائدة على الإسلام والمسلمين في المجال الصناعي والتكنولوجي والخبرات المهنية، إنه يجب التنبيه أن الأوربيين من المسيحيين والكافرين لا يقدمون مساعدة للمسلمين إلا أخذوا أضعافها من خيرات البلاد، سواء كانت هذه الخيرات في المجال المادي أو البشري.
ومما يدل على أن الإسلام لا يقف موقف المعارض الرافض للأخذ بتقدم الحياة أن النبي أخذ برأي سلمان الفارسي في غزوة الأحزاب لما أخبره سلمان أن الفرس يتحصنون في حروبهم بالخندق، لأن الحرب خدعة، والاستعانة على العدو بشتى الوسائل مطلوب لقوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم كما ورد أنه أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة غير العربية ليكون ترجماناً له، وصح أنه اتخذ الخاتم لما قيل له: أن الملوك لا يقبلون كتاباً إلا إذا كان مختوماً، لهذا كان الانتفاع بالمخترعات الحديثة لا دخل له في التشبه المحرم شرعاً.
ويزعم كثير من الناس أن التقدم والرقي لا يكونان إلا بالتشبه بالكفار واقتفاء آثارهم، بينما التقدم الحقيقي يكون بالعلم والجهاد والعمل وإنفاق المال وتسخير الطاقات المادية والبشرية نحو الصالح العام، والدليل على ذلك أن اليهود أنفقوا الأموال الطائلة وضحوا بالتضحيات الغالية في سبيل أرض فلسطين وربحوا المعركة هناك، بينما بخل المسلمون بأموالهم في سبيل الجهاد وصرفوها في الخمور والفجور فخسروا المعركة، ولن تحرر فلسطين إلا بالجهاد، والجهاد يكون بالأموال والنفس: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
أيها المسلمون: قال الأمير شكيب أرسلان رحمه الله في كتابه القيم: (لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم) يقول: أضاع الإسلام جاحد وجامد، أما الجاحد فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين ويجردهم من جميع مقوماتهم ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه بالجزئ الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر فيذوب فيه ثم يقول: قوم يعتصمون بدينهم ومقوماتهم الموروثة ولا ينبذون بهذه بحلاوة الألقاب إلى المسلمين، فإذا دعاهم داع إلى الاستمساك بقرآنهم وعقيدتهم ومقوماتهم وباللسان العربي وآدابه والحياة الإسلامية قامت قيامة الذين في قلوبهم مرض وصاحوا لتسقط الرجعية وقالوا: كيف تريدون الرقي وأنتم متمسكون بأوضاع بالية قديمة من القرون الوسطى، ونحن في عصر جديد.
وجميع هؤلاء الخلائق تعلموا وتقدموا وطاروا في السماء، والمسيحي منهم باق على إنجيله وتقاليده واليهودي باق على توراته وتلموده، والياباني باق على وثنيته، وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقى إلا إذا رمى قرآنه وعقيدته.... ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وأدبه وانفصل من كل تاريخه، فإن لم يفعل فلا حظ له من الرقي.
فهذا أيها المسلمون كلام الباقين الذين عرفوا الإسلام وعرفوا الحضارة الغربية الزائفة أتيت به دليلاً على ما في التشبه بالكفار والمشركين من المفاسد الدينية والدنيوية وعليكم أيها المسلمون جميعاً إبطال قول من يقول أن التشبه باب التقدم ومفتاح الرقي وأساس المدنية ومعراج الحضارة وصدق الله العظيم إذ يقول: ايبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً.
عباد الله: أذكر باختصار مفاسد التشبه بالمشركين وأضرار ذلك، وهي كثيرة جداً أذكر منها:
1- الشك في عقائد الدين وعدم الاطمئنان إلى ما بشر به القرآن الكريم. فلا تكاد تجد متشبهاً بالكفار يؤمن بالقرآن إيماناً صحيحاً كما يؤمن به المؤمنون ويعتقد ما يعتقده المسلمون.
ومنهم من يطعن في القرآن بدعوى البحث العلمي وأنه لا صلة لذلك بالاعتقاد ومنهم من ينكر البعث والنشور، ومنهم من ينكر نبوة رسول الله ، ومنهم من ينكر أشراط الساعة والملائكة والجن، ولا يعبأ بنصوص الشريعة، والمنافقون منهم يستترون تحت شعار التأويل الذي هو في الحقيقة تلاعب وتكذيب، وقد أعجبتهم كتب المعتزلة في هذا الصدد فسعوا في نشرها وطبعها لأنهم وجدوا فيها ما يهدم حيث اعتمدوا مع الفلسفة اليونانية وجعلوها في وجه القرآن والسنة.
2- المجاهرة بالطعن في الدين وانتقاص عقائده والاعتراض على شرائعه في المجالس والمدارس والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى من صحف وإذاعة وتلفزة، وهاهم يعترضون على الأحكام المتعلقة بالمرأة من ميراث وطلاق وزواج يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ومن المفاسد التي جناها علينا تقليد الكفار والمشركين:
3- حرية الأديان والأخلاق. فأصبح بعض الناس يرى أنه حر في نفسه يفعل ما يشاء ويعتقد ما يشاء ويتدين بالدين الذي يشاء، الأمر الذي ضاع به الدين وفسدت الأخلاق وانتشرت الفوضى، ويحتجون بآيات من القرآن الكريم لا يصح الاحتجاج بها مثل لا إكراه في الدين. ومعناها الصحيح أنه لا يكره أحد ذو دين على مفارقة دينه، أما مفارقة المسلم لدينه والمجاهرة بالطعن فيه بين المسلمين وبلادهم فليس ذلك بحرية، ولكنه وحشية واعتداء على الإسلام والمسلمين بمقر دارهم قال : ((من بدل دينه فاقتلوه)).
4- تضييع الفرائض واستحلال المحرمات والتجاهر بالمنكرات، فالأمة الإسلامية أصبحت كالدول الأوربية في كل شيء، لا وجود لإقامة الصلاة في دوائرها، وتغشى المجاهرة بالمعاصي من ربا وخمر وزنا وتبرج واختلاط وسب الدين والملة بدون حياء ولا وجل ولا خوف. ولا خجل لا من الله ولا من الناس.
5- قصر الإيمان على القلب.
6- التركيز على إفساد المرأة وإخراجها من بيتها للتعليم ثم لغيره ومشاركة الرجل في أعماله الخارجية ولو كان هذا العمل لا يتلاءم مع أنوثتها فتشتت بذلك شمل الأسرة المسلمة وانتشر البغاء حتى أصبحنا نسمع عن الفتيات اللواتي يحملن وهن مازلن في الثانوية أو الجامعة.
كل هذا أيها المسلمون سببه تشبه من يدعون الإسلام بالكفار تحت شعار الحرية وحقوق الإنسان.
فاتقوا الله عباد الله واقتدوا بالصالحين وتشبهوا برسول الله وبحبه تفوزوا برضى رب العالمين. قال رسول الله : ((لن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)) وروى الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((يؤذن المؤذن ويقيم الصلاة قوم وما هم بمؤمنين)).
اللهم حبب إلينا سنة رسوله والاقتداء بالسلف الصالح وأحينا على هديهم وأمتنا على ملتهم يا أرحم الراحمين.
(1/1610)
الحقوق المشتركة بين الزوجين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حقوق الزوج الطهارة. 2- من حقوق الزوج حفظ المرأة لعرضها. 3- من حقوق
الزوج تزين المرأة له. 4- من حقوق الزوج حسن تربية الأولاد. 5- الحقوق المشتركة بين
الزوجين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، لأن التقوى خير معين على مشاكل الحياة، ولأن المتقي معه ربه، يؤيده وينصره، قال تعالى: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام:بقي لنا حقان أوجبهما الإسلام على المرأة تجاه زوجها وهما:
- الاغتسال من الحيض والنفاس والجنابة:فللزوج إجبار زوجته على الغسل من الحيض والجنابة والنفاس، لأن عدم الغسل يمنع حق الاستمتاع الذي هو حق له، فيملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقه، ولأن الصلاة واجبة ولا تتمكن منها إلا بالغسل، لقوله تعالى: وإن كنتم جنباً فاطهروا ولقوله عز وجل: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فآتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
- وأما الحق الثاني فهو أن للزوج أن يسافر بزوجته بعد أداء المهر الكامل، إذا كان مأموناً عليها، لقوله تعالى: أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن بشرط عدم الإضرار والخوف على عرضها وحياتها.
وأما الحقوق المشتركة بين الزوجين فمنها:
- المحافظة على شرف الأسرة، فمن حق الزوجين كل على صاحبه المحافظة على عرضه ومن واجبهما المحافظة على عرض أولادهما وذلك بالتزام كل منهما بتنفيذ قول الله عز وجل: والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً.
- لذلك حرم الإسلام على الزوجين معاً الخلوة إلا بالمحارم فقط. وحرم على المرأة أن تأذن لأحد بالدخول إلى بيت زوجها إلا بإذنه، مع الالتزام بالزي الإسلامي عند الاستقبال. ولقوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن وحرم على الزوجة عند مخاطبة الأجنبي أن ترقق الكلمات وأن تخرج الألفاظ رخوة متكسرة، فيطمع الذي في قلبه مرض قال سبحانه: فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً.
- التزين والتحصين من الواجبات المشتركة على الزوجين أن يتزين كل منهما للآخر، وأن يقضي كل منهما حاجة الآخر حتى يشبع تحت دائرة الحلال والاستمتاع الشرعي، فعلى الزوجة أن تتزين لزوجها بما أحل الله من الكحل والحناء والطيب والملابس الجميلة وغير ذلك من أنواع الزينة، حتى لا يتطلع إلى سواها كما أن عليها أن تعتني بنظافة نفسها وأولادها وطعامها وفراشها، وأن تتحلى بما تشاء من الذهب والفضة والأحجار الكريمة دون قيد أو شرط وأن تعطي زوجها كل أنوثتها فإذا دعاها إلى فراشه لا تنتظر لحظة ما لم يكن عندها عذر شرعي من حيض أو نفاس أو مرض أو صيام مفروض.
وبالمثل فإن على الزوج أن يتزين لزوجته وأن يصونها من التطلع إلى غيره، لقول ابن عباس إني أحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي، دخل على الخليفة عمر زوج أشعث أغبر ومعه امرأته وهي تقول: لا أنا ولا هذا يا أمير المؤمنين، فعرف كراهية المرأة لزوجها، فأرسل الزوج ليستحم ويأخذ من شعر رأسه ويقلم أظافره، فلما حضر أمره أن يتقدم من زوجته فاستغربت ونفرت منه ثم عرفته فقبلت به ورجعت عن دعواها، فقال عمر : وهكذا فاصنعوا لهن، فوالله إنهن ليحببن أن تتزينوا لهن كما تحبون أن يتزين لكم.
وسئلت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان يبدأ النبي إذا دخل بيته؟ قالت: (بالسواك). رواه مسلم. وروى الإمام الترمذي عنه أنه قال: ((طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه)) ويحرم على المرأة أن تتزين خارج بيتها، سواء ظهر لونه أو ظهرت رائحته. لقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها. ولقوله : ((المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا زانية)) رواه الترمذي. ولقوله : ((إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً)) رواه مسلم والإمام مالك في الموطأ.
ويحرم عليها أيضاً الوشم والتنميص والتفلج، وفيه حديث رسول الله الذي رواه البخاري ومسلم: ((لعن رسول الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)). التفلح: الوشم، النامصة:والنمص هو نتف الشعر بالمنقاش. ويستثنى – كما قال النووي – إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة ويحرم عليها أيضاً وصل الشعر لحديث رسول الله : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) رواه البخاري ومسلم. والواصلة هي المرأة التي تزيد الشعر للمرأة بوصلة بغيره كما هي موضة اليوم، ويدخل فيه ما يسمى بالباروكة، والمتسوصلة هي التي تطلب ذلك.
كما يحرم على المرأة حال زينتها أن تقص شعرها تشبهاً بالرجال وتقليداً للنساء الكافرات. وفي هذا حديث الإمام مسلم في الصحيح: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)). ويحرم على الرجل التزين بزينة المرأة والتطيب بطيبها وكذا العكس إذا كان في هذا الفعل تشبه للرجال بالنساء، والعكس.
تربية الأولاد على الآداب الإسلامية:
إن تربية الأولاد على الآداب الإسلامية مسؤولية مشتركة بين الزوجين، ويجب على الزوجة باعتبارها أقرب إلى نفوس الأبناء في سنوات عمرهم المبكرة، وأن تغرس فيهم منذ الصغر الآداب الإسلامية كالصدق والحياء والوفاء، وإن تعودهم على العمل بأحكام الدين، والتحلي بمكارم الأخلاق. وأن تكون لهم في ذلك خير قدوة، وعلى الزوج باعتباره المسؤول الأول عن البيت أن يساعد زوجته في ذلك منذ طفولة أولادهما ثم يتحمل دوره بالكامل عندما تتقدم السن بالأولاد. لقوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة. ولقوله : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) ولقوله : ((ما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن)).
وموضوع تربية الأولاد يحتاج إلى مواضيع كثيرة سنفردها في ما يأتي من الوقت إن شاء الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن الحقوق المشتركة حفظ أسرار الزوجية لأن الإسلام يعتبر العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة عن طريق الزواج شيئاً محرماً له اعتباره، فيجب أن يحافظ على أسرار الزوجية ومن أجل ذلك جاءت عدة أحاديث فيها أشد النهي عن هذا الموضوع الدنيء: فقد روى الإمام مسلم أن رسول الله قال: ((إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)). وعن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله فلما سلم أقبل علينا بوجهه فقال: ((هل منكم الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول:فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا؟ فسكتوا: فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها رسول الله ويسمع كلامها فقالت:أي والله إنهم يتحدثون وإنهن ليتحدثن فقال عليه الصلاة والسلام: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل من فعل ذلك شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه بالسكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه)) رواه أحمد وأبو داود والبزار.
هذه هي الحقوق المشتركة بين الزوج وزوجته وأذكر لي ولكم هذه القصة لأم مثالية تأمر ابنتها بحقوق زوجها لها.
خطب عمرو بن حجر ملك كندة أم إياس بنت عوف بن مسلم الشيباني، ولما كان زفافها إليه خلت بها أمها أمامة بنت الحارث فأوصتها وصية تبين فيها أسس الحياة الزوجية وما يجب عليها لزوجها مما يصلح أن يكون دستوراً لجميع النساء فقالت: أي بنية إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، لكنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنية، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فأصبح عليك رقيباً ومليكاً، فكوني له أمة يكن لكي عبداً وشيكاً واحفظي له خصالاً عشراً يكن له ذخراً.
أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لموضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت منامه وطعامه فإن تواتر الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة فالاحتراس بماله، والارعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير وفي العيال حسن التدبير وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصين له أمراً ولا تفشين له سراً فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مغتماً، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً.
ما أروعها من وصية أيها المسلمون. وأين هي الأم العاقلة التي توصي ابنتها ليلة زفافها بمثل هذه الوصية؟ إن أكثر الأمهات يوصين بناتهن بالتحكم بالزوج، وسرقة ماله، وتنغيص حياته حتى لا يفكر في غيرها، وإن الأم التي تفعل هكذا تجني على بنتها، وكما يقول المثل العربي على نفسها جنت براقش.
فاتقوا الله عباد الله واتقوا الله معاشر الأزواج والزوجات، وأدوا الحقوق لبعضكم، وقوموا بالواجبات التي سمعتم عنها في الخطب الماضية.
أوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته فقال: إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق، وإياك وكثرة العتب، فإنه يورد البغض، وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة، وطيب الطيب الماء.
(1/1611)
القمار
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القمار وصورة لأكل المال بالباطل. 2- لماذا حرم الله القمار. 3- أضرار القمار على
مجتمعنا. 4- مسميات مختلفة لأندية القمار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: خير ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله عز وجل قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: يقول الله تعالى في محكم كتابه من سورة النساء: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً.
أيها المسلمون: من الآفات التي أصبح مجتمعنا الإسلامي يشكو منها أكل أموال الناس بالباطل، أي أكل أموال الغير ظلماً وعدوانا كالغصب والخيانة والاحتيال والخداع والغش في المعاملات والقمار. وفي هذه الآيات الكريمة ينهانا ربنا سبحانه عن أكل أموال الناس بالباطل بشتى أنواع الطرق والوسائل.
وقوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم أي أن تكون تجارة حرة شريفة بعيدة عن المرواغة والغش والخداع، وقد أكدت السنة المطهرة هذا المعنى ففي البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به إلى يوم القيامة إلى سبع أرضين)) ، ويروى أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام قال: ((من أخذ أموال الناس يريد اتلافها أتلفه الله)) ، ويحذر عليه السلام من أكل الحرام عموماً بقوله: ((كل لحم نبت من حرام من حرام فالنار أولى به)).
