المطر
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
21/8/1421
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نسبة النعم إلى الله المنعِم. 2- عبر من نزول المطر. 3- نزول المطر والخوف أو الطمع
بما عند الله
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعم الله وافرة، وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضر، فما لنا لا نشكر، وبحسن صنع ربنا بنا لا نعتبر.
إن في قصة المطر لعبراً. وآياتٍ ذكرها ربنا في كتابه فلنعتبر بها ولنتعظ ولنشكر ربنا، ولنعي قوله ولنمتثل أمره، ولنحذر زجره ولنصدق خبره، فما دلّنا إلا على خير، ولا أمرنا إلا بخير، ولا نهانا إلا على ضير، ولننسب الفضل له، فما مطرنا إلا بفضل الله ورحمته ولا نقول ما قال الأبعد حين سمع قول الله تعالى: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين.
قال تأتي به الفؤوس والمعاول، بل نقول: لا يأتي به إلا الله، فهو القائل: وأسقيناكم ماءً فراتاً والقائل: فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم
فوالله لولا الله ما سقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فولا تشكرون.
للهم لك الشكر على آلائك التي لا تعد ولا تحصى، اللهم لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشكر لا نحصي ثناءً عليك، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور.
اللهم فارزقنا الخشية منك. اللهم اجعلنا من العلماء أهل الخشية منك. فمنك ماؤنا، ومنك طعامنا، فلك الشكر ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجُرُُُز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون.
إن في قصة المطر لعبراً وآيات ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات (تبشر بالخير بعدها) وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً فترى الودق (المطر) يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن إن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
نعم إن إحياء الله الأرض بعد موتها لدليل واضح على قدرته سبحانه على إحياء الموتى، فبينما الأرض جرداء قاحلة إذا بها تهتز خضراء رابية، فما يعرض عن هذا إلا أعمى البصيرة ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير ، ونزلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج. أي كذلك خروجكم من قبوركم بعد موتكم. فالذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على بعثكم بعد موتكم ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يجعله حطاماً إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب.
ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ، وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: كم نسعد ونفرح حين يكرمنا الله بالمطر، ولكن هل وقفنا معه وقفات تأمّل نعظ بها أنفسنا وأبناءنا ونساءنا وأهلينا وطلابنا وكل من له حق علينا؟
إن المؤمن المستبصر يتخذ من كل حركة وسكنة في الكون آية تدله على عظمة الله وقوته وفضله وكرمه.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
فيا عجباً: هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً نعم نخاف البرق ولكننا نطمع فيما يعدنا من المطر والفضل العميم. وينشئ السحاب الثقال إنها كلمة نقرؤها فهل تدبرناها.
هذه السحب التي نراها كل يوماً كم طناً من الماء فيها. إن المتر المكعب يزن طناً، فكم فيها من الأطنان؟ من يحملها؟ ومن ينشئها؟
إننا لا نستطيع أن نتصور وزنها، غير إنها ثقال كما قال ربنا المتعال.
ويسبح الرعد بحمده نعم إن الرعد ليسبح بحمده، فهل تدبرنا هذا ولفتنا إليه أنظار أبنائنا؟
والملائكة من خيفته نعم إن الملائكة لتسبح خوفاً من الله يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال إنه شديد القوة سبحانه، ولولا شدة قوته لما استطاع ذلك كله، إنها قوة لا حدود لها فما يعجزه شيء سبحانه أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
نعم، إن الباطل مثل الزبد الذي يعلو السيل ويربو عليه، والزبد الذي يعلو المعادن حين تصهر لاستخرج الذهب والمعادن منها، فهو في اضمحلال وضلال. يذهب جفاءً.
أما الحق وهو الذي ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال. وهكذا يتخذ القرآن الأحداث الكونية دليلاً أيضاً على حقائق شرعية، ويضرب بها الأمثال ليعقل من يعقل فينجو ويسعد، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيّ عن بينة.
اللهم بصرنا بديننا..
(1/1409)
أمراض القلوب 1
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر فساد القلب ومرضه على سائر الجوارح. 2- القلب السليم. 3- القلب الميت. 4- فتن
الشهادة والشهوات. 5- غفلة الناس من أمراض القلوب وانشغالهم بالبدن. 6- صلاح القلب
بذكر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإسلام في خضم مشغلات الحياة وتزاحم مغريات الدنيا وطغيان الماديات وغلبة الأهواء يغفل كثير من الناس عن الأخذ بأسباب السعادة والفلاح في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة. وإن هذه الأسباب منوطة بأمر واحد هو قطب الرحى في هذه القضية. يفصح عنه حديث المصطفى عند البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) ففي هذا الحديث العظيم إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان القلب سليماً ليس فيه إلا توحيد الله وخشيته ومتابعة رسول الله ومحبته سلمت حركات الجوارح ونشأ من ذلك اجتناب المحرمات والمحدثات.
وإن كان القلب مريضاً فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى وغلبة حب الشهوات فسدت حركات الجوارح وانبعثت إلى كل معصية، ونشطت في كل ضلالة ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، فإن كان القلب صالحاً كانت جنوده صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده فاسدة.
قال الإمام العلامة ابن القيم – رحمه الله – في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت ما خلاصته: لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة، فالقلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال تعالى في سورة الشعراء: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فهو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله ، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما.
بل قد خلصت عبوديته وعمله لله تعالى، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى ومنع فلله وحده، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحاكم لكل من عادى رسوله وينعقد قلبه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده دون أي أحد في الأقوال والأفعال، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقه وجله ما جاء به الرسول ، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل امتثالاً لقوله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله لا تفتوا حتى يفتي هو –، ولا تقولوا حتى يقول هو –، ولا تتقدموا بين يدي أمر حتى تسمعوا فيه كلامه هو.
فالذي يقف عند هذا الأمر هو صاحب قلب سليم.
والقلب الثاني هو: ضد هذا، وهو القلب الميت الذي لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، فالهوى إمامه والشهوة قائده والجهل سائقه والغفلة مركبه، فمخالطة صاحب هذا القلب سقم، ومعاشرته سُم، ومجالسته هلاك.
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، ففيه من محبة الله والإيمان به ما هو مادة حياته، وفيه محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بينهما.
فالقلب الأول حيٌ مخبت لين، والثاني يابس ميت، والثالث مريض فإما إلى السلامة أدنى وإما إلى العطب أدنى.
روى الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين، قل أسود مربّاداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض)).
وصح عن حذيفة بن اليمان قوله: (القلوب أربعة: قلب أجرد [أي متجرد من كل ما سوى الله ورسوله ] فيه سراج مزهر، فذلك قلب المؤمن. وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، وقلب تمده مادتان مادة إيمان ومادة نفاق فهو لما غلب عليه منهما.
إخوة الإسلام: والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشبهات وفتن الشهوات. فتن الغي والضلال. فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل. ومدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين:
فساد العلم وفساد القصد: ويترتب عليهما داءان قاتلان: الغضب والضلال، وهذان المرضان ملاك أمراض القلوب جميعها وشفاء ذلك بالهداية العلمية بتحقق التوحيد لله تبارك وتعالى وتجريد المتابعة لرسوله.
إخوة الإسلام: باتباع النبي بالفهم الصائب لما سبق والنظر الثاقب فيما وقع ويقع في حياتنا المعاصرة ندرك أن ما أصاب الأمة من شر وضلال وفتنة إنما هو بسبب أمراض القلوب وعللها، وإذا حدث فساد القلب فحدث ولا جناح عن العواقب السيئة التي تعود على الأفراد والأمم، فما حلت الضلالة وانتشرت الجهالة في أمر العقيدة والاتباع إلا بسبب أمراض القلوب وإلا بسبب أسقام القلوب التي أصبحت أوكاراً للشيطان وبؤراً للأهواء. وما عمت المنكرات في الأفعال والأخلاق والأقوال وكثر القتل والوقوع في الزنا والجرائم والتعامل بالربا وسائر المحرمات إلا بسبب إقفار القلوب من طاعة الله وفتنتها بحب العاجلة، وبالجملة فكل فساد حلّ بالأمة مرده إلى أمراض القلوب وما ران عليها من ظلمات المعاصي، وما شيوع الأمراض النفسية والتوترات العصبية والأسقام الاجتماعية وانتشار القلق والهموم والوساوس إلا بسبب الوقوع في المعاصي والذنوب على اختلاف أنواعها وتعدد مصادرها واختلاف وسائلها التي تقضي على القلب وتميت الشعور الإيماني والحس الإسلامي فيه، وتزرع فيه الفسق والضلال والفساد، ولله در عبد الله بن المبارك حيث قال:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
ومن الغريب حقاً إعراض الناس عن الاهتمام بعلاج القلوب وانصرافهم الكلي إلى اهتمامهم بصورهم وأجسادهم، فلو أصيب أحدهم بأدنى مرض في جسده لأقام الدنيا بحثاً عن أمهر طبيب وأفخم مستشفى بينما الأمراض المعنوية أمراض القلوب والأرواح قد أهملت فعاد الأمر كما نرى يسّر العدو ويحزن الصديق.
ولعل ما سبق من وضع لمسات على هذا الموضوع الخطير من حيث الأهمية والأسباب والعلاج ونظرة السلف له وواقع الناس فيه كافٍ بأن يهتم كل واحدٍ بفحص قلبه ومحاسبة نفسه في هذا الأمر، ليعلم أنه بقدر مواقعته المعاصي فإنما يجلب الفساد لقلبه، والناسُ في ذلك بين مستِقلِّ ومستكثر.
وبفحش القلب ومحاسبة النفس يعم الصلاح والخير والفلاح نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا. اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا واغفر لنا ذنوبنا إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلّ وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بأسباب إصلاح القلوب، واتقوا مولاكم علاّم الغيوب، واعلموا أن حياة القلب وصحته وشفاءه من كل درن لا يحصل إلا بإقبال صاحبه على كتاب الله تلاوةً وتدبراً، ففيه الشفاء والنور، قال الله تعالى في الآية السابعة والخمسين من سورة يونس: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين والإكثار من ذكر الله تبارك وتعالى سبب لحياة القلوب فإن الله تعالى قال في الآية الثامنة والعشرين من سورة الرعد: ألا بذكر الله تطمئن القلوب وكثرة استغفاره والتوبة إليه والاستعاذة به من الشيطان الرجيم والعبد عن مصائده وحبائله من الملاهي وسائر المعاصي التي تصد عن ذكر الله.
بهذا وغيره يتحقق صلاح القلب وحياته وشفاؤه من كل درن.
فاتقوا الله عباد الله وزكوا قلوبكم وطهروها من كل ما يغضب الله من الغل والحقد والحسد والعجب وعداوة المسلمين، واجتنبوا كل أسباب فساد القلوب وقسوتها تكونوا من المفلحين.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة ولسلام عليه بقوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1410)
الخسوف
موضوعات عامة
مخلوقات الله
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حدوث الكسوف على عهد النبي. 2- الكسوف يذكر بأهوال القيامة. 3- التوبة قبل طلوع
الشمس من مغربها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فهذه الصلاة التي صليناها قد ورد فيها في الصحيحين وغيرهما الحديث: كسفت الشمس على عهد رسول الله فقالوا: إنها كسفت لموت إبراهيم فقال النبي - وإبراهيم هو ابنه في معنى هذا الحديث -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فأقبلوا على الصلاة والدعاء والاستغفار)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ولا شك أن هذه الآية العظيمة توشك أن تقع، وتوشك أن تكون نذيراً بيوم البعث، يوم النشور، يوم العرض على الله تبارك وتعالى، يوم الفصل، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد.
هذه الآية التي ورد في شأنها في سورة القيامة: فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر ماذا، ماذا يكون عندها. ماذا يكون عند وقوع هاتين الآيتين؟ يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر لا ملجأ ولا مكان يحول بين الإنسان وبين وقوفه بين يدي ربه تبارك وتعالى: كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر يُنبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر.
وفي سورة التكوير: إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سُجرت وإذا النفوس زوجت وإذا المؤودة سُئلت بأي ذنب قتلت وإذا الصحف نشرت وإذا السماء كشطت وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
آيات حريُّ بنا إذا ما شاهدناها في هذه الدنيا قبل انقضائها، حريُّ بنا أن نتذكر الساعة التي تكون فيها هذه الآيات مؤذنة بنهاية الدنيا وبداية القيامة، وبداية الحساب.
هذه الآيات كما قال الله تبارك وتعالى في أمر الشمس، وأنها إذا طلعت من مغربها فإنه لا يكون لعاصٍ فرصة أو رجاء أن يتوب أو يعود أو يرجع أو يستعتب قال في سورة الأنعام في الآية الثامنة والخمسين بعد المائة هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك هل ينظرون إلا هذا اليوم، هل ينظرون إلا هذا اليوم، لماذا لا يتوبون؟ ولماذا لا يعودون؟
يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنا منتظرون وهذا الآية هي آية طلوع الشمس من مغربها، يوم يأتي بعض آيات ربك إذا طلعت الشمس من مغربها لا توبة، حيل بين العصاة وبين التوبة.
هذه الآيات التي تذكر بهذا الموقف الرهيب، المهيب، العظيم، حريُّ بنا إذا ما وقعت لنا أن تُحدث في قلوبنا رقة، وأن تحدث في قلوبنا شفقة وخوفاً ورهبةً من أن تكون هذه الآيات في مرة من المرات ليس لأجل أن تُقابل بأداء صلاة كالتي صليناها، ولكن لنسحب جميعاً إلى الحشر، إلى القضاء إلى أن يرى كل منا نتيجة عمله. هل أخلص فهو مقبول، أم أنه لم يخلص فيه وكان من المرائين أو المنافقين أو الذين يظهرون للناس ما لا يبطنون، إلى غير ذلك مما لا يظهر ولا يكون إلا يوم القيامة، نعوذ بالله من الفضيحة ومن الخزي ومن العار، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الذين تُحدث فيهم هذه الآيات رقةً وخوفاً ورهبةً وتبعثهم على أن يعودوا وأن يجدّدوا وأن يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى – وأن يفارقوا تماماً كل ما هم عاكفون عليه من المعاصي التي يسترها الله عليهم ولا يعلمها أحد إلا الله تبارك وتعالى نسأل الله تبارك وتعالى ألا نكون إزاء هذه الآيات من الغافلين، ونسأله تبارك وتعالى أن يختم لنا بخير وأن يجعل عواقب أمورنا إلى خير وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا، وأن يرد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى الحق رداً جميلاً، وأن يُقرّ أعيننا بحكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل بلاد وربوع المسلمين. آمين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1411)
الصيام وتقوى الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من مشروعية الصيام. 2- معنى التقوى ودرجات المتقين. 3- وصية الرسول ثم
السلف الصالح بتقوى الله. 5- من صفات المنافقين الإسرار بالمعاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فلقد قال الله تبارك وتعالى في مبدأ آيات الصيام مبينًا أكبر وأعظم حكمه وأهدافه: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
ولئن كانت للصيام فوائد وحكم بدنية واجتماعية إلا أن أكبر وأعظم حكمه على الإطلاق تقوى الله عز وجل.
وتقوى الله تبارك وتعالى هي وصيته للأولين والآخرين. قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء في الآية الحادية والثلاثين بعد المائة في وصيته للأولين والآخرين بتقواه: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.
فما هي التقوى؟ التقوى: هي أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه, وتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه منه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي, قال الله تبارك وتعالى في سورة المدثر: هو أهل التقوى وأهل المغفرة , هو أهل أن يُجل ويُخشى ويُعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه, وقال في سورة آل عمران: ويحذركم الله نفسه , وقال في سورة الحشر: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد , وقال: واتقوا الله الذي إليه تُحشرون , هكذا قال في سورة المائدة: واتقوا الله الذي إليه تحشرون مرجعكم ومآبكم إليه سبحانه, فاتقوه.
وأحيانًا تضاف التقوى إلى العقاب ومكانه وزمانه: أمّا مكان العقاب فهو النار, وأما زمانه فهو يوم القيامة, ففي تقوى العقاب ومكانه يقول الله تبارك وتعالى: واتقوا النار التي أعُدت للكافرين , ويقول في موضع آخر: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة , وفي زمان العقاب الذي هو يوم القيامة يقول في آخر آية نزلت من القرآن على الصحيح ـ وهي آخر عهد الأرض بالسماء في الآيات والقرآن المنزّل ما هي؟ ـ واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
فالتقوى الكاملة هي أن يتقي العبد المحرمات والشبهات, وربما دخل فيها فعل المندوبات وترك المكروهات, وهذه أعلى درجاتها, أعلى درجات التقوى أن تجمع فيها بين فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات, وأن تقبل على المستحبات والمندوبات, لا تترك شيئًا مستحبًا, وأن تترك المكروهات.
لكن كثيراً من الناس يتساهلون تساهلاً شديدًا في أمور ينظرون إليها على أنها من المكروهات, يسألون عن الأشياء التي تعِنُ لهم وتعرض لهم فإن قيل: إنه مكروه تساهلوا في شأنه وفي أمره, وقالوا: المكروه لا يوجب عقابًا, بل يوجب الحرمان من الثواب, ما هذا الزهد في طاعة الله تبارك وتعالى وفي ثنائه ومغفرته ورحمته وإحسانه, يقبل الناس على الأشياء لأنها لا توجب عقوبة فقط, توجب الحرمان من الثواب, ويقولون ليس هذا الأمر محرمًا إنما هو مكروه فحسب, ليس هذا من تقوى الله عز وجل, بل إن الفقهاء أحيانًا يعبرون عن المحرمات بلفظ أكرهه, وبلفظ مكروه, فالكراهة ليست بالأمر الذي يُستهان به يا عباد الله, ولماذا تفعلون ما يكرهه ربكم وخالقكم وموجدكم, وفي حق البشر الذين تجلونهم وتعظمونهم لا تفعلون إلا ما يدخل أعظم المسرات على قلوبهم؟ لماذا؟! لماذا تجعلون الله أهون الناظرين إليكم؟!
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "يُنادى يوم القيامة أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب منهم ولا يستتر, قالوا له: من المتقون؟ قال: قومٌ اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله بالعبادة".
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: "ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله, فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير إلى خير".
ليس تقوى الله أن يصوم العبد نهاره ويقوم ليله، ويخلط فيما بين ذلك, يُقبل على المعاصي والمحرمات ثم هو قبلها وبعدها يصوم ويقوم, إنما تقوى الله تبارك وتعالى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض.
وقال طلق بن حبيب: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله, وأن تترك ما حرم الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "لا زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام", لم يرتكبوا مثلنا المحرمات ويستبيحونها ويبررون لها بالمبررات, ويطلبون الفتاوى التي تؤيد ارتكابهم لها, ويبحثون عنها بحثًا, فإن لم يجدوها برروا ذلك بأن الله غفور رحيم، ونسوا أنه كذلك شديد العقاب.
ثم يا عباد الله من كلام السلف الصالح في حق التقوى كذلك ما قاله ميمون بن مهران: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".
وروى الترمذي بسند حسن عن عطية السعدي أن رسول الله قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس)), لا يبلغ أن يكون من المتقين حتى يترك الأشياء التي لا بأس فيها ولا حرج عليها خوفًا مما به البأس, يترك الشبهات, ويترك ما قد يتسبب له في ارتكاب محرم أو تستشرف نفسه بعده لارتكاب منهي, وقال النبي ـ فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه وهو حديث صحيح متفق عليه ـ: ((فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)), وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: "اتقوا الله حق تقاته, أن يطاع فلا يعصى, ويذكر فلا يُنسى, وأن يشكر فلا يُكفر", وشكر الله تبارك وتعالى يدخل فيه القيام بجميع الطاعات, وذكره فلا يُنسى بأن يذكر المرء نفسه وقلبه أوامر الله تبارك وتعالى فيمتثلها في حركاته وسكناته وكلماته, لا تغيب عنه أوامر الله حتى وهو يضحك, حتى وهو في حال مع أهله, حتى وهو في نومه, في يقظته, يرغم نفسه أوامر الله فيمتثلها, والنواهي فيجتنبها.
وقال ابن المعتمد:
خَلّ الذنوب صغيرها وكبيرها
واصنع كماشي فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
لا تحقرن ذنبًا تستصغره؛ إن الجبال من الحصى, ذنب على ذنب تصير كبيرة, تحيط بالعبد. وتلمّ به فيصدق عليه قوله تعالى في سورة البقرة: بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم على المرء أن يعلم ما الذي يتقيه لكي يكون متقيًا؛ ولذلك روى معروف الكرخي عن بكر بن خُنيس أنه قال: كيف يكون متقيًا من لم يدر ما يتقيه, وقال معروف: إذا كنت لا تُحسن تتقي أكلت الربا, وإذا كنت لا تُحسن تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك, أو كما قال معروف.
وتقوى الله عز وجل كما عرفنا هي وصيته لخلقه جميعًا, ووصية رسوله لأمته قال لهم يوم النحر في حجة الوداع: ((عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) وقال له أبو ذر ـ كما هو في حديث طويل عند ابن حبان ـ: أوصني يا رسول الله, قال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله)) , وروى أحمد أن أبا سعيد الخدري قال كذلك: أوصني يا رسول الله, فقال: ((عليك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء, وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام)) ـ وفي رواية ـ ((عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير)).
وقال له يزيد بن سلمة ـ كما عند الترمذي ـ: يا رسول الله, إني سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسينيه أوله آخره, فحدثني بكلمة تكون جماعًا, قال: ((اتق الله فيما تعلم)).
ولم يزل السلف الصالح يتواصون بتقوى الله عز وجل, فلقد كان في خطبة أبي بكر رضي الله عنه ـ بعد أن ولي على المسلمين ـ كان يحمد الله ويثني عليه ثم يقول: "أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله, وأن تثنوا على الله بما هو أهله, وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة ـ لا تكونوا راغبين فحسب, لا تقولوا غفورٌ رحيم, لا تنسوا أن عنده نارًا وجحيمًا ونكالاً وعذابًا أليمًا ـ وأن تجمعوا الإلحاح بالمسألة، فإن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين , ولما حضرته الوفاة دعا عمر ليوصيه فقال له أول ما قال: "اتق الله يا عمر".
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله: "عليك بتقوى الله فإن من اتقاه وقاه, ومن أقرضه جزاه, ومن شكره زاده", وقال علي بن أبي طالب لرجل استعمله على سرية: "عليك بتقوى الله الذي لابد لك من لقائه, ولا منتهى لك دونه, وهو يملك الدنيا والآخرة".
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: "عليك بتقوى الله التي لا يُقبل غيرها, ولا يُرحم إلا أهلها, ولا يُثاب إلا عليها, فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل, جعلنا الله وإياك من المتقين".
وقيل ليونس بن عبيد: أوصنا, فقال: "عليكم بتقوى الله والإحسان؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون", وقيل لأحد التابعين عند موته: أوصنا, فقال: "عليكم بخاتمة سورة النحل إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون , وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج قلت للحاكم ـ أي ابن عتيبه ـ: ألك حاجة؟ فكان يقول له: أوصيك بما أوصى به النبي معاذ بن جبل: ((اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد إن لا إله إلا الله وليّ الصالحين, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء والمرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم إن تقوى الله في السر أيها الأخوة الكرام علامة كمال الإيمان, علامة السعاة, فلقد كان من دعاء النبي أن يقول: ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) , وقال لأبي ذر رضي الله عنه: ((عليك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته)) , تقوى الله في السر علامة كمال الإيمان عند الاختفاء والاستتار من الناس؛ حيث يتذكر الله تبارك وتعالى وقُربه واطلاعه فيتقي, فهذا من علامة كمال الإيمان, وكان السلف يقول بعضهم لبعض: "زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته".
وقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: "أعَدّ الأشياء ثلاثة: الجود من قلة, والورع في الخلوة, وكلمة الحق عند من يرجى أو يُخاف", وقال أبو الجلد: "أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: قل لقومك ما بالكم تسترون المعاصي من خلقي وتظهرونها لي, إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون, وإن كنتم ترون أنّي أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم".
هذه خلة من خلال النفاق, إذا أخفى الإنسان المعاصي من الناس وبارز بها ربه تبارك وتعالى في خلوته صدقت عليه الآية من سورة النساء يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطًا , ولهذا قيل لوهب بن الورد: أوصنا, فقال: "عليك بتقوى الله, اتق الله وخف الله على قدر قدرته عليك, واستح منه على قدر قربه منك, واتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك".
والله تبارك وتعالى يجازي بذرات الأعمال في الدنيا والآخرة, ولهذا فإن من استتر من الناس ولم يستحِ من الله عز وجل يُلقي له البغض في قلوب المؤمنين كما قال أبو الدرداء: "ليتقي أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر؛ يخلو بمعصية الله فيُلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين.
ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يُنشد:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
وقال ابن السّماك:
يا مدمن الذنب أما تستحي والله في الخلوة ثانيك
غرّك من ربك إمهاله وسِتره طول مساويك
وقال سليمان التيمي: "إن العبد ليصيب الذنب فيُسِّر به فيُصبح وعليه مذلته. مذلة الذنب تُرى عليه، ما أسر عبد سريرةً إلا ألبسه الله عز وجل ردائها علانية, فإن أسرّ التقوى ظهرت التقوى عليه وظهر أثرها, وإن أسرّ المعصية ظهر أثرها عليه مهما أبدى للناس من خشوع وخضوع وإنابة.
ولهذا أوصى بعض السلف أخاه فقال له: عليك بتقوى الله، فإنها من أكرم ما أسررت, وأزين ما أظهرت, وأفضل ما ادخرت. أعاننا الله وإياك عليها, وأوجب لنا وإياك ثوابها.
فاستفيدوا عباد الله: أعظم حِكَم الصيام ألا وهي تقوى الله تبارك وتعالى تفوزوا وتفلحوا, وتنتهي المعاصي التي ضجت منها الأرض والسماء، وأوشك الناس جميعًا أن يؤخذوا بعقوباتها. اتقوا الله تعالى في سر أمركم وعلانيته فإنه لابد لكم من لقاه، ولا منتهى لكم دونه وهو يملك الدنيا والآخرة.
وقبل أن أغادر مكاني هذا يطيب لي أن أنبه على ما تدعو إليه جمعية تحفيظ القرآن الكريم أولياء الأمور جميعًا إلى أن يهتموا بإرشاد أبنائهم وتوجيههم إلى مقارّ هذه الجمعيات لكي يقبلوا على كتاب الله عز وجل تلاوةً وتدبرًا, ولكي يكونوا من العلماء العاملين بكتاب الله عز وجل, هذه دعوة طيبة عظيمة من هذه الجمعية ففيها تعاهد لكتاب الله وتعاهد لأبناء المسلمين حتى لا يشبوا وينشئوا وهم لا يستطيعو أن يقيموا حروف كتاب الله بينما هم مجيدون في إقامة حروف أخرى غير كتاب الله تبارك وتعالى, فأقبلوا على القرآن الكريم تعلمًا وتلاوة وتدبرًا تفوزوا وتفلحوا ويقال لكم يوم القيامة ((اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1412)
بين يدي العام الجديد
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
التوبة, القصص
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة لاستقبال العام الجديد بالتوبة. 2- نعم الله تتابع علينا ونحن عنها في غفلة. 3- عبرة
من قصة الطاغية قارون. 4- وجوب معرفة الله والعمل في ضوء هذه المعرفة. 5- دعوة
القرآن الصحابة للتوبة والمبادرة إليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
تنقضي الأيام وتمر وتتصرم الشهور والأعوام وتمر المناسبات ولا مُدّكر ولا معتبر. وها هو عامٌ آخر من أعوام حياتنا أوشك أن يقلع من ساحة آجالنا وأعمارنا، وأوشك عام جديد أن يحل بهذه الساحة، ساحة العمر والأجل، وما أسرع ما انقضى العام.
وكأني بكم في نهاية العام الماضي أذكركم بضرورة الندم على ما سلف من الذنوب واستقبال العام الجديد بتوبة صادقة ونية خالصة في العمل بما يرضي الله، ولكني بعد انقضاء هذا العام أقول ما زالت الوجهة الحقة إلى الله تبارك وتعالى ما زالت معترضة من قبل الهوى والنفس الراكنة إلى الدعة والخالدة إلى الراحة والشهوات وحبها والدنيا وإيثارها، والشيطان الذي آلَ على نفسه ألا يكل ولا يمل من مباشرة عمله الذي آل على نفسه أن يعمله في بني آدم من استذلالهم وغوايتهم.
ما زالت الوجهة إلى الله تبارك وتعالى معترضة ولو عرف الناس ربهم وعرفوا ما أراد منهم وعرفوا الأحكام التي ينبغي لهم أن يؤدوها من أجل صحة ما افترضه الله عليهم في الأداء. ولو عرفوا كيف يخرجون من ذنوبهم لكان الحال غير الحال.
فمن عرف الله تبارك وتعالى وعرفه من خلال نعمه قال - إن قال صادقاً - : ليس حالنا حال الشاكرين للنعمة. ليس حالنا حال من إذا تخلفت عنا واحدة من نعمه جأرنا وعلا صُراخنا وعويلنا، ليس حالنا حال الشاكرين للمنعم الذي تغشانا نعمه في حركاتنا وسكتاتنا وصباحنا ومسائنا وجميع أحوالنا وأمورنا له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي بأمر الله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله على الإنسان من قِبل الله حفظة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه بأمر الله تبارك وتعالى الحليم الكريم، الرؤوف الرحيم العظيم.
لو عرف الناس ربهم من خلال هذه النعم لتغيرت حالهم تغيراً يكون مشهوداً ملموساً، لو عرفوا كذلك أنه قدير قدرةً تكون دونها كل القوى والقُدَر لأنه هو الذي خلق هذه القوى والقدر، ولو عرفوا أنه منتقم لأقلعوا عما يدخلهم في دائرة انتقامه وقدرته.
ولنا في السابقين من الغابرين سنة وأسوة إذا طالعناها عرفنا أن من ظلم وطغى وتكبر وبغى في الأرض بغير الحق ليس بمفلت من قبضة الله تبارك وتعالى واقرءوا سورة القصص لتعرفوا أن الفرعونية المتكبرة والقارونية الكانزة جوزيتا بما يناسبهما من الطغيان والإفساد، طغى فرعون حتى قال: ما علمت لكم من إله غيري فقال الله تبارك وتعالى: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وعلى كل من سولت له نفسه أن يظلم أن يطالع نهاية هذه الآية: كيف كان عاقبة الظالمين والظلم ليس ظلماً يشابه فرعون فحسب، بل الظلم هو مجاوزة الحد أياً كان ذلك الحد الذي تجاوزته من افتراء وتكبر وقطيعة ورمي بالباطل وأكل أموال بغير حق وتعاطي للربا وفحش وإقبال على ما حرم الله تبارك وتعالى، كل ذلك ظلم للنفس وافتراء وطغيان ونسيان لقدرة الله تبارك وتعالى وانتقامه.
كذا قارون لمّا أفسد وقال: إنما أوتيته على علم عندي قال الله تبارك وتعالى: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. وبين أن حسن العاقبة والخاتمة الطيبة للمتقين الذين يفعلون المأمور ويجتنبون المحظور ويفعلون المندوبات ويجتنبون المكروهات، قال: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين وفي مقام الفضل والعدل قال: من جاء بالحسنة فله خير منها هذا مقام الفضل وأما العدل ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون ، ويقول في نهاية السورة مشرعاً بأن الموت تذوقه كل الخلائق ولا يبقى إلا الله تبارك وتعالى لئلا يكون الخوف إلا منه، ولا يكون الرجاء إلا فيه تبارك وتعالى قال: كل شيء هالك إلا وجهه وعبّر عن الذات بالوجه أي لا يبقى إلا إياه، فلا تسأل إلا الله، ولا تستعن إلا به ولا تتوكل إلا عليه، ولا تلجأ إلا إليه، ولا تتضرع إلا إليه، ولا تستجر إلا به، ولا تستغث إلا به.
يريد منك وهو المقام الثاني أن تعبده عبادةً نقية خالصة من الشوب ومن الكدر، فيكون توحيدك له صافياً نقياً لا تعرف لك رباً ولا إلهاً إلا هو. فلا تدعو إلا هو، ولا تتوكل إلا عليه، هو ربك وخالقك ومالكك. مالك والدار ساكنيها، فإن عرفت ربك تغير حالك تغيراً مشاهداً ملموساً.
إذا عرفت أنه كريم يتوب على من تاب إليه، رؤوف رحيم جعل الرحمة مائة جزء أنزل منها في الدنيا جزءاً واحداً تتراحم به الخلائق حتى إن الفرس لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه، وأمسك تسعة وتسعين جزءاً لأهوال يوم القيامة، إن عرفت أنه رحيم دفعتك هذه المعرفة إلى الصبر على ما تلقاه من صنوف الأذى وإلى الصبر على البلاء لأنك تعرف أنك مقدم على رب كريم تحبه يجازيك بصبرك أحسن الجزاء وأكمله، وإن عرفت أنه قديرٌ كل القوى والقدر دون قدرته دفعتك هذه المعرفة إلى الخوف والوجل منه وحده خوفاً ووجلاً يحقق لك الصبر على الهوى والنفس والشيطان ومدافعتهم جميعاً لأنك تخاف من رب يحصي أعمالك في كتاب لا يضل ولا ينسى، كما عليك أن تعرف ماذا أراد منك ربك تبارك وتعالى عليك أن تعرف أنه أراد منك أن توحده وأن تعبده عبادةً سليمةً وأن تسمع له وتطيع وعليك أن تعرف الأحكام التي تصلح بها الفرائض التي افترضها عليك، عليك أن تعرف كيف تخرج من ذنبك إذا أذنبت، فلكل ذنب توبة خاصة به عليك أن تتعلم وتعرف ما تخرج به من ذنبك.
إن تم هذا أقبل الناس ولوا وجوههم شطر العمل بما الله أمر وحادوا عن كل ما نهى عنه وزجر ولم يعرفوا لهم وجهةً إلا التي توصلهم إلى الله تبارك وتعالى، سالمين غانمين معافين من اللوم والمؤاخذة والعتاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين مثيب الطائعين ومخزي الفاسقين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى عاتب المؤمنين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بآية كريمة في سورة الحديد، هي الآية السادسة عشرة روى مسلم وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
وما هي الآية؟ قوله تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون أي أما آن للمؤمنين أن تخضع قلوبهم لذكر الله، أي تلين للذكر والموعظة وسماع القرآن وتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيع؟ أما آن لهذه القلوب أن تخضع وتلين لذكر الله تبارك وتعالى والموعظة الحاصلة ليل نهار من خلال توالي الأحداث ومن خلال رحيل الراحلين.
وليّ في فناء الخلق أكبر عبرة لمن كان في بحر الحقيقة راقي
شخوصٌ وأشكال تمر وتنقضي فتفنى جميعاً والمهيمن باقي
الذكر والموعظة والقرآن، يتوالى كل ذلك على القلوب، وإذا بالقلوب لا تولى الوجهة إلى الله تبارك وتعالى أما آن لهذه القلوب أن تخشع وأن تذعن وأن تخضع وأن تتذلل إلى الله تبارك وتعالى وأن تكف عن الكبر والمماطلة والمجادلة بالباطل، أما آن لهذه القلوب أن تدفع الجوارح إلى طاعة الله تبارك وتعالى والانخراط في سجل الطائعين أما آن لهم أن يخالفوا أهل الكتاب وألا يكونوا مثلهم، فأهل الكتاب لما طال عليهم العهد قست قلوبهم فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبدلوه وكثير منهم فاسقون. أي أعمالهم باطلة لأن قلوبهم فاسدة قاسية ورقة القلب وصفاءه تتحقق بتذكر الموت والقبر وأهوال القيامة والثواب والعقاب، تذكروا ذلك ترق قلوبهم وتصفوا، وطول الأمل وحب الدنيا سبب في قسوة القلوب فينشأ من ذلك حب الدنيا والإعراض عن الآخرة والتسويف بالتوبة كلما قيل لأحد تُب. قال: فيما بعد.
والتسويف بالتوبة والكسل عن الطاعة: ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ثم تقول الآية التالية: اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون. إن الله تبارك وتعالى كما يحيي الأرض وقد أجدبت وأقفرت، كما يحييها بإنزال المطر عليها يحيي القلوب ببراهين القرآن وأدلته وحجته وتذكيره وعظته، يحيي القلوب، فسبحان الهادي لمن شاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، وهو المحمود في جميع الأقوال والأفعال، سبحانه هدى من شاء وأضل من شاء، له الحمد وله الحكمة الكافية فيما يفعل.
أيها الأخوة المسلمون: سلطوا على القلوب نور القرآن العظيم والسنة المطهرة تعرف القلوب بعد تسليط هذا النور الوجهة الحقة التي ينبغي عليها أن توليها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1413)
حق اليتيم والأرملة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصاة الله بالأرملة واليتيم. 2- فضل كفالة اليتيم. 3- السعي في خدمة الأرملة والمسكين.
4- حق الجار وأنواع الجيران. 5- صور من إيذاء الجيران.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه مما يحسن بعد الكلام عن بر الوالدين وصلة الرحم أن يعطف بالكلام عن اليتامى والإحسان إليهم والسعي على الأرامل والمساكين والإحسان إلى الجار، فهؤلاء من الذين أوصى الله تعالى بهم بعد توحيده والأمر بالبر بالوالدين والإحسان إليهم والأمر بصلة الرحم، وذلك في قوله تعالى من الآية السادسة والثلاثين من سورة النساء التي جمعت الحقوق، حق الله تبارك وتعالى وحق الخلق قال تبارك وتعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً.
فاعلموا وفقنا الله وإياكم وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه، أن لكفالة اليتيم والإحسان إليه والسعي على الأرامل والمساكين والإحسان إلى الجار فضلاً عظيماً يوفق الله تعالى للقيام به من شاء من خلقه، والله تبارك وتعالى يقول في سورة آل عمران: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً ويقول في سورة النبأ: يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فالسعيد حقاً هو من وفق للقيام بهذه الأعمال واستعمل ماله في مصالح نفسه وأهله المشروعة وكفالة الأيتام والسعي على الأرامل والمساكين وسد الخلات والسعي على ذوي الحاجات.
وأما اليتيم فهو الذي مات أبوه وهو لم يبلغ.. مات أبوه الذي كان يرعاه بنفسه وماله، ويحبه من أعماق قلبه ويؤثر مصلحته على مصلحتِه وإن مما يذرف الدمع من العين ساخناً ساعة الموت صبية صغار وذرية ضعفاء يخلفهم الميت وراءه يخشى عليهم مصائب الدنيا وصروفها ويتمنى وحياً مرشداً يقوم مقامه، يرعاهم كرعايته ويسوسهم كسياسته يعزيهم برّه ولطفه عن أبيهم الراحل ويشعرون معه بالعناية التي يجدونها عنده، فكأن والدهم حي لم يفقدوا منه إلا جسمه والذي يتعاهد اليتيم ويؤدبه ويلاحظه ويهذب نفسه ويحنو عليه وتطمئن قلوب أقاربه إذا رأوه، هذا الذي يتعامل مع اليتيم على هذه النحو حريّ بمرتبة المقربين من رسول الله يوم القيامة، وقد دل على ذلك حديث سهل بن سعد في صحيح البخاري وغيره قال: قال رسول الله : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)) وقال بإصبعيه السبابة والوسطى أي قرن بين الإصبعين هاتين مبيناً قرب كافل اليتيم منه يوم القيامة. وأشار بهما وقال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)).
وفي هذا ترغيب في كفالة الأيتام والعناية بأمورهم، فلهم حق عظيم على المسلمين يقوم به من وفقه الله تعالى لذلك، ولقد أوصى الله جل وعلا باليتامى ليصيروا كمن لم يفقد والديه فقال في سورة البقرة: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير.
وأما الأرملة فهي التي فقدت زوجها فهي بحاجة إلى الملاحظة لأنها ضعيفة وحاجات النساء كثيرة، دقيقة وجليلة، فالذي يتعاهد الأرملة التي فقدت زوجها الذي كان يؤنسها ويرعاها وينفق عليه ويسكنها معه، الذي يرعاها من بعده فيسليها عن الفجيعة وعن تلك المصيبة ويكف يدها عن السؤال عما في أيدي الناس ويصون ماء وجهها له عند الله أجر عظيم، يكفيه في ذلك ما قاله عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري كذلك وغيره عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار وقوم الليل)).
أما المساكين فهم الذين أسكنتهم الحاجة فلا يجدون كفاية لقوتهم وسكناهم وأمورهم ونفقاتهم إما بسبب فقد المال أو بسبب العجز عن الكسب لكبر أو صغر أو عمى أو شلل أو نحو ذلك من الأسباب المقعدة والمسكنة عن تمكين المرء أن يجد كفاية نفسه وأهله من يعول، فهؤلاء حري بالمسلمين مساعدتهم وتفقد أحوالهم وأمورهم والسعي عليهم وإعانتهم على عمل يحسنونه من تعليم أو صنعة أو زراعة أو وظيفة يكفون بها وجوههم وأيديهم عن السؤال، وقد يكون المسكين قريباً أو ذا رحم فيعظم حقه ويكون السعي عليه براً وصلة.
ومن يعين المساكين ويسعى عليهم ويتفقدهم يتضاعف أجره عند الله أضعافاً مضاعفة فهذه فرصة ثمينة يوفق إليها السعيد من خلق الله تبارك وتعالى، ومن يجمع المال بعرق الجبين لا لينفقه في ترف أو تبذير أو لذة أو سمعة، بل ينفقه فيما يحب الله ويرضى من القيام بمصالح نفسه وأهله كما تقدم ولمواساة أهل الحاجات فهذا هو الذي يستفيد من المال في الدنيا ويجده مدخراً له يوم القيامة في موازين الأعمال جبالاً من الحسنات، وهو أيضاً الحريّ بمرتبة المجاهدين ومنزلة المقربين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن للجار على جاره حقاً عظيماً أكده الله تعالى بذكره في كتابه في الآية التي سبق ذكرها في سورة النساء وأكد رسول الله ذلك الحق كما أكده الله عز وجل في غير ما حديث من سننه المطهرة منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) عظمت الوصية بالجار حتى ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن في هذا مقدمة لإدخاله في إطار الورثة وفي سجل الورثة وفي نظمهم وتِرَكِهم لشدة ما أوصى الله تبارك وتعالى رسوله بحق الجار وأوصاه أن يوصي المسلمين وأن يعين لهم هذا الحق العظيم للجار ظن رسول الله أنه سيورث وأنه يكون بعد هذه الوصية العظيمة من الورثة.
والجار يطلق ويراد به الداخل في الجوار والمجاور في الدار، ويطلق على الساكن في البلد وعلى أربعين داراً من كل جانب، وقد ذكر الحافظ، بن حجر في شرح البخاري حديثاً أخرجه الطبراني عن الرسول في بيان حقوق الجيران. ((فجار له حق واحد وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الإسلام وحق الجوار، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم)) وإن من توفيق العبد وسعادته أن يكون له جيران يشعر بينهم بالعطف واللطف والتقدير والمحبة له، ومن علامة عدم التوفيق أن يكون المرء بين جيران يظهرون له الشر والعداوة ويكيدون له المكائد والعظائم والدواهي فله جيران سوء هو بسببهم قلق إذا دخل أو خرج وذلك بسبب تسلطهم عليه وعلى أهله وأولاده ووضعهم الأذية في طريقه وفي بيته وتجسسهم عليه وتعديهم على ملكه وماله ونظرهم وتطلعهم عليه من نافذة أو باب أو سطح أو رميهم عليه وعلى أهله بالحصى أو نحو ذلك من أسباب الأذى التي يتعاهد بها جيران السوء جيرانهم حتى ربما اضطر هذا الذي هو في عناء وشقاء وألم ولجاج مع أهله بسبب جيرانه. ربما اضطر إلى بيع منزله وملكه كما قال القائل الذي ابتلى بجار سوء فاضطر إلى بيع ملكه:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ولا يعلمون جاراً هنالك ينغصُ
فقلت لهم كفوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
وقال آخر:
اطلب لنفسك جيراناً تُسر بهم لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أبو شريح في البخاري ومسلم قال عليه الصلاة والسلام: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)) أي الذي لا يكون الجار في عافية من مصائبه ومتاعبه ولا يكون في راحة من مكائده وما يدبره. بل هو غير مرتاح لا يهنأ له بال بسبب جار السوء الذي لا يكون في راحة وعافية من جيرانه، فإن هذا الجار السيء الذي لم يعف جيرانه من أذاه ولم يُرحهم من متاعبه لا يؤمن. هو غير مؤمن، لذلك حلف رسول الله وأكده بالتكرار ثلاث مرات وكيف يكون مؤمناً من يكون حرباً على جاره ضداً له؟ كيف يكون مؤمناً وكيف يكون مخلصاً لله تعالى؟ لقد كان الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره وأن يسنده بكل ما استطاع لا أن يكون من أهم وأعظم أسباب قلة راحته ومتاعبه ومشقته، إن الذي لا يحسن إلى جاره ولا يحسن إلى الجار الآخر إليه لا يكن في كليهما خير لسائر الناس، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء ما تيسر بالصدقة وبالدعوة والتلطف مع أهله وأولاده والصفح عن زلاته وبعيادتهم وتعزيتهم عند المصيبة وتهنئتهم بما يفرحهم وإعانتهم ومساعدتهم وتوسيع المعاملة معهم وبإقراضهم عند الحاجة إلى ذلك وينبغي أن يستر الجار ما ينكشف من عورة جاره وأن يغض بصره عن محارمه وأن يمنع أهله وأولاده من أذية أولاد جاره وأهله وأن يبدأ جاره بالسلام وأن يظهر له البشر وأن يقوم بأداء حاجة جيرانه إذا عنّت لهم حاجة ولا يرفع صوت المذياع والتلفاز خاصة بما ابتلي به من المنكر والمحرّم الذي يذاع فيهما لئلا يضايق جيرانه، فإذا حصل ذلك حصلت بإذن الله الألفة والمحبة والمودة، أصبح من يعمل هذه الأمور بين جيرانه محبوباً موقراً، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا وآمنا في أوطاننا ودورنا وانصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، واشف مرضانا وارحم موتانا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا واختم بالصالحات أعمالنا وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1414)
صفات المؤمنين في سورة الأنفال 2
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, خصال الإيمان
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدبر القرآن يزيد في الإيمان. 2- القرآن بشير ونذير. 3- الإيمان يزيد وينقص كما جاءت
بذلك النصوص. 4- مخالفة الإمام أبو حنيفة في مسألة الإيمان والعمل. 5- التحذير من رد
النصوص بحجة التقليد والمذهبية. 6- الدنيا تشغل عن الآخرة. 7- علاج قسوة القلب بالدعاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: كنا قد ذكرنا منذ فترة أن هناك أموراً لا يحصل الإيمان الواجب في القلب إلا بالإتيان بها، ومثّلنا لذلك يومها بصفات المؤمنين الخمس المذكورة في سورة الأنفال في مطلعها، وذلك في الآيتين الثانية والثالثة منها حيث يقول الله عز وجل: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
وعلم أن هذه الصفات لا يحصل الإيمان الواجب في القلب إلا بها، لقوله تعالى بعد هاتين الآيتين: أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ر بهم ومغفرة ورزق كريم وانتهينا يومها من الكلام على الصفة الأولى من هذه الصفات، وهي وجل القلب عند ذكر الله تعالى، وسنتكلم اليوم إن شاء الله وقدّر عن الصفة الثانية من صفات المؤمنين في هذه الصورة، وهي قوله تعالى: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.
معاشر الأخوة المستمعين: إن من صفات المؤمنين أنهم إذا قُرأت عليهم آيات كتاب الله تعالى صدقوا بها وأيقنوا أنها من عند الله، فازدادوا بتصديقهم بذلك إلى تصديقهم إلى ما كان بلغهم قبل ذلك تصديقاً، وذلك هو زيادة ما تُلي عليهم من آيات الله إياهم إيمانا. ووجه ذلك أنهم يلقون لهم السمع ويحضرون إليه قلوبهم لتدبره لأن التدبر من أعمال القلوب، فعند ذلك يزيد إيمانهم ولأنه لابد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه ويتذكرون ما كانوا نسوه أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير واشتياقاً إلى كرامة ربهم أو وجلاً من العقوبة وازدجاراً من المعاصي، وكل ذلك مما يزيد به الإيمان.
ويمكننا أن نمثل لذلك بآيتين من كتاب الله تعالى لنرى كيف يمكن أن يزداد المؤمن بتلاوة كتاب الله تعالى إيماناً؟ بالتدبر والفهم والتأمل يحصل له ما يصبوا إليه من زيادة إيمان، والآيتان قوله تعالى في سورة الأنعام في الآية الثامنة والأربعين وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون.
فالمؤمن إذا تدبر هاتين الآيتين وفهمهما علم أن الله عز وجل ما أرسل رسولاً إلا ليبشر من أطاعه بالجنة ولينذر من عصاه بالنار.
والبشارة والنذارة موجودتان في هاتين الآيتين. أما البشارة ففي قوله تعالى: فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأما النذارة فقوله تعالى: والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون.
فالمؤمن يعلم بعد التدبر والفهم أن من آمن وعمل صالحاً لا يخاف مما هو آت ولا يحزن مما فات، وهذه هي البشارة، ويعلم أن من عصى الله تبارك وتعالى يمسه العذاب، ومس العذاب هو سرعة وقوعه على الأجسام كما قال تعالى في سورة الهمزة: نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة أي تقع على أجسامهم بسرعة وتخالط أجسادهم وتغوص فيها حتى تصل إلى داخل أفئدتهم وأجسامهم.
فالبشارة تحدث في قلب المؤمن رغبةً في الخير واشتياقاً إلى كرامة ربه والنذارة تحدث في قلبه وجلاً من العقوبات وازدجاراً عن المعاصي، وذلك مما يزاد به الإيمان، بل القرآن كله للبشارة والنذارة كما قال تعالى في الآية السابعة والتسعين من سورة مريم: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُدّا.
يخبر الله تبارك وتعالى رسوله أنه يسر القرآن بلسانه العربي ليبشر به المتقين الذين يجعلون بينهم وبين ما يغضب الله وقاية، ولينذر الخصوم الألداء. فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُدّا وفي قوله تعالى: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً تصريح من الله عز وجل بزيادة الإيمان. هذا تصريح في أن الإيمان يزيد، وقد صرّح الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه العزيز.
فقال في سورة آل عمران: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل الله كافينا وهو نعم الوكيل.
وقال سبحانه في سورة الأنفال في الآية التي معنا: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.
وقال سبحانه في موضعين من سورة التوبة: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى قالوا أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون.
وقال سبحانه في سورة الأحزاب: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً.
وقال سبحانه في سورة الفتح: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. وقال سبحانه أخيراً في سورة المدثر: ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً.
كما صرح الله تعالى بأن الهدى يزيد وأنه يزيد المتقين هدى، وذلك في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز في سورة الكهف ومريم وفي وسورة محمد.
قال سبحانه في سورة الكهف: نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى وقال في سورة مريم: ويزيد الله الذين اهتدوا هدى.
وقال في سورة محمد : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم.
وهذا مصرح به في أحاديث الشفاعة الصحيحة، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أنس أن النبي قال: ((يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) إذا دخل النار بسبب ما ارتكبه من الكبائر ولم يتب منها أو شاء الله أن يعذبه رغم توبته. شاء أن يعذبه وليس لأحد أن يسأله في شيء لأن الملك المحض والتصريف له سبحانه: لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون إذا أدخل بعض الموحدين النار بسبب ارتكاب الكبائر والمعاصي فإنه سبحانه يخرجهم منها لما في قلوبهم من الإيمان وللأصل الرئيس وهو قولهم (لا إله إلا الله) مع ما في قلبهم من الإيمان ولو كان مقدار مثقال حبة من خردل فإنهم يخرجون من النار.
وتدل الآيات بدلالة الالتزام مع الحديث المشار إليه على أن الإيمان ينقص أيضاً لأن ما يزيد ينقص، ولأن الحديث صريح في أن من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. فهذا يدل على تفاوت المؤمنين في الدرجات والأعمال والإيمان الذي في قلوبهم وهذا هو الحق الذي ينبغي أن يعتقده المؤمن، فإنه لا شك فيه ولا افتراء، وهو أن الإيمان يزيد وينقص.
وبهذا صرح الإمام البخاري رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة كالشافعي وأبي عبيد وأحمد رحمهم الله جميعاً.
قال البخاري – رحمه الله – لقيت أكثر من ألف من العلماء في الأمصار كلهم يقول: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وما أحسن قال الألوسي – رحمه الله تعالى – وهو صاحب كتاب "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم" ما أحسن ما قال مبيناً لمخالفته لمذهبه الحنفي في القول في زيادة الإيمان ونقصانه فقال عند تفسير هذه الآية: وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً قال: وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب أبا حنيفة – رحمه الله تعالى – للأدلة التي لا تكاد تحصى، فالحق أحق بالاتباع، والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام.
نعم إن الذي يترك فهمه إلى فهم غيره ولا يتأمل ولا يتدبر ولا ينظر لا يكون من العلماء، بل سيكون من العوام الذين يقلدون من يرون أنه أعلم منهم وأفهم منهم، هذا وإن التقليد ليذهب ببعض الناس مذهباً بعيداً حتى أنهم ليقعون في أخطاء عظيمة جسيمة وحتى أنهم يقعون في ضلال بعيد كما وقع لصاحب الحاشية على الجلالين وهو "أحمد الصاري" عند قوله تعالى في الآية السابقة من سورة آل عمران حيث قال الله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وعند قوله تعالى في الآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين من سورة الكهف: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله قال: إن العلماء يرون أن تقديم ظاهر الكتاب والسنن على المذاهب الأربعة يُعدّ من أصول الكفر، وهذا خطأ عظيم وضلال كبير وضّحه فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله تعالى – في أضواء البيان في تفسيره القرآن بالقرآن.
عند تفسيره الآية الرابعة والعشرين من سورة محمد وهي أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها بين هذا القول وفساده ورد عليه رداً بليغاً، وأنكر عليه إنكاراً شديداً حيث يرى أن العمل بظاهر الكتاب والسنة وتقديمه على كلام المذاهب الأربعة والأئمة الأربعة يعد من أصول الكفر، ولم يبين من القائل بذلك من العلماء، وهو قول حريٌ بالرد، وحريٌ بأن ينكر عليه كما فعل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله تعالى.
فإياكم أيها الأخوة الكرام والتقليد الذي يسوق إلى هذه المهاوي ويوقع في مثل هذا الردى.
الكتاب والسنة إذا جاء فيهما قول فليس لأحد بعدهما مجال لأن يتكلم كائناً ما كان وكائناً من كان، وفقنا الله وإياكم لتدبر وفهم آيات كتابه، وأعاذنا وإياكم من التحول عما لا شك في صوابه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين وخاتم المرسلين، اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنه ليس شيء يمنع الناس أن يزدادوا إيماناً إذا تليت عليهم آيات كتاب الله تعالى مثل الاشتغال بالدنيا والاشتغال بالآخرة والعمل لها في غير ما آية، منها قوله تعالى في سورة الكهف: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
فبعد أن بيّن الحياة الدنيا وزينتها بين الفرق بينها وبين الباقيات التي تنفع في الآخرة. وقال عن الباقيات الصالحات في سورة مريم: خيرٌ ثواباً وخيرٌ مردّا.
هذا البيان الشافي الوافي الكافي فيه تنبيه الناس للعمل الصالح الذي ينفعهم في الآخرة عند الله عز وجل وتحذير من الاشتغال بالحياة الدنيا كالمال والبنين والإلتهاء بذلك عما ينفعهم في الآخرة عند الله تبارك وتعالى يوم يحشر الله العباد ويفصل بينهم ويجازيهم بما كانوا عاملين. ولقد جاءت غير ما آية في الكتاب العزيز تشير إلى هذا المعنى – تشير إلى الفرق الشاسع بين العمل والاشتغال بها، قال الله تعالى في سورة آل عمران: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث هذا كله مُزين حبه في القلوب، ولكن الله عز وجل وصفه بقوله: ذلك متاع الحياة الدنيا وبين الفرق بينه وبين هذا الزائل الفاني وبين ما يبقى فقال: والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد. وقال سبحانه في سورة الشعراء: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وقال في سورة سبأ: وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون.
وقال سبحانه في سورة التغابن: إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم وقال في سورة المنافقون: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون هذا بيان لا يبقى بعده مجال للشك في الفرق بين ما ينفع وما لا ينفع مما هو زائل غير باقٍ مضمحل عن قريب.
ثم إن الباقيات الصالحات التي جاء ذكرها في سورتي الكهف ومريم، قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وأبو ميسرة وعمرو بن شرحبيل: إنها الصلوات الخمس، وأما الجمهور فهم على أن الباقيات الصالحات هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لأحاديث مرفوعة جاءت عن عائشة رضي الله عنها.
وهذا اللفظ عام يشمل الصلوات الخمس والكلمات المذكورة وغيرها من الأعمال التي ترضي الله تعالى، لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية، لأنها أيضاً صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى. والله أعلم.
ثم إن على كل من يشكو من قلبه قسوةً لا سيما إذا تليت عليه آيات الله ولا يحس معها بزيادة الإيمان أن يكثر من الدعاء الذي ورد عن الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن زيد بن أرقم أن النبي كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخضع، ونفس لا تشبع، ودعاء ولا يُسمع)) لعل الله تبارك وتعالى بالإكثار من هذا الدعاء وتلاوة القرآن بتدبر وفهم وأداء الأذكار النافعة والبعد عن المعاصي والمحرمات ولزوم الصلوات في جماعة والبعد عن رفاق السوء، لعل الله بعد الأخذ بهذه الأسباب يُمن على القلب القاسي بعودة اللين والرقة والصفاء إليه، ويزول ما ران على القلوب بسبب الذنوب، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله وعليه التكلان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1415)
صفات المؤمنين في سورة الأنفال 4
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صفات المؤمنين إقامة الصلاة. 2- كسبهم طيب ، ومنه ينفقون. 3- ترك الصلاة
وإضاعتها. 4- مصير تارك الصلاة في الآخرة. 5- كفر تارك الصلاة. 6- الأحكام المترتبة
على كفر تارك الصلاة. 7- منع الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: يقول الله تعالى في آخر صفتين من صفات المؤمنين في أول سورة الأنفال: الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وهاتان الصفتان لا يحصل الإيمان الواجب في القلب إلا بهما. كما هو الشأن في كل صفة يدل سياق القرآن أو السنة على أن الإيمان الواجب في القلب لا يحصل إلا بالإتيان بها، وأما عن الصلاة فإن الله تعالى وصف المؤمنين بأنهم يقيمونها ولم يقل أنهم يفعلون الصلاة أو يأتون بالصلاة لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقامة الصلاة إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وشروطها وواجباتها وإقامتها باطنة بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقول وينفع فيها بإقامة الصلاة هي التي قال الله تعالى فيها في سورة العنكبوت: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي التي يترتب عليها الثواب ويدخل في الصلاة نوافلها ورواتبها.
وأما قوله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون فيدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك والنفقات المستحبة في جميع طرق الخير، ولم يذكر سبحانه المنفق عليه لكثرة أسبابه وتنوع أهله ولأن النفقة من حيث هي قربه إلى الله تعالى، وأتى "بمن" الدالة على التبعيض لينبههم إلى أنه لم يرد منهم إلا جزءاً من أموالهم غير ضار لهم، ولا مُثقل بل ينتفعون هم بإنفاقه وينتفع به إخوانهم، وفي قوله تعالى: رزقناهم إشارةً إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلةً بقوتكم ولا ملككم، وإنما هي رزق الله الذي خولكم وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم وواسوا إخوانكم المعدمين. ولكن ينبغي أن يُعلم أن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أبي هريرة. عن النبي.
فلو أنفق عبد من حرام كالربا والمال المسروق والمغصوب ونحو ذلك، لو أنفق من المال الحرام أمثال الجبال لم يقبل منه وكان مؤاخذاً به ومعذباً به يوم القيامة. فسبحان من يجعل أمثال الجبال من الحرام هباءاً منثوراً ويجعل مثقال ذرة من حلال يوم القيامة أمثال الجبال.
وكثيراً ما يجمع الله بين الصلاة والزكاة في القرآن الكريم لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، ولأن الزكاة والنفقة متضمنة للإحسان إلى عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق. كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان، وما دمنا نتكلم اليوم عن الصلاة والزكاة فمن الجدير بالذكر أن يعرف أن من شقاوة العبد تركه للصلاة ومنعه للزكاة، فلا إخلاص ولا إحسان كما سبق، وعليه فلابد من بيان حكم تارك الصلاة ومانع الزكاة وجزائهما عسى أن يكون في ذكر ذلك باعث للمحافظين على الصلاة وإخراج الزكاة على الثبات والاستقامة على هذا الخير واردع لأصحاب النفوس المريضة والشحيحة عن البغي وتجاوز الحدود.
إن الصلاة يا عباد الله هي عماد الدين وميزان الإيمان والإخلاص لرب العالمين، وهي آكد الأعمال وأفضل الخصال ونحن مأمورون بالمحافظة عليها وإقامتها، فمن تهاون بها وأضاعها فهو لما سواها من دينه أضيع ولها أرفض، ولا يكون السبب الداعي إلى إضاعة الصلاة إلا اتباع شهوات النفس وإراداتها فتصار الهمم منصرفة إليها ومقدمة لها على حقوق الله تعالى، فينشأ من ذلك تضييع حقوقه سبحانه والإقبال على شهوات النفس، فمهما لاحت لهم حصّلوها، وعلى أي وجه اتفقت تناولوها فهؤلاء سوف يلقون جزاء غيهم عذاباً مضاعفاً شديداً، وقد أجمع العلماء على أن تارك الصلاة عامداً جاحداً بوجوبها كافر يقتل كفراً ما لم يتب، وهذا لا إشكال فيه بين جميع طوائف المسلمين: أن العمد بالترك الجاحد للوجوب كافر. ولكن الخلاف فيمن ترك تهاوناً وكسلاً، والعجب ممن قام يناضل عن كون تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً ليس كافراً فتجرأ أُناس بسبب هذه المفاضلة على ترك الصلاة والتهاون بحقها، ولو كانت المسألة مسألة مناقشة للأدلة فقط من الناحية العلمية لهان الخطب، ولكن الذين يستمعون إلى هذا الكلام العلمي من عوام الناس إذا لم يقرن من قبل الذي يعرض هذه القضية عرضاً علمياً – إذا لم يقرن – بين بيان أدلة هذه المسألة والكلام عليها من حيث الدليل وبين دعوة الناس إلى المحافظة على الصلاة وإقامتها وعدم الاستهتار بها أدى ذلك إلى ما هو مشاهد ملحوظ من بعض المسلمون الذين يظنون أنهم مازالوا باقين على إسلامهم بالرغم من تهاونهم بهذه الصلاة العظيمة التي وإن كلفنا بها فقد شرفنا بها أيضاً فقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم والحديث في الصحيحين: ((هي خمس – العدد والأداء -، ولكنها في الأجر خمسون)).
واعتبرنا بالنسبة للأمم السابقة كمن عُهد إليه وأتفق معه على أن يعمل من بعد العصر إلى نهاية اليوم إلى الغروب وأخذ الأجر كله والذي عمل من مطلع الفجر إلى الظهر ثم نكص وتقاعس، ليس له من الأجر شيء لأنه لم يُتم ما اتفق معه عليه، والذي عمل من الظهر إلى العصر ثم نكص وتقاعس فليس له من الأجر شيء لأنه لم يُتم ما اتفق معه عليه.
ثم المسلمون الذين أكرمهم الله تعالى بهذا الدين يعملون عملاً قليلاً بالقياس إلى الأمم السابقة وينالون أعظم الأجر لو ثبتوا على ما عُهد به إليهم وما أمروا به وكلفوا به ونظروا إليه على أنه كما أنه تكليف فهو أيضاً تشريف لما ينتظرهم من الثواب الجليل والفضل العميم من الله تبارك وتعالى العظيم الكريم.
والقول الراجح من أقوال أهل العلم فيمن ترك الصلاة تهاوناً وكسلاً أنه كافر مرتد يقتل كفراً ما لم يتب، ومن القائلين بذلك علي بن أبي طالب وابن المبارك وأحمد وإسحاق، ومن الشافعية منصور الفقيه وأبو الطيب ابن سلمة، ومن أدلة هذا القول الراجح من القرآن قوله تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة التوبة: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ويفهم من مفهوم الآية أنهم إن لم يتوبوا ويقيموا الصلاة يؤتوا الزكاة فليسوا من إخوان المؤمنين، ومن لم يكن من إخوان المؤمنين فهو من الكافرين لأن الله تعالى يقول في الآية العاشرة من سورة الحجرات: إنما المؤمنون إخوة كذلك قوله تعالى في الآية التاسعة والخمسين من سورة مريم: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً : أي فخلف من بعد الأنبياء المذكورين في السورة آنفاً صلوات الله وسلامه عليهم وهم: آدم وإدريس ونوح وإبراهيم وإسماعيل وإسرائيل (أي يعقوب) وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، خلف من بعد هؤلاء خلفٌ أضاعوا الصلاة. وهناك فرق بين خلْف بسكون اللام وخلَف بفتحها. فالخلْف فيمن يخلف من سبق ويكون على شر وعلى فساد ويكون متبعاً للشهوات ليس فيه خير، وبالفتح من كان عكس ذلك، يقول لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلْف كجلد الأجرب
فخلف من بعد خلْف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً فسوف يلقون جزاء غيّهم عذاباً مضاعفاً وقال تعالى في سورة المدثر في سؤال أصحاب اليمين في الجنة للمجرمين عن سبب سلكهم سقر قال سبحانه عنهم أنهم أجابوا بما في الآية الثالثة والأربعين وما بعدها: ما سلككم في سقر ، ما الذي أدخلكم جهنم، ما الذي أدخلكم النار، قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين لا صلاة ولا زكاة، لا إخلاص ولا إحسان وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين أي يوم الجزاء حتى أتانا اليقين أي حتى أتانا الموت فما تنفعهم شفاعة الشافعين.
ومن الأحاديث الدالة على أن تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً كافر، ما رواه مسلم في صحيحه من طريقين، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما عن النبي ولفظ المتن في الأولى منهما: سمعت رسول الله يقول: ((إن بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) ولفظ الأخرى سمعت رسول الله يقول: ((بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)).
وهذا الحديث دال دلالة واضحة على كفر تارك الصلاة، لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافراً. شرك معطوف على كفر.
ومن الأحاديث الدالة على هذا الأمر أيضاً: حديثا أم سلمة وعوف ابن مالك رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم الدالان على قتال الأمراء إذا لم يصلوا.
وحديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه المتفق عليه وقفه: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا تنازع الأمر أهله وقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) فدل مجموع الأحاديث المذكورة على أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان.
ومن الأحاديث حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه: سمعت النبي يقول: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم، وقال النووي في شرح المهذب: أخرجه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حسن صحيح، وصححه النسائي والعراقي، وقال الحاكم في المستدرك بعد أن ساقه بسنده: هذا حديث صحيح الإسناد لا تعرف له عله بوجه من الوجوه.
وأيضاً في الأثر الذي رواه الترمذي في كتاب الإيمان بسند صحيح، كما قال النووي في "شرح المهذب" عن التابعي الجليل عبد الله بن شقيق العقيلي. قال رحمه الله تعالى: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة.
والحديث حديث بريدة، والأثر المذكور (أثر شقيق) يدلان دلالة واضحة على أن تارك الصلاة كافر ولو أقرّ بوجوبها، لأن أصحاب محمد لم يكونوا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير تارك الصلاة ولأن النبي قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ولم يتعرض هنا للتفصيل ولم يقل: (إلا من كان مُقراً بوجوبها لم يكفر) لم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم، ومن الأحاديث أخيراً ما رواه أحمد بإسناد رجاله ثقات والطبراني في الكبير والأوسط عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: ((ومن حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة يوم القيامة والكينونة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف أوضح دليل على كفره كما ترون.
وفي الباب أحاديث أخرى منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو صالح للاحتجاج، وفيما ذكر كفاية، ويترتب على ترك الصلاة أحكام في الدنيا وأخرى في الآخرة أذكرها بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله وقدّر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإذا أصر المسلم على ترك الصلاة ومات من غير توبة فإنه يترتب على تركه للصلاة قبل أن يموت في الدنيا أحكام يترتب على تركه للصلاة إذا مات في الآخرة أحكام.
أما في الدنيا فهو كافر يجازى بهذه الأحكام الستة:
أولاً: يفرق بينه وبين زوجته المؤمنة المسلمة المحافظة على الصلاة لقوله تعالى في سورة الممتحنة: لا هن حِلُّ لهم ولا هم يحلون لهن.
ثانياً: لا تكون له ولاية على بناته عند عقد النكاح لأنه لا ولاية للكافر على المسلم، والله تعالى يقول في سورة النساء: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
ثالثاً: يمنع من دخول الحرم: شأنه في ذلك شأن كل كافر لقوله تعالى في سورة التوبة: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا.
رابعاً: إذا مات أبناؤه أو زوجته أو أمه أو أبوه المصلون فإنه لا يرثهم، وإذا مات فلا يورث لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتفق عليه عن النبي قال: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)).
خامساً: لا يُغسّل ولا يُكفن في مقابر المسلمين شأنه في ذلك شأن كل مشرك كافر، بل يلقى في حفرة بعيدة لئلا يتأذى به الناس.
سادساً: لا يصلى عليه ولا يُدعى له بالرحمة لقوله تعالى في سورة التوبة: ولا تصلِ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ولقوله تعالى أيضاً في سورة التوبة: ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم.
وأما الأحكام الأخروية: فإنه يحشر يوم القيامة أعمى أبكم أصم. لقوله تعالى في سورة الإسراء: ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً ولقوله تعالى في سورة طه: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.
ثانيا: يحجب عن الله تعالى ويحرم رحمته تعالى لقوله تعالى في سورة المطففين: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون.
ثالثاً: يحرم شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى في السورة التي ذكرت آنفاً في سورة المدثر: فما تنفعهم شفاعة الشافعين.
رابعاً: يلقون في النار مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف لما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما السابق في مسند الإمام أحمد وعند الطبراني في الكبير والأوسط.
وإذا تاب تارك الصلاة فلا تلزمه الإعادة بل يستأنف من جديد، لأنه لم يكن حال الترك مسلماً، والله تعالى يقول في سورة الزمر في الآية الخامسة والستين: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين. ويقول في سورة المائدة في نهاية الآية الخامسة: فمن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
فإذا تاب استأنف من جديد ولا تلزمه الإعادة، وهذا بخلاف الناسيين والنائمين، فإنهم يلزمهما أداء ما نسوه أو ناموا عنه للحديث المتفق عليه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك)).
ولما رواه مسلم عن أنس أيضاً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: أقم الصلاة لذكري )).
وبعد: فإن كان البعض يرى في هذه الأحكام شدةً أو قسوة فإنها لما في عصيان العبد لربه تبارك وتعالى من فداحة أيضاً ومن شناعته وبشاعته، لأن الله عز وجل أهل التقوى وأهل المغفرة أهل لأن يُتقى وأهل لأن يُحب وأن يُخشى وأن يُرهب منه، فعلى قدر عظمة الله تبارك وتعالى وعلى قدر ما كان يجب أن يكون العبد عليه في عبوديته لربه تبارك وتعالى يكون الثواب عظيماً. يكون العقاب جسيماً أيضاً.
وأما مانع الزكاة فإن جحد وجوبها كفر وارتد، وإن لم يجحد وجوبها وإنما منعها فقط قوتل حتى تؤخذ منه ولو بالقوة، وإذا مات ولم يخرج زكاته ولم يتب حتى أتاه الموت وهو على ذلك، فجزاءه في ذلك يبينه حديث أبي هريرة في صحيح مسلم عن النبي قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار فُأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
ويرى في الحديث مثل ذلك فيما يتعلق بصاحب الإبل وصاحب الغنم إن لم يخرج زكاتها، يُبطح لها فتنطحه وتدوس عليه كلما مرت رجعت، هكذا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار عياذاً بالله تعالى.
يا أيها الأخوة المسلمون المؤمنون: إنكم مقدمون على موسم عظيم من مواسم الخيرات أوشكتم على أن تلقوه، فلا يكونن شأنكم مع هذا الشهر العظيم موسم الخيرات رمضان – لا يكونن شأنكم معه الاعتياد على أداء الصلاة فيه واعتياد إخراج المال فيه ثم إذا ولى هذا الشهر عدتم إلى سابق عهدكم من اللهو واللعب والتفريط، استحضروا نيةً طيبةً قبل هذا الشهر الكريم وليأمر بعضنا بعضاً بالمعروف، ولينهى بعضناً بعضاً عن المنكر، وليبين بعضناً لبعض ثواب الصلاة والزكاة وحكم ترك الصلاة ومنع الزكاة، لكل شاهد حضر وسمع وفهم أن يبين للغائب لا سيما إن كان ذلك الغائب ممن لا يصلي إلا الجمعة فقط أو في رمضان فقط أو يصلي فرضاً واحداً ويترك بقية الفروض بحسب ما اتفق له.
إذا كان الغائب كذلك والشاهد يعرفه فينبغي عليه أن يُعرّفه حتى يستنقذ أخاه مما هو فيه من الضلال ومما هو موشك عليه من عذاب الله تعالى وليكن شأن بعضنا مع بعض كشأن رسول الله مع الأمة كلها فإنه يبين حرصه على الأمة وحرصهم على ألا يرتكبوا المعاصي. والمنهيات والمنكرات، فيشبه حاله مع الأمة بمن وقف يمنع الفراش والجنادب من الوقوع في النار وهن يتقحمن فيه ويغلبنه وينزلن فيه، شبه حاله مع الأمة وهو يمنعهم من دخول النار ويحذرهم ويبين لهم خطورة ذلك بمن وقف يمنع الفراش والجنادب من الوقوع في النار ويأبى الفراش والجنادب إلا أن يقعن في النار.
ليكن حال بعضنا مع بعض كحال النبي الذي بلغ من الشفقة غايتها، ومن الخوف على الأمة أقصاه. ولكن حال بعضنا مع بعض كحال من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، فليس المراد مجرد إقامة الحجة والسلام: أن تقول لتارك الصلاة أعلم أني استمعت في حقك أنك كافر – ليست المسألة مجرد إقامة حجة لكي تخلص وتنتهي، لا بل صبر جميل على الأداء والبلاغ والبيان والتحبب إلى الناس ومحاولة اجتذابهم ومحاولة بيان أن الله عز وجل لا يستأهل منهم هذه المعصية بل يستحق منهم كل محبة وكل رغبة وكل إقبال. سبحانه، سبحانه ما أكرمه وما أعظمه وما أحلمه، نسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المخلصين له القائمين بحقوقه وحقوق عباده، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1416)
أخطاؤنا في الصلاة
فقه
الصلاة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
28/7/1418
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بالصلاة والتحذير من التقصير في أدائها. 2- ذكر بعض الأخطاء التي يقع
بها المصلون وتصحيح هذه الأخطاء (مسابقة الإمام – التهاون في ستر العورة – تأخير الصلاة
- عدم الطمأنينة – عدم السجود على سبعة أعضاء – رفع الرأس في الصلاة).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وارجوا اليوم الآخر، وحافظوا على أوامر الله وأدوها كما أمركم الله ورسوله ، واجتنبوا ما نهاكم الله عنه وما نهاكم عنه رسوله ، وليتحرّ كل مسلم الصواب في عباداته حتى تقبل منه، ويتعلم أحكام العبادات وشروطها وأركانها ونواقضها ومبطلاتها. فربما يفعل المسلم فعلاً يظنّه مسنوناً وإذا هو مبطلٌ للعبادة أو منقص لأجرها.
أيها المسلمون: وإن من أهم ما يجب الاعتناء بتعلمه والتفقه فيه، ومعرفة أحكامها وشروطها وأركانها ومبطلاتها بعد التوحيد هي أحكام الصلاة.
كيف لا: والنبي يقول: ((أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) [رواه الطبراني في الأوسط وغيره عن أنس وصححه الألباني].
فما ظنّك أخي المسلم إذا جِئت يوم القيامة وأنت أحوج ما تكون إلى الحسنة فيُنظر في صلاتك فإذا هي فاسدة، فينظرون في صحيفتك هل فيها من نوافل؟ حتى يسدوا بعض خلل الصلاة.
فإذا أنت مقصر في النوافل أيضاً وتضيع لها، وتقع في أخطاءٍ تخلّ بجوهر الصلاة، يا لها من خسارة وندامة.
أيها الإخوة: وموضوع مثل هذا لا تكفيه خطبة ولا خطبتان، ولكنها تذكرة بأهمية هذه الشعيرة ووجوب التفقه فيها، والحمد لله قد ألفت كتب كثيرة مختصرةٌ ومطولة، في أحكام الصلاة، وأخطاء الناس فيها، ومن ذلك كتاب صفة صلاة النبي للشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله، وكتاب آخر بهذا الاسم أيضاً للشيخ العلامة محمد بن عثيمين وآخر للشيخ الألباني، ومن الكتب النافعة، التي تصوب أخطاء الناس في صلاتهم وفي طهارتهم كتاب الشيخ عبد العزيز السدحان وفقه الله وهو كتاب موجود ومبذول، فما ينقصك إلا القراءة.
وإذا كنت لا تحسن القراءة، فاسمع الأشرطة والمحاضرات التي تبين لك أحكام الصلاة وأخطاء الناس فيها.
أيها الناس: إن أخطاء الناس في الصلاة متنوعة ومتعددة، فبعضها يبطل الصلاة، وبعضها ينقص من أجرها، وبعضها خلاف السنة. وسأذكر بعض المخالفات واذكر والصواب فيها:
1- من المخالفات التي تبطل الصلاة، وتجعلها لا نفع فيها، عدم الطمأنينة في الصلاة، فلا يطمئن في ركوعها ولا سجودها، ولا جلوسها بل ينقرها نقراً، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً.
والطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، فكما أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة الفاتحة ولا تصح إلا بالركوع والسجود فكذلك لا تصح الصلاة إلا بالطمأنينة.
أما كيفية الطمأنينة في الصلاة: فقد بينها النبي ، وذلك حينما دخل المسجد مرة، فوجد أعرابياً يصلي فرآه لا يطمئن في صلاته، فدعاه النبي فقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، أي إن صلاتك باطلة، فرجع فصل مثل الأولى، فقال له النبي : ((ارجع فصلي فإنك لم تصلي)) ، فرجع فصلى مثل الأوليين فقال له النبي : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فقال الأعرابي: يا رسول الله والذي بعثك بالحق رسولاً لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي : ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) [متفق عليه].
إنها الطمأنينة في عامة الأركان، وحتى تقضي الصلاة وليست الصلاة مجرد حركات لا يفقه المصلي فيها قولاً ولا يحسن دعاءً. ولا ترى إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً.
وهل يرضيك أخي المصلي أن يصرف الله نظره عنك وأنت تصلي؟
ففي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)).
2- ومن المخالفات التي تسبق فعل الصلاة تأخير الصلاة عن وقتها، فلا يصلي الصلاة إلا وقد خرج وقتها.
وهذا غالباً ما يكون في صلاة الفجر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: اعلموا أنه لا يحل لمسلم أن يقدم من صلاته جزءً قبل الوقت ولا أن يؤخر منها جزءاً بعده، فكيف بمن يؤخرون جميع الصلاة عن وقتها كسلاً وتهاوناً وإيثاراً للدنيا على الآخرة، ويتنعمون بنومهم على فراشهم ويتمتعون بلهوهم ومكاسبهم كأنما خلقوا للدنيا.
كأنهم لا يقرؤون القرآن، كأنهم لا يقرؤون قوله تعالى: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون كأنهم لم يقرءوا قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً وكأني بهم لم تبلغهم أحاديث النبي في وعيد من أضاع الصلاة أو لم يبالوا بذلك، لقد قال النبي : ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) [رواه البخاري].
أي كأنما أُصيب بفقد أهله وماله، فسبحان الله، ما أعظم الأمر وما أفدح الخسارة، الذي تفوق صلاة العصر كأنما فقد أهله وماله، فأصبح أعزباً بعد التأهل وفقيراً بعد المغنى، فأين موظفونا: الذين يخرجون من العمل قرب العصر فينامون ولا يستيقظون إلا قُرب المغرب أو بعد المغرب، اسمع يا أخي رسولك يقول لك حينما تفوتك صلاة العصر فكأنما فقدت زوجتك وأبناءك وبيتك ووظيفتك وجميع ما تملك.
فكم من عصر يفوت.؟ ولا حول ولا وقوة إلا بالله؟
3- ومن المخالفات أيضاً تهاون بعض المصلين بستر العورة: وقد قال الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، ومن المعلوم أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وعورة المرأة البالغة جميع بدنها ما عدا الوجه في الصلاة فقط.
فاتقوا الله عباد الله وتستروا في الصلاة بثوب مباح طاهر لا يصف لون الجلد من ورائه، واحذروا التهاون في ذلك، فإن بعض الناس يلبسون ثياباً ناعمة رهيفة أو صافية لا تستر وليس عليهم إلا سراويل قصيرة لا تصل إلى الركبة فيبين لون الفخذ من تحت الثوب وهؤلاء لم يأتوا بواجب الستر الذي هو من شروط الصلاة.
4- ومن الأخطاء أيضاً عدم تمكين الأعضاء السبعة من السجود، وهذا خلاف الثابت عنه ، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((أمر النبي أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً، الجبهة واليدين والركبتين والرجلين)) [أخرجه البخاري].
والمخالفات التي تقع من الناس في هذا الخطأ أنواع منها:
أن بعض الناس إذا سجد رفع قدميه قليلاً عن الأرض أو جعل إحداهما على الأخرى وهو في هذه الحالة لم يصدق عليه أن سجد على سبعة أعظم.
ومنها: أن بعض الناس ممن يلبس العقال قد يسجد على طرف العقال فيرتفع أنفه هذا مخالف أيضاً لما سبق من حديث الأمر بالسجود على سبعة أُعظم.
وقد سُئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى عن المصلي إذا رفع بعض أعضاء السجود عن لمس الأرض فهل تبطل صلاته؟
فأجاب رحمه الله: إن كانت رجلُه مرفوعةً من ابتداء السجدة إلى آخرها لم تصح صلاته لأنه ترك وضع بعض الأعضاء وليس له عذر. وإن كان قد وضعها بالأرض في نفس السجدة ثم رفعها وهو في السجدة فقد أدى الركن لكن لا ينبغي له ذلك.
5- ومن المخالفات والأخطاء التي تبطل الصلاة وهي منتشرة بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله قيام المسبوق أي الذي فاته شيء من الصلاة لقضاء ما فاته قبل تسليم الإمام التسليمة الثانية: فما إن يسلم الإمام التسليمة الأولى وقبل أن يتمها بادر الناس بالقيام لقضاء ما فاتهم قبل أن يكمل الإمام السلام.
وهذا مخالف لقوله عليه السلام: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا..)) [الحديث رواه البخاري ومسلم].
وفي حديث آخر: ((أيها الناس إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف)) [رواه مسلم]. وعن أنس رضي الله عنه قال الحافظ النووي رحمه الله: والمراد بالانصراف السلام.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين.
وسئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: هل يجوز للمسبوق أن يقوم لقضاء ما فاته قبل أن يكمل الإمام التسليم؟
فأجاب رحمه الله: لا يحل له ذلك وعليه أن يمكث حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية، فان قام قبل انتهاء سلامه، ولم يرجع انقلبت صلاته نفلاً، وعليه إعادتها، لأن المأموم فرض عليه أن يبقى مع إمامه حتى تتم صلاة الإمام.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
ما زال يوصي ويقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
أيها المؤمنون: ومن الأخطاء الشائعة مسابقة الإمام بالركوع أو الرفع منه أو السجود أو السلام أو نحو ذلك، ويكفي في ذلك ردعاً أن يعي المصلي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار)) [متفق عليه].
وهناك خطأ آخر، وهو تابع للذي قبله:
وهو التأخر عن الإمام، أو موافقة الإمام في القيام والقعود أو الركوع والسجود، والسنة المشروعة متابعة الإمام، فإنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا استوى الإمام راكعاً تركع. وإذا استوى ساجداً تسجد. لا تسبقه ولا توافق ولا تتأخر عنه، بل تابعه قال البراء بن عازب رضي الله عنه: كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحني أحدٌ منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض)) [متفق عليه].
ورأى أحد الصحابة رجلاً يسابق إمامه فقال: (لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت).
وغالباً ما يسابق الإمام المستعجل أو من عنده شغل يريد إنهاء الصلاة حتى يؤديه، ولكن نقول لهذا كما قال ابن العزي في كتابه في شرح موطأ مالك بن أنس قال رحمه الله: وماذا يريد من يسرع في صلاته ويسابق إمامه فليسلي نفسه، إنه لن ينتهي قبل إمامه.
يعني مهما أسرعت وسابقت الإمام لن تسلم حتى يسلم سابقت أم لم تسابق أسرعت أم لم تسرع.
ومن المخالفات أيضاً وهي منتشرة في أوساط الناس أن بعض المسلمين إذا دخل المسجد والإمام راكع أسرع سرعة شديدة، وهذه مخالفة.
(1/1417)
الإجازة وكيفية استغلالها
موضوعات عامة
السياحة والسفر
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
26/6/1420
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبادة المؤمن لله لا إجازة فيها. 2- الإجازة الصيفية فرصة لتدارك التقصير في عبادة الله.
3- فضل تلاوة القرآن وحفظه. 4- فضل صلة الرحم. 5- السفر إلى بلاد الكفار وبلاد الفساد.
6- جلب الفساد باسم التنشيط السياحي. 7- عظمة الخالق وضعف المخلوق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الأخوة في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي العاصم من القواصم، وهي المنجية من المهالك ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً.
أيها الأخوة المؤمنون:
إن هناك حقيقة واضحة قد غفلنا عنها أو نَسيناها أو نُسيناها، حقيقة هي أصل الحياة بل والهدف من هذا الكون كله، بإنسه وجنه وبهائمه وعقلائه، وسهله ووعره، وبحره وبره، إن هذه الخلائق كلها إنما خلقت لغاية عظمة ولهدف أسمى ولم يكن خلق السموات والأرض عفوياً دون معنى أو دون هدف يقول تعالى رداً لهذا الفهم: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إنا كنا فاعلين.
ويقول تعالى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل.
إن الحكمة من خلق الخلق كلهم هي عبادة الله وحده وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
فكل الخلق مأمورون بعبادة الله وحده لا شريك له، وتكييف جميع ما سخر لهم في هذه الدار ليكون عوناً لهم على عبادة الله.
أيها الأخوة:
إذا تقرر هذا المعنى في نفوسكم فلنعلم جميعاً أن الإنسان ما دام فيه روح تنطف، ونفس يتردد، وما دامت الروح بين جنبيه فهو في عبادة الله وحده.
ولا إجازة له في هذه الدنيا إلا بالموت، فإذا جاء الموت فقد بدأ ثواب الأعمال والجزاء عليها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وإنما الإجازة تكون في أعمال الدنيا وهي راحة وفترة استجمام يأخذها الموظف والطالب لينطلق بعدها لممارسة نشاطه من جديد بجد وحماس.
فالإجازة نعمة من نعم الله العظيم لم يرع كثير من الناس حقها، وما أدوا شكر هذه النعمة العظيمة، فإن الإجازة فرصة لمن فاته أثناء دوامه وعمله بعض الأعمال الصالحة، فإن الإجازة فرصة للقيام ببعض الأعمال التي قد لا يمكن عملها مع وقت الدوام كأداء العمرة مثلاً أو الدعوة إلى الله في مناطق مختلفة أو الصيام أو غير ذلك من الأعمال الصالحة.
ولكن بعض الناس وللأسف ظن أن الإجازة إجازة عن كل شيء، فهو بطر، فتجد عددا ليس بالقليل من المسلمين ما إن تُعلن الإجازة إلا وتزدحم المطارات للسفر لبلاد الكفر والانحلال، أو لتنزه فيما حرم الله تعالى.
أيها الأخوة في الله:
إننا لنجد في واقعنا بعض الموفقين الذين وفقهم الله تعالى لطاعته، وأحبهم واجتنباهم، فهم يتقلبون بين محاب الله، قائمين بأمر الله قد ملؤوا أوقاتهم بما يرضي الله، وتركوا معصيته، قد جعلوا الله نصب أعينهم، يتسابقون في الخيرات، ويتنافسون في الطاعات، فلله درهم ولله ما أحسنهم، وما أشد حبنا لهم، فبمثل هؤلاء يدفع البلاء وتزول البلوى، وتستجلب الخيرات وتدفع المنكرات.
فلمثل هؤلاء نقول جزاكم الله خيراً وثبتنا وإياكم على الطريق المستقيم وجنبنا الشيطان وسائر أعدائه، فها أنتم يا مؤمنون قد بدأتم إجازتكم بقراءة شيء من القرآن، وأراكم تعزمون على حفظ شيء منه، واعلم أنكم في قرارة أنفسكم تقولون، متى سيكرمنا الله ونحفظ كتابه الكريم.
وأراكم يا موفقون قد وضعتم جزءاً ليس بالقليل لكتاب الله، يستلهمون الدروس منه، وتحيون قلوبكم بكلام ربكم سبحانه وتعالى، وكأنكم تتمثلون قول المصطفى : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) وكأني بكم تطمحون لأن تكونوا من أولئك الذين قال الله فيهم، إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور الآية. ويحدوكم في طريقكم قول المصطفى : ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)) [رواه أبو داود والترمذي وأصحاب السنن].
ثم أنتم مع ذلك قد جعلتم وقتا لقراءة الكتب النافعة التي قد لا يتسنى لكم قراءتها مع أيام العمل والدراسة، وأراكم قد بدأتم بمشروع حفظ بعض متون أهل العلم ومدارستها وحضور بعض الدروس العلمية والمواظبة عليها.
وأراكم مع كل ذك لم تنسوا دعوة الناس والمشاركة في إصلاحهم فلكم مشاركات كثيرة في مجالات متعددة، إما بالكلمة أو بتوزيع شريط مفيد أو بتوزيع كتيب هادف، أو بأمر بالمعروف ونهي عن المنكر أو مشاركات في المراكز الصيفية وتربية الناشئة على كتاب الله وسنة رسوله وهدي السلف الصالح.
ثم أنتم مع ذلك كله يا موفقون، ورغم ما كل ما تعملون لم تنسوا أن تستغلوا الإجازة الصيفية بزيارة الأقارب والأرحام، وكأني بكم تتمثلون حديث النبي حينما جاءه أعرابي فقال يا رسول الله أخبرني بأمر يدخلني الجنة وينجيني من النار؟ قال: فنظر إلى وجوه أصحابه وقال عليه السلام: ((لقد وفّق أو هُدي، لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)) [أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب].
وأنتم مشفقون وجلون من وقوع الوعيد بكم إن أنتم قصرتم في صلة رحمكم متذكرين قول النبي قال الله تعالى: ((أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت له اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)) [أخرجه الحاكم وأبو داود بإسناد صحيح].
ثم بعد ذلك تتوجون عملكم ودعوتك وصلتكم لأرحامكم بزيارة لبلد الله الحرام والطواف بالبيت العتيق واستلام الحجر والسعي بين الصفا والمروة، ولسان حالكم يقول: يا ربنا هذا جهد المقل نقدمه لك وأنت الذي تبارك القليل وتغفر الكثير، والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة إنهم إلى ربهم راجعون. وتحنون الجباه وتعفرون الوجوه لرب الأرض والسماء، وأنتم تدعون الله تقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
والعجيب من أمركم رغم جدكم ونشاطكم وقد ملئت أوقاتكم بالعلم والعمل الصالح وبالدعوة إلى الله لم تنسوا أبناءكم وبناتكم، فها أنتم تأخذونهم لسفرة قريبة، ومتعة بريئة، لا مكان للحرام فيها، فأقول لأمثال هؤلاء أبشروا والله فأنتم على خير عظيم، واصبروا فإن الدنيا دار ممر لا دار مقر، وإن الدنيا مآلها إلى الفناء، وسوف يحمد القوم السُرى، وستوقف المطايا على أبواب الجنة برحمة أرحم الراحمين، وسوف تعلم أن هذه الدنيا وأهلها ما كانوا إلا في غرور.
وإنه لا ينبغي عند لله إلا العمل الصالح، وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ، فاثبتوا يا موفقون ولا يغرنكم كثرة الهالكين، ولا تتابع الساقطين، وصبراً صبراً فإن الموعد الله.
وأما أنتم يا من ضربتم في كل واد بذنب، قد ملأتم إجازتكم بما يغضب الله، وعزمتم على ارتكاب ما حرم الله، وكأنكم ستخلدون في الدنيا، وكأنكم لن تحاسبوا على أعمالكم ولن تجازوا على معاصيكم وذنوبكم.
أغركم حلم الله عنكم وستره عليكم، أغركم أنكم تعصونه ويرزقكم وتقعون في الحرام ويفتح عليكم من الدنيا، ألم يطرق أسماعكم قول النبي : ((إذا رأيت الله يعطي العبد وهو قائم على معصيته فإنما هو استدراج)).
ما لي أراكم قد قطعتم تذاكر السفر إلى بلاد الكفر والانحلال، لتمكثوا بين ظهراني المشركين والكافرين، وأنتم تسمعون قول المصطفى : ((أنا برئ من كل مسلم بات بين ظهراني المشركين)) وليس هذا فحسب بل ستأخذون أبناءكم وبناتكم معكم إلى تلك البلاد التي لا يردعها حياء ولا يمنعها دين، ليفتحوا أعينهم البريئة التي لم تألف المنكر بهذه البشاعة ولم تر الفساد بهذه الصورة، فبعد أن كانوا لا يرون إلا عماتهم وخالاتهم ومحارمهم المتحجبات، أصبحوا يرون المرأة بزيها الصارخ وبفسادها المتناهي، ليرجع لنا أبناؤك وبناتك بعد حين قد مسخوا من كل حياء ومن كل خلق، وينادون، ويطالبون بتقليد أولئك الفاجرات الكافرات.
قد يقول أحدكم: أنا لن اذهب إلى تلك البلاد الكافرة ولكن سأذهب إلى بعض البلاد العربية.
فأقول لك، قد علم كل عاقل أن أكثر هذه البلاد فيها من الفساد والشر مثل ما في البلاد الكافرة أو أشد.
فهاهي إعلاناتهم في الصحف والمجلات، لتنشيط السياحة، فحفلات غنائية صارخة، ومسرحيات وأفلام ساقطة، ومراقص ودور للفساد والبغاء.
كل هذا بحجة شيطانية قد زينها الشيطان لأصحابها وأسموها بغير اسمها، وظنوا أن تغيير الأسماء بغير الحقائق، فأسموها بالتنشيط السياحي.
وأدخلوا تحت هذه العنوان كل فاسد ومحرم، واستجلب الشر المستطير والوباء الخطير باسم التنشيط السياحي، وما علموا أنها تنشيط واستجلاب لعذاب الله جل جلاله، وسبب عظيم من أسباب غضب الجبار جل جلاله.
أيها المسلم: يا من تشهد ألا إله إلا الله، محمد رسول الله، كيف تجرؤ على المعصية ورب السموات والأرض ينظر إليك، أما تستحي من خالقك، والله لو قدرت الله حق قدره وعظمته حق تعظيمه لما سطوت على معصية، ولما تجرأت على محاربته بالذنوب والمعاصي.
لا إله إلا الله، سبحانك ما أحلمك، سبحانك ما أرحمك، تطاع فتشكر وتعصى فتغفر.
لا إله إلا الله وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.
لا إله إلا الله ما أجرأنا على الله وهو يحلم عنا، وأشد تقصيرنا وهو يرزقنا ويعافينا.
لا إله إلا الله، كيف تتجرأ أيها الحقير المسكين على معصية الله، وكيف يجلس فيما حرم عليك وهو ينظر إليك، من أنت عند عظمة الله جل جلاله.
فهذا جبريل الذي يقول النبي عنه: ((رأيت جبريل ماداً جناحه قد سد الأفق إلى السماء)) ، ويقول: ((إن لجبريل ستمائة جناح مخلوق عظيم)) ومع ذلك انظر ماذا يكون عند عظمة الله سبحانه وتعالى يقول رسول الله : ((لما كان ليلة أسري بي رأيت جبريل كالشن البالي من خشية الله تعالى)) ، وهذا إسرافيل عليه الصلاة والسلام لم يضحك منذ خلقت النار، لأنه عاين العذاب ورأى النار يحطم بعضها بعضاً ويأكل بعضها بعضاً.
إنهم ملائكة عرفوا الله فعظموه فكانوا كما سمعت، أرأيت يا أخي السموات السبع، والأرضون السبع، ما هي في كف الرحمن إلا كما لو ألقى أحدكم درهم في فلاة.
فكيف تجرؤ يا أخي على معصية الله، لقد أهلك الله أمماً بأكملها بسبب ذنوبها ومعاصيهم أفيعجزه سبحانه أن يهلكك وأنت الحقير المسكين، إنها الذنوب والمعاصي، إنها شؤم المعصية.
فما الذي أخرج الأبوين من الجنة؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح العظيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية.
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم. وما الذي رفع قرى اللوطية ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها.
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
إنها الذنوب والمعاصي، فالتوبة التوبة، والرجوع الرجوع، والإنابة الإنابة قبل حلول الآجال، وهجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات، واعلموا أن الله يهلك الأمم إذا تتابعوا على المعصية ولم ينكر أحدهم على أحد.
ففي مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة قالت سمعت رسول الله يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده، فقلت يا رسول الله، هل فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: كيف يُصنع بأولئك ؟ قال يصيبهم ما أصاب الناس بها، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)).
واعلموا أن الناس والأمم لا تهون على الله حتى يخالفوا أمره، فإذا خالفوا أمره هانوا عليه فأهلكهم.
ففي مسند الإمام أحمد عن جبير بن نفير، قال: لما فتحت قبرص فُرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة شاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر لله فصاروا إلى ما ترى.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين حديثنا عن الزلزلة فقالت: ((إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف. غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض تزلزلي بهم، فإن تابعوا ونزعوا إلا أهدها عليهم)).
وعن سهل سهل بن سعد أن رسول الله قال: ((سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات)).
وثبت في صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ (الزنا) والحرير والخمر والمعازف، لينزلن أقوم إلى جنب علم (أي جبل) يروح عليهم بسارقة لهم يأتيهم – يعني الفقير – لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، وويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)). كل هذا أيها الأخوة لأنهم استحلوا ما حرم الله.
وإن المعصية تكون أقرب إلى المغفرة إذا ما كانت سراً، ولا تضر إلا صاحبها، ولكن البلاء كل البلاء أن يعلن المحرم وتعمل له الدعايات.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا أخفيت الخطيئة فلا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغير تضر العامة)).
اللهم رد المسلمين إليك رداً جميلاً، الله عاملنا بصفحك وكرمك وجودك وحلمك، فنحن المذنبون والعصاة المقصرون، تبنا إليك ورجعنا إليك استغفر الله، استغفر الله، استغفر الله الحليم الكريم ذا الصفح الجميل والكريم العظيم يحلم عن عباده ويعفوا عنهم.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1418)
التضحية للدين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغير كثير من المفاهيم عند المسلمين اليوم. 2- إنكار الصحابة لبعض ما صنعه وبدله
التابعون. 3- رغم زيادة الانحراف فالأمة لا تخلو من خير. 4- أجر الطائفة الثابتة على الدين
زمن الانحراف والغربة. 5- ذلة المسلمين اليوم وضعفهم. 6- أمثلة لعزة المسلمين وبذلهم
وعلو همة نسائهم وأطفالهم. 7- تغيرت القلوب فاختفت صور العزة. 8- صور من تضحية
الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معاشر المسلمين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله تعالى وراقبوه وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
أيها الأخوة المؤمنون:
لقد تغير في هذه الأزمان كل شيء، وشمل هذا التغير جميع نواحي الحياة.
لقد تغيرت المفاهيم، وطاشت الموازين. وغاب وازع الدين. ولم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، وصار أمر الدين وهمُّ الإسلام آخر اهتمامات المسلمين، إن كان له في نفوسهم همّ، أواصر الدين وروابط الإسلام توشك أن تنقطع، إن لم تكن انقطعت، وأصبحت الدهماء تسير وراء سراب الدنيا وتتسابق عليه.
ولكن السراب وإن زان لمعانه، وأعجب الناظرين بريقه وجماله فهو سراب، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. وليته لما لم يجده شيئاً قنع ونظر في نفسه وحاله. ولكنه انطلق خلف سراب آخر وهكذا دواليك.
لقد تغير في الناس حتى دينهم والتزامهم، نعم تغير دينهم، فما كانوا يرون به بأساً بالأمس هومن الجائزات اليوم، وما كان خطيئة وإثماً بالأمس أصبح حسنة وطاعة اليوم، وهي الفتنة التي قال الله عنها فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
قيل لأحد علماء السلف، ما الفتنة في هذه الآية؟
قال: أن يصبح ما كنت تراه حراماً حلالاً أو ما كنت تراه حلالاً حراماً، يعني بدون دليل شرعي.
ولقد صدق الإمام الناسك أعني أنس بن مالك حين قال كما في الصحيح: ((وإنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات)). لمن يقول هذا الكلام أيها الأخوة إنه يقول: للتابعين وهم من القرون المفضلة.
ولقد أدرك أنس بن مالك تغير الأمة ولاحظ بدء قصورها، فرأى حين رجع إلى المدينة بعد أن مكث في الشام دهراً قليلاً.
وجد الناس لا يسوون صفوفهم، فقال: لقد تغيرت علي صفوف الناس في صلاتهم يعني على عهد النبي.
لقد عرف أنس بن مالك أن هذه هي بداية ميلان الجادة وانحراف الطريق، فماذا يقول يا ترى لو أدرك زماننا؟ ورأى أحوالنا؟
1/ ليت الناس ما غيروا إلا صفوفهم لكان الأمر سهل والخطب أخف.
ولست أقول هلك الناس، ولست بالمهلك.
ففي الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا. وكيف أهلك الناس؟ وقد قال النبي : ((من قال هلك الناس فهو أهلكهم)) على الوجهين [1] ونؤمن بقول الرسول : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) [رواه البخاري ومسلم].
ولكن لا يخفى على أي مؤمن صادق ما آل إليه أمر الناس وحال المسلمين اليوم من الغرابة، فالموافق المتابع فيه لما عليه الرعيل الأول قليل، والمخالف هو الكثير، وقد اندرست رسوم كثير من الشريعة أو كادت وانمحت بعض مظاهر الدين أو زالت، وإلى الله المشتكى وإليه الملجأ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد حفظ الله بمنه وكرمه هذه البلاد المباركة، وفق الله القائمين عليها لكل ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين.
وكأن رسول الله ينطق بيننا ويعيش بين أظهرنا، حين أخبرنا عن زماننا هذا. فقال كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة : ((بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء)).
وفي رواية الإمام أحمد: ((قيل من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)).
وروى الإمام أحمد وابن المبارك في الزهد بإسناد فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((طوبى للغرباء، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: أناس صالحون في أنس سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) وفي رواية: ((من يبغضهم أكثر ممن يحبهم)).
أيها الأخوة الأعزاء:
إن للصابر في هذا الزمان أجر خمسين صحابياً، وأن كان لا يدرك فضلهم لقوله عليه السلام: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) [أخرجه الشيخان في الصحيح].
فقد يدرك المسلم أجر الصحابي ولكن لا يدرك فضله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر)) [رواه الترمذي والحديث حسن بشواهده].
وعن ابن مسعود عن النبي قال: ((إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيد منكم)) [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح].
ولقد أحسن القائل:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجوا من البلا
أيها المسلمون:
لقد ساد الصحابة والتابعون يوم أن كانوا أسوداً للإسلام وحماة للدين وسياجاً واقياً قوياً للعقيدة وذللنا يوم أن اتخذنا العزة بالدنيا والدرهم، وهُنا على الله وعلى الناس يوم أن اتخذنا الدنيا وطناً وسكناً، ووالينا لأجلها وعادينا لأجلها، فلأجلها نرضى ولأجلها نغضب.
فها نحن لنا في كل موضع من جسدنا ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، أو وكزة بعصا. فها نحن نسمع بين حين وآخر نواحِ الثكالى وبكاء اليتامى ولا مجيب.
أتسبى المسلمات بكل أرضٍ وعيش المسلمين إذن يطيبُ
وكم سمعنا من أصوات: وامعتصماه، فإذا الصوت هو الصوت الأول الذين سمعه المعتصم فالمصدر هو المصدر، لكن السامع غير السامع، والحال غير الحال.
رب وامعتصماه انطلقت ملأ أفواه الصبايا اليتيم
لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
أيها الأخوة إنه لا عزة للأمة الإسلامية ولا مكانة لها ما دامت لا تضحي لدينها، ولا تثأر لعقيدتها.
ولن تنال العزة والقوة والتمكين في يوم من الأيام، بالمال والجاه، أو الانهزامية، والخذلان.
وتأمل معي هذه القصة التي يرويها الحاكم في مستدركه. خرج عمر بن الخطاب إلى الشام (وذلك حينما ذهب ليتسلم مفاتيح بيت المقدس وكان خليفة المسلمين آنذاك) قال الراوي: ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة، وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أأنت تفعل هذا؟ تخلع نعليك، وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة؟
ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك (أي نظروا إليك وأنت على هذه الحال) فقال عمر: أوّه، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد ، إنا كنا أذلّ قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
وهذا ربعي بن عامر يرسله سعد بن أبي وقاص قِبَل القادسية رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي والحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة.
وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب مرقعة صفيقة وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبه حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسادات، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني.
فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له. فأقبل متوِكأً على رمحه فوق النمارق فتخرق عامتها فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أيها المسلمون:
لقد ضرب لنا جيلنا الأول من الصحابة والتابعين أروع ما عرفه التاريخ من التضحيات والإقدام والشجاعة حتى خافت الفرس والروم آنذاك من هذا السيل الجارف والقوة الكاسرة.
لقد كانت المبادئ عندهم والغايات التي يسعون لتحقيقها هي رفعة الدين، ونصرة الدعوة وحماية العقيدة فبذلوا لتحقيقها كل غاية ووسيلة صغرت أم كبرت.
كان هذا الهم وهذه المبادئ لا يختص به الرجال فقط بل حتى النساء والصبيان.
فهذا الزبير بن العوام كان جالساً يوماً عند الكعبة مسنداً ظهره إليها، وإذا بمنادٍ ينادي لقد قتل محمد، لقد قتل محمد، فقام الزبير فزعاً مضموماً وسل سيفه، وانطلق يبحث عن مصدر الصوت، وكان عمره آنذاك (اثنى عشرة سنة) نعم أيها الأخوة عمره (اثنا عشرة سنة). فبينما هو كذلك إذا به يقابل النبي فانكب عليه، فقال: يا رسول الله لقد سمعت عنك كذا وكذا، ووالله لقد خرجت بسيف لأقابل قريش أجمع أقتل أو يقتلوني.
نعم أيها الأخوة، عمره اثنا عشرة سنة وهذه اهتماماته وهذه بطولته، يريد أن يقاتل قريشاً أجمع وحده ثأراً للنبي.
فما هي اهتمامات شبابنا اليوم، ولست أقول الذين أعمارهم اثنا عشرة، ولكن الذين أعمارهم في العقد الثاني والثالث.
أخرج ابن عساكر والحاكم والبغوي بمعناه: عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله عمير بن أبي وقاص عن مخرجه إلى بدر، واستصغره، فبكى عمير فأجازه النبي قال سعد: فعقدت عليه (أي ربطت) حمالة سيفه، قال سعد: فقتل ببدر وهو ابن ست عشر سنة.
واسمع معي هذه البطولة التي يقوم بها غلامان صغيران.
أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما. فقال: يا عماه أتعرف أبا جهل ؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا؟ فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضاً مثلها، فلم أنشب (أي لم ألبث) أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول بين الناس، فقلت: ألا تريان هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه؟ فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل منهما: أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما، قالا: لا، قال: فنظر النبي في السيفين فقال كلاهما قتله.
ولم تكن الشجاعة والإقدام والتضحية في أطفالهم ورجالهم فسحب بل كانت الشجاعة حتى في نسائهم، جيل متكامل، جيل يمثل الأمة المؤمنة الفاضلة التي يحلم بها الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ زمن بعيد.
نعم إنها تكامل الشخصيات وعلو الهمة، وسمة النظرة، وقوة اليقين، وصدق الإيمان، فله درُّهم.
فهذه صفية تدافع عن حصن المسلمين وذلك حينما كان النبي خارج في غزوة الخندق فمر رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله: تقول صفية: وليس بيننا وبين أحد يدفع عنا، فلما أحست صفية أنه يريد أن يتأكد هل بالحصن رجالٌ أم لا؟ حتى يغير على النساء، فلما دخل الحصن أخذت عمود فسطاط فقتلته ثم ألقته من أعلى الحصن فلما رأى ذلك اليهود، قالوا: ما كان لمحمد أن يخرج ويثرك النساء بلا رجال.
وهذه أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية: دافعت عن رسول الله ، وكانت تسقي الناس يوم أحد فلما رأت رسول الله قد أحيط به، وانهزم عنه الناس وضعت سقاءها، وأخذت سيفاً فجعلت تقاتل أشد القتال وحتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً وظل على عاتقها من هذه الجراح جُرح أجوف له غور أصابها به ابن قَمِئَة فأماته الله في نار جهنم.
وفي بعض الروايات، لما كانت تدافع عن النبي وكثرت عليها الجراح وهي تدافع، والنبي يقول: ((من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة)).
سليني يا أم عمارة فقالت: ادع الله أن نرافقك في الجنة. تريد نفسها وزوجها وابناها حبيب وعبد الله فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة.
هؤلاء النساء الصحابة وهذه بطولاتهم، فمال نساءنا اليوم لا يعرفن تاريخهن ولا يعشن أمجاد الأفذاذ من الصحابيات. ولست أعني أبداً أن نزاحم الرجل أو أن تشارك في المعارك، ولكن لتكن أمرة معتزة بدينها، وكيانها وبعزتها وبحجابها ولا تقلد الكافرات ولا تعجب في السافرات.
بارك الله لي ولكم..
[1] أي أهلكَهم وأهلكُهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة:
إن هذا القرآن الذي قرأه الصحابة وتأثروا به وعملوا بما فيه، والذي أصبح المحرك لهم لجميع بطولتهم ومواقفهم الخالدة التي لا تنسى، إن هذا القرآن أيها الأخوة الذي تأثروا به تأثراً بالغاً هو نفس القرآن الذي بين أيدينا، لكن القلوب غير القلوب والنفوس غير النفوس.
وإلا فالقرآن واحد، والأسماع واحدة، والتلاوة نفسها، لكن التي تغيرت هي القلوب فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.
لقد كان الواحد منهم رضي الله عنهم من الصحابة فمن بعدهم، ربما سمع الآية فتغيرت مسيرة حياته، فهذا أبو طلحة لما كبرت سنه ورق عظمه وشابت لحيته، كان يقرأ سورة براءة (التوبة) فلما بلغ قوله تعالى: انفروا خفافاً وثقالاً فقال لا أرى ربنا إلا يستنفرنا شباباً وشيوخاً بآية، جهزوني جهزوني. فجهزوه فغزا في البحر فمات في البحر. فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها وهو لم يتغير.
أما نحن فقد سمعنا آيات كثيرة، وترنمنا بسماعها وقراءتها، فما فعلت فينا شيئا، عجباً لنا نسمع الآيات والمواعظ والخطب والكلمات، فموعظة في المسجد وموعظة عبر الشريط وموعظة في الجمعة وموعظة عبر المذياع. ولكن أحوالنا على ما هي عليه، بل كل يوم نزداد بعداً وتقصيراً وتفريطاً في طاعة الله إلا من رحم الله.
أيها المسلمون:
قد سمعنا بعض تضحيات نسائهم وأطفالهن، فماذا عسى أن تكون تضحيات رجالهم.
فهذا عبد الله بن جحش في معركة أحد يدعو يقول: اللهم أني أقسم عليك أن ألقى العدو غداً فيقتلوني ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني فيم ذلك يا عبدي؟ فأقول: فيك يا رب.
وهذا عمرو بن الجموح كان أعرجاً شديد العرج، وكان له أربعة أبناء يغزون مع رسول الله إذا غزا، فلما توجه رسول الله إلى أحد، أراد أن يتوجه معه، فمنعه أبناؤه لكبره، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله فقال: يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة، فخرج مع رسول الله فقتل يوم أحد شهيداً.
وهذا أنس بن النضر آلى نفس إذ تخلف عن غزوة بدر أن إذا جاءت غزوة أخرى ليرين الله ما يصنع، فلما انكشف المسلمون في غزوة أحد انطلق وقال: اللهم أني أعتذر إليك من صنع هؤلاء، (ويعني أصحابه حينما نزلوا الجبل) وأبرأ إليك من صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد.
قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه (إصبعه)، قال أنس: فكنا نظن أن هذه الآية نزلت في أشباهه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وهذا رجل آخر من الصحابة يهجم عليه رجلٌ فيطعنه طعنة في صدره فلما سال الدم، أمسك الدم بيمينه ونظر إليه وقال: فزت بها ورب الكعبة، فزت بها ورب الكعبة، فزت بها ورب الكعبة.
ولما انكشف المسلمون في معركة أحد ظهرت البطولات والتضحيات، وفي وسط هذه الدهشة المذهلة والمفاجأة المحزنة، حين خرج المشركون بقيادة خالد بن الوليد (قبل أن يسلم) على المسلمين من خلف الجبل وبعد أن نزل الرماة من جبل أحد، صرخ الشيطان إبليس بأعلى صوته: إن محمداً قد قتل، ووقع ذلك في قلوب كثير المسلمون، ومرّ أنس بن النضر صاحب القصة السابقة بقوم من المسلمين وقد ألقوا ما بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله فقال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا موتوا على ما مات عليه.
ولكن الحقيقة أن رسول الله لم يقتل، وخلص المشركون إلى رسول الله ، وثبت في وجه العدو وقاتلهم قتالاً شديداً فظل يرمي بالنبل حتى فني نبله، وانكسر قوسه، ثم ظل يرمي بالحجارة حتى دفعهم عنه.
وثبت معه نفر من أصحابه قيل أنهم دون العشرة، وقيل أنهم فوق العشرة وأحاطوا به يصدون هجمات العدو الذي أحدق بهم من كل ناحية، وشدوا عليه يريدون أن يقتلوه، فما زال هؤلاء النفر يذودون عنه ويقاتلوه دونه ويتلقون ضربات العدو.
وترّس أبو دجانة نفسه دون رسول الله فجعل النبل يقع على ظهره وهو منحن على رسول الله حتى كثر فيه النبل، ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله فجعل رسول الله يناوله النبل وبعد يقول: ارم فداك أبي وأمي.
ودافعت عن رسول الله أم عمارة وقد ذكرنا قصتها.
ولكن رغم ذلك كله جرح العدو وجه النبي وكسروا رباعيته، وهشموا البيضة، (الخوذة) التي على رأسه الشريف، ورموه بالحجارة، حتى وقع وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله، وكان الذي تولى أذى النبي عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه، فانتزعها أبو عبيدة بن الجراح، وعض عليها حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه.
أرأيتم أيها الأخوة كيف نحن تغيرنا، وأصبحت أمجادنا رهن الذكريات وسجينة كتب التاريخ.
تكدّر من بعد النبي محمدِ عليه س،لام الله ما كان صافياً
فكم من منار كان أوضحه لنا ومن علم أمسى وأصبح عافيا
ركنا إلى الدنيا الدنية بعده وكشفت الأطماع منا المساويا
وإنا لنمر من كل يوم بنكبة نراها فما تزداد إلا تعاميا
أيها المسلمون: أفيقوا واعلموا أنكم أصحاب أمجاد وتاريخ عريق، وأصحاب بطولات لم يعرف التاريخ لها نظيراً، فاربؤوا بأنفسكم أن تكونوا أذلاء صاغرين لا قيمة لكم ولا عزة لكم.
وارفعوا أنفسكم عن سفاسف الأمور، وتطلعوا إلى معاليها، وإياكم والمعاصي والاستسلام للمحرمات صغرت أم كبرت، وإن الخلق لا يهونون عند الله إلا حينما يخالفون أمره، كما قال أبو الدرداء: "ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره". وإذا كتب الله علينا الهون فمن يكرمنا، ومن يهن الله فما له من مكرم.
انتصر على نفسك على الأقل القليل، إن لم تستطع أن تكون كالصحابة والتابعين في أقدامهم وشجاعتهم فلا أقل من أن تكون منتصراً على نفسك مسيطراً عليها، كم من إنسان تغلبه نفسه وتتحكم به شهواته، فما أن يظهر على الساحة أي معصية أو فتنة حديثة إلا وانجرف وراءها.
ماذا عساك أن تنتظر من هؤلاء وهم لم ينتصروا على أنفسهم التي بين جنباتهم.
اللهم أيقظنا من سبات الغفلات.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى.
(1/1419)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار عقوق الوالدين. 2- حقوق الوالدين. 3- رضا الوالدين باب من أبواب الجنة.
4- قصص في بر الوالدين. 5- صور في حياتنا من العقوق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهو وصية الله لنا ولمن قبلنا، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء: 131].
معاشر المسلمين: كانت النية أن تكون الخطبة هذه الجمعة عن العطلة الصيفية وكيفية استغلالها، ولكن حال دون ذلك كثرة شكاوي الناس وكثرة الأخبار المزعجة التي تفطر القلوب وتدمي الأسماع، وهي نذير شؤم، وعلامة خذلان، يجب على الأمة جميعها أن تتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم، ألا وهو عقوق الوالدين.
عقوق الوالدين أيها الإخوة من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً [الإسراء: 23].
وقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً [الأنعام: 151].
بل هي من المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب من قبلنا، وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً [البقرة: 83].
وها نحن نسمع بين الحين والآخر، وللأسف من أبناء الإسلام من يزجر أمه وأباه، أو يضربهما أو يقتل أمه أو أباه.
أقول ـ أيها الإخوة ـ: إن انتشار مثل هذه الجرائم البشعة ليست في الإسلام فحسب بل في عرف جميع بني آدم، أقول: إن انتشارها نذير شؤم وعلامة خذلان للأمة، ومن هنا وجب على جميع قنوات التربية والتوعية والإصلاح تنبيه الناس على خطر هذا الأمر، وإظهار هذه الصورة البشعة لمجتمعاتنا بأنها علامة ضياع وعنوان خسارة.
أيها الإخوة في الله: ما سبب انتشار أمثال هذه الجرائم؟ ولا أقول وجودها لأنها قد وجدت من قديم الزمان، لكن ما سبب انتشارها إلا انتشار الفساد والأفلام المقيتة بوجهها الكالح، وتشبه طبقة من طبقات المجتمع بصورة الشاب الغربي الذي يعيش وحده، وليست له أي صلة تربطه بذي رحم أو قريب، فيتأثر البعض بهذه المناظر فيحصل ما لا تحمد عقباه من العقوق.
أيها الأخوة المؤمنون:
قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، لا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما.
وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً.. الآية.
قال الهيثمي عند قوله تعالى: وقل لهما قولاً كريماً أي اللين اللطيف المشتمل على العطف والاستمالة وموافقة مرادهما وميلهما ومطلوبهما ما أمكن لا سيما عند الكبر، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ثم أمر تعالى بعد القول الكريم بأن يخفض لهما جناح الذل من القول، بأن لا يُكلما إلا مع الاستكانة والذل والخضوع، وإظهار ذلك لهما، واحتمال ما يصدر منهما، ويريهما أنه في غاية التقصير في حقهما وبرهما.
ولا يزال على نحو ذلك حتى ينثلج خاطرهما، ويبرد قلبهما عليه، فينعطفا عليه بالرضا والدعاء، ومن ثم طلب منه بعد ذلك أن يدعو لهما، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً.
وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: ورحمك الله كما سررتني كبيراً ، ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.
أيها الإخوة المسلون:
وحق الوالدين باقٍ، ومصاحبتهما بالمعروف واجبة، حتى وإن كانا كافرين.
فلا يختص برهما بكونهما مسلمين، بل تبرهما وإن كانا كافرين، فعن أسماء رضي الله عنها قالت: قَدِمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت النبي فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: ((نعم، صلي أمك)).
ولم يقف حق الوالدين عند هذا الحد، بل تبرهما وتحسن إليهما حتى ولو أمراك بالكفر بالله، وألزماك بالشرك بالله، قال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون.
فإذا أمر الله تعالى بمصاحبة هذين الوالدين بالمعروف مع هذا القبح العظيم الذي يأمران ولدهما به، وهو الإشراك بالله، فما الظن بالوالدين المسلمين سيما إن كانا صالحين، تالله إن حقهما لمن أشد الحقوق وآكدها، وإن القيام به على وجهه أصعب الأمور وأعظمها، فالموفق من هدي إليه، والمحروم كل المحروم من صُرف عنه.
وهاهو رسول الله يجعل حق الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال لرجل استأذنه في الجهاد: ((أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) [رواه البخاري].
وعنه أيضاً أن النبي قال: ((رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) [رواه الترمذي وصححه ابن حبان].
وعن معاوية بن جاهمة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال لرسول الله: أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك أم؟ قال: نعم، قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها)) [رواه النسائي وابن ماجه بإسناد لا بأس به].
وها هو رسول الله يدعو على من أدرك أبويه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة، فيقول كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: ((رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عنده الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)).
وبر الوالدين من أعظم القربات وأجل الطاعات ، وببرهما تتنزل الرحمات وتكشف الكربات.
وما قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فلم يستطيعوا الخروج منه، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها فقال أحدهم: ((اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت إليهم، فحلبت، بدأت بوالدي اسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي الشجر (أي بعد علي المرعى) فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون عند قدمي (أي يبكون)، فلم يزل ذلك دَأْبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ففرّج الله لهم حتى يرون السماء)).
وهل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟ ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره، وكشف عن سناء منزلته عند الله ورسوله، وأمر البررة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بره بأمه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم، أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد؟ قال: نعم، قال: كان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)). فاستغفر لي، فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
وعن أصبغ بن زيد، قال: إنما منع أويساً أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين، قاموا به حق قيام.
فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع. وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه، فقال: ما شأن محمد أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة ، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهذا حيوة بن شريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
هذه بعض نماذج بر السلف لآبائهم وأمهاتهم، فما بال شبابنا اليوم يقصرون في بر آبائهم وأمهاتهم، وربما عق أحدهم والديه من أجل إرضاء صديق له، أو أبكى والديه وأغضبهما (وهذا من أشد العقوق) من أجل سفر هنا أو هناك أو متعة هنا أو هناك.
أوصيكم يا معشر الأبناء جميعاً ونفسي ببر الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا، أسألك بالله يا أخي ماذا يريد منك أبوك إلا أن تقف معه حين يحتاجك، وأن تسانده حين يحتاجك، بل ماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية، وعبارة صافية، تحمل في طياتها الحب والإجلال.
والله يا إخوان لا أظن أن أي أم أو أب يعلمان من ولديهما صدقاً في المحبة وليناً في الخطاب ويداً حانية وكلمة طيبة ثم يكرهانه أو يؤذيانه في نفسه أو ولده.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا جميعاً على بر والدينا، اللهم قد قصرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسرفنا وما أعلنا، واملأ قلبيهما بمحبتنا، وألسنتهما بالدعاء لنا، يا ذا الجلال والإكرام.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أيها الإخوة المؤمنون:
لا أظن أنه تخفا علينا النصوص الواردة من الكتاب والسنة في فضل بر الوالدين، وحرمة عقوقهما وأن عقوق الوالدين من كبائر الذنوب.
ولكن ينقصنا العمل بما نعلم، ونغفل أحياناً كثيرة عن مواضع البر مع زحمة الأعمال الدنيوية، كزيارة الوالدين وتفقد أخبارهما والسؤال عن أحوالهما وسؤالهما عن حاجتهما.
وكم نجد ونسمع من يلتمس رضا زوجه ويقدمه على رضا والديه.
فربما لو غضبت الزوجة لأصبح طوال يومين حزيناً كئيباً لا يفرح بابتسامة، ولا يسّر بخبر، حتى ترضى زوجه الميمون، وربما لو غضب عليه والداه، ولا كأن شيئاً قد حصل.
ذكر أحد بائعي الجواهر قصة غريبة وصورة من صور العقوق.