عباد الله: لقد حرم الله القمار وسماه ميسراً في قوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون.
وسبب تحريمه أنه أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه في الآية السابقة، وأيضاً فإنه داخل في قول النبي : ((إن رجالاً يتخوضون في مال الغير بغير حق فلهم النار يوم القيامة)).
لذلك فالميسر أو القمار هو من أكبر الكبائر، حيث قرنه الله عز وجل بالخمر والأنصاب والأزلام، والغاية من تحريمه أن الله تعالى يريد من المسلم أن يكسب معيشته بالطرق المشروعة كالبيع والشراء والفلاحة والصناعة وسائر الحرف والمهن.
والقمار يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني والأحلام الكاذبة، دون الاعتماد على الله عز وجل والتوكل عليه في مباشرة الأعمال الدنيوية المشروعة، هذا ومن جهة أخرى فإن الإسلام يعتبر المال الحلال له حرمة. فلا يجوز أكله بالباطل، والرسول يقول: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) ، إلا عن طريق معاملة شرعية أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة، أما أخذه منه غصباً عن طريق القمار فهذا هو عين الحرام وأكل المال بالباطل.
وحرم الله القمار أيضاً لأنه يورث العداوة والبغضاء بين الناس، وإن أظهروا بألسنتهم الرضا فإنهم دائماً بين غالب ومغلوب، والمغلوب وإن سكت فإنه يسكت عن حقد وعداوة شديدين.
ويحقد من خاب أمله ويعادي من فشلت صفقته، وخسرت تجارته، والخسارة تدفع الخاسر إلى المعاودة لعله يعوض في المرة القادمة ما خسره في المرة السابقة، وكذلك الغالب تدفعه نشوة الربح إلى التكرار، ويدعوه قليل الربح إلى كثيره، ولا يتركه فيؤدي ذلك إلى الإدمان على هذه الآفة وعدم التوبة منها حرصه أن يقلع ويتوب، وصاحب نادي القمار كالمنشار في كل مرة يأكل من الفريقين، وفي أكثر الأوقات كل مال المتقامرين يتجمع له، وبعد برهة ينتقل الرابح من نشوة النصر إلى غم الإفلاس والخسران، وهكذا دائماً أبداً بشكل يشد كلاً من الرابح والخاسر إلى طاولة اللعب ولا يمكنه من الإفلات عنها.
وهذه أيها المسلمون هي كارثة الميسر على الفرد والمجتمع، زد على ذلك أن المقامر مشغول عن واجبه تجاه ربه وواجبه نحو ذريته وأولاده وبيته، ولا شك أن من دخلت هذه المعاملة المنكرة قلبه فأحبها لا يتورع من أجلها أن يبيع دينه وعرضه ووطنه، فإن علاقته بهذه الكبيرة تغرس في قلبه حب المقامرة بكل شيء وحتى بشرفه وعقيدته وقومه ووطنه في سبيل كسب باطل موهوم.
وصدق الله العظيم حيث يجمع بين الخمر والميسر في آياته وأحكامه فهو سبحانه يعطينا النتيجة المترتبة عن الخمر والميسر ويبين أضرارها على الفرد والمجتمع والأسرة والوطن والأخلاق بقوله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون.
وفي إحدى دول الغرب توجد صخرة على شاطئ البحر تعرف باسم صخرة الانتحار يلعب المقامر على كل شيء يملكه بما فيها، زوجته وسيارته فإذا خسر طاولة اللعب صعد إلى هذه الصخرة.. لينتحر أي يقتل نفسه والعياذ بالله.
ذلك أيها المسلمون أن المقامر عديم الشرف عديم الدين عديم الضمير عديم الأخلاق. لا يتحرج عن تقديم زوجته وبناته لكسب المال ليلعب به، ويبيع كل شيء تصل إليه يده ليقامر به حتى فراشه الذي ينام عليه، وهذه مسائل مشاهدة رأي العين في المقامرين تجده يقترض في أول الشهر وقد يسرق من طعام أطفاله كل ذلك من أجل القمار.
أخرج الإمام أحمد والطبراني وأبو داود عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله : ((الرجل إذا قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق)) فإذا اقتضى مطلق القول طلب الكفارة بالصدقة فما ظنك بالفعل والمباشرة.
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: لقد اتخذ القمار في البلاد الإسلامية صفات وألواناً متعددة، فهيئت له النوادي، وبنيت له المراكز الخاصة به، وأصبح له رواد من الأغنياء والفقراء، وكل هذا من حملات اليهود والنصارى والشيوعيين على بلاد المسلمين وأطلقوا على القمار أسماء كثيرة فسموها التيرسي. واللوتو واليانصيب، ونشروها بين أبناء المسلمين ليستغلوا بها العقول ويستولوا بها على الضمائر، فدخل القمار البلاد الإسلامية بجميع أنواعه، ولربما هناك بعض أنواع القمار محرمة في بلاد الكفار، لكن في بلاد المسلمين مباحة وأبوابها مفتوحة بكل حرية ومزدحمة بالطماعين المتكاسلين والعاطلين، فاشتغل كثير من الناس بهذه الآفة الخطيرة (القمار) وتعلقت قلوب الرجال والنساء والأطفال بالربح الخيالي الذي ينتظرونه في كل لحظة عن طريق الميسر والقمار، والمستفيد الوحيد من هذا كله هم أعداء الإسلام الذي أنشأوا هذا القمار وأشاعوه بين الناس في ديار المسلمين، والمسؤولية العظمة والعلاج الناجح يبقى وإنما بيد الأمة المسلمة عموماً حكاماً ومحكومين، رؤساء ومرؤوسين، فكم من أولاد في الشوارع من غير تربية ولا تعليم وكان سبب هذا التشريد أبوهم المقامر، وكم من نساء خرجن للبغاء والفساد بسبب القمار، وكم من أرواح أزهقت ونفوس قتلت وخاصة من الشباب الذين هم عمدة الدين والوطن بسبب هذا الداء العضال داء القمار والميسر كما سبق أن ذكرت في الخطبة الأولى صخرة الانتحار الموجودة في دولة من دول الغرب الكافر.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأقلعوا عن هذه المعاملة المحرمة، وهذا الفعل الشنيع الذي حرمه ربنا في كتابه ورسولنا في سنته وأجمع المسلمون على تحريمه حيث يؤدي العمل به إلى أكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على أموال الناس وغصبها، والواجب على كل مسلم أن يكسب المال من الحلال ليكسبه من الطرق المشروعة النظيفة الخالية من الشبهة والريبة، فالرسول يقول: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)). والقرآن خاطب الرسول عليه السلام بقوله: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم.
اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه وأبعدنا عن الحرام وأسبابه إنك ولي ذلك والقادر عليه آمين.
(1/1612)
حفظ الأيمان
فقه
الأيمان والنذور
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعظيم من أمر إنشاء اليمين بلا داع. 2- الاستخفاف باليمين وإطلاقها لترويج السلع. 3-
عاقبة اليمين الكاذبة. 4- أقسام اليمين (لغو – منعقدة – غموس). 5- وجوب الكفارة ومقدارها
في اليمين المنعقدة. 6- بعض أحكام اليمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: يقول الله عز وجل: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. في هذه الآيات يخبرنا الحق سبحانه عن الذين يتعاملون مع الناس بالحلف والأيمان الفاجرة ليحصلوا على الأثمان الزهيدة القليلة من عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، إنهم لا خلاق لهم في الآخرة أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم فيها، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة أي لا يكلمهم كلام لطف ولين، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة ولا يزكيهم أي لا يطهرهم من الذنوب بل يأمر بهم إلى النار ولهم عذاب أليم.
أيها المسلمون: إن شأن اليمين عند الله عظيم، وخطر التساهل بها جسيم، فليست اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان، ولكنها عند الله عهد وميثاق، يجب على المسلم أن يقف عند حده ويوفيه حق قدره. فقد قال : ((من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله)). قال الله تعالى: واحفظوا أيمانكم. قال ابن عباس : (يريد: لا تحلفوا) فيكون معنى الآية هو النهي عن الحلف، فلا ينبغي للمسلم أن يكون متسرعاً في اليمين إلا عند الحاجة. فإن كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالمحلوف به وعدم تعظيمه وتوقيره.
واعلموا رحمكم الله أن كثرة الحلف من صفات الكفار والمنافقين قال تعالى في صفات الكفار: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم. فنهى سبحانه عن طاعة الحلاف، وهو من يكثر الحلف، وقال عن المنافقين: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون وقال عنهم: اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ، أي جعلوا الحلف وقاية يتوقون بها ما يكرهون ويخدعون بها المؤمنين، ومن قبلهم حلف إبليس اللعين لآدم وزوجه ليخدعها باليمين قال تعالى عن إبليس وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور أي أقسم لهما إنه يريد لهما النصح والمصلحة فدلاهما بغرور أي خدعهما بذلك القسم وأوقعهما في المعصية.
أيها المسلمون: إن من الاستخفاف باليمين أن تصبح وسيلة لترويج السلع قال : ((الحلف منفقة للسلع ممحقة للكسب)) رواه البخاري ومسلم. ومعناه أن يحلف صاحب السلعة إنه أعطى فيها كذا وكذا أو أنه اشتراه بكذا وكذا، وهو كذاب في ذلك، وإنما يريد التغرير بالمشتري ليصدقه بموجب الحلف، فيكون الحالف عاصياً لله عز وجل وآخذاً للزيادة بغير حق فيعاقبه الله تبارك وتعالى بذهاب البركة من كسبه وربما بمحق الله له ماله كله.
وروى الطبراني بسند صحيح أن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)) ومعنى جعل الله بضاعته أي جعل الحلف بالله وسيلة لترويج بضاعته وسلعته، فيكثر من الأيمان الكاذبة ليخدع الناس فيشتروا منه اعتماداً على يمينه الكاذبة، فكان جزاؤه إعراض الله عنه يوم القيامة فلا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
وفي هذا الحديث نرى أن الرسول قد قرن الحالف بالله كذباً بالزاني والمتكبر مما يدل على عظيم جريمته نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
أيها المسلمون: وقد يتساءل بعض الناس أو كثير منهم بالإيمان في حال الخصومات والتقاضي فيحلف الخصم ليكسب القضية وينقلب على خصمه بالباطل، دون مبالاة بحرمة اليمين وبالجرأة على رب العالمين وقد ورد وعد شديد لمن يتصف بهذه الخصلة الذميمة فقال سبحانه في الآية السابقة إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم. وروى الإمام أحمد والنسائي إن رجلاً من كندة يقال له امرؤ القيس خاصم رجلآ من حضرموت إلى رسول الله فقضى على الحضرمي بالبينة فلم يكن له بينة فقضى على امرئ القيس باليمين فقال الحضرمي أمكنته من اليمين يا رسول الله ذهبت ورب الكعبة أرضي فقال النبي : ((من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان)) وقرأ : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً الآية.
وروى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله قال: وإن كان قضيباً من أرك)). وروى البخاري في صحيحه أن أعرابياً جاء إلى النبي فقال يا رسول الله.. الكبائر؟ قال: ((الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس قلت: وما اليمين الغموس؟ قال النبي: يقطع مال امرئ مسلم – يعني بيمين هو فيها – كاذباً)).
عباد الله: ومن الأيمان المحرمة الحلف بغير الله لأن الحلف بغير الله شرك. قال : ((من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك)) رواه الترمذي. وصححه الحاكم. وقال في الحديث المتفق عليه: ((من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)). وقال: ((من حلف بالأمانة فليس منا)) رواه أبو داود بسند صحيح.
فالحلف بغير الله شر ولأن الحلف بالشيء تعظيم له. والتعظيم الذي هو من هذا النوع هو حق لله تعالى وحده والحلف بغير الله من اتخاذ الأنداد مع الله قال سبحانه: فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون قال ابن عباس هو أن تقول: وحياتك، وحياتها، وقد كثر في هذا الزمان من يحلف بالشرف أو بالنبي أو بالأمانة أو بالملح أو بالطعام أو بالدم أو بالأخوة أو بالجنة أو بالنار أو بالشمس وبالقمر أو بالنجوم أو بال بالقباب أو بالأشجار أو بالأحجار، وكل هذا مما نهى عنه رسول الله فيجب على كل من صدر منه شيء من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى، ولا يحلف إلا بالله عز وجل ليسلم من الشرك قال عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً). وذلك لأن الحلف بالله على كذب محرم ومعصية يرجى لصاحبها التوبة لكن الحلف بغير الله أشد تحريماً لكونه شركاً أو يوصل إليه وسيئة الكذب دون سيئة الشرك. روى الأئمة أن رسول الله قال: ((لا تحلفوا باللات، ومن حلف باللات فليقل لا إله إلا الله)). روى أبو الشيخ أن رسول الله قال: ((أربع ليس لهن كفارة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن ويمين صابرة يقطع بها مالاً بغير حق)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: لقد قسم العلماء اليمين إلى ثلاثة أقسام، وهي يمين اللغو، اليمين المنعقدة، واليمين الغموس، فأما يمين اللغو فهي الحلف من غير قصد اليمين، وقال الإمام مالك رحمه الله ومن اللغو أن يحلف على شيء يظن صدقه فيظهر خلافه فهو من باب الخطأ ولا كفارة فيها لقوله سبحانه: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان.
واليمين المنعقدة هي اليمين التي يقصدها الحالف ويصر عليها فهي يمين متعمدة مقصودة وليست لغواً يجرى على اللسان وتجب الكفارة فيها، وهي المذكورة في قوله تعالى: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم.
وأما اليمين الغموس فهي اليمين التي يقصد بها الحالف اليمين باسم الله تعالى وهو كاذب، ولا كفارة فيها ويجب فيها التوبة وسميت بالغموس لأن صاحبها ينغمس بها في الإثم العظيم أو في جهنم والعياذ بالله.
ومن الأيمان المنهي عنها اليمين التي يحلف بها المسلم ليمتنع بها من فعل الخير، قال تعالى: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم. أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم وتتصدقوا على المساكين والمحتاجين، وإذا حلف المسلم على ألا يفعل الخير فإنه شرع له أن ينقض يمينه ويفعل ما حلف على تركه ويكفر عن يمينه قال تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم. أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم مع تركها، وذلك بأن يُدعى أحدكم إلى صلة رحم أو عمل بر فيمتنع ويقول: حلفت ألا أفعله وتكون اليمين مانعة له من فعل الخير، بل يكفر عن يمينه، ويفعل الخير وفي الصحيحين أن النبي قال: ((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت يميني)) وإذا حلف على ترك مباح كلبس ثوب أو ركوب دابة أو أكل طعام وغير ذلك فإنه يخير من الاستمرار في يمينه أو الحنث والتكفير عن يمينه. قال الله عز وجل: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي شرعها بالكفارة المبينة في سورة المائدة.
فاتقوا الله معشر المؤمنين وابتعدوا عن كثرة الحلف في البيع والشراء وفي معاملاتكم كلها. وليتق الله الآباء والأمهات الذين يحلفون بالله كذباً أمام أطفالهم فقد سمعتم الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع التي توعدت الحالفين بغير الله حتى أوصلتهم قريباً من مرتبة الشرك والعياذ بالله.
فاتقوا الله واسمعوا ربكم ماذا يقول لكم: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون.
(1/1613)
حق الزوج على زوجته
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقوق الزوج على زوجته: الطاعة – مراعاة شعوره – حفظ ماله وعرضه – تدبير شؤون
المنزل – عدم الإذن بدخول غريب في منزله. 2- فضل حسن تبعل المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وذلك بأداء طاعته، وترك معصيته، فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً حتى يكون متقياً، لأن التقوى هي التي تؤهله للإيمان الصحيح قال تعالى: واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.
معشر الأخوة والأخوات في الإسلام: ها نحن نعود مرة أخرى للذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، نعود لنذكر بعضنا بعضاً بهذه الحقوق التي لابد لنا من أدائها لأهلها، فقد عرفنا في الخطبة السابقة حقوق الزوجة على زوجها، وهي حقوق مادية ومعنوية وهي تقديم الصداق، والنفقة، وإعطاؤها حقها في المبيت، ومعاشرتها بالمعروف، ووقايتها من النار، وذلك بتعليمها وإرشادها إلى ما ينفعها في دينها.
تلكم أخوتي المسلمين وأخواتي المسلمات هي حقوق المرأة على زوجها.
واليوم نتعرف بحمد الله وتوفيقه على حقوق الزوج على زوجته، ذلك أن الإسلام فرض لكل من الزوجين حقه على الآخر، فمن أخل بها أو أعرض عنها أو تهاون في أدائها وهو يعلم، فقد عرض نفسه للعنة الله وغضبه والعياذ بالله من ذلك.
أ- إن أهم حق من حقوق الزوج على زوجته هو الطاعة، نعم فقد ولى الله تعالى الرجل القوامة على الأسرة وأوجب له الطاعة حتى يستطيع أن ينفذ ما أمره الله به من القوامة في سهولة ويسر لا يعتريها غضب أو عناء. وللرجل أن يمنع زوجته من العمل خارج المنزل ما لم يكن قد شرط لها حقها في ذلك عند العقد، فإذا كان شرط لها ذلك فعليه الوفاء لقول رسول الله : ((إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)). فوجب على المرأة أن تطيع زوجها إذا أمرها بشيء يهمه أو يهمها في الدين أو الدنيا كتربية الأولاد، والجلوس في البيت لتدبير شؤون المنزل، أما إذا أمرها بشيء لا يرضي الله ورسوله فلا تطعه كارتكاب معصية من شرب خمر أو تبرج أو مجالسة الفساق والذين لا دين لهم ولا خلاق، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف كما قال عليه السلام، وفي حديثه الصحيح قال عليه السلام: ((إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها، قيل لها يوم القيامة: ادخلي الجنة من أي أبوابها الثمانية شئت)).
فكما أن المرأة إذا أطاعت زوجها حينما يأمرها بطاعة الله تعالى يكون لها الأجر مرتين فكذلك إذا خالفته في طاعة الله يكون عليها الوزر مرتين، ولا شك أيها المسلمون أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ الأسرة من الانشقاق ويحفظ قلب الزوج من النفور منها، فعلى الزوجة المؤمنة أن لا تغتر بأولئك الذين يدعونها إلى الخروج عن طاعة الزوج ويجرونها إلى المهالك والمحرمات.
أيها المسلمون: قدم معاذ بن جبل من الشام مع رسول الله فسجد بين يديه فقال : ((ما هذا؟ قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك لك فقال : فلا تفعل فإني لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حقها حتى تؤدي حق زوجها)). وقال : ((اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبد أبق عن مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع)) رواه الطبراني. وروى الحاكم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت سألت رسول الله : أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: ((زوجها، قالت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه)).
ب- رعاية كرامته وشعوره فلا يرى منها في البيت إلا ما يحب، ولا يسمع منها إلا ما يرضى، ولا يقابل منها بمكروه لأن الرجل المؤمن لا يجد السكينة إلا في بيته ولا يشعر بالراحة إلا مع زوجته، فقد تتعبه الأعمال والخدمات التي يقوم بها خارج البيت، فإذا جاء إلى البيت ليستريح فوجد الزوجة قد أعدت له مشاكل أكثر مما كان يقوم به وذلك بأن تكثر من الشكايات والخصومات مع الجيران أو مع أهله كأمه أو إهمال بيته من فراش أو نظافة أو إعداد طعام في وقته، فسوف يشعر الزوج أنه أشقى الناس، ولذلك نجد بعض الرجال يفضلون الجلوس في المقاهي على البيوت، لما يجدون من راحة في المقهى أحسن مما يجدونها في البيت مع الزوجة الشريرة على هذا الشكل.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي أن النبي قال: ((لا تؤذين امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت له زوجه من الحور العين: لا تؤذيه، قاتلك الله هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا)). أيرضيك أيتها المرأة المسلمة أن تنفري زوجك منك، فتؤذيه بلسانك وعصيانك، فإن فعلت ذلك فاعلمي أنه سينتقل إلى الجنة ويكون زوجاً للحور العين في الجنة، تلكم الزوجات التي قال الله عنهن: حور مقصورات في الخيام. وقال فيهن: لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.
ج- حفظ ماله وعرضه:ومن حق الزوج على زوجته أن تحفظ له ماله وعرضه، فتكون مدبرة في نفقتها ملتزمة بطاعته، فلا تنفق شيئاً أو تعطي أحداً من ماله إلا بإذنه وبعد أن تستوثق من رضاه قال رسول الله : ((لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه. قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذلك هو أفضل أموالنا)) رواه الترمذي بسند جيد.
وعليها أن تحفظه في عرضه وذلك بأن لا تخونه في إبداء زينتها أمام غيره من الرجال، وأن تبتعد عن التبرج والتعرض للأجانب في البيت وخارجه كالنظر من الباب والشرفة وفي الطريق والمحلات التجارية كما هو حال نسائنا اليوم. فإنك لا تكاد تمر على دار إلا وتجد النساء واقفات بالأبواب أو ينظرن من النوافذ والشرفات فضلاً عن أنهن يخرجن إلى الشوارع والطرقات، فإن هذه تعتبر خيانة عظمى، ولو رضي الزوج لكان كلا منهما خان الله ورسوله.
د- تدبير شؤون المنزل: يجب على الزوجة أن تقوم بتدبير شؤون منزلها وتربية أولادها وهو العمل الذي يبقي لها صحتها ويحفظ قوتها، فإن العمل ينفي عن صاحبه الأمراض والأسقام، وليكون للمرأة المسلمة في ابنة رسول الله فاطمة الزهراء الأسوة الحسنة، فقد جاءت فاطمة إلى أبيها تشكو يبس يديها من كثرة إدارة الرحى ومشقة القيام بشؤون منزل زوجها علي ، وطلبت خادماً فقال لها : ((ألا أدلك على ما هو خير لك من الخادم؟ تسبحين الله إذا آويت إلى فراشك ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من الخادم)) ، الله أكبر وصلى الله عليك يا رسول الله، ورضي الله عنك يا فاطمة. جاءت تطلب خادماً فأرشدها إلى ذكر الله تعالى وتسبيحه وحمده وتكبيره.
نعم أيها المسلمون لأن ذكر الله يزيل الهم ويكشف الغم قال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
نفعني الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ما زلنا مع حقوق الرجل على زوجته.
هـ- ومن حقوقه عليها أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية إلا بإذنه، ولا يدخل عليها هو أيضاً من لا يخاف الله تعالى، فقد يخون بنظرة وكلمة ويرمي في البيت شرارة فتنة قال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)). والحمو أقارب الزوج أو الزوجة كأبناء العم والخال والعمات والخالات وقال : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر والعاق والديوث)) وهو الذي يقر الخبث في أهله ولا يبالي من دخل على أهله.
ولقد أصبحت أكثر أسر المسلمين تأذن فيها الزوجة للرجال في الدخول عليهن، والزوج غائب عن البيت، ومن الرجال من صار لا يبالي بمن دخل على زوجته، فصرنا نسمع بما يسمى بصديق العائلة، حيث يدخل هذا الذئب المفترس البيوت بدون استئذان، وكم من بيوت خربت، وكم من نساء طلقت، وكم أطفال شردوا، وقد تجد بيت ذلك الزوجة أو الزوج أو هما معاً. والسبب الرئيسي هو عدم امتثالنا لهذا الحديث وأمثاله وصدق الله العظيم إذ يقول: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أيها المسلمون: مازال في الكلام بقية، وسنعرف بقية الحقوق الواجبة على المرأة إلى زوجها وحتى لا أطيل عليكم، وأختم خطبتي هذه بهذا الحديث الذي رواه البزار والطبراني عن ابن عباس قال جاءت امرأة إلى النبي فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن أصيبوا أجروا، وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ فقال رسول الله : ((أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة المرأة الزوج واعترافها بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله ثم قال : لا ينظر الله سبحانه وتعالى إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه)).
فاتقوا الله عباد الله واتقين الله معشر النساء، واعرفن هذه الحقوق وأدينها في الدنيا لأزواجكن فإنكن مسؤولات أمام الله تعالى عنها، لأن كل حق لابد له من طالب، والله تعالى حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا محرماً. عن حصين بن محصن قال حدثتني عمتي قالت أتيت رسول الله في بعض الحاجة فقال لي: ((أي هذه أذات بعل؟ قالت: نعم قال: كيف أنت له؟ قالت: لا آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: فانظري أين أنت منه. فإنه هو جنتك ونارك)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وموعدنا في الجمعة المقبلة مع تتمة الحقوق.
(1/1614)
حق المرأة على زوجها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, المرأة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التأكيد على وضعية المرأة واحترامها في شريعة الإسلام. 2- الحقوق المادية للمرأة على
زوجها (المهر – النفقة – الحماية – العشرة بالمعروف – العدل مع ضرتها). 3-نصائح للزوج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول الله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ويقول عز من قائل: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ويقول سبحانه: فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض.
معشر الأخوة والأخوة في الإسلام، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فرضاه وجنته سبحانه طاعته وتقواه، وسخطه وغضبه في معصيته قال سبحانه: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى.
أيها المسلمون: أرى لزاماً علي وقد كلفت بمهمة الخطابة والوعظ فيكم، أن أفتح معكم هذا الموضوع الهام، موضوع حقوق الزوج مع زوجته، وحقوق الزوجة على زوجها، ذلك لأن كثيراً منا نحن المتزوجون يجهل هذه الحقوق، يجهلها الرجال قبل النساء.
ثم إنني أقصد بكلمتي هذه نصيحة أخوتي المسلمين وأخواتي المسلمات خصوصاً من تزوج في هذه السنوات الحاضرة ومن هو مقبل على الزواج.
وأقول لي ولكم: أيها المسلمون إن كثيراً من البيوت في مجتمعاتنا الإسلامية مخزية، لأن الأزواج والزوجات لم يعرف كل منهما الحقوق والواجبات عليه، وبالتالي فكيف يستطيع أن يؤديها لشريك حياته. لذلك أرجوكم أن تفهموا هذا الموضوع وأن تستمعوا إليه بقلوبكم قبل آذانكم وأن تعملوا به وتبلغونه إلى أهليكم وأقاربكم فيكون لي ولكم إن شاء الله أجر الاستماع والفهم والعمل والتبليغ، ورحم الله امرء سمع فوعى فبلغ، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
أيها المسلمون: الإسلام دين الواقع لا يلقي بأهله في مثاليات لا تعيش على أرض الواقع، ولا يرتفع بأهله إلى بروج عالية، طالما أن أصلهم وحياتهم ملتصقة بالأرض والواقع، ومعنى هذا أن الإسلام يقيم كل شيء على أساس من التقابل الزرع بالحصاد، والإيمان يقابل بالثواب، والكفر يقابل بالعقاب، والحقوق بين الزوجين تقابل بالواجبات.
وهذه الواجبات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1- واجبات الزوج لزوجته. 2 – واجبات الزوجة لزوجها. 3 – واجبات مشتركة بينهما.
فنبدأ أولاً بواجبات الزوج لزوجته:أي الحقوق التي أمرت شريعة الإسلام الزوج بإعطائها للزوجة وهي كما يلي:
1- تقديم المهر المتفق عليه بينهما في الوقت الذي تطلبه الزوجة قبل الدخول أو بعده، ولها الحق أن تمتنع عن تسليم نفسها له حتى يعطيها صداقها، ولا تعد بذلك عاصية لله ولا خارجة على أمر زوجها، فلا تسمى حينئذ ناشزة ولا تحرم من النفقة، لأن الله تعالى يقول: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، ويقول سبحانه: فآتوهن أجورهن فريضة. وبهذا أعطى الإسلام للمرأة حق التملك، لأن العرب في الجاهلية كانوا يمنعونها من هذا الحق ولم تحدد الشريعة الإسلامية قيمة المهر، ولا يشترط فيه إلا أن يكون شيئاً له قيمة، فيجوز أن يكون خاتماً من حديد، أو تعليماً لكتاب الله وما شابه ذلك إذا تراضى عليه المتعاقدان، فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله : ((أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم فأجازه)) [رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه]. وعن أنس أن أبا طلحة خطب أم سليم فقالت: والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك فإن تسلم فذلك مهري ولا أسألك غيره، فأسلم، فكان ذلك مهرها. وقال : ((يُمن المرأة في قلة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها، وشؤمها غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها)).
2- الإنفاق عليها على قدر حالته المادية، والنفقة هي الطعام والشراب والملبس والمسكن وأن يكون ذلك كله من حلال، لا إثم فيه ولا شبهة، وليس من المروءة أن يتلذذ الزوج بما يشتهي في المقاهي والنوادي والرحلات. ثم يبخل بشيء من ذلك على زوجته، ومن فعل شيئاً من ذلك وترك زوجته بغير أكل ولا شراب أو يأكل أفضل مما تركه لها، فقد ارتكب إثماً كبيراً إذا لم تسمح له بذلك.وكم يقبح بالزوج أن ينفق على أهله المشبوه والحرام فيفسد بذلك حياتهما معاً، قال الله عز وجل: ولينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها.
وسأل رجل رسول الله قائلاً: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)). وقال : ((كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)). وكل هذا حفظ ورعاية للزوجة ووقاية لها.
أيها المسلمون: إن الذي ينفق على نفسه بسخاء ثم يبخل على زوجته وأولاده ببعض ذلك قد يدفع بزوجته ثم بأولاده إلى طريق الفساد والانحراف، وهذا هو ما حرمه الإسلام ونهى عنه.
وأعظم الإسلام الأجر والثواب لمن أنفق على أهله وكفاهم ذل المهانة والافتقار عن الناس قال : ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي صدقة)) وقال : ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة أي في إعتاقها، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)).
وروى البخاري ومسلم عن عائشة أن هنداً بنت عتبة قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)).
نفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ومن الحقوق للزوجة على زوجها غير المادية:
- وقايتها من النار وذلك بأن يعلمها دينها، كيف تؤمن بالله تعالى الإيمان الحق بأسمائه وصفاته على وجه التنزيه والتعظيم، وأن يعلمها أحكام العبادات من صلاة وطهارة وحيض ونفاس وصيام وزكاة وحج، وأن يبعدها كل البعد عما تعيشه النساء في عصرنا من شرك وشعوذة وذهاب إلى الكهان والسحرة والشوافين والأولياء والصالحين والقبور والأشجار والأحجار لقصد الشفاء والمال وغير ذلك، وأن يعلمها مكارم الأخلاق من تطهير القلب من أمراض الحسد والبغضاء والرياء، وتطهير اللسان من الغيبة والنميمة والكذب والسب والفحش واللعن، وأن لا يأذن لها في التبرج وإظهار مفاتنها أمام الرجال سواء بالبيت أو خارجه لئلا يكون شريكاً لها في الإثم والمعصية بل ويراقبها في ذلك كله ما استطاع إليه سبيلاً، لأن الرجل مكلف ومسؤول أمام الله عن وقاية زوجته وأولاده من النار وهو أمر من أمر الله تعالى حيث يقول عز من قائل في كتابه الكريم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة قال علي : (أدبوهم وعلموهم). وروى عن ابن عمر قال: حين نزلت هذه الآية: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلنا؟ فقال : ((تنهونهم عما نهاكم الله عنه وتأمرونهم بما أمركم الله به فيكون بذلك وقاية)).
- معاشرتها بالمعروف حتى في حالة الكراهية لقوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً وقال : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)). ومن حقوقه عليها أن لا تأذن لأحد بدخول بيته من رجل قريب أو امرأة قريبة أو أجنبية إلا بإذنه، ولا يدخل هو عليها من لا يخاف الله تعالى فقد يخون بنظرة أو كلمة فيرمي في البيت شرارة فتنة فقد قال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)) والحمو قريب الزوج أو قريب الزوجة كأبناء العم وأبناء الخال وأبناء العمات وأبناء الخالات أو أخ الزوج وقال : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر والعاق لوالديه والديوث الذي يقر الخبث في أهله ولا يبالي من دخل على أهله)).
- أن لا تخرج من بيته إلى طريق الجهلة من الرجال الذين لا يرضون إلا بإذلال زوجاتهن واستضعافهن فإن ذلك لا ينتج عنه إلا دفعها إلى التخلق بصفات الكذب والخيانة والنفاق وغير ذلك من أرذل الصفات فإن فعلت كان على الأسرة السلام.
- ألا يعرضها للفتن فيطيل غيابه عنها ويدفعها بذلك إلى الفسوق بقراءة القصص المثيرة أو يأخذها إلى دور الملاهي والخلاعة أو يسمعها أغاني الخنا والفسوق والفحش أو يجمعها مع الرجال الأجانب فإن المرأة تشتهي ما يشتهي الرجل، والحرام يشتهى أكثر من الحلال، ولقد كان عمر لا يسمح للمجاهد أن يتأخر عن أهله أكثر من أربعة أشهر. لما علم من ابنته سيدتنا حفصة رضي الله عنها أن المرأة لا تصبر على زوجها أكثر من ذلك خشية الفتنة، وما أحسن ما قالت فاطمة الزهراء بنت رسول الله حينما سألها أبوها : ((ما خير للمرأة؟ فقالت أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمها إلى صدره وقال: ذرية بعضها من بعض)) [رواه البزار والدارقطني].
- إعطاؤها حقها في المبيت أي الفراش وأن لا يميل عنها إلى غيرها بدون عذر شرعي خصوصاً إذا كانت معها زوجة أخرى، فالواجب على الزوج أن يعدل بينهما فإن لم يستطع العدل فليكتفي بزوجة واحدة لقوله تعالى: فإن لم تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ويقول تعالى: ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه. ويقول سبحانه: فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً. وقال في حديث السنن: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما بعث يوم القيامة وشقه مائل)) وقال عمر : (ينبغي للرجل أن يكون في بيته كالصبي) أي في الإنس والبشر وسهولة الخلق.