يقول: دخل علي رجل ومعه زوجته، ومعهم عجوز تحمل ابنهما الصغير، أخذ الزوج يضاحك زوجته ويعرض عليها أفخر أنواع المجوهرات يشتري ما تشتهي، فلما راق لها نوع من المجوهرات، دفع الزوج المبلغ، فقال له البائع: بقي ثمانون ريالاً، وكانت الأم الرحيمة التي تحمل طفلهما قد رأت خاتما فأعجبها لكي تلبسه في هذا العيد، فقال: ولماذا الثمانون ريالا؟ قال: لهذه المرأة؛ قد أخذت خاتماً، فصرخ بأعلى صوته وقال: العجوز لا تحتاج إلى الذهب، فألقت الأم الخاتم وانطلقت إلى السيارة تبكي من عقوق ولدها، فعاتبته الزوجة قائلة: لماذا أغضبت أمك، فمن يحمل ولدنا بعد اليوم؟ ذهب الابن إلى أمه، وعرض عليها الخاتم فقالت: والله ما ألبس الذهب حتى أموت، ولك يا بني مثله، ولك يا بني مثله.
هذه صورة من صور العقوق، يدخل الزوج وهو يعيش مع والديه أو أن والديه يعيشان عنده، يدخل البيت معبس الوجه مكفهر الجبين، فإذا دخل غرفة نومه سمعت الأم الضحكات تتعالى من وراء باب الحجرة، أو يدخل ومعه هدية لزوجه فيعطي زوجته، ويدع أمه، هذا نوع من العقوق.
ويا أخي المسلم من أحق بالبر: المرأة التي هي سبب وجودك، والتي حملتك في بطنها تسعة أشهر، وتألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، بل وغذتك من لبنها، وسهرت ونمت، وتألمت لألمك، وسهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحملت أذاك وهي راضية، فإذا عقلت ورجت منك البر عققتها، وبررت امرأة لم تعرفها إلا سنةً أو سنتين أو شهراً أو شهرين.
وهذه قصة حصلت في إحدى دول الخليج وقد تناقلتها الأخبار، قال راوي القصة: خرجت لنزهة مع أهلي على شاطئ البحر، ومنذ أن جئنا هناك، وامرأة عجوز جالسة على بساط صغير كأنها تنتظر أحداً، قال: فمكثنا طويلاً، حتى إذا أردنا الرجوع إلى دارنا وفي ساعة متأخرة من الليل سألت العجوز، فقلت لها: ما أجلسك هنا يا خالة؟ فقالت: إن ولدي تركني هنا وسوف ينهي عملاً له، وسوف يأتي، فقلت لها: لكن يا خالة الساعة متأخرة، ولن يأتي ولدك بعد هذه الساعة ، قالت: دعني وشأني، وسأنتظر ولدي إلى أن يأتي، وبينما هي ترفض الذهاب إذا بها تحرك ورقة في يدها، فقال لها: يا خالة هل تسمحين لي بهذه الورقة؟ يقول في نفسه: علَّني أجد رقم الهاتف أو عنوان المنزل، اسمعوا يا إخوان ما وجد فيها، إذا هو مكتوب: إلى من يعثر على هذه العجوز نرجو تسليمها لدار العجزة عاجلاً.
نعم أيها الإخوة، هكذا فليكن العقوق، الأم التي سهرت وتعبت وتألمت وأرضعت هذا جزاؤها؟!! من يعثر على هذه العجوز فليسلمها إلى دار العجزة عاجلاً.
هذا جزاء الأم التي تحمل في جنباتها قلباً يشع بالرحمة والشفقة على أبنائها، وقد صدق الشاعر حين وصف حنان قلب الأم بمقطوعة شعرية فقال:
أغرى أمرؤ يوماً غلاماً جاهلاً بنقوده كي ما يحيق به الضرر
قال ائتني بفؤاد أمك يا فتى ولك الجواهر والدراهم والدرر
فأتى فأغرز خنجراً في قلبها والقلب أخرجه وعاد على الأثر
ولكنه من فرط سرعة هوى فتدحرج القلب المعفر بالأثر
ناداه قلب الأم وهو معفر ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
إني أدعوكم جميعاً أيها الإخوان ألا تخرجوا من هذا المسجد المبارك إلا وقد عاهدتم الله أنه من كان بينه وبين والديه شنآن أو خلاف أن يصلح ما بينه وبينهم، ومن كان مقصراً في بر والديه، فعاهدوا الله من هذا المكان أن تبذلوا وسعكم في بر والديكم.
ومن كان براً بهما فليحافظ على ذلك، وإذا كانا ميتين فليتصدق لهما ويبرهما بدعوة صالحة أو عمل صالح يهدي ثوابه لهما.
وأما أنت أيها العاق فاعلم أنك مجزي بعملك في الدنيا والآخرة.
يقول العلماء: كل معصية تؤخر عقوبتها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يعجل له في الدنيا، وكما تدين تدان.
ذكر العلماء أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي، فقال: لأذبحك فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحن أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الحجرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تدين تدان.
اللهم أعنا على بر والدينا، اللهم وفق الأحياء منهما، واعمر قلوبهما بطاعتك، ولسانهما بذكرك، واجعلهم راضين عنا، اللهم من أفضى منهم إلى ما قدم، فنور قبره، واغفر خطأه ومعصيته، اللهم اجزهما عنا خيراً، اللهم اجزهما عنا خيراً، اللهم اجمعنا وإياهم في جنتك ودار كرامتك، اللهم اجعلنا وإياهم على سرر متقابلين يسقون فيها من رحيق مختوم ختامه مسك.
اللهم أصلحنا وأصلح شبابنا وبناتنا، اللهم أعلِ همتهم، وارزقهم العمل لما خلقوا من أجله، واحمهم من الاشتغال بتوافه الأمور، وأيقظهم من سباتهم ونومهم العميق وغفلتهم الهوجاء والسعي وراء السراب.
(1/1420)
الحقوق الزوجية
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا الأسرة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقصير الزوجين بحق بعضهما ينعكس على أبنائهما. 2- حقوق الزوجة على زوجها. 3-
حقوق الزوج على زوجته. 4- الحقوق المشتركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن الأسرة المسلمة ومكانتها في الإسلام، وتكلمنا عن مقومات الأسرة المسلمة والأخطاء التي تصدر من أفراد الأسرة.
ووعدتكم أن أتكلم في هذه الخطبة عن الحقوق الزوجية العامة والخاصة. فها أنا ذا أنجز لكم ما وعدت والله المستعان. وإن كان هذا الموضوع أيها الأخوة لا تكفيه خطبة واحدة ولكن سوف أجمل هذه الحقوق وأعلق على ما يحتاج إلى تعليق.
أيها الناس:
إن الإسلام قد وضع حقوقاً على الزوجين، وهذه الحقوق منها ما هو مشترك بين الزوجين، ومنها ما هو حق للزوج على زوجته، ومنها ما هو حق للزوجة على زوجها.
وإن الحياة الزوجية بحقوقها وواجباتها والتزاماتها لتمثل بناءاً ضخماً جميلاً يعجب الناس منظره.
وإن أي نقص في أي حق من الحقوق الزوجية سواء كان حقاً مشتركاً أو خاصاً يسبب شرخاً عظيماً في بناء الأسرة المسلمة.
وليت هذا النقص – أيها الأخوة – يعود أثره على الزوجين فقط.
بل إن أي تقصير أو نقص في واحد من هذه الحقوق وخاصة الحقوق الظاهرة التي يراها الأبناء والبنات سيكون أثره على الأبناء والبنات جميعاً على حد سواء.
فإن الولد سواءً كان ابناً أو بنتاً، إذا كان يصبح ويمسي على شجار وخلاف بين أبويه، وترى البنت أمها لا تقوم بحق والدها حق القيام ويرى الابن أباه لا يقوم بحق أمه حق القيام. لا شك أن هذا سيورث عندهما تصوراً خاطئاً وسيئاً ويجعل الأب والأم في قفص الاتهام دائماً من قبل الابن أو البنت.
وإن الزوجين إذا التزما منهج الإسلام الكامل في الحقوق الزوجية عاشا في ظلال الزوجية الوارف سعداء آمنين. لا تعكرهما أحزان المشاكل؛ ولا تقلقهما حادثات الليالي.
والحقوق الزوجية ثلاثة:
1- حق الزوجة على زوجها.
2- حق الزوج على زوجته.
3- حقوق مشتركة بينهما.
أما حق الزوجة على زوجها:
1- توفية مهرها كاملاً امتثالاً لقوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة.
فلا يجوز للزوج ولا لغيره من أب أو أخ أن يأخذ من مهرها شيئاً إلا برضاها.
فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً.
2- الحق الثاني: الإنفاق عليها:
وهذه النفقة تتناول نفقة الطعام والكسوة، والعلاج والسكن لقوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
3- الحق الثالث: وقايتها من النار: امتثالاً لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً.
قال علي في قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً أدبوهم وعلموهم. أهـ.
وكذلك يخبر أهله بوقت الصلاة وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها.
وإذا كان الزوج لا يستطيع تعليم امرأته فلييسر لها أسباب التعليم، أعني بالتعلم تعلم أحكام الدين، ومعرفة ما أوجب الله عليها ومعرفة ما نهاها الله عنه.
لكن المصيبة إذا كان الزوج نفسه واقع في الحرام؛ فهي الطامة الكبرى، لأن الرجل قدوة أهل بيته، والقدوة من أخطر وسائل التربية.
عن فضيل بن عياض قال: رأى مالك بن دينار رجلاً يسيء صلاته، فقال: ما أرحمني بعياله، فقيل له: يا أبا يحيى يسيء هذا صلاته وترحم عياله؟
قال: إنه كبيرهم ومنه يتعلمون.
ومن المصيبة أيضاً ومن النقص العظيم أن يُنزل الرجل نفسه في غير منزلتها اللائقة بها، فإن الله تعالى جعل الرجال قوامين على النساء، ومن شأنه أن يكون مطاعاً لا مطيعاً، متبوعاً لا تابعا.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن شاء أعلاها وإن شاء سفّلا
وقد استشرى داء تسلط المرأة وطغيانها في أوساطنا بسبب التقليد تارة، وبسبب ضعف شخصية الزوج أو التدليل الزائد تارة أخرى.
وهو من أخطر الأمور وأكثرها إيذاءً، فالكلمة الأولى والأخيرة بيد المرأة، والزوج مجرد منفذ لهذه الأوامر، ومن أجل ذلك تجد في صفات بعض المسلمين اليوم الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.
4- الحق الرابع: أن يغار عليها في دينها وعرضها، إن الغيرة أخص صفات الرجل الشهم الكريم، وإن تمكنها منه يدل دلالة فعلية على رسوخه في مقام الرجولة الحقة والشريفة.
وليست الغيرة تعني سوء الظن بالمرأة والتفتيش عنها وراء كل جريمة دون ريبة.
فعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله : ((إن من الغيرة غيره يبغضها الله وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)) [رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني في ال\رواء].
وقد نظم الإسلام أمر الغيرة بمنهج قويم:
1) أن يأمرها بالحجاب حين الخروج من البيت.
2) أن تغض بصرها عن الرجال الأجانب.
3) ألا تبدي زينتها إلا للزوج أو المحارم.
4) ألا تخالط الرجال الأجانب ولو أذن بذلك زوجها.
5) أن لا يعرضها للفتنة كأن يطيل غيابه عنها، أو يشتري لها تسجيلات الخنا والفحش.
5- الحق الخامس: وهو من أعظم حقوقها: المعاشرة بالمعروف.
والمعاشرة بالمعروف تكون بالتالي:
حسن الخلق معها، فقد روى الطبراني عن أسامة بن شريك مرفوعاً: ((أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً)) [حديث صحيح].
ومن حسن الخلق أن تحترم رأيها وأن لا تهينها سواء بحضرة أحد أم لا. ومن حسن الخلق إذا صدر منك الخطأ أن تعتذر منها كما تحب أنت أن نعتذر منك إذا أخطأت عليك، وهذا لا يغض من شخصك أبداً، بل يزيدك مكانة ومحبة عندها.
ومن المعاشرة بالمعروف التوسيع بالنفقة عليها وعلى عيالها.
ومنها استشارتها في أمور البيت وخطبة البنات، وقد أخذ النبي بإشارة أم سلمة يوم الحديبية.
ومنها: أن يكرمها بما يرضيها، ومن ذلك أن يكرمها في أهلها عن طريق الثناء عليهم بحقٍ أمامها ومبادلتهم الزيارات ودعوتهم في المناسبات.
ومنها أن يمازحها ويلاطفها، ويدع لها فرصاً لما يحلو لها من مرح ومزاح، وأن يكون وجهه طلقاً بشوشاً، وأن إذا رآها متزينة له لابسة لباساً جديداً أن يمدحها ويبين لها إعجابه فيها، فإن النساء يعجبهن المدح.
ومنها التغاضي وعدم تعقب الأمور صغيرها وكبيرها، وعدم التوبيخ والتعنيف في كل شيء.
فعن أنس أن النبي لم يقل له قط أفٍ (ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لا فعلت كذا) [رواه البخاري ومسلم].
ومن المعاشرة بالمعروف: أن يتزين لها كما يحب أن تتزين له، ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.
ومنها أن يشاركها في خدمة بيتها إن وجد فراغاً.
فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) [رواه البخاري].
تلكم كانت أهم الحقوق التي يجب أن تقوم بها الزوج تجاه زوجته كما أمر الإسلام.
بارك الله لي ولكم بالقران العظيم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الحمد والثناء، والمنع والعطاء والجود والحباء، وأصلي وأسلم على النبي النبيل صاحب الغرة والتحجيل، الذي علم ودعا وجاهد وأوذي في جنب الجليل، فلذلك قربه أحبه ورفعه فوق منزلة إبراهيم الخليل.
أما بعد:
فيا عباد الله:
كما أن للزوجة حقاً على زوجها، فللزوج حق على زوجته.
الحق الأول من الحقوق:
1- الحق الأول: طاعته بالمعروف: على المرأة خاصة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به في حدود استطاعتها. وهذه الطاعة أمر طبيعي تقتضيه الحياة المشتركة بين الزوج والزوجة.
ولا شك أن طاعة المرأة لزوجها يحفظ كيان الأسرة من التصدع والانهيار.
وتبعث إلى محبة الزوج القلبية لزوجته، وتعمق رابطة التآلف والمودة بين أعضاء الأسرة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة، شئت)) [رواه ابن حبان ورواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف].
ولتعلم المرأة المسلمة أن الإصرار على مخالفة الزوج يوغر صدره، ويجرح كرامته، ويسيء إلى قوامته، والمرأة المسلمة الصالحة إذا أغضبت زوجها يوماً من الأيام فإنها سرعان ما تبادر إلى إرضائه وتطييب خاطره، والاعتذار إليه مما صدر منها. ولا تنتظره حتى يبدأها بالاعتذار.
2- الحق الثاني: المحافظة على عرضه وماله:
قال تعالى: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وحفظها للغيب أن تحفظه في ماله وعرضه.
فقد روى أبو داود والنسائي أن رسول الله قال: ((ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها طاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله)).
3- الحق الثالث: مراعاة كرامته وشعوره:
فلا يرى منها في البيت إلا ما يحب، ولا يسمع منها إلا ما يرضى، ولا يستشعر منها إلا ما يُفرح.
والزوج في الحقيقة إذا لم يجد في بيته الزوجة الأنيقة النظيفة اللطيفة ذات البسمة الصادقة، والحديث الصادق، والأخلاق العالية، واليد الحانية والرحيمة فأين يجد ذلك؟
وأشقى الناس من رأى الشقاء في بيته وهو بين أهله وأولاده، وأسعد الناس من رأى السعادة في بيته وهو بين أهله وأولاده.
2- الحق الرابع: قيامها بحق الزوج وتدبير المنزل وتربية الأولاد.
قال أنس : كان أصحاب رسول الله إذا زفوا امرأة إلى زوجها يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه، وتربية أولاده.
3- الحق الخامس: قيامها ببر أهل زوجها:
وهذه من أعظم الحقوق على الزوجة، وهي أقرب الطرق لكسب قلب الزوج، فالزوج يحب من امرأته أن تقوم بحق والديه، وحق إخوانه وأخواته، ومعاملتهم المعاملة الحسنة، فإن ذلك يفرح الزوج ويؤنسه، ويقوي رابطة الزوجية.
4- الحق السادس: ألا تخرج من بيته إلا بإذنه حتى ولو كان الذهاب إلى أهلها.
5- السابع: أن تشكر له ما يجلب لها من طعام وشراب وثياب وغير ذلك مما هو في قدرته. وتدعو له بالعوض والإخلاف ولا تكفر نعمته عليها.
6- ومن حقه عليها ألا تطالبه مما وراء الحاجة وما هو فوق طاقته فترهقه من أمره عسراً بل عليها أن تتحلى بالقناعة والرضى بما قسم الله لها من الخير.
تلكم أهم الحقوق التي تجب على الزوجة مراعاتها والقيام بها:
• أما الحقوق المشتركة بين الزوجين فأجملها:
1- التعاون على جلب السرور ودفع الشر والحزن ما أمكن.
2- التعاون على طاعة الله والتذكير بتقوى الله.
3- استشعارهما بالمسؤولية المشتركة في بناء الأسرة وتربية الأولاد.
4- إلا يفشي أحدهما سر صاحبه، وألا يذكر قرينه بسوء بين الناس سواءً كان الشخص قريباً أم بعيداً.
حتى والديك أو والديها فإن المشاكل البيتية تحل بسهولة ويسرّ ما لم تخرج المشكلة خارج البيت حينها يصعب حلها وتتعقد أكثر وأكثر.
روى مسلم في صحيحه أن النبي قال: ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتقضي إليه ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)).
تلكم أيها الأزواج:
أبرز معالم المنهج الذي رسمه الإسلام في حقوق الزوجين.
وأؤكد لكم أنكم إذا التزمتموه في حياتكم الزوجية تطبيقاً وتنفيذاً، كانت المحبة رائدكم، والتعاون سبيلكم، وإرضاء الله سبحانه وتعالى غايتكم.
وتربية أولادكم على الإسلام هدفاً أساسياً من إهدائكم، بل عاش الواحد منكم مع زوجه في الحياة كنفس واحدة في التصافي والتفاهم والمودة.
على أني أُذكر الأخوة جميعاً أن الله تعالى أبى أن تكون هذه الدنيا كاملة في لذتها وفرحها ومتعتها وزينتها، فلابد أن يحصل شيء ما من الكدر والضيق، ولعل من حكمة الله تعالى في ذلك أن يتذكر المسلم بنقصان نعيم الدنيا كمال نعيم الآخرة.
والله اسأل أن يوفق الزوجين على القيام بحقوقهما. عسى أن يعيشا معاً في ظل الزوجية الوارف آمنين مطمئنين سعداء مكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
(1/1421)
قصة أصحاب الأخدود
سيرة وتاريخ
القصص
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- همة عالية ونفس رخيصة في سبيل الله ودعوته. 2- قصة الغلام المؤمن كما جاءت في
روايات السنة. 3- دروس مستفادة من بعض جزئيات القصة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.
أيها المسلمون: سنعيش هذه الجمعة حدثاً حدث في تاريخ العالم أو قل بلاء ثبت فيه المؤمنون الصادقون بلاء وأي بلاء، إنه بلاء تزول له الجبال الرواسي، وتنقطع دونه الأرواح الأوابي، بلاء تتفطر الأسماع عند سماعه، وتجود العيون عند فصوله وأحداثه.
نعم، إن الحدث وقع على لحم ودم، ولكنه الإيمان حينما تخالط بشاشته القلوب.
إن القلوب حين يباشرها الإيمان ويستقر في سويدائها يهون عليها كل عسير، ويلذذ لها كل صعب وخطير، فتصبح الآلام راحةً، والعذاب نعيماً، والبكاء فرحاً.
وسترى في هذا الحدث العظيم كيف يصنع الإيمان الرجال وإن كانوا صغاراً في السن وربما ازدرتهم الأعين أو استقلتهم النفوس، لكن الإيمان يسموا بهم فيصنعون ما لا يصنعه الرجال.
غلام صغير يبتلى ويؤذى ويعرض للقتل مراراً بل يذهب به إلى القتل فيمشي وكأنه يزف ليوم زفافه، غلام داعية إلى الله، غلام يحمل في نفسه همّ إصلاح الناس، يحمل في طياته وكوامن نفسه همّ هداية الناس إلى الدّين وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويجود هذا الغلام بكل وسيلة وطريقة لإصلاح الناس حتى إذا نفذ ما لديه من ذلك جاد بأعلى ما يملك جاد بحياته، جاد بروحه رجاء هداية الناس، فكان ما أراد.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
قال الإمام مسلم رحمه الله حدثنا هداب بن خالد حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر)) (أقول وهذه القصة كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السلام).
قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر. (وفي رواية الترمذي): وكان لذلك الملك كاهن يكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً أو قال: فطناً لقناً فأعلمه علمي هذا، فأتي أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم، ولا يكون فيكم من يعلمه)).
(قال الإمام مسلم في روايته): ((فبعث إليه غلاماً يعلمه، فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه ضربة لأنه تأخر عليه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال إذا خشيت الساحر، فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة (وفي رواية أحمد) (فظيعة) (وعند الترمذي) فبينما الغلام على ذلك (أي بين الساحر والراهب) إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حسبهم دابة فقال بعضهم إن تلك الدابة أسداً)).
قال الإمام مسلم: ((فقال: (أي الغلام) اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجراً، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس)) (ولاحظوا أن الغلام بدأ بالراهب لأنه مستقر في نفسه أن أمر الراهب أفضل ولكن أراد أن يطمئن قلبه).
نعم، لأن هناك فرق بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن إن لكلام أولياء الرحمن نور في النفس وراحة في القلب أما كلام أولياء الشيطان من الكفرة والملحدين ظلمة في النفس وضيق في القلب.
((فرماها (رمى الغلام الدابة بالحجارة) فقتلها ومضى الناس، (وفي رواية الترمذي) فقال الناس: من قتلها؟ قالوا: الغلام ففزع الناس، وقالوا لقد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد)).
(قال الإمام مسلم): ((فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى)).
((وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ.
وكان الغلام يَبرئ الأكمه والأبرص (ومعنى الأكمه الذي خلق أعمى) ويداوي الناس من سار الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال ما ههنا لك أجمعُ إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفِ أحداً إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله)).
نعم، أعطاه الشفائين شفاء القلوب وشفاء الأمراض، وصف له الدواء الإيماني وثم أعطاه الدواء الجسماني، وهنا درس للأطباء أن يعطوا مع الدواء الجسماني الدواء الرحماني.
نعم، هكذا ينبغي أن يكون المجتمع بأسره يحمل هم إصلاح الناس، فالطبيب في عيادته، والمدرس في فصله، والمهندس في عمله، والموظف في وزارته، وهكذا ينبغي أن يكون الناس.
أما أن تكون الدعوة والنصح والإرشاد حكراً على فئة معينة من الناس وطبقة من طبقات المجتمع فلا وألف لا، نعم نحن لا نقول كل إنسان يخطب ويحاضر ويتكلم لا، لا نقصد هذا ولكن لا أقل من تساهم في مجالك بالكلمة الطيبة أو النصيحة الهادفة أو مساعدة من يملك القدرة على الكلمة.
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.
قال الإمام مسلم: ((فآمن بالله(يعني جليس الملك) فشفاه الله فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذّبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه لم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه)).
انظروا للبلاء أيها الأخوة، يوقف الرجل فيبدأ بالنشر من مفرق رأسه حتى يقع شقاه ما يرده ذلك عن دينه سبحان الله، أي إيمان بلغ بهؤلاء حتى صبروا هذا الصبر العظيم، فأين هؤلاء الذين يشق عليهم حتى المجيء للمسجد للصلاة مع الناس بضع دقائق.
انظر يا أخي كيف كان يبتلى الناس وكيف أوذوا في جنب الله، وأنت تؤمر بأوامر سهلة ويسيرة على النفس، ومع ذلك تثقل عليك العبادة ويصعب عليك أداؤها، وهؤلاء يقتلون بل ينشرون بالمنشار حتى يموتوا وهو سهل عليهم لأنه قالوا: ربنا الله.
وأنت تؤمر بصلاة الفجر مع الجماعة فيصعب عليك فانتبه يا أخي وراجع إيمانك.
ثم قال: ((ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته (أي أعلاه) فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك)).
أيها الأخوة: نعم رجع إلى الملك ليبين له أن ربه ورب الناس جميعاً هو الله وليس أنت أيها الملك.
((وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي (السفينة الصغيرة) فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال وما هو، قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني)).
(يريد أن يضحي هذا الغلام الصغير بأعلى شيء يملكه يضحي بنفسه التي بين جنباته لكي يعبد الله وحده لا شريك له، والله أكبر ولله أكبر، هذه اهتمامات هذا الغلام الصغير، فما هي اهتمامات غلماننا اليوم أو قل شبابنا فما هي اهتماماتهم إلا آخر شريط نزل للمغني الفلاني أو آخر فلم عربي أو غربي صدر هذه الأيام أو قصات أو موضات أو سيارات.
وإلى الله المشتكى، وغلام ناعم الأظفار، صغير الجسم، ضعيف القوى، يضحي بروحه في سبيل الله، فلله درّ هذه القلوب حين خالطها الإيمان، ولله در هذه النفوس حين عانقها الإسلام.
ثم قال: ((فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها)) ، ومعنى احموه: أي ارموه فيها، وفي بعض نسخ مسلم: ((فأقحموه)) بالقاف ومعناه اطرحوه فيه كرهاً.
قال: من لم لمن يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم، شق لهم في الأرض أخدوداً أي سكة، وأشعلوا فيها النار فإذا النار تلتهب ويأكل بعضها بعضاً، وعلا لهيب النار ليغطي الأخدود فكأن النار على سطح الأرض والناس طوابير.
من ربك فإن قال: الله، ألقوه فيها أو قيل له: ألقِ نفسك، فاقتحم الناس النار وتسابقوا إليها، وكأنهم يردون ماءاً عذباً أو يدعون إلى وليمة، لكنها والله الجنة التي يرحض في سبيلها كل غالي ويبذل لنيلها كل نفيس.
(ثم قالت الرواية): ((حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست (أي توقفت) أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أُمّه اصبري فإنك على الحق)).
هكذا كان البلاء وهكذا صبر المؤمنون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قتل أصحاب الأخدود.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: هكذا سجل هذا الغلام أعظم تضحية عرفها التاريخ، فقدم نفسه لإعلاء كلمة الله ولكي يعبد الله وحده لا شريك له.
فيموت كما يموت الشهداء، فلا يجد من ألم الطعنة إلا كما يجد أحدنا من القرصة، ويأتي يوم القيامة اللون لوح الدم والريح ريح المسك.
ولا تأكل الأرض أجسادهم بل حُرم عليها أن تأكل شيئاً من أجساد الأنبياء الشهداء.
ففي رواية الترمذي لهذه القصة قال في آخره: فأما الغلام فإنه دفن فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب وأصبعه على صدغه، كما وضعها حين قتل، وساق ابن إسحاق خبراً غريباً قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته فوجد هذا الغلام دفن فيها قاعداً وضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أُخذت يده عنها تنبعث دماً، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا على الذي كان عليه ففعلوا.
(1/1422)
أهوال القبور
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجل النبي من عذاب القبر. 2- خوف الصالحين من عذاب القبر وأهواله. 3- حماية الله
للمؤمن في قبره. 4- حديث البراء بن عازب في ذكر حالي المؤمن والكافر قبل قبض الروح
وبعدها. 5- أسباب عذاب القبر. 6- حديث سمرة بن جندب في رؤيا النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فقد أمركم بذلك في قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: "حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر, ثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص, ثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها, فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئًا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر, قالت عائشة رضي الله عنها: فدخل رسول الله عليَّ فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال : ((لا, من زعم ذلك؟)) قالت: هذه اليهودية, لا أصنع إليها شيئًا من المعروف إلا قالت: وقاك الله عذاب القبر, قال : ((كذبت يهود وهم على الله أكذب, لا عذاب دون يوم القيامة)) ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث, فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملاً بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي ـ بأعلى صوته ـ: ((القبر كقطع الليل المظلم, أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا وضحكتم قليلاً, أيها الناس: استعيذوا بالله من عذاب القبر؛ فإن عذاب القبر حق)).
قال الحافظ ابن كثير: "هذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه".
أيها الناس: اعلموا أن القبر أول منازل الآخرة, وأنه من مات فقد قامت قيامته, وأن العبد إذا قُبر عُرض عليه مقعده بالعذاة ـ أي ما بين الفجر وشروق الشمس ـ والعشي ـ أي ما بين الظهر والغروب.
إن كان من أهل الجنة عرض له مقعده من الجنة, وإن كان من أهل النار عرض عليه مقعده من النار, يُفسح للمؤمن في قبره سبعون ذراعًا, ويملا عليه خضيرًا إلى يوم يبعثون, وأما الكافر فيضرب بمطرقة من حديد ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه.
واعلموا رحمكم الله أنه إذا حف قبر الإنسان فما بعده خير منه.
لذلك كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا رأى القبر بكى بكاء الثكلى, فقيل له: يا أمير المؤمنين مالك تذكر عندك الجنة والنار وعذاب الآخرة فلا تبكي, فإذا رأيت القبر بكيت؟!! قال رضي الله عنه: إن القبر أول منازل الآخرة إذا صُلح وحسن فما بعده أيسر منه.
إنها الحفرة المظلمة الموحشة, إنها الحفرة التي غطاءها من تراب, ووسادتها من تراب وسقفها من تراب وجوانبها من تراب وتراب على تراب, إنها الباب الأول إلى الآخرة من دفن فيها فقد فُتح له باب من أبواب الأخرة, فإن كان صالحًا فتح له باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحها وطيبها.
وإن كان ممن غلب عليه هواه واتبع شيطانه وعصى مولاه فإنه يفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها حتى تقوم الساعة, إنها الحفرة التي شمر لها المشمرون, وسارع في تحسينها الصالحون, إنها الحفرة التي اقضتت مضاجع الصالحين فما أصبحت عيونهم تكتحل برقاد, ولا نفوسهم ترتوي من سهاد.
فما إن يتوسد أحدهم فراشه ويطفئ عنه مصابحه إلا ويتذكر ظلمة القبر.
فهذا عمر بن عبد العزيز كان إذا اضطجع على فراشه وأطفأ سراجه بكى حتى يبل وسادته من البكاء, ويقول: "اللهم نور قبري, اللهم حسن عملي".
إنها الحفرة التي تنسي أحلى ليلة يمر فيها الإنسان في حياته, وظلمة القبر تنسي ليلة العرسي.
إنها الحفرة التي يقول فيها المصطفى : ((القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)).
إنها الحفرة التي يفتن فيها الناس فتنة عظيمة مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال, ففي الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر عن النبي أنه قال: ((أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجال)).
قال كعب الأحبار: "إذا وضع الرجل الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة الصلاة والصيام والحج والجهاد والصدقة ـ وقال: ـ وتجئ ملائكة العذاب من قبل رجليه فتقول الصلاة: إليكم عنه فلا سبيل لكم عليه فقد أطال بي القيام لله عز وجل, قال فيأتونه من قبل رأسه فيقول الصيام: لا سبيل لكم عليه فقد أطال بي الصيام. قال: فيأتونه من قبل جسده, فيقول الحج والجهاد: إليكم عنه فقد أنصب نفسه, وأتعب بدنه وحج وجاهد لله عز وجل لا سبيل لكم عليه, فيأتونه من قبل بديه فتقول الصدقة: كم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى وضعت في يد الله ابتغاء وجهه, فلا سبيل لكم عليه, قال: فيقال له: هنينًا طبت حيًا وطبت ميتًا.
قال: وتأتيه ملائكة الرحمة فتفرشه فراشًا في الجنة ووثارًا من الجنة فيفسح له في قبره مد بصره, ويؤتى بقنديل من الجنة يستضئ بنوره إلى يوم يبعثه الله من قبره".
اعلموا عباد الله: أن للحياة البرزخية وهي التي تكون بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة نعيمًا وعذابًا.
نعم هذه عقيدة أهل السنة والجماعة.
أما المؤمن فينعم في قبره ويأتيه من ريح الجنة وريحانها فيشتاق إليها فيقول: يا ب أقم الساعة يا رب أقم الساعة.
وإن الكافر أو الفاجر فيأتيه في قبره من سموم النار فيقول: يا رب لا تقم الساعة, رب لا تقم الساعة.
لا إله إلا الله, لا إله إلا الله, ما أشدها من ساعة, وما أتعسها من حياة, وما أشقاها من لذة.
أألعب في الدنيا وارتكب الحرام وأفعل الجرائم واستمع للغناء وانظر إلى الخنا والحرام واتلذذ بشهوة أو أتمتع بمعصية ثم يكون هذا مصيري, اللهم غفرًا, اللهم غفرًا حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون , وقال تعالى: وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب , وقال: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى.
قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود: "ضنكًا: قال: عذاب القبر".
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يُلْحد بعد, فجلس رسول الله وجلسنا حوله كأنما على رؤسنا الطير, وبيده عودٌ ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال: ((تعوذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا, ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر, ويجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة أُخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان, قال: فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السِّقاء, فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين, حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض, قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسماءه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا, فيستفتحون له فيفتح له, فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى يُنتهى بها إلى السماء السابعة, فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض في جسده, فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول ربي الله, فيقولان ما دينك فيقول: ديني الإسلام, فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم فيقول هو رسول الله, فيقولون: ما يدريك فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به, وصدقته فينادي مناد من السماء أن قد صدق عبدي, فافرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها, ويفسح له في قبره مد بصره, قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول له من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجئ بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة, رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر, حتى يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب, فتفرق في جسده فينتزعها كما يُنتزع السَّفود من الصوف المبلول فيأخذوها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين, حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض, فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا, حتى يُنتهى بها إلى السماء الدنيا, فيستفتح فلا يفتح له)) ثم قرأ رسول الله : لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ((يقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى, ثم تطرح روحه طرحًا)) ثم قرأ: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ((فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, قال: فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري, فيناد مناد من السماء أن كذب فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه. ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب نتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسؤك, هذا يومك الذي كنت توعد, فيقول: من أنت فوجهك الوجه القبيح يجئ بالشر, فيقول: أنا عملك الخبيث, فيقول: رب لا تقم الساعة)) رواه أحمد وأبو داود والحاكم, وقال: صحيح على شرط الشيخين, رواه الذهبي.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي : ((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم, قال: يأتيه ملكان فيقعدانه...)) نحو حديث البراء, وفيه: ((أما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقوله الناس, فيقال: لا دريت ولا تليت, ويضرب بمطارق من حديث ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين)).
قال رسول الله : ((لولا أن لا تدافنوا لأسمعتكم من عذاب القبر الذي أسمع)) أخرجه.
اللهم أجرنا من عذاب القبر, اللهم أجرنا من عذاب القبر................. يا رب العالمين.
عباد الله: قلت ما قد سمعتم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن لعذاب القبر وعذاب البرزخ أسباب من اقترفها وعملها فهو على خطر عظيم, وسأذكر بعضها:
منها عدم التنزه من البول أن يصيب البدن أو الثوب, أو المشي بالنميمة وهي القالة بين الناس على وجه الإفساد.
ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: مرَّ النبي على قبرين فقال: ((أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة, وأما الآخرة فكان لا يستنزه من بوله)) فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين ثم غرس على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا ثم قال: ((لعله يُخَفف عنهما ما لم ييبسا)).
ومنها أيضًا: عدم زكاة المال.
ففي الصحيحين عن النبي أنه قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وظهره وجنبه حتى يقضى بين الناس, فيرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
واسمعوا لهذا الحديث الجليل العظيم: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله مما يُكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟ فيقُص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداةٍ: ((إنه أتاني الليلة آتيان, وإنهما ابتعثاني, وإنما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما, وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة برأسه فيثلغ رأسه, فيتدهره الحجرٌ هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان, ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق, قال: فانطلقنا فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلّوب من حديد, وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيُشرشر شدقه إلى قفاه, ومنخره إلى قفاه, وعينه إلى قفاه............................... قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل في الجانب الأول. فما يَفُرغُ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذل الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى قال: قلت سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق, فانطلقنا فأتينا على مثل التنور قال: وأحسب أنه كان يقول فإذا فيه لغط وأصوات, قال: فانطلقنا فيه فإذا فيه رجال ونساءٌ عرات, وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا ـ أي صاحوا فزعين ـ قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق, انطلق, قال: فانطلقنا فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرًا, فينطلق يسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فَغر فاه فألقمه حجرًا قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق, انطلق, فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة وإذا عنده نار يحشها ـ يوقدها ـ ويسعى حولها قال: قلت لهما ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق, فانطلقنا فأتينا على روضة.... ـ أي طويلة النبات ـ فيها من كل نور الربيع, وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء, وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق, انطلق, قال: فانطلقنا فأتينها إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن, قال: قالا لي: ارق فارتقيت فيها, قال: فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهبٍ ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا, فدخلناها, فتلقانا فيها رجال شُطرٌ من خلتهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قال: قالا لهما: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر, قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحضُ في البياض (أي الخالص في البياض) فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم, فصاروا في أحسن صورة قال: قالا لي: هذه جنة عدن, وهذاك منزلك, قال فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء (أي السحابة البيضاء) قال: قالا لي: هذا منزلك.
قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله قالا: أما الآن فلا, وأنت داخله, قال: قلت لهما: فأني قد رأيت منذ الليلة عجبًا, فما هذا الذي رأيت, قال: قالا لي: إنا سنخبرك:
أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشَرشر شدقه إلى قفاه, ومنخره وعينه إلى قفاه, فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فهم الزناة والزواني.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلقم الحجر فإنه آكل الربا.
وأما الرجل كريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها, فإنه مالك خازن جهنم.
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام, وإن الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة, ـ قال: فقال بعض المسلمين, يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله : ((وأولاد المشركين)) ـ وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر قبيحًا فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا تجاوز الله عنهم)) رواه البخاري.
وهذه رؤيا من النبي ورؤيا الأنبياء حق وهي.........
اتق الله يا عبد الله, اتق الله يا عبد الله, ولا يكن مثلك مثل هؤلاء, ومصيرك مصير هؤلاء, وأنت تعلم أن هذه الدنيا قد ارتحلت مدبرة, وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة, واذكر ساعة الموت والانتقال, وما يتمثل لديك ساعتها من كثرة السيئات وقلة الحسنات, فما وددت عمله في تلك الساعة فجعل بعمله من اليوم, وما وددت اجتنابه فمن الآن.
(1/1423)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد الله الهذيل
الرياض
5/5/1416
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقوبة تحل بالمجتمع إذا كثر الخبث. 2- لعن الله بني إسرائيل لما تركوا الأمر بالمعروف.
3- حجب إجابة الدعاء عند التهاون بهذه الفريضة. 4- أهمية هذه الفريضة ومثل السفينة.
5- الأمر بالمعروف ركن من أركان الإسلام. 6- خيرية هذه الأمة بقيامها بهذا الواجب.
7- المنافقون وهذه الفريضة. 8- شبه تقعد عن الأمر بالمعروف ، والرد عليها. 9- القائمون
على الحسبة
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه – وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها-، فقالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)).
إذا كثر الخبث، فلا ينكر المنكر، ولا يأمر بالمعروف، ويسري داء المنكرات في المجتمع سير الهشيم بلا أي تحنّه، ولا ألسنة توهنه، عند ذلك ترى الحال التي تستوجب العقوبة والهلاك، فلا تدري أيصبحها ذلك أم يمسيها.
إن قوماً جاءتهم اللعنة على لسان نبيين من أنبياء الله تعالى، لما أن صارت حالهم إلى تلك الحال، بل إنهم أنكروا المنكر في أول أمره، ولكنهم ألفوه فما عاد بعضهم ينكره على بعض.
روى الترمذي – وحسنه – وأبو داود من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ، ثم قال: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون.
ثم قال: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)).
وذلك الوعد الصادق بإجابة الدعاء، وفتح أبواب السماء له، لا يتحقق إذا عُطّلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما جاء عند أحمد والترمذي من حديث حذيفة أن النبي قال: ((لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
فيا لله، أي حرمان يعيش فيه ذلك المجتمع، وأي شيء يبقى له حين تحجب عنه أبواب الإجابة.
أيها الأحبة في الله:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان للمجتمع من تلك العقوبات الإلهية، وصمام أمان من انحدار المجتمع في مهاوي الردى واللحوق بركب الحياة البهيمية.
وخير مثال لبيان ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن النبي قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
فتأملوا هذه المثل العظيم، لتدركوا أن أهل الباطل عندما يدكوا بمعاول باطلهم سفينة النجاة التي يسير فيها المجتمع إذا لم يؤخذ بأيدهم وتكسر معاولهم، فإن الغرق يهدد المجتمع بأكمله.
إذاً: فالنجاة من ذلك بفضل الله تعالى أولاً ثم بتحقيق تلك الشعيرة، وكما قال سبحانه: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون.
وقال سبحانه: فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجيبا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
أيها الأحبة في الله:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أوجب واجبات الشرع، بل قد عدّه بعض العلماء من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى على الأمة فقال سبحانه وتعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وروى الإمام مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وروى أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((ما من نبي بعثه الله تعالى في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل.)).
وبتحقيق تلك الشعيرة تتحقق الخيرية الموعودة بكتاب الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
وفشوها في المجتمع دليل إيمانه ومعدنه النقي والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم.
وإن ضعف هذه الشعيرة في مجتمع، لا يقف عند حدود هذا الضعف، بل المصيبة في ذلك مضاعفة، حيث ينتج عن ذلك لا محالة قوة شديدة في الدعوة إلى المنكر وإبرازه وإحداث الحصانة له، بل يصل الأمر إلى الإكراه عليه، وينتج عنه أيضاً حرب للمعروف وإيذاء لأهله. وهكذا بقدر ما يكون الضعف يكون ما يقابله حتى تصبغ بالمجتمع حال النفاق والمنافقين كما أخبر الله تعالى بقوله: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون.
أيها الأحبة في الله:
وإن النفوس الضعيفة عندما تنقطع عليها لذائذها المحرمة بتحقيق تلك الشعيرة في المجتمع تسعى جهدها لتهوين تلك الشعيرة، بإلقاء الشبهات والآراء السفيهة حولها، فتجدهم في حين يدعون أن ذلك ينافي الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل إنسان، ويزيد الطين بلة عندما يستدل لرأيه هذا بقوله تعالى: لا إكراه في الدين وما علم أن هذه الآية في الكافر أن لا يُكره على دخول الإسلام، بل وليس كل كافر، فقد رجح كثير من المفسرين أن هذا الحكم خاص بأهل الكتاب ومن شابههم، فتؤخذ منهم الجزية ويبقون على دينهم، هذا وقد ذهب بعض أهل العلم أن هذه الآية منسوخة بآية القتال.
ثم إن ذلك الكافر ليس له أن يفعل في مجتمع المسلمين ما يشاء مما يقرّه مجتمعه، فهل يريد ذلك بمثل هذه الاستدلال أن يسقط تلك الشعيرة، فأين تلك الآيات والأحاديث المتوافرة بشأنها وعظم وجوبها.
ثم أين تلك الحرية المزعومة حين تردّ الأمور إلى اختيار نفس ضعيفة، همها السعي وراء لذائذها، وتلك أحوال الأمم التي تدعي الحرية المطلقة لكل فرد من أفرادها كيف استحالت إلى مجتمعات بهيمية بل أسفل من ذلك، وفي كل يوم ينطق حالها بتلك الفضائح المخزية، وتلك الآراء التي تضحك العقول، وما تلك المؤتمرات التي يعقدون عن السامع ببعيد.
وتأتي حجة أخرى باعثها التقاعس عن تلك الشعيرة أو المحاربة لها، وذلك أن المرء عليه بنفسه وصلاحها، ولا يلتفت إلى مخالفات الآخرين فإن ذلك لا يضربه فالضرر على أصحابها فقط، ثم يستدل بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
ولو تأمل الآية بتمامها لما نطق بالاحتجاج بها على رأيه هذا، فالله تعالى يقول: إذا اهتديتم فأين الاهتداء إذا عطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد تصدى الصديق لهذه الشبهة فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه)) [رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ويأتي آخر ويوهن من قدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصدع بالحق بحجة أن ذلك موجب للفتنة والبلاء، وقد يُتسلط بسبب ذلك على الصالحين.
فتضعف هيبتهم في قلوب الناس، ولا يؤخذ منهم قول ولا رأي.
فسبحان الله، أي دعوة صادقة قامت من غير ابتلاء، ومصاعب يلاقيها أصحابها، هل سلم من ذلك الأنبياء حتى يسلم منه غيرهم؟!
ولكنه خلودٌ إلى بعض المتاع، ولو مست أي مصلحة من مصالحه لأقام الدنيا وأقعدها ولم يبال أتكلم به فلا، أو ترصد له فلان.
وفي أمثال هؤلاء يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسول الله يُرغب عنها وهو بارد القلب! ساكت اللسان ! شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بليّه الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين.
وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله: بذل وتبذّل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل).
أيها الأحبة في الله:
وإن من عظيم نعم الله تعالى علينا أن نرى بيننا شباباً حملوا على عاتقهم تحقيق هذه الشعيرة، فتراهم في جهود تتوالى، قل أن تغمض جفونهم، أو تستريح أبدانهم، فكم من خير نشروه، وكم من منكر في مهده قتلوه، وكم من حرمات كادت أن تنتهك حالوا دون انتهاكسها، وقطعوا على الشيطان طريقة فيها.
وحُق لهم أن يهدى لهم كلام الإمام أحمد في رسالة له إلى مسدد بن مسرْهد حيث يقول: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم، والتقى، يدعون من ضل إلى الهدى، وينهون عن الفساد والردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله أهل الجهالة والعمى، فكم من قتيل لإبليس أحيوه، وكم من ضال هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وأعمال المفسدين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا أعنّة الفتنة) أهـ.
أيها الأحبة في الله:
وإن من نافلة القول أن يُتحدث عن عظيم الثغر الذي يسدّه أولئك المرابطون، فإن ذلك أجلى من الشمس في ضحاها، وليس يخفى إلا على من انطفئت بصيرته فانقلبت عند الموازين.
أيها المسلمون:
وإن هذه الطائفة لما قطعت على أهل الباطل باطلهم، فلا عجب أن يسعى أهل الباطل بنفث سمومهم عليها فيلصقون الأكاذيب، ويهولون الأخطاء، وكأنهم يريدونها طائفة معصومة عن كل خطأ، فسحبان الله.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
فلا تحلو المجالس لكثير إلا بالنيل من أمثال هؤلاء، فهذا يروي قصة، وهذا يزيد، وهذا ينقص، وما دروا أنهم خرموا حرمة عظّم الله قدرها في كتابه، وكان حقيقة استهزائهم لا على أشخاص لذواتهم، ولكن لما حملوه على عاتقهم، وهو أمر من أمور الدين عظيم، فليخش أولئك من قول الله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين.
ثم إن ذلك وعشرات أمثاله، لا يضير أولئك المحتسبين شيئاً، بل تلك سبيل قديمة، وسنة تتوالى، قد أدركها عمير بن حبيب بن حماسة الصحابي الجليل في زمن من أفضل الأزمان حين قال لأولاده وصيةٌ لهم (إذا أراد أحدكم أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر فليوطن نفسه على الصبر والأذى وليوقن بالثواب من الله، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى) [أخرج الإمام أحمد في الزهد].
وهذا الإمام أحمد يخبر عمر بن صالح بمثل ذلك. قال عمر بن صالح: قال لي أبو عبد الله – يعني الإمام أحمد -: يا أبا حفص يأتي على الناس زمان المؤمن بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع، فقلت: وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟
قال: صيروا أمر الله عز وجل فضولاً.
قال: المؤن إذا رأى أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني: قالوا هذا فضول.
قال: والمنافق كل شيء يراه قال بيده على أنفه، فيقال: نعم، الرجل ليس بينه وبين الفضول عمل).
أيها الأحبة في الله:
وإن من أعظم التعاون على البر والتقوى التعاون على تحقيق هذه الشعيرة.
ومن طرق التعاون معهم في ذلك:
- الدعاء لهم.
- الذب عن أعراضهم.
- تبليغهم بالمنكرات.
- زيارتهم لتبادل الآراء.
- مشاركتهم في بعض أعمالهم في حدود الممكن من ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1424)
التخويف من النار
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد الله الهذيل
الرياض
10/8/1417
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رؤية النبي الجنة والنار. 2- بعض صفة النار. 3- تحذير النبي أصحابه من النار. 4-
خوف السلف من النار. 5- ذكر بعض أحوال أهل النار. 6- خروج بعض أهل النار منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله:
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: ((رأيت الجنة والنار)).
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لما كسفت الشمس رأيت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع منها)).
وفي مسند أبي يعلى من حديث ابن عمر أن النبي قال: ((لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار)) ثم بكى حتى جرى وبلّت دموعه جانبي لحيته ثم قال: ((والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة لمشيتم إلى الصعدات ولحثيتم على رؤوسكم التراب)).
وله شاهد عند الحاكم وغيره من حديث أبي ذر وفيه: ((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)).
أيها الأحبة في الله:
دار موحشة مظلمة، شديد حرّها، بعيد قعرها، لهيب سمومها، عظيم شررها، أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة، كظلمة الليل البهيم الأليل، لا يضيء جمرها ولا لهيبها.
ظللٌ من النار بعضها فوق بعض، ضوعفت عن نار الدنيا بتسعة وستين جزءٌ، الغمسة فيها تنسي كل نعيم عاشت به النفس، فكيف بالمكوث فيها، وملازمة عذابها.
قال : ((يوتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)) [أخرجه مسلم].
تلك الدار التي يخوّف الله بها عباده ليتقوه، ويطيعوه قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوّف الله به عباده يا عباد فاتقون.
أيها الأحبة في الله:
ولقد مضى السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان وكانوا دائمي الذكر لتلك الدار، والخوف منها، والحذر من أسبابها، فلم تغب عن أذهانهم، ولم تلههم مطالب الدنيا عن زفراتها وشهقاتها حتى كانت القلوب مشفقة منها وعلى وجل من أهوالها.
ولقد كان نبينا كثيراً ما يحذر من تلك الدار شفقةً منه بأمته أن يلقى أحدٌ فيها، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيناً عن أمته، فما ترك خيراً إلا ودل عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه أشد الحذر، بأبي هو وأمي.
ففي المسند أن النعمان بن بشير خطب وقال: سمعت رسول الله يقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)) حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله : ((اتقوا النار، قال: وأشاح، ثم قال: اتقوا النار)) ، ثم أعرض وأشاح حتى ظننا أنه ينظرٌ إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)).
وفي لفظ: ((ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالاً ؟ فليقولن: بلى، ثم يقولن: ألم أرسل إليك رسولاً؟ فليقولن: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتقين أحدكم النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)).
وفي الصحيحين أنه لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين نادى عليه الصلاة والسلام في قريش فقال: ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسكِ من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلّها بِبلالها)).
هكذا كان عليه الصلاة والسلام دائم التذكير بتلك الدار، والتحذير من شديد آلامها.
فكانت القلوب العارفة لا يغيب عنها ذلك الوعيد، فكابدت تذكّره، وخالطت حرارته ببرد الرجاء، فذلت منهم الأسماع والأبصار والأبدان في طاعة ربهم عز وجل وأمضوا على ذلك حياتهم حتى أتاهم اليقين فرأوا البشرى، وغداً حين ينزلون منازل النعيم، يقولون: الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن.
قال الحسن رحمه الله تعالى: إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الأسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاب القلوب ألا تراه يقول: وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن والله لقد كابدوا في الدنيا حزناً شديداً، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم، والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار. أهـ.
ولهذا كان منهم من يمنعه ذكر بجهنم من نومه.
قال أسد بن وداعة: كان شداد بن أوس إذا أوى إلى فراشه كأنه حبة على مقلى، فيقول: اللهم إن ذكر جهنم لا يدعني أنام، فيقوم إلى مصلاه.
وكان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلّى الحبة على المقلى، ثم يثبت ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طيّر ذكر جهنم نوم العابدين.
وقالت ابنة الربيع بن خيثتم لأبيها: يا أبت مالك لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن النار لا تدع أباك ينام.
وقال ابن مهدي: ما كان سفيان الثوري ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعاً مرعوباً ينادي: النار، النار، شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات.
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهو ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
وكان هرم بن حيان يخرج في بعض الليالي وينادي بأعلى صوته: عجبت من الجنة كيف نام طالبها، وعجبت من النار كيف نام هاربها، ثم يقول: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون.
وقال أبو الجوزاء: لو وليت من أمر الناس شيئاً اتخذت مناراً على الطريق وأقمت عليها رجالاً ينادون في النار: النار النار، [أخرجه الإمام أحمد في الزهد].
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما.
أيها الأحبة في الله:
وإذا نظرنا إلى أنفسنا، نرى واقعنا يحكي معانٍ كبيرة في الغفلة والنسيان، فكم ألهتنا أموالنا وأهلونا عن التفكر في تلك الدار وأهوالها، حتى إنا لنسمع أحوالها تتلى بأحسن كلام، فإذا القلوب قاسية، والأعين مجدبة، ونحن نعلم يقيناً أنا واردوها، ولا يدري الواحد منا أتأخذه كلاليبها فتلقيه فيها، أم يكون له الفوز العظيم بالنجاة منها؟! عسى الله أن يجعلنا من أهل النجاة.
أيها الأحبة في الله:
وكم في تلك الدار من دركات موحشة، وظلمات مطبقة، وأودية سحيقة، وسلاسل وأغلال وأنكال، وزمهرير تتميز فيه الأجساد.
فلله، ما أشد عذابها، وما أبأس أهلها، فأنى لهم باحتمال حرها وسمومها.
أي جزء من أجسامهم يقوى على آلامها؟! وهم تبدل فيهم جلود بعد جلود إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
كم تعلو لهم من صيحات، ويتردد منهم من صراخ، ولكن لا يجاب لهم نداء.
يستغيثون من الجوع فيغاثون بشجرة الزقوم فيأكلون منها، فتنسلخ وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عليهم العطش، فيستغيثون منه، فيغاثون بماء كالمهل، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم والجلود، ويضربون بمقامع من حديد، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور.
ويذكرون الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار، فينادونهم بطلب الغوث منهم: ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون.
وإذا أرادوا الفراش واللحاف فما لهم إلا من ذاك اللهب اللهيب لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش.
ويزيد في عذابهم تلك الخلقة التي زيدت فيهم.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب السريع)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ضرس الكافر – أو ناب الكافر – مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام)) وهم في ذلك كله يتنقلون من عذاب إلى عذاب، ومن ألم إلى ألم، لا يفترون عن عويل وصياح: يا ويلنا يا ويلنا.
إلى ذات السلاسل والنكال
وعجوا في سلاسلها الطوال
وكلهم بحر النار صالٍ
وسيق المجرمون وهم عراة
فنادوا ويلنا ويلاً طويلاً
فليسوا ميتين فيستريحوا
ألا، فيا أيتها القلوب لتعي.
ألا، فا أيتها العيون لتبصري.
ألا، فا أيتها الآذان، أصغي سمعاً إلى أهوال تلك الدار، وأحوال أهلها، يقصها عليك الجبار جل جلاله لتلجئي إليه، وتلوذي بجنابه، وتعلمي أن لا نجاة لك من تلك الدار إلا بفضله ورحمته.
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرّون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم هذا نزلهم يوم الدين [سورة الواقعة].
قال تعالى: والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير.
قال تعالى: وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
أيها الأحبة في الله:
- من يطيق زفرة من زفراتها؟ّ!
- من يطيق لحظة من أيامها؟!
- من يطيق لفحة من لهيبها؟!
- من يطيق لقمة من زقومها؟!
- من يطيق شربة من حميمها؟!
- من يطيق الحجاب عن ربه عز وجل، وهو أشد عذابها، فأي حسرة تقطع القلوب يوم أن يحجب المرء عن رؤية ربه الذي خلقه وسوّاه وعدله.
- ألكم أفئدة تقوى على هذا؟!
- ألكم أجساد على حرّ النار تقوى؟!
- لا والله ربنا ومولانا.
- إذاً، فأين الغافل عنها ليفيق ويعود؟!
- أين آكل الربا وقد وعد بها؟
- أين الزاني وقد وعد بها؟
- أين الظالم وقد وعد بها؟
- أين العاق وقد وعد بها؟
- أين الناسي لرعيته وقد وعد بها؟
- أين الراشي والمرتشي؟
- أين الكاسيات العاريات؟
- أين المستهزؤون بالدين وأهله؟
- أين كل عاصٍ ومعرض عن ذكر ربه عز وجل؟
- أليس له في تلك الدار ذكرى؟
- أليس له عبرة بأحوال من فيها؟!
- وأين هو من موقف عظيم؟
والجن والإنس والأملاك قد خشعوا
فيها السرائر والأخبار تطّلع
عما قليل وما تدري بم،ا تقع
أم الحميم فلا تبقي ولا تذر
إذا رجوا مخرجاً من غمّها قمعوا
هيهات لا رقة تغني ولا جزع
إذا النبيون والأشهاد قائمة
وطارت الصحف في الأيدي منشرة
فكيف سهوك والأنبياء واقعة
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له
تهوي بساكنها طوراً وترفعهم
طال البكاء فلم ينفع تضرعهم
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله:
وفي تلك الدار المظلمة، الشديد حرها، والبعيد قعرها، تتنزل رحمة الله تعالى، على أقوام فيها، فيخرجهم أرحم الراحمين سبحانه منها، إما بشفاعة، أو من غير شفاعة.
فحين يجوز المؤمنون الصراط وينجون من كلاليب جهنم، يناشدون الله عز وجل أشد المناشدة لإخوان لهم كان معهم إيمان ولكنهم جمعوا معه ما استوجبوا لأجله العذاب في النار.
يقولون في مناشدتهم: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً، ثم يقول سبحانه: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط إلا أن معهم أصل الإيمان قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حمل السيل، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه، ثم يقول لهم سبحانه: ادخلوا الجنة فما رأيتم فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم أبداً.
- فسبحانه ما أرحمه.
- وسبحانه ما أحلمه.
- وسبحانه ما أكرمه.
فيا عباد الله:
لله در ذلك العبد العارف حين ينظر إلى نفسه فلا يرى لها إلا العيب والنقص وما يوجب العذاب، فوجّه الوجه لباريه، وفوّض أمره إليه، وسعى في رضاه بقلبه ولسانه وجوارحه. وعلم يقيناً أنه لا غنى له عن رحمته، ولا غنى له عن فضله، ولا غنى له عن عفوه، فنادى:
مقر بالذي قد كان مني
لعفوك إن عفوت وحسن ظني
وأنت عليّ ذو فضل ومنّ
عضضت أناملي وقرعت سنّي
وأقطع طول عمري بالتمني
قلبت لأهلها ظهر المجنّ
لشرّ الخلق إن لم تعف عنّي
إلهي لا تعذبني فإني
فمالي حيلة إلا رجائي
وكم من زلة لي في الخطايا
إذا فكرت في ندمي عليها
أجن بزهرة الدنيا جنوناً
ولو أني صدقت الزهد عنها
يظن الناس بي خيراً وإني
(1/1425)
السيرة النبوية 13
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, غزوات
عبد الله الهذيل
الرياض
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة أصحاب الرجيع. 2- أصحاب بئر معونة. 3- تأثر النبي وأصحابه من هذه الغدرة.
4- محاولة اليهود قتل النبي. 5- إجلاء بني النضير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة إلى الله:
وعوداً إلى ما بدأناه من سلسلة في خير هدي، وأهدى حياة شهدت الأرض أخبارها، وأظلت السماء أحداثها، وحملت الأيام نقاءها وصفاءها، فلم تدر بطول زمن، ولم تنس ببعد عهد، فأي الكتاب المحفوظ تنطق بمعانيها، ليستبين الصراط الحق فتثبت عليه أقدام المؤمنين، وتحفظ من زلل في سُبلٍ كفاهم الله شرها، فله الفضل من قبل ومن بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة.
عوداً إلى ذلك الحديث المتتابع عن سيرة نبينا وحبيبنا وقرة عيوننا محمد بن عبد الله.
وقد مضى منه اثنتا عشرة حلقةً وقف بنا الحديث فيها عندما انتهت غزوة أحد، وما نزل بالمسلمين فيها من مصاب جعله الله تعالى عبرة تراجع فيها النفوس أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم.
وتمحيصاً يميز الطيب من الخبيث، والمجاهد من المخذ ّ ل، والمؤمن من المنافق، وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان الآية.
أيها الأحبة في الله:
بعد أن انقضت غزوة أحدٌ ظن أعداء الإسلام من اليهود والإعراب حول المدينة أن شوكة المسلمين قد ضعفت، وعودهم قد وهن، فأظهروا الجرأة في الخيانة والغدر، ورأوا أن أبواباً من الأمل قد انفتحت أمامهم في الإغارة على المدينة ونهب خيراتها.
وكان من ذلك أن قام علوجٌ منهم بتأليب القبائل حول المدينة للهجوم على المسلمين، كمحاولة بني أسد، ومحاولة خالد بن سفيان الهذلي.
فقد ظنوا أن المدينة ستسلم لهم مفاتحها، فما راعهم إلا وسرية من المسلمين ترد كيدهم، وتجعلهم شتاتاً، كل تشغله نفسه عما في يده عسى أن يعود إلى أهله سالماً.
ومما كان من غدر في أعقاب أحد ما وقع يوم الرجيع.
ففي شهر صفر من السنة الرابعة قدم على رسل الله وفد من عضل والقارة، وطلبوا من الرسول أن يرسل معهم إلى قومهم جمعاً من أصحابه يعلمونهم الدين، ويُقرؤونهم القرآن، فبعث معه عشرة من أصحابه، في رواية البخاري وفي قول ابن إسحاق أنهم ستة.
وجعل عليهم عاصم بن ثابت الأقلح أميراً فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع – وهو ماء لهذيل – استصرخوا عليهم حياً من هذيل وهم بنو لحيان، فتبعوهم وأحاطوا بهم، وكانوا قريباً من مائتي مقاتل، فلجأ الوفد إلى مكان مرتفع، فأعطى الأعراب الأمان للوفد إن نزلوا إليهم، فقال عاصم بن ثابت: (أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر)، فكان أصحابه معه على هذا، فقاتلوهم حتى قتل عاصم وستة من أصحابه، وبقي ثلاثة، فأعطوهم الأمان من جديد فقبلوا، فلما نزلوا ربطوهم وغدروا بهم، فقاومهم أحدهم فقتلوه، وبقي اثنان وهما خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنّة، فاقتادوهما إلى مكة، وباعوهما على قريش، فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي قتله خبيب يوم بدر.
فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا على قتله، استعار موسي (أي موس) من بعض بنات الحارث ليستحد به، فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس الصبي على فخذ خبيب، فخشيت المرأة أن يقتله انتقاماً، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، فكانت تقول ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله.
فخرجوا من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل.
ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع
ثم قتل وصُلب.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فلما خرجوا به من الحرم، اجتمع حوله رهط من قريش فيهم أبو سفيان، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً.
وبعثت قريش إلى عاصم لما علموا بقتله ليأتوا بشيء من جسده لأنه قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر. وكان عاصم قد دعا الله تعالى أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر - وهو الزنابير – فحمته من رسولهم فلم قدروا منه على شيء، ولم يستطيعوا أن يقطعوا من لحمه شيئاً.
ولما علم المسلمون بمصرع إخوانهم حزنوا لفقدانهم خيرةً من رجالهم.
وأحس المسلمون أن الأعراب بلغت مطامعهم أن يصطادوا الرجال غدراً وخيانة.
ولكن هل يعني ذلك أن تتوقف الدعوة ولا تبث في الورى؟!
لا، وكلا..
إن التضحيات في الدعوة إلى الله أمرٌ لابد منه، وسنةٌ مضى عليها الأنبياء وأتباعهم.
فلا تكون الأطماع المترامية في جنبات البوادي عائقاً دون نشر رسالة الخير، فلن تحجب من أنوارها إلا كقدر ما تحجبه كف الصبي من ضوء الشمس.
فما كانت أمثال هذه المواقف العصيبة التي عاشها المسلمون لتوهنهم عن رسالة ملأوا بها قلوبهم، وسخروا لها أيامهم ولياليهم، وسقوا تربتها بصافي دمائهم.
لذلك، أُرسل القراء قبل نجد في نفس الشهر الذي وقعت فيه مأساة الرجيع، ليعلم الغدر وأهله أن الوفاء الحق سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وإن حدثت الأيام بأمثال الرجيع وأشد، وهو ما وقع لأولئك القراء في بئر معونة.
وخلاصة تلك المأساة، أن جاء أبو براء عامر بن مالك المدعو (ملاعب الأسنة) فدعاه الرسول إلى الإسلام، فلم يُسلم ولم يبعد، ثم قال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك، لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال: أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه سبعين رجلاً من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم.
فسار القراء لإبلاغ دين الله، وما كانوا يدرون أنهم يحثون الخطا إلى مصارعهم في أرض انتشر الغادرون في فجاجها.
فساروا حتى بلغوا بئر معونة، فأرسلوا أحدهم – وهو حرام بن مليحان- إلى عامر بن الطفيل – وهو ابن أخ لأبي براء عامر بن مالك – وكان رأساً في الكفر، فأعطاه حرام، كتاب رسول الله إليه يدعوه إلى الإسلام، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً من أتباعه أن يغتال الرسول، فما شعر حرام إلا وطعنة غدرٍ تخترق ظهره، وتنفذ من صدره، فوقعت على غير كاره لها، بل كم تمنى أمثالها، فإنه ما إن وقعت موقعها منه إلا صاح وقال: (فزت ورب الكعبة)، (فزت ورب الكعبة).
هكذا الفوز حقاً.
ولا فوز المناصب ولا الملاعب، ولا المسارح.
(فزت ورب الكعبة).
ثم استنفر عدوا الله – عامر بن الطفيل – بني عامر لقتال الباقين فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء.
فاستنفر بني سُليم فأجابته عُصية ورعل وذكوان، فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله ، فدافع القراء عن أنفسهم حتى استشهدوا كلهم غير كعب بن زيد بن النجار فإنه ارتثّ من بين القتلى، فعاش حتى استشهد في الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري، والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين، فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر فقاتل المشركين حتى قتل، وأسر عمرو بن أمية، فلما أخبر عامر أنه من مضر جزّ ناصية، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
ولما رجع عمرو بن أمية لقي رجلين من بني كلاب، فقتلهما وهو يرى أنه قد أخذ ثأر أصحابه، وما شعر أن معهما عهد من رسول الله ، فأمر رسول الله بجمع ديتهما من المسلمين وحلفائهم من اليهود.
لقد تألم رسول الله لأصحابه في بئر معونة وقبلها في الرجيع أشد الألم، وظل يدعو ثلاثين صباحاً على رِعل، وذكوان، ولحيان، وعصية، ويقول: عصية عصت الله ورسوله، فأنزل الله تعالى على نبيه قرآناً يتلى حتى نسخ بعد (بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه).
فأي مطلب تطلبه النفس بعد هذا: أن يرضى الله تعالى عنها فلا يسخط عليها أبداً؟ّ!
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله:
لما ذهب النبي إلى منازل بني النضير ليفاوضهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية، أظهرا له الرضا بمعونته، فجلس إلى جنب جدار من بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا.
فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو ظهر هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، ويريحنا منه؟
مساكين، يحسبون أن الذي أرسله وأنزل عليه الكتاب سيتخلى عنه، وغابت عنهم معالم أليس الله بكاف عبده ومعاني: والله يعصمك من الناس.
فانبعث أشقاهم تستشرف نفسه أن يقال له: (قتل محمداً).
وجاء الوحي ليفضح مكيدتهم، فنهض رسول الله وخرج إلى المدينة، ولحقه أصحابه فأخبرهم الخبر.
ثم أرسل إلى بني النضير محمد بن مسلمة أن أخرجوا من المدينة ولا تساكنوني فيها، وقد أمهلتكم عشراً.
فلم يروا بداً من الخروج، فتجهزوا له، حتى أرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول أن اثبتوا ولا تخرجوا، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم.
فهنا أحس اليهود أنهم في منعة، فأرسل كبيرهم حيي بن أخطب إلى رسول الله : أنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك.
فلما بلغ النبي جواب حيي كبّر وكبر أصحابه، ثم نهض لمناجزة القوم، فالتجأ بنو النضير إلى حصونهم أقاموا عليهم يؤمون بالنبل والحجارة، فلا يقاتلون إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر.
وفرض عليهم النبي الحصار، واعتزلتهم قريظة، وخانهم عبد الله بن أبي، وحلفاؤهم من غطفان، فكان مثلهم كما أخبر الله تعالى: كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك.
ودام الحصار ست ليال، وقيل خمسة عشرة ليلة، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فاندحروا واستسلموا، فأرسلوا إلى النبي : نحن نخرج عن المدينة، فأنزلهم على أن يخرجوا عنها بنفوسهم وذراريهم، وأن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح. فنزلوا على ذلك، وخربوا بيوتهم بأيديهم، فترحّل أكثرهم إلى خيبر، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، وقبض رسول الله أرضهم وديارهم، فكانت خالصة لرسول الله يضعها حيث يشاء، ولم يخمسها لأن الله أفاءها عليه، فكانت تلك الغزوة غزوة بني النضير، وقد أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر.
أيها الأحبة في الله:
وقد كان بين المسلمين وكفار قريش في أحدٍ موعدٌ للقاء في بدر بعد سنة.
وهاهو الموعد يقترب، فهل تلاقى الجيشان في بدر مرة أخرى أم لا.
هذا ما سنبدأ به الحديث في الدرس الرابع عشر إن شاء الله تعالى.
(1/1426)
السيرة النبوية 20
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, غزوات
عبد الله الهذيل
الرياض
5/1/1419
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كراهية المنافقين لفتح مكة. 2- المسلمون يستعدون لغزوة تبوك. 3- المنافقون يتثاقلون عن
جيش العسرة. 4- أبو خثيمة يلحق بالمسلمين في تبوك. 5- الجيش الإسلامي في تبوك. 6-
العودة إلى المدينة. 7- المخلفين الثلاثة. 8- مسجد الضرار. 9- حج الصديق بالمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله:
ومع الدرس العشرين من دروس السيرة المباركة نواصل الحديث فيه مع الأحداث التي أعقبت فتح مكة.
أيها الناس:
عاد النبي إلى المدينة بعد أن توّج الله هامته بالفتح المبين، وانكسرت على يديه شوكة الوثنية، وتساقطت أمام ناظريه الأصنام التي طالما عُبدت ظلماً وزوراً.
عاد إلى المدينة فإذا هي تستقبله استقبال المحب لحبيبه فأضاءت لمقدمه أركانها وأرجاؤها واستبشرت به كل نفس مؤمنة تعيش في جنباتها.
بيد أن نفوساً فيها كانت تغلي عليه حقداً، وكم كانت على أمل أن لا يعود إليها وأن تكون العاقبة لقريش عليه.
تلك نفوس المنافقين التي لم تزل في ريبتها وخستها، رغم الفتوحات التي تشهدها، والآيات البينات التي تراها أجلى من الشمس في ضحاها. ولكن على قلوب أقفالها.
ولا تزال تلك القلوب مطوية على دخلها، تعيش الأمل في انكسار شوكة المسلمين، فلئن فات هذا مع قريش فإن هناك قوى أعتى وأقوى وأكثر عدداً وعُدّة، فعلقوا الآمال فيهم أن يضربوا الإسلام وأهله ضربةً واحدة تفرق الجمع وتشتت الشمل، تلك قوّة الرومان التي اغتروا بها.
ولكن هيهات أن تقرّ لهم عين، ويهدأ لهم بال ، فالإسلام ماض لن يقف شيء في وجهه وسيبلغ ما بلغ الليل والنهار، فلن تحجبه أفواج النصارى، ولا عدد اليهود، ولتبق الظنون الكاذبة في تلك القلوب المريضة، تكسر آمالها حقائق الأحداث التي تشهدها، وما ينطق به واقع التمكين لأهل الإيمان.
أيها الأحبة في الله:
إن فتح مكة كان غصة في حلوق المنافقين، وإزالةٌ لعقبة كؤود لطالما وقفت تصدّ عن سبيل الله، وتمنع أن يستجيبوا لداعي الله، تدافع باللسان والسنان عن معالم الوثنية وعادات الجاهلية، تريد من الأعين أن تبقى في عماها، ومن القلوب أن تبقى ضلالها.
فكان زوالها نشراً للهدى، وفكاً للعباد من قيود الجاهلية.
ولكن، هل زالت بزوالها جميع العقبات؟ كلا، فإن دين الإسلام ليس خاصاً لبقعة من بقاع الأرض، ولكنه دين شامل، ودعوة إلى أهل الأرض قاطبة، فلابد من حمله إلى مشارقها ومغاربها، ليخرج به العباد من رق الشرك والإلحاد، والهوى الشهوات إلى عز التوحيد وضياء الهدى.
وحين تقف أي عثرة دون ذلك فلا بد من إزالتها حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
أيها الأحبة في الله:
وكان من تلك العقبات نصارى الروم، الذين أرسل النبي رسله يدعوهم إلى دين الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، فما استجابوا لتلك الدعوة، وكان منهم من مزّق كتاب رسول الله استحقاراً له ولدينه.
ولقد ترامت الأنباء إلى المسلمين بتجهز الرومان ضدهم.
فكان لزاماً أن تواجه تلك العقبة وتزال عن طريق الدعوة المباركة.
ففي رجب من العام التاسع للهجرة عزم النبي على السير إلى الروم فيقاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وكان الوقت وقت حرّ وعسرة، فصرّح النبي للصحابة بوجهته هذه المرّة، إذ من عادته أنه قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها.
ولكن العسرة هنا شديدة فأعلن أنه يريد لقاء الروم ليتأهب الناس ويأخذوا العدة اللازمة.
وهنا تميّز الطيب من الخبيث، فأما المؤمنون فلم تثقل خطاهم شدة العسرة ولا شدة الحرّ، بل إنهم سارعوا في التجهز، وتسابقوا في الإنفاق، فقد حث النبي على الإنفاق في تجهيز ذلك الجيش، فسرّت الأيادي المؤمنة بما أعطاها الله تعالى من خير، وكان من أسبقهم في تجهيز الجيش عثمان بن عفان ، فقد أعطى ثم أعطى ثم أعطى حتى قال النبي فيه: ((ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وسارع المؤمنون في الإنفاق كل بحسبه، فكان منهم من يأتي بالصاع من التمر، ومنهم من يأتي بنصفه، فيُظهر المنافقون سخريتهم ويقولون: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى رداً عليهم: الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم.
ومن لم يجد شيئاً ينفقه تصدق على المسلمين بكل مظلمة كانت له عليهم.
وهكذا سارع المؤمنون في التجهز للمسير رغم شدة الحر والعسرة في وقت طابت فيه ثمار المدينة وامتد ظلالها.
فتجهز الجيش، فمن كانت عنده عدته جهزها، ومن كان لا يملك عُدة أتى النبي ليحمله، حتى إذا نفد ما عنده ، بقيت بقايا من المؤمنين تريد الخروج ولكن لا يملكون شيئاً، فاعتذر منهم فرجعوا تقطع الحسرة قلوبهم وتفجر العيون دموع الحزن على عدم الخروج مع النبي.
فلله ما أزكاها من نفوس، لم تجدها فرصة مواتية لتبقى في ظلال المدنية وتستطيب بثمارها، ولكن تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون.
أما المنافقون فجاؤوا إلى النبي أفواجاً يسطرون الأعذار الكاذبة ليؤذن لهم في القعود.
ومن أسخف الأعذار التي قدموها ما جاء به الجد بن قيس، حيث قال له النبي : ((هل لك في الخروج؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدّ عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر)).
فأعرض عنه النبي ، وأنزل الله تعالى فيه: ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين.
ولم يكتف أولئك المنافقون بتثاقل أنفسهم بل حاولوا تصدير ذلك لكل من أراد الخروج، فقالوا: لا تنفروا في الحرّ ، وعظموا جيوش الروم فقالوا: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.
وهكذا يُرجفون ويخذلون، ولكن هيهات أن يصرفوا القلوب المؤمنة عن مبتغاها.
أيها الأحبة في الله:
سار النبي إلى تبوك في جيش عدده ثلاثون ألفاً، ولم يتخلف عن رسول الله سوى المنافقين وبعض نفر من الصحابة ، وكان رسول الله يذكر له الرجل قد تخلف فيقول: ((إن يكن به خير فسيلحق بنا)).
وكان ممن تخلف عن الجيش في بادئ الأمر أبو خيثمة الأنصاري. فقد قال: تخلفت عن رسول الله ، فدخلت حائطاً فرأيت عريشاً قد رش بالماء، ورأيت زوجتي، فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول الله في السموم والحر، وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات فخرجت، فلما طلعت على العسكر فرآني الناس، قال النبي : ((كن أبا خيثمة، فجئت فدعا لي)).
سار الجيش وشدة الحرّ تكاد تقطع الرقاب، ويتناوب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد.
عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب : حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر : يا رسول الله، إن الله عوّدك في الدعاء خيراً فادع الله لنا؟ فقال: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع النبي يده إلى السماء فلم يرجعها حتى قالت السماء – أي أمطرت – فأطلت ثم سكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. [أورده ابن كثير في البداية وقال إسناده جيد].
وفي طريقه إلى تبوك مرّ بديار ثمود فقال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم ما أصابهم)).
فتأملوا واقع الناس اليوم ممن تعمد الذهاب إليها، والتقاط الصور فيها، فالله المستعان.
نزل في تبوك، فلم ير للرومان جمعاً يواجه جيش المسلمين، بل إنه قد دخل في عهده أهل "أيلة" و"أذرع" و"تيماء" و"دومة الجندل"، وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه.
وبقي في تبوك عشرين ليلة، فلما لم يكن هناك قتال وآثر الروم أن يبقوا قابعين مستكينين، آثر الرجوع إلى المدينة منصوراً موفوراً بعد أن دخلت في عهده قبائل تلك المنطقة.
فعاد ، وفي طريق العودة شكى إليه أصحابه ما أصاب إبلهم من الجهد، فدعا ربه فقال: ((اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف وعلى الرطب واليابس في البر والبحر)) فنشطت بهم حتى أبلغتهم المدينة ولم يشتكوها.
فقدم المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد، فنظر إليها نظرة المحب وقال: ((هذه طابة، وهذا أُحد جبل يحبنا ونحبه)).
ولما اقترب الجيش من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه، ولما دخل المدينة عمد إلى المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، وجاء المنافقون يعرضون أعذارهم الواهية بصور شتى، فقبل منهم واستغفر لهم وأوكل سرائرهم إلى الله تعالى.
وكان من المؤمنين ثلاثة قد تخلفوا من غير عذر وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وقصة توبتهم طويلة معروفة واختصارها: أنهم لم يلفقوا لتخلفهم أي عذر، فلم يرضوا أن يضيفوا إلى ذنب التخلف ذنب الكذب على رسول الله.
فأرجأ النبي أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم، وأمروا باعتزال نسائهم، وأمضوا على ذلك خمسين ليلة لا يكلمهم أحد من المسلمين، وحاول ملك الغساسنة استغلال الموقف فبعث كتاباً إلى كعب يدعوه إليه لإيوائه وإعزازه. فما كان من كعب إلا أن أحرق الكتاب، وقال: هذا أيضاً من البلاء.
فمرت عليهم الليالي والأيام أضيق من سم الخياط، حتى مضت خمسون ليلة، وأنزل من الله تعالى على رسوله توبتهم فقال سبحانه: وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم.
فبشر بها النبي كعب بن مالك وقال له: ((أبشر بخير يوم مرّ عليكم منذ ولدتك أمك)).
أيها الأحبة في الله:
ومن الأحداث المتعلقة بغزوة تبوك حادثة مسجد الضرار الذي بناه المنافقون إضراراً للمؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فجاؤوا إلى النبي قبل مخرجه إلى تبوك يسألونه أن يصلي لهم في ذلك المسجد ليأخذوا الشرعية له، وذكروا له أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة والليلة الشاتية.
فاعتذر لهم بسفره إلى تبوك، ووعدهم الصلاة بعد العودة منها.
وفي عودته من تبوك، وقبل وصوله المدينة بيوم أو يومين نزل عليه جبريل عليه السلام بخبر المسجد فأرسل إليه من هدمه.
أيها الأحبة في الله:
تلك غزوة تبوك قد أبانت أن النفوس المؤمنة لا تثقلها عن نداء ربها أنواع الشدائد والصعاب إذ تلين صلابتها قوة الإيمان التي هي ملء الفؤاد واللسان والجوارح.
أما مرضى القلوب فقد تفتقت نفوسهم بالنتن الذي يملأها.
وجاءت سورة براءة تتحدث بطولها عن تلك الغزوة وعن الفضائح التي انطوت عليها خسة تلك النفوس المنافقة.
فاقرأوها وتدبروها توقنوا الأمر جلياً، واقرأوا فيها: وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم.
أيها الأحبة في الله:
رجع النبي إلى المدينة في رمضان مع العام التاسع، ولم يلبث طويلاً حتى بدأت تتوافد عليه وفود القبائل من أنحاء الجزيرة العربية معلنة دخولها في الإسلام، وسمي ذلك العام بعام الوفود.
ونظراً لانشغال النبي بتلك الوفود فقد أمّر على الحج في ذلك العام أبا بكر الصديق ، ثم أرسل على أمره علي بن أبي طالب ليتلو على الناس صدر سورة براءة، ولينادي بهم ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1427)
السيرة النبوية 21
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الله الهذيل
الرياض
12/1/1419
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عام الوفود. 2- أمارات قرب رحيل النبي. 3- حجة الوداع. 4- خطبة غدير خُم. 5-
النبي صلى الله عليه وسلم يودع أصحابه ويحدثهم باقتراب أجله. 6- مرض النبي. 7- وفاة
النبي ووصاياه في الاحتضار. 8- حزن الصحابة على مفارقة النبي. 9- القدوة والتأسي
بالنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله:
وهذا هو الدرس الحادي والعشرون في سلسلة السيرة المباركة، نتدارس فيه مسك الختام لتلك الحياة الطيبة التي قضاها نبينا بعد دعوة وجهاد سخر لهما أيامه ولياليه.
أيها الأحبة في الله:
بعد أن رجع النبي من تبوك في رمضان من العام التاسع للهجرة، وقد دانت له الجزيرة، بدأت تتوافد عليه القبائل تترا، كل قبيلة يقدمها أشياخها يعلنون الدخول في دين الله تعالى، فكان في ذلك العام يستقبل الوفد بعد الوفد حتى سمي عام الوفود.
ولانشغاله بتلك الوفود أمر على الحج في ذلك العام – العام التاسع – أبا بكر الصديق.
ثم دخل العام العاشر، والوفود تترا عليه. فأقرّ الله تعالى عينه بتلك الجموح الجمعاء وهي تدخل في دين الله، طارحةً كل معبود سواه، بعد أن كانت الجزيرة تغصُّ بالأصنام والأوثان.
وهنا جاء النعي إلى النبي في نفسه بعد أن بلغ ما أرسل إليه من ربه، ودخل الناس في دين الله أفواجاً إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.
وكانت أمارات قرب الرحيل قد تكاثرت في تلك السنة.
ففي رمضانها عرض عليه جبريل القرآن مرتين بعد أن كان يعرضه عليه مرة واحدة.
وفي تلك السنة بعث معاذاً إلى اليمن فخرج معه يودّعه، ومعاذ راكب، وهو يمشي تحت راحلته يوصيه، فلما فرغ قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري)).
فبكى معاذ خشعاً لفراق النبي ، ثم التفت النبي إلى المدينة وقال: ((إن أولى الناس بي المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) [رواه الإمام أحمد].
أيها الأحبة في الله:
وفي آخر تلك السنة العاشرة أذّن في الناس بالحج، فقدم المدينة بشرٌ كل يلتمس الاقتداء بالنبي.
فأحرم من ذي الحليفة، ثم ركب القصواء، والناس بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله مدّ البصر، فأهلّ بالتوحيد ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
حتى إذا أتى البيت طاف وسعى، ثم أتم مناسكه في أيام الحج، وهو يقول للناس: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
وخطب الناس في عرفة خطبة عظيمة بيّن فيها أصول الإسلام، وأوصى فيها بالحقوق، وأسقط فيها عادات الجاهلية.
وأنزل عليه في ذلك اليوم قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
وبعد أن قضى مناسكه وطاف بالبيت الوداع، وقفل راجعاً إلى المدينة، وفي طريقه وقف بماء يدعى غدير خم، فقام في الناس خطيباً، فحمد الله وأنثى عليه ثم قال: ((أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) ثم قال: ((وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) [رواه مسلم].
ولما رجع إلى المدينة بدأ في تجهيز جيش ليُسيِّره إلى الشام، وأمّر عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
ولما سمع أن أناساً طعنوا في إمرة أسامة، قال على المنبر: ((إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لها لخليقاً – يعني زيداً –، وأيم الله إن كان لأحب الناس إلي، وأيم الله إن هذا لها خليق – يعني أسامة – وأيم الله إن كان لأحبّهم إليّ من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم)) [متفق عليه].
وكان الجيش توقف عن المسير لاشتداد المرض برسول الله ثم وفاته بعد ذلك.
فكان من أول أعمال أبي بكر لما بويع بالخلافة إنفاذ جيش أسامة.
أيها الأحبة في الله:
وفي أواخر شهر صفر من السنة الحادية عشرة، وفي جوف الليل بعث النبي مولاه أبا مويهبة فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أُمرت أن أستغفر لأهل ذا البقيع فانطلق معي)).
قال: فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنيء لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرُها أوّلها، الآخرة شر من الأولى. ثم أقبل عليّ وقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)).
قال: فقلت بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فقال: ((لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة)) ثم أستغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسل الله وجعُه الذي قبضه الله فيه. [أخرجه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
ثم إنه صلى على شهداء أحد كالمودّع للأحياء والأموات.
فعن عقبة بن عامر الجهني : أن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات.
ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط – أي سابق – وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) [متفق عليه].
وبدأ بالنبي وجعه فدخل على عائشة وهي تشكو صداعاً وتقول: وارأساه، فقال : ((بل أنا والله يا عائشة وارأساه)) ، قالت: ثم قال: ((وما ضرك لو متِّ قبلي، فقمت عليك وكفنتك، وصليت عليك ودفنتك)) فقالت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم.
وحدّث أصحابه بقرب أجله فلم يفقه ذلك إلا أبا بكر.
فعن أبي سعيد قال: خطب النبي فقال: ((إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) فبكى أبو بكر ، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ، إن يكن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله؟ فكان رسول الله هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، ثم قال : ((يا أبا بكر لا تبك، إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقيّن في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر)) [متفق عليه].
وكان يدور على نسائه، فشق ذلك عليه لاشتداد المرض، فجعل يسألهن: ((أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟)) ففهمن مراده، فأذنّ له أن يكون حيث شاء.
فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعليّ بن أبي طالب عاصباً رأسه، تخط قدماه في الأرض حتى دخل بيت عائشة.
وكان يوعك وعكاً شديداً، حتى قال ابن مسعود دخلت على رسول الله وهو يوعك، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: ((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)).
وكان يشكو من أثر السم الذي أصابه من شاة اليهودية يوم خيبر، فقد قال لعائشة: ((يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهري من ذلك السم)) [متفق عليه].
وقبل وفاته بأيام، اشتد به الوجع فأغمي عليه، ثم قال: ((هريقوا عليّ من سبع قِرب لم تُحلل أو كيتهن لعلي أعهد إلى الناس)) ، فأجلسنه نساؤه في مِخضب كان لحفصة، ثم طفقن يصببن عليه الماء حتى أشار بيده أن قد فعلتن.
ثم خرج إلى الناس معصوب الرأس، ونعى إليهم نفسه كما سبق، ففقه ذلك أبو بكر.
ثم.. استغفر لشهداء أحد.
ثم أوصى بالأنصار خيراً فقال: ((إن الناس يكثرون ويقل الأنصار، حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئاً يضر فيه قوماً وينفع آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم)) فكان ذلك آخر مجلس جلس فيه النبي.
وكان آخر ما صلى بالناس صلاة المغرب وقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
ولما جاء وقت صلاة العشاء ثقل واشتد به الوجع، فقال: أصلى الناس؟ قيل: لا هم ينتظرونك، فقال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب)) ، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: ((أصلى الناس؟)) قيل: لا هم ينتظرونك، يا رسول الله، فقال: ((ضعوا لي ماءً في المخضب فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس، قيل: لا هم ينتظرونك يا رسول الله، وهكذا كلما ذهب لينوء أغمي عليه ، فقال: بعد ذلك: مروا أبا بكر فليصل بالناس)) ، فراجعته عائشة في ذلك، فأبى إلا أبا بكر، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
ثم إنه وجد في نفسه خفه، فخرج وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا يتأخر، فصار الصديق يصلي بصلاة رسول الله ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
ثم رجع إلى بيت عائشة ونساؤه مجتمعات عنده، فدخلت عليه ابنته فاطمة رضي الله عنها، لا تخطيء مشيتها مشية أبيها، فسارها بحضور أجله، وأنها أول أهله لحوقاً به، فبكت، ثم سارها بأنها سيدة نساء هذه الأمة فضحكت.
وفي يوم الاثنين الذي قبض فيه، والمسلمون في صلاة الفجر، لم يفجأهم إلا ورسول الله قد كشف ستر الحجرة، فنظر إليهم ووجهه يتلألأ نوراً وضياءً، ثم تبسم ضاحكاً، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، يظنون أن النبي قد شفي، وأنه سيعود ليصلي بهم، ويسيّرهم في الغزوات، ويتلو بينهم أي الكتاب.
وما دروا أنها نظرت الفراق والوداع.
نظرات المحب لأحبابه، والصاحب لأصحابه.
وما دروا أنها النظرة الأخيرة في هذه الحياة بعد صحبته تلك السنين.
فأشار إليهم أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر.
وبدأ الوجع يراجعه اشتداده حتى ارتفع الضحى، واشتدت عليه حماه، ورأت ابنته فاطمة ما يتغشاه، فقالت: واكرب أبتاه، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)).
وبدأ الاحتضار وقد عانى من سكرات الموت ما عانى، حتى أنه يدخل يده في الإناء ويصب الماء على وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)).
وكان من آخر وصاياه في التحذير من اتخاذ القبور مساجد.
وكذلك قوله: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)).
وبدأ به الاحتضار ، فسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)) ثم نصب يده فجعل يقول: ((في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى)).
قالت عائشة: فعرفت أنه لا يختارنا، ثم قبض ومالت يده.
وهنا وقع الفراق في هذه الدنيا، واشتد الأمر على الأصحاب، وكان حالهم كمن قال:
وكنت أرى كالموت من بين ساعة فكيف ببين كان موعده الحشر
فظهر خبر وفاته، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها.
وجعلت فاطمة رضي الله عنها تقول: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه، يا أبتاه في جنة الفردوس مآواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
وعظم الخطب على المسلمين، والناس بين مصدق ومكذب، وعمر يهدد كل من يقول: إن الرسول قد مات.
حتى جاء أبو بكر ، ودخل على النبي ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتّها.
ثم خرج وخطب في الناس فقال: أيها الناس فمن كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان من كم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.
وكأن الناس لم يسمعوا بالآية إلا يوم أن تلاها أبو بكر.
ثم غسل يوم الثلاثاء، ودفن ليلة الأربعاء.
تقول عائشة رضي الله عنها: ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف ليلة الأربعاء.
عليه وقد غارت بذلك أسعد
وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
رزية يوم مات فيه محمد
وقد كان ذا نور يغور وينجد
دليل به نهج الطريقة يقصد
حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
إلى نورهم سهم من الموت يقصد
يبكيه حق المرسلات ويحمد
لغيبة من كانت من الوحي تعهد
تهيل عليه الترب أيدٍ وأعينٌ
وراحوا بحزن ليس فيه نبيهم
يبكون من تبكي السموات يومه
وهل عدلت يوماً رزية هالك
تقطع فيه منزل الوحي عنهم
فبيناهم في نعمة الله بينهم
عزيز عليه أن يجورا عن الهدى
فبيناهم في ذلك النور إذ غدا
فاصبح محمود إلى الله راجعاً
وأمست بلاد الحرم وحشاً بقاعها
أيها الأحبة في الله:
لقد مات رسول الله ولكن دعوته لم تمت، هذه هي بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
لم تصل إلينا بطول السباب، ولا بكسل النفوس.
ولكنه جهاد يتبعه جهاد، ودعوة تسخر لها الليالي والأيام.
فما أغفل النفوس حين تعرض عن هديها صفحاً، وتقابل أمرها بالمخالفة الظاهرة.
اللهم إنا نشهدك أن نبينا قد بلغ الرسالة..
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله:
هذه وقفات ودروس مع أصدق سيرة، أعز طريقة، تنقلنا في جنباتها، وعشنا في آفاقها، ونحن على يقين لا يعتريه شك أنا لم نوفها عشر معشارها، ولا أدنى من ذلك.
ولكنها إشارات نتواصل بعدها مع معين معانيها العذاب، لتنهل طيب حياة لا يعكر صفوها شوائب الكدر، ونمضي في طريق تطهر من كل عثرة تعيق السالك فيه.
أيها الأحبة في الله:
تلك سيرة نبينا ناطقة بخير أسوة يتبع سبيلها، وأصدق قدوة يقتفى أثرها، كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
فتلك الأسوة التي لا يضل من كان وراءها ملء الفؤاد واللسان والجوارح تصديقاً للخبر واتباعاً للأثر.
وما أعمى الأعين حين تغيب عنها مصالحها، وما أصمّ الآذان حين لا تصغي لدعائها، وما أقسى القلوب وأضلّها حين تغفل عن معانيها.
وما عانت الأمة شقوة الذل، وما تجرعت مرارات الهوان إلا يوم أن غابت عنها معالم الرسالة، وغشيتها سحب الباطل تحجب عنها أنوارها، فذهبت تلتمس رقياً موهوماً، وحضارة مزعومة بتبعية بعد غورها، ممتدة الأسماع والأنظار إلى مواطن ما رفعت بالتوحيد رأساً، ولا طهرت بالاتباع نفساً، ولكن صوت الخنا يدوي في أرجائها ونار الكفر تشتعل في نواصيها، فعادت خلو اليدين من أصدق المعاني وأصفاها، ملأى بلهب العار والعوار.
فيا حسرة على العباد حين يشرون الضلالة بالهدى، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أيها الأحبة في الله:
إن الأجيال المتعاقبة في شرق الأرض وغربها تموج بها أعاصير الفتن، وترمي عليها بسواد ليلها.
ولا خلاص من مغبتها وسوء عاقبتها إلا بأن تنشأ تلك الأجيال في أقوم سبيل، وتتربى على كريم الأقوال والأفعال، بعيداً عن سبل الغواية ومواطن الردى.
وإن هذا لا يكون إلا حين تقام معالم الأسوة الحسنة لتحث الخطا في هداها، وتلهج الألسنة بذكراها.
- وهل ترون في الخلق أحسن أسوة من محمد.
- وهل ترون في الخلق أصدق قولاً من محمد.
- وهل ترون في الخلق أكرم فعلاً من محمد.
- وهل ترون في الخلق أرقى خلقاً، وأعز نفساً، وأجمل سيرة، وأنقى سريرة، وأهدى طريقة، وأشرف مجداً، وأرأف قلباً، وأندى راحة، وأسد رأياً، وأحلم فؤاداً، وأعظم ناصحاً من محمد.
زانتك في الخلق العظيم شمائل يُغرى بهن ويولع الكرماء
أما الجمال فأنت شمس سمائه وملاحة الصديق أنت أياء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الكرماء
وإذا عفوت فقادرٌ ومقدّرٌ لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا رضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضى الكثير تحلّمٌ ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزّة تعرو النديّ وللقلوب بكاء
أيها الأحبة في الله:
هذا ما يسّره الله تعالى من تسطير هذه السيرة المباركة في تلك السلسلة التي قضيناها فما كان فيها من صواب فمن الله وحده فله الفضل من قبل ومن بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة.
وما كان فيها من خطأ أو زلل فمني، ومن الشيطان، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه.
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل ما تدارسناه فيها حجة لنا لا علينا، شاهداً لنا لا علينا، وأن يرزقنا صدق الاتباع لنبيه، وأن يحشرنا في زمرته ويوردنا حوضه، إنه سميع قريب. والحمد لله رب العالمين.
(1/1428)
دروس من السيرة 3
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الله الهذيل
الرياض
23/6/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جهر النبي بالدعوة أذى قريش له. 2- عداء قريش للدعوة رغم يقينها بصدقها. 3- التوحيد
أصل رسالة الإسلام. 4- اجتماع قريش على العداء بهذا الدين. 5- إلغاء التهم جزافاً على
دعوة النبي. 6- إسلام ضماد الأزدي. 7- انتشار الإسلام في مكة وخارجها. 8- إيذاء كفار
قريش للمستضعفين في مكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله:
ومع الدرس الثالث من دروس سيرة نبينا نبدأ بذكر الأمر الإلهي للنبي أن ينذر عشيرته، ويعلن الدعوة التي أرسل بها.
روى الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: وأنذر عشيرتك الأقربين خرج رسول الله حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا له، فقال: ((أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)).
قال أبو لهب: تباً لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فأنزل الله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب.
وهنا، ظهر لقريش ما كانت تتوجس منه، وتتابع خبره بين التفات وإعراض، وقلوبها بين قبض وبسط.
فقد جاءهم النذير الذي يريد أن يأخذ بأيديهم إلى عزهم ونجاتهم وسعادتهم في داريهم، ويخرجهم من ظلمات الجهل التي لفّت قلوبهم، وأعمت أبصارهم، إلى نور الإيمان والهدى، لا يريد منهم على ذلك جزاءً ولا شكوراً.
ولكن القلوب المريضة يطغى عليها الاطمئنان إلى عِللها فترضى بها فترى الحق باطلاً، والنور ظلمةً، وكما قيل:
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريض يذق مراً به الماء الزلالا
إن قريش يوم أن اجتمعت للنبي ، اجتمعوا بلسانٍ واحدٍ أنهم لم يجربوا عليه كذبة واحدة طوال الأربعين سنة التي عاشها بين أظهرهم، ولكن سرعان ما نقضوا ذلك حين صدع لهم بأجلى قضية، وأوضح أمرٍ، فقابلوه بالسخرية والاستهزاء، تصدّر ذلك رجلٌ من أقرب الناس إليه، وهو عمه أبو لهب.
وحين يأتي الأذى من قريب أو صديق، فإنه لأشد وقعاً، وأعظم ألماً.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
بدأت تلك السخرية لتعقبها سلسلة من السخريات وأنواع الأذى، ولكن ما كان ذلك ليصدّ النبي عن دعوته وسيره في نشرها، ومصابرته على ما يلقاه من أجلها، ولقد كان الأمر يأتيه من ربه عز وجل: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون.
إن المشركين قد عرفوا أن دعوة الحق قد صدعت في آذانهم، ولكن ماذا عسى أن يفعوا بالأصنام التي امتلأت قلوبهم لها حباً، ودين الآباء الذين طالما فاخروا بمآثرهم.
وماذا عليهم لو تركوا الجهالة والضلالة والعمى؟! وآمنوا بالله واليوم الآخر.
ولكن قلوبهم التي امتلأت كبراً وجحوداً، وحقداً وحسداً أبت عليهم ذلك، فواجهوا دعوة الحق وكذبوها، ونالوا منها ومن أهلها.
وفي ذلك يقول الله تعالى: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
وقد ذُكر أن أبا جهل قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه.
فانظروا إلى الدوافع التي تتحكم في قلوبهم وتتصرف في حياتهم، كيف حرمتهم أشدّ الحرمان وأخذت بهم إلى ما لم يبلغوا به مناهم في الدنيا، وما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة.
أيها الأحبة في الله:
صدع النبي برسالة ربه عز وجل، وأبان التوحيد الخالص وحذّر من الشرك، وصدع بأن الأصنام لا تضر ولا تنفع، وأن عبادتها جهل وسفه وضلال.
ومن هنا، فالتوحيد وتأصيله، والتحذير من الشرك وأهله، هو مبدأ الدعوة الحق التي جاء بها الأنبياء والمرسلون اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، وما أرسلنا من قبلكم من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.
فعلى كل داعية أن يستصحب هذا الأصل معه، وليعلم أن ذلك هو البصيرة التي عليها أتباع النبي : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين.
أيها الأحبة في الله:
رغم التفاخر الذي كان بين المشركين بعضهم على بعض، والتنازع على الرئاسة والزعامة، والعصبية التي تثير القتال منها شرارة، إلا أنه اجتمعت كلمتهم على إيذاء رسول الله إلا القليل القليل منهم.
فأظهروا العداوة والأذى لكل من يتبع هذه الدعوة الجديدة.
وتفننوا في ذلك، يحسبون أنهم سيملكون الأفئدة ويعيدون النفوس إلى ظلمتها بعد أن استبصرت الطريق، ليجعلوها كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا.
ولكن ما راعهم، إلا والمسلمون يزيدون يوماً بعد يوم.
ففي حين يفقد دين الوثنية كل يوم عضواً من أعضائه، يبقى أتباع الدين الحق رابطي الجأش، ثابتي القلب والقدم، يجمعون حلاوة الإيمان إلى مرارة الأذى، فتغلب حلاوة الإيمان وتعلو فيصبح ذلك الأذى لذاذة تملأ الفؤاد، وذلك العذاب عذباً فراتاً يؤوي العروق، بمعاني الحياة الحقة. وكما قيل:
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني لما تحب أحب
أيها الأحبة في الله:
ملأت دعوة النبي كل أذن، وتحدث بها كل بيت، فضاق المشركون بذلك ذرعاً، وخافوا أن تتسع دائرتها إلى من حول مكة من القرى، ففي موسم الحج تقدم وفود العرب، فرأوا أن لابد من كلمة يقولونها في شأن محمد حتى لا يكون لدعوته آثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً، قالوا: فأنت فقل، قال: بل أنتم فقولوا: أسمع، قالوا: القول: كاهن فقال: لا والله، ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخنقه، ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهجزه، وقرضه، ومقبوضه ومبسوطه، قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول منه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.
وفي رواية أن الوليد فكّر قليلاً، ثم خرج بذلك الرأي. فأنزل الله تعالى فيه: إنه فكر وقدر فقتل كيف قدّر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر إن هذا إلا قول البشر.
وعلى الرغم من هذا الصد عن سبيل الله، والتشويه للنبي ودعوته، إلا أن دعوته أجلى وأجمل من أن تشوّه بتلك الدعايات المضللة، وكما قيل:
ما ضرّ نهر الفرات يوماً أن خاض بعض الكلاب فيه
فكانت كلماته تفتح قلوباً طالما غلبت عليها شقوتها، وتغير أبصاراً طالما حجبتها ظلمتها.
فقد جاءت الوفود في الموسم، فلم يألُ المشركون جهداً أن يحذروا كل من يمرّ عليهم من الرسول وما يدعوا إليه.
ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره، ويشرح صدوراً من عباده إلى تلك الدعوة المباركة.
فكان ممن قدم إلى مكة ضماد الأزدي سمع من النبي فأسلم على يديه.
روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ضماداً قدم مكة – وكان من أزدِ شنُوءة – وكان يرقي من هذه الريح – أي الجنون ومس الجن – فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي عليّ من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله : ((إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد)) قال: فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ثلاث مرات.
قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة قول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغْن ناعوس البحر – وفي رواية قاموس – [أي وسطه ولجته]. قال: فقال: ((هات يدك أبايعك على الإسلام)) قال: فبايعه. فقال رسول الله : ((وعلى قومك)) ، قال: وعلى قومي.
قال: فبعث رسول الله سريّة – أي بعد الهجرة –، فمرّوا بقومه، فقال صاحب السريّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مِطهرة، فقال: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد.
وكان ممن قدم على النبي وأسلم أبو ذر الغفاري ، ولإسلامه قصة طويلة مخرجة في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس.
فبعد أن أسلم أبو ذر عند رسول الله رجع إلى قومه غفار، فأسلم نصفهم، وأسلم النصف بعد هجرة النبي إلى المدينة.
وكان ممن أسلم الطفيل بن عمرو الدوسي فرجع إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام فوجد منهم صدوداً، فرجع إلى النبي يشكوهم، ويطلب منه أن يدعوا عليهم، ولكن النبي قال: ((اللهم اهدهم، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم)) فرجع ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام، وفي عام خيبر وفد على رسول الله بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس.
أيها الأحبة في الله:
وبدأ الإسلام يدخل القلوب يوماً بعد يوم، والمشركون يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن يبغونها عوجاً. ولكن يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله مُتمّ نوره ولو كره الكافرين هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله:
ولم تقف قريش عند تحذير الناس من تلك الدعوة الجديدة، بل حملت على عاتقها إيذاء كل من يسلك سبيلها بالقول والفعل.
أظهرت ذلك من يوم أن صدعت دعوة الحق في آذانها، فشنعت القول على النبي ، وكادت الأذى له، ما يوقفهم عن التمادي في ذلك إلا مناصرة عمه أبي طالب له، فقد كان ذا كلمة وسيادة في قريش، وكان مناصراً للنبي مدافعاً عنه، إلا أنه عزّ على نفسه أن يترك دين عبد المطلب، فكان بتلك المناصرة أخف أهل النار عذاباً.
وتفنن المشركون في إيذاء أصحاب النبي.
روى الإمام أحمد من حديث ابن مسعود قال: (أول من أظهر إسلامه سبعة، رسول الله ، أبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم، على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد).
هكذا عذبوهم يوم أن رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيناً ورسولاً.
وبهذا قابلوهم، في سلسلة متنوعة من الأذى، نقف عندها في الدرس الرابع إن شاء الله تعالى.
(1/1429)
أهمية العلماء للأمة
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
مصطفى بن سعيد إيتيم
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم والعلماء. 2- ضلال من خرج عن هدي العلماء. 3- الذكر الحسن للعلماء. 4- رفع العلم من أمارات الساعة. 5- المصيبة بفقد العلماء. 6- شيء من أوصاف الشيخ ابن عثيمين. 7- دروس وعبر من وفاة الشيخ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاعلموا أيها المسلمون أن منزلة العلم النافع غالية، ودرجة أهله عند الله عالية يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة:11]. ومن يرفع الله فلا خافض له من بعده.
فالعلماء العاملون نجوم يهتدي بها الإنسان، يهتدي بها إلى شاطئ النجاة ومستقر الأمان، ولذا أشهدهم الله تعالى على نفسه، وعطفهم على ملائكة قدسه، ونصبهم حجّة على جنه وإنسه، فقال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم [آل عمران:18].
فالعلماء الربانيون هم شهداء الله المرضيون، أشهدهم على أعظم مشهود: عبادة الله وتوحيده، ومعرفته وتمجيده.
العلماء المخلصون من ولاة الأمر الذين أمر الله تعالى بإطاعتهم، وحذر النبي من إضاعتهم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء:59]. فمن اقتدى بهم اهتدى، ومن ضل عنهم اعتلّ وزلّ.
ولكم أيها المسلمون العبر العظيمة والعظات البليغة فيمن تنكب طريقهم، وترك سبيلهم، والعاقل من وعظته الشهور والأيام، وعلمته الدهور والأعوام.
وانظروا أيها المسلمون حال الأمة اليوم لما خرجت عن هدي علمائها، وجعلت نجومها أحفاد القردة والخنازير، وصارت مراكز النفوذ والقوة فيها لأذناب القردة والخنازير، انظروا كيف تردّت فانتشرت فيها المنكرات، وأنكر فيها المعروف، واتهم الدين وأهله، وحُورب فيها الإسلام باسم الإسلام، وضيّعت حدود الله وأحكامه، ونخر اليهود والنصارى والمنافقون في جسم الأمة نخراً، ثم أغاروا عليها بخيول الإعلام الهدام، وسلاح العولمة الفتاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون: العلماء الأجلاء هم ورثة الأنبياء، ورثوا أعظم إرث من أعظم موروث، قال الصادق المصدوق : ((العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)) [1].
العلماء المعلمون، العلماء الدعاة إلى الله، العلماء الربانيون هم خير الناس، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) [2].
إن الناس يشتركون في الموت على حدّ سواء، لكن بينهم في الذكر كما بين الأرض والسماء، وللعلماء الربانيين بعد وفاتهم أحسن الذكر وأطيبه، إننا نذكرهم أكثر من ذكر الآباء والأجداد، نذكرهم فنترحم عليهم وندعو لهم، وما ذلك إلا لما حملوه من الفضل وخلّفوه من العلم؛ قال المصطفى : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [3] هم في حياتهم عند أهل الجهل أموات، وبعد وفاتهم عند أهل العلم أحياء.
العلماء الربانيون فضائلهم كثيرة، ومحاسنهم جمّة غفيرة، هم صمام الأمان، ومركب النجاة، هم أساس الأمة وأعمدة المجتمع، هم السيف الصقيل على أهل الأهواء والبدع، وأهل الكفر والطغيان.
ما أحسن أثرهم في الناس وهم عنهم أغنياء، وما أسوأ أثر الناس فيهم وهم إليهم فقراء.
فلله درّهم، وعليه أجرهم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
[2] أخرجه البخاري (5027 ، 5028) ، وأصحاب السنن من حديث عثمان.
[3] أخرجه مسلم (1631) ، والبخاري في الأدب المفرد (38) وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على ما قضى وقدّر، والشكر له على ما حكم ودبّر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في التقدير والتدبير، فالكل له قانتون، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، البشير النذير قال له ربه: إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر:30]. صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: إن من أمارات الساعة أن يرفع العلم، ويفشو الجهل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وما رفْعُ العلم بانتزاعه من صدور أهله، وإنما بموتهم، قال : ((إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعاً من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) [1] ، وقال عبد الله بن مسعود : "عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله" [2].
وإن من عرف للعلماء مبلغ قدرهم أدرك عظم المصيبة بفقدهم.
قال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة – أي صدع – في الإسلام لا يسدّها شيء ما طرد الليل والنهار" [3].
ولقد نقص من أطراف الأرض بالأمس قدرٌ كبير، ودُفن ببلد الله الحرام علمٌ كثير، فقد توفي الشيخ الفاضل، والعلامة العامل، ثالثة الأثافي الشيخ محمد الصالح العثيمين بعد مرض طويل كتب الله له به الشهادة – إن شاء الله – كما كان يتمناها، ويحدث نفسه بها، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
إن الشيخ ابن عثيمين علمٌ من أعلام هذه الأمة، آتاه الله علماً غزيراً، وفهماً سليماً، وفقهاً دقيقاً، ونظراً سديداً، وقف حياته للتربية والتعليم، والدعوة إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، دعا إلى الكتاب والسنة وحارب البدع، وحذر من التقليد الأعمى والتعصب المشين، كانت كلماته على أهل الباطل وأعداء الدين جنوداً مجندة، وردوده على أهل الأهواء والبدع سيوفاً مهندة، نصر الله به الدين، وأقام به السنة، جمع بين العلم والحلم، والرحمة والحزم، قاد المعارك من بيته، وشارك المجاهدين بنيته الصادقة وعزمه، عمل على جمع كلمة المسلمين ولمّ شملهم، ونبذ الخلافات التي بينهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة.
هو شيخ الشباب لعنايته بهم ورعايته لهم، وشاب الشيوخ لقوته فيهم ونشاطه بينهم، أحبه الموافق والمخالف؛ أحبه الموافق لعلمه وفضله، وأحبه المخالف لنصحه وعدله.
فرحم الله الشيخ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأفسح مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وآجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.
أيها المسلمون: إن لنا في هذا الحدث الجلل وقفات ووقفات:
• فهو تذكير لنا بالموت الذي لا مفرّ منه، مات الأنبياء ومات الصالحون، ومات الأولياء ومات العالمون، فاستعد أخي المسلم للموت، استعدّ له بفعل الطاعات، وترك المنكرات، والتوبة النصوح. استعدّ له فإنه يدخل بلا استئذان، وإذا دخل أنجز وأجهز، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [الأعراف:34].
• وهو حث لنا على طلب العلم، وعلى مبادرة أهله قبل رحيلهم وفقدهم، فالبدار البدار إلى مجاثاة العلماء بالركب، والجد الجد في طلب العلم. قال أبو الدرداء – -: "تعلموا العلم قبل أن يقبض العلم، وقبضه أن يُذهب بأصحابه" [4]. وقال كعب – رحمه الله -: "عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه أن تذهب رواته" [5].
• وهو تنبيه لنا على أهمية العلماء وفضلهم، ومكانتهم في الأمة؛ فإن أمة بلا علماء كجسد بلا روح، ومركب بلا شراع؛ أمة بلا علماء كجيش بلا قائد، ومقاتل بلا سلاح. فاعرفوا أيها المسلمون للعلماء قدرهم، وأدوا حقهم، وإياكم من منابذتهم أو إساءة الظن بهم، فإن ذلك باب الهلاك وعتبة الخسران، والعياذ بالله. عليكم باتباعهم واحترامهم، اتباعهم من غير تقليد، واحترامهم من غير تقديس.
• وهو تذكير لنا أن الأمر لله من قبل ومن بعد، فالأمر أمره، والخلق خلقه ألا له الخلق والأمر [الأعراف:54]. يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ليس بينه وبين أحد نسب لم يلد ولم يولد ، قال لخليله محمد وهو أفضل الخلق: ليس لك من الأمر شيء [آل عمران:128]. فالأمر كله لله، فاستجب يا عبد الله لأمر الله الشرعي، وارض يا عبد الله بأمر الله الكوني، تكن مسلماً لله حنيفاً، فإن مدار الدين على إتيان المأمور، واجتناب المحظور، والرضى بالمقدور.
اللهم رضينا بك رباً، ورضينا بما قضيت وقدرت، وإنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن عزاءنا في الشيخ أن الله تعالى بفضله وكرمه يبقي في الناس أقواماً – وإن قلوا – يحفظون على الأمة دينها، يبينون أصوله، ويميزون فروعه، يردون عنه هجمات اليهود والنصارى وأذنابهم، وينفون عنه شبهات الزنادقة والمبتدعين وأتباعهم.
فأملنا في الله كبير، إنه رحيم بعباده لطيف خبير، ولا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم منه الآخر.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الذي هوّن موتُه كلَّ موت، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه البخاري (100) ، ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو.
[2] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/592) [1017].
[3] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/595) [1021].
[4] رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/602) [1036].
[5] رواه ابن عبد البر في جامع العلم (1/596) [1024].
(1/1430)
نوا قض الاسلام (1)
التوحيد
نواقض الإسلام
سليمان بن حمد العودة
بريدة
6/4/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الردة عن الدين. 2- نواقض الإسلام كثيرة وأهمها العشرة ومنها:
أ- الشرك في عبادة الله. ب- جعل وسائط بين العباد وربهم. ج- تصحيح مذهب الكفار أو
الشك بكفرهم أو عدم تكفيرهم. د- اعتقاد المرء أن هدي غير النبي أفضل من هديه.
3- حديث مسهب عن الحكم بغير ما أنزل الله. 4-حديث عن التكفير وخطورته وبعض مسائله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، ويدرك العقلاء أن الإيمان هو رأس مال العبد في هذه الحياة، وهو ما يفد به على الله بعد الممات وخسارة الإيمان لا تعدلها خسارة، ولا تقبل فيها الفدية ولو كانت ملء الارض ذهباً إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [آل عمران:195].
قال تعالى: ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين [المائدة:5]. وما أتعسها من حالة حين يهيم الإنسان على وجهه في هذه الحياة حيران قلقاً بعيداً عن نور الإيمان وتتردى حالته بعد فلا ينقضي النكد ولايخفف العذاب والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [فاطر:36].
أيها المؤمنون، إذا علمتم قدر الإيمان وحقيقته وكان الاعتقاد سليماً والعمل صائباً كما جرى بيان ذلك في خطبة ماضية فأنتم محتاجون تكميل ذلك إلى معرفة نواقض الإيمان وهادمات الإسلام.
ولقد اعتنى العلماء قديماً وحديثاً بنوقض الإيمان وأوسعوها بحثاً وتفصيلاً دعوة للحق ونصحاً للخلق.
وما أحرى المسلم أن يتنبه لهذه النواقض ويحذر منها، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
وأحصى الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله أصولاً عشرة اعتبرها: أهل العلم من نواقض الإسلام، حذر الأمة منها ودعا إلى العلم بها فقال يرحمه الله : (4)
اعلم أن نوا قض الإسلام عشرة نوا قض:
الأول: الشرك في عبادة الله قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:48]. إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72]. ومنه الذبح للجن أو للقبر.
الثاني: (من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة وتوكل عليهم كفر إجماعاً).
وهذا الناقض من أكثر النواقض وقوعاً وأعظمها خطراً، وذلك لأن كثيراً من المنتسبين للإسلام وهم لا يعرفونه حقيقة جعلوا بينهم وبين الرب وسائط يدعونهم لكشف الملمات وإغاثة اللهفات وتفريج الكربات، وهذا كفر وإن زعم أصحابه أنهم لا يسألون الله مباشرة تعظيماً منهم لله بزعمهم، بل يحتاجون إلى وسائط.
والله تعالى ينكر عليهم صنيعهم ويقول قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً [الإسراء:56]. قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [سبأ:22].
أخلص العبادة لله وحده وادعه وحده، واعلم أن غيره- كائناً من كان- لا يملك جلب النفع أو دفع الضر، واستمسك موقناً بقوله تعالى: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم [يونس:106-107].
أجل لقد قال المشركون قديماً: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [الزمر:3]. ومازال المشركون يستغيثون بالأولياء ويصرخون للموتى ويطوفون حول الاضرحة ويطلبون المدد والشفاعة ممن لا يملكها، والله جل ذكره يقول ألا لله الدين الخالص [الزمر:3].
3- الناقض الثالث: ((من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً)).
إن الإله الحق واحد لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وإن الدين الحق واحد وهو ناسخ لجميع الأديان قبله إن الدين عند الله الإسلام [آل عمران:19]. ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران:85]. فمن عبد مع الله غيره أو ابتغى غير الإسلام ديناً فهو كافر لابد من تكفيره قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده [الممتحنة:4].
تلك الحنيفية التي أمرنا بالاقتداء بها، ومن رغب عنها فقد سفه نفسه.
أما الاستمساك بالعروة الوثقى فشرطها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [البقرة:256].
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله: وصفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم (7) ).
أيها المسلمون، وحين تغيب هذه الحقائق المهمة في المعتقد فيضعف الإحساس بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين وتندثر في دنيا العلاقات المحبة في الله والبغض في الله ويغيب التميز في الثقافات وتنسى أصالة الفكر واختلاف المعتقدات، هنا يقع الخلل ويرتع الهمل وتشيع بين الناس دعوات باطلة وأفكار مضللة ظاهرها التسامح والحرية وباطنها الكفر وفرض التبعية، وتقام المؤتمرات العلمية والملتقيات والحوارات من أجل تقرير وحدة الأديان ومقارنة الأديان وإزالة الخلاف العقدي وإسقاط الفوارق الأساسية بين الأديان والتشبث بأمور بسيطة يدعون بها الدهماء من الناس ويجعلونها أساساً للوحدة المزعومة، وربما سمعت مصطلح " الديانة الإبراهمية أو الديانة العالمية، وإبراهيم عليه السلام بريء من كل لون من ألوان الشرك والوثنية، وقد برأه الله من اليهودية والنصرانية المحرفة وألبسه لبوس الحنيفية المسلمة ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين [آل عمران67].
وجعل أولى الناس به الذين اتبعوه إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين ءامنوا والله ولي المؤمنين [آل عمران:68]. تلك حاسمة الخلاف ومبتغى الحق لمن رامه وكفي بالله شهيداً وبالقرآن حكماً.
أما المنخدعون بالسراب فربما راقت لهم فكرة " زمالة الأديان " وامكانية التعايش والتعاون بين الديانات المختلفة في سبيل محاربة الإلحاد والعلمنة، ولا يخفي على أولي الألباب أن هذه الدعوات المحمومة نشات في أحضان التنصير العالمي لتحطيم الإسلام وتذويب الشخصية المسلمة لأنهم يرون في الإسلام وأهله أكبر قوة تهددهم.
ويأتي النظام الدولي الجديد عاملاً رئيساً في إحياء تلك الشجرة الخبيثة، إذ تعقد الاجتماعات ويأتمر الملأ لهذا الغرض الخبيث (3).
وينبغي أن يعلم الناس أن هذه الدعوات المشبوهة ليست وليدة اليوم بل لجلجت في غابر القرون ودعا إليها قوم آخرون.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله ينقل عن ملاحدة الصوفية كابن سبعين وابن هود والتلمساني وغيرهم كانوا يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام ويجعلون هذا طرقاً إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين، بل ذكر الشيخ أن هؤلاء المنحرفين يميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات (كالخمر مثلاً) ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول، بل ربما استحى الواحد منهم أن ينتسب للإسلام بحضرة هؤلاء الكفار (1). نعوذ بالله من الخذلان ومن الردة بعد الإسلام.
كما أن التتار نادوا بمساواة الأديان وقال الأكابر من وزرائهم: إن دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وأنه بمنزلة مذاهب المسلمين.
قال ابن تيمية معلقاً: (ومعلوماً بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً [النساء:150-151]. (3)
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وهدانا لاتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام. أقول ما تسمعون وأستغفر الله....
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين اكمل الدين وأتم النعمة على المسلمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ختم الله به الأنبياء وجعل رسالته للناس كافة ونسخت شريعته الشرائع السماوية السابقة كلها.. اللهم صل عليه وعلى سائر الانبياء.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (1)
أما الناقض الرابع: من نواقض الإيمان فهو: من اعتقد أن هدي غير محمد صلى عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه فهو كافر (2).
أيها المسلمون، لقد أجمع العلماء الذين يعتد بإجماعهم على أن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي، وهي كالقرآن في التحليل والتحريم.
(3) وثمة دعوات مغرضة للتقليل من شأن السنة النبوية، أو التشكيك في صحة ما ورد فيها، وتلك طريق لهدم أحكام الإسلام، لأن السنة مستقلة بتشريع الأحكام... وربما سمعت قولاً خبيثاً مفاده: دعونا نتحاكم إلى القرآن لأنه كلام الله، أما السنة فهي كلام محمد ،ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر.
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، وهل جاء محمد صلى الله عليه وسلم بشيء من أمور الشرع من تلقاء نفسه؟ ولله يقول عنه: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [النجم:3-4].
ويعصمه الله من الزلل والأقاويل الباطلة ويقول: ولو تَقَوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين [الحاقة:46].
ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من الناس فقال فيهم: ((لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئ على أريكته فيقول: ما ندري ما هذا؟ عندنا كتاب الله ،وليس هذا فيه )).
بل لقد جاء الأمر بلزوم سنته صريحاً في القرآن وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا. فهل ينتهي المنافقون ويستيقظ الغافلون لما يراد بهم.
على أن رفض هدي محمد صلى الله عليه وسلم يتخذ شكلاً آخر، يتجاوز القول إلى العمل، وذلك برفض التحاكم إلى شريعته في كل شيء ،والعدول عنها إلى قوانين وضعية – سماها الشيخ " حكم الطاغوت " – وزعموا أنها أصلح للحياة المعاصرة، وتلك وربي ردة جديدة بُليت بها شعوب العالم الإسلامى في القرون الأخيرة.
ولقد عاش المجتمع الإسلامى قروناً طوالاً يستظل بشرع الله، وتهيمن الشريعة على حياة أفراده حكاماً ومحكومين، مع وجود بعض المعاصي سواء كانت كبائر أم صغائر، ولكن النظام السائد هو شرع الله وحكمه، كما كان جهاد الكفار مستمراً.
أما أن ترمى الشريعة المطهرة بالقصور، أو يتهم المطالبون بتحكيمها بالرجعية فذلك لم يحدث إلا حين أنهيت الخلافة الإسلامية، وتغرب بعض أبناء المسلمين، ومكنت لهم القيادة، وكانوا أداة طيعة في أيدي المستعمرين.
وفي القرآن زواجر رادعة، وفي السنة أحكام وتنظيمات شاملة، أين هؤلاء من مثل قوله تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) وأين هم من قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
وأما من يدّعون الإسلام وهم يحصرون شريعة الإسلام في أمور خاصة لا تتجاوز الأحوال الشخصية، أما السياسات العامة والقضايا الكبرى المهمة فتلك يحكمون فيها أهواءهم، ويقلدون بها غيرهم، والله تعالى يقول: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
ولقد أحسن أحد العلماء في وصف من طمست بصيرته فاستبدل بالشريعة القانون حيث قال: (إن مثل هذا مثل الجعل يتأذى من رائحة المسك والورد الفواح، ويحيا بالعذرة والغائط في المستراح).
لقد اعتبر العلماء قديماُ وحديثاُ الحكم بغير ما أنزل الله كفراُ مخرجاُ عن الملة، نقل الإجماع على ذلك ابن كثير. وألف مفتي الديار السعودية فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم، يرحمه الله، رسالةً في " تحكيم القوانين " وضح فيها الحالات التي إن فعلها الحاكم دخل في الكفر المخرج من الملة، ولولا خشية الإطالة، لنقلتها لكم فليرجعها من يشاء.