- وأخيراً هذه نصائح أقدمها للرجل حتى يتحقق في حياته الزوجية ما ذكره الله في كتابه العزيز: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة.
- فكن عادلاً أيها الرجل في كل تصرفاتك مع زوجتك.
- وكن عادلاً في التوفيق بين محبتك لزوجتك ومحبتك لوالديك وأهلك، فلا يطغى جانب على جانب، ولا يسيطر محبة على محبة، فأعط كل ذي حق حقه بالحسنى والقسطاط المستقيم.
- لا تذكر محاسن امرأة أخرى أمامها ولو كانت عمتك أو خالتك بل حتى أمك.
- أشعرها بأنها كل شيء في حياتك، والكذب في هذا المقام حلال بنص الشرع لإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، وعلى العدو.
- كن لها كما تحب أن تكون هي لك في كل ميادين الحياة وجوانب الحياة الزوجية، فإنها تحب منك ما تحب منها.
- شاركها وجدانياً فيما تحب أن تشاركك فيه فزُر أهلها زيارات أسرية، ولك رسول الله أسوة حسنة فقد كان يهش للقاء بعض الصحابيات ويقول: ((إنها كانت صاحبة خديجة)) رضي الله عنها حتى أن عائشة رضي الله عنها تقول: (ما غرت على أحد ما غرت على خديجة من كثرة ما كان يذكرها بخير).
- لا تجعلها تغار من عملك بانشغالك به أكثر من اللازم، ولا تجعله يستأثر بكل وقتك وبخاصة إجازة الأسبوع، فلا تحرمها منك فيها، إما في البيت أو خارجه حتى لا تشعر بالملل وال سآمة خاصة إذا كانت زوجة محجبة وملتزمة بالإسلام لا تخرج إلا لحاجة.
- لا تكن مستبداً برأيك فاستشرها وخذ برأيها إن كان صواباً وإن خالفتها الرأي فاصرفها إلى رأيك برفق ولباقة، ولك في رسولك العظيم أسوة حسنة، فقد استشار أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية وكان رأيها خيراً وبركة. فقد خرج مغضباً قائلاً: هلك أصحابي فقالت: وكيف يا رسول الله؟ فقال: إنهم امتنعوا عن التحلل من الإحرام فقالت: يا رسول الله، اخرج عليهم وتحلل وانحر هديك وهم سيفعلون، وما أن فعل حتى لم يتأخر واحد منهم عن التأسي برسول الله.
- إذا دخلت بيتك فسلم على زوجتك وأولادك فلا تفاجئها، حتى تكون متأهبة للقائك ولئلا تكون على حال لا تحب أن تراها عليها خاصة إذا كنت قادماً من سفر.
- انظر معها إلى الحياة بمنظار إسلامي واحد، ولا تنس أنك المسؤول وأنك قائد السفينة ووصاك حبيبك وحبيبنا جميعاً.
فقال: ((رفقاً بالقوارير)) ، ((إنما النساء شقائق الرجال)) ، ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، إذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج)).
هذه أيها المؤمنون هي حقوق الزوجة على زوجها، فوجب على الرجال الأزواج أن يفهموها ويعملوا بها ويبلغوها ما أمكن، وموعدنا في الجمعة المقبلة مع حقوق الزوج على زوجته، وهي الحقوق المشتركة فيما بينهما.
(1/1615)
حقوق الزوج على زوجته
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حقوق الزوج الصبر على فقره وإعانته. 2- من حقوق الزوج الاستمتاع الحلال متى
أراد. 3- التحذير من الامتناع عن تلبية نداء الزوج. 4- تأديب المرأة حال نشوزها وكيف
يكون ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فقد أمرنا الله تعالى بها في غير ما آية من كتابه العزيز ومنها قوله عز وجل في مخاطباً رسوله الكريم في أول سورة الأحزاب: بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليماً حكيماً.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: لقاؤنا اليوم مع مواصلة الكلام على حقوق الزوجية وبالأخص حق الزوج على زوجته، وقد سبق لنا أن تكلمنا عن هذا الموضوع، وعلمنا أن من حقوق الزوج على زوجته خمسة وهي: الطاعة، ورعاية كرامته وشعوره، وحفظ ماله وعرضه وتدبير شؤون المنزل، وأن لا تأذن لأحد بدخول بيته إلا بإذنه.
ومن الحقوق الأخرى:
- التصدق عليه من مالها في حالة فقره، والصبر على قلة ذات اليد إن كان الزوج فقيراً ولم يكن له مال. قالت زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها قال رسول الله : ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت: إنك رجل عفيف ذات اليد وإن رسول الله أمرنا بالصدقة فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيرك. فقال عبد الله: ائته أنت، فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله حاجتها حاجتي، وكان رسول الله قد ألقيت عليه المهابة، وخرج علينا بلال فقلنا: ائت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام حجورهما ولا تخبره من نحن؟ قالت: فدخل بلال على رسول الله أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود فقال رسول الله لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة)) رواه البخاري ومسلم.فمن منكن معشر النساء من تساعد زوجها إذا أصيب بفقر أو إفلاس فتخفف آلامه، وتواسيه بمالها ونفسها، الملاحظ أيها المسلمون والمسلمات أن من النساء من يعشن في غنى وترف ذهب وحلي ومال، وترى زوجها يعيش في مشاكل من ضرائب وغيرها، فلا تساعده بل تطالبه بمطالب لا يستطيعها، فأين الرحمة يا مسلمات، وأين المودة يا مؤمنات، أتكون الزوجة معينة لزوجها على الزمان ومشاكله أم تكون معينة للزمان على زوجها؟ فرحم الله امرأة، أعانت زوجها على مشاكل الحياة بنفسها ومالها.
- ومن حقوق الزوج على زوجته ما رواه أبو داود والطيالسي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال:حق الزوج على زوجته ألا تمنعه نفسها ولو كان على ظهر قت وأن لا تصوم يوماً واحداً إلا بإذنه إلا لفريضة فإن فعلت أثمت ولم يتقبل منها، وألا تعطي من بيتها شيئاً إلا بإذنه فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر، وألا تخرج من بيته إلا بإذنه فإن فعلت لعنها الله وملائكة الغضب حتى تتوب وترجع وإن كان ظالماً.
من الحديث الشريف أيها الأخوة والأخوات في الإسلام نرى أن من حقوق الزوج على زوجته أن لا تمنع نفسها منه إذا دعاها إلى حاجته، وكثير من الرجال يشتكون من نسائهم يمنعونهم هذا الحق المشروع والذي هو أحد مقاصد الزواج، إنه تحصين النفس وتطهيرها من الوقوع في ما حرم الله، فاتقين الله معشر النساء وأدين هذا الحق لأزواجكن، واسمعن معي إلى هذه الأحاديث الواردة عن رسول الله في هذا الموضوع، فقد روى الطبراني أن رسول الله ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: ((كل ودود ولود، إذا غضبت وأسيء إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى)).
وروى الشيخان عنه : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) ورويا أيضاً عنه قوله: ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)).
وصح في الحديث الذي أخرجه أهل السنن أن ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: إمام أم قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ومتصابيان.
ومن الحقوق أيضاً أن لا تصوم يوم نافلة إلا بإذنه وألا تحج تطوعاً إلا بإذنه وألا تخرج من بيته إلا بإذنه وسأخصص إن شاء الله خطبتي في موضوع خروج المرأة من البيت ومتى يرفض لها بذلك في الأيام القادمة بحول الله تعالى.
وقد أعطى الإسلام للرجل حق تأديب زوجته عند عصيانها أمره بالمعروف لا في المعصية ولا تحتاج المرأة الصالحة لتأديب لقوله تعالى: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله. أما اللواتي ينشزن من أزواجهن فقد أمر الله تعالى الرجال بتأديبهن فقال تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً.
ومعنى النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها، وكراهة كل من الزوجين صاحبه، والخروج من المنزل بغير إذن الزوج، وعلامات النشوز إما بالفعل كالإعراض والعبوس والتثاقل إذا دعاها بعد لطف وطلاقة وجه، وأما بالقول كأن تجيبه بكلام خشن غليظ ويبدأ الزوج بالتأديب عند ظهور أمارات النشور بالترتيب التالي:
- الوعظ والإرشاد: بأن يتكلم معها برفق ولين بأن يقول لها: كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب، ولا تكوني من كذا وكذا، أو اتقي الله في الحق الواجب لي عليك، وذلك بلا هجر ولا ضرب ولا فحش في القول، ويبين لها أن النشوز يسقط النفقة والقسم مع ضرتها فعلها تظهر عذراً أو تتوب عما وقع منها بغير عذر والخوف في قول تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن معناه العام: فمن ظهر له أمارة نشوز وإعراض وتحققه وعظها، والوعظ هو الكلام البليغ المؤثر بالنفس ويكون بالتخويف من عذاب الله والتذكير بما عند الله من الأجر والثواب لمن أطاعت زوجها وأدت حق الله عليها له.
- قال الإمام الأصمعي رحمه الله: دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها بعل قبيح فقلت لها:كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت هذا؟ قالت: اسمع يا هذا، لعله أحسن فيما بينه وبين خالقه فجعلني ثوابه ولعلي أسأت فجعله عقوبتي.
نفعني..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: إذا لم ينفع الطريق الأول في عصيان المرأة لطاعة زوجها، وهو طريق الوعظ والإرشاد فإن عليه أن ينتقل إلى الطريق الثاني وهو طريق الهجر في المضجع والإعراض إذا عصته وامتنعت من طاعته أو خرجت من بيته بغير إذنه. فله أن يهجرها في المضجع ما شاء لقوله تعالى: واهجروهن في المضاجع. ولكن بشرط أن لا يهجر إلا في البيت حتى تشعر بغضبه عنها وإعراضه عنها لقوله تعالى: واهجروهن في المضاجع. قال ابن عباس لا تضاجعها في فراشك، وقد هجر النبي نساءه فلم يدخل عليهن شهراً. كما رواه أبو داود والنسائي بإسناد على شرط البخاري ومسلم. قال الإمام القرطبي رحمه الله: هذا الهجر غايته عند العلماء شهر كما فعله حين أسر إلى بعضهن حديثاً أي تحريم مارية فأفشته عائشة. فأنزل الله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله وقيل: مسألة العسل كما رواه البخاري والكل صحيح. وبعض العلماء قالوا لابد للهجر إلى أن تصلح فمتى لم تصلح تهجر وإن بلغ سنين، وجماعة من العلماء قالوا: لا يجوز الهجر فوق ثلاث وهو متعلق بالكلام لقوله في حديث أبي هريرة: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) وبين الزوجين أولى وأحرى ثم تأتي الطريق الثاني وهي الضرب غير المبرح الشائن، لكن الأولى الاكتفاء بالتهديد والتخويف وعدم الضرب لقوله : ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم)) وهو حديث الصحيحين ولقول عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما ضرب رسول الله امرأة له ولا خادماً ولا ضرب بيده شيئاً إلا في سبيل الله أو تنتهك محارم الله فينتقم لله)) رواه النسائي.
والأفضل للزوج بعد الوعظ والهجر في البيت أن ينتقل إلى العلاج الأخير وهو طلب إرسال الحكمين، وذلك إن ادعى كل من الزوجين ظلم صاحبه ولا بينة لهما لقوله تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما. والحكمان حُران مسلمان ذكران عدلان مكلفان فقيهان عالمان بالجمع والتقريب لأن التحكيم يحتاج إلى العقل الراجح والنظر السديد والرأي الصواب وينبغي لهما أن ينويا الإصلاح وأن يلطفا القول وأن ينصفا ويرغبا ويخوفا ولا يخصا بذلك أحد الزوجين دون الآخر، ليكون أقرب للتوفيق بينهما.
فأين نحن من هؤلاء؟ أين هي هذه الأوصاف في كل من يريد الإصلاح بين الزوجين يا مسلمون ويا مسلمات؟ وأكاد أقول: لا وجود لمثل هذين الحكمين إلا ما قل وندر، وإلا فنحن حينما يقع نزاع بين الزوجين تجد الناس منهم من يتحيز للزوجة ومنهم من يتحيز للزوج، ولا تكاد تجد من يستمع للخصمين معاً ويحاول أن يصلح فيما بينهما لقوله تعالى: إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما أي إذا صلحت نية الحكمين في الإصلاح أصلح الله بين الزوجين.
ويحرم على المرأة أن تسأل الطلاق من زوجها بغير عذر لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وحسنه وابن خزيمة وإبن حبان في صحيحهما عن ثوبان عن النبي نه قال: ((أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة)) هذه معشر المؤمنين والمؤمنات حقوق أخرى للزوج على زوجته، ولنا لقاء آخر حول هذا الموضوع في الخطبة المقبلة بحول الله فأرجو أن تسمعوا وتفهموا وتعملوا فرحم الله رجلاً سمع فوعى وامرء سمع شيئاً فبلغه، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
اللهم فهمنا في دينك وارزقنا الحكمة والفهم والعلم به واجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه وأصلح رجالنا ونساءنا وبناتنا وأبناءنا، واقض أغراضنا وفك مشاكلنا، ويسر أمورنا مع الراحة في قلوبنا.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى...
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد..
(1/1616)
حقوق الطريق في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حق الطريق غض البصر. 2- من حق الطريق إماطة الأذى. 3- من حقا لطريق رد
السلام. 4- من حق الطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- من حق الطريق إرشاد
الضال وهداية الأعمى. 6- من حق الطريق قول دعاء كفارة المجلس إذا كان المجلس في
طريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: روى الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال: ((إياكم والجلوس في الطرقات)) فقالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها. فقال : ((فإذا أبيتم إلا المجلس فاعطوا الطريق حقه)) قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
أيها المسلمون: إن للناس أندية ومجالس يجتمعون فيها، ويتحدث بعضهم إلى بعض، وما جلس قوم مجلساً في مكان لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة وندامة يوم القيامة، وقد كان السلف الصالح يقولون: المجالس أمانة فكل مجلس جلسه الناس سواء كانوا أفراداً أم جماعات يعتبر أمانة يحاسب عليها صاحبه يوم القيامة، ومن الأماكن التي يحضرها الخاصة والعامة الطرقات حيث يسلكها الرجال والنساء، ويمر فيها الأشراف والسفهاء، فيظهر للعيان منكر وزور من القول والفعل فلا يستطيع أحد تغييره إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم. ومن أجل هذا ينهى رسول الله في هذا الحديث أول مرة ينهى المسلمين عن الجلوس في الطرقات حسماً لمادة الشر، وسداً لأبواب الفساد، ولئن كان في ذلك شيء من المصالح فالقاعدة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وإن امتنع أحد إلا الجلوس فلا حرج عليه إذا عرف حق الطريق وقام به.
أيها المسلمون: لقد حذر أصحابه من الجلوس في الطرقات لأنه عليه السلام يدرك خطورة تلك المجالس التي كثيراً ما ترتكب فيها الحماقات وتدبر فيها المؤامرات، بل وتتردد فيها الإشاعات وتنتهك فيها الحرمات، لذلك حذرهم خوفاً عليهم وتحصيناً لهم ضد أهوائهم وغرائزهم النفسية التي قد تعيدهم إلى ما كانوا عليه في الجاهلية التي أنقذهم منها رسول الله ولكنهم عندما حذرهم طمأنوه بأنهم لم يجلسوا من أجل هدف دنيوي أو شيطاني وإنما قد جلسوا من أجل هدف ديني، كما في حديث آخر عن أبي طلحة قال: كنا قعوداً بالأفنية نتحدث فيها فجاء رسول الله فقام علينا فقال: ((ما لكم ولمجالس الصعدات اجتنبوا مجالس الصعدات)) فقلنا: إنما قعدنا لغير ما بأس قعدنا نتذاكر ونتحدث قال: ((أما لا فأدوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن الكلام)).
وهكذا أيها المسلمون منهم أن مجالسهم مجالس خير لا شر فيها أقرهم على هذا، ولكن شريطة أن يعطوا الطريق حقه، وهي حقوق خمسة كما هو ثابت في نص الحديث: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
عباد الله: أما غض البصر فد أمر الله تعالى به الرجال والنساء على السواء، فقال عز من قائل: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها. إن الإسلام بهذا التشريع الحكيم يريد أن يقطع الداء من أصله، فقد حرم الزنا وحرم كذلك الطرق الموصلة إليه، وأعظمها النظر لذلك، سأل الإمام علي عن نظرة الفجاءة فقال له : ((صرف بصرك فإن الأولى لك والثانية عليك)).