أيها المسلمون، هذا حديث عن بعض نواقض الإيمان، وسأستكمل الحديث عن بقيتها في خطبة لاحقة بإذن الله...
ولكننى قبل ذلك أسارع للقول محذراً من مسلك خطير واستعمال محذور، ألا وهو محاولة تطبيق الأحكام الشرعية النظرية على الواقع من قبل أناس لا يملكون أدوات التطبيق، وليس لهم من فهم قواعد الشريعة وكلياتها ما يستطيعون به تنزيل النصوص منازلها الحقة، فلا ينبغي أن تدرج قضية التكفير على كل لسان.
ومصيبة أن يتجرأ فيها سفهاء الأحلام بغير علم ولا برهان، وأهل السنة – قديماُ وحديثاً – يحتاطون لذلك كثيراُ ولذا فرقوا بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ووضعوا شروطاُ للتكفير وموانع يعذر بها الجاهل والمتأول.. إلى غير ذلك من ضوابط يعيها الراسخون في العلم.
وإليكم شيئاُ من احتياطهم وحذرهم من تكفير المعين. يقول ابن تيمية، يرحمه الله،: (وليس لأحد أن يكفر أحداُ من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة)
ويسوق ابن تيمية في موضوع آخر – من الفتاوى – بعضاً من الأعذار الواردة على تكفير المعين فيقول – وما أجمل ما قال – (الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداُ في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطاياه كائناُ ما كان، سواء في المسائل النظرية أو العلمية، هذا الذي عليه أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام).
ولقد كان الإمام أحمد – كما نقل الشيخ – يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، ولكن ما كان يكفر أعيانهم... وكذلك نقل ابن تيمية عن الإمام الشافعي، رحمه الله.
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفراُ، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها).
إخوة الإيمان وحين أحذر من هذا المسلك الخطير فإنني أذكر بل أخوف بالقرآن، وبحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا...
ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)). وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)).
اللهم اعصمنا من الزلل، ووفقنا لسلوك الطريق الأقوام، وأصلح سرائرنا وعلانيتنا.
(3) انظر الحور بعد الكور للدويش /11
(4) انظر الدرر السنية 8/98.390 مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب 5/212 الولاء والبراء
(7) انظر التبيان شرح نواقض الاسلام /العلوان /27
(3) انظر د. عبد العزيز العبد اللطيف. نواقض الايمان /277.379
(1) انظر الفتاوى 14/164.1650نواقض الإيمان، العبد اللطيف / 378 الرد على المنطقين /282
(3) الفتاوى 28/5224
(1) رواه مسلم 6/135
(2) الولاء والبراء /75
(3) العلوان : التبيان فى شرح نواقض الإسلام /34
(1/1431)
وقفات بارزة مع حياة علامة الإسلام ابن عثيمين – رحمه الله -
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصيبة فقد العلماء. 2- فضل العلماء على الأمة وحقوقهم عليها. 3- مزية العلماء الذين
يخالطون الناس ويسعون في حوائجهم. 4- بعض مآثر الشيخ محمد الصالح العثيمين وشمائله.
5- قبض العلم بقبض العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى.
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاةٌ تضيعُ ولا بعير
ولكن الرزية فقد فذٍ يموت بموته خلقٌ كثير
إذ كانت رزية واحدة فقد فذٍ واحدٍ فما بالكم بفقد عالمين فذين ضمن طائفة علماء مضوا في بلادنا، فقدنا عالم الأمة الشيخ ابن باز، وها نحن نفقد شيخنا علامة الأمة محمد بن صالح بن عثيمين رحمهم الله جميعاً.
أيها الأخوة المؤمنون:
منذ أن أكرم الله هذه الأمة ببعثة نبيه محمدٍ وأفواج الدعاة المصلحين يتعاقبون فيها، علماء مخلصون، ومربون ربانيون من خلفاء رسول الله الراشدين، وورثته من العلماء العاملين داعين إلى الحق، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، وإن العناية بسيرتهم، والتذكير بهم، وهم مصابيح الهدى التي أضاءت الطريق، بل حوّلت مجرى التاريخ في ديارها، وأورثت تحولاتٍ فكرية كبرى في عقولها، إن ذلك مما يجب أن تنصرف إليه الهمم، ويعتني به الموجهون، ويذكّر به المذكرون.
أيها المسلمون:
يقول ربنا جل وعلا: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، إن ممن رفعهم الله أهل العلم العاملين، الذين هم أركان الشريعة وأمناء الله في خلقه، منهم ورثة الأنبياء وقرة عين الأولياء، بهم تحفظ الملة وتقوم الشريعة، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الضالين، فلله درهم وعليه أجرهم، ما أحسن أثرهم، وأجمل ذكرهم، رفعهم الله بالعلم وزيّنهم بالحلم، بهم يُعرف الحلال من الحرام، والحق من الباطل، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة ويذكرون الغافل ويعلّمون الجاهل، جميع الخلق إلى علمهم محتاجٌ.
هم سراج العياد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيّروا، وإذا أسفر عنها الظلام أبصروا.
أيها المسلمون:
لقد فرض الله تعالى لأهل العلم الراسخين والأئمة المرضيين حقوقاً واجبة وفروضاً لازمة، من أهمّها محبتهم وموالاتهم، وذلك أنه يجب على المؤمن محبة المؤمنين وموالاتهم.
فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، قال ابن تيمية رحمه الله: "فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء" أ.هـ. كلامه رحمه الله.
فحب أهل العلم والدين قربةٌ وطاعة، فإذا رأيتم الرجل يذكر أهل العلم بالجميل، ويحبهم ويقتدي بهم فأمّلوا فيه الخير، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
ومن حقوق أهل العلم: احترامهم وتوقيره وإجلالهم لأنه من إجلال الله تعالى وتوقيره.
ومن حقوقهم الذبّ عن أعراضهم وعدم الطعن فيهم، فإن الطعن في العلماء العاملين والأئمة المهديين طعنٌ في الشريعة والدين وإيذاء لأولياء الله الصالحين، ومجلبةٌ لغضب الله رب العالمين الذي قال: ((من عاد لي ولياً فقد آذنته بالحرب...)).
ومن حقوق علماء الشريعة وحفظة الملة طاعتهم فيما يأمرون به من الدين ما لم يكن مخالفاً لحكم رب العالمين، والله أمر بطاعتهم في محكم التنزيل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم... وأولوا الأمر هم العلماء بالشرع والأمراء في الخلق، فالعلماء يطاعون فيما يرجع إليهم من العلم والدين، من ذلك الرجوع إليهم فيما يشكل على الناس من أمر الدين قال جل وعلا: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
فإلى العلماء الرجوع عند التباسِ الأمر وخفائه، فما حكموا به فهو المقبول المسموع إذ أن كتاب الله عدّتهم والسنة حجتهم، ورسول الله قدوتهم.
إن من حقوق فقهاء الإسلام وعلمائه أن يؤخذ بالصحيح من أقوالهم فلا يتبع أحدٌ من العلماء إلا إن متوجهاً نحو الشريعة قائماً بها حاكماً بأحكامها جملةٌ وتفصيلاً، فإذا خالف ذلك في شيء من أقواله وآرائه لم يؤخذ به، فإن من أخذ بشواذ الأقوال وجمع نوادر العلماء بلا تحقيق اجتمع فيه الشر كله.
أيها الأخوة المؤمنون:
هؤلاء هم العلماء وتلك بعض حقوقهم على أفراد الأمة، وتلك واجباتهم التي إذا قاموا بها عظمهم الناس، فإن نفع العالم يزداد وأثره يعظم عندما يحيط به الناس ويجتمعون حوله وينتفعون بعلمه.
والعالم الحق المحبب إلى الناس هو الذي لا ينتبذ مكاناً قصياً ولا ينزوي في الزوايا ويتكأ في التكايا.
العالم الحق المحبب إلى الناس هو من لا يعيش في برجٍ عاجي مرتفعٍ عن الناس وقضاياهم بل هو رجل العامة المحبب إليهم المدافع عن قضاياهم يخالطهم ويسعى في قضاء حوائجهم يسمع شكاياتهم ويصبر على التعامل معهم على كافة طبقاتهم وكثرة حاجاتهم، ينزل إلى عمق المجتمع فيعيش مع كل أفراده، إنها مكانة العلماء ومنزلتهم التي تتضاءل أمامها منازل كثيرة من فئام الأمة.
ولقد رأينا هذه الصفات وتلك الميزات متحققة في عالمنا الفذ وعلامة أمتنا شيخنا ابن عثيمين الذي فجعت بوفاته الأمة الإسلامية بعامةٍ والعلماء وطلبة العلم بخاصةٍ، كيف لا وهو العالم النحرير الذي بذل نفسه ووقته لخدمة العلم وأهله، فزادت الجروح في جسد الأمة بموته الذي جاء ثلمةً في الأمة، لأن العالم النحرير المتميز نادرٌ وجوده ولذلك يقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثُلمت من الإسلام ثلمة، فرحم الله شيخنا رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته، ونسأله جل وعلا أن يجعل ما أصابه من أمراضٍ وأسقامٍ وآلامٍ رفعة لدرجاته وزيادةً لحسناته وتكفيراً لسيئاته.
أيها المؤمنون:
حينما يرد الحديث عن الشيخ ابن عثيمين فقيد بلاد المسلمين عامة وبلدنا خاصة، والذي تنوّرتْ بعلمه قرابة خمسين سنةٍ مضت نسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناته، حينما يرد ذكره في الأذهان تبادرنا مواقفٌ بارزة في حياة الشيخ حريٌ بمن ذكره أن يقف عندها ويتأمّلها ويتخذ منها العبر سيّما العلماء وطلبة العلم.
أولي تلك الوقفات البارزة في الشيخ رحمه الله نرى فيها حرصه منذ صغره على طلب العلم الذي لم ينشغل عنه بما انشغل به أقرانه أيام الصبا، فلقد عكف على العلم بما تميز به من نباهةٍ وذكاءٍ، فاستفاد ممن عاصرهم سيما شيخه المبرز علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله ثم حوّل جهده رحمه الله في العلم إلى نشره وبذله للطالبين حين بدأ بالتدريس قبيل وفاة شيخه السعدي واستمر حتى وفاته، فأثرى الأمة بعلومه فنرى آثاره العلمية التي أثمرت في الأمة.
فطريقته في التعليم كانت طريقةً فذّةً بشرحه الموضوعي وطريقته المثلى في إفهام المسائل للطلاب ، وأنه لم يكن مركزاً على المذهب بل كان يتجاوزه أحياناً إلى القول الصحيح الذي يراه مبنياً على الكتاب والسنة.
كما رأينا الشيخ رحمه الله يحرص على تعليم العلم خلال خمسة وأربعين سنة ولا أحسب أنه انقطع عن هذا التعليم إلا لعذرٍ أو سفرٍ طارئ كما أن قلة الطلبة في أوقات ماضيةٍ لم تكن لتثنيه رحمه الله عن تعليم العلم فأي همةٍ هذه.
لقد مرّت بالشيخ أوقات كانت فيه من الفرص المادية للكسب الشيء الكثير، لكن الشيخ لم يلق لها بالاً، وكان مركزاً على العلم وتعليمه للطلاب حتى رأينا طلبته في ازديادٍ مستمر، ولم يقتصر طلبته على بلده بل يأتونه من كل حدبٍ، ولقد رأينا آثار طلابه في عددٍ من الأمكنة في العالم الإسلامي فنسأل الله جل وعلا أن يجعل بذله هذا في ميزان حسناته.
ولقد كان الشيخ رحمه الله مربياً مؤدبّباً ناصحاً بالإضافة إلى كونه معلماً، وكثيراً ما كان يوجّه طلبة العلم إلى التركيز على العلم وطلبه وأخذه من مصادره الشرعية وربطهم بها وبالمتون التي كان يقرّرها، ويحثهم على ترك الخلاف ونبذ العصبيات وعلى الاهتمام بتوحيد الكلمة واحترام رأي المجتهد وعدم تخطأته باسمه والحديث عنه، وألا يجعلوا من الخلاف الفقهي أو الفكري أو حول الأشخاص والمسميات سبباً للتشاحن والتباغض فيما بينهم، وكثيراً ما كان يُفرد من وقته وجهده لمعالجة ذلك وبالرغم من مشاغله الكثيرة، كان ربما يسافر حتى يزيل ذلك الخلاف أو يصلح بين المتخاصمين رحمه الله.
ومن الوقفات البارزة أيضاً في حياة شيخنا تغمّده الله بواسع رحمته ورعه وزهده الذي تميّز به حيث عاش في وقتٍ كانت فيه فرص المكاسب المادية وفيرةً، لكنه رحمه الله ترك كل ذلك ولم ينشغل بشيء آخر سوى طلب العلم وبذله، بل استمر حتى وقتٍ ليس بالبعيد في بيته الطيني المتواضع بالرغم من العروض الكبيرة والمغرية التي جاءته من قادة هذه البلاد وفقهم الله بتغيير مسكنه، لكنه كان يرد كل ذلك ويتورع عن طلب شيء لنفسه، بل كان يحوّل تبرعاتهم وعطاياهم لصالح العلم وطلاّبه والجهات الخيرية الأخرى، فأوجد في بلدنا ولله الحمد بيئة علمية تفخر به بلادنا من كثرة رُوّادها من طلبة العلم الذين وفر لهم الشيخ ما يحتاجونه.
لقد عاش رحمه الله طول حياته ورعاً زاهداً لا تهمه الدنيا في قليلٍ أو كثير، بل كان يميل دائماً إلى البساطة ومن عرفه عن قرب - وأنتم كذلك - عرف فيه البساطة المتناهية والبشاشة أثناء ترجّله إلى المسجد ومنه، وحسن الخلق والرجوع إلى الحق والمدافعة عن المظلومين والمضطهدين ومخاطبة ولاة الأمور والذهاب إليهم وإلى المسؤولين فيما يراه من ملاحظاتٍ وتوجيهات استفادت منها الأمة في مجتمعها وما يهمها من أمور دينها وقضاياها المصيرية.
لقد ترجم الزهد سلوكاً، والترفع عن المطالب الدنيوية شعاراً، إنه العالم الذي كان بفتواه وعلمه علامة الأمة وعالمهم، ومرجعهم الفقهي.
أيها الأخوة المؤمنون:
لقد كان الشيخ رحمه الله يقوم بأدوار خيرية كثيرة تفوق عمل الجمعيات، فلديه المساعدات التي يقدمها تشجيعاً للراغبين في الزواج، وأخرى للفقراء والمحتاجين في الداخل، ومساعداته التي كنا نستلمها نحن وغيرنا منه للمسلمين المحتاجين في كل مكان، فلا أذكر حاجة المسلمين أو مصيبة تحل بهم إلا ويساهم الشيخ في رفعها ومساعدتهم مما يأتيه من تبرعات، وكان تشجيع الاستثمارات والأوقاف الخيرية هي أولى وصاياه لأعمال البر والقائمين عليها.
وعلى هذا عمل رحمه الله حينما أسس هو وثلةٌ من طلابه جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في هذا البلد التي نرى ثمارها اليانعة ولله الحمد، ماثلة في أجيال من حفظة القرآن ومتعلميه، كما أنه رحمه الله كان يُساهم في عددٍ من متطلبات البلاد عامة وموطنه خاصة، وذلك من بناء المساجد وحفر آبار الشرب للقرى المحتاجة وتوزيع المواد الغذائية والكتب وغيرها، ولعل آخر مشاريعه فيما أعلم التبرع المبذول بواسطته قبل سنة بمبلغ مليونين ونصف ريال ولصالح زيادة الآبار الصالحة للشرب في بلدنا هذه، فرحمه الله رحمة واسعة.
إنه عالم الأمة الذي آتاه الله بسطة في العلم والورع، ودائماً ما كنا نتلمس من خلال حديثه ونصحه واللقاء به ومعاشرته حسن نيته وحدبه على الأمة وهمّه للدين الذي يجول في صدره.
عباد الله:
بعد كل ذلك فليس بغريب إذن أن نرى كيف اجتمعت القلوب على محبته، حتى أن من لم يعاشره ويعرفه يبكي فقده، فما بالكم أنتم يا من عاش معه ودرس على يديه وتعامل معه.
فأعظم الله أجركم وبارك لكم في عقبه وخلف على الأمة من يقوم بدوره أو أعظم.
أيها الأخوة:
إن محبته تلك والبكاء لفقده هو من محبة أهل العلم ومن الولاء لهم، لأنهم أهل الله وخاصته أعطاهم الله جل وعلا شرفاً وفضلاً وجلالة ونبلاً فقال جل من قائل عليماً: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط.
كما أننا أخوة نقدم عزاءنا لذويه وأسرته وطلابه، ونذكر في ذات الوقت أسرته وأقرباءه بأن خير خدمة يقدمونه له رحمه الله هي بتيسير علمه وسرعة نشره لدى طالبيه ليستفاد منه في أرجاء المعمورة.
كما أننا نطالب طلابه وهم بيننا كثر بالسير على منهجه في حرصه على العلم وبذله الأوقات الطويلة لطلابه، وبحثُهم على امتداد المسيرة التعليمية التي تميز بها هذا البلد وعلماؤه على مر الزمان.
كما أننا نطالب المسلمين عامة بأن يتذكروا دائماً علمه وبذله وألا ينسوه من دعائهم وأن يذكروا ويذكّروا بمآثره وأن يكون تذكرهم له امتداداً لذكر أهل العلم السابقين واللاحقين ومحاولة الاستفادة ممن هم بين أظهرنا الآن وسرعة إدارك علمهم وحث الأولاد على حضور حلقات العلم والاستفادة منها، ((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر)) صدق رسول الله.
اللهم إن الشيخ ابن عثيمين كان من مشاعل الدين وحُداة الأمة، عزز بالعلم الإيمان في الأفئدة، وأوقد نور القرآن في أرجاء من المعمورة واسعة، وأفاد بعلمه الغزير بشراً عديدين في مناكب الأرض، وأضاء سبيل الحائرين بالرشاد المضيء والموعظة المؤثرة والفتوى الواثقة، فاللهم إنا نسألك أن تنزل عليه شآبيب رحمتك وسحائب رضوانك في جنات الخلد، واجعله من أصحاب اليمين الذين يهنأون في ظل ممدود وطلح منضود وماء مسكوب واغفر لنا وله ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين إنك سميع مجيب.
ستخلد يا ذكرى العثيمين معلماً على هامة الأيام تأج مرضع
فتاواك أنوار وصوتك رحمة ونصحك مثل الغيث والشرح ممتع
لئن أودعوك اليوم في طيب الثرى فقد علموا من في ثرى الطيب ودّعوا
وجاورت قبر الباز حباً وصحبة عسى أن يكن في جنة الخلد مجمع
تخلد أعمال الدعاة وتزدهي وفاءً إذا ما زال كسرى وتبع
عليك سلام الله ما هلّ هاطل وما هب نسمٌ وانحنى متضرع
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده...
اعلموا أن حاجتكم إلى العلماء فوق كل حاجة، فهم والله مصابيح الدجى وعلامات الهدى، فالعلماء في الناس كالشمس للدنيا والعافية للناس.
فالناس لا يعرفون كيف يُعبد الله إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس واندرس العلم بموتهم، في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء [أي بوفاتهم] حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رُءُوساءً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله جل وعلا: أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. الآية. قال: خراب الأرض بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها، وقال مجاهد: هو موت العلماء.
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف
إن الدنيا بغير الرجال الأفذاذ هموم وجمود، وإذا أقفرت الديار، من الرجال فهي إلى الوراء تتقهقهر، ومن الوجود تتلاشى، فرحم الله عالمنا وشيخنا وعلامة الأمة وفقيهها ابن عثيمين ونسأل الله أن يأجرنا في مصيبتنا وأن يخلفنا خيراً منها، وإن أملنا في الله عظيم في أن يهيئ لهذه الأمة العلماء الربانيين الذين يقودونها إلى الحق والخير ونسأله جل وعلا أن يبارك فيمن بقي من علماء الإسلام ودعاته وأن يسدد خطاهم ويكفيهم الشرور والفتن...
(1/1432)
الخلوف وفضل العلماء ووجوب التأدب معهم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التلطف مع المخاطب. 2- من أخلاق الأنبياء. 3- وجوب الأدب مع الكبراء. 4- فضل
العلماء. 5- المشتغلون بالطعن في العلماء ، وبيان سوء عاقبتهم. 6- التأدب مع العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى: يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون [يوسف:46].
هذه الآية العظيمة فيها دروس عظيمة، وقد ذكرت طرفاً منها في الجمعة الماضية، وأنا أذكر بعضها اليوم.
فمن دروسها: أن التلطف مع المخاطب للتوصل بذلك إلى المقصود هو الأسلوب الصحيح، تأملوا كيف تلطف ذلك السائل، وهو صاحب حاجة جليلة الشأن، صاحب حاجة مهمة، كيف تلطف مع يوسف عليه السلام: يوسف أيها الصديق يناديه باسمه تحببا إليه، يناديه باسمه المجرد كأنما يريد بذلك الإيحاء بما بينهما من معرفة سابقة وودّ قديم منذ كانت محنة السجن جمعت بينهما، وأردف ذلك بوصفه بهذا الوصف الجليل، أيها الصديق كل ذلك ليستميل قلب يوسف، لعله يقضي حاجته، ويحقق له المراد الذي جاء من أجله، خاصة وهو يخشى أن يكون يوسف قد استوحش منه لأنه نسيه بمجرد خروجه من السجن، نسيه بضع سنين، ونسي حاجته ووصيته، التي كان قد أوصاه بها حينما قال له: اذكرني عند ربك [يوسف:42]. فهو يتوقع الآن أن يعامله يوسف بالمثل فيعرض عنه ويعرض عن حاجته، ولكن ليس من أخلاق الأنبياء الانتقام، بل خلقهم الصبر والصفح الجميل ومقابلة السيئة بالحسنة، ألم تر أن إمامهم أمام الأنبياء وسيدهم وخاتمهم محمداً رسول الله كيف قابل الإساءة البالغة التي ألحقها به وبأصحابه قومه قريش كيف قابلها بالصفح الجميل، والعفو الجميل، وخاصة لما أمكنه الله منهم، أمكنه من رقابهم عام الفتح، فوقفوا جميعاً بين يديه أسرى، لو شاء لأعمل سيفه في رقابهم، بما اقترفوا من ذنوب وآثام، وإساءات بالغة لا يلومه أحد على ذلك، ولكنه قال لهم في ذلك الموقف الرهيب : ((أقول لكم كما قال يوسف لقومه: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [1].
وهكذا نبي الله يوسف عليه السلام قابل إساءة ذلك الساقي ساقي الملك ذلك السائل قابل إساءته بالإحسان، فقضى حاجته، وحقق له المراد الذي جاء من أجله، ففسر له تلك الرؤيا الجليلة الشأن، وقد ترتب على هذا من المصالح الشيء العظيم. كما سيأتي بيانه في تفسير الآيات التالية أن شاء الله.
ومن دروس هذه الآية: وجوب الأدب مع الكبراء، وهل هناك ناس أكبر شأناً وأعظم مكاناً من الأنبياء ثم يتلوهم أتباعهم من العلماء، انظروا كيف تأدب ذلك السائل وهو بين يدي نبي الله يوسف عليه السلام، مع أنه فيما يبدو لا يقر بنبوته، ومع ذلك وصفه بذلك الوصف العظيم الجليل أيها الصديق وإن مناداته له في البداية باسمه المجرد لا يعد نقصا منه في الأدب ما دام قد أردفه بهذا الوصف الجليل. أما لو كان قد اكتفى باسمه المجرد فإنه يعد منه من سوء الأدب ولذلك لحق التوبيخ الإلهي أولئك الأعراب الذين نادوا سيدنا رسول الله محمداً باسمه المجرد فقالوا: يا محمد اخرج إلينا، فأنزل الله توبيخهم في قوله : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون [الحجرات:4].
وأنزل الله تعالى في تعليم هذه الأمة كيف تتأدب في مخاطبتها مع إمام الكبراء، وسيد الخلق أجمعين، قوله سبحانه: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً [النور:63]. وهكذا العلماء فإنهم ورثة الأنبياء، وهم الواسطة بيننا وبينهم، فنحن إنما نتلقى العلم، علم الوحي المنزل على الأنبياء بواسطة العلماء، فعلماء الأمة وأئمتها، علماء الأمة وأئمتها يجب توقيرهم والأدب معهم فإن هذا من علامات الإيمان، وصحة العقيدة، وكمال العقل، ولكننا في هذا الزمان الفاسد، أصبحنا نرى فيه حمى العلم نهبة يقتحمه كل من هب ودب، ولا يجدون حوله حراساً يمنعونهم ويزجرونهم، وأصبحنا نرى فيه أعراض العلماء مستباحة، سالفهم وحاضرهم، يهجم على أعراضهم من شاء كيفما شاء، ولا يلقى من يؤدبه ويضرب على يده، في هذا الزمان الفاسد وإن كنا بحمد الله نشاهد فيه صحوة إسلامية عامة، وإقبالاً من الشباب على تعلم العلم الشرعي وتعلم دين الله وسنة المصطفى غالبية الشباب والحمد لله، شباب الصحوة يتلقون العلم والأدب معاً، ولكن إلى جانب ذلك بلينا بشرذمة قليلة، بلينا بخلف لا عقول لهم، بضاعتهم مزجاة، وعقيدتهم مشوشة، قد أرسلوا ألسنتهم في أعراض العلماء، سالفهم وحاضرهم، شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بمثالب العلماء، شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بمثالب العلماء، إنهم فئة ليسوا من أهل العلم، أو هم من المبتدئين فيه، ومع ذلك سلطوا ألسنة حداداً على أئمة هذه الأمة وعلمائها، فصرنا نسمع اليوم من يطعن في أحد الأئمة الأربعة، ولا يجد من يؤدبه، أو يكفر النووي أو الشوكاني ولا يجد من يؤدبه ويضرب عليه بيد من حديد، بل أعجب من ذلك وأسوأ بلغ من هوس هؤلاء الخلوف أن بعضهم اشتغل بتجريح العلماء المعاصرين من أهل العقيدة الصحيحة الذين يعلمون الناس التوحيد، ولهم أثر جليل عظيم في تعليم الشباب التوحيد، إذ شغلوا أنفسهم واشتغلوا بإحصاء المثالب والزلات والعيوب، حتى بلغ الهوس بأحدهم وقد سمعت كلامه بنفسي في شريط أنه يحكم على بعض الناس على بعض هؤلاء العلماء بأنهم مبتدعة في بواطنهم، وإن كانوا موحدين في ظواهرهم، هذا الجاهل من جهالته وضع نفسه في مكان لم يوضع فيه حتى سيدنا رسول الله ، لم يدع حتى الرسل، فسيدنا رسول الله يقول لأصحابه: ((إنما أقضي على نحو مما أسمع)) [2] أي إنما أقضي بالظواهر أما البواطن فعلمها عند الله عز وجل، هؤلاء الخلوف أخذوا من تلك الملتين الخبيثتين أخبث ما عندهما، من الخوارج والروافض، أخذوا من الروافض شعروا أم لم يشعروا اشتغالهم بالسب والشتم واللعن وإحصاء المثالب والعيوب والتشكيك في علماء الأمة وأئمتها من الصحابة من الرعيل الأول إلى اليوم. وإن كان هؤلاء لا يشتمون الصحابة لكنهم أخذوا منهم واقتبسوا هذه الخلة وهي الاشتغال بإحصاء مثالب العلماء وعيوبهم وزلاتهم، وأخذوا من الخوارج شدتهم وغلظتهم في الذنوب والزلات إن كانت هناك ذنوب وزلات، ومسارعتهم ومبادرتهم إلى تكفير الناس وتفسيقهم وتبديعهم، والحكم عليهم بالنفاق فإن هذه خلة من خلل الخوارج وهي من أخبث الفرق التي شغبت على المسلمين وشوشت عليهم عقائدهم، وشوشت عليهم ثقتهم بأئمتهم وعلمائهم.
إن هؤلاء الخلوف وقد سلطوا ألسنتهم على الأئمة والعلماء سالفهم وحاضرهم سوف يسلطون ألسنتهم على من هو دونهم فإن من اجترأ على الأعظم شأناً والأكبر مكاناً وهم العلماء، فسوف يجترئ من باب أولى على من هو دونهم وهم أئمة المسلمين وعامتهم، وإن هؤلاء الخلوف وقد سلطوا ألسنتهم الحداد وسلوها ففي الغالب سوف يسلّون سيوفهم، لقد علمتنا تجارب التاريخ بل والتاريخ القريب أن غالب من يكون شأنه وديدنه وعادته سلّ لسانه على الناس وخاصة العلماء فسوف يسلّ سيفه فهؤلاء الخلوف وقود فتنة عظيمة قادمة، إن لم يطفئها العقلاء، فسوف تأكل الأخضر واليابس، وسوف تأكل حتى أولئك الذين يرضون بسوء أدبهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا [آل عمران:147]. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10].
اللهم ارض عن أئمة هذه الأمة وعلمائها أجمعين، اللهم ارحمهم أجمعين، من فقهاء ومحدثين، وبلغاء ومفسرين، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة المتبوعين أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، اللهم اجزهم جميعاً عنا وعن أمة محمد خير الجزاء، اللهم آمين.
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو عبيد في الأموال (143) مرسلاً.
[2] أخرجه البخاري من حديث أم سلمة [6566].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
ففي الصحيح عن رسول الله أنه قال: ((العلماء ورثة الأنبياء، ألا وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً لكنهم ورثوا هذا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) [1].
وروي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان رجل عابد ورجل عالم فقال : ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)) [2].
فهذه المنزلة العظيمة وهذه المكانة العالية والمنقبة الجليلة، إنما هي للعلماء الذين يبلغون رسالات الأنبياء، وهم أمناء على ذلك، يعلمون الناس التوحيد وسنة المصطفى ويفقهونهم فيهما ويتحملون في سبيل ذلك الأذى والنصب والعنت، ويصبرون على هذا الطريق الذي هو طريق الأنبياء واتباع الأنبياء. فهؤلاء إياك يا مسلم أن تلقى ربك وفي عنقك وزر النقيصة في واحد منهم، فإن ذلك وزر عظيم، وذنب عظيم، إياك أن تلقى ربك وفي عنقك وزر الطعن في أحد منهم، منذ الرعيل الأول صحابة رسول الله الذين هم سادة علماء هذه الأمة إلى اليوم فعلماء الأمة الذين يبلغون رسالات النبي ويعلمون الناس التوحيد وسنة المصطفى عليه السلام مكانتهم عظيمة كما وصف النبي المصطفى عليه السلام.
وقد كان من آداب السلف توقير هؤلاء العلماء والتأدب معهم، أخرج الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكثت سنة وفي نفسي شك من ثنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن المتظاهرتين على رسول الله ولا أجد لذلك موضعاً، وفي رواية: وما يمنعني من ذلك إلا هيبته، حتى خرج يوماً حاجاً أو معتمراً وخرجت معه أصحبه حتى إذا كنا بمر الظهران خرج يقضي حاجته وقال : الحقني بإداوة من ماء، فأخذت إداوة ولحقته، حتى إذا قضى حاجته ورجع، وقفت أصب عليه الماء من الإداوة، فوجدت موضعاً للسؤال فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله ؟ فما قضيت كلامي حتى قال: عائشة وحفصة رضي الله عنهما [3].
انظر إلى هذا الأدب العظيم، سنة وهو يتأدّب ويتهّيب من عمر بن الخطاب أن يسأله عن هاتين المتظاهرتين، وخاصة أن إحداهما هي ابنته رضي الله عن الجميع وأرضاهم ابنة عمر، فالأدب قبل العلم، يجب أن يعلم أولئك الخلوف أن العلم لا يمكن تلقيه بلا أدب، فالأدب قبل العلم، والعلم بلا أدب لا ينفع صاحبه، بل سيجره إلى مزالق الهلاك والابتداع والعياذ بالله.
لابد من التأدب مع العلماء إذا كنت تريد أن تستفيد منهم، تأدب معهم، والزم توقيرهم وتعظيمهم، من كان منهم حياً ومن كان منهم قد سلف من باب أولى.
عن علي بن أبي طالب قال : إذا جالست العالم فلا تكثر عليه من السؤال ولا تعنته في الجواب ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تمسك ثوبه إذا نهض، ولا تفشيّن له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلب عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك بتعظيمه وتوقيره ما دام قائماً بأمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته [4].
هكذا أدب الصحابة، هذا هو أدب السلف مع العلم والعلماء، فعليك يا مسلم بمجالسة العلماء، إن أردت أن تلحقك بركة ما عندهم من العلم ولكن عليك أيضاً بالتزام هذا الأدب، قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما لابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم أدب الاستماع كما تتعلم أدب الحديث، ولا تقاطع أحداً حتى يمسك ولو طال حديثه [5].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
[1] أخرجه ابن ماجه [223] من حديث أبي الدرداء ، وصححه الألباني.
[2] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. وقال الألباني: حسن لغيره. صحيح الترغيب (1/144) [81].
[3] أخرجه البخاري [4913-4915] ومسلم [1479].
[4] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/519) [841] والخطيب في الجامع [382] وفي الفقيه والمتفقه (2/99) بنحوه.
[5] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/521) [846] معلقاً ولفظه : "وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الصمت".
(1/1433)
صفات المفتين وخطورة الطعن في العلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموقف السلبي الذي وقفته حاشية الملك. 2- النهي عن أن يتكلم في المسائل الهامة كل
أحد. 3- يشترط فيمن يتكلم في الأمور الهامة أن يكون معروفاً صادقاً عالماً. 4- من لا يصلح
مصدراً للعلم ولا للعمل. 5- خطورة الفتوى ، وتهيّب السلف منها. 6- اجتراء الناس على
الفتيا في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله تعالى: وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون [يوسف:45-46].
نستعرض اليوم هذا المشهد من مشاهد تلك القصة القرآنية العظيمة الشريفة، قصة يوسف عليه السلام، ونستجلي ما فيه من الدروس والعبر، وهو مشهد سبقه آخر، تجلى في الذي قبله؛ الموقف السلبي الذي وقفته حاشية الملك، فحاولت أن تصرفه عن الاهتمام بتلك الرؤيا التي رآها وطلب منهم تفسيرها أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
انظروا كيف جرهم موقفهم السلبي إلى الوقوع في التناقض، إلى ادعاء العلم وادعاء الجهل في آن واحد، ادعوا العلم أولاً فحكموا على المسألة بأنها أضغاث أحلام ثم ادعوا الجهل بتأويل الرؤى وهذا تناقض، وهكذا يكون حال الحاشية عندما تكون فاقدة للأهلية مفتقرة للنية الصحيحة والمقصد السليم، وفي هذا المشهد والذي قبله نلحظ أن المسألة من المسائل الهامة المتعلقة بالأمة بالرعية بالمصالح العامة وليست مجرد رؤيا عابرة بل كانت تلك الرؤيا لمحة من الضوء لتنبه المسؤول الأول عن تلك الأمة إلى خطورة الحال وإلى خطورة الاستمرار عليه فالبقرات السمان ستأكلهن البقرات العجاف، والسنبلات الخضر ستبتلعهن السنبلات اليابسات إذا لم يتم تدارك الحال، ولابد أن صاحب الرؤيا شعر بأن فيها علماً يجب استكشافه لذلك قال: أفتوني بينوا لي علماً استفيد منه ثم تأملوا قول ذلك الذي نجا من السجينين اللذين كانا مع يوسف في السجن، وادكر بعد أمة، تذكر صاحبه يوسف، بعد زمن طويل بمناسبة هذه الرؤيا التي رآها الملك، ماذا قال ليوسف عندما أقبل إليه في السجن يطلب منه تأويل تلك الرؤيا: يوسف أيها الصديق أفتنا ، يوسف أيها الصديق أفتنا إذاً، فالمسائل الهامة المتعلقة بالأمة بالرعية بالمصالح العامة ومن باب أولى ما كان متعلقاً منها بالدين لا يتكلم فيها كل أحد، كما لا يتصرف فيها كل أحد، لا يتكلم فيها المجهولون، فمن كان مجهول الحال، مجهول المقاصد، مجهول العقائد، مجهول الولاء، لا نعرف ولاءه لمن، لله أم لغيره، لا يصلح من كان هذا حاله أن يكون مصدراً لا للعلم ولا للعمل، لا يصلح أن نأخذ عنه أمر ديننا، ولا أي مصلحة من مصالحنا العامة، لا يتكلم في مثل هذا المقام إلا من كان معروفاً كما كان يوسف معروفاً لذلك السائل أنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، سليل الأنبياء والمصلحين، وهل نسي ذلك السائل قول يوسف عندما كان معه في السجن واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب [يوسف:38]. إذاً فقد كان معروفاً لديه، كان معروفاً لديه، وهذا هو أول شرط، لا نأخذ ديننا ولا مصالحنا عن المجهولين.
الشرط الثاني: أن يكون محلاً للصدق، أن يكون أمينا على الدين والدنيا، أن يكون صادقاً في مقاصده، وأهدافه، صادقاً في أقواله، صادقاً في أفعاله، أتسلّم مالك لأحد لا تعرف أمانته ولا أهليته ليستصلحه لك؟! فكيف تسلم دينك لمن لا تعرف أمانته وصدقه، الصديق هذا هو الوصف الثاني من أوصاف يوسف الذي نوّه به ذلك السائل، والصديق في اللغة مبالغة من الصدق.
والشرط الثالث: أن يكون من أهل العلم، الذين هم أهل الذكر، والذين هم أولو الأمر، فحيثما جاء في القرآن أولو الأمر فالمقصود بهم أولو العلم أهل الذكر، أن يكون من أهل العلم، فإنهم الذين يتكلمون في الملمات، ويفتون في أمور الأمة، إنهم الذين يتكلمون باسم الدين، ويوقعون عن رب العالمين.
يوسف أيها الصديق أفتنا لا تطلب الفتوى إلا من أهلها، أي بيِّن لنا مما آتاك الله من العلم، أوَينسى ذلك السائل قول يوسف له ولرفيقه الآخر الذي صلب بعد ذلك، قوله لهما عندما كانا في السجن: لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي [يوسف:37].؟؟!
أفتنا بيِّن لنا من ذلك العلم الذي علمك ربك، بين لنا من ذلك العلم الذي علمك ربك، إذاً لا يحل أن يتكلم في الفتوى ولا في أمور العلم ولا في أمور الأمة، ولا ينطق باسم الدين، لا يجوز أن يتكلم في شيء من هذا المقام إلا من تحققت فيه هذه الشروط الثلاثة، لا نأخذ ديننا ولا ما يهمنا من مصالحنا العامة إلا من العلماء المعروفين الصادقين، الذين تعرف الأمة كلهم صدقهم وأمانتهم وعلمهم وشجاعتهم، وأنهم يقولون الحق لا يخافون في الله لومة لائم.
أما المجاهيل، أما الذين فسدت نيتهم، وضاعت أمانتهم، وأخرسهم النفاق عن قول الحق، وأنطقهم حب التزلف والتقرب إلى السلاطين والحكام، أنطقهم بالباطل فهؤلاء لا يصلحون مصدراً لا للعلم ولا للعمل، حتى ولو كانوا علماء، فإنهم إن كانوا علماء فهم أشباه أحبار اليهود، فأحبار اليهود علماء، سماهم القرآن علماء بني إسرائيل، لكنهم لم يكونوا أمناء، وأما إن كانوا جهالاً فحشفا وسوء كيلة، فقد ضموا آفة الجهل إلى الآفتين السالفتين، ضياع الأمانة، وفساد النية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
روي مرسلاً عن النبي أنه قال: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)) [1] ، وعن البراء قال: ((أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله يسألون عن المسألة وما من رجل منهم إلا ويودّ أن أخاه كفاه)) [2] وفي رواية: ((فيرده هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى يرجع إلى الأول)).
يدل هذا على عظم هذا الأمر، وعظم هذه المسؤولية، فما تصدى للفتوى، وللتكلم باسم الدين، فقد تصدى لأمر عظيم، والمفتي، من نصب نفسه للمفتوى فإنه نصب نفسه للتوقيع عن رب العالمين. التوقيع عن أمره ونهيه عز وجل، ولذلك كان السلف يتهيبون من هذا المقام ويفرقون منه أشد الفرق والخوف، كان محمد بن سيرين وهو من أجلاء التابعين إذا سئل عن مسألة تغير لونه وتبدّل كأنه ما كان الذي كان، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا سئل عن مسألة تغيّر حتى كأنه واقف بين الجنة والنار، وكان النخعي إذا سئل واستفتي ظهرت الكراهة على وجهه، وقال للسائل قبل أن يفتيه : ما وجدت أحداً لتسأله غيري؟.
هكذا كان السلف يتهيبون من هذا المقام لأنهم يعلمون عظم المسؤولية فيه، وأنهم موقوفون بين يدي رب العالمين ومسؤولون عنه قبل الخلائق أجمعين. ولكن الناس اليوم يتسابقون إلى الفتوى، ويتكلمون باسم الدين، وقد اجترؤوا على العلم واستباحوا حماه، وأخذ كل من هب ودب يفتي ويوقع عن رب العالمين، وتصدى لهذا المقام العظيم من ليس من أهله فصار يقول: هذا حلال، وهذا حرام، وهذا فاسق، وذاك كافر، وهذا مبتدع، وذاك خارجي.
وأعظم وأشد علامة على الزيغ وسوء النية، وخبث الطوية تكفير الأئمة والطعن في العلماء حاضرهم وسالفهم، فإذا رأيت الرجل هذا حاله ففر منه كما تفر من المجذوم، فإن من هذا حاله فهو خبيث الطوية، سيئ النية والمقصد، وقدْ يندس بين المسلمين من ليس منهم، ليفرق جماعتهم، ويشوش حالهم، وأعظم وسيلة وأخطر وسيلة لتمزيق الأمة هو بلبلة أفكارها وهدم عقائدها والتشكيك في قادتها وأئمتها وعلمائها.
لماذا أصبحنا نرى اليوم هذه الظاهرة متفشية فيما بيننا، يتكلم باسم الدين ويوقع عن رب العالمين، كل من هب ودب، كل من شاء يتكلم عن الدين وباسم الدين، إنها لظاهرة خطيرة، تنذر بعواقب وخيمة، تنذر بعواقب وخيمة، فإن العلم والفكر والعقائد من أقوى الحوافز على الحركة وعلى العمل، على التصرف على الفعل لو كانوا يعلمون.
فتجب حماية العقيدة، يجب حراسة الدين، يجب حراسة حمى العلم، لا يتطفل عليه كل من هب ودب، وإن لم يتم تحقيق ذلك فستكون فتنة لا يعلم مداها إلا الله.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
[1] أخرجه الدارمي في سننه (1/69) عن عبيد الله بن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وهذا إسناد معضل ، عبيد الله وإن كان تابعياً رأى الصحابي عبد الله بن الحارث بن جزء إلا أنه ليس له رواية عن الصحابة ، وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4/294) [1814].
[2] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم [2199 ، 2201 ، 2202] من كلام عبد الرحمن بن أبي ليلى وليس من كلام البراء.
(1/1434)
نصائح لطالب العلم واختلاف العلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
11/4/1412
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان أخطاء العلماء إنما يقوم به أهل العلم والفقه. 2- المسائل الكبار للعلماء الكبار. 3-
نصائح لطلبة العلم (التعلم للعمل ، الأدب قبل الطلب ، توقير العلماء ، عدم الاشتغال بالغرائب
والمعضلات ، تلقي العلم من أهله). 4- اختلاف العلماء تسوده الرحمة ، واختلاف الجهال
كارثة ونقمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد يقول قائل بعد سماعه لما بيناه في الخطبة الماضية: أنت إذاً لا ترى أن يرد أحدٌ على أحدٍ إذا أخطأ في شيء من مسائل العلم والدين والفقه، وأن لا يبين ما وقع فيه العلماء السابقون أو اللاحقون من البدع، وأن لا يشتغل ببيان الحق ولا إنكار المنكر، ولا رد الشبهات، ولا تفنيد الضلالات.
فالجواب على ذلك أن كل هذا مطلوب شرعاً ولكنه من واجبات أهل العلم والفقه، ما دخْل الخلوف في ذلك؟ لا شأن لهم في شيء من ذلك، لا يجوز للخلوف أن يتكلموا في شيء من المشكلات الشائكة التي تضل عندها الأفهام، وتزل عندها الأقدام لا يجوز للصغار أن يتكلموا في المسائل الكبار، لا يجوز للصغار أن يتكلموا في المسائل الكبار التي تحتاج إلى خبرة بالعلم وبالفقه، وإلى بصيرة بالأصول والفروع، وبالأدلة والأحكام وإلى قدرة على الاستنباط، وقدرة على تطبيق ذلك كله على الواقع، بل على الصغار أن يردوا الأمر إلى الكبار، إلى أهل العلم، وإلى أهل الفقه، ونحن إنما نقصد المسائل والمعضلات التي لا يدرك الحق فيها كل أحد، أما المسائل الواضحات، أما المنكرات الظاهرات، أما البدع المعلومات فلابد من تحذير الناس منها، وعلى كل أحد أن يبلّغ في ذلك بحسب علمه، أن يبلغ حسب ما يعلم، ونريد أن ننصح شباب الصحوة اليوم، الشباب المقبلين على التعلم والتفقه في الدين، بأن يحذروا من الآفات والعراقيل، التي تحف بهم وهم في طريق التعلم.
إن طريق العلم آخره الجنة كما أخبرنا بذلك الصادق الأمين سيدنا محمد ، ولكنه طريق محفوف بالمخاطر، بالمزالق والعوائق.
فأولا: يجب على الشباب وعلى كل متعلم أن يتذكر أن المقصود من التعلم هو العمل، المقصود من التعلم هو تصحيح العبادات، وتصحيح المعاملات في حياة الناس. وتصحيح العقائد حتى يلقى المسلم ربه بعقيدة سليمة وبعمل صحيح، ولذلك نكرر دائماً ونقول: إن على الشباب بل على كل مسلم أن يتعلم أمور دينه وأن يبدأ أول ما يبدأ بتعلم الفقه والتوحيد، بتعلم الفقه والتوحيد، ولكننا نرى اليوم الخلوف اشتغلوا بعلوم الاجتهاد وهم بعد لم يفقهوا هذين العلمين الضروريين الواجبين، وهذا من علامات سوء المقصد، وفساد النية، لأنه إنما يفعل هذا من يريد الشهرة ويطلب الرئاسات العلمية.
ثانياً: على الشباب وعلى كل متعلم أن يتعلم أدب العلم، كما يتعلم العلم وأن يلزم توقير العلماء والأئمة سابقهم ولاحقهم، سابقهم من باب أولى ولاحقهم، فإن توقير العلماء والأئمة من الواجبات الشرعية، التي يؤاخذ ويأثم من أخل بها، قال المصطفى : ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)) [1] ، وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أمسك الركاب يوما لزيد بن ثاب وهو على فرسه وزيد بن ثابت من علماء الصحابة وفقهائهم، وابن عباس هو ابن عباس معروف، أمسك الركاب عند قدمي زيد، فقال له زيد: تنح يا ابن عم رسول الله ، ابن عباس أمسك الركاب، احتراماً وتبجيلاً وتوقيراً لزيد، وزيد قال له: تنحّ يا ابن عم رسول الله، كره أن يراه في هذا الموقف، تعظيماً لصلته برسول الله ، فقال ابن عباس : لا، بل هكذا نفعل بالعلماء [2] ، وظل رضي الله عن الجميع واقفاً عند رجلي زيد ممسكاً بالركاب هذا هو أدب السلف مع علمائهم.
أما اليوم فإننا نرى من سوء أدب الخلوف ما يندى له الجبين، نرى من سوء أدب الخلوف ما يندى له الجبين، يقعون في أعراض العلماء، ويسارعون إلى الطعن فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، لا يرعون في مؤمن ولا في عالم إلا ولا ذمة، وإن تعجب فعجب وقوعهم وهجومهم على علماء التوحيد باسم التوحيد، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس، ويدعون أن هذا من منهج السلف، وهذا والله ليس من منهج السلف، لقد كذبوا على أنفسهم وعلى الناس.
ثالثاً: يجب على الشباب وعلى كل متعلم أن لا يشغل نفسه بالمعضلات أثناء التعلم، ولا بالمسائل الغريبات، ولا يجوز له الاشتغال بالشبهات، ولا صرف الأعمار والأوقات في الجدل والخصومات، فإن النفس إذا استسلم المتعلم لها شغف بكل ذلك ومال إليه، وقد كان السلف يحذرون من ذلك كله أشد التحذير، وينهون المتعلمين منه، وليس أضر على طالب العلم من شهوة الجدل، فإن الجدل والخصومة في مسائل العلم والدين قد يجرّ إلى الكفر والعياذ بالله، أما أنه يجر إلى الشحناء والبغضاء والعداوة فهذا أمر واضح جلي لا شك فيه.
عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال في تفسير قوله تعلى: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء [المائدة:14]. قال : الخصومات والجدال في الدين [3].
وعن بكر بن نصر رحمه الله قال : إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم من العمل [4] ، وسئل الإمام العظيم وخامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن قتال يوم صفين فقال: تلك دماء كفّ الله عنها يدي، لا ألطخ بها لساني [5].
فانظر أدب السلف في مثل هذه المعضلات، لكننا نرى اليوم أولئك الخلوف وهم شرذمة قليلون لا يكدرون صفو شباب الصحوة المقبلين على التعلم والتفقه في الدين، وإنما يكدرون على أنفسهم فحسب، نرى أولئك الخلوف شغلوا أنفسهم وشغلوا الناس بالجدل والخصومات، فأرسلوا وسلّوا ألسنة حداداً شداداً بغير شفقة ولا رحمة على المؤمنين، بل حتى على أهل التوحيد، وهذا والله شر مستطير، له ما وراءه، لأنه أسلوب يغرس العداوة والبغضاء بين المؤمنين وبين طلبة العلم على وجه الخصوص.
وربما أدى إلى الوقيعة بين بعض أهل العلم، إنه أسلوب يشقق صفوف المؤمنين، ويؤلب بعضهم على بعض.
رابعاً: على كل متعلم، وعلى الشباب على وجه الخصوص أن يتلقوا العلم عن أهله، ويأخذوه عن أكابر أهل العلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولا يلجؤوا إلى الأصاغر إلا عند الضرورة، ولكن عليهم أن يحذروا كل الحذر من المدسوسين والمشبوهين والمجهولين وأدعياء العلم، فإن هؤلاء لا يقودون المتعلم إلا إلى الهلاك والضلال، وليعلم الجميع أنه ليس من منهج السلف أن يجتمع الشباب ليس لهم رأس في العلم بزعم أنهم يتفقهون في الدين، دخل أحد السلف جامعاً فوجد جماعة متحلقين، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يتفقهون، قال: هل لهم رأس؟ أي هل لهم شيخ من أهل العلم والفقه يعلمهم؟ قالوا: لا، قال: إذاً والله لا يفقهون أبداً.
فالتعلم بدون رؤوس في العلم يقودون الشباب، يقودون المتعلمين إلى العلم الصحيح، ويبينون لهم مسائل العلم وغوامضه، ويكشفون لهم أسراره، ويرشدونهم عند الملمات، ويوجهونهم عند المشكلات، التعلم بدون هذا خطر عظيم، وعواقبه جسيمه.
فعلينا أن نلزم رؤساءنا في العلم، رؤوسنا في العلم، ورؤوسنا في العلم هم العلماء الربانيون، المعروفون بالعلم وبالأمانة وبالتقوى والورع، وقول الحق لا يخافون في الله لومة لائم، هؤلاء هم رؤوسنا في العلم، هم أولو الأمر فينا في العلم، تجب علينا طاعتهم وملازمتهم، وأخذ العلم عنهم أو عمن يزكونه من غيرهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله اليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء:59].
بارك لله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد والطبراني والحاكم من حديث عبادة بن الصامت وحسن المنذري إسناد أحمد وقال الألباني : حسن. صحيح الترغيب (1/152) [101].
[2] أخرجه الطبراني في الكبير (5/107-108) والخطيب في الجامع [307-308] وفي الفقيه والمتفقه (2/99) وصححه ابن حجر في الإصابة (1/543).
[3] أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/137) [11598-11600].
[4] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/933) [1777] وصوابه بكر بن مضر.
[5] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/934) [1778].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فمن الحقائق التي يجب أن ندركها جميعاً، ويجب على الشباب المتعلم على وجه الخصوص أن يتنبهوا إليها أن أكابر أهل العلم والأئمة في هذه الأمة يختلفون فيما بينهم في مسائل العلم والفقه في الدين ويتناظرون ويرد بعضهم على بعض ولا يفسد ذلك للود فيما بينهم قضية، ولا يضر اختلافهم هذا، لا يضر الأمة شيئاً، لأنهم إنما يختلفون بأدب ولا يخرجون في اختلافهم عن الأصول والضوابط الشرعية، فإن الاختلاف في مسائل العلم ومسائل الدين والفقه له أصوله وآدابه، والمناظرات لها ضوابطها، والعلماء المجتهدون أهل الاستنباط الذين لهم بصيرة بأصول الدين وفروعه وأدلته وأحكامه يختلفون ولا يضر اختلافهم الأمة، بل يفيدها فاختلاف العلماء المجتهدين رحمة ونعمة، بينما اختلاف الجهال كارثة ونقمة، لأن الجهال، ليس فقط إذا اختلفوا في مسائل العلم، بل إذا تكلموا في مسائل العلم فإنهم يفسدون لأنهم يقولون ما لا يعلمون يتكلمون بغير بصيرة، ويختلفون بلا أدب، وكذلك غالباً ما يؤدي اختلاف الجهال واختلاف المبتدئين وأرباع المتعلمين وأنصاف المتعلمين غالباً ما يؤدي اختلافهم إلى التنازع والتشاحن والبغضاء وأن يرمي بعضهم بعضاً، أما العلماء المجتهدون فإنهم لبصرهم بهذا الدين وخبرتهم بالعلم والفقه، فإنهم يختلفون ويكون اختلافهم منفعة ومصلحة للأمة، ولذلك أمر ربنا عز وجل بأن ترد المسائل المشكلات إلى علمائنا فقال سبحانه وتعالى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء:83]. فأولو الأمر في هذه الآية المراد منهم العلماء، وخصّت الآية منهم طبقة عالية رفيعة هم الراسخون في العلم، وصفتهم بأنهم من أهل الاستنباط الذين يستنبطونه منهم وهؤلاء هم الفقهاء.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
(1/1435)
السيرة النبوية 3
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مازن التويجري
الرياض
2/4/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خروج الرسول إلى الطائف وما لقيه فيها. 2- دعاء النبي وأدعية الأنبياء في المحن. 3-
رحمة النبي بالكافرين. 4- الإسراء والمعراج وموقف المشركين منه. 5- بيعة العقبة الأولى.
6- بيعة العقبة الثانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
ولما خرج رسول الله وأصحابه من حصار الشعب الآثم, وكان ما كان من وفاة زوجه الرؤوم, وعمه الذي يحوطه ويمنعه, وأن كفار قريش لم يزالوا يحاربون الحق ودعوة الحق, يسومون المؤمنين بالعذاب أضعافًا لأهل الحق المتمسكين به, غدا ليعرض دعوته على بلاد أخرى, ورجال آخرين.
في شوال سنة عشر للنبوة, خرج رسول الله إلى الطائف ماشيًا على قدميه الطاهرتين ومعه مولاه زيد بن حارثة, كلما مرَّ على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد, ووصل إلى الطائف فعمد إلى ثلاثة أخوة من رؤساء ثقيف, وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي, فجلس إليهم ودعاهم إلى الله ونصرة الإسلام, فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك, وقال الآخر: أما وجد الله أحدًا غيرك, وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدًا, إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك, ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك, فقام عنهم رسول الله وقال: ((إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني)) [1].
وأقام في أهل الطائف عشرة أيام, لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه, فقالوا: اخرج من بلادنا, وأغروا به سفهاءهم, فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به, حتى اجتمع عليه الناس فوقفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة, ويسبونه ورجموا عراقيبه, حتى احتضنت نعلاه بالدماء, وزيد بن حارثة يقيه بنفسه, فأصابه شجاج في رأسه.
وهكذا يبقى أهل الحق في صراع مع الباطل على مرَّ العصور, في دعوته عليه السلام لأهل مكة وسيره لأهل الطائف نداء إلى كل من يحمل همَّ دينه وأمته: أن طريق الدعوة شاقٌ, طويلٌ, عسيرٌ, عقباته كؤود, وألمه شديده, ليتذكر ذلك العامل لدينه يوم يصاب في ماله, كيف بذل رسول الله دنياه كلها في سبيل دعوة الخلق إلى الحق, تذكر وأنت تدعو الناس إلى الله وقد أصابك ما أصابك من شتم يسير, أو سباب من سفيه حقير ما عرف قيمة الحياة أن إمام الأمة, وقائد الملة, وخير البشر, وأكرم الخلق, يُسب ويشتم, بل ويقال: كاهن, شاعر, مجنون, فهل رميت يومًا بمثل هذا, أو نالك من الحديث كهذا, بل أنت سالم في أهلك, معافىً في جسدك, والطاهر المطهر, المزكى من ربه ومولاه يضرب, ويرمى بالحجارة حتى يسيل دمه الطاهر, كل هذا نصرة لدين الله, ورفعًا للوائه ورايته, ولكن لابد أن يُعلم أن درب الجهاد والدعوة جماله في عنائه, وروعته في أوجاعه, ولذته في طول طريقه, ومن لم يجد هذا ولا ذاك فليراجع إيمانه وإخلاصه, وليكن نشيدك على الدوام:
دربنا المزروع بالشوك طويل وجميل ربما نعثر فيه وليالينا تطول
ولم يزل أولئك السفهاء بالنبي حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة, على ثلاثة أميال من الطائف فرفع كفيه وقال: ((اللهم إليك أشكو ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين, أنت رب المستضعفين وأنت ربي, إلى من تكلني, إلى بعيد يتجهمني, أم إلى عدو ملكته أمري, إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك هي أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك, أو يحل عليَّ سخطك, لك العتبى حتى ترضى,ولا حول ولا قوة إلا بك)) [2].
لا إله إلا الله, أي التجاء أعظم من هذا الالتجاء يا أهل الحق, الحق منصور فلا تجزعوا, ولكن لابد للبطولة من أبطال, ولساحات الوغي من شجعان, ومن رام العلى, وسرى نحو الثريا, لابد وأن يترفع على الثرى وغباره, ولا يُرى يلطخ عقله وجسمه في الوحل والطين... إنه الدرس العظيم في صدق اللجوء, وعمق التعلق والتذلل, مهما بلغت الأسباب والمسببات, فلا تنفع شيئًا, إذا فارقها توفيق وتيسير مسبب الأسباب سبحانه.
ما يصيب العامل لدينه من توفيق أو عدمه, من تصديق أو تكذيب, من قبول أو عناد وكله في صالحه, ومن حسن تدبير الله له, وما يدريك ففي قبول الناس للخير الفوز والفلاح, وفي عنادهم وأذاهم تكفير وتمحيص للسيئات, وعلو ورفعة في الدرجات, يوسف عليه السلام بعد كل ما لاقى من عناد وعذاب يقول ويبتهل رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين [يوسف: 101].
وموسى عليه السلام يخرج من وطنه طريدًا كسيرًا وآلامه تعتصر في قلبه, ومع ذلك ينادي ويدعو قال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص: 24].
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما, فدعو غلامًا لهما نصرانيًا, يقال له عداس, وقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل, فلما وضعه بين يدي رسول الله مدّ يده إليه وهو يقول: ((بسم الله)) ثم أكل فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد, فقال له رسول الله : ((من أي البلاد أنت؟)) قال: أنا نصراني, من أهل نينوى, فقال رسول الله من قرية الرجل الصالح: يونس بن متى, قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال: ((ذاك أخي, كان نبيًا وأنا نبي)) فأكب عداس على رأس رسول الله ويديه ورجليه يقبلهما [3].
ورجع رسول الله في طريقه إلى مكة, روى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبي هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ((لقيت من قومك ما لقيت, وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب, فرفعت رأسي, فإذا أنا بسحابة قد أظلتني, فنظرت فإذا فيها جبريل, فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك, وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, فناداني ملك الجبال, فسلم علي, ثم قال: يا محمد, ذلك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, وهما جبلا مكة يحيطان بها, قال النبي , بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئًا)) [4].
الله أكبر هكذا كانت إجابة الحليم الحكيم, هكذا كانت إجابة الرؤوف الرحيم بأمته مع كل ما قابله من تكذيب وتحريش وإغراء ومع ذلك يقول: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. لا غرو ولا غرابة فهو الرحمة المهداة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107].
هذه الكلمات الصادقة الحانية, رسالة إلى كل داعية ومعلم خير, أنت تبلغ دين الله, وشرع الله, فليكن عَرضك مقبولاً, وقولك طيبًا, وفعلك محمودًا, واعرض ما عندك, كما يعرض التاجر اللبيب بضاعته, وبعد ذلك إن لم تجد عونًا ووجدت صدًا وتجريحًا, فارفع يدك وادع رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [طه: 25 ـ 27], اللهم اهدني واهد بي.
وبينا رسول الله في هذه المرحلة التي كانت دعوته تشق طريقها بين النجاح والاضطهاد, وقع حادث عجيب مهم ألا وهو حادث الإسراء والمعراج, وقد اختلف في وقوعه, قيل: في رمضان من السنة 12 من النبوة, وقيل: في المحرم أو ربيع الأول من السنة 13 للنبوة, وقد روى أهل السنن والمسانيد والصحاح في كتبهم هذه الوقعة.
قال ابن القيم رحمه الله: أسرى برسول الله بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس, راكبًا على البراق, صحبه جبريل عليه السلام فنزل هناك, وصلى بالأنبياء إمامًا, وربط البراق بحلقة باب المسجد, ثم عرج به تلك الليلة من بيت المقدس إلى السماء الدنيا, فاستفتح له جبريل ففتح له, فرأى هناك آدم أبا البشر, فسلم عليه ورحب به, ورد عليه السلام وأقر بنبوته, وأراه الله أرواح الشهداء عن يمينه, وأراح الأشقياء على يساره.
ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم, وفي الثالثة يوسف, وفي الرابعة إدريس, وفي الخامسة هارون بن عمران, وفي السادسة موسى بن عمران, فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته, فلما جاوزه بكى موسى, فقيل له: ما يبكيك, فقال: أبكي لأن غلامًا بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي, ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم عليه السلام أجمعين, ثم رفع إلى سدرة المنتهى, ثم رفع إلى البيت المعمور, ثم عرج إلى الجبار جل جلاله, فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى, ثم كان فرض الصلاة على ما جاء, وعرض عليه في مسراه لبن وخمر, فاختار اللبن فقيل: هديت للفطرة, أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك, ورأى أربعة أنهار في الجنة, نهران ظاهران, ونهران باطنان, والظاهران هما النيل والفرات, ومعنى ذلك أن رسالته ستتوطن الأودية الخصبة في النيل والفرات, وسيكون أهلها حملة الإسلام جيلاً بعد جيل, وليس معناه أن مياه النهرين تنبع من الجنة.
ورأى مالك خازن النار, وهو لا يضحك, وليس على وجهه بشر وبشاشة, وكذلك رأى الجنة والنار, ورأى أكلة أموال اليتامى ظلمًا لهم مشافر كمشافر الإبل يقذفون في أفواههم قطعًا من نار كالأنهار فتخرج من أدبارهم, ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة, لا يقدرون لأجلها أن يتحولوا عن مكانهم, ويمر بهم آل فرعون حين يعرضون على النار, ورأى الزناة بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن, يأكلون من الغث المنتن, ويتركون الطيب السمين, ورأى النساء اللاتي يُدخلن على الرجال من ليس من أولادهم, رآهن معلقات بأثداهن, ورأى عيرًا من أهل مكة في الإياب والذهاب, وقد دلهم على بعير ندّ لهم, وشرب ماءهم من إناء مغطى وهم نائمون ثم ترك الإناء مغطى, وقد صار ذلك ليلاً على صدق دعواه في صباح ليلة الإسراء.
فلما أصبح رسول الله في قومه أخبرهم بما أراه الله عز وجل من آياته الكبرى, فاشتد تكذيبهم له وأذاهم وضراوتهم عليه, وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له, حتى عاينه, فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا, وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه, وأخبرهم عن وقت قدومها, وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها وكان الأمر كما قال فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا, وذكر ذلك لأبي بكر فقال: إن كان قال فقد صدق, ولذلك سمي صديقًا اهـ باختصار من كلام ابن القيم رحمه الله.
[1] رواه ابن إسحاق (2/419).
[2] رواه ابن إسحاق في السيرة. سيرة ابن هشام 2/420.
[3] المصدر السابق 2/421.
[4] رواه البخاري ح (3231).
_________
الخطبة الثانية
_________
وفي موسم الحج للسنة الثانية عشرة من النبوة اتصل اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج برسول الله عند العقبة بمنى فبايعوه وهي ما تسمى ببيعة العقبة الأولى.
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوني في معروف, فمن وفى منكم فأجره على الله, ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله, فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعته, وفي نسخة فبايعناه على ذلك [1].
وبعد البيعة بعث رسول الله معهم أول سفير إلى يثرب يدعو الناس ويعلمهم أمر دينهم, وهو مصعب بن عمر العبدري رضي الله عنه, وكان من السابقين إلى الإسلام, ونزل مصعب على أسعد بن زرارة, وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا دارين فقط, وقبل حلول الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة, أي بعد سنة فقط من بيعة العقبة الأولى عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر الفوز والقبول.
وفي موسم الحج لهذه السنة قدم من يثرب نحو من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان من المسلمين, وقد تساءلوا فيما بينهم وهم لم يزالوا في طريقهم حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي لقاءات أدت إلى الاتفاق أن يجتمعوا في أواسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى.
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا أي من حجاج المشركين حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله نتسلل تسلل القطا مستخفين, حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة, فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب, وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, وتوثق له وكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم, وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه, فهو في عز من قومه, ومنعة في بلده, وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه, ومانعوه ممن خالفه, فأنتم وما تحملتم من ذلك, وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت, فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
روى أحمد عن جابر قال: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) [2] , وفي رواية ابن إسحاق؛ فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم, والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع أزرنا منه, فبايعنا يا رسول الله, فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابر عن كابر.
قال: فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله ثم قال: ((بل الدم الدم, والهدم الهدم, أنا منكم وأنتم مني, أحارب من حاربتم, وأسالم من سالمتم)) [3].
قال العباس بن عبادة بن نضلة هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس, فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة, وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن, فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه, فهو والله خير الدنيا والآخرة, قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف, فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: ((الجنة)), قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه".
قال جابر: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة, أما المرأتان فكانت بيعتهما قولاً, ما صافح رسول الله امرأة أجنبية قط [4].
[1] رواه البخاري ح (3892).
[2] رواه أحمد ح (14047).
[3] رواه أحمد ح (1537) وابن إسحاق (2/442).
[4] رواه ابن إسحاق (2/446)
(1/1436)
غزوة بدر الكبرى
سيرة وتاريخ
غزوات
مازن التويجري
الرياض
9/5/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كفار قريش يلاحقون بالتهديد المسلمين في المدينة. 2- خروج الصحابة لاعتراض القافلة.
3- هرب القافلة وخروج قريش لقتال المسلمين. 4- ثبات الصحابة وشجاعتهم حين استشارهم
النبي في القتال. 5- مواقف في بدر. 6- مناشدة النبي ربه في طلب النصر. 7- مصرع أبي
جهل.
_________
الخطبة الأولى
_________
لما استقر رسول الله وأصحابه في المدينة ونعموا بطيب العيش فيها, وارتاحت نفوسهم, واطمأنت أرواحهم بعد العناء والآلام التي كانوا يلاقونها في مكة وما جاورها, زاد غيظ الكفرة الملحدين فأرسلوا إلى عبد الله بن أُبي بن سلول حيث كان رئيس الأنصار قبل الهجرة كتابًا نصه: إنكم آويتم صاحبنا, وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لتخرجنه, أو لنسيرن إليكم بأجمعنا, حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم, وأرسلت قريش إلى المسلمين تقول: لا يغرَّنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم.
وهكذا... هي سنة الحياة, يغيظ الكفار وأذنابهم أن ترتفع راية الإسلام, أو يهنئ أهله بطيب العيش أو رغد الحياة, بل يغيظ الكفار وأذنابهم أن يأكل المسلم أكلة هنية, أو يشرب شربة روية, بل يحسدون المسلمين على هواء نقي يتنفسونه, هذا هو حال الكفار, منذ قام الصراع بين الحق والباطل إلى اليوم, فكفار اليوم هم أبناء الآباء بالأمس, ومنافقو اليوم ورثوا النفاق صاغرًا عن صاغر.
فأعداء الملة هم أعداء الملة، وإن أبدوا محبة وأظهروا ولاء, اليهود هم اليهود, والنصارى هم النصارى, وعبدة الأوثان هم هم, لم يتغيروا ولن يتغيروا، ما داموا على ملتهم ودينهم, يكيدون للإسلام, وينصبون العداء له, وإن دافعوا عن الإنسان وحقوقه, أو رفعوا شعارات المساواة والتقريب ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة:120]. قاعدتهم التي يسيرون عليها وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30]. فياليت قومي يعلمون, أو يفيقون فيعقلون.
في جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله في مائتين من المهاجرين يعترضون عيرًا لقريش متجهة نحو الشام فبلغوا ذا العشيرة قرب ينبع, فوجدوا العير قد فاتتهم, فعادوا, ولما قرب رجعوها من الشام أرسل رسول الله طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال لاستكشاف خبرها, فوصلا الحوراء حتى مرَّ بهم أبو سفيان بألف بعير موقرة بالأموال فأسرعا إلى المدينة وأخبر رسول الله الخبر, فقال عليه الصلاة والسلام: ((هذه عير قريش فيها أموالكم, فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها)) [1] ولم يعزم على أحد بالخروج, فسار رسول الله بالجيش فيه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً بفرسين وسبعين بعيرًا يتعاقبونها, وكان النبي وعليٌ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرًا واحدًا, ودفع لواء القيادة لمصعب بن عمير وكان أبيضًا, وقسم الجيش إلى كتيبتين, كتيبة المهاجرين وأعطى علمها علي بن أبي طالب, وكتيبة الأنصار أعطى علمها سعد بن معاذ, وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام, وعلى الميسرة المقداد بن عمرو, وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة, وهو القائد الأعلى للجيش.
وعلم أبو سفيان بجواسيسه مسير عسكر المؤمنين فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة, فصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره, وقد جدع أنفه, وحول رحله, وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش, اللطيمة. اللطيمة, أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه, لا أرى أن تدركوها, الغوث الغوث.
فتحفز الناس سراعًا وتجمع نحو ألف وثلاثمائة مقاتل, في مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بقيادة أبي جهل بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله [الأنفال:47], وأقبلوا كما قال رسول الله : ((بحدهم وحديدهم يحادون الله, ويحادون رسوله)) [2].
وقد أفلت أبو سفيان بالعير فسار باتجاه الساحل, وأرسل رسالة إلى جيش قريش وهم في الجحفة: إنكم خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم, وقد نجاها الله فارجعوا, فهم الجيش بالرجوع, عندها قام الطاغية الأشر أبو جهل, فقال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا, فنقيم بها ثلاثًا فننحر الجزور, ونطعم الطعام, ونسقي الخمر, وتعزف لنا القيان, وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا, فلا يزالون يهابوننا أبدًا, فرجعت بني زهرة وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل, فسار الجيش من ألف مقاتل حتى نزل قريبًا من بدر وراء كثيب بالعدوة القصوى.
ولما كان الأمر كذلك كان لابد من موقف بطولي شجاع, يرد كيد أهل مكة في نحورهم ويكسر شوكتهم, وتزعزع قلوب فريق من الناس, وخافوا اللقاء كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًاَ من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون [الأنفال:5].
واستشار النبي أصحابه, فقام أبو بكر فقال وأحسن, وقام عمر فقال وأحسن, ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله, امض لما أراك الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [المائدة:24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغمام لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه, فقال له رسول الله خيرًا ودعا له, وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم قلة في الجيش.
فقال عليه السلام: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) وإنما يريد الأنصار, فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله, قال: ((أجل)). فقال سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم, وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت, وصل حبل من شئت, واقطع حبل من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت, وأعطنا ما شئت, وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت, وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك, فوالله لئت سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك, ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك [3].
الله أكبر, إنه الحب الحقيقي, والولاء الحقيقي, فلا بأس في قاموس العقلاء الصادقين في انتمائهم أن تبذل الأنفس والأموال في سبيل رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, إنه صدق الاتباع، يتمثل في مواقف الصحابة من الرعيل الأول, فلا تلكأ ولا تردد, ولا انهزام, بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, أين هذا من تلك الانهزامية, وذلك التردد, وضعف الولاء عند عدد ليس باليسير من أبناء المسلمين؟!
تعلو به أصواتهم في المجالس والمنتديات, أو ترقمه أقلامهم على أعمدة الصحف والمجلات, ولكن نقول ونحن مشفقون عليهم ما حالنا وحالكم إلا كما قال الأول:
لا يضر القافلة أن تسير إذ الكلاب تنبح
وسر النبي بقول سعد ثم قال: ((سيروا وأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)) [4].
وتحرك النبي بأصحابه فنزلوا قريبًا من بدر, واستكشف عليه السلام الأمر بنفسه، فعلم عدد القوم, ومن خرج من أشراف مكة فقال لأصحابه: ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها)) [5].
في هذه الأثناء بدأت أول بشائر النصر في أرض المعركة, أنزل الله المطر, فكان على المشركين وابلاً شديدًا منعهم من التحرك, وكان على المسلمين طلاً طهرهم الله به, وأذهب عنهم رجس الشيطان, ووطأ به الأرض, وصلب به الرمل, وثبت الأقدام, ومهد به المنزل, وبط به على قلوبهم.
وهكذا فالله مع أوليائه يحفظهم ويحرسهم ويحوطهم برعايته, وينصر جنده, وييسر لهم أمورهم, ويذلل العقبات لهم, متى ما ساروا على منهج الحق علمًا وعملاً واعتقادًا يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [محمد:7].
وتحرك النبي حتى نزل بدرًا فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله, أرأيت هذا المنزل, أمنزل أنزلك الله إياه, ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) قال: يا رسول الله, فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فننزل ونغِّور ـ أي نخرب ـ ما وراءه من القَلب, ثم نبني عليه حوضًا, فنملأه ماء, ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون, فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)) [6].
فنهض عليه السلام بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل, واتخذ النبي له عريشًا على تل مرتفع في الشمال الشرقي لميدان القتال, ثم عبأ رسول الله جيشه, ومشى في موضع المعركة, وجعل يشير بيده ((هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله, وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله)) [7] رواه مسلم.
ثم بات عليه السلام يصلي إلى جذع شجرة, وبات المسلمون ليلهم بهدوء وسكينة, غمرت الثقة قلوبهم, وأخذوا من الراحة قسطهم, يأملون أن يروا بشائر نصر ربهم بأعينهم صباحًا, وأما جيش مكة المشرك فنزل صباحًا على وادي بدر, ودار عمير بن وهب الجمحي على جيش المسلمين ينظر عددهم فرجع إلى قومه وقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون, ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا, نواضح يثرب تحمل الموت الناقع, قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم, والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم, فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد ذلك, فروا رأيكم.
ولما طلع المشركون, وتراءى الجمعان قال رسول الله : ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها, تحادك وتكذب رسولك, اللهم فنصرك الذي وعدتني, اللهم فأحنهم إلي الغداة)) [8].
وأخذ النبي يعدل الصفوف بقدح في يده فضرب بطن سواد بن غزية وقال: ((استو يا سواد)) فقال سواد: يا رسول الله, أوجعتني, فأقدني, فكشف عن بطنه وقال: ((استقد)) فاعتنقه سواد, وقبّل بطنه, فقال: ((ما حملك على هذا يا سواد؟)) قال: يا رسول الله, قد حضر ما ترى, فأردت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك, فدعا له رسول الله بخير. [9]
ثم أمرهم ألا يبدأوا القتال حتى يأمرهم, وكان أول وقود القتال أن خرج من جيش المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه, أو لأموتن دونه, فخرج إليه حمزة رضي الله عنه فضربه ضربة قطع بها نصف ساقه, ثم ثنى عليه بضربة أتت عليه. ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وشيبة ابنا ربيعة, والوليد بن عتبة, وطلبوا المبارزة فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فما ارتضوهم ونادوا: يا محمد, أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا, فقال رسول الله : ((قم يا عبيدة بن الحارث, وقم يا حمزة، وقم يا علي)), فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرينيهما أن قتلاهما, وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه في ضربتين، فكر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله, ولم ينشب أن مات بعد ذلك بخمسة أيام رحمه الله ورضي عنه [10].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًاًً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون الأنفال:5-8].
[1] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/607).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/621).
[3] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/615).
[4] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/615).
[5] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/617).
[6] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/620).
[7] رواه مسلم ح (1779).
[8] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/621).
[9] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/626).
[10] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/625).
_________
الخطبة الثانية
_________
ولم يزل رسول الله بعد رجوعه من تعديل الصفوف يناشد ربه ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد, اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا)) [1].
وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فرده عليه الصديق وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك, وأغفى النبي إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: ((أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده, على ثناياه النقع)) [2]. ثم خرج من باب العريش, وهو يثب في الدرع ويقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) [3] ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا, وقال: ((شاهت الوجوه)) ورمى بها في وجوههم, فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة, [4] وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال 17].
وأمر عليه السلام بالهجوم وهو يقول: ((والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة, قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)), فقال عمير بن الحمام: بخ بخ, وأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى بها, ثم قاتلهم حتى قتل [5].
قال ابن عباس رضي الله عنه بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذا سمع ضربة بالسوط فوقه, وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم, فنظر إلى المشرك أمامه! فخر مستلقياً، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: ((صدقت, ذاك مدد السماء الثالثة)) [6] , وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي, فعرفت أنه قد قتله غيري.
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت, فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سرًا عن صاحبه: يا عم أرني أبا جهل, فقلت: يا ابن أخي, فما تصنع به؟ قال أُخبرت أنه يسب رسول الله , والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا, فتعجبت لذلك, قال: وغمزني الآخر, فقال لي مثلها, فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه.
قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه, ثم انصرفا إلى رسول الله فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته, قال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) فقالا: لا, فنظر رسول الله إلى السيفين فقال: ((كلاكما قتله)) [7] وهما معاذ بن عمرو بن الجموح, ومعوذ بن عفراء. وكان النصر بعد ذلك.
الله أكبر... ألا فليصرخ بمثل هذه المواقف في المجالس والدور, ولتسقى هذه البطولة وتلك الغيرة مع ألبان الأمهات, وليعلم الصغار والكبار كيف تكون العزة والدفاع عن الدين ونصرة الحق, والغيرة على الإسلام من أبنائنا الصغار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واعلموا أنما غنتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة وإن الله لسميع عليم إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلّم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون الأنفال:1-45].
[1] رواه البخاري ح(2915).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/627).
[3] رواه البخاري ح(4875).
[4] رواه الطبري في تاريخه(2/34).
[5] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/627).
[6] رواه البخاري ح(1763).
[7] رواه البخاري ح(3141)، ومسلم ح(1752).
(1/1437)
وصايا أبي الدرداء
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, العلم الشرعي
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 2- وصف النبي لأبي الدرداء بالحكيم. 3- ترجمة
مختصرة لأبي الدرداء وما جاء في حكمته. 4- قول أبي الدرداء في الحث على العلم ومحبة
أهله وفضلهم. 5- وقوع الخطأ من العلماء. 6- أبو الدرداء يحذر من خشوع النفاق. 7- هدي
أبي الدرداء في كيفية التعامل مع العاصي. 8- النهي عن إشاعة المنكر والتحديث به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله إن الله جل جلاله اختار فيما اختار رجالاً صالحين لصحبه محمد عليه الصلاة والسلام، اختارهم وهو جل وعلا يختار ما يختار لفضل منه جل وعلا ولحكمة وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة وصحابة رسول الله مدرسة عظيمة تربى عليها الناس فيما بعد، تربى عليها التابعون إذ رأوا أفعالهم وأخذوا أقوالهم وتدارسوها، وتربى عليها العلماء والصالحون فيما بعدهم حيث نظروا في أقوالهم وأخذوها دروساً وجعلوا يتدبرون ويتجملون فيها وليس من عجب إن كان ذلك كذلك.
لأنهم الصحب الذين رضي الله عنهم لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، وكان منهم المهاجرون وكان منهم الأنصار، والأنصار كانوا أنصاراً لرسول الله نصروا دينه لما تخلت عنه عليه الصلاة والسلام قريش وتخلت عنه القبائل فيما حول مكة، فأقبلوا على دين الله ونصروه بألسنتهم ونصروه بأعمالهم ونصروه بسيوفهم وأرواحهم.
فرضي الله عنهم أجمعين كفاء ما بذلوا وكفاء ما عملوا وكفاء ما أدوا لهذه الأمة ونقلوا دين الله إلى الناس أجمعين.
كان من هؤلاء من وصفه النبي بأنه حكيم هذه الأمة فيما روى عنه عليه الصلاة والسلام من وجه مرسل فقال عليه الصلاة والسلام: ((حكيم هذه الأمة أبو الدرداء)).
وأبو الدرداء هذا صحابيٌ من الأنصار، خزرجي، هو عويمر بن زيد بن قيس، وقيل: عويمر بن عامر، كان عبداً صالحاً، وكان سيداً من سادات القراء، لم يجمع من الصحابة القرآن كاملاً على عهده عليه الصلاة والسلام إلا نفر قلائل كان منهم أبو الدرداء وأرضاه، أسلم أبو الدرداء ، أسلم يوم بدر بالمدينة وشهد مع رسول الله أحدٌ والمشاهد بعدها.
ولما رأى النبي حاله يوم أحد، حاله في دفاعه عن النبي لما تفرق عنه الناس قال: نعم الفارس عويمر، وكان أبو الدرداء بيتاً للحكمة وبيتاً للعلم، بهذا ولاه عمر بن الخطاب قضاء دمشق وتوفي بدمشق في آخر خلافة عثمان، كان له أصحاب، وكان يعظ الناس بكلامه لكي يتأثر الناس، وكان يعظ الناس بعمله، بعمل صادق، فجمع في الوعظ وجمع في الهداية بين العمل والخوف، تأثر الناس بعمله وتأثر الناس بقوله.
وإنه لمما ينبغي علينا أيها المؤمنون أن ننظر في أقوال صحابة رسول الله لننظر كيف نقلوا الإسلام قولاً وعملاً إلى الناس بعدهم إلى زماننا، وكل صالح يرجى في الناس فإنما يكون بالنظر في حال صحابة رسول الله وبتدارس أقوالهم والنظر في أعمالهم، ففي النظر في أعمالهم ما يجعل المرء ذا همة قوية في طلب الحق وفي الجهاد والاجتهاد في العلم والعمل، وبالنظر إلى أقوالهم يكون المرء في مدرسة وفي تربية يفقدها إذا لم يُقبل على هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم ويدرسوا أقوالهم ويتدبروا.
أبو الدرداء رضي الله عنه كان ذا حكمةً غريبةً بليغة، ولهذا كان ابن عمر يقول لأصحابه: حدثونا عن العاقلين قالوا: يا ابن عمر ومن العاقلان؟ قال معاذ وأبو الدرداء.
معاذ كان في شأنه في الإسلام وفي علمه بالحلال والحرام ما تعلمون وأما أبو الدرداء فأقواله وأحاديثه في التربية وفي إصلاح النفس والمجتمع كثرت في كتب أهل العلم ونأخذ منها شيئاً ليكون دليلاً على غيره، لعلنا نتعظ كما أتعظ أصحابه رضي الله عنهم.
حدثونا عن العاقلين معاذ وأبو الدرداء، أبو الدرداء كان من أقواله أن قال: (اطلبوا العلم فإن عجزتم فأحبو أهله، فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم) وهذه وصية للأمة جميعاً.
لأن أشرف ما في هذه الأمة العلم وأي علم، العلم بالله جل جلاله، العلم بكتابه وسنة رسوله.
لأن هذا هو العلم الذي أمر المصطفى بالازدياد منه، قال جل وعلا لنبيه: وقل رب زدني علماً.
قال العلماء: لم يأمر الله نبيه أن يدعوه بالازدياد من شيئاً إلا من العلم، وأهل العلم مرفوعون درجات يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات لهذا أبو الدرداء قال: (اطلبوا العلم فإن عجزتم) لأن الناس ليسوا على حداً سواء في أن يكونوا طلبة علم ومقبلين على العلم قال: (فأحبوا أهله) لأن محبة أهل العلم تجعل المحب مع من يحب تجعله يسأله ويقتدي بأقوالهم وأفعالهم ويكون ذا صلة بهم.
إن لم تحصل المحبة، قال: إن لم تحبوهم فلا تبغضوهم لأن بغض أهل العلم بغضٌ لصفوة المؤمنين، لأن الله جل وعلا أمرنا بمحبة المؤمنين جميعاً قال جل وعلا: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. يعني بعضهم يحب بعضاً وينصر بعضه، وأولى أهل الإيمان بالمحبة أكثرهم خشية وأكثرهم علماً، لهذا قال: فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم وأي جناية أيها المؤمن تجنيها على نفسك إذا أبغضت أهل العلم، وكيف يكون بغضهم، يكون بأشياء: إما بمسبتهم وإما بنقدهم وإما بأن تكون وقاعاً فيهم، تارةً بحق وتارة بباطل.
أهل العلم ليسوا كاملين معصومين لكن إن رأيت فيهم نقصاً فإشاعة النقص في الناس يعني أن لا يأخذ الناس من أهل العلم، فإن ترك الناس أهل العلم لا يأخذون منهم، فمعنى ذلك الجناية على أهل الشريعة، فممن يأخذ الناس الشريعة إن لم يأخذوها من أهل العلم، لهذا جاءت وصية أبي الدرداء عويمر بن عامر ويقول لك: (اطلبوا العلم فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم)، ليبقى في القلب إجلال أهل العلم الذين ملء صدورهم كتاب الله، والعلم بسنة المصطفى.
وأيضاً من أقوال أبي الدرداء أنه قال لأصحابه يوماً: (إني لآمركم بالخير وما كل ما أمرتكم به فعلته ولكني أرجو الأجر بأمركم). وهذا من الفقه العظيم في دين الله وليس من أنه يأمر ولا يفعل، الذي ذم، ولكن العبد المؤمن يجمع في امتثاله للشرع بين امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهو عليه أن يأمر بالخير وعليه أن يمتثل بالخير، فإن فاته أحدهما فلا يجوز له إن يفوت الآخر. لهذا قال الإمام مالك رحمه الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة قال رحمه الله: ما كل ما نأمركم به نفعله، ولو تركنا الأمر لأجل عدم الفعل ما أمرناكم إلا بالقليل. هل معنى ذلك أنهم يتركون الأمر إلى محرم؟ لا، ولكن أهل العلم وأهل الجهاد عندهم من معرفة الأحكام ما يرتبون فيه المصالح يجعلون الحسنات درجات. وليس كذلك كل من أمر بمعروف أو نهي عن منكر. لهذا قال أبو الدرداء: (أني لأمركم بالخير، وليس كل ما أمرتكم به فعلته ولكني أرجو الخير بما أمرتكم به). يعني أنه يأمر بمستحبات، يأمر بأشياء من الخير يفعلونها وليس كل ما أمرهم به فعله لأنه منشغل عنه بما هو أهم منه في حقه وأما في حقهم ليس الأمر كذلك، بل لابد أن يكونوا مأمورين بهذا. وإذا أتته الفرصة ولكن في فراغ من أمره فإنه يرغب في المستحب وفي غير المستحب يعني في الواجب ودرجاته كما قال جل وعلا: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب يعني بأنواع الواجبات والمستحبات.
بعض الناس لا ينتبهون لهذه المقالة ولهذا الأصل الشرعي، فإذا كان على شيء من الخطأ قال : أنا لا آمر بالخير لأني لا امتثله ولا أنهى عن المنكر لأني ربما فعلته، وهذا غلط على الشريعة لأنه يجب عليك أن تأمر وتمتثل، فإن فاتك الامتثال فلا يفتك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلابد أن تمتثل هذا وتجتنب هذا، فهذا واجب، وهذا واجب، وإذا فاتك أحدُ الواجبين فلا يجوز أن تفوت الآخر.
ومن أقوال أبي الدرداء أنه قال لأصحابه مرة: استعيذوا بالله من خشوع النفاق قالوا: يا أبا الدرداء وما خشوع النفاق؟ قال : أن يرى الجسدٌ خاشعاً والقلب ليس بخاشع. وقد ثبت عن النبي أنه قال : ((أول ما يسلب من هذه الأمة الخشوع فترى الناس يصلون في المساجد لا تكاد تجد فيهم رجلاً خاشعاً)).
استعيذوا بالله من خشوع النفاق. أن يرى الجسد خاشعاً مطرقاً في الصلاة، ولكن القلب ليس بخاشع، هذه حال أهل النفاق لأنهم في الصلاة يصلون مع المسلمين، ولكن قلوبهم ليست خاشعة لله، بل يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
لماذا قال أبو الدرداء استعيذوا بالله من خشوع النفاق؟. ليقرّ في قلوبنا أن لا نجعل ذلك أمراً مسلماً مرضياً به.
كثيرون من يكون في قلوبهم عدم الخشوع، ويكون خشوعهم خشوع بدن، وهو يعلم أن قلبه ينازعه إلى أنواع من الكبائر والمنكرات وينازعه إلى أنواع من ترك الواجبات ثم يقول له أبو الدرداء: استعيذوا بالله من خشوع النفاق، يعني: إذا كنت على هذه الحال فلا ترض من نفسك بهذه الحال بل استعذ بالله، والتجيء إليه واعتصم به ولُذ به وأقبل عليه، لكي يزيل ما في قلبك من خشوع النفاق وهو أن يكون القلب غير خاشع، ترى الناس يصلون، ولكن الخاشع منهم قليل، كان صحابة رسول الله يتعبدون العبادات وربما كان من بعدهم أكثر منهم تعبداً ولكن كانوا يتعبدون بقلوب خاشعة.
لهذا لما قيل للحسن البصري هؤلاء التابعون أكثر عبادة من صحابة رسول الله فكيف كان الصابة أرفع منهم منزلة.
قال الحسن: كان الصحابة يتعبدون والآخرة في قلوبهم، وأما هؤلاء فيتعبدون والدنيا في قلوبهم، وشتان ما بين هذا وهذا.
لهذا أبو الدرداء أيضاً قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم وأرفع عند الله من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
المقصود خشوع القلب، وخشوع القلب معناه استكانته وإقباله وخضوعه وسكونه لله جل وعلا، فلنستعذ بالله من خشوع أهل النفاق.
اللهم أنا نعوذ بك من خشوع أهل النفاق، اللهم اجعل خشوعنا خشوع أهل الإيمان ظاهراً وباطناً يا كريم.
ومن أقوال أبي الدرداء أنه قال رحمه الله ورضي عنه وقد مر على رجل عمل ذنباً وحوله أناسٌ يسبونه رجلٌ عمل ذنباً وعلم بذنبه أناس فمر عليهم أبي الدرداء وهم يسبونه فقال لهم أبو الدرداء وهو البصير بعلاج البعد عن الدين وعلاج أهل العصيان وعلاج أهل القلوب المريضة، فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في قاع قليب ألم تكونوا مخرجيه منها قالوا بلى. قال: فاحمدوا الله الذي عافاكم ولا تسبوا أخاكم، احمدوا الله الذي عافاكم ولا تسبوا أخاكم.
لكن انظر إلى تمثيله بأن أهل الإيمان إذا وجدوا رجلاً قد وقع في ذنب فإنهم لا يتركونه، بل مثله بمن كان في قليب لا يجد من ينجيه منها، في قاع قليب. فماذا يفعل أهل الإيمان مع أخ لهم قد وقع في مهلكته، أيسبونه ويقولون لم تدخل هذا القليب ولم تجعل نفسك هكذا وهكذا إلى آخره؟ لا. بل يسعون في نجاته ويحرصون على ذلك.
إذاً فالسلبي هو الذي يسب، بل إن سب العاصي لا يجوز في الشريعة، بل نسأل الله لإخواننا الهداية، ونحمد الله الذي عفانا ثم نسعى في أن ننقذهم من شر الذنوب والعصيان. لأنهم ما أذنبوا إلا بوقوعهم فريسة لمكر إبليس عدو الله وعدوننا. إذاً فهذا الوصية أيها المؤمن وصية عظيمة، إذا رأيت أحداً وقع في معصية فلابد أن تبذل له السبب.
وإذا نظرنا أيها الأخوة في زماننا هذا وجدنا أن كثيرين يسمعون بأناس وقعوا في معصية فتجده يقول: هذا وقع في كذا وكذا وهذا يذهب ويسافر ويفعل كذا وكذا، وهذه العائلة حصل منها كذا وكذا.
وتراه ينتقده بشدة ويسبه، وربما استهزء والعياذ بالله، وإذا سألته: ما الذي عملته لإخوانك في تركهم لهذه الذنوب وجدته يقول: لم أفعل شيئاً، إذاً كان وسيلة من وسائل الشيطان.
أيضاً لأن النبي قال: ((من قال هلك الناس فهو أهلكم)) يعني كان بمقاله ذلك سبباً في هلاكهم، والنبي نهى أن نتحدث بكل ما سمعنا فقال عليه الصلاة والسلام: ((من حدث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبين)) وقال: ((أحد الكاذبين)) فلابد أن نسعى في إصلاح الغلط وفي نصح أهل الذنب وأن نكتم الذنوب وننشر الخيرات، إذا رأينا رجلاً عنده خير فلنقل فعل كذا وكذا من الخير لأنه بذلك ينتشر الخير ويكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في الخير، وأما إذا نشرنا الشر فإن الناس يتساهلون فيه وبه فيقول: نعم فلانٌ فعل كذا وكذا من المعاصي، وهذا فعل كذا، وهذا فعل كذا، فيظن الظان أن الشر أكثر من الخير فيتساهل بالشر فيقبل عليه. رحم الله ورضي عن أبي الدرداء وجزاه خيراً عن أصحابه وعن الأمة بعده.
اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بديننا وأن تجعلنا من أتباع أصحاب نبيك اللهم نعوذ بك من الغفلة ونسألك أن تجعلنا من أهل التذكر والتفكر، اللهم اجعل الآخرة في قلوبنا ونعوذ بك أن تكون الدنيا في قلوبنا، اللهم اجعلها في أيدينا وأخرجها من قلوبنا، اللهم استعملنا فيما تحب وترضى، ونعوذ بك مما تسخط وتأبى يا كريم، نعوذ بك من الخزي في الدنيا ومن العذاب في الآخرة، واسمعوا قول الله عز وجل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، وعليكم بتقوى الله عز وجل وعليكم بتقواه، فإن من يتق الله يجعل له مخرجاً كما قال ربنا عز وجل: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب وقال جل وعلا: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
وتقوى الله أيها المؤمنون في كل مقام بحسبه، إذا أتى أمر لله جل وعلا فتقوى الله أن تمتثل بهذا الأمر، إذا أتى وقت الصلاة فتقوى الله أن تصلي. إذا أتى أمرٌ فتقوى الله بهذا المقام أن تمتثل الأمر، وأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، فتقوى الله في هذا المقام أن تمتثل الأمر وإن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. إذا أتى المقام في مقام فيه منكر وفيه معصية فتقوى الله أن تتذكر مقامك بين يدي الله وأن تتذكر حق الله عليك وأن تبتعد عن ذلك.
فتقوى الله في كل مقام بحسبه، وجماعه أن تعتصم الله وأن تعظم أمر الله جل جلاله.
وهذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال جل وعلا قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم على الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1438)
لا يستوي الطيب والخبيث
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
الأسماء والصفات, القرآن والتفسير
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله طيب ولا يحب ولا يقبل إلا الطيب. 2- الخبيث والطيب لا يستويان. 3- الاعتقاد
الطيب في الله وأسمائه وصفاته. 4- ذكر بعض الاعتقادات الخبيثة التي وقع بها المبتدعة.
5- الطيب والخبيث من الأقوال. 6- الطيب والخبيث من الأعمال. 7- الطيب والخبيث من
الكسب والمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل وعلا طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، طيب يحب الطيبين، طيبٌ خلق الجنة وجعلها داراً طيبة وجعلها مأوى للطيبين، طيبٌ جل وعلا يحب الطيبة والطيب من الأقوال، ويحب الطيب من الأفعال، ويحب الطيب في الكسب، ويحب الطيب التصرفات.
فالخبيث يكرهه جل وعلا من الأشخاص ومن الأحوال ومن الأقوال والأعمال والأموال، ويحب الله جل وعلا الطيب في ذلك كله، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً)) وقال جل وعلا: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون.
وقال جل وعلا أيضاً في سورة المائدة: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون. في هذه الآيات يبين جل وعلا أن الخبيث لا يستوي والطيب، وأنه سبحانه يحب الطيب ويحب الطيبين.
وأمر الرسل أن يعملوا صالحاً وأن يأكلوا من الطيبات، فالخبيث ولو على منارة، فالخبيث ولو علا، والخبيث ولو ظهر فإنه لا يساوي الطيب ولا يوزن بالطيب، ولو كان الطيب قليلاً مستخفياً، فإن الطيب يحبه من برأ السموات والأرض، وإن الخبيث يكرهه من برأ السموات والأرض فقد قال لنا جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب الخبيث ولو كثر فإنه لا يساوي الطيب.
ويكون الخبث في أشياء، يكون الخبث في الأقوال ويكون الخبث في الأعمال، ويكون في الخبث أيضاً في اعتقادات القلوب، ويكون الخبث أيضاً في المكاسب، ويكون الخبث أيضاً في التصرفات.
وفي مقابل ذلك تكون العقائد طيبة، وتكون الأقوال طيبة وتكون الأعمال طيبة وتكون المكاسب طيبة، فإنه لو أعجب المعجبون كثرة الاعتقاد الخبيث وظهور بعض أهله، فإنه لا يساوي طيبه، لا يساوي الاعتقاد الطيب وطيبه رفعة أهله، لأن جل وعلا معهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).
فالاعتقاد الطيب في الله جل وعلا بأنه سبحانه هو الواحد الأحد في ربوبيته، وهو المستحق إن تتوجه القلوب إليه بالرغبة والرهبة، وأن تتوجه الألسنة إليه بالدعاء والاستغاثة وبطلب ما عنده، وأن يكون اعتقاد المرء بالله أنه جل وعلا ذو الأسماء الحسنة الكاملة، وذو الصفات العلى ويتعبد الله جل وعلا بأسمائه وصفاته بالتذلل له بأسمائه وصفاته ومعرفته جل وعلا، فإن من كانت هذه حاله طابت عقيدته وطاب قلبه ولا يصدر عن الطيب إلا طيباً لأن تصرفاته إذاً ستكون لله، ولأن قوله سيكون لله، ولأن محبته ستكون محبة العبادة لله جل وعلا، لأنه سبحانه طيبٌ لا يقبل إلا طيب.
وكذلك أيها المؤمنون الخبيث من الاعتقادات فإنه خبيث، ومأوى أهله إن لم يتوبوا الدار الخبيثة. إما أبداً وأما حيناً بحسب حالهم من الكفر والبدعة، فإن الله جل وعلا جعل من اعتقد فيه غير الحق خبيثاً، خبث قلبه، ولو كثرت جموعهم، فإنهم خبثاء لأنهم ليسوا على الحق، فمن اعتقد في أسماء الله وفي صفاته أنها كأسماء وصفات المخلوق فقد خبث اعتقاده، ومن عطل الرحمن جل وعلا عن أن يكون له الأسماء الحسنى على ما دل عليه ظاهره فقد خبث اعتقاده، وكذلك من عطله عن الاتصاف في صفاته وتأول ما ورد في ذلك وأخرجه عن ظاهره فقد خبث اعتقاده، فيكون مبتدعاً بذلك لأنه خالف ما أمر به النبي بما وصف به ربه، بل ترك ما وصف به الجبار جل وعلا نفسه العلية.
كذلك من توجه لغير الله في العبادة بأن توجه إلى ولي صالح أو توجه إلى نبي فسأله أشياءه ودعاه والنبي يقول إذا سألنا نسأل الله، والله جل وعلا يقول: وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً. فدعى غير الله فنعلم أنه خبيث، خبث اعتقاده، حيث جعل لله شريكاً في الدعاء والمسألة، والله سبحانه واحد هو الذي يجيب الدعاء، هو الواحد الأحد، فمن توجه لغير الله في نوع من أنواع العبادة والدعاء والسؤال فإنه مشرك خبث اعتقاده، فخبث حينئذ قوله، وخبث عمله.
وكذلك من لم يتوكل على الله سبحانه بل جعل الأسباب هي التي تحكم العباد، وأنه إذا عمل عملاً فإنه بجده ونشاطه سيحصل له كسبه وسيحصل له نجاحه وسوءاً كان ذلك في الأفراد والمجتمعات فإن هذا اعتقاد خبيث لأن الله جل وعلا هو ولي النعمة وهو الذي على كل شيء قدير.
إن الله كان على كل شيء مقتدراً، والله سبحانه وتعالى يحب المتوكلين عليه، وعلمنا جل وعلا إن الأسباب لا تنفع إلا بإذنه وحينئذ صاحب الاعتقاد الخبيث يتكلُ على الأسباب، وصاحب الاعتقاد الطيب الذي طاب اعتقاده بالله يعمل السبب ثم يفوض أمر الانتفاع بالأسباب إلى الواحد الأحد الذي بيده ملكوت كل شيء.
أيها المؤمنون: كذلك الأقوال تنقسم إلى خبيث وطيب فالذي خبثت أقواله ولو كثرت فإنه مكروه لله جل وعلا ومبغض، وكذلك يكرهه عباد الله المؤمنون، الذي إذا نطق نطق بغير الحق وإذا حدث، وإذا وعد اخلف، وإذا تكلم تكلم بالنميمة أو تكلم بالغيبة، لسانه ينطق بأنواع من الخبث لا يرعوي، ولا يذكر مقامه بين يدي الله جل وعلا، بل يتساهل بالأقوال، ولا يهمه أن يكون لسانه خبيثاً وهذا من الخبثاء الذين إن لم يغفر الله لهم أو لم يتوبوا فإنهم معرضون لعذاب الله جل وعلا ولتطهيرهم في الدار الخبيثة حتى يكونوا طيبين، وهذا أمر صعبٌ شديد.
هل يستوي هذا الذي خبث لسانه مع ذاك الذي طاب لسانه، فإذا تكلم تكلم بذكر الله وإذا نطق نطق بالعلم والحق، إذا تكلم صدق، وإذا وعد وفىّ، وإذا تكلم فإنه يحمي نفسه، ويحمي أعرض المؤمنين من أن ينالوا بسوء. هذا الذي طاب قوله وهذا هو الذي يحبه الله جل وعلا: قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لمعاذ: ((ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس في النار على مناخرهم أو قال على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)).
فلا يستوي من طاب لسانه وقوله ومن خبث لسانه وقوله، تراه واقعاً في لسانه في أنواع من المحرمات، فصار خبيثاُ يتعرض للمحرمات بلسانه، وربما صار من جراء كلامه أنواع من الفساد وأنواع من صد الناس عن الحق وأنواع من إبعاد الناس عن طريق الله جل وعلا بأنواع الكلام وأنواع ما يقال في أي مجال من المجالات.
لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث إذا تكلم أهل الحق بكلام طيب فإنه ولو كان ميدانه في الأرض قليلاً فإنه الطيب الذي يحبه الله جل وعلا، ولا يستوي مع كثرة الخبيث ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن الخبيث خبيثٌ وإن العاقبة للطيبين.
كذلك أيها المؤمنون في الأعمال لا تستوي الأعمال الطيبة والأعمال الخبيثة، فإن الأعمال الطيبة الصادرة من أهل الإيمان أفراداً كانوا أو مجتمعات أنها طيبة يحبها الله جل وعلا.
فترى أهل الإيمان يسعون في الطيبات بأعمالهم وجوارحهم في طاعة الله في صلاة أو في سعي إلى مراضي الله.
أو يتحركون في صلة أرحام أو في أمر بمعروف أو نهي عن المنكر أو في كسب معاش يؤجرون عليها، وفي نحو ذلك من الأعمال الطيبة فإنهم يعملون بالطيب ويتقربون إلى الله جل وعلا: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً والعمل الطيب هو العمل الصالح في أي ميدان من ميادين الحياة، في التكافل الاجتماعي وفي السعي بحاجة المسكين والأرملة والضعفاء والمساكين وفي الأعمال الخيرة العامة للأمة، هذه كلها أعمال طيبة يحبها الله جل وعلا، وفي مقابل ذلك الأعمال الخبيثة التي لا تصدر إلا عن قلب خبيث.
كالذين يسعون في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا بأنواع من السعي، وكالذين إذا تكلموا تكلموا في تفريق المؤمنين، وكالذين إذا عملوا عملوا في تفريق المؤمنين ولم يتقوا الله في إصلاح ذات البين، وفي جمع الكلمة، وكالذين يسعون بأعمالهم في أنواع المحرمات فإن هؤلاء وإن كثرت أعمالهم وظنها الناس حسنة فإنها خبيثة، ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كثر الخبيث كما قال جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
كذلك أيها المؤمنون في أنواع المكاسب لا يستوي الكسب الطيب والكسب الخبيث، فدرهم من حلال خيرٌ وأكثر بركة وأعظم عائدة وأنجى بين يدي الله من مئات الألوف أو من ملايين من كسب خبيث محرم من ربا أو من رشوة أو من غش أو من خيانة أو من أنواع المكاسب المحرمة، فالذي نبت جسمه من حرام فالنار أولى به، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً ((ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)).
وقد جاء في بعض الآثار الإلهية أن موسى عليه السلام قال لربه جل وعلا: يا رب دعاك بنو إسرائيل فلم تستجب لهم، فقال الله جل وعلا لموسى: يا موسى لقد مدوا إليّ أيدي سفكوا بها الدم الحرام وأكلوا بها الحرام وعملوا بها الحرام، فأنى استجيب لهم.
وهذا يبين لك أن الله جل وعلا لا يتولى إلا للطيبين، وأن تخلص العبد من الخبث في أقواله وأعماله ومكاسبه أنه فرض، وأنه على العباد أن يسعوا في أن تكون أجسامهم وأجسام أولادهم وأهليهم طيبة، حتى إذا دعوا أجيب لهم، وحتى إذا سألوا الله جل وعلا أعطاهم.
اسأل الله الكريم من فضل وكرمه وأسأله سبحانه أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً وأن يجعلنا من عباده الذين إذا قالوا: طابت أقوالهم، وإذا عملوا طابت أعمالهم، وإذا كسبوا طاب مكاسبهم.
اللهم نسألك أن تجعلنا من الذين رضيت عنهم فجعلتهم طيبين، وآويتهم إلى الدار الطيبة يا أكرم الأكرمين، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمن من كل ذنب، واستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله هو الداعي إلى رضوان الله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فأما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بلزوم التقوى في سركم وعلانيتكم، فعظموا الله واتقوه، فإنه سبحانه عليم بأحوالكم، ناظر إليكم ثم يجازيكم على أعمالكم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، اللهم أسألك أن تجعلنا ممن راقبك واتقاك حق تقاتك يا أكرم الأكرمين.
عباد الله: إن الله جل وعلا أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته ليدلكم على عظم أمره فقال تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1439)
أثر تحقيق التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد وفضله. 2- التوحيد سبب نجاة العبد يوم القيامة ومغفرة ذنوبه. 3- التوحيد
سبب في صرف البلاء والفتن. 4- النار مصير أهل الشرك. 5- أهمية تعلم التوحيد والشرك
بأنواعه. 6- دعوة للقراءة في كتب التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أيها المؤمنون بتقوى الله في السر والعلن وتقوى الله أمر عظيم لأن حقيقته أن تطيع أمر الله جل وعلا في جميع أحوالك على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الربّ جل وعلا في جميع أحوالك وجميع تقلباتك تخشى عقاب الله على علم وعلى نور من الله جل وعلا.
أيها الإخوة المؤمنون إن قلب المؤمن لا يصلح إلا بتعظيم الله جل وعلا لا يصلح ولا يثبت على الإيمان ولا يستقيم على ذلك إلا بتحقيق التوحيد لله جل وعلا فكلما قوي العبد في الإخلاص لله وفي توحيده لربه وفي تحقيقه الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كلما قوي في تحقيق ذلك ثبت على الإيمان، ونفى تسويل الشيطان وكان قيامه في عقد الإيمان قياماً قوياً صحيحاً أمر الله جل وعلا عباده بتحقيق التوحيد له وبإخلاص الدين له جل وعلا: قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين [الزمر:11]. وقال جل وعلا: ألا لله الدين الخالص [الزمر: 3]. يعني فاعبدوه مخلصين له الدين حنفاء وهذا الأصل العظيم عليه قامت السموات وعليه قامت الأرض ومن أجله خلق الجن والإنس وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]. يعني إلا ليوحدون إلا ليخلصوا العبادة لي وحدي.
وهذا الأمر العظيم من أجله بعثت الرسل ومن أجله خلقت النار وخلقت الجنة ومن أجله قام الجهاد ورفعت ألويته ومن أجله حاق بالذين كفروا سوء ما عملوا ومن أجله نصر الله المؤمنين لهذا وجب على المؤمنين أن يسعوا سعياً جاداً في تحقيق الإخلاص لله في تحقيق التوحيد لله جل وعلا بأن يكون أمرهم، بأن تكون عبادتهم بأن تكون طاعتهم لله جل وعلا وحده دون ما سواه فطاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبع لطاعة الرب جل وعلا: قل أطيعوا الله والرسول [آل عمران:32].
أيها المؤمنون: إن العبد المؤمن إذا حقق التوحيد فإنه يحصل على فضل من الله في الدنيا وفي الآخرة فمع أنه واجب وواجب تحقيقه ففضله في الدنيا والآخرة عظيم عظيم عظيم، لهذا بين الله جل وعلا لعباده المؤمنين فضل تحقيق التوحيد وأنه يكفر الذنوب وأن التوحيد أعظم ما يتقرب العبد به إلى ربه جل وعلا اسمع مثلاً قول الحق جل جلاله: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82].
لما نزلت الآية شق ذلك على الصحابة وقالوا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ فقال: ((ليس الذي تذهبون إليه الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )) [1] ، فهذه الآية فيها وعد من الله جل وعلا ووعده حق أن المحققين للتوحيد المبتعدين عن الشرك بأنواعه، أن لهم الأمن في الدنيا والآخرة، ولهم الهداية في الدنيا والآخرة الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82] وهذه من ثمرات التوحيد ومن فضل التوحيد أنك بقدر تحقيقك للتوحيد وإخلاصك لله وبعدك عن الشرك الظاهر والباطن بقدر ذلك يكون لك الأمن وتكون لك الهداية لهذا ترى المؤمن الموحد أكثر الناس أمناً في الدنيا وأكثر الناس أمناً يوم القيامة ألم تسمع أخي قول الرب جل وعلا في المؤمنين: لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون [الأنبياء:103] نعم المؤمن المسدد إذا خاف الناس في الدنيا فإنه لا يخاف لأنه في قلبه من الإخلاص لله والتوحيد ما يجعله في أمن وأمان وكذلك إذا خاف الناس يوم القيامة من النار إذا برزت الجحيم فإنه لا يخاف إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها [الأنبياء:102] نعم أيها المؤمنون هذا الأمر العظيم يجب علينا أن نفقهه وأن نسعى في تحقيقه ألا وهو إخلاص الدين لله وهذا بعض فضله في هذه الآية أن أهل التوحيد الخالص لهم الاهتداء، والهداية مراتب وأهلها فيها درجات ولهذا كان أكثر الناس هداية وأعظمهم هداية الأنبياء والمرسلون لأنهم حققوا الإخلاص والتوحيد لله جل وعلا: أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82].
أيها المؤمن: كذلك إذا حققت الإخلاص في قولك وعملك وابتعدت عن الشرك في أقوالك وأعمالك فإن لك فضلا عظيماً وهو أنك تغفر لك الذنوب التي هي فيما بينك وبين الله جل وعلا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله جل وعلا: عبدي إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا يعني بملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة)) [2] ، فالموحد يغفر له ذنبه ولا إله إلا الله تكون لك يوم القيامة بطاقة إذا وضعت في كفة الحسنات طاشت السيئات وسجلات السيئات، لثقل هذه الكلمة لكن لمن حققها وعمل بمعناها وتيقن بذلك وعمل بمقتضاه وابتعد عن الشرك كله فإن نور لا إله إلا الله لا يعدله شيء يحرق الشهوات ويحرق الشبهات في الدنيا وكذلك يحرق أثر الشهوات وأثر الشبهات في الآخرة حين توضع الموازين وحين يلقى الناس حسابهم كذلك أهل الإخلاص في الدنيا يمن الله عليهم بأنه يصرف عنهم السوء والفحشاء ألم تسمع إلى قول الله في حق يوسف عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:24] يعني الذين خلصوا لله جل وعلا وأخلصوا أعمالهم وأقوالهم وحققوا التوحيد له فيصرف عنهم السوء والفحشاء وتأمل أول الآية: ولقد همت به [يوسف 25] يعني همت به امرأة العزيز فعلاً لقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه [يوسف:25] يعني أنه رأى برهان ربه وهو إخلاصه وتوحيده وتعظيمه وما في قلب الموحد من إجلال الله ولولا هذا البرهان لهم بها ولا شك أن العبد المؤمن يصرف عنه السوء والفحشاء فكم سمعنا من أناس أتاهم الشيطان فيما ذكروا وأرادهم للفحشاء ثم يأتي فضل الله عليهم فتصرف عنهم الفحشاء وينصرفون عنها وكأنها ليست بشيء لهم وذلك لأنهم حققوا وسعوا في تحقيق الإخلاص لله جل وعلا وكذلك من فضل التوحيد على أهله أن الناس إذا أصابتهم المصائب وحلت بهم العقوبات فإن أهل الإخلاص وأهل التوحيد هم أهل النجاة قال جل وعلا: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [فصلت:17] فهم أهل التوحيد فإذا أصاب الناس ما أصابهم فإن أهل التوحيد هم أهل النجاة ولو أصابهم من الهلاك فإنهم ينجون فيما بعد يعني إذا صاروا إلى الله فالذين يعذبون من أهل الظلم في الدنيا يعذبون في الآخرة وأما أهل التوحيد فيبعثون على ما في قلوبهم وعلى ما في أعمالهم لأن الله جل وعلا لا يظلم الناس شيئاً وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [النمل:53]. وفي الآية الأخرى: ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [فصلت:18]. إذا علمت أيها المؤمن بعض فضل التوحيد فاعلم أن الله جل وعلا لا يغفر الشرك به إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً [النساء:116] وإذا لم يرض الله جل وعلا إلا التوحيد ولا يغفر الشرك فإن عقاب أهل الشرك عظيم بل إن عقابهم النار وعقابهم الخزي في الدنيا والعذاب وكذلك العذاب في الآخرة ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [الحج:31] وقال جل وعلا: وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72].
أيها الإخوة المؤمنون: إذا تبين لنا أن حق الله هو توحيده وأن فضل التوحيد عظيم وأن عقاب الشرك عظيم فإننا بحاجة دائمة إلى تعلم التوحيد وإلى الخوف من الشرك فإن التوحيد والإخلاص لا يقر هكذا بدون علم لابد فيه من العلم وإذا كان الله جل وعلا أمر نبيه بالعلم بالتوحيد فنحن مأمورون من باب أولى لأننا أهل الجهل بهذا الأمر العظيم اسمع قول الله جل جلاله فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد:19] فالعلم بالتوحيد أمره عظيم ولهذا لا يسوغ لنا أن يقول القائل منا فهمنا التوحيد وفهمنا أنواعه دون أن يكرر ذلك ودون أن يراجع ذلك بين الحين والآخر وأن يطلع على كلام أهل العلم لأن هذا ليس من باب الطلب العلمي بل هو باب حق الله جل جلاله فإذا تعلمناه وكررناه فإن ذلك لأن به صلاح القلب ولأن به تحقيق حق الله جل وعلا على العبيد ألا وهو التوحيد وكذلك إنما يعرف ذلك بضده وهو الشرك.
والشرك كما هو معلوم أقسام وأعظمه دعوة غير الله معه الشرك في الألوهية والشرك في الربوبية والشرك في الأسماء والصفات.
وهذا إنما يعرف بالتعلم وتعلمه على طريقين منها طريق مجمل على وجه الإجمال تتعلم حكمه وتتعلم معناه وتتعلم أنواع التوحيد وضده ثم الطريق المفصل أن تعلم أنواع مسائل التوحيد مسائل الرجاء مسائل الخوف مسائل التوكل مسائل الإنابة لله جل وعلا الإخلاص بأنواعه عمل القلب عمل اللسان عمل الجوارح وكيف يخلص في ذلك لله جل وعلا كذلك تفصيل ضده وهو تفصيل الشرك بأن تعلم الشرك بأن تعلم الشرك الأكبر وأنواعه والشرك الأصغر وأنواعه والشرك الخفي وأنواعه وما يحصل بين الناس من هذا وذاك وتتعلم ذلك مطبقاً له على الواقع لا يقولن قائل هذه أمور معروفة فإن إبراهيم الخليل عليه السلام دعا ربه قائلاً: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم:35] قال إبراهيم التيمي رحمه الله من علماء التابعين لما تلا هذه الآية قال: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم، فإذا خاف إبراهيم عبادة الأصنام على نفسه وعلى بنيه فنحن أولى بالخوف وإذا خفنا هربنا مما نخاف منه وإنما نهرب بالعلم والتعلم لهذا أوصي الجميع بأن نكون مطلعين على كلام أهل العلم في التوحيد والإخلاص حتى نكون ممن حاز فضله ورضي الله عمله وقوله وكان له الأمن والهداية وصرفت عنه الفحشاء وصرف عنه السوء.
فالمسألة عظيمة وحق الله عظيم واسمعوا قول الله جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص] فهذه السورة ثلث القرآن وسورة الكافرين ربع القرآن قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين [الكافرون] اجتمعت السورتان في تحقيق التوحيد وفي البراءة من الشرك لهذا كان عليه الصلاة والسلام يكررها أيها المؤمنون إذا سمعتم هذه الوصية فالمطلوب أن تسعوا في تحصيل كتب أهل العلم في هذه المسائل وقراءتها وسماع كلام أهل العلم في شرحها وإن ذلك به النجاة وإن ذلك به تحقيق التوحيد وإن ذلك به تحقيق فضل الله جل وعلا على عباده: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على صعيد واحد فسألني كل واحد منهم مسألته فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)) [3] ، فتعلموا محبة الله وتعلموا أفراد الربوبية وأفراد توحيد الألوهية فالأول فيه المحبة والثاني فيه الطاعة والإخلاص وفيه التوحيد بأنواعه أسأل الله جل جلاله أن يجعلني وإياكم من الصالحين الذين رضي قولهم ورضي أعمالهم اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا ممن حقق التوحيد فدخل الجنة يا أكرم الأكرمين اللهم اجعلنا ممن خاف من الشرك وهرب منه وتخلص منه في لسانه وفي أقواله وفي قلبه وفي أعماله اللهم هيئ لنا قولاً حميداً وعملاً سعيداً اللهم وهيئ لنا ومن علينا بعاقبة حميدة يا أكرم الأكرمين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير [غافر:1-3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري [4776] ومسلم [124] من حديث عبد الله بن مسعود.
[2] أخرجه الترمذي [3540] من حديث أنس بن مالك ، وقال : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال ابن رجب: إسناده لا بأس به. جامع العلوم والحكم (2/400).
[3] أخرجه مسلم [2577] من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لمجده وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم اللهم تسليماً كثيراً مزيداً.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بتحقيق التوحيد لله والإخلاص له وتعلم ذلك والاهتمام بما كتبه علماء الإسلام وأئمة السنة وأئمة هذه الدعوة في هذه المسائل العظام فإن مطالعة كتب التوحيد نور في الصدور وإن مطالعة كتب أهل العلم في ذلك في العقيدة والتوحيد وفي بيان الشرك وأسبابه ووسائله وأحكام ذلك وأدلته إن مطالعة ذلك وتعلمه نور وهداية في القلوب وصلاح للفرد وصلاح للمجتمع فلا تلهينكم الدنيا عن هذا الأصل العظيم الجامع الذي بعثت من أجله الأنبياء والمرسلون ومن أجله خلقت الجنة والنار فأعطوا هذه المسألة عظم حقها وما يليق بها وأقبلوا على ذلك من هذه الساعة إقبالاً فيه النية الصادقة في تعلم ذلك إجمالاً وتفصيلاً حتى لا تقع فيما وقع فيه الأكثرون من الجهل أو من ترك التوحيد وعدم رفع الرأس به والجهل بذلك أسأل الله جل وعلا أن يصلح لنا نياتنا وأن يصلح لنا ديننا وأن يصلح لنا دنيانا إنه جواد كريم.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا بالصلاة على نبيه وقال جل وعلا قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
(1/1440)
أشراط الساعة
الإيمان
أشراط الساعة
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أشراط الساعة صغرى وكبرى. 2- بعض أشراط الساعة التي تحققت. 3- حديث عن
أشراط الساعة الكبرى. 4- قيام الساعة وبعث الموتى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: إن مما يجب الإيمان به لإخبار الله جل وعلا به ولإخبار النبي صلى الله عليه وسلم به الإيمان بأشراط الساعة فإن ليوم القيامة أشراطاً، والله جل وعلا بيّن في كتابه بعض تلك الأشراط يعني بعض علامات الساعة التي تؤذن بأن الساعة قريبة وأن ميعادها قد قرب وأن لقاء الله آتٍ وإن كان أكثر الناس في غفلاتهم سائرين.
إن الإيمان بأشراط الساعة فرض لأن الله جل وعلا قال في كتابه: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم [محمد:18] فقوله: فقد جاء أشراطها يعني قد جاءت علاماتها.
ومن علاماتها التي قد كانت جاءت في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، وكذلك من علاماتها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) [1] يعني من شدة القرب بين بعثته عليه الصلاة والسلام وبين قيام الساعة، والله جل جلاله إذ أخبر بذلك فإن للساعة علامات منها علامات تكون قرب حصولها، تكون قريبة جداً منها، وهي التي يسميها العلماء أشراط الساعة الكبرى، ومنها علامات تتباعد من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون أول أشراط الساعة الكبرى، وهذه يسميها العلماء أشراط الساعة الصغرى.
فأشراط الساعة وهي علاماتها منها صغرى ومنها كبرى وقد ثبت في الصحيح أن عوف ابن مالك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي ثم فتح بيت المقدس ثم مُوتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً)) [2] إلى آخر ما ذكر.
وهذا من أشراط الساعة الصغرى فإن بعثته عليه الصلاة والسلام مؤذنة بقرب الساعة وإن تطاول الزمان وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج:47] ثم بعد ذلك فتح بيت المقدس ثم بعد ذلك أتى المرض العام الطاعون فأصاب الناس كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم كذلك استفاض المال في الصحابة ومن بعدهم حتى حصل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن أشراط الساعة الصغرى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في حديث عمر المشهور حيث سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أخبرني عن الساعة؟ فقال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، فقال: أخبرني بعلاماتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)) [3].
وهكذا في أنواع كثيرة من أشراط الساعة الصغرى التي تتوالى مع الزمان، تحدث شيئاً فشيئاً، تحدث كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخبر من ذلك عليه الصلاة والسلام أنها لن تقوم الساعة حتى تخرج نار من المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببصرى [4] ، وهي قرية قرب دمشق من الشام حصل ذلك في القرن السابع من الهجرة بعد سنة خمسين وستمائة، وعلم العلماء ذلك وعلمه الناس فكان ذلك من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.
وكان من أشراط الساعة كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن تترك القلص فلا يسعى عليها [5] يعني أن تنزل الجمال والرواحل التي اعتادها الناس فلا يسعون عليها ولا يتخذونها رواحل، وقد استعجب كثير من العلماء هل يترك الناس أن يترحلوا على الإبل فقال قائلون منهم: لعل ذلك أن تكون الإبل تكثر جداً حتى تكون نسبة المركوب منها إلى ما لم يركب كلا شيء، فتكون القلص قد تركت فلا يسعى عليها، وقد رأينا في هذا الزمان صدق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أخبار كثيرة فيها أشراط الساعة الصغرى التي تحدث شيئاً فشيئاً.
وإن الإيمان بذلك فرض لازم إذ تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فرض لازم واجب على كل أحد، ومن كذب بخبره الصادق فإنه مكذب برسالته صلى الله عليه وسلم.
ثم أشراط الساعة الكبرى وهي الأشراط والعلامات التي تكون تباعاً كعقد كان فيه خرز فانقطع فتسلسل ذلك، الواحدة تلو الأخرى هي عشر بينات، أشراط الساعة الكبرى إذا حصلت الأولى فانتظر الأخرى الثانية ثم الثالثة إلى العاشرة حتى تقوم الساعة.