وقبل غض البصر أمر الله النساء بالاحتجاب عن الرجال، وإذا خرجن فليخرجن كما أمر الله تعالى: وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن ، تخرج المرأة المسلمة لضرورة وإذا خرجت فلتخرج محتشمة في لباسها ومشيها بعيدة عن حركات الريبة ومواضع التهم غير متعطرة ولا متلفتة حذرة كل الحذر من قول الرسول : ((أيما امرأة استعطرت وخرجت على قوم فهي كذا وكذا يعني زانية)). وأما كف الأذى الوارد في الحديث الشريف أنه من حقوق الطريق فهو إماطة الأذى وإزالته عن الطريق إن وجد من غيرك وأن لا تتعرض لأحد بما يكره ولا تذكر أحداً من الناس إلا بخير ولا تهزأ بالمارة، ولا تسخر براكب ولا ماشي، ولا تشر بيديك ولا عينيك إلى رجل أو امرأة بسوء، ولا تحتقر ضعيفاً، لا تضحك من شيخ أحدب ولا عجوز شوهاء، ولا تفعل ما يفعله السفهاء والأراذل من قول فاحش نقد لاذع وتهكم مزر، ومن الأذى المخدرات والمسكرات، واختلاط الرجال بالنساء اختلاطاً أقل ما يقال عنه أنه يشبه اختلاط الحيوانات في الغابات ينزو ذكرانها على إناثها والناس ينظرون، فهذا من أعظم الأذى الذي نهى عنه النبي وأمر بكفه وجعله حقاً من حقوق الطريق. وأما رد السلام فهو شعار المسلم فالله سبحانه من أسمائه السلام وجنته دار السلام وتحية أهل الجنة السلام، لذلك أمر الله بإفشائه بيننا وجعل إلقاءه على المسلمين سنة ورده فرضاً فقال تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما من أعظم الواجبات التي قصر فيها الخاصة والعامة من المسلمين، تهاون بها المسؤولون والعلماء والقادرون على القيام بهما إلا من رحم الله تحت ستار الحرية وحقوق الإنسان، وكيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الطريق أن يترك الجالس فيها معروفا حاضراً أمامه كأن يؤذن المؤذن للصلاة فلا يجيبه أحدٌ من الجالسين فإن عليه أن ينادي فيهم أن يجيبوا داعي الله، أو أن يمر أمامه جائع عار فعليه أن يكسوه ويطعمه وإن كان غير قادر قلبياً أمر الناس الجالسين بذلك، ومثال النهي عن المنكر أن يجلس مع الناس ثم يأتي شربة خمرٍ أو حشيش أو يرى إنساناً يُسلَب ماله ويُضرَب جلده فعليه أن ينصره ويقف في وجه الظالم في حدود طاقته ووسعه. لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها لقوله: : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) وإن لم يستطع فليغادر المكان الذي يعصى فيه الله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ومن حقوق الطريق إرشاد الضال وهداية الأعمى ومساعدة المحتاج، ومن الحقوق الواجبة في المجالس استغفار الله تعالى عند القيام تكفيراً لما عساه أن يكون قد ألم به في مجلسه فقد كان إذا أراد أن يقوم من مجلس يقول: ((سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)) فلما سئل عن ذلك قال: ((كفارةً لما سيكون في المجلس)).
أيها المسلمون: هذه حقوق الطريق باختصار فأين هي بيننا اليوم لقد أصبحنا نشاهد بعض الشباب والرجال المتسكعين في الطرقات بصورة مزعجة جعلتنا نخشى على بناتنا وزوجاتنا حيث وصل بهم السفه إلى اختطاف الفتيات والزوجات من عرض الطريق وفي واضحة النهار كما نقرأ في الجرائد المحلية. وأصبحنا نرى بعضهم ليلاً ونهاراً في عرض الطريق واضعاً ذراعه كاملاً حول عنق فتاة رفيعة بصورة مثيرة ومخلَّة بالآداب العامة والخاصة بدعوى المدنية الكاذبة، وبعضهم أصبح يجلس في الطريق بصورة مخلة بالآداب حيث يضايق الناس مما يضطرهم إلى المرور بجانب السيارات والدراجات مما يتسبب في حوادث دامية، هذا بالإضافة إلى التعليقات النابية والكلمات الجارحة عندما تمر أمامهم فتاة أو زوجة. وقد يجتمعون في تلك المجالس من أجل التخطيط لجريمة السرقة أو الفتاة أو التزوير أما الأطفال والشباب فأصبحوا يلعبون الكرمان وسط الطريق فيزعجون المارة ويزعجون من كانت نوافذه تطل على تلك الطرقات. فاتقوا الله عباد الله واستمعوا إلى هذه الحقوق وأدوها أحسن أداء تسعدوا في الدنيا والآخرة.
(1/1617)
رسالة عمر في الصلاة
فقه
الصلاة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص رسالة عمر إلى عماله. 2- المحبة بين الراعي والرعية. 3- الصلاة ودورها في
تربية الفرد. 4- محاربة ومراقبة المصلين بدلاً من تاركي الصلاة. 5- ممارسات خاطئة من
بعض شباب الصحوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: روى الإمام مالك في الموطأ عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ثم كتب أن صلاة الظهر إذا كان الفيء ذراعاً إلى أن يكون ظل أحدكم مثله. والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقيّة قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس، والمغرب إذا غربت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل. فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نامت عينه. والصبح والنجوم مشتبكة.
أيها المسلمون: هذه الرسالة من هو كاتبها ومرسلها؟ وإلى من أرسلت؟ وما هو موضوعها؟
إن كاتب هذه الرسالة ومرسلها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كتبها وهو خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، وأرسلها إلى عمّاله وولاته الذين كانوا يتولون أمور المسلمين نيابة عنه في البلدان البعيدة منه، أرسلها إليهم بصفتهم رؤساء المسلمين، وخاطبهم بها مخاطبة الرئيس ليعمل بها المرؤوسون. والناس من طبيعتهم يقتدون بكبرائهم ورؤسائهم. لأن الرؤساء في المجتمع كالقلب في الجسد، فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله. من أجل هذا كتب عمر رسالته هذه إلى جميع المسلمين وخص بالذكر عماله فيها ليكونوا قدوة للناس وأئمة لهم. ولكن بماذا يصلح الرئيس والمرؤوس؟ إنه في الإيمان بالله ورسوله، إنه في إقامة فرائض الله وواجباته. هذا هو أساس الصلاح والإصلاح. هذا هو أساس الأخوة والأمن والإحسان. أساس المحبة بين الراعي والرعية. تلك المحبة التي تكون نابعة من نور الإيمان بالله ورسوله، كما أنّ إقامة فرائض الله والمحافظة عليها هي أوثق رباط يربط بين القلوب والأرواح، ولو اختلفت الأقطار والأشباح، والرسول يقول: ((الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف)) أي فما تعارف منه على الإيمان بالله ورسوله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه فذلك هو دواء الكلفة بين الناس، وذاك هو علاج الفرقة والبغض والعداوة. وإذا انعدم رباط الإيمان بالله ورسوله فلابد أن يحصل الاختلاف، ولابد أن تحصل العداوة والبغضاء، وحتى إذا كانت هناك بعض مظاهر المحبة فإنها تكون محبة مزيفة ومغشوشة، وتكون إما مبنية على الرغبة في المادة، وإما مبنية على الخوف والإكراه، والألفة والمحبة بهذا الشكل تكون خداعاً ومكراً ونفاقاً. سواء بين الحاكم والمحكوم أو بين القوي والضعيف أو بين الغني والفقير أو بين الوالد والولد، أو بين الزوج والزوجة والمستأجر وأجيره.
وهذه أعظم إشارة نلمسها في رسالة عمر بل هو موضوع الرسالة العام. فهو يريد برسالته هذه أن يوحد القلوب وأن يؤلف الأرواح بين المسلمين ويوحد الصفوف ويقرب الأواصر بين الناس وخصوصاً بين الحاكم والمحكوم. ولكن ما هي الوسيلة لتحقيق هذا الغرض؟ وما هي الطريق الموصل لهذا الهدف؟ حتى يصبح الناس في الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟ الجواب في كلمة عمر : (إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع).
ما أعظمها من كلمة وما أشرفها من طريق وما أنجحها من وسيلة تتحقق بها كل مقومات الحياة، ويتحقق معها كل وسائل الأمن والاستقرار في المجتمع المسلم، وما أقواه من سلاح يحقق النصر على جميع أنواع الأعداء، سواء كان عدواً داخل الأمة أم خارجها.
سلاح لا يدفع فيه حامله أي ثمن مادي، سلاح لا يشعر حامله بأي ثقل جسمي، ولكنه وسيلة اتصال يتصل به الجندي المؤمن بمن بيده الأسلحة التي لا تتصور في العقل ولله جنود السموات والأرض، وسيلة اتصال يتصل به العبد مباشرة بمالك الملوك ورب السموات والأرض يقول فيه سبحانه: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. يبدأ هذا الاتصال بقوله: الله أكبر.
حينما ينطق بها المؤمن وهو متطهر متجه إلى القبلة يتصل مباشرة مع الله تعالى ويبدأ في مناجاته لله، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: الرحمن الرحيم قال الله: أثنى علي عبدي. وإذا قال العبد: مالك يوم الدين قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. وإذا قال بعد: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
أيها المسلمون: الصلاة مظهر من مظاهر التربية العامة تربية الفرد والمجتمع ولأنها تربية الوحدة وجمع الشمل فهي عبادة يتربى بها المؤمن مع الرحمة والشفقة، وفي نفس الوقت يرجو بها رحمة الله، ومن لا يرحم لا يرحم. وهي عبادة يتربى بها المؤمن على أداء الأمانة والمحافظة عليها، وذلك حين يؤمن العبد أن الصلاة أمانة الله في عنقه، وبذلك يتلقى دروس الأمانات الملقاة على عاتقه فيحافظ عليها ويؤديها لأهلها كما يؤدي الصلاة، وهي أمانة بينه وبين ربه.
والصلاة عبادة تربي في نفس المؤمن روح الوفاء بالعهد مع الله ومع الناس، فيكون بذلك بعيداً عن خلف الوعود ونقض العهود والمواثيق التي يلتزم بها نحو خالقه ونحو الناس. فكما أن المؤمن يلتزم بأداء عبادة الله فالله سبحانه يعده بإعانته ونصرته ورحمته، والله لا يخلف الميعاد ويتعلم المؤمن هذا الخلق العظيم حينما يخاطب الله عز وجل بقوله: إياك نعبد وإياك نستعين فكل هذه المعاني السامية جمعها الله في الصلاة وتتجلى في صورتها التي تؤدى بها بالجماعة الواحدة في الوقت الواحد في اتجاه واحد في صف واحد وراء إمام واحد وفي مكان واحد هو المسجد، قاصدين بذلك عبادة رب واحد، إذن فالمجتمع المسلم والأمة المسلمة هي التي تعيش على عبادة الله وطاعته وتحافظ على أداء هذه الفريضة التي هي أعظم فرائض الله. وإذا تربى الناس على هذه المعاني التي تهدف إليها الصلاة وتفهموها وتعاملوا بها فكيف يخسرون في حياتهم. وكيف يخيب الله آمالهم؟ معاذ الله؟!.
يقول عمر : (إنّ أعظم أمركم عندي الصلاة) إنها كلمة أشبه بكلمة أبي بكر الصديق حينما قال: (والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة). إن عمر يعلن في كلمته هذه الدعوى إلى الله وهي الوسيلة الوحيدة لجمع شمل الأمة وتوثيق العلاقات بين الراعي والرعية وبين أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: يقول عمر في رسالته: (فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) وهكذا يريد عمر تأكيداً وتوضيحاً لأهمية الصلاة في الدين والدنيا يقول: (فمن حفظها وحافظ عليها).
إن المحافظة على الصلاة واجب من ناحيتين: بإتقان الطهارة الواجبة لها، وهي طهارة الثوب والبدن والمكان. وبأدائها في الأوقات المحددة لها. وبإتقان ركوعها وسجودها وقراءتها وغير ذلك.وهذا هو الشرط الأول في المحافظة على الصلاة. فالصلاة المفروضة على كل مسلم ومسلمة قد بين الرسول كيفيتها. ووقت أدائها وطهارتها فإذا نقص من ذلك شيء كانت صلاة غير صحيحة ومردودة على صاحبها. إذن فإذا أراد الإنسان أن يصلي الصلاة المفروضة عليه فلابد أن نعرف كيف يصلي ومتى يصلي؟ حتى يكون على بينة من أمر دينه. ولذلك ذكر عمر هذا الجانب الأساسي أولاً في المحافظة على الصلاة وبين أوقاتها المحددة التي أداها فيها رسول الله فقال: ((صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعاً)) يعني إذا صار طول ظل أحدكم ذراعاً بعد زوال الشمس، فذاك هو بداية وقت الظهر ويمتد هذا الوقت إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. ومن هنا يبتدئ وقت صلاة العصر إلى أن يبقى لغروب الشمس وقت يمكن أن يقطع فيه الراكب فرسخين أو ثلاثة. وذلك قبل أن يدخل الشمس اصفرار ثم بين وقت المغرب وهو من غروب الشمس. ويمتد إلى مغيب الشفق الأحمر. ومن مغيب الشفق الأحمر يبتدئ وقت صلاة العشاء إلى الثلث من الليل,
ثم يدعو عمر على من أخَّر الصلاة عن هذه الأوقات تهاوناً أو تكاسلاً أو اعتذاراً بمشاغل الدنيا فإنه يدعو عليه بأن لا يجعل الله له راحة في نومه. وهو دعاء نافذ ولابد أن يلحق بالمتهاونين في أداء الصلاة، إما في نوم الدنيا وإما في نوم القبر في الآخرة. ثم بين ابتداء وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر الصادق مع ظهور النجوم وينتهي بطلوع الشمس.
ثم إنه بين هذا الوقت لجميع طبقات الناس لا فرق بين التاجر والفلاح والصانع والوالي والجندي والطالب، فهو يذكر أداء الصلاة في هذا الوقت الذي حدده وبينه كما رآه مع رسول الله لجميع طبقات الناس. ولا عذر للتاجر بتجارته ولا للصانع بصناعته ولا للفلاح بفلاحته ولا للموظف في إدارته ولا للعامل في عمالته ولا للقاضي في محكمته. وبهذا يقطع كل الأعذار التي ربما يعتذر بها بعض المتكاسلين.
ثم إن هذا إشارة من عمر إلى أن يعلن الحرب على كل من ترك الصلاة أو أخرها عن وقتها المحدد هذه ناحية أولى من المحافظة على الصلاة.
ثم من ناحية ثانية: بين عمر أنه لا يكفي من الصلاة أن يتقن المسلم طهارتها ووقتها وعدد ركعاتها، ولكن لابد من المحافظة عليها من ناحية أخرى حتى تكون صلاة مقبولة عند الله، وتربية لنفس المصلي مع الوقوف عند حدود الله في جميع أوامره ونواهيه، فهو يقول : (فمن حفظها وحافظ عليها) فالصلاة طهارة معنوية طهارة من الشرك طهارة من الزور طهارة من الظلم طهارة من الخيانة طهارة من اقتراف الكبائر التي حرمها الله كالخمر والزنا والقول الفاحش والرشوة والسرقة ونقص الكيل والوزن، فمن ابتعد عن هذه المنكرات وتطهر من رجسها وحافظ على أداء الصلاة بشروطها وواجباتها التي ذكرتها فهو الذي يكون كما قال عمر : (حفظ دينه) لأنّ الصلاة عماد الدين.وليست الصلاة هي الدين كله فالدين هو كل ما أمر الله به أو نهى عنه، أما من كان يصلي سوءا كان فرداً أو جماعة وهو يرتكب هذه المنكرات أو بعضها فيكون قد ضيع الصلاة. وكما أن المحافظة على الصلاة مبني على وجهين فكذلك ضياعها يترتب عليه الخسران من وجهين: فالإنسان إما أن يصلي ولا يلتزم بالحدود الأخرى التي أمر الله بها فيكون قد ضيع صلاته حيث يحرم من أجرها وثوابها قال : ((أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)). وأما أن يترك الصلاة بالكل فيضيع كل الحقوق الأخرى، لأن تارك الصلاة لا يسلم من ارتكاب المحرمات، وأكبرها ترك الصلاة، وحتى إذا كان يقوم بجميع الواجبات والمسؤوليات وهو تارك للصلاة فلا ينتفع بأعماله الصالحة لأنه لا يثاب عليها من الله والرسول يقول: ((أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته فإن صلحت فقد أفلح وانجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضة شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمّل بها ما انقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك)) وهذا معنى قول عمر : (فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع).
أيها المسلمون: هذه رسالة عمر إلى عماله وإلى المسلمين كافة وهو أمير المؤمنين في الصلاة، ولازالت شاهدة عليه في الدنيا وستكون له حجة في الآخرة. فأين رسالتنا نحن؟ فهل نحن كتبنا مثل هذه الرسالة لأصدقائنا وأولادنا؟ وهل أذعنا مثل هذه الرسالة في إذاعاتنا وتلفزاتنا وصحافتنا وأعلناها للناس جميعاً حتى يقتدي بنا من يسمعها ويأتي بعدنا. كما أعلنها عمر وهو يحتج بها علينا وكأنه يخاطبنا في هذه الظروف، وينقلها لنا الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله الذي نقول إننا نسير على مذهبه.