وأول ذلك خروج الدجال، والدجال خارج في هذه الأمة، وما من نبي إلا أنذر أمته المسيح الدجال، وإن فتنة المسيح الدجال في الناس هي أعظم فتنة، إن فتنته هي أعظم فتنة أدركتهم، يدعي أنه الرب والإله، معه جنة ونار، يحيي ويميت ويرزق ويفقر، يعطي ويمنع، معه فتنة عظيمة، معه فتنة يكون الناس فيها منهم المؤمنون ومنهم الكفار، ولا يخرج حتى لا يذكر وحتى لا يحذر منه، وقد كان كل الأنبياء يحذرون فتنته ويأمرون أقوامهم بأن يحذروا فتنته، ونبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا فتنته فقال: ((إن يخرج فيكم وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج فيكم وأنا لست فيكم فالمرء حجيج نفسه)) [6] يعني كل أحد حجيج عن نفسه فلا تغفلوا عن ذلك لأن المسيح الدجال فتنته عظيمة، فتنته جد عظيمة، ومن أدركته الفتنة وليس بذي علمٍ فيها فإنه سيكون من الذين يؤمنون بهذا الدجال أنه الرب الإله الذي يعبد ويطاع.
أيها المؤمنون: وبعد ذلك في أثناء وجود المسيح الدجال على الأرض ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام لأن عيسى ابن مريم عليه السلام توفاه الله ولم يمت توفاه الله بتوفي مدته على الأرض إني متوفيك ورافعك إلي [آل عمران:55] وبقي حياً في السماء ثم ينزله الله جل وعلا إلى الأرض في آخر الزمان بعد خروج المسيخ الدجال قال الله جل وعلا: وإنه لعِلم للساعة فلا تمترن بها [الزخرف:61] لما ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام قال الله فيه في سورة الزخرف: وإنه لعِلم للساعة وفي القراءة الأخرى: وإنه لَعَلم للساعة يعني لدليل وشرط من أشراطها، وقد أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام وقال: ((إنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق)) [7] ، قبل أن تفتح دمشق وقبل أن يكون ثمة منارة بيضاء فيها، فينزل عيسى فيؤمن به أهل الكتاب ويأمر بالإسلام ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويأمر بالإسلام ويأتم بالإمام من هذه الأمة من المسلمين ويقول لهم: إمامكم منكم، حين ينزل والناس يصلون، وقد قال جل وعلا في عيسى عليه السلام: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً [النساء:159] إلا ليؤمنن به أي ليؤمن بعيسى عليه السلام، سيؤمن به لأنه سيعلم أنه هو عيسى رسول الله، وسيبطل التثليث وسيبطل الإشراك به وسيأمر عيسى بالإسلام وينتشر الإسلام في الأرض يقتل عيسى عليه السلام الدجال عند باب لُد من أرض فلسطين.
ويتبع الدجال قوم كثير من اليهود ثم يعيش عيسى في الناس زمنا تفيض فيه الخيرات ويكون فيه المال ويكون فيه السعة في الأرزاق حتى يكون من ذلك شيء عجيب عجيب كما أخبر بذلك تفصيلاً النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يكون خروج يأجوج ومأجوج وهم من الناس، وهم من البشر كما قال جل وعلا في يأجوج ومأجوج: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا.. [الأنبياء:96] إلى آخر الآيات.
فيخرج يأجوج ومأجوج ومعهم بلاء عظيم في الناس، لا يمرون على ماء إلا شربوه، ولا على مأكل إلا أكلوه فيدعو عليهم عيسى عليه السلام فيقتلهم الله جل وعلا حتى تنتن الأرض بريحهم فيبعث الله ريحاً فتحمل أجسادهم فتلقيها في البحر.
ثم بعد ذلك - وهو الرابع - يحدث خسف في المشرق خسف عظيم لم يسبق له مثال ثم يحدث - وهو الأمر الخامس - خسف بالمغرب لم يحدث له فيما سبق مثال ثم يحدث خسف بجزيرة العرب لم يسبق أن حدث مثله، وهذا من أمر الله العجيب.
فهذه من أشراط الساعة الكبرى، هذه تلي هذه، ثم يكون ما يكون من خروج الدخان ومن طلوع الشمس من مغربها ومن خروج الدابة على الناس ضحى تَسِم الناس، فإذا خرجت الشمس من مغربها لم يقبل من الناس توبة كما قال جل وعلا: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً [الأنعام:158] لا ينفع الذي لم يكن مؤمنا لا ينفعه إيمانه بعد أن رأى طلوع الشمس من مغربها، تنقطع التوبة ويبقى المؤمن ينتظر الريح التي تميت المؤمنين ويبقى الناس كفاراً لا يقال فيهم: الله الله، كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، أي لا يقول أحد لأحد: اتق الله اتق الله، ليبقى الناس بعد ذلك يتهارجون كما تتهارج الحمر [8] ، ثم يبعث الله النار تبدأ في جنوب الجزيرة من قعر عدن ثم تنتشر في الأرض تحشر الناس إلى أرض محشرهم، يجتمعون تبيت معهم يخافون منها وهم يقبلون على أرض المحشر، يخافون ويهابون منها، وهي تبيت معهم إذا باتوا، وتسير معهم إذا ساروا، تكتنفهم من جوانبهم والناس يتقدمون إلى محشرهم.
ثم يأذن الله ويأمر إسرافيل بأن ينفخ في الصور نفخة الفزع أو نفخة الصعق فيصعق الناس ويعود من كان على الأرض حياً، يعود ميتاً كما قال الله جل وعلا: ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله [الزمر:68] بعد هذه النفخة يبقى الناس موتى فيغير الله الأرض، فإذا الأرض ليست هي الأرض ويغير السموات فإذا السموات ليست هي السموات إذا الشمس كورت [التكوير:1] وتتغير السماء إذا السماء انفطرت [الانفطار:1] وتتغير الأرض وإذا الأرض مدت [الانشقاق:3] فيستوي من دفن بين الجبال بمن دفن في السهل، تبقى الأرض متغيرة، فالله جل وعلا يغير معالم الأرض ويغير معالم السماء، وإنه لأمر عجيب ويبقى الناس موتى تحت الأرض كل شيء بلي منهم إلا عجب الذنب، وهو آخر فقرة من فقار الظهر، يكون كالبذرة لهم فيأمر الله السماء فتنشئ سحاباً ثقالاً فيحمل ماء كمني الرجال فإذا حملت الماء أمر الله السماء فتمطر على الأرض ذلك الماء فينبت منه الأجسام بعد أن أمطرت على الأرض أربعين، لا ندري هل هي أربعون شهراً أم أربعون سنة أم أربعون أسبوعاً، تمطر أربعين فتنبت الأجسام مثل النبات كأجمل الريحان.
حتى إذا ما الأم حان ولادها وتمخضت فنفاسها متداني
أوحى لها رب السماء فتشققت فإذا الجنين كأكمل الشبان
ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث فتعود الأرواح إلى الأجسام فتهتز الأجسام فيقول الكفار والمؤمنون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا [يس:52] ثم يجيب المؤمنون وغيرهم هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [يس:52] فيساق الناس المؤمنون إلى الجنة والكافرون إلى النار وقبل ذلك أمور عظام من أمور المحشر.
أسأل الله جل وعلا أن يؤمننا يوم الفزع وأن يجعلنا من المتفقهين في كتابه وفي سنة رسوله وأن يجعل قلوبنا مطمئنة بالإيمان وأن يربط على قلوبنا، نعوذ به من الريب والشك ونسأله أن نكون مطمئنين بالإيمان مصدقين بما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأسأله لي ولكم ولكل المسلمين النجاة يوم الفزع ونسأله النجاة يوم الخوف، نسأله أن يخفف علينا الحساب وأن يعفو عنا وأن يجعلنا من الذين يتوفاهم وهو راض عنهم إنه ولي الغفران ونحن أصحاب المعصية، والله ولي الغفران، اللهم فاغفر جماً، اللهم فاغفر جماً، اللهم فاغفر جماً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره [الزلزلة].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري [5301] من حديث سهل بن سعد الساعدي، ومسلم [867] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[2] رواه البخاري [3176] من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه ، ومعنى ((مُوتان)) بضم الميم : هو الموت ، أو الموت الكثير الوقوع. وقال الحافظ في الفتح (6/278) ((كمعُقاص الغنم))
_ : هو داء يأخذ الدواب فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجأة.
[3] رواه مسلم [8] من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4] رواه البخاري [7118] ومسلم [2902] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((حتى تخرج نار من أرض الحجاز)).
[5] أخرجه مسلم [155] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_ كذا في جمع نسخ الشرح التي بين أيدينا ، والذي في نسخ البخاري بتقديم القاف على العين وبه ضبط القسطلاني ، وهو المنصوص في كتب اللغة المتعين من قول أبي عبيد : ((ومنه أخذ الإقعاص)) وهو القتل مكانه.
[6] أخرجه مسلم [2937] من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
[7] هو جزء من حديث النواس بن سمعان السابق.
[8] هو جزء من حديث النواس بن سمعان السابق أيضاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق تقاته واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله رسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى فإن بالتقوى فخاركم، إن بالتقوى جاهكم عند ربكم، إن بالتقوى رفعتكم عند الله فاتقوا الله حق تقاته وعظموا الله في السر والعلن واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ذلك اليوم العصيب اتقوه، واتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الذي تساءلون به واتقوا الله الذي عنده الجنة والنار.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بالصلاة على النبي فقال جل وعلا قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعن الصحابة أجمعين وعن الآل وعن التابعين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك ورحمتك وأنت أرحم الراحمين.
(1/1441)
الإنابة والرجوع إلى الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1. كل بني آدم خطاء.2. معرفة الله وأسمائه وصفاته سبب في علاج زلاتنا.3. دعوة لتدارك التفريط خاصة في موضوع الصلاة والزكاة.4. التفريط في الكسب الحلال والوقوع في الحرام.5. الوقوع في آفات اللسان.6. النظر الحرام.7. دعوة للتوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: إن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه يحب المنيبين من عباده، يحب الذين إذا فعلوا أمراً فيه مخالفة أو تفريط أو تضييع للواجب أنهم يرجعون إليه سريعاً وأنهم يقبلون على ربهم بتوبة وإنابة صالحة، فإن الله جل وعلا يحب التوابين ويحب المتطهرين، ونبيكم صلى الله عليه وسلم بين أن كل ابن آدم خطاء وقال فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) [1].
وذلك أن ابن آدم يغلبه ظلمه لنفسه، وربما غلبته شهوته وحبه للدنيا حتى ينصرف عن الآخرة ويقبل على دنيا دون نظر إلى ما ينفعه وإلى ما يصلح حاله وإلى ما يصلح حاله في المآل، وفي العاجل والآجل وهذا من ضعف البشر.
أيها المؤمنون: ما منا إلا وعنده غلط وعنده خطأ وربما عنده تضييع للواجبات وربما انتهاك للمحرمات، كل منا فيه تقصير بحسبه، كل منا تعرض له الغفلة بحسب حاله، كل منا له من التقصير ما له، يعرف ذلك من نفسه، وهل يجوز لنا أن نبقى على أخطائنا وعلى تقصيرنا وعلى إعراض كثير منا دون إصلاحٍ للأنفس ودون إصلاحٍ لما حولنا ودون أن يوطن المرء المسلم نفسه على طاعة الله فكلنا خطاء ولكن خير الخطائين التوابون.
ولهذا قال أهل العلم: أن علاج الغلط وإن علاج التفريط بالأوامر وإن علاج ارتكاب المنهيات يكون بأمور منها: أن يتعلم المرء ما يجب عليه وأن يعلم حق الله جل وعلا عليه، فإذا علم حق الله عليه وعلم ما يجب عليه تجاه ربه فإنه لن يعصي الله ولن يفرط في أمره إذ معرفة الله بأسمائه وصفاته تلين القلب وتحمل المرء على أن يجل الله جل وعلا ثم يلزم العمل الصالح، فإذا لزم العمل الصالح فإنه ييسر له أن يتجنب المحرمات وييسر ويوفق إلى الإقبال على الطاعات، ولا شك أنه لا يجوز أن يسترسل المرء مع هوى نفسه وأن يجتنب الطاعات وهو مأمور بإتيانها وأن يقبل على المناهي وهو مأمور بتركها، وهو مأمور بترك المنهيات والإقبال على الواجبات، إذ حق الله جل وعلا أعظم وأجل وأرفع من حق النفس، ولذلك كان واجباً علينا أن نسعى في إصلاح أنفسنا وأن نقبل على أن يتعرف كل منا على خطأ نفسه وعلى ما فيها من العيوب كي يصلحها، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيب الناس ثم إن من أسباب العلاج النافع ومن أسباب الإقبال على الله أن يرى المؤمن ما يقربه من جنات عدن، فيأتيه وهو محب لأننا إذا علمنا الثواب والعقاب حملنا ذلك على الإقبال على الطاعة وعن الابتعاد عن كل منهي عنه وإن لكل إعراض سبباً، وحق على المسلم أن يباعد نفسه عن أسباب الردى وعن أسباب الإعراض وعن أسباب ترك الإقبال على ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة.
عباد الله: منا المفرط في الصلاة، منا المفرط في ذلك الركن الأعظم، بل أعظم الأركان العملية في دين الإسلام، ألا وهو الصلاة، فربما أخرجها عن أوقاتها، وربما بعض منا لم يؤدها في المساجد مع الجماعة كما أمر الله جل وعلا وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يجب عليه أن يتفطن في أسباب ذلك، فإن كان لا يعلم فضل الصلاة وفضل أدائها في الجماعة فليتعرف إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي منها قوله: ((الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) [2] ، ثم ليتعرف على قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)) [3] ، يعني لو يعلم الناس ما في التبكير إلى الصف الأول والتبكير إلى الصلاة بعد سماع النداء من الأجر العظيم ثم لم يجدوا إلا أن يعملوا شركة ويتشاركوا فيما بينهم في ذلك الأجر ويزدحموا على الصف الأول لفعلوه، فإذا كان منا من يفرط في الصلاة فليراع نفسه بما جاء من فضل الصلاة وبأنها حق الله وبأنها واجب من واجبات الإسلام وركن من أركان الإسلام، ثم ليبتعد عن أسباب ترك الصلاة وعن أسباب التهاون بها من عدم أدائها مع الجماعة في المساجد فإن المرء إذا ترك الأسباب المفضية إلى غير الحق والهدى فإنه ييسر له أن يقبل على الخير والهدى وما فيه صلاحه.
كذلك المرء إذا كان صاحب مال وترك أداء الزكاة وترك حق الله جل وعلا في المال فإنه يجب عليه أن يتعرف إلى ما أوجب الله من حق المال، فإذا عرف ذلك وعرف الوعيد العظيم في تارك الزكاة، ومن لم يؤدها وعرف أن الزكاة قرينة الصلاة وما أعد الله جل وعلا للمتصدقين وأن الصدقات طهرة تزكي المال وتزكي صاحب المال، وهي طهرة للقلب وطهرة للمال وطهرة للنفس كما قال الله جل وعلا: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [التوبة:103]إذا علم ذلك ثم تخلص من شح النفس، وعلم الأسباب التي تصرفه عن أداء حق الله في الزكاة أتى مطيعاً سريعاً فأدى حق الله في المال، طيبةً بذلك نفسه، مقبلاً غير مدبر، محباً للإنفاق لا مبغضاً له، لأنه يعلم قول الله جل وعلا: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم [التوبة:34-35]. نعم إن وعيد مانع الزكاة لشديد، كذلك من رأى المال وأنه كل شيء في حياته يقبل على المال وعلى اكتسابه، سواء كان من غش في البيوعات أو كان من أكل الربا الذي توعد الله فاعله بحرب من عنده أو كان بأكلٍ للرشوة وغش للأمانة أو كان بغير ذلك من أكل مال اليتيم أو أكل الأموال ظلماً أو التعدي على حقوق الناس بالغصب وبأكل أموالهم، إذا زينت له نفسه حب المال وغشي قلبه حب المال وحب الدنيا فليعلم أنه مسؤول عن ماله وأن المال الحرام إذا نبت منه جسده ونبت منه جسد أولاده من أولاد أو بنات وأطعمه أهله فإن ذلك وبال عليه وعلى من بعده لأن المال الحرام يرفع صاحبه يديه إلى الله فلا تستجاب له دعوة، ويخذل في أيام حاجته من مرض أو فاقة وإن عاقبة المال الحرام إلى قلة، في عدده وفي صنفه، إذا تبين للمرء ما أوجب الله جل وعلا من اكتساب المال في المباحات ومن المباحات وأنه يجب عليه أن يبتعد عن المحرمات وأن المال الحرام يعذب به صاحبه يوم القيامة أمام الناس وأنه لا نفع فيه، فليحذر ذلك، فإنه مع العلم بذلك إنه مع العلم ومع ترك أسباب محبة المال الباطلة التي تحمل صاحبها على كسب المال من الحرام يرجى أن يصلح غلطه وأن يتوب من ذنبه وأن يقبل على اكتساب المال المباح، فإن المال إنما هو في بركته لا في عدده، فكم من أناس بلغت أموالهم كذا وكذا، فلم تنفعهم وربما كانت وبالاً عليهم.
كذلك إذا رأى المرء في نفسه ومن نفسه تقصيراً في حقوق أهله وفي حقوق ولده وفي رعايته لأمانة بيته، إذا رأى ذلك فليسرع إلى تصحيح ذلك وليسرع إلى مجانبة الأسباب التي تحمله على أن يضيع بيته وأن يضيع تربية أهله وتربية ولده وليتذكر قوله عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)) [4] ، وإنه لا يجوز لنا أن نرى تقصير أنفسنا وأخطاءنا ثم لا نتبع ذلك بإصلاح، من كان شحيحاً في بيته فليعلم أنه مسئول وأن الله أوجب عليه الإنفاق فليسارع في الإنفاق بما أوجب الله عليه، ومن كان مبذراً مسرفاً في بيته فليتذكر قول الله جل وعلا: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [الإسراء:29] فنهى جل وعلا عن الطرفين، طرف التفريط والإفراط، طرف الإسراف وطرف الشح، فلنحمل أنفسنا ولنعتبر بأخطائنا ولنتدبر حالنا، فإننا إذا كنا راغبين في دار الخلد وراغبين في رضى الله فإننا سنسرع حتماً في إصلاح أخطائنا وفي إصلاح ما يجعلنا نفرط في أوامر الله أو نقبل على محرمات الله.
كذلك إذا رأى المرء منا نفسه مسرعة في اغتياب الناس لا يرعى المرء لسانه ولا يرعى للسانه إحصاناً فإنه إذا كان كذلك يجب عليه أن يتفكر في لسانه وأن اللسان صغير جِرمه ولكن جُرمه كبير، نعم إن اللسان يوقع المرء في المهالك ويوقع المرء في الموبقات، فقد سأل الصحابي الجليل معاذ رضي الله عنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال أوإنا يا رسول الله لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلت أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم)) أو قال: ((على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) [5] فليتذكر كل منا ممن أطلق لسانه في غيبة الناس وجعل مجالسه مع أصحابه في غيبة ونميمة، بل جعل مجالسه في إظهار النفس واحتقار الآخرين، يحتقر عباد الله المؤمنين ويحتقر الناس ويغتاب هذا ويقذف هذا ويشتم ذاك ويطعن ذاك، ويعتقد أن هذا فيه سلوةٌ للنفس وإنما ذلك مكتوب عليه، يكتب عليه كل ما تلفظ به من خير أو شر فيأتي يوم القيامة بحسناتٍ ولكن يعطى منها من اغتابه أو من شتمه أو من تعرض له بقذف ونحو ذلك، فيبقى يوم القيامة فقيراً مسكيناً، واللسان هو أحق ما يكون بطول صمتٍ إلا فيما ينفع لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء:114].
نعم أيها المؤمنون: منا من يجعل مجالسه في غيبة ونميمة، وربما كان في أمور أعظم، وهذا مما يجب أن نتوب منه وأن نحصن أنفسنا وأن نجعل لساننا وألسنتنا تنطق فيما يعود علينا نفعه فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين والوزن يومئذ الحق [الأعراف:7،8] من كان منا يرسل نظره ويرسل طرفه في رؤية النساء ويتبع النظرة النظرة ولا يرعى لنساء المسلمين حرمة ولا يرعى ذلك، ويعرف ذلك من نفسه ويعرف أن ذلك النظر يجلب عليه الموبقات ويجلب عليه أموراً منكرة ليعلم أن النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فإن لم يحصن نفسه وإن لم يردع نفسه عن ذلك فإنه لا شك سيقع فيما بعد في أمور حرمها الله جل وعلا، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية)) [6] ، وسأله جرير رضي الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: ((اصرف بصرك)) [7] لأن النظرة لا يستهان بها، فمن كان مريضاً بالنظر يتتبع النساء وينظر إلى هذه إلى تلك فليعلم أن ذلك مرض في النفس فليبادر بعلاجه، فهذا أحق بالعلاج من أمراض البدن، وكذلك النظر إلى النساء في الأجهزة المختلفة فإنها تزين للقلب الفواحش وتزين للقلب المنكرات يعلم ذلك من علمه.
أيها المؤمنون: إن كلاً منا ولا شك عنده قصور وعنده تقصير وعنده غلط وعندنا جميعاً غفلة نسأل الله جل وعلا أن يجنبنا ذلك وأن يقيمنا على الحق والهدى، لكن لا يجوز أبداً أن نسترسل مع أخطائنا دون أن نحدث توبة وأن نحدث استغفاراً، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بقوله: ((يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)) [8] ، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما يفعل منا من هو مسترسل مع إعراضه يفرط في الواجبات ويغشى المحرمات ولا يحدث نفسه بتوبة نصوح بتوبة ونزاهة وقرب إلى ربه وأن يتأمل ما أعد الله للمؤمنين في جنات الخلد، فهل نعرض عما أعد الله وهل لا نستجيب إلى ما أمر الله، وهل لا نجعل الله جل وعلا أحب إلينا من أنفسنا ونجعل أمره مقدماً عندنا على أوامر النفس وشهوات النفس اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً ودلنا على الخير والهدى يا أكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الترمذي عن أنس ح (2499) ، وابن ماجه (4251).
[2] رواه مسلم بلفظ (الصلوات الخمس) ح (233).
[3] رواه البخاري ح (615) ، ومسلم ح ( 437).
[4] رواه البخاري ح (893) ، ومسلم ح (1829).
[5] رواه الترمذي عن معاذ ح (2616) وابن ماجه (3973).
[6] رواه الترمذي عن علي ح (277) ، وأبو داود ح (2149).
[7] رواه أبو داود ح (2148) عن جرير.
[8] رواه أحمد عن ابن عمر ح (17391)، ونحوه في مسلم ح (2702).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقول الله فإن بالتقوى الفخار لنا والسعادة لنا والرفعة في هذه الدنيا والآخرة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته تعظيماً لما أمره، وتشريفاً لمن أمر بالصلاة عليه فقال قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء وعن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
(1/1442)
الرؤى والمنامات
موضوعات عامة
الرؤى والمنامات
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رؤيا يوسف عليه السلام ورؤيا عزيز مصر وتأويلهما. 2- رؤيا الأنبياء وحي. 3- الرؤيا
الصادقة من الوحي وهي من الله. 4- الحلم من الشيطان. 5- مما يراه النائم ما هو حديث نفس.
6- تعبير الرؤيا علم لا يجوز أن يتحدث فيه إلا من يعرفه. 7- الاعتماد على الكتب في تعبير
الرؤى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
أيها المؤمنون: إن الرؤى والأحلام تشغل كثيراً من الناس لأنه ما من يوم إلا ويحصل لهم فيه رؤى أو أحلام، والشرع المطهر جاءنا بتفصيل أحكام الرؤى وتفصيل أحكام الأحلام وما يتصل بهذه وتلك، بل إن أصولها جاءت في القرآن الكريم، ألم تر سورة يوسف عليه السلام حيث أخبرنا جل وعلا أن يوسف عليه السلام رأى رؤيا ثم تحققت هذه الرؤيا بعد كثير من السنين إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [يوسف:4]. قال جل وعلا في آخر السورة: ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً [يوسف:100].
نعم إن إخوته كانوا هم الكواكب وكان أبوه وأمه هما الشمس والقمر، كذلك في تلك السورة أخبر الله جل وعلا عن الملك الكافر أنه رأى رؤيا فجاءت رؤياه حقاً قال جل وعلا عن الملك: وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين [يوسف:43-44].
ونبينا عليه الصلاة والسلام أول ما بدأ به الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يعني يراها كما هي، عياناً في الواقع كما رآها مناماً. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) [1]. قال كثير من العلماء: لعل معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما بدأ به الوحي أنه يرى الرؤيا فتجيء مثل فلق الصبح فاستمر ذلك معه قبل نزول جبريل عليه السلام عليه ستة أشهر ثم إنه عليه الصلاة والسلام استمرت نبوته ورسالته ثلاثاً وعشرين سنة فكانت الرؤيا نصيبها جزءاً من ستة وأربعين جزءًا من النبوة.
والرؤى لها مقام عظيم، من أول البشرية كان الناس يعتنون بها لأن أمرها غريب ولأن شأنها عجيب، ولهذا قلّ أن يكون زمن إلا وفيه معبرون يعتنون بتعبير الرؤيا ويهتمون بذلك لأنها تشغل الناس.
والله جل وعلا بين أصول الرؤى وأنها تنقسم إلى رؤيا من المسلم المؤمن الكامل، وتلك تكون رؤيا حق، وكذلك قد تكون الرؤيا الحق من الكافر الذي يشرك بالله جل وعلا. قال أهل العلم: الروح - روح الإنسان - ثلاثة أنفس. فإن الروح منقسمة إلى أنفس كما قال جل وعلا: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تَمُت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى [الزمر:42].
فالروح أنفس، والأنفس في حال المنام منها نفسٌ تكون مع النائم يتردد بها نفسه وتستقيم بها حياته.
ونفسٌ أخرى يقبضها الله جل وعلا ويتوفاها فتكون عنده. والنفس الثالثة تسرح وتذهب هاهنا وهناك منفصلة عن البدن، وكل هذه الأنفس قريبة من البدن تعود إليه في أقرب من لمح البصر.
أما النفس التي تتجول فهذه النفس هي التي يحدث منها ومن تجوالها الرؤى والأحلام، فإذا أمسكها ملك وضرب لها الأمثال إما بالألفاظ وإما بالأشكال وإما الوقائع والذوات والقصص فإن الرؤيا تكون حينئذ من ضرب الملك، وهذا القسم هو الرؤيا التي هي الحق.
والقسم الثاني أن يأخذها الشيطان فيتلاعب بها تلاعباً، يري الإنسان ما يغيظه، ويري الإنسان ما يكرهه وينغص عليه منامه، فقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت البارحة كأن رأسي قطعت فأخذت أتبعها قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يخبر أحدكم بتلاعب الشيطان به في منامه)) [2].
كذلك قد تكون تلك النفس تتجول ويؤثر عليها تعلقها بالبدن، فإذا شبع الإنسان مثلاً أثر شبعه على تلك النفس فإذا كان في نفسه من الخواطر ما فيه أثر ذلك على نفسه فرأى ما شغل باله أو رأى ما أثر عليه من بدنه، لهذا ثبت في الصحيح صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرؤيا ثلاثة أقسام، فمنها ما هو حقٌ يضربه الملك ومنها ما هو تلاعب يتلاعبه الشيطان بأحدكم، ومنها ما هو حديث نفس)) [3]. وهذه هي أقسام الرؤيا فمنها ما يكون حقاً يضربه الملك لك أيها المؤمن، بل يضربه الملك للمؤمن والكافر، فيكون بتلك الأمثال بشارات يعقلها العلماء كما قال جل وعلا: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت:43].
ومنها ما يكون من تلاعب الشيطان، يُري الشيطان نفسه للإنسان، يعني يري نفسه التي أخذها في المنام وذهب بها إلى هاهنا وهاهناك، يريه أشياء مفزعة يريه أشياء تحزنه، فيكون الإنسان في منامه محزوناً، وذلك من فعل الشيطان به، وربما لم يحزن في منامه لكن يحزن إذا استيقظ، وهذا كله من الشيطان لأن تلاعب الشيطان له دلالات يستدل بها المعبرون على أن ذلك ليس من الرؤى الحقة، وإنما هو من تلاعب الشيطان والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الفجر غالباً من كل يوم فإنه يقبل على أصحابه فيسألهم: ((هل رأى أحدٌ منكم رؤيا)) [4]. فيخبره من رأى منهم بما رأى، فربما عبرها لهم عليه الصلاة والسلام وذلك أن الرؤيا الصالحة مبشرةٌ للمؤمن كما ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لم يبق من النبوة إلا الرؤى الصالحة يراها المؤمن أو ترى له)) [5] فإن الرؤى الصالحة هذه مبشراتٌ لأهل الإيمان.
وربما كانت الرؤى الصالحة محذراتٍ لأهل الإيمان. فكم من صالحٍ رام أمراً فأتته الرؤيا تحذره من غشيان ذلك الأمر، تحذره إما صريحاً أو بإشارة، ولهذا أهل العلم الذين يعبرون الرؤى يستدلون بما رآه المسلم بل بما رآه الرائي، يستدلون على تأويل الرؤيا بما رأى، تارة يستدلون باللفظ، وتارة يستدلون بالأشباه، وتارة يستدلون بالأبدان وما بينهما من التناسق، وتارة يستدلون في تفسير الرؤيا بما يحكيه الرائي، وكثير منها يكون من العلم الذي علمه الله جل وعلا من شاء من عباده ولنعلمه من تأويل الأحاديث [يوسف:21].
والناس اليوم خرجوا عما أرشدوا إليه شرعاً في كثير من أمور الرؤى، فمنهم من إذا رأى رؤيا أسرع يسأل عنها كل من رأى، سواء علم منه أنه يعلم التأويل أم لا يعلم، وهذا من الأمر الذي لا ينبغي، ذلك لأن تفسير الرؤى علم من العلوم، والكذب فيه كذب على الملك، لأن الله جل وعلا جعل الملائكة تضرب الأمثال، فإذا فسر المفسر رؤيا وهي ليست برؤيا بل بحدس وتخمين منه فكأنه قال للذي رأى: هذا الذي رأيت رؤيا يعني أن الملك ضرب له المثل بذلك، وقد يكون ذلك من تسويل الشيطان. وقد يكون ذلك من حديث النفس.
والمتعجلون في هذا الأمر كثير، لذلك على المؤمن أن لا يسأل عن كل ما رأى، وعليه إن سأل أن يتحرى الذين يعلمون الرؤى وعرفوا بذلك، وليس كل من عُرف بتأويل الرؤيا وأصاب بكثير منها يلزم منه أن يصيب دائماً. وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكراً لما سأل عن تعبير رؤيا فعبرها قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: ((أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً)) [6] وأبو بكر رضي الله عنه كان من المعروفين في تأويل الرؤى فلا يلزم من تعبير المعبر لرؤيا إذا كان عنده علمٌ بذلك لا يلزم منه أن يصيب دائماً، لكن الناس يتعجلون في هذا الأمر والذي ينبغي على المؤمن أن لا يحدث برؤيا، لأن الرؤيا كما ذكرنا أعني ما يراه النائم في منامه على ثلاثة أقسام فمنها رؤيا حق وهذه على قسمين أما تكون مفرحة وإذا كانت مفرحة فاحمد الله عليها، احمد الله عليها وإن شئت أن تسأل فسل، ولا يلزم من تلك الرؤيا أن تسأل عنها فإن عاقبتها إلى خير قال عليه الصلاة والسلام: ((الرؤيا على رجل طائر إذا عبرت وقعت)) [7] والقسم الثاني أن تكون الرؤيا الحق فيها ما يحزن المرء إما بدلالة في الرؤيا وإما بما يعبره المعبر.
وهذا إذا سأل عنه ربما أحزنه، والذي ينبغي إذا رأى المرء ما يحزنه أن يستعيذ بالله من شرها وأن يتفل عن يساره ثم يتحول إلى الجنب الآخر كما قال عليه الصلاة والسلام مرشداً من فعل ذلك: ((فإنها لا تضره)) [8].
كذلك القسم الثاني إلا وهو حديث النفس فإن النفس لها أحاديث فهذا راء رأى في منامه أنه يشرب الماء الكثير جداً، يشرب البحر أو يشرب النهر أو يشرب عيناً غدقاً كثيراً فأفزعه ذلك وإذا مردُ ذلك، إما إلى شبعه من طعام لم يشرب عليه ماء وإما أن يكون مرد ذلك لعطشه إذا زاد أو تفكيراً من التفكيرات التي فكر بها، فليس فكل ما يظنه الناس أنه رؤيا يكون بالحقيقة رؤيا، بل كثيرٌ من الناس يرى ولا تكون رؤياه حقاً. بل تكون من أحاديث النفس أو تكون من تسويلات الشيطان.
الرؤى يعتبرها أهل العلم باعتبارات مختلفة لهذا مما يُنهى عنه أن يتعلق الناس - وبالأخص النساء - بالكتب التي تفسر الأحلام. فكثير من الناس يحصل عنده كتب في تفسير الأحلام فإذا رأى رؤيا، إذا رأى في منامه شيئاً أسرع من صبيحته إلى ذلك الكتاب.
والرؤيا تعبيرها له شروط وتحتاج إلى علم واسع، وأحياناً لا يكون تفسيره له تعلقٌ بالرؤيا ألبتة.
وإنما يكون بالرؤيا كلمة تدل المعبر على تفسير رؤياه، كلمة واحدة، ويكون معها قصص كثيرة ليس لها شأن في الرؤيا وليس لتفسير الرؤيا بها تعلق، وإنما التعلق بتلك الكلمة، وما قبلها وما بعدها من الأحداث ليس له نصيب.
كذلك من الناس من يرى أشياء مفزعة تفسيرها بالأمر القبيح فينظر في نفسه فإذا هو أصبح محزوناً فصار كيْد الشيطان عليه متحققاً إذ أحزنه، والذي ينبغي: أن لا يسعى في ذلك، وإذا أراد فليسأل أهل العلم الذين يعبرون الرؤى ولا يسأل أهل الجاهلية ولا يسأل أهل التعجل، فإن كثيراً من الرؤى لا يعلم تأويلها إلا بشيء من التأمل والنظر ومنها ما يظهر تأويله، ومنها ما يختفي تأويله، والناس في هذا لهم مقامات.
مما شاع بين الناس وهو غلط أن الإنسان إذا رأى أن من أسنانه ما سقط أن ذلك يؤول بفقد أحد أحبته، بموت ابنه أو ابنته أو من يعز عليه وهذا ليس بالصحيح.
إذ إن الأسنان بالرؤى تفسر بأحوال كثيرة، فالأسنان العلوية غير السفلية، والمتقدمة غير المتأخرة، والأضراس غير الأسنان، وهكذا في تفاصيل كثيرة.
المقصود أيها المؤمن أن الرؤى من العلم الذي حازه من حازه، والأنبياء يعبرون الرؤى بتعليم الله جل وعلا لهم، فلا تكن متسرعاً في ذلك بقصها ولا بأخذ الكلام فيها ولا بتعبير الرؤى إن سُئلت، لأن ذلك من العلم ولنعلمه من تأويل الأحاديث [يوسف:21]. فالتعجل في ذلك من الكذب إن لم يكن صاحبه على علم بذلك.
هذا واعلموا أن المرء إذا استعاذ بالله من شرها فإنها لا تضره فإن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وليس من شرط الرؤيا أن تتحقق فقد يرى رؤيا حق، ولا تتحقق إذا سأل الله جل وعلا أن لا تكون، إنما كانت مما يحزنه أو مما يرى أن فيه شيئاً.
أيها المؤمنون: إن العلم واسع والناس توسعوا وخاضوا غمرةً، جهل كثير في أمورهم التي لها تعلق بدينهم ولها تعلق بكتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة السلام فعليكم بالعلم في أموركم كلها، عليكم بالعلم واليقظة، وأن تسألوا إذا جهلتم، فإنما شفاء العي السؤال كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم [9].
نسأل الله أن يبصرنا وإياكم بالحق وأن يلزمنا إياه وأن يعلمنا من لدنه علماً وأن يجعلنا ممن استعملهم في طاعته وأن يجنبنا القول بالكذب والقول عليه بلا علم إنه ولي ذلك وهو نعم المولى ونعم النصير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [سورة الشرح].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ح(6989)، ومسلم ح(2263) عن أبي هريرة رضي الله عنه ، واللفظ عندهما: ((الرؤيا الصالحة...)).
[2] أخرجه مسلم (4/1776) [2268] من حديث جابر بنحوه.
[3] أخرجه مسلم ح (2263) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري ح (1386) ، ومسلم ح (2275) عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري ح(6990) بنحوه ، ومسلم ح(479) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري ح (7046) ، ومسلم ح (2269) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] صحيح ، أخرجه أحمد (4/10) ، وأبو داود ح (5020) ، والترمذي (2279) وابن ماجه ح (3914) ، عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري ح (3292) ، ومسلم ح (2261) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[9] أخرجه أبو داود ح (336) وابن ماجه ح (572) من حديث جابر ، وهو حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى رفعتكم وفخاركم في الدنيا والآخرة، فاتقوا الله حقاً وتوبوا إليه صدقاً، اتقوا الله بتعظيم أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه فإن تقواكم عاقبتها لكم.
فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فثنى بملائكته فقال قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.[الأحزاب:56].
(1/1443)
القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء
العلم والدعوة والجهاد, فقه
القرآن والتفسير, المرضى والطب
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن فيه هدى وشفاء. 2- أنواع الشفاء في القرآن (من الشهوات – الأمراض البدنية -
الأمراض النفسية). 3- مشروعية الرقية بالقرآن والدعاء. 4- أنواع الراقين وحكم كل منهم.
5- كلمة عن الشعوذة وسبب انتشارها وذهاب الناس إلى المشعوذين. 6- ترك الذكر وقراءة
القرآن سبب في تسلطة الشياطين علينا. 7- دعوة للاهتمام بالرقية المشروعة والتحذير من
الشعوذة والمشعوذين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، عظموا الله عظموا أمر الله عظموا نهي الله لتكن الدنيا في قلوبكم حقيرة، ولتكن الآخرة في قلوبكم عظيمة فإن حقارة الدنيا وعظم الآخرة في قلب العبد المؤمن سبب السعادة في الدنيا والآخرة. أيها المؤمنون قال الله جل وعلا: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا [الإسراء:82].
وقال جل وعلا في القرآن: قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [فصلت: 44] فإن الله جل جلاله جعل هذا القرآن هدى للمؤمنين، وجعل فيه الشفاء.
قال العلماء: الشفاء في القرآن ثلاثة أنواع :
فمنه الشفاء من أدواء الشبهات والشهوات. التي من تسلطت عليه أضلته وصار ساعيًا في الظلمات، والله جل جلاله جعل هذا القرآن هاديًا للتي هي أقوم إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [الإسراء:9] فمن أراد السلامة من أمراض الشهوات ومن أمراض الشبهات، فعليه بالقرآن، فهو للذين آمنوا هدى وهو للذين آمنوا شفاء.
النوع الثاني: أن القرآن شفاء لأمراض البدن بأنواعها. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ما من داء إلا وفي القرآن شفاؤه، علمه من علمه وجهله من جهله, وآيات القرآن عند أهل العلم فيها من عجائب الاستطباب ومن عجائب التداوي بها ما لا يعلمه كثير من الناس.
فانظر مثلاً إلى ابن عباس رضي الله عنه كيف تلا على الذي كان به داء الرعاف الذي استطال به. كان طريقة دواء ذلك الداء عند ابن عباس رضي الله عنه أنه كتب على جبينه آيات من القرآن وهي قوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر [هود:44]. فشفى الله جل وعلا ذلك المريض.
انظر إلى ذلك الرجل الذي أصيب بسمّ من بعض ذوات السموم. فأتاه بعض الصحابة فقرأ عليه القرآن، فأبطل الله جل وعلا ذلك السم وأثره وقام الرجل سليمًا يمشي بين الناس [1].
وهكذا القرآن فيه شفاء للأمراض البدنية.
وقد عدّ العلماء من أنواع هجر القرآن التي تدخل في قوله تعالى: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا [الفرقان:30]. عدوا من أنواع هذا الهجر، أن يهجر القرآن فلا يستشفي به.
والنوع الثالث من أنواع الشفاء بالقرآن الشفاء من الأمراض النفسية، ومن عين الإنس وعين الجن ومن السحر، ومن جميع تلك الأمراض، التي قد لا تكون من جنس الأمراض البدنية.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرقى بعض أولاد جعفر لما رأى فيهم من أثر العين [2]. وقد أمر عليه الصلاة والسلام بذلك، وقد رقى عليه الصلاة والسلام ورُقي أيضًا.
فالقرآن إذًا أيها المؤمنون شفاء، والرقية بالقرآن سنة ماضية فقد رقى جبريل عليه الصلاة والسلام نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام [3]. وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الصحابة، ورقى الصحابة أيضًا، رقى بعضهم بعضًا، وهذا امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)) [4] فالرقية بالقرآن وبالأدعية النبوية الواردة، فيها الشفاء بإذن الله، فهي سبب ينفع الله جل وعلا به.
والقرآن فيه الشفاء للمؤمنين ولكن الظالمين لا يزيدهم إلا خسارًا.
أيها المؤمنون: لأجل هذا شاع في الناس بكثرة من يرقي الناس ومن يتلو عليهم القرآن وينفث عليهم طلبًا لشفائهم ورغبة في ذلك. وهؤلاء الذين يرقون الناس بالقرآن وبالأدعية النبوية هؤلاء محسنون.
لكن جملة من يرقي الناس على ثلاثة أصناف:
منهم من يرقيهم وهو عالم بأمر الله عالم بشرعه عالم بمسألة الرقية وما تؤول إليه من الخير أو ما قد تؤول إليه من الشر.
والصنف الثاني: صنف جاهل لا يعلم أحكام الرقية ولا ما يرقي به الناس ولا ما تؤول إليه الرقية. إذا رقى تجده يخوض غمرة ذلك بجهله وإعراضه عن اتباع طريقة العلماء في ذلك.
والصنف الثالث: من هو مشعوذ يتبع أساليب المشعوذين في القراءة. يوهم أن قراءته بالقرآن وبالأدعية، وهو في الحقيقة يستخدم طرقًا غير مشروعة. منها أن يستخدم الجن في رقيته في إعلامه بحال هذا المريض. وفي إخباره ما حصل له ونحو ذلك. فتجده يبذل للجن بعض ما يُسرّ به الجن ويستمتعون به لقاء ما يخبره به الجن.
وهذا الصنف من الناس من صنف المشعوذين، من صنف الذين يرقون برقية محرمة؛ لأنهم في ذلك استخدموا طرقًا ليس عليها دليل من الكتاب والسنة، وقد انتشر القراء في هذا الزمان وكثروا جدًا؛ حيث إن الذين يرقون كانوا في الزمن الماضي زمن العلم والتوحيد، زمن انتشار نور العلم والسنة كان القراء قليلين ولا يرقي إلا الواحد بعد الواحد من قلتهم.
وفي هذا الزمان تجد الحدث من الشباب عهده في الفسق وعهده بالفجور عهده بذلك قريب. فما تراه بعد سنة إلا وقد أصبح من القراء المشهورين والناس يأتون إليه أسرابًا إثر أسراب يطلبون رقيته بذلك، وليس ذلك على الله بعزيز؛ إذ التوبة تجبُّ ما قبلها، لكن الرقية تحتاج إلى علم وتفتقر إلى السنة وليس ذلك الزمن القصير بكاف لتعلم ذلك، لهذا تسامح الناس من هؤلاء القراء بالعجب العجيب. ومن الرقية غير المشروعة ما يصفه بعضهم، يستقدم الجن ويزعم بأنه يستقدم مسلمي الجن فيما زعم وهذه البلاد طهرها الله جل وعلا بالتوحيد، طهرها الله جل وعلا بأن لا يُرى فيها الشرك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب النبوات، قال: إن نور العلم والإيمان والتوحيد إذا انتشر في أرض ضاق معه وجود الشيطان ووجود الجن الذين يستفيدون من الناس ويستفيد الناس منهم؛ فإن الرقية السبيل إلى ذلك، ولهذا نور العلم والإيمان، نور التوحيد إذا نتشر في بلاد الله كان مغنيًا عن ذلك، والجن والشياطين إنما ينتشرون في البلاد التي يضعف فيها نور القرآن والسنة.
واعتبر ذلك وانظر إليه في بلاد الله المختلفة تجد ذلك جليًا، وأكثر الناس طغيانًا فرعون كيف كانت أرضه ينتشر فيها السحرة الذين يستخدمون الجن كأعظم ما يكون من الاستخدام.
وعندما ضعف أمر التوحيد في قلوب الناس وضعفت حقيقة التوكل على الله. حتى غدا التوكل على الله وتفويض الأمر إليه والصبر على البلاء الذي أنزله حتى غدا في الناس ذلك. غدا ضعيفًا ظهر في الناس ما ظهر من أنواع الخروج عن العلم والسنة في باب الرقية.
انظر إلى حال كثير من البيوت كيف إذا ظهر في البيت شيء غريب ظن الناس أن هذا من الأمراض، فصار النساء يذهب بعضهن إلى كل من سمعت بأنه قارئ يقرأ سواء كان من أهل العلم المشهود لهم أو لم يكن.
المهم أنه يذكر اسمه وأنه قارئ، وبعض النساء يذهبن إلى كاهنات ومشعوذات. وبعض النساء يذهبن إلى مشعوذين وبعض أولئك القراء يرتكبون مع النساء محرمات. يتغيظ منها قلوب أهل الإيمان، والناس يظنون أن رقيته تلك تنفع وهو يرتكب حين يرقي من رؤية النساء ومن الخلوة بهن، ومن مسهن ومن إثارة الشهوة فيه بما يمسُ منهن ما تسامح الناس به.
ومع ذلك, وبسبب ذلك ضعف التوحيد في قلوب الناس. الرجل في بيته يتسامح بما تفعله زوجته بالذهاب إلى هؤلاء وبما تفعله بعض أقاربه من ذلك، وبما يفعله أهله بالصغار وهو في ذلك ساكتٌ وكأن الرجال ليسوا على قوامتهم مع النساء، الرجل يعلمُ ما لا تعلمه النساء خاصة في هذه الأمور؛ لأنه يسمع القرآن كثيرًا. في الخطب وفي المحاضرات وفي كلام أهل العلم وفيما ينشر من ذلك، فعليه أن يكون في ذلك ذا قوامة على أهله فكيف يأذن بأن يسعى أهله في تلك المنكرات، نعم الأمراض، أمراض النفس كثرت من العين ومن أمراض القلب، ومن أمراض الصدر من ضيق الصدر، ومما يفرقون به بين المرء وزوجه لكن علاج ذلك يكون بالقرآن.
وأيضًا انتشار تلك الأمراض له سبب، وسببه الشياطين التي خيمت بكثير من البيوت، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ أو صورة)) [5] فانظر إلى ما شاع في الناس من انتشار الصور المحرمة في بيوتهم ومن تعليق الصور على الجدران، وهو بإجماع العلماء من الكبائر، والملائكة ملائكة الحفظة ملائكة الرحمة تفر من البيت الذي فيه الصورة، وإذا فرت الملائكة دخلت الشياطين فعاثت بالناس، والله جل وعلا حمى الإنسان، حمى المؤمن بالخصوص والإنسان بعامة بالملائكة الحفظة قال جل وعلا: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [الرعد:11]. يعني الملائكة تحفظ ابن آدم مما قد يصيبه حتى إذا أتى قدر الله خلوا بينه وبين ذلك، انتشر ذلك فانتشرت الشياطين في البيوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت أو ضعفت أو انعدمت تلاوة القرآن في البيوت، والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة؛ لأنه لا مكان له في مكان تقرأ فيه سورة البقرة. فكم تقرأ سورة البقرة فينا من بيت، الشيطان يفر من المؤمن الذي يديم الاستعاذة بالله، يديم الأوراد، يديم الذكر لأن القلب إذا خلا من ذكر الله تسلط عليه الشيطان وكان بيتًا للشيطان. وأما إذا عمر بذكر الله فرت الشياطين فإن الشيطان وسواس ولكنه خناس، قال المفسرون: "إذا ذكر الله خنس، وإذا غفل العبد أقبل". فكم منا من يتلو الأوراد ويستعيذ بالله من شر الشياطين عند إقبال الصباح وإقبال المساء، وهي فترات انتشار الشياطين.
إن الرقى مشروعة، وأكمل الرقى أن يرقي العبد نفسه متوكلا على الله عالمًا أنها سبب، وأن الله جل وعلا هو الذي أمر بهذا السبب، وأن القرآن شفاء، إذا أذن الله بذلك فليكن كل منا متوكلاً على الله راقيًا نفسه، راقيًا أهل بيته، ولا يجوز أن يتساهل الناس في هذا الأمر بأن يأذنوا لمن يرعونه بأن يذهبوا إلى من هب ودب ممن يرقون؛ لأن كثيرين منهم بل لأن الأكثرين منهم يرقون على خلاف السنة ويستخدمون ما جاءت السنة بإبطاله قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتابه النبوات: "أولياء الله مع الجن مثلهم كمثل الأنبياء مع الجن يأمرونهم بطاعة الله وينهونهم عن معصية الله ويأمرونهم بالتوحيد وينهونهم عن الشرك ويأمرونهم بطاعة الرسول وينهونهم عن مخالفة ذلك. وأما ما عدا ذلك فليس من صنيع أولياء الله" هذا معنى كلامه فتنبه لهذا.
والانتفاع بالرقية أكثر ما يكون من جراء أن يرقي أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون [يونس:63] ، وليحذر الناس في هذه البلاد أن ينتشر هذا الأمر من الذين يرقون على خلاف السنة ومن الذين يستخدمون الجن ومن الكهنة والمشعوذين والعرافين الذين يخبرون ببعض الأمر الغيبي الذي فات وكذلك من السحرة وأمثالهم ممن أتوا إلى هذه البلاد أو من أهل هذه البلاد الذين تعلموا على يدي أولئك فحمى الله جل وعلا هذه البلاد من شر أولئك زمنًا طويلاً، والآن نراها قد انتشر فيها، قد انتشرت فيها تلك الموبقات، وأولئك الذين مرقوا من الدين.
نسأل الله جل وعلا لنا السلامة وأن يحمي هذه البلاد بالتوحيد وأن يحمي أهلها من مسالك الشرك ووسائله, وطريقة المخرفين والمشعوذين، وأن يمن على الرجال بالقوامة. بالقوامة الحقة التي منَّ الله عليهم بها شرعًا إنه ولي ذلك وهو المسؤول وعليه التكلان.
واسمعوا قول الله جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا [الإسراء:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه حقًا، وتوبوا إليه صدقًا إنه هو الغفور الرحيم.
[1] يشير إلى حديث اللديغ الذي رقاه أحد الصحابة بفاتحة الكتاب، فجعلوا له قطيعًا من الغنم. فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا)).
أخرجه البخاري [2156]، ومسلم [2201] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي [2059] وابن ماجه [3510] من حديث أسماء بنت عميس. وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني.
[3] أخرجه مسلم [2185، 2186] من حديث عائشة ومن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم [2199] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري [5958] ومسلم [2106] من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى في سركم وعلانيتكم؛ فإن بالتقوى رفعة مقامكم عند ربكم، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها المؤمن اسمع لقول نبيك عليه الصلاة والسلام: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) [1].
وقد قال عليه الصلاة والسلام أيضًا: ((ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) [2].
إن انتشار الذين يقرؤون على خلاف السنة، إن انتشار المشعوذين، إن انتشار الكهنة والعرافين والسحرة منكرٌ عظيم في بلاد المسلمين. فمن رأى شيئًا من ذلك أو علمه وتيقن منه فإنه يجب عليه أن يبلغ أهل المسؤولية بذلك ولا ينفك من العهدة، وليحذر أن يعاقب من جراء سكوته على تلك المنكرات التي هي وسيلة إلى أن يظهر الشرك في بلاد التوحيد في البلاد التي طهرها من مخالفة ومناقضة الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فعلينا أيها المؤمنون القيام في ذلك الأمر بأن إذا سمعنا وتحققنا بوجود من خالف السنة بذلك، لو كان مشعوذًا أو كاهنًا أو ساحرًا لتبلغ عنه وذلك على سبيل الوجوب على أقل الأحوال إلا إن كان المؤمن لا يستطيع، فالإنكار بقلبه، الإنكار بقلبه ينجيه، ولكن في أحوالنا هذه ليس من عذر في عدم التبليغ لأن الحق أظهر من الباطل، ولأن الصولة في هذه البلاد ولله الحمد للحق. وأما الباطل فهو ذليل حقير وزاهق بإذن الله، فقوموا أيها المؤمنون بهذا الواجب وليحذر من لم يقم به العقوبة في نفسه أو في من يحب لأن أولئك يضرون المسلمين بما ينشرونه.
فاتقوا الله، اتقوا الله وخافوا يوم لقاه وقوموا في هذا الأمر أتم قيام لعلنا نكون من الممتثلين الناجين حقًا.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أثنى على الذين يتبعون أمره. وأمر أيضًا بالصلاة على نبيه فقال جلّ وعلا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم ح (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] رواه مسلم ح (50) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(1/1444)
حقيقة الابتلاء
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الفتن
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقادير الناس بيد الله ووفق حكمته. 2- الابتلاء يكون بالخير والشر. 3- العطاء للعاصي
الكافر إنما هو استدراج. 4- البلاءات التي تصيب الناس متنوعة. 5- ما يصيب المؤمن اختبار
من الله. 6- قصة أصحاب الجنة. 7- ارتباط الأحداث الكونية بقدر الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى، عظموا أمر الله وعظموا نهي الله باستجابتكم لأوامر الله وبالبعد عن مناهي الله فبذلكم تكون التقوى.
أيها المؤمنون: إن الله جل جلاله بيده ملكوت السموات والأرض فله الملك كله، يقدر ما يشاء على عباده فيفيض عليهم الخيرات ويمنع عنهم المسرات ويفيض تارة ويمنع تارة، يبسط الرزق لمن شاء، ويقدر على آخرين أن يضيق، وهذا ابتلاء من الله جل وعلا.
ولذلك الابتلاء حكم عُليا جليلة يجب على المؤمنين أن يرعوها وأن يتعلموا ويعْلموا الأصول الشرعية التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تبين حقيقة الابتلاء والقصد منه كما أخبر الله جل وعلا أنه يبلو الناس بالشر تارة وبالخير تارة، وكل ذلك فتنة، يكون فتنة لمن أصابه الخير والسراء، ويكون فتنة لمن أصابه السوء والضراء وكل ذلك داخل في ابتلاء الله، في اختبار الله للناس.
فعلى هذا، الناس أفراداً وجماعات تارة يبتلون بالخير وتارة يبتلون بالمصائب، وكل ذلك هو في حكمة الله جل وعلا، فهو الذي يقدر ما يشاء ويقضي بما يشاء، له الملك كله وله الحكم كله، في كل ما يجري في ملكوته.
كل ما يجري في ملكوته بدون استثناء فإنما هو صادر عن أمره، موافق لحكمته، موافق لمشيئته جل وعلا، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فطائفة من الناس يفيض عليهم الله جل وعلا الخيرات والنعم والمسرات.
والقرآن العظيم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يبينان لنا أن ذلك له حكمة كما قال جل وعلا: وألّوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا لنفتنهم فيه [الجن:16-17]. فمن أفيضت عليه المسرات، والخيرات حلت عليه والنعم، وأفيض عليه ما يسره يجب عليه أن يقف وقفة متأملاً متدبراً في هذه النعم التي حلت عليه، فينظر أولاً هل حاله حال المستقيمين؟ هل حاله حال الذين استقاموا على الطريقة؟ هل حاله حال المؤمنين بالله الذين استجابوا لله فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه؟ فإن كانت حاله تلك من الاستقامة والإيمان والصلاة وأنعم الله عليه من الخير فليعلم أن ما أعطاه الله جل وعلا له ليبلوه وليفتنه هل يشكر تلك النعم أم لا يشكرها فإن من الناس من كانت أحوالهم مستقيمة فلما أفيض عليهم المال وكملت لهم النعم انحرفوا وضلوا ولم يشكروا الله على نعمه الجزيلة وعلى ما وسع وأفاض من الخيرات، فمن كان مستقيماً وكانت حاله في رغد من العيش وسلامة وصحة وأمن ونحو ذلك فليعلم أن ذلك اختبار هل يشكر أم يكفر؟ كما أخبر الله جل وعلا عن سليمان عليه السلام حيث قال بعد أن أنعم عليه: ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [النمل:40]. بعد أن أُتي له بعرش بلقيس وتمت له تلك النعم عرف أن ذلك ابتلاء، وأن ذلك ليختبر هل يشكر أم يظن أنه إنما أوتيه بقواه، وأنه إنما أوتي ذلك بمحض قوته وتفكيره، صنف آخر من الناس يبتلى بالنعم ويفاض عليه من الخيرات فيجب عليه أن ينظر في نفسه إذا كان غير مؤمن بالله الإيمان الكامل إذا كان مفرطاً بالواجبات، مفرطاً بحقوق الله جل وعلا وبحقوق الخلق، مقبلاً على المحرمات لا يرعى لله حرمة ولا يرعى للخلق حقاً وأنعم عليه بالنعم، فليعلم أنما ذلك ابتلاء واستدراجٌ من الله كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فليعلم أن ذلك استدراج)) [1] لأنه استدراج حيث قال تعالى: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [القلم:44].
إن الله جل جلاله يغار على حرماته ومع ذلك يفيض الخير على من لم يستقم على أمره، ليبتليه وليختبره.
ثم ليعلم أولئك أنما ذلك استدراج لكي ينظر الناس في حالهم بعد أن تأخذهم العقوبة.
والمؤمن عليه أن يرجع إلى ربه دائماً بما أعطاه الله من النعم وأفاض عليه من الخيرات، فإن كان مؤمناً سليم الإيمان مقيماً على الطاعات مبتعداً عن المحرمات، سعى في شكر ذلك باستعمال النعم في مراضي الله وبأن يضيفها وينسبها إلى من أولاها وأسداها ثم إنه ينعم بها على من حرمها.
من كان على غير استقامة، على معصية، على موبقات وعلى تفريط في الواجبات وأنعم عليه فليعلم أن ذلك استدراج، فعليه أن يستيقظ من الغفلة، وأن يستيقظ من السِنَة التي غشيت عقله وعلى فؤاده، فإن المرء إذا أصابته الغفلة خسر ثم خسر خسراناً مبيناً.
الطائفة الأخرى من الناس لا تبتلى بالنعم إنما تبتلى بالمصائب من الله جل وعلا، بأنواع المصائب، إما بنقص في الأموال، وإما بمصائب بدنية وإما بمصائب عامة أو خاصة، وتلكم المصائب موافقة لحكمة الله، موافقة لقدر الله، موافقة لسنة الله التي أمضاها في خليقته منذ خلق السموات والأرض، ومنذ دب آدم على وجه الأرض، فتارة يكون الذي ابتلي بالمصائب ابتلي بالأمراض ابتلي بالموت ابتلي بالجوع، ابتلي بنقص المال، فتارة يكون مؤمناً فرداً أو جماعةً أو أمة، تارة يكون مؤمناً مسدداً كما حصل في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ابتلي الناس في وقته وهم الكملة المنتقون ابتلي الناس في وقته بعام المجاعة المشهور الذي سمي عام الرمادة، كان الناس لا يجدون ما يأكلون وذلك لينظر الله جل وعلا في فعل أولئك بذلك الابتلاء وذلك الاختبار هل يقبلون على ربهم ويعلمون أن بيده ملكوت كل شيء أن في يده ملكوت كل شيء وأنه جل وعلا ماض حكمه في خليقته ثم إنهم يبذلون ويضحون أم أنهم يشحون على أنفسهم وعلى إخوانهم، وأنواع من الاختبار والابتلاء بل وكما ابتلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته بما حدث لهم في أحد حيث قال الله جل وعلا لهم: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [آل عمران:165].
أولئك ابتلوا واختبروا بأنواع من المصائب المؤلمة مع ما هم عليه من السداد في الإيمان وكمال الأقوال والأعمال والبعد عن الشرك والبدع والبعد عن المحرمات صغيرها وجليلها إلا ما شاء الله أن يقع، أولئك كانت لهم المصائب ابتلاءً واختباراً لإيمانهم هل يصبرون على ذلك أم يتشككون في يقينهم وفي إيمانهم كما يحصل لبعض السفهاء ممن ضعف دينه وضعف إيمانه وقل يقينه.
طائفة أخرى من الناس تبتلى بالمصائب، تبتلى بالمصائب من عند الله جل وعلا بأنواع من المصائب إما بغرق يحيطهم من فوقهم من السماء وإما أن تزلزل الأرض من تحتهم، ثم إنهم إذا كانوا على نقص من الأموال ونقص في الأنفس ونقص من الثمرات فنظروا في حالهم فوجدوا أنهم مفرطون في أمر الله، مفرطون في حق الله، مفرطون في أعظم الحقوق لله، وهو توحيد الله بأن يظهر الشرك فيما بينهم ولا ينكرونه، وتظهر المحرمات ولا ينكرونها، يشيع الفحش والفجور ولا ينكر، بل يقر، ويتخلف الناس عن أداء فرائض الله، إذا كانت تلك الحال وأصابهم ما أصابهم من عذاب الله أو من الابتلاء من الله جل وعلا فقد يكون ذلك في حق البعض المؤمنين الذين أصيبوا في ذلك، يكون ابتلاء واختباراً، وفي حق الذين تنكبوا عن صراط الله وعن دين الله وغَشَوا المحرمات والكبائر وما هو أعلى من ذلك يكون في حقهم عقوبة من الله جل وعلا كما أخبر الله جل وعلا عن قصة أصحاب الجنة فقد قالوا متعاهدين فيما بينهم: أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين [القلم:44]. حرموا الناس حقوقهم، فكانت تلك معصية في حقهم وكان ذلك مؤذناً ببلاء من الله جل وعلا قال تعالى: فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين [القلم:19-21]. الآيات، حتى قالوا معترفين: يا ولينا إنا كنا طاغين لما ظلموا أصابتهم العقوبة، هذه هي طوائف الناس في المسلمين ممن ابتلوا بأنواع المصائب وممن ابتلوا بأنواع المسرات والخيرات، وهذه هي الأصول الشرعية إن أصابت المصائب المؤمنين فليصبروا وليحتسبوا، وإن أصابت من فرط في أمر الله فليعلم أن ذلك نوع من العقوبة يخوف الله به عباده المؤمنين كما أخبر عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس في عهده قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا حياته)) [2] وقال عليه الصلاة والسلام: ((يخوف الله بهما عباده)) [3] ، ((إن الله ليغار أن يزني عبده، إن الله ليغار أن تزني أمته)) [4] ، وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان للأمة لكي تعلم أن الآيات موافقة لحكمة الله، وكون أن لها أسباباً يعلمها بعض البشر لا ينافي أن فيها الحكمة البالغة من الله، فما من شيء يحدث إلا هو من الله موافق لحكمة الله، ماضٍ فيه أمر الله جل وعلا.