أين نحن من هذا؟ وقد أصبحت الصلاة بيننا تعد جريمة من المصلي يحاسب عليها المؤمن ويراقب، العامل يطرده صاحب العمل من العمل إذا رآه يصلي، ولا خوف ولا حياء لا من الله ولا من الناس. والتلميذ يعاقب في المدرسة أو الأستاذ إذا صلى ولا وقت يذكر للصلاة في المدارس ولا في الإدارات وبعض الأبناء يحاربون من لدن آبائهم وأمهاتهم بسبب الصلاة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فبالله خبروني يا مسلمون من هو الأحق بالمحاربة هل تارك الصلاة أو الذي يصليها؟.
أيها المسلمون: إنه بلغ من اهتمام السلف الصالح من الصحابة والتابعين بالصلاة أنهم كانوا يتراسلون بالوصية عليها في رسائلهم كما ترون في رسالة عمر هذه، وبلغ من اهتمامهم بها أن حكامهم كانوا يجعلونها أول مسؤولية يحاسب عليها كل من يتولى أمر المسلمين، وقد سبق لنا كلمة عمر حينما كان يحدد سلطة العامل مبيناً له مسؤوليته العظمى فيقول: (إني لم أستعملك على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكن استعملتك لتقيم فيهم الصلاة وتقسم بينهم وتحكم فيهم بالعدل).
وبلغ من اهتمامهم بالصلاة أنهم كانوا يقيسون مسافات السفر بأوقات الصلاة وقراءة القرآن. يقول أحدهم لصاحبه: إذا أراد قطع مسافة سفر معلومة: إذا خرجت بعد صلاة الفجر،فإن صلاة الظهر تكون في المكان الفلاني، وصلاة العصر في المكان الفلاني، وصلاة المغرب في المكان الفلاني، والعشاء في المكان الفلاني، حتى يعدل أجزاء تلك الطريق بأوقات الصلاة.وكل هذا امتثالاً لأمر الله ورغبة في رحمته وخوفاً من وعيد الله ورسوله حيث يقول الله: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ويقول الرسول : ((فمن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهانا ونجاة يوم القيامة،ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وكان مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف)). وهكذا كان اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بالصلاة طمعاً في رحمته ووعده، وخوفاً من عقابه ووعيده.
أما نحن اليوم فقد بلغ من إهمالنا للصلاة بل من جرأتنا على الله حتى أصبحنا نحارب من يؤديها، ومن الناس من يجعلون الصلاة وسيلة للتجسس على المسلمين، ومنا من أصبح يطلق لسانه بكلمات السخرية والاستهزاء بالمصلين، حتى يقال: إياك أن تصلي في المسجد الفلاني فإن فيه الإخوانيين، وأصبحت الصلاة هي أكبر الجرائم والخَطِر من الناس هم المصلون ولا مراقبة ولا محاسبة على التاركين لها والمخمرين والزناة. ما شاء الله أين نحن يا مسلمون؟ فالرسول شدد الوعيد على تاركي الصلاة وتاركي الجماعة ونحن عكسنا القضية فهو قد هم بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة، ونحن نهدد الذين يصلون جماعة. واسمعوا قول الرسول : ((لقد هممت أن آمر رجلاً فيؤذن ثم آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخرج إلى قوم لم يحضروا الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ويقول: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم)). ويقول الله عز وجل: أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعنا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب.
فاتقوا الله عباد الله واقرؤوا رسالة عمر واقرؤوها من يد الإمام مالك يا أتباع الإمام مالك، واكتبوها لأبنائكم وأصدقائكم واكتبوها كما كتبها عمر إليكم إنها رسالة يكتبها عمر لكل مسؤول في رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المسلمون.
أخرج الحاكم عن المسيب بن رافع قال: لما كُفّ بصر ابن عباس أتاه رجل فقال له: إنك إن صيرت لي سبعاً لم تصل إلا مستلقياً تومئ إيماءً روايتك فبرأت إن شاء الله، فأرسل إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله كلٌ يقول: ((أرأيت إن مُت في هذه السبع كيف تصنع بالصلاة)).
ربنا اجعلنا مقيمين للصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات.
(1/1618)
رفقة الرسول في الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رفقة الرسول في الجنة أمنية غالية لكل مسلم ومسلمة. 2- قصة الصحابي ربيعة بن كعب
الأسلمي. 3- الأماني الفارغة لشبابنا اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل والعلم بطاعته والحذر كل الحذر من مخالفته ومعصيته قال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: بين أيدينا الآن حديث نبوي شريف يحمل البشرى لكل مسلم ومسلمة، والبشارة طبعاً لا تكون إلا لمن كان مسلماً، وتلك هي الغاية المثلى من بعثة الأنبياء والمرسلين على مر العصور والأزمان قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقال تعالى في حق رسوله سيدنا محمد يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا.
فاسمعوا معي رحمكم الله إلى هذا الحديث النبوي الشريف الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال:كنت أبيت مع رسول الله فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: سل؟ فقلت:أسألك مرافقتك في الجنة فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود.
أيها المسلمون: بعد أن استمعنا إلى نص الحديث تعالوا بنا لنستفيد منه الفوائد الكبيرة والمعاني العظيمة كيف لا وهو قول من لا ينطق عن الهوى ومن جاء من عند الله تعالى بالحجة والهدى والشريعة المثلى، فهذا الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي كان من فقراء الصحابة، ولا ننسى أيها الأخوة المؤمنون أن الفقراء هم أول أتباع الرسل والأنبياء، وهم الذين يسارعون إلى الإيمان والتصديق بما جاء من عند الله تعالى، لأنهم كانوا مضطهدين في قومهم كما هم دائماً، يحسون بالظلم بل يعيشون صباح مساء في ظلم الأسياد والكبراء من الأغنياء والمترفين قال تعالى حكاية عن قوم نوح: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين.
وجاء كفار قريش يطلبون من الرسول إن أرادوا أن يدخلوا في دينه-ألا يجمع بينهم وبين الفقراء والعبيد في مجلس واحد، فأنزل الله تعالى عليه ناهياً إياه عن سماع طلب الكفار هذا لأن أولئك الفقراء أعظم منزلة عند الله من هؤلاء الأغنياء المتكبرين على الخضوع لأمر الله قال سبحانه: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين.
فربيعة بن كعب الأسلمي كان من فقراء الصحابة وكان من أهل الصفة الذين يأوون إلى مكان في مسجد الرسول سُمي بالصفة، لأنه ليس لهم بيت يؤويهم، وكان ربيعة ملازماً لخدمة الرسول يبيت عند باب بيته لأداء خدمته فيأتيه بما يطلب من ماء للوضوء وغير ذلك، وبقي على هذه الحالة حتى انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى. وما أشرفها من خدمة وما أعظمها من مهنة! وما أكرمه من عمل! وقد لاحظ الرسول حرص هذا الصحابي على خدمته فأراد أن يكرمه بأمر يفرحه به ويخفف عنه فقره، ولكنه ترك اختيار ذلك لربيعة فقال له: سل أي اطلب ما تحتاجه وتتمناه نفسك، ولعل أول ما يتمناه الفقير المعدم أن يرزق مالاً وبيتاً يسكنه، وهو طلب لا عيب فيه بالنسبة لفقير محتاج، هذا من جهة، كما نلاحظ أن الرسول وهو المخدوم لم يرض أن يستغل خدمة الرجل دون أن يكرمه كما هو حال أكثر أغنيائنا اليوم، فهم يحبون دائماً أن يكونوا مخدومين دون أن يقدموا لمن يخدمهم أي تكريم بل حتى أي حق من حقوق الخادم العامل ليل نهار، وفي هذا درس لمن كان مخدوماً من طرف خدامين سواء في البيت أو في العمل، أن يكرموا من يخدمهم ويؤدوا لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة.
فما تظنون معشر المسلمين والمسلمات أن يكون طلب الصحابي وأمنيته من طرف رسول الله ؟ لقد كان ربيعة الصحابي الخادم لرسول الله يتطلع لأعظم أمنية لا يفكر ولا يريد غيرها فأجاب رسولَ الله قائلاً:أسألك مرافقتك في الجنة! الله! فهو لا يسأل بلوغ الجنة فحسب، وإنما يسأل الفردوس الأعلى ليكون مع رسول الله فلا يفارقه أبداً، وأدرك رسول الله أنه طلب لا يدرك إلا بعد عناء وجهد وليس أمراً قريب المنال والله سبحانه هو الذي يعطي هذه المنزلة لمن هو أهل لها فقال له : ((أو غير ذلك)) يعني مما هو أهون أو أقل، وألح الصحابي ربيعة على طلبه وقال للرسول : هو ذاك، وذاك اسم إشارة للبعيد ليدل على تطلعه لهذه الأمنية مهما بعدت وصعب الوصول إليها، لكن الله تعالى لا يصعب عليه شيء، وهنا يأتي الدرس النبوي التربوي لربيعة ولكل من يتمنى أمنيته العظيمة فيقول له الرسول : ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) أي إذا أردت الوصول إلى هذه الأمنية بأن تكثر من الصلاة وتتقرب إلى الله بمناجاته، فكل سجدة تسجدها لربك تزداد منه قرباً وتنال بها جنته ورضوانه، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وقد روى الإمام مسلم عن ثوبان قال سمعت رسول الله يقول: ((عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ومحا عنك بها خطيئة)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: لكل إنسان أمنية في حياته يسعى من أجلها، ويحرص على بلوغها، ويضحي بكل ما لديه ليصل إليها، والشباب عموماً أكثر تطلعاً للأماني وأكثر همة في السعي إليها، وأمنيات شبابنا اليوم هي الحصول على شهادة عليا، وزواج ومنصب ومال ومنزل فاخر وسيارة مريحة ومكانة اجتماعية، وغير ذلك من الأماني الدنيوية التي لا حصر لها ولا حد لنهايتها، وقليل قليل من الناس من تجده يتمنى الأمنية العظمى وهي نيل رضا الله وبلوغ جنته التي أعدها للصالحين من عباده، فإذا تمنى المسلم والمسلمة أمنية دنيوية مباحة فلا ينبغي له أن يتخذها هدفاً كلياً ومقصداً نهائياً، وإنما هي وسيلة من وسائل هذه الحياة وزينتها التي أكرمنا الله بها، لنشكره عليها ونسخرها في طاعته، ولكن لا يجب أن تشغلنا عن الهدف الأسمى الذي شمّر من أجله الصالحون فأسهروا ليلهم وأظمأوا نهارهم وبذلوا أرواحهم وأموالهم لكي يصلوا إليها، فلما فازوا بأمنيتهم سعدوا أعظم السعادة ونسوا كل ما أصابهم من هموم الدنيا وأكدارها، ولذلك كان أحدهم إذا أصيب في المعركة وأدرك أنه نال الشهادة في سبيل الله يصبح فرحاً مسروراً قبل أن تخرج روحه. فيصيح فزت ورب الكعبة، غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه.
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن أمنية رضا الله والفوز بجنته لا تنال بإيمان القلب وحده وإنما تنال بطاعة الله، فها هو رسول الله يدل الصحابي الجليل على الطريق إلى ذلك فيقول له: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) ولا ننسى أن من معاني السجود الخضوع لأمر الله وطاعته في السرو العلانية، فليس المراد من السجود المذكور في الحديث ذلك السجود الصوري الخالي من الخضوع والخوف من الله عز وجل، بل هو السجود الذي يكون بأداء ما فرض الله، والابتعاد كل البعد عما حرم الله، والتواضع لعظمة الله، قال تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم قالوا سلاماً.
(1/1619)
رمضان شهر القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصوصية شهر رمضان. 2- حال السلف مع القرآن في رمضان. 3- أهمية القرآن الكريم
في إصلاح حياتنا. 4- صور مزرية في التعامل مع القرآن والمصاحف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم به ونفسي بتقوى الله عز وجل وأساس التقوى اتباع القرآن قال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: يقول الله تعالى في محكم كتابه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منك الشهر فليصمه. لقد خص الله جل شأنه شهر رمضان من بين سائر الشهور بإنزال القرآن الكريم فيه، وخصه كذلك بوجوب الصيام شكراً لله على نعمة القرآن، والقرآن الكريم كتاب السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفضيلة، وهو الحافظ لمن تمسك به من الرذيلة، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، ولتحولوا من حياة الذل والهوان وصاروا به كرماء، فهو يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً، فهو يهدي للعبادة الأقوم، والخلق الأقوم، والتربية الأقوم، والمعاملة الأقوم، والموعظة الأقوم والحكم الأقوم، ومن أجل ذلك كان جبريل عليه السلام يدارس الرسول القرآن في رمضان فيزيد جوده وكرمه بالعبادة والصدقة والإحسان قدراً زائداً على سائر الزمان.
وكان السلف الصالح من هذه الأمة من الصحابة والتابعين يتدارسون القرآن في رمضان ويقومون به الليل بما يسمى بقيام رمضان، ولهذا كان من الواجب على المسلمين جميعاً أن يتخذوا من القرآن مائدة رحمانية يتحلقون حولها ويحفون بها طلباً لنفحات القرآن وحلاوة ذكره، لأن مجلس القرآن هو مجلس لذكر الله، ومجلس الذكر روضة من رياض الجنة قال عبد الله بن مسعود : (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله وهو النور والشفاء النافع لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه)، وقال بعض السلف الصالح: ما جالس أحد القرآن فقام سالماً: إما له، وإما عليه، وقال أبو موسى الأشعري : (إن هذا القرآن كائن لكم أجراً وكائن عليكم وزراً فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به رياض الجنة ومن اتبعه القرآن قذف به في النار) والعياذ بالله.
عباد الله:إن ضرورة القرآن للحياة كضرورة الماء والهواء والغذاء فلا تستقيم حياة الإنسان على هذه الأرض إلا بهذه العناصر الأساسية، وكذلك لا يمكن أن يعرف قيمة هذه النعم المسخرة في الكون إلا بمعرفة القرآن والسير على نهجه الذي رسمه الله تعالى فيه، لأن القرآن الكريم أنزله الله تعالى لينظم سير الإنسان في هذه الحياة، فمثلاً سخر الله للإنسان الشمس لتضيء الكون، وأثناء هذا الضوء اليومي ينادي القرآن الإنسان ويذكره بلقاء ربه، ويوجب عليه عبادات مثل الصلوات المفروضة وهي تختلف من حيث الأوقات بطلوع الشمس وغروبها كما يأمره بالصيام والزكاة والحج وقال سبحانه: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج. قال تعالى: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
كما بين الحق سبحانه في القرآن ما أحله للإنسان وما حرمه عليه من نبات وحيوان وغيرهما، والهدف من التحليل والتحريم هو صيانة الإنسان وهدايته إلى ما فيه خيره وصلاحه، وخلق الله الإنسان – بل سائر المخلوقات – ذكراً وأنثى، وجعل المرأة تكمل حياة الرجل والرجل يكمل حياة المرأة، وبين القرآن الصداقة بينهما وكيف يجب أن تكون، وذلك عن طريق الزواج الشرعي الذي هدفه الطمأنينة والسكينة والمودة والرحمة قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. ثم بين تعالى في القرآن الكريم تنظيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان كالبيع والشراء والجوار وغيرها.
وهكذا نستفيد أيها المسلمون الصائمون أن الحكمة من إنزال القرآن الكريم هو تنظيم حياة الإنسان على وجه هذه الأرض حتى تنجح الحياة العامة والخاصة، الدنيوية والأخروية قال تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
معشر الصائمين والصائمات: إن تلاوة كتاب الله عبادة من أجل العبادات، إذ كل حرف يقرأه المسلم بعشر حسنات، ولكن ليست تلاوة القرآن غاية، وإنما هي وسيلة إلى فهم القرآن وتدبر آياته ثم العمل به وتبليغه، وتلك هي الغاية المطلوبة من قراءة القرآن، ذلك أن القرآن رسالة الله إلى الناس كافة، وإلى المسلمين خاصة، والقاعدة المعروفة في الرسائل هو قراءتها للتوصل إلى فهم ما فيها وما يطلب صاحبها من المرسل إليه.
وعليك أيها المسلم أن تذكر إذا جاءتك رسالة من محبوب كريم كم يكون فرحك بها، وإذا جاءتك رسالة من حاكم أو رئيس كم يكون تقديرك لها حيث تقرؤها بإمعان لتنفذ كل ما جاء فيها من أمر ونهي هذا إذا كانت الرسالة من بشر مثلك، فكيف برسالة خالقك وخالق المخلوقات كلها وملك الملوك وإله العالمين يخاطبك في رسالته في كل وقت وحين: يا أيها الإنسان، يا بني آدم، يا أيها الناس، يا أيها الذين آمنوا، سواء كنت قارئاً أو مستمعاً، وهذه النداءات كلها تشتمل على أوامر ونواهي، فهل أديت الأوامر واجتنبت النواهي كما أمرك ربك في رسالته، وأنت تشهد دائماً أنك توصلت بها وآمنت بها وصادقت عليها بقولك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: لقد نسي كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام هذه الشهادة بل أصبحوا يستهزئون بآيات القرآن حيث وضعوه في موضع غير لائق بكلام الله تعالى، فتحول القرآن عند بعضهم إلى زخرفة البيوت ونقش بالحروف على أبواب المتاجر والسيارات والمقاهي والشوارع، ويقصدون بذلك جلب البركة أو دفع الشر ثم لا يطبقون منه شيئاً فصاحب المتجر يعلق آيات القرآن وهو يتعامل بالربا وينقص الكيل والوزن ويحتكر السلع ويخلط صالحها برديئها، ويحلف بالأيمان الغليظة كاذباً، والقرآن يحرم ذلك ويناقضه تماماً، وتشاهد المرأة المتبرجة العارية تحمل في عنقها صورة مصحف من الذهب وهي مكشوفة الرأس والصدر والذراعين، والقرآن يقول: ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، وتشاهد الآيات في السيارات، وأصحابها يحملون الخمر والحشيش وعلبة السجائر وينطلق مع آيات القرآن الكريم، الكل في سيارته، وهذا استهزاء بالقرآن.
وتشاهد سيارة نقل المسافرين مكتوباً عليها آيات القرآن كقوله تعالى: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، بسم الله مجريها ومرساها وركابها يقطعون المسافات القصيرة والطويلة ثم لا يصلون.
وأما الحفلات والولائم والمناسبات فالأمر أفظع وأفحش فالقرآن يقرأ والناس يلهون ويلعبون وقد يغنون ويرقصون ويدخنون وتذهب إلى الإدارات فتجد آيات مكتوبة مثل يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين وبين جدران هذه الإدارة أناس يتعاملون بالرشوة والوساطة، أهكذا يكون موقفنا مع القرآن؟ استهزاء ونسيان، وعدم العمل به.
إننا في شهر القرآن فلنعد إلى القرآن ولنتدبر آياته ولنفهم معاينه ولنبلغها الناس اللهم عد بنا وبالمسلمين إلى كتابك واحملنا على أوامره واجتناب نواهيه واجعلنا من أهل القرآن واحشرنا في زمرة تاليه واجعله شفيعاً لنا غداً بين يديك آمين.
(1/1620)
طريق السعادة الحقيقية
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هل السعادة تتحصل بالجاه والمال والأولاد. 2- الطريق الحقيقي للسعادة هو طاعة الله. 3-
أدلة ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: خير ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله عز وجل، فالتقوى حصن حصين وحرز مكين من نزغات الشيطان ومن آفات النفس والهوى قال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: نلتقي اليوم مع هذا السؤال الهام في حياتنا وهو: أين هي طريق السعادة الحقيقية؟ هل هي في المال؟ أم في الجاه والسلطان؟أم هي في كثرة الأولاد؟ أم هي في الثقافة والعلوم؟ أم هي في شيء غير هذا وذاك؟
وفي الجواب عن هذا السؤال نقول: إن كل إنسان في هذه الحياة يبحث جاهداً عن السعادة ويريد الحصول عليها أو الوصول إليها بأي ثمن من الأثمان، وكثير من الناس يدعون أن السعادة لفظ لا حقيقة له، وخيال لا وجود له في عالم الواقع، ويظهر أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون لأنه لا يعقل أن يخلقنا الله تعالى في هذا الكون الواسع الملئ بالخيرات والنعم، وهو يريد لنا جميعاً أن نشقى، حاشاه سبحانه، ونسأله تعالى أن يحفظنا من الشقاء، كيف وهو تعالى يقول لرسوله بسم الله الرحمن الرحيم: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ويقول سبحانه: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى وهو تعالى يجعل الأشقياء أهل النار كما أخبرنا: فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ويقول عز وجل: وسيجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى وقال سبحانه: كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها ويقول سبحانه حكاية عن أهل النار: قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماَ ضالين كما يجعل تعالى للجنة السعداء: وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض. ولكن أيها المسلمون يظهر أن السعادة موجودة، وهي بين يدي من يتقي الله ويطيعه، ولكن كثيراً من الناس عن الشعور بها والالتفات إليها غافلون.
ولقد عبر الطبيب المسلم المعروف ثابت بن قرة يرحمه الله عن الطريق الموصل إلى السعادة، وجمع ذلك في كلمات قليلة جليلة هي من خير ما يضع المسلم أمام بصره وبصيرته ليعيش عليها في حياته حتى يصل إلى السعادة المنشودة قال رحمه الله: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
يالها من كلمات نطقت بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب.
نعم - أيها المسلمون - لقد صدق هذا الحكيم اللبيب إن راحة الجسم في قلة الطعام لأن الجسم آلة وقودها طعامها، والوقود يجب أن يعطى بمقدار والجسم عندما يطلق له صاحبه العنان ليأخذ مشتهاه، يصير مصيبة على صاحبه، ومن ثم قال : ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع)) وقال : ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) ، وورد في الحكمة والمعدة بيت الداء، والحمية رأس الداء.
أما الكلمة الثانية من طريق السعادة فهي قوله: وراحة النفس قلة الكلام، لأن النفس أمارة بالسوء، وإذا تحررت النفس من الإيمان والطاعة لله عز وجل اتفقت مع الشيطان فعصت وفسقت وغشت وخدعت وظلمت وأسرفت، ولذلك كان أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه إن استجاب لها في ما طلبت منه في معصية الله ورسوله قضت عليه وأهلكته وإن حال بينها وبين مشتهاها من البغي والإثم عادت بالخير إليه قال تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
ولقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يدعو بهذه الكلمات الموضحة لخطر النفس والشيطان على الإنسان:يا رب خلقتني وأمرتني ونهيتني ورغبتني في ما أمرتني به، ورهبتني عقاب ما نهيتني عنه، وسلطت علي عدواً فأسكنته صدري، وأسكنته مجرى دمي، إنْ أهمُّ بفاحشة شجعني، وإنْ أهمُّ بطاعة ثبطني، لا يغفل إن غفلت، ولا ينسى إن نسيت، ينصب لي في الشهوات ويتعرض لي في الشبهات، وإلا تصرف عني كيده يستزلني اللهم فاقهر سلطانه علي بسلطانك عليه حتى تخسه بكثرة ذكري لك فأفوز مع المعصومين بك ولا حول ولا قوة إلا بك.
والكلمة الثالثة: راحة القلب في قلة الاهتمام، أي في قلة الهم والخوف والحزن، لأن القلب الضعيف الجبان يفتح على صاحبه أبواب الهم والحزن، وخاصة إذا كان القلب مهتماً بالدنيا وحدها سائراً في طريق المعاصي والمحرمات، ونعمة الراحة للقلب لا يفوز بها إلا صاحب القلب الثابت مع الرضا بالله حظاً ونصيباً، ومن هنا كان الرسول يكثر من قوله في دعائه: ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
ومتى ثبت القلب على دين الله، واعتصم بحبل الله، ولجأ إلى حمى الله، فقد أوى إلى ركن تدبر، والإسلام يُعلم أهله أمن النفس، وطمأنينة القلب، فيقول القرآن في صفة المؤمنين: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، ويأمرهم بالابتعاد عن الحزن وأسبابه فيقول تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
وقال تعالى في صفة أولياء الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ويصف تعالى العباد المستقيمين بأنهم لا يخافون ولا يحزنون، فيقول عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
فلنهتم بما يهمنا، وهو لقاء الله عز وجل، ولنعد العدة يا مسلمون ليوم يشيب فيه الولدان، وتنفطر فيه السموات وتدك الأرض دكا. ومع الأسف يا مسلمون لقد اهتم الكثير منا بالدنيا وبأطماعها وأغراضها ومصالحها. أمّا الآخرة فنحن عنها غافلون، ألا نخشى أن نكون من الذين قال الله فيهم: يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابها المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: مازلنا مع كلمات طريق السعادة لثابت بن قرة رحمه الله ومع الكلمة الأخيرة، وهي: وراحة اللسان في قلة الكلام، لأن الذي يكثر من الكلام يكثر من الخطأ، واللسان إذا تعود الكلام المنطلق بلا ضابط أو رابط كان مصيبة على صاحبه، ولذلك أوصى الرسول فقال: ((أمسك عليك لسانك)).
ولقد قيل لأحد العلماء متى يصبح الإنسان رجلاً قوياً؟ فأجاب عندما يشتهي لسانه أن يقول كلمة غير حكيمة فيصده عنها بقوة واقتدار.
عباد الله: لا تظنوا السعادة جمع المال، فلو كان كذلك لما ذم الله قارون الذي كان من أكثر الناس مالاً، فقال فيه: فخسفنا به وبداره الأرض وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ، ولا تظنوا السعادة في السلطان والجاه، فلو كان كذلك لما أنزل في فرعون قرآنا يتلى إلى يوم القيامة حيث قال فيه: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية.. وإن كثيراً من الناس يظنّ السعادة في كثرة الأموال والأولاد ولما قال فيه: النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ولو كانت السعادة في كثرة الأموال والأولاد لما ذم الله الوليد بن المغيرة: ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً إنه كان لآياتنا عنيداً ولكن السعادة كلَّ السعادة في طاعة الله ورسوله، في اتباع سنة رسول الله في تحكيم شرع الله، في الاهتداء بهدي الإسلام، واسمعوا الله تعالى ماذا يقول: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. وقال في حق الجماعة: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم.
فاتقوا الله عباد الله واسلكوا طريق السعادة التي رسمها الله ورسوله وعبَّر عنها سلف الأمة من أمثال الطبيب المسلم ثابت بن قرة – رحمه الله –.
(1/1621)
عيادة المريض
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عيادة المريض. 2- مشروعية عيادة المريض وثوابها. 3- رقية المريض. 4- آداب
زيارته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معشر المسلمين والمسلمات أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فهي وصية الله للأولين والآخرين كما أخبرنا سبحانه بذلك في كتابه العزيز حيث قال: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله غنياً حميداً.
عباد الله: مازلنا مع حقوق الجار المأخوذة من الأثر المروي عن رسول الله واليوم مع الحق الرابع ((وإذا مرض عدته)).
إن هذا الحق هو للمسلم على أخيه المسلم كما في صحيح الإمام مسلم والترمذي والنسائي ((حق المسلم على المسلم ست، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)).
هنا في حق المسلم على أخيه المسلم فما بالك إذا كان جاراً له، وعيادة المريض سنة مؤكدة كما أخرج الطبراني في الكبير والأوسط عن ابن عباس عن النبي قال: ((عيادة المريض أول يوم سنة وبعد ذلك تطوع)) وهي لا تختص بمرض دون مرض كما جاء في الحديث الصحيح: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (الأسير) وفي هذا الحديث مشروعية العيادة لكل مريض لحديث زيد بن أرقم قال: ((عادني رسول الله من وجع كان بعيني)). وليس المراد من عيادة المريض زيارته وتفقد أحواله والتلطف به، وربما كان ذلك سبباً لنشاطه وانتعاش قوته، وقد رغب فيها الشرع وحث عليها ففي حديث الإمام مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتي عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال: يا رب كيف اسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي)) في هذا الحديث إضافة المرض لله تعالى والمراد العبد تشريفاً للمريض، ومعنى وجدتني عنده أي وجدت ثوابي وكرامتي.
أيها المسلمون: لقد جاء في ثواب عيادة المريض أحاديث كثيرة منها الحديث السابق، ولكن ما هي آداب عيادة المريض في الشريعة الإسلامية؟ لقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى آداباً لعيادة المريض أخذاً من الأحاديث الشريفة المروية عن رسول الله وها أنذا أذكر لي ولكم شيئاً منها.
يستحب لزائر المريض أن يدعو له بالشفاء ويأمره بالصبر لحديث عائشة بنت سعد بن أبي وقاص إن أباها قال: اشتكيت بمكة وجاءني النبي يعودني ووضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ثم قال: ((اللهم اشف سعداً وأتمم له هجرته)). أخرجه البخاري مطولاً وأبو داود والبيهقي.
وهناك أدعية واردة يحسن بالزائر أن يدعو بها للمريض منها حديث أبي داود والترمذي وقال حديث حسن عن ابن عباس أن النبي قال: ((من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)) وعن ابن عمر أن النبي قال: ((إذا جاء يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً أو يمشي لك إلى جنازة)) أخرجه أبو داود والحاكم وابن حبان. وكذلك الحديث المتفق عليه عن عائشة أن النبي كان يعود بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)).
كما يستحب للزائر أن يقول للمريض: لا بأس طهور إن شاء الله لما رواه البخاري عن ابن عباس أن النبي دخل على أعرابي يعوده وكان إذا دخل على من يعوده قال: لا بأس طهور إن شاء الله فقال أي المريض: كلا بل هي حمى تفور على شيخ كبير حتى تزيره القبور فقال النبي : ((فنعم إذاً)).
ويستحب للزائر أن يطيب نفس المريض بإطماعه في الحياة وقرب الشفاء لحديث أبي سعيد الخدري : ((إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإن ذلك لا يرد شيئاً وهو يطيب بنفس المريض)) أخرجه ابن ماجة والترمذي.
كما ينبغي على الزائر لزائر أن يضع يده على مكان المرض ويسمى الله تعالى ويدعو للمرض أخرجه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله إذا عاد مريضاً يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: ((بسم الله)) كما يستحب لزائر المريض أن يطلب منه الدعاء فإن دعاءه مستجاب لحديث أنس أن النبي قال: ((عودوا المرضى ومروهم فليدعوا لكم، فإن دعوة المريض مستجابة وذنبه مغفور)) أخرجه الطبراني في الأوسط، هذا إذا لم يكن مرضه شديداً وإلا فلا. ومن آداب الزيارة للمريض تخفيفها وعدم تكريرها في اليوم إلا إن رغب المريض في ذلك فإن رغب في التطويل وتكرير العيادة من صديق أو أخ يستأنس به، ولا مشقة في ذلك فلا بأس به، وكثير من الناس لا يعرفون هذا الأدب وهو التخفيف، فتجد الناس عندنا زيارتهم للمريض يجلسون الساعات الطوال ويحلو لهم الحديث ويتناولون المشروبات بل المأكولات، وذلك كله مناف لعيادة المريض ومناقض لآداب الزيارة، وتجد المريض يترنح ويريد أن يشتكي لكنه يستحي أن يبوح بما يختلج في قلبه.
فليتق الله أقوام يزورون المريض فيزيدونه مرضاً على مرضه إما بطول جلوس أو بكثرة كلام، ولا تجد واحداً منهم يدعو للمريض بالشفاء وينفس الأجل، وقد يحتاج المريض لقضاء حاجته إذا كان لا يستطيع القيام، وقد يحتاج إلى تخفيف الغطاء عن جسمه لشعوره بالحرارة إلى غير ذلك من الأشياء التي يغفل عنها كثير من الناس. روى الترمذي عن سيدنا علي قال سمعت رسول الله يقول: ((ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة)).
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من عذابه المهين وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله مازلنا مع آداب عيادة المريض. يستحب لزائر المريض الوضوء لحديث أنس أن النبي قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسباً بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفاً)) فقلت يا أبا حمزة ما الخريف؟ قال العام أخرجه أبو داود.
والأفضل المشي في العيادة ولا بأس بالركوب لاسيما إذا كان منزل المريض بعيداً لحديث جابر السابق الذكر.
أيها المسلمون: ولا بأس أن يخبر المريض بمرضه ويشتكي لكن قبل ذلك يجب عليه أن يحمد الله فقد قال ابن مسعود إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس شاك فقد أخبر الله تعالى أن يعقوب عليه السلام: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله كما أخبر سبحانه عن أيوب عليه السلام: اني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وقد رأى بعض الصالحين رجلاً يشكو إلى رجل سوء حاله فقال له: يا هذا أتشكو من يرحم إلى من لا يرحم.
وليعلم المريض أن الله تعالى لا يريد به إلا خيراً كما جاء في حديث الشيخين عن أبي هريرة عن رسول الله : ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) ولحديث عائشة وأبي هريرة أن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)). ويجب على الزائر أن يذكر المريض بالله تعالى وبإقامة الصلاة إذا رأى منه استعداداً لذلك لكن برفق ولين.
فعن عمران بن حصين قال كانت بي بواسير فسألت النبي عن الصلاة فقال: ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب)).
فاتقوا الله عباد اله واتبعوا هذه الآداب في زيارة المريض سواء لكل مسلم أو للجار القريب بل حتى الكافر فقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن أنس أن غلاماً من اليهود مرض فأتاه النبي يعوده فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلم)) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فأسلم فقام النبي وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)).
(1/1622)
مرض الإيدز
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واقعية الإسلام واعترافه بالدافع الجنسي. 2- ضوابط الإسلام لتهذيب هذا الدافع. 3-
إحصائيات مخيفة عن مرض الإيدز. 4- كيف يعالج مرض الإيدز.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: خير ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله عز وجل والعمل بطاعته والحذر كل الحذر من معصيته ومخالفته قال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: اسمحوا لي في هذه الخطبة أن أتحدث معكم حول موضوع خطير أصبحنا نسمعه كل يوم، وتعقد من أجله الندوات والمؤتمرات،وتكرس من أجله الطاقات الطبية والعلمية في كل بقاع العالم، واتخذ الناس من أجله يوماً عالمياً يتحدث فيه الأطباء والعلماء توعية للمجتمعات،وإبرازاً لأخطاره وأضراره، إنه موضوع الإيدز، داء فقدان المناعة المكتسبة أو السيدا طاعون العصر، ومرض هذا الوقت وانتقام الله تعالى من أهل الفاحشة.
فما هو هذا المرض وقاني الله وإياكم شره؟ وما هي أسبابه؟ وما هي أعراضه؟ وكيف السبيل للوقاية منه.
أيها المسلمون: يجدر بنا قبل أن ندخل إلى صلب الموضوع أن نتكلم ولو بإيجاز عن التشريعات الإسلامية لغريزة الجنس، فكلنا نعلم ونؤمن أن ديننا الإسلامي الحنيف ليس دين خيال ولكنه الدين القيم الذي ينطلق من الواقع الذي يعيشه الإنسان، هذا الإنسان الذي ركب فيه الله تعالى الغرائز والعواطف ولم يكن ليتركه هملاً ليحقق إشباعها على طريقة الحيوان فالإنسان صنعة الله خلقه من قبضة طين،ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته. وسخر له الكون بما فيه من مخلوقات علوية وسفلية. أعطاه الله لجسده حظه من الحياة وأعطى لروحه العلوية حظها من العبادة والطاعة، وأي خلل في توازن الجسد والروح يفسد صنعة الله ويعرضها للآفات الجسمية والروحية.
ومن أقوى الغرائز التي ركبها الله في جسد الإنسان غريزة الجنس، وقد جعلها الله هكذا لأهداف سامية وحقائق عالية تستهدف عمارة الكون وعبادة الخالق، والجنس هو نقطة الضعف التي يتسلل منها الشيطان ليخرب الكون ويقلب نظام الحياة رأساً على عقب ويعطل رسالة الإنسان في الحياة قال تعالى: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً. ولما كان لغريزة الجنس هذه القوة الطاغية على النفس البشرية فإننا نجد أن الإسلام وضع لها الضوابط وسن لها السنن وعبّد لها الطريق،وأقام عليه الإشارات التي تضبط حركتها في الحياة حتى لا تصطدم بسنة الله في الخلق.
وإلا فانظروا رحمكم الله لسائق مجنون لا يلقي بالاً بالإشارات الضوئية حمراء أو خضراء.
وأذكر لي ولكم معشر المسلمين والمسلمات هذه الضوابط التي وضعها الإسلام في طريق غريزة الجنس، فقد حارب الإسلام الرهبانية التي تجعل الإنسان منعزلاً عن المجتمع عازفاً عن الدنيا منقطعاً عن إشباع عواطفه وغرائزه،لأنها تعطل عمارة الكون،وتؤدي إلى اختلال وظائف الجسم وإلى ظهور العقد النفسية التي قد تنفجر فتهوى بالإنسان إلى أسفل سافلين، وقد ذم الله الذين ابتدعوا الرهبانية، فلا هم تركوها ولا هم قاموا بحقوقها قال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون.
وجعل الإسلام حب النساء مع قمة شهوات النفس حقيقة واقعة غير أن هذا الحب للنساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وغيرها ينبغي ألا تملك على الإنسان نفسه وتستولي على عقله فينسى ما عند الله من نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع. قال تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء.. الآية. روى الإمام أحمد وأصحاب السنن أن رسول الله قال: ((كل شيء يلهو به الرجل؟ فهو باطل إلا ثلاثاً رمية الرجل بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق)) والإسلام كذلك أعطى للزوج والزوجة الحق في ممارسة حق إشباع هذه الغريزة فقد روى الشيخان وأبو داود أنه قال: ((إذا دعى الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)).
ومهمة رابعة فقد أحاط الإسلام هذه الغريزة بين الزوج وزوجته بالكتمان، وحرم إذاعتها بين الناس. روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله أقبل عليهم بوجهه فقال: ((مجالسكم هل منكم الرجل الذي إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا؟)) فسكتوا فأقبل على النساء فقال: هل منكن من تحدث؟ قال: فجثت فتاة كعاب (التي نهد ثديها) على إحدى ركبتيها وتطاولت ليراها الرسول وليسمع كلامها فقالت: أي والله إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثن فقال : ((هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ مثل شيطان وشيطانه لقي أحدهما صاحبه بالسكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه)).
هذه بعض الضوابط والإجراءات التي وضعها الإسلام في طريق غريزة الجنس، ثم من جهة أخرى وضع الإسلام تدابير وقائية للحيلولة دون الوقوع في محارم الله في فاحشة الزنا. فأمر المؤمنين والمؤمنات بغضّ النظر وحفظ الفرج، وأوجب على المرأة أن تستر جسمها، وحرم عليها التبرج وهو إظهار المفاتن من جسمها، وحرم الخلوة بالأجنبية، وحرم الاختلاط بين الرجال والنساء سداً للذريعة واتقاء للشبهة وحرم على المرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم ولو لحج بيت الله الحرام فقد جاء رجل إلى النبي فقال له يا رسول الله إني اكتتبت معكم في غزوة وإن امرأتي خرجت حاجة فأجابه رسول الله قائلاً: ((الحق بأهلك)) ، نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين وبحديث سيد الأولين والآخرين وأجارني وإياكم من العذاب المهين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: تعلمون رحمكم الله أن الله تعالى حرم الزنا فلم يحرم الحق سبحانه الزنا مباشرة وإنما حذر أولاً من مقدماته فقال عز من قائل: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ، وحرم الإسلام الشذوذ الجنسي وهي فاحشة اللواط، فعن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا فعلت أمتي خمساً فعليها الدمار، إذا ظهر التلاعن وشرب الخمور ولبس الحرير واتخذوا القيان واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء)) رواه البيهقي.
أيها المسلمون: أما الإيدز فقد ظهر في الثمانينيات نتيجة للفوضى الجنسية التي غرق فيها العالم وحقت عليه لعنة قوم لوط والتي حذر الله منها بقوله: وما هي من الظالمين ببعيد.
ويصل عدد المصابين به حسب الإحصائيات الحديثة إلى 13 مليون شخص، ثمانية ملايين في إفريقيا فما هو هذا المرض؟
إن جسم الإنسان أحاطه الله بعناية خاصة حيث جعل له جيشاً دفاعياً قوياً يتمثل في التشكيلات الدفاعية والقوات الانتحارية ودورات الحراسة وكلها تسبح في الدم في شكل دوريات عمل مستمرة لا تنقطع ليلاً ولا نهاراً وتتعاون فيما بينها في تكوين فريق عمل متكامل يعمل بنظام للدفاع عن الجسم ومما يردع الغزاة فإذا حدثت غارة فيروسية بقيادة فيروس الإيدز عن طريق علاقة جنسية غير شرعية، وحقنة في الوريد الدموي في ذراع مدمن، أو نقل دم ملوث، فإن فيروس الإيدز ينهي المعركة بمقتل مدير حركة الدفاع، فيسرى الشلل والإحباط إلى بقية قوات الدفاع من الخلايا ويبقى الجسم كله مباحاً بعد تدمير دفاعاته وحصونه لكل غاز من أبسط الميكروبات والجراثيم والفيروسات لتنتهي به إلى الموت المحتوم.
ومع هذا الخطر يجتمع الأطباء ويتفرقون دون التوصل إلى علاج حاسم، وهم يؤكدون في كل اجتماع على أساليب الوقاية التي دعا إليها القرآن وهي تتمثل في الاكتفاء بالعلاقات الشرعية عن طريق الزواج والإخلاص للحياة الزوجية،وتحصين الشباب من المخدرات ووسائل الإعلام المدمرة.
فاتقوا الله عباد الله وحصنوا أنفسكم من هذا الداء الخطير وكونوا من الذين قال الله فيهم: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وإيجاد هوايات ورياضات تتمشى مع روح الإسلام، وبالتالي إقامة شرع الله على الزاني والزانية وحماية المجتمع من التبرج والاختلاط والخلوة، كل هذه وقايات للحيلولة دون الوقوع في المرض الخطير، ويجب أن تتعاون كل الطاقات من حكومات وشعوب في سبيل القضاء على هذا الداء الوبيل.
(1/1623)
من حقوق الجار (تهنئته بالخير الذي أصابه)
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الله الشرقاوي
الدار البيضاء
الصفا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحق الخامس : تهنئته بالخير الذي أصابه (إدخال السرور على قلبه): أ- كيفية التهنئة. ب-
عدم جواز التهنئة في أعياد الكفار. ج- صيغ التهنئة في المناسبات المختلفة. 2- الحق السادس:
مواساته في الضراء التي أصابته. 3- صيغ المواساة الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، لأن التقوى خير معين بعد الله عز وجل على حل مشاكل الدنيا والآخرة قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: مازلنا مع حقوق الجار في الإٍسلام، وصلنا إلى الحق الخامس. وهو قوله في الأثر المروي عنه: ((وإذا أصابه خير هنأته)). إن إدخال السرور على قلب المسلم يعد عملاً من الأعمال الصالحة، ذلك أن المسلم يحرص كل الحرص على أن ينشر المسرة في الأماكن التي يحل بها، ويساهم في إشاعة الأنس والمودة والغبطة بين أهلها، فإدخال السرور على القلوب في إطار ما أحل الله مطلب إسلامي ندب إليه الشرع الحنيف ورغب في فعله لتكون ديار المسلمين مملوءة بالود، ندية بأنسام المسرة، عامرة بالبشر والتفاؤل، ومن أجل ذلك جعل الإسلام جزاء من يدخل السرور على قلوب المسلمين ومنهم الجيران أن يظفر بسرور أكبر وبفرح أعظم يدخله الله سبحانه على قلبه يوم القيامة. روى الطبراني في المعجم الصغير وإسناده حسن أنه قال: ((من لقي أخاه المسلم بما يحب الله ليسره بذلك سره الله عز وجل يوم القيامة)).
لكن هنا سؤال أيها المؤمنون يحتاج إلى جواب وهو بم يكون إدخال السرور على قلب المسلم الجار أو القريب أو غير ذلك؟ لو نظرنا إلى الحديث السابق وتمعنا فيه لوجدنا الجواب صريحاً واضحاً وإن كان عاماً وهو قوله : ((من لقي أخاه المسلم بما يحب الله ليسره بذلك سرَّه الله عز وجل يوم القيامة)). إنه سرور ولكن بما يحب الله وكم من المسرات الحلال يستطيع المسلم أن يحملها لإخوانه وجيرانه وأهله وأقربائه كالكلمة الطيبة والبسمة الودود، والبشرى المفرحة والمواساة المسلية والزيارة الخالصة، والإحسان الصادق وغير ذلك مما يفتح القلوب على المحبة ويحجبها عن الغل والحقد والكراهية، وإذا كان المسلم بطبيعة تربيته وتكوينه يدور في إطار من الأعمال الصالحة التي تقربه من الله زلفى وتحببه إلى قلوب الناس وكثير من الناس اليوم فهموا إدخال السرور على القلوب فهماً خاطئاً بل مخالفاً لشريعة الإسلام قد يفضي بهم إلى لعنة الله وغضبه، ويشاهد ذلك في الأفراح والولائم والأعراس، فهناك الخمر الممقوت والاختلاط المشين، والغناء الفاحش وكثرة الكلام واللغط في غير ذكر الله عز وجل، أهكذا يكون إدخال السرور على القلوب، إنه فرح ولكنه ليس في محبة الله وليست فيه محبة الله، إنه فرح سيعقبه حزن طويل إذا لم يتب أهله إلى الله تعالى.
أيها الناس: إن الإسلام يوجب على الجار المسلم نحو جاره أن يهنئه إذا أصابه خير، أي يقول له: هنيئاً لك بما أعطاك الله، ولابد أن يظهر له الفرح بهذا الخبر الذي أصابه حتى يشعر بحبك له وسعادتك بما هو فيه من سعادة، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لكل جار مؤمن مصداقاً للحديث الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)).
وأفتح صفحة من صفحات الحديث الشريف الذي علمنا فيه رسول الله كيف نهنئ بعضنا بعضاً، فالإسلام لم يتركنا لتهنئة اليهود والنصارى ولا لغيرهم كما أصبح حال كثيرين اليوم، فعلى رأس كل سنة ميلادية تجد الناس يشترون الصور التي ربما عليها إشارات مسيحية مثل بابا نوبل، ويبعثون بها إلى أقاربهم وجيرانهم كأنهم ليسوا مسلمين، ولا بهذا الدين مؤمنين.
وهنا لابد من أمر هام أنبه عليه أخوتي وأخواتي المؤمنين، التهنئة في الإسلام تجدها دائماً مقرونة بدعاء وحمد حتى يكون المسلم والمسلمة دائماً متجهاً إلى الله تعالى، حتى في فرحه وسروره حامداً لربه شاكراً لأنعمه معترفاً بفضله عليه. وذلك في تعزيته وحزنه.
وإليكم معشر المؤمنين والمؤمنات أمثلة من الأدعية الواردة في باب التهنئة. فإذا رأيت جارك أو أخاك قد لبس ثوباً جديداً فهنئه بالتهنئة الواردة في صحيح الإمام البخاري وقل له: ((ألبس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً سعيداً)) يا ما أجملها من تهنئة.
إذا قدم جارك من سفر سالماً فقل له: ((الحمد لله الذي سلمك، والحمد لله الذي جمع الشمل بك)) وإذا قدم من غزوة جهاد فقل له: ((الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك)) ، وإذا أراد أن يسافر إلى الحج أو العمرة فقل له مودعاً: ((زودك الله التقوى ووجهك في الخير وكفاك الخصم)) وإذا رجع فقل له: ((قبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك)). وإذا أراد الزواج فقل له: ((بارك الله عليك وجمع بينكما في خير)) ويقال لكل من الزوجين: ((بارك الله لكل واحد منكما في صاحبه وجمع بينكما في خير)) ، وليست كتهنئة الجاهلية بالرفاء والبنين. وإذا رزق بعد ذلك بمولود فهنئه بالتهنئة التي علمنا إياها رسول الله : ((بارك الله لك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره)).
فبمثل هذه التهاني الواردة في الأحاديث بالإضافة إلى المشاركة الروحية والأخوية والمالية يشعر الجار ويتأكد له إخلاصك له، ومشاركتك له في فرحته. مصداقاً لقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
هذا في حالة السراء والفرح، فأما في حالة الضراء والشر فمن الواجب على الجار أن يواسي جاره وأن يحاول تخفيف آلامه وأحزانه وذلك بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة والتي إن استمع إليها الجار بقلبه ربما تكن سبباً في تجمله بالصبر، بالإضافة إلى المواساة بالمال الذي قد يكون في محنته هذه في أشد الحاجة إليه. وأحب هنا أن أذكر بعض الأدعية الواردة والتي يجب على الجار أن يذكر بها جاره وأخاه إن أصابه مكروه.
وإذا خاف جارك قوماً فذكره بما روى بالإسناد الصحيح في سنن أبي داود والنسائي عن أبي موسى الأشعري أن النبي كان إذا خاف قوماً قال: ((اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم)). وبالحديث الآخر إذا خاف سلطاناً أو غيره وهو مروي عند ابن السني عن ابن عمر عن النبي : ((إذا خفت سلطاناً أو غيره فقل: لا إله إلا الله الحليم الحكيم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، لا إله إلا أنت عز جارك وجل ثناؤك)) ، وإذا تعثرت عليه معيشته فذكره بما رواه ابن السني عن ابن عمر عن النبي قال: ((ما يمنع أحدكم إذا عسر عليه أمر معيشة أن يقول إذا خرج من بيته: بسم الله على نفسي ومالي وديني اللهم رضني بقضائك، وبارك فيما قدر لي في حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت)) وإذا كان عليه دين عجز عنه فذكره بما رواه الترمذي عن علي إن مكاتباً جاء إليه فقال إني عجزت عن كتابتي فأعني قال: ((ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً أداه الله عنك قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأعني بفضلك عمن سواك)).
هذه أيها الأخوة المؤمنون: بعض الأمثلة في التهنئة بالخير والمواساة بالشر للجار المسلم، فاتقوا الله تعالى وأشيعوها بينكم واحفظوها واذكروها بصدق وإخلاص فإنها كلام من لا ينطق عن الهوى اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا وسلموا تسليماً اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد..
(1/1624)