أيها المؤمنون اعتبروا في هذه الأصول الشرعية، كل بحسب حاله، من كان ذا نعمة فليشكر نعمة الله وليستقم على أمر الله، ومن كان ذا مصيبة فليتفكر في نفسه، إن كان مقيماً على الإيمان فليصبر وليحتسب وليعلم أن ذلك زيادة في إيمانه واختبار لتصديقه ويقينه، ومن كان على ضد ذلك فليعلم أن تلك العقوبة يعاقب بها من خالف أمر الله فيها إما ابتلاء وإما عقوبة، نسأل الله جل وعلا أن يجنبنا المكاره ما ظهر منها وما بطن وأن يجنبنا الفتن في أنفسنا وفيمن نحب وفي بلادنا وفي بلاد المسلمين عامة واسمعوا قول الله جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولنبولنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد:31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من جميع الذنوب والخطايا وأتوب إليه فاستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (4/145) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري ح (1042)، ومسلم ح (901) عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم.
[3] أخرجه البخاري ح (1048)، عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري ح (1044) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نزدلف بها إلى جنة الله وأشهد أن محمداً رسول الله شهادة نقترب بها من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم وسعادتكم في هذه الدنيا وفي الآخرة العظمى، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم برحمته الواسعة أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال قولاً كريماً : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1445)
غيبة العلماء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, العلم الشرعي
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1. رفعة درجة العلماء على سائر الناس.2. فضل الصحابة رضي الله عنهم.3. الطعن في الصحابة طعن في نقلة الشريعة والدين.4. حرمة الغيبة والبهتان.5. التحذير من الصغائر والكبائر.6. التحذير من بهتان أهل العلم والكذب عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يحاسب المرء منا في ذلك اليوم العصيب على لسانه وعلى جوارحه وعلى فرجه وعلى قلبه، يحاسب على كل ما عمل وعلى كل ما نطق به وعلى كل ما عقده قلبه، وكلُ شيء في ذلك اليوم سيعرض عليك من عمل إن كان خيرًا وإن كان شراً فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره [الزلزلة:7-8].
أيها المؤمن: إن الله جل جلاله عظّم في كتابه شأن العلماء، شأن علماء الدين؛ لأنهم الذين حملوا في صدورهم كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بينوا ذلك للناس، فرفع الله المؤمنين بالله ورسوله، رفعهم درجات، وجعل أرفع المؤمنين درجات: أهل العلم يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة:11]. فأهل العلم هم أرفع هذه الأمة درجة، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا هم درجات، وأرفعهم علماؤهم، والعشرة المبشرون بالجنة هم أرفع أولئك، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم الله خير هذه الأمة؛ لأنه رضي عنهم واختارهم لصحبة نبيه لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [الفتح:18]. ومع ذلك، مع ثناء الله جل وعلا على صحابة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقوله في شأنهم: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا [الفتح:29]. ومع ما أثنى الله عليهم بقوله: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان [التوبة:100]. ومع ما أثنى الله عليهم في آيات كثيرة فقد ظهر أناس في زمن الصحابة يضللون الصحابة ويرون أن ما هم عليه ليس بحق، بل كفروا بعضًا منهم، لأنهم رأوا أنهم لم يحملوا دين الله وأنهم فرطوا في الدين، وأنهم رضوا بالدنيا عن الآخرة، وأنهم حكموا الرجال في دين الله ورضوا بغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فضللت الأمة من وقع في الصحابة، ثم أجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على أن من ذكر الصحابة أو ذكر علماء هذه الأمة بغير الخير فإنه على غير السبيل، يعني على غير سبيل أهل السنة والجماعة؛ لأن علماء هذه الأمة هم الذين ورثوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورثوا أقواله، وورثوا القرآن، وورثوا السنة، وورثوا أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ونقلوها إلى الناس، فمن طعن في الصحابة فإنه يطعن في الدين؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا الشريعة، وهم الذين بلغوها إلى الناس، فإذا طعن فيهم رجع الطعن إلى من نقل الشرع، وهذه من أكبر وسائل الملحدين في الطعن في الإسلام، أنهم يقولون: إن الصحابة مطعون فيهم، وكيف يرضى في نقل الشريعة بنقل من طعن فيه، ومن قتل، وعمل، ومن ارتكب بعض المعاصي، ومن قاتل لأجل الدنيا، ونحو ذلك من الأمور التي أجمع العلماء وأجمعت الأمة على تضليل من قال بذلك.
كذلك لما توالى الزمان طعن أناس كثيرون في أئمة أهل السنة وفي أئمة أهل الحديث، طعنوا فيهم، تارة بعدم معرفتهم بالدنيا، وتارة بأنهم يدخلون على الولاة، وتارة بأنهم لا يفقهون إلا النصوص ولا يعلمون العقليات، وتارة وتارة، والغرض من ذلك كله أن يطعنوا في العلماء، وإذا طعن في أهل العلم طُعن في الشريعة؛ لأن الشريعة إنما يبينها أهل العلم، يبينون كتاب الله ومعانيه، ويبينون السنة ومعانيها، فمن طعن في أهل العلم رجع طعنه إن كان مريدًا أو غير قاصد، رجع الطعن إلى الشريعة؛ لأن الشريعة إنما يبلغها هؤلاء العلماء الذين ورثوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بشهادته عليه الصلاة والسلام حين قال: ((إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر)) [1].
العلماء ورثة الأنبياء، فالطعن فيهم حقيقته أنه راجع إلى الطعن في الشريعة، وإن الطعن في العلماء وتشويه سمعة العلماء بحقٍ أو بغير حق عند العامة، إن ذلك يورث الشك فيهم، وإذا أُورث الشك في أهل العلم رجع ذلك إلى عدم الثقة بأقوالهم وعدم الثقة بالعقيدة التي ينشرونها وعدم الثقة ببيانهم لكتاب الله وبيانهم للسنة، وعدم الثقة ببيانهم للفتاوى المعاصرة وللنوازل الحاضرة التي تجدُّ في أحوال المسلمين وما يجدُّ في أحوالهم أفرادًا وجماعات، وإذا نزعت الثقة تسلط الجهال فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
أيها المؤمنون: إن الله جل جلاله لما رفع منزلة العلماء جعل غيبة كل المسلمين كبيرة من كبائر الذنوب، فإن الله جل جلاله قال: ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه [الحجرات:12].
فجعل الغيبة من جنس أكل الميتة، وأكل الميتة كبيرة من الكبائر، فهكذا الغيبة كبيرة من الكبائر وتعظم الغيبة إذا كان المغتاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إذا كان المغتاب العلماء الذين يعلمون الكتاب والسنة ويبصرون أهل العمى وينصرون السنة بالاعتقاد والعمل، تعظم الغيبة وتكبر الكبيرة.
وإذا كانت الغيبة تلك كبيرة، فمن ذكر العالم بغير ما يرضى فإنه قد اغتابه، وإذا اغتابه فإنه قد ارتكب تلك الكبيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغيبة، نهى عن الغيبة ثم سئل عنها: ما الغيبة؟ فقال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) [2] ، والبهتان أعظم من الغيبة، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا [الأحزاب:58].
إن الغيبة إذا كانت كبيرة من كبائر الذنوب، فمن مارسها بين الصلوات فإن الصلاة إلى الصلاة ليست مكفرة لما بينهما؛ لأن من شرط تكفير الذنوب أن تجتنب الكبائر، فمن أصر على هذه الكبيرة ولم يستغفر، ولم يتب ولم يُنب إلى ربه فإن صغيرته لا تكفرها الصلاة ولا يكفرها الصيام، ولا تكفرها الجمعة، ولا تكفرها العمرة، ولا يكفرها الحج، قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريمًا [النساء:31]. إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ، فشرط تعالى لتكفير السيئات أن تجتنب الكبائر، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر))، وفي لفظ: ((ما لم تغش كبيرة))، وكذلك قال: ((رمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة مكفراتٌ لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)) [3].
فهذا الذي وقع في الغيبة بذكره أخاه بما يكره إن كان في أخيه ما يقول، وإن كان في أهل العلم ما يقول فقد ارتكب تلك الكبيرة، وإن كان ما يذكر كذبًا وبهتانًا، إن كان ما يذكر زورًا وإفكًا فإن مصيبته وكبيرته أعظم، وصلاته إلى صلاته ليست مكفرة لما يرتكبه من الذنوب، بل تجتمع عليه الذنوب إن لم يشأ الله أن يغفر له في الآخرة، تجتمع عليه الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يصف فيه الذنوب، ويصف فيه صغارها، بل الكبار. يقول: ((كمثل قوم تفرقوا في وادٍ فأتى هذا بعود صغير، وأتى ذاك بعود، وأتى الثالث بعود فجمعوه تحت قدرهم فأنضجوا قديرهم)) [4] يعني ما بداخل القدر، وهكذا الذنوب تهلك صاحبها.
أيها المؤمن: إن الله رحمك بأن جعل صلاتك إلى صلاتك مكفرة لما بينهما، فإنك إذا ارتكبت تلك الكبيرة من الغيبة والبهتان، أو من الكذب على أهل العلم فإنك على خطر عظيم.
النجاة النجاة، النجاة النجاة، وإيانا وسبيل المبطلين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويرتكبون النهي مع علمهم بذلك، ويطعنون في أهل العلم ويعلمون أنهم هم خيرة أهل الأرض بما يحملون في صدورهم من القرآن، من كلام الله، ومن كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذا تحدثوا تردد في أنفاسهم كلام الملك العلي العظيم، وإذا تحدثوا تردد مع أنفاسهم كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم كأنه حيٌ حاضر يحدثنا, يفقهوننا ويعلمون الجاهل ويفتون ويعلم الناس أثرهم إذا قام الأشهاد يوم القيامة، من أخذ من عالم كلمة فاهتدى بها فنفعته في دينه فإنه سيعلم عظم أثرها يوم القيامة فكيف يكذب المبطلون على أهل العلم، وكيف يبهت المبطلون أهل العلم، وكيف يغتاب الناس أهل العلم وهم خيرة الله في أرضه؟ ومن ذكرهم بغير خير فهو على غير السبيل.
إن الكذب على أهل العلم كبيرة من الكبائر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من حدث بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَين)) وفي رواية أو في ضبطٍ: ((فهو أحد الكاذبِين)) [5] ، وقد قال الله جل وعلا: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [النحل: 105]، فالكذب في هذا الزمان راج ونتج عن الكذب الغيبة والبهتان، ونتج عن ذلك أمور كثيرة فشت في الناس.
أيها المؤمن: إن إيمانك يعصمك من ارتكاب الزنا، إن إيمانك يعصمك بإذن الله وتوفيقه من شرب الخمر، ومن أكل الربا، ومن السرقة، ومن الموبقات، ومن الشرك بالله، ومن السحر، ومن التولي يوم الزحف، ومن قذف المحصنات الغافلات.
وهذه يجتمع المؤمنون على إنكارها وعلى بغضها، ولكن هل عصمك إيمانك من الغيبة؟ هل عصمك إيمانك من الكذب؟ هل عصمك إيمانك من البهتان؟!!
قال شيخ الإسلام: إنه يكثر في الصالحين أن يجتنبوا الزنا وشرب الخمر، ولكنهم يقعون في كبائر الذنوب باللسان من الغيبة ونحوها، ومن كبائر الذنوب في القلب من العجب والكبر, ونحو ذلك.
وهذا الذي قاله صحيح؛ لأن الكبائر متنوعة، والله جل جلاله جعل للسان كبيرة، وقد سأل معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: ((كف عليك هذا)) قال معاذ: يا رسول الله أوإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم ـ أو قال على وجوههم ـ إلا حصائد ألسنتهم)) [6].
فماذا يقول أولئك الذين اجتمعوا في المجالس فأخذوا يغتابون هذا العالم ويغتابون ذاك، ويقذفون القاضي هذا، ويقذفون القاضي ذاك، ولا يرعون للشرع حرمة، ولا يرعون لما في صدور العلماء من كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حرمة، ولا يرعون للعقيدة الصحيحة التي يبلغها أهل العلم وينشرونها، لا يرعون لها حرمة، ويرتكبون هذه الكبيرة بذكرهم العلماء بما يكرهون، ومع ذلك يأنسون وكأنهم على طاعة، وكأنهم في طواف أو في تلاوة قرآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم نسألك سؤال مُلحّ يرجو الإجابة أن تجعل ألسنتنا عفيفة، اللهم اجعل ألسنتنا عفيفة وقلوبنا محبة للمؤمنين، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا اجعلنا ممن يتكلم بالخير، اللهم اجعلنا ممن ينطق إذا نطق بالخير ونعوذ بك من لسان يؤول بنا إلى النار، نعوذ بك اللهم من لسان يؤول بنا إلى النار، واسمعوا قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحيم الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه من قلوبكم حقًا، وتوبوا إليه صدقًا، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود ح (3641) من حديث أبي الدرداء ، والترمذي ح (2682) وابن ماجه ح (223).
[2] رواه مسلم ح (2589) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم ح (233).
[4] رواه أحمد بنحوه ح (22302).
[5] أخرج الرواية الأولى الترمذي ح (2662) والثانية ابن ماجه ح (39) ومسلم في مقدمة صحيحه كلهم من حديث سمرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه الترمذي ح (2616) وابن ماجه ح (3973) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق الحمد وأسماه وأجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، اللهم صل على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله؛ فإن بالتقوى الفخار والرفعة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يعني قد حققتم إسلامكم ظاهرًا وباطنًا.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بالصلاة على نبيه فقال قولاً كريمًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1446)
هداية القرآن للتي هي أقوم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1.... القرآن كتاب هداية وإرشاد.2.... هداية القرآن في باب توحيد الله وتعظيمه.3.... هداية الله لم يقبلها كل الناس.4.... صور من تنكب الناس لهداية القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: قال الله جل وعلا في محكم كتابه: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً [الإسراء:9].
يقول الله جل وعلا: إن هذا القرآن الذي أنزلته، الذي هو وحيي إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي حمله جبريل وسمعه من كلامي فبلغه محمداً صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم هو هاد يدل ويرشد إلى أقوم الطرائق وأقوم السبل، التي من أراد أن يسلكها فإنه على نجاة، ومن خالف ذلك فإنه ابتغى ما ليس بطريق قويمة.
أيها المؤمنون: إن الله جل جلاله أقام الحجة بهذا القرآن، أقام الحجة على العباد بهذا القرآن وإنها لحجة عظيمة عظيمة، وإن استخف بها الأكثرون، ولم يرعها حقها أكثر الناس وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [يوسف:103]. إن هذا القرآن بين أيدينا، إن هذا القرآن بين أظهرنا، إن هذا القرآن هو الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، بين أيدينا اليوم كما كان بين أيدي الصحابة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرهم وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
ولكن أولئك الأقوام أخذوا بهداية القرآن، أخذوا بأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ولم يتخذوا القرآن مهجوراً بالعلم به وبالعمل. إن هذا القرآن أخذه سلف هذه الأمة أخذوه ليأخذوا منه كل خير، ليأخذوا منه ما أمر الله به وما نهى ليأخذوا منه ما أوجب الله جل وعلا فيه وما حرم ليأخذوا منه ما أخبر الله به من أمور الغيبيات فيعتقدوا ذلك ويدعوا الناس إليه إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم يهدي يدل ويرشد للتي هي أقوم من السبل.
ففي مجال العقيدة، في أمر الله الأعظم ألا وهو أن يعبد وحده لا شريك له يأخذ القرآن وهو يهدي للتي هي أقوم، وغيره يهدي للضلالة، يهدي لطريقٍ ملتبسة يهدي لطريقٍ مظلمة، يهدي لطريقٍ معها الخسار في الدنيا والآخرة، فالله جل وعلا هدانا، بيّن لنا وأرشد في هذا القرآن العظيم أن حقه جل وعلا أن يعبد وحده لا شريك له.
ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].
هذا بيان الله للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن عبد مع الله غيره أو أشرك مع الله جل وعلا إن أشرك مع الله أحداً ليحبطن عمله وهو عليه الصلاة والسلام، وهو النبي المكرم الذي ما من عمل صالح إلا أتاه، ولكن إذا طرأ على عمل العبد الصالح الشرك الأكبر بالله جل وعلا حبط العمل وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً [الفرقان:23] فهدى الله الناس للتي هي أقوم وبيّن في هذا القرآن أن العبد وإن كان من أهل الصلاة وإن كان من أهل الزكاة، وإن كان قائماً بالأركان والواجبات وفاعلاً ما فعل من الجهاد ومن أعظم القربات عند الله لكن كان عمله على الشرك فليس هو بخير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر:65].
لأن حق الله أعظم، لأن حق الله أجل، ومن الناس من لم يهتد بهداية القرآن فظن أن للبشر مقاماً لو أشركوا بالله وعبدوا غيره فإنهم لن يخرجوا من هذا الدين أو لن تحبط أعمالهم فاعتقدوا في بعض الناس ممن يشرك بالله اعتقدوا فيهم ما اعتقدوا ورفعوهم مقامات، مع أنهم مشركون حصل منهم الشرك بالله، وهذا نبي الله هدانا الله جل وعلا به للتي هي أقوم، وبالقرآن للتي هي أقوم، وفيه أن من عمل الشرك ليحبطن عمله ولو كان أصلح الصالحين، ولو كان نبياً من الأنبياء.
لكن من العبرة أن من البشر من يعظم حق البشر، ولا ينظر إلى عظم المعصية، ولا ينظر إلى عظم حق الله جل وعلا وأن من أشرك بالله جل وعلا فإنه صادق عليه قوله جل وعلا: لئن أشركت ليحبطن عملك فلا يغتر إذاً بعبادة عابد ولا جهاد مجاهد ولا دعوة داعٍ إذا كان قائماً على الشرك بالله، إذا كان لا يعرف الطاغوت، لا يعرف الطاغوت من التوحيد، لا يعرف الشرك من الحق، لا يعرف عبادة الله وحده وأنها الحق، وأن عبادة غيره هي الباطل ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير [لقمان:30]. تذكر هذه الهداية وليكن وزنك للناس وللفئات وللجماعات وللدول ولكل ما ترى على هذا المقياس العظيم الذي هدانا الله به للتي هي أقوم بقوله جل وعلا لنبيه: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين.
مهما كان عليه من الأمر فهو من الخاسرين في الدنيا ومن الخاسرين في الآخرة.
هدانا الله أيها المؤمنون بهذا القرآن إن كانت لنا قلوبٌ تعي، وإن كانت لنا أفئدةٌ تعي، هدانا الله بهذا القرآن أن طاعة الرسول واجبة، وأن طاعته من طاعة الله، فأمر الله رسوله بأن يبلغ الدين، فبلغنا محمد صلى الله عليه وسلم أوامر الله وبلغنا نواهيه بهذا القرآن وبسنة العدنان عليه الصلاة والسلام.
ولكن من الناس من لم يقبل هذه الهداية، دُل وأُرشد وبُين له، وأقيمت عليه الحجة ويسمع القرآن ويعي معناه وليس ثم شبهة في فهم المعنى عنده ولكنه مع ذلك لا يقبل هذه الهداية للتي هي أقوم أو بعضهم يقبلها ولكن لا يعمل بها، فله نصيب ممن اتخذوا هذا القرآن مهجوراً.
أمر الله بالصلوات وأمر بالصدقة والزكاة وأمر بأركان الإسلام وأمر بأداء الأمانات ونهى عن الغش ونهى عن الغرر ونهى عن أكل أموال الناس بالباطل ونهى عن الظلم، ظلم الناس في أعراضهم وفي أولادهم وفي أموالهم وفي أنفسهم، وأمر الله جل وعلا بحفظ العقول، وأمر الله جل وعلا بالعدل والإحسان، وكل ذلك من الهداية للتي هي أقوم، فأمر الله بالعبادات للتي هي أقوم وبلغها رسوله، وأمر الله بالمعاملة بالتي هي أقوم وبلغها رسوله عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك، مما بلغ عليه الصلاة والسلام أن الله جل جلاله حرم الربا وأمر بالعدل وحرم الغرر وأمر بأداء الحقوق وحرم الرشوة وأمر بالعدل بين الناس في التساوي وبالتساوي في الفرص وفيما يستحقونه وأمر الله جل وعلا في المعاملات بأن تكون المعاملات على خير وألا يرتكب فيها ما نهى الله، وبين رسوله أن كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائة شرط فضعُف بعض المسلمين في الإيمان وتركوا هداية القرآن وأخذوا بالربا الذي يمارسه الكفرة، وأخذوا بالغرر الذي يمارسه الكفرة، وأخذوا بأنواع من المعاملات استجلبوها من بلاد الكفر، من طرائقهم في البيع والشراء وأكثرها محرمٌ لما يشتمل عليه من الظلم والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه نهى عن الغرر، قال العلماء: النهي يدل على الفساد، فكل معاملة اشتملت على غرر فهي معاملة فاسدة، كذلك البيوع، كذلك أنواع المعاملات التي تشتمل على شروط باطلة فإن هذه الشروط إذا كان العقد في أصله صحيحاً، إن هذه الشروط باطلة، وإن أحق الشروط أن يوفى به ما أذن الله جل وعلا به وما أمر به، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، وانظر ترى ما حلّ بالمسلمين من أنواع ظلم بعضهم بعضاً في الأموال، وأكثر الناس لا يشعر بذلك، والله جل جلاله هدى بهذا القرآن للتي هي أقوم، والله جل جلاله هدى وبيّن وأرشد ما يجب أن يتبع في أمور العقيدة وفي أمور المعاملة وفي أمور العبادة، لكن هل يأخذ بذلك المسلمون أم أنهم يترددون وتضعف أنفسهم أمام ما يأتيهم من الغرب أو الشرق، أمام الشبه وأمام الشهوات.
هدى الله في هذا القرآن المؤمنين لما به تصح قلوبهم وتطيب أرواحهم فتكون عباداتهم خاشعة وتكون صلتهم بالله قائمة على تعظيمه وتبجيله.
هدى الله المؤمنين إلى سبب ذلك وإلى أسباب ذلك، ومنها غض البصر عن المحرمات والبعد عن الزنا وما يقرب إليه، فأبى كثير من المسلمين ذلك فلم يغضوا البصر عما حرم الله، لم يغضوا البصر عن الشهوات، عن شهوات النساء، وأطلقوا أبصارهم، ولذلك تجد أن صلاة أكثرهم ليست بخاشعة، وأن أُنسه بالله ليس كاملاً، بل إن أُنسه بالله ضعيفٌ ضعيف، لأن الصورة إذا اشتغل القلب بها وأنست بها العين وحلت بالقلب فإنها تضعفه التعلق بالله قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم [النور:30]. فمن أراد الزكاة، من أراد تزكية النفس قد أفلح من زكاها [الشمس:9]. من أراد الفلاح بالتزكية فليبعد وليبعد عن رؤية النساء وعن إطلاق البصر بالشهوات، فإن غض البصر به يورث النور في القلب. وإن النور في القلب نور الإيمان ونور العلم ونور العمل سبيلُه غض البصر، والطريق إليه أن تغض البصر تعظيماً لله جل وعلا.
والله حرم الزنا وحرم الوسائل إليه ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً [الإسراء:32]. ومن قُرْب الزنا أن يستأنس المرء برؤية الصور المحرمة، سواءٌ كانت صوراً لنساء تعرض في التلفاز أو تعرض في الأفلام أو نحو ذلك أو كانت صوراً على الطبيعة، فإنه لا فرق بالتأثر بين هذا وهذا، لأن الأثر في القلب واحد فالصورة صورة، والتعلق بها يذهب نور الإيمان من القلب ويذهب الأُنس بالله.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات [الإسراء:9]. إنها بشارة للذين يعملون الصالحات، للذين أخلصوا وتابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم في العمل وأخذوا بهداية القرآن فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. هدانا الله في هذا القرآن لأداء الحقوق وللبعد عن شرب الخمور، هدانا الله في هذا القرآن للتعاون على البر والتقوى وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هدانا الله في هذا القرآن لاتباع السنة وطاعة الله ورسوله، هدانا الله في هذا القرآن للتحبيب لطرق نيل الجنة، هدانا الله ودل وأرشد إلى ما به نتباعد من النار، هدانا الله إلى ما به تزكو نفوسنا وتطيب أرواحنا، ولكن الشأن في المسلمين، هل يأخذون بهداية القرآن وبما بينه النبي صلى الله عليه وسلم أم أنهم يسترسلون مع الشهوات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].
أيها المؤمن: إن المسألة خطيرة، إن مسألة الحياة ليست بالسهلة، ففكر، فكر إن الحياة ميدانٌ قصير والآخرة هي عمرك الباقي الطويل الذي لا انقطاع له، فإن آثرت هذه الدنيا على الآخرة فلست بذي لُب ولست بعاقل ولا تعرف مصلحة نفسك.
ثم تأمل، تأمل فيما به نجاتك يوم القيامة وأدم النظر والتدبر بهذا القرآن، وأطع الله ورسوله فإن في ذلك الفوز والنجاة.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا ممن قبل وعمل بهداية القرآن، ولا تجعلنا من المعرضين ولا الجاهلين ولا الغافلين، نعوذ بك من الغفلة ونعوذ بك من الجهل وأنت أرحم الراحمين، وأجود الأجودين وأكرم الأكرمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى نجاتكم فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن من صلى على محمد صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً وقد أمر الله بذلك في قوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1447)
وصايا أبي الدرداء
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, العلم الشرعي
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 2- وصف النبي لأبي الدرداء بالحكيم. 3- ترجمة
مختصرة لأبي الدرداء وما جاء في حكمته. 4- قول أبي الدرداء في الحث على العلم ومحبة
أهله وفضلهم. 5- وقوع الخطأ من العلماء. 6- أبو الدرداء يحذر من خشوع النفاق. 7- هدي
أبي الدرداء في كيفية التعامل مع العاصي. 8- النهي عن إشاعة المنكر والتحديث به.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: إن الله جل جلاله اختار فيما اختار رجالاً صالحين لصحبة محمد عليه الصلاة والسلام، اختارهم وهو جل وعلا يختار ما يختار لفضل منه جل وعلا ولحكمة وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة [القصص:68]. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرسة عظيمة تربى عليها الناس فيما بعد، تربى عليها التابعون إذ رأوا أفعالهم وأخذوا أقوالهم وتدارسوها، وتربى عليها العلماء والصالحون فيما بعدهم حيث نظروا في أقوالهم وأخذوها دروساً وجعلوا يتدبرون ويتأملون فيها وليس من عجب أن كان ذلك كذلك، لأنهم الصحب الذين رضي الله عنهم لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [الفتح:18]. وكان منهم المهاجرون وكان منهم الأنصار، والأنصار كانوا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصروا دينه لما تخلت عنه عليه الصلاة والسلام قريش وتخلت عنه القبائل فيما حول مكة، فأقبلوا على دين الله ونصروه بألسنتهم ونصروه بأعمالهم ونصروه بسيوفهم وأرواحهم.
فرضي الله عنهم أجمعين كفاء ما بذلوا وكفاء ما عملوا وكفاء ما أدوا لهذه الأمة ونقلوا دين الله إلى الناس أجمعين.
كان من هؤلاء من وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حكيم هذه الأمة فيما روي عنه عليه الصلاة والسلام من وجه مرسل فقال عليه الصلاة والسلام: ((حكيم هذه الأمة أبو الدرداء)) [1].
وأبو الدرداء هذا صحابيٌ من الأنصار، خزرجي، هو عويمر بن زيد بن قيس، وقيل: عويمر ابن عامر، كان عبداً صالحاً، وكان سيداً من سادات القراء، لم يجمع من الصحابة القرآن كاملاً على عهده عليه الصلاة والسلام إلا نفر قلائل كان منهم أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، أسلم أبو الدرداء رضي الله عنه، أسلم يوم بدر بالمدينة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً والمشاهد بعدها.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حاله يوم أحد، حاله في دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما تفرق عنه الناس قال: ((نعم الفارس عويمر)) [2] ، وكان أبو الدرداء بيتاً للحكمة وبيتاً للعلم، بهذا ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضاء دمشق وتوفي رضي الله عنه بدمشق في آخر خلافة عثمان، كان له أصحاب، وكان يعظ الناس بكلامه لكي يتأثر الناس، وكان يعظ الناس بعمله، بعمل صادق، فجمع في الوعظ وجمع في الهداية بين العمل والخوف، تأثر الناس بعمله وتأثر الناس بقوله.
وإنه لمما ينبغي علينا أيها المؤمنون أن ننظر في أقوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لننظر كيف نقلوا الإسلام قولاً وعملاً إلى الناس بعدهم إلى زماننا، وكل صلاح يرجى في الناس فإنما يكون بالنظر في حال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتدارس أقوالهم والنظر في أعمالهم، ففي النظر في أعمالهم ما يجعل المرء ذا همة قوية في طلب الحق وفي الجهاد والاجتهاد في العلم والعمل، وبالنظر إلى أقوالهم يكون المرء في مدرسة وفي تربية يفقدها إذا لم يُقبل على هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم ويدرسوا أقوالهم ويتدبروا.
أبو الدرداء رضي الله عنه كان ذا حكمةٍ غريبةٍ بليغة، ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: حدثونا عن العاقلَيْن قالوا: يا ابن عمر ومن العاقلان؟ قال معاذ وأبو الدرداء [3].
معاذ كان في شأنه في الإسلام وفي علمه بالحلال والحرام ما تعلمون، وأما أبو الدرداء فأقواله وأحاديثه في التربية وفي إصلاح النفس والمجتمع كثرت في كتب أهل العلم ونأخذ منها شيئاً ليكون دليلاً على غيره، لعلنا نتعظ كما اتعظ أصحابه رضي الله عنهم.
حدثونا عن العاقلين معاذ وأبو الدرداء، أبو الدرداء رضي الله عنه كان من أقواله أن قال: (اطلبوا العلم فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم) [4] وهذه وصية للأمة جميعاً.
لأن أشرف ما في هذه الأمة العلم وأي علم، العلم بالله جل جلاله، العلم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
لأن هذا هو العلم الذي أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بالازدياد منه، قال جل وعلا لنبيه: وقل رب زدني علماً [طه:114].
قال العلماء: لم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوه بالازدياد من شيء إلا من العلم، وأهل العلم مرفوعون درجات يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة:11] لهذا أبو الدرداء رضي الله عنه قال: (اطلبوا العلم فإن عجزتم) لأن الناس ليسوا على حدٍّ سواء في أن يكونوا طلبة علم ومقبلين على العلم قال: (فأحبوا أهله) لأن محبة أهل العلم تجعل المحب مع من يحب تجعله يسأله ويقتدي بأقوالهم وأفعالهم ويكون ذا صلة بهم.
إن لم تحصل المحبة، قال: إن لم تحبوهم فلا تبغضوهم لأن بغض أهل العلم بغضٌ لصفوة المؤمنين، لأن الله جل وعلا أمرنا بمحبة المؤمنين جميعاً قال جل وعلا: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة:71]. يعني بعضهم يحب بعضاً وينصر بعضه، وأولى أهل الإيمان بالمحبة أكثرهم خشية وأكثرهم علماً، لهذا قال: فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم وأي جناية أيها المؤمن تجنيها على نفسك إذا أبغضت أهل العلم، وكيف يكون بغضهم، يكون بأشياء: إما بمسبتهم وإما بنقدهم وإما بأن تكون وقاعاً فيهم، تارةً بحق وتارة بباطل.
أهل العلم ليسوا كاملين معصومين لكن إن رأيت فيهم نقصاً فإشاعة النقص في الناس يعني أن لا يأخذ الناس من أهل العلم، فإن ترك الناس أهل العلم لا يأخذون منهم، فمعنى ذلك الجناية على أهل الشريعة، فممن يأخذ الناس الشريعة إن لم يأخذوها من أهل العلم؟ لهذا جاءت وصية أبي الدرداء عويمر بن عامر رضي الله عنه ويقول لك: (اطلبوا العلم فإن عجزتم فأحبوا أهله، فإن لم تحبوهم فلا تبغضوهم)، ليبقى في القلب إجلال أهل العلم الذين ملء صدورهم كتاب الله، والعلم بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً من أقوال أبي الدرداء أنه قال لأصحابه يوماً: (إني لآمركم بالخير وما كل ما أمرتكم به فعلته ولكني أرجو الأجر بأمركم). وهذا من الفقه العظيم في دين الله وليس من قبيل أنه يأمر ولا يفعل، الذي ذم، ولكن العبد المؤمن يجمع في امتثاله للشرع بين امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهو عليه أن يأمر بالخير وعليه أن يمتثل بالخير، فإن فاته أحدهما فلا يجوز له أن يفوت الآخر. لهذا قال الإمام مالك رحمه الله مالك بن أنس إمام دار الهجرة قال رحمه الله: ما كل ما نأمركم به نفعله، ولو تركنا الأمر لأجل عدم الفعل ما أمرناكم إلا بالقليل. هل معنى ذلك أنهم يتركون الأمر إلى محرم؟ لا، ولكن أهل العلم وأهل الاجتهاد عندهم من معرفة الأحكام ما يرتبون فيه المصالح ويجعلون الحسنات درجات. وليس كذلك كل من أمر بمعروف أو نهى عن منكر. لهذا قال أبو الدرداء: (إني لآمركم بالخير، وليس كل ما أمرتكم به فعلته ولكني أرجو الخير بما أمرتكم به). يعني أنه يأمر بمستحبات، يأمر بأشياء من الخير يفعلونها وليس كل ما أمرهم به فعله لأنه منشغل عنه بما هو أهم منه في حقه وأما في حقهم فليس الأمر كذلك، بل لابد أن يكونوا مأمورين بهذا. وإذا أتته الفرصة وكان في فراغ من أمره فإنه يرغب في المستحب وفي غير المستحب يعني في الواجب ودرجاته كما قال جل وعلا: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [الشرح:7-8]. يعني بأنواع الواجبات والمستحبات.
بعض الناس لا ينتبهون لهذه المقالة ولهذا الأصل الشرعي، فإذا كان على شيء من الخطأ قال : أنا لا آمر بالخير لأني لا أمتثله ولا أنهى عن المنكر لأني ربما فعلته، وهذا غلط على الشريعة لأنه يجب عليك أن تأمر وتمتثل، فإن فاتك الامتثال فلا يفتك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلابد أن تمتثل هذا وتجتنب هذا، فهذا واجب، وهذا واجب، وإذا فاتك أحدُ الواجبين فلا يجوز أن تفوت الآخر.
ومن أقوال أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال لأصحابه مرة: (استعيذوا بالله من خشوع النفاق قالوا: يا أبا الدرداء وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع) [5]. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((أول ما يسلب من هذه الأمة الخشوع فترى الناس يصلون في المساجد لا تكاد تجد فيهم رجلاً خاشعاً)) [6].
استعيذوا بالله من خشوع النفاق. أن يرى الجسد خاشعاً مطرقاً في الصلاة، ولكن القلب ليس بخاشع، هذه حال أهل النفاق لأنهم في الصلاة يصلون مع المسلمين، ولكن قلوبهم ليست خاشعة لله، بل يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً.
لماذا قال أبو الدرداء: استعيذوا بالله من خشوع النفاق؟. ليقرّ في قلوبنا أن لا نجعل ذلك أمراً مسلماً مرضياً به.
كثيرون من يكون في قلوبهم عدم الخشوع، ويكون خشوعهم خشوع بدن، وهو يعلم أن قلبه ينازعه إلى أنواع من الكبائر والمنكرات وينازعه إلى أنواع من ترك الواجبات ثم يقول له أبو الدرداء: استعيذوا بالله من خشوع النفاق، يعني: إذا كنت على هذه الحال فلا ترض من نفسك بهذه الحال بل استعذ بالله، والتجئ إليه واعتصم به ولُذ به وأقبل عليه، لكي يزيل ما في قلبك من خشوع النفاق وهو أن يكون القلب غير خاشع، ترى الناس يصلون، ولكن الخاشع منهم قليل، كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبدون العبادات وربما كان من بعدهم أكثر منهم تعبداً ولكن كانوا يتعبدون بقلوب خاشعة.
لهذا لما قيل للحسن البصري رضي الله عنه: هؤلاء التابعون أكثر عبادة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف كان الصحابة أرفع منهم منزلة؟
قال الحسن: كان الصحابة يتعبدون والآخرة في قلوبهم، وأما هؤلاء فيتعبدون والدنيا في قلوبهم، وشتان ما بين هذا وهذا.
لهذا أبو الدرداء أيضاً قال: (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم وأرفع عند الله من أمثال الجبال عبادة من المغترين).
المقصود خشوع القلب، وخشوع القلب معناه استكانته وإقباله وخضوعه وسكونه لله جل وعلا، فلنستعذ بالله من خشوع أهل النفاق.
اللهم إنا نعوذ بك من خشوع أهل النفاق، اللهم اجعل خشوعنا خشوع أهل الإيمان ظاهراً وباطناً يا كريم.
ومن أقوال أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال رحمه الله ورضي عنه وقد مر على رجل عمل ذنباً وحوله أناسٌ يسبونه رجلٌ عمل ذنباً وعلم بذنبه أناس فمر عليهم أبو الدرداء وهم يسبونه فقال لهم أبو الدرداء وهو البصير بعلاج البعيد عن الدين وعلاج أهل العصيان وعلاج أهل القلوب المريضة، فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في قاع قليب ألم تكونوا مخرجيه منها؟ قالوا: بلى. قال: فاحمدوا الله الذي عافاكم ولا تسبوا أخاكم، احمدوا الله الذي عافاكم ولا تسبوا أخاكم [7].
لكن انظر إلى تمثيله بأن أهل الإيمان إذا وجدوا رجلاً قد وقع في ذنب فإنهم لا يتركونه، بل مثله بمن كان في قليب لا يجد من ينجيه منها، في قاع قليب. فماذا يفعل أهل الإيمان مع أخ لهم قد وقع في مهلكة؟ أيسبونه ويقولون: لم تدخل هذا القليب ولم تجعل نفسك هكذا وهكذا إلى آخره؟ لا. بل يسعون في نجاته ويحرصون على ذلك.
إذاً فالسلبي هو الذي يسب، بل إن سب العاصي لا يجوز في الشريعة، بل نسأل الله لإخواننا الهداية، ونحمد الله الذي عافانا ثم نسعى في أن ننقذهم من شر الذنوب والعصيان. لأنهم ما أذنبوا إلا بوقوعهم فريسة لمكر إبليس عدو الله وعدونا. إذاً فهذه الوصية أيها المؤمن وصية عظيمة، إذا رأيت أحداً وقع في معصية فلابد أن تبذل له السبب.
وإذا نظرنا أيها الإخوة في زماننا هذا وجدنا أن كثيرين يسمعون بأناس وقعوا في معصية فتجده يقول: هذا وقع في كذا وكذا وهذا يذهب ويسافر ويفعل كذا وكذا، وهذه العائلة حصل منها كذا وكذا.
وتراه ينتقده بشدة ويسبه، وربما استهزأ والعياذ بالله، وإذا سألته: ما الذي عملته لإخوانك في تركهم لهذه الذنوب؟ وجدته يقول: لم أفعل شيئاً، إذاً كان وسيلة من وسائل الشيطان.
أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال هلك الناس فهو أهلكهم)) [8] يعني كان بمقاله ذلك سبباً في هلاكهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نتحدث بكل ما سمعنا فقال عليه الصلاة والسلام: ((من حدث بكل ما سمع فهو أحد الكاذبين)) أو قال: ((أحد الكاذبين)) [9] فلابد أن نسعى في إصلاح الغلط وفي نصح أهل الذنب وأن نكتم الذنوب وننشر الخيرات، إذا رأينا رجلاً عنده خير فلنقل: فعل كذا وكذا من الخير لأنه بذلك ينتشر الخير ويكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في الخير، وأما إذا نشرنا الشر فإن الناس يتساهلون فيه وبه فيقول: نعم فلانٌ فعل كذا وكذا من المعاصي، وهذا فعل كذا، وهذا فعل كذا، فيظن الظان أن الشر أكثر من الخير فيتساهل بالشر فيقبل عليه. رحم الله ورضي عن أبي الدرداء وجزاه خيراً عن أصحابه وعن الأمة بعده.
اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بديننا وأن تجعلنا من أتباع أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم اللهم نعوذ بك من الغفلة ونسألك أن تجعلنا من أهل التذكر والتفكر، اللهم اجعل الآخرة في قلوبنا ونعوذ بك أن تكون الدنيا في قلوبنا، اللهم اجعلها في أيدينا وأخرجها من قلوبنا، اللهم استعملنا فيما تحب وترضى، ونعوذ بك مما تسخط وتأبى يا كريم، نعوذ بك من الخزي في الدنيا ومن العذاب في الآخرة، واسمعوا قول الله عز وجل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه.
[1] عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الطبراني في الأوسط عن شريح بن عبيد مرسلاً ورمز لضعفه ، وقال المناوي في فيض القدير (3/396) : ((وفيه يحيى البابلتي قال ابن عدي: الضعف على حديثه بيّن ، وقال الذهبي في الضعفاء : له حديث موضوع اتهم به. اهـ. وكان يشير إلى هذا)) وأورده الألباني في ضعيف الجامع [2738].
[2] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق شريح بن عبيد الحمصي مرسلاً.
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/226) من طريق خالد بن معدان قال كان ابن عمر يقول وذكره ، ورجال إسناده بين الثقة والصدوق.
[4] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/357) وابن أبي عاصم في الزهد (ص 137).
[5] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/243) [35711] وابن المبارك في الزهد (ص46) وابن أبي عاصم في الزهد (ص142) والبيهقي في شعب الإيمان (5/264) [6966].
[6] أخرجه الطبراني في الكبير بنحوه ، وحسن إسناده المنذري والهيثمي ، وقال الألباني : حسن صحيح. انظر: مجمع الزوائد (2/136) وصحيح الترغيب والترهيب (1/354) [542].
[7] أخرجه معمر في جامعه (ص180 – في آخر مصنف عبد الرزاق-) عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الدرداء ، وأخرجه البيهقي في الشعب (5/295) [6691] وأبو نعيم في الحلية (1/225) من طريق عبد الرزاق عن معمر به.
[8] أخرجه مسلم [2623] من حديث أبي هريرة.
[9] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ ّ شذ ّ في النار، وعليكم بتقوى الله عز وجل، عليكم بتقواه، فإن من يتق الله يجعل له مخرجاً كما قال ربنا عز وجل: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2-3]. وقال جل وعلا: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [الطلاق:4].
وتقوى الله أيها المؤمنون في كل مقام بحسبه، إذا أتى أمر لله جل وعلا فتقوى الله أن تمتثل بهذا الأمر، إذا أتى وقت الصلاة فتقوى الله أن تصلي. إذا أتى أمرٌ فتقوى الله في هذا المقام أن تمتثل الأمر، وأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، فتقوى الله في هذا المقام أن تمتثل الأمر وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. إذا أتى مقام فيه منكر وفيه معصية فتقوى الله أن تتذكر مقامك بين يدي الله وأن تتذكر حق الله عليك وأن تبتعد عن ذلك.
فتقوى الله في كل مقام بحسبه، وجماعه أن تعتصم بأمر الله وأن تعظم أمر الله جل جلاله.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال جل وعلا قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم على الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1448)
اليوم الآخر
الإيمان
اليوم الآخر
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان باليوم الآخر. 2- الحساب يوم القيامة وشهادة الجوارح. 3- المرور على الصراط.
4- دخول الفقراء والأغنياء الجنة. 5- كيفية تحقيق الإيمان باليوم الآخر. 6- يوم القيامة يوم
الحسرة والجزاء بالمثل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: يقول الله جل وعلا: ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون [الزمر:68-70].
في هذه الآيات ذكرى للإيمان بيوم الله الآخر، للإيمان بيوم الميعاد الذي هو كائن لا محالة، فإن الإيمان بيوم الله الآخر ركن من أركان الإيمان لا يصح إيمان عبد حتى يعلم ويتيقن دون ريب ولا تردد أن ثمة يوماً يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسب المحسن والمسيء، فيجازي المحسن بإحسانه ويجازي المسيء بإساءته.
والله جل جلاله قال في هذه الآيات: وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون حين تشرق الأرض بنور الله جل وعلا يضع الله جل وعلا كتاب الناس، كتاب كل أحد، كتابه الذي فيه أعماله، الذي فيه ما عمله من عمل صالح اتبع فيه رسوله وما عمل فيه من طالح عصى فيه أمر الله جل وعلا وأمر رسوله: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً [الإسراء:13-14] وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يعني ما يطير عنه وما ينفصل عنه من عمل صالح أو غير صالح، فإنه مع المرء يلازمه حتى يخرج له يوم القيامة كتاب يلقاه منشوراً أمامه فيقرره الله جل وعلا بما فيه من العمل: ألم تعمل يا عبدي يوم كذا كذا وكذا؟ ألم تعمل يوم كذا كذا وكذا؟ فيقرر الله جل وعلا عباده بما عملوا من خير ومن شر، فأما المؤمن فهو يقر بذلك وهو يرجو عفو الله، وأما الكفار أو المجادلون فيقولون: يا ربنا أنت الحكم العدل لا نقبل علينا شهيداً إلا من أنفسنا فينطق الله جل وعلا جلودهم وينطق الله جل وعلا سمعهم وأبصارهم وينطق الله جل وعلا جوارحهم بما اكتسبوا وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين [فصلت:21-24].
إنه في ذلك اليوم تنشر الكتب ويعرف المرء عمله فيكون المؤمن فرحاً مسروراً يأخذ كتابه بيمينه، ويكون الكافر أو الفاجر خائفاً وجلاً لا يدري ما يصنع به، وترفع النار فيساق إليها الكفار ورداً، يساقون إليها فيتهافتون فيها تهافت الجراد.
وأما أهل الإيمان فإنهم يتأخرون وكذلك الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً في أمر عصيب وتفصيل في ذلك اليوم حتى تقام الظلمة دون الجسر وينصب الصراط على النار، والأنبياء يقولون وهم على الصراط: اللهم سلم سلم من شدة ما يرون من الهول، وكلٌ لا يهمه إلا نفسه، فإن المرء تهمه نفسه، فيأتي أهل الإيمان يمشون على الصراط بقدر أعمالهم ويرون الصراط ودونه الظلمة لأنهم يعطون نوراً فيعبر بعض أهل الإيمان كالبرق سرعة، وبعضهم يعبره كالراكب، وبعضهم يمشي مشياً، وبعضهم يحبو حبواً، والقلوب خائفة وجلة في أمر عصيب لأن بعده عذاب سرمدي أو نعيم سرمدي.
والناس إذا عبروا على الصراط فمن ناجٍ مُسلم، ومن مكردس في النار، فينقي الله أهل الإيمان في النار إذا لم يشأ أن يغفر لهم، ينقي ما في قلوبهم من الخبث لأن العاصي في قلبه خبث لابد أن يطهر - إن لم يغفر الله له ذلك ويطهره بمنه وكرمه -، فتكون عامة النار للكفار وتكون طبقتها العليا لأهل التوحيد يمكثون فيها زماناً طويلاً، وهم في عذاب شديد، عذاب شديد، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يشفع الشفعاء وتبقى شفاعة رب العالمين إلى آخر ما يحصل من ذلك.
وإذا جاوز أهل الإيمان القنطرة، إذا جاوزوا الصراط اجتمعوا دون الجنة فتأخر الأغنياء، تأخر الأغنياء عن دخول الجنة بنصف يوم، يعني بخمس مائة سنة، ويدخل الفقراء الجنة أول الأمر لأن حقوق المال عظيمة ولأن حقوق ما آتى الله عباده فيها أمر شديد وفيها حساب، فيؤخر الأغنياء حتى يُعطى الناس منهم حقوقهم، وعند ذلك يحصل بلوغ المنازل لهم ثم يدخل أولئك الأغنياء، يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمس مائة عام وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج:47] ، ثم يدخل أهل الجنة الجنة، ودرجاتهم متفاوتة، وإن منهم لمن يتراءى درجة إخوانه كما نرى اليوم الكوكب الدري الغابر في السماء، نرى بصيص نوره ولا نرى ما فيه لأجل شدة ارتفاعه، وإن من الناس من هم مع الأنبياء ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله [النساء:69-70].
أيها المؤمن: إن الإيمان باليوم الآخر لابد أن نتيقنه، وما يحصل فيه يجب أن يكون في قلوبنا من غير شك ولا مرية، نرى الجنة أمامنا دائماً لا تغيب عنا، ونرى النار بهولها وعذابها وما فيها، نراها دائماً لا تغيب عنا، وهذه العقيدة، وهذا الإيمان يثمر في قلب المؤمن الرجاء في أن يكون من أهل الجنة فيحمله رجاؤه على طاعة الله وعلى خوف الله وعلى أن يأتي ما لم يأذن به الله جل وعلا، فترى الذي يخاف الدار الآخرة مراقباً لنفسه فيأتي الواجبات مسرعاً مطيعاً من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك ما أمر الله به من أداء الأمانة، وكذلك ما أمر الله به من العدل في الناس، وكذلك ما أمر الله جل وعلا به من أنواع الأوامر في التعامل مع النفس ومع الأهل في البيت ومع المسلمين ومع غير المسلمين.
إن لله في ذلك كله أوامر فيرى المؤمن الذي يرى أمامه الجنة والنار، يرى أمامه تطاير الصحف ويرى أمامه الميزان والصراط وذلك الهول مما سمع في القرآن والسنة، يرى أن نفسه لابد أن يلزمها بتقوى الله، والمؤمن الذي يعي ذلك فيجد نفسه عظيمٌ عليها أن يخالف أمر الله جل وعلا، يرى نفسه عظيمٌ عليها أن تخالف الحق أو أن تأتي الباطل، إن الاعتقاد بهذه النار وبوجودها وبأنه يدخلها الكفار وبأنه يدخلها العصاة إن لم يغفر الله لهم - وذلك في حق غير التائبين -، إن لم يشأ الله مغفرته لهم فإنهم يعذبون في ذلك، وعذاب النار من يصبر عليه.
ويتذكر المؤمن أن من أولئك الذين يعذبون من يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، يلقي الرجل الكلمة وتلقي المرأة الكلمة لا تلقي لها بالاً تظن أنها سهلة وهي تهوي بها في النار سبعين خريفاً، وقد جاء أن من الناس من يقرب من الجنة فيلقي كلمة، يتكلم بكلمة لا يدري ما فيها يتباعد كما جاء في الأثر عن الجنة كبعد صنعاء عن المدينة، وهذا من شدة أثر الكلام لأنه نوع من أنواع ما يحاسب به العبد.
كذلك أعمال القلوب من الصالحات كالإيمان والتوكل والرغبة فيما عند الله وخشية الله والبكاء من خشية الله وكتعلق القلب بالله وبأوامره هذا يؤجر عليه فيسعى المؤمن إليه، وأعمال القلوب المحرمة يراها من الكبر وسوء الظن والمسلمين من غير حجة، وكذلك من أنواع الإعجاب بالنفس وتزكية النفس ونحو ذلك من أعمال القلوب المحرمة يراها تعظم عليه، وقد قال بعض أهل العلم: رب طالح كان أعظم عند الله من فاعل طاعة، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: ذاك عمل بمعصية فلم تزل في قلبه عظيمة يتعاظمها في حق الله حتى يغفر الله له، وذلك صالح عمل بطاعة فما زال يتعاظم فعله ويعجبه ذلك ويتكبر به ولا يجل من ربه ويخاف منه حتى يحبط الله عمله.
فالأمر - أيها المؤمن لأنك مؤمن بالآخرة - الأمر خطير، والناس في غفلاتهم، وأعظم ما يعاقب به القلب أن يكون غافلاً لا يتذكر الجنة ولا يتذكر النار، لا يتذكر اليوم الآخر، تذكر قول الله جل وعلا: وجيء بالنبيين والشهداء [الزمر:69] يشهد النبيون والشهداء أنه قد أقيمت الحجة على عباد الله كما قال الله سبحانه: فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [الأعراف:6] يسأل الله جل وعلا المرسلين: هل أديتم؟ هل بلغتم الأمانة؟ فيقولون: يا رب، اللهم قد بلغنا. ويسأل الذين أرسل إليهم: هل بُلِّغتم الأمانة؟ وهل أتتكم رسل فأعلمتكم بما أمرت ونهيت؟ فيقول الذين أرسل إليهم: نعم يا رب بلغنا، قال الله جل وعلا بعد ذلك: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون [الأعراف:8].
أيها المؤمنون: إن الذي تثقل موازينه هو المفلح، والذي تخف موازينه هو الخاسر، وأنت رقيب على نفسك، والدنيا لن تنفعنا إلا إذا كانت ميداناً للطاعة، وإن غداً لناظره قريب، إن يوم القيامة لناظره قريب، وسيقول الناس يوم القيامة: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، سيرون ذلك حقاً حقاً، المؤمن يؤمن بذلك، ولكن عليه أن يكون إيمانه بذلك قوياً متيقناً، وأن يستحضر ذلك الإيمان، فإن استحضاره دائماً يقي المرء الهلكة، والهلكة ليست في الدنيا، وإنما الهلكة الصحيحة في الآخرة، فلمن خسر وخفت موازينه ودخل النار قال جل وعلا: ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وفيت كل نفس ، كل الأنفس توفى ما عملت، ما عملت من خير فستوفى، وما عملت من شر فستوفى، وسترى ذلك أمامك، ويأتي المؤمن وينظر إلى ساعة من ساعات عمره قضاها في غير طاعة قال عليه الصلاة والسلام: ((فتتقطع نفسه حسرات على أن أمضى ساعات من عمره ليست في طاعة الله)) [1] ، ووفيت كل نفس ما عملت يوفى أهل الطاعة طاعتهم، يوفى أهل الإيمان درجاتهم، يوفون أجورهم.
وأما العصاة فأيضاً يوفون أجورهم ويعطون جزاء سيئاتهم ولا يظلم ربك أحداً، فيكون المؤمن عالماً أنه سيوفى عمله، فإذا كنت تقر بذلك ولا شك في ذلك ابدأ فاعمل اليوم إذا كنت تريد أن ترى ما يسرك، وحذار من شهوة تعقبك ندماً دائماً، حذار من شهوة مال أو من شهوة جاه أو من شهوة دنيا أو من شهوة نساء أو من شهوة طمع تذهب عنك لذة اليقين وتذهب عنك الأجر في الآخرة، بل وتحمل عليك من الوزر ما لا تطيقه.
أيها المؤمن تذكر في كل حياتك قول الله تعالى: ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون يوفى كل أحد ما عمل، يوفى أهل السنة أعمالهم، ويوفى أهل البدع أعمالهم، ويوفى أهل الصلاح عملهم، ويوفى أهل السوء عملهم، والله جل جلاله حكم عدل من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد [فصلت:46].
أسأل الله جل جلاله بأسمائه الحسنى ووصفاته العلى أن يوقظنا من غفلتنا وأن يجعلنا من أتباع نبيه اللهم اجعلنا من الذين يرون الحق حقاً فيتبعونه، ومن الذين يرون الباطل باطلاً فيجتنبونه اللهم إنا ضعاف فأعنا على طاعتك اللهم إنا نعوذ بك من كيد الشياطين علينا اللهم إنا نعوذ بك وأنت المستعاذ به، نعوذ بك من كيد الشياطين علينا ومن شر أنفسنا فلا تكلنا لأنفسنا يا ربنا طرفة عين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [الزمر:75].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج الطبراني من حديث معاذ مرفوعاً: ((ليس يتحسر أهل الجنة إلا على ساعة مرّت بهم لم يذكروا الله تعالى فيها)) قال الهيثمي في المجمع (10/74): ((في شيخ الطبراني محمد بن إبراهيم الصوري خلاف)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم يوم القيامة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال جل وعلا قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1449)
الإيمان بالقدر وأثره
الإيمان
القضاء والقدر
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1.... الإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة.2.... علم الله بما يكون سابق على خلقه المخلوقات.3.... لا يحصل أمر لا وقد علمه جل وعلا ورضي حدوثه.4.... الفرق بين القضاء والقدر.5.... المطيع يوفقه الله لطاعته ، والعاصي يخذله الله ويبعده عن مراضيه.6.... عقيدة القضاء والقدر تورث المؤمن اطمئناناً ويقيناً.7.... المرء من بين مخافتين: الخوف من السابق والخوف من الخواتيم.
_________
الخطبة الأولى
_________
فيا أيها المؤمنون: وصية الله لكم أن اتقوا الله، ووصيتي إليكم أن تتمسكوا بتقوى الله عز وجل وأن لا تلهينا الدنيا عن مقتضى تقواه ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء:131] ، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
أيها المؤمنون: إن الله جل وعلا جعل الإيمان به وهذا الدين مبنياً على أركان ستة عظام ألا وهي أركان الإيمان المعروفة، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فهذا الإيمان إذا اكتمل جعل العبد مؤمناً حقاً وإذا نقص من الإيمان ما نقص من جهة اليقين أو من جهة الأعمال فإنه ينقص من الإيمان بحسبه وإن من تلكم الأركان التي بها برد اليقين والتي بها اطمئنان المؤمن لكل ما يجري في هذه الحياة، إن من تلكم الأركان ركن الإيمان بقدر الله تعالى خيره وشره منه جل وعلا.
وهذا الركن الأعظم من أركان الإيمان به يحصل المؤمن على الطمأنينة وعن إجابة كثير من الأسئلة لأن العجز عن الإدراك إدراك قال جل وعلا: إنا كل شيء خلقناه بقدر [القمر:49] وقال سبحانه: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [الأعلى:1-3] وقال جل وعلا: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً [الفرقان:1-2] وقال جل وعلا أيضاً في آخر سورة الحج: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج:70] وقال أيضاً جل وعلا: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:22-23].
والآيات في هذه المعنى عديدة وثبت في الصحيح أن النبي كان في أصحابه فجاءه جبريل عليه السلام يسأله عن الدين في غير صورته، في صورة رجل من الناس فسأله أسئلة فقال منها: أخبرني عن الإيمان فقال عليه الصلاة والسلام: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، قال جبريل: صدقت)) وفي آخر الحديث قال عليه الصلاة والسلام للناس حوله: ((أتدرون من السائل؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)) [1] ، فدل على أن تعلم هذه الأركان وتعلم ما اشتمل عليه هذا الحديث إنما هو من الدين، وهل خطب الجمع وهل وعظ الواعظ وهل تعليم المعلم إلا لأمر الدين.
لهذا أيها المؤمنون: إن من أعظم الأركان كما ذكرنا الإيمان بالقضاء والقدر، وقد اختلفت الناس في أمر القضاء والقدر، والذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وكان عليه صحابة رسول الله أن القدر هو علم الله السابق بالأشياء قبل وقوعها، علم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، وكتابته للأشياء مفصلة التي تقع، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعموم مشيئته النافذة في خلقه، وعموم خلقه جل وعلا للأشياء كلها، فهذا هو القدر عند الصحابة رضوان الله عليهم، وهو القدر عند أهل السنة والجماعة لهذا سار الإيمان بالقدر بأن تؤمن بعلم الله السابق الأزلي بالأشياء قبل وقوعها، فيؤمن المؤمن أن الله سبحانه لا يقع في ملكه شيء استئنافاً لم يكن علمه بل هو سبحانه علمه بالأشياء أزلي أول، لم يسبق ذلك جهل منه جل وعلا بما يقع، أراد الأشياء وعلمها فوقعت في ملكوته كما علم سبحانه وتعالى، ويؤمن المؤمن أن الله جل وعلا كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وكما أخبر بذلك ربنا جل وعلا في قوله: إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ويؤمن المؤمن بالقدر يعني يؤمن أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفذوا أمراً لم يشأه الله جل وعلا في ملكوته لم يقع إلا كما شاءه الله جل وعلا، ما أراده كوناً فلابد أن يقع، ومشيئة العبد تحت مشيئة الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً يدخل من يشاء في رحمته [الإنسان:30-31] الآية فما شاء الله كان، ما شاءه العباد لا يكون إلا إذا أذن الله به فوقع كوناً لمشيئة الله جل وعلا له.
ومن الإيمان بالقدر وهو ركن من أركانه أن يؤمن المؤمن أن الله جل وعلا خالق لكل شيء كما قال سبحانه: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [الزمر:62] والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيؤمن المؤمن أنه لا يحصل شيء إلا والله تعالى خالقه، الحياة خلقها الله، والموت خلقه الله، والمرض خلقه الله يعني قدره، والحياة بأنواعها وبما اشتملت عليه خلقها الله جل وعلا وقدر ذلك، وكذلك كل ما ترى من أفعال العباد ومن الطاعات ومن المعاصي فإنه ليس شيء في الدنيا إلا والله جل وعلا خالقه: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
إذا علمت ذلك أيها المؤمن وآمنت بذلك تبين لك أن الإيمان بالقضاء والقدر هو إيمان على مرتبتين:
إيمان بشيء سبق، وهو علم الله جل وعلا للأشياء وكتابته للأشياء في اللوح المحفوظ، وشيء حاضر تؤمن به، وهو أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، إذا أصابتك سراء علمت أنها من الله وإذا أصابتك ضراء علمت أنها من الله لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم وما يحصل إنما هو بمشيئة الله وبخلقه، ولهذا يسأل كثيرون ما الفرق بين القضاء والقدر؟ فيجيب أهل العلم أن القضاء هو ما قضي من القدر ووقع، لأن قضاء الشيء يعني انتهاءه كما قال سبحانه: فلما قضينا عليه الموت [سبأ:14] وكما قال جل وعلا: فاقض ما أنت قاض [طه:72] ونحو ذلك من الآيات التي تدل على أن القضاء هو وقوع الشيء وانتهاؤه.
وأما القدر فهو لما سبق في علم الله ولما كتب، فإذا وقع القدر صار قضاء، وهو قدر باعتبار الماضي، وهو قضاء باعتبار ما وقع وحل، إذا تبين لك هذا أيها المؤمن فاعلم أنه لا مكان في الإسلام لعقيدة الجبر، لا الجبر الظاهر ولا الجبر الباطن، بل الإنسان في الشريعة الإسلامية وفي عقيدة المسلم: الإنسان مخير، وليس مسيراً في الأمر والنهي، بل يختار: إما أن يختار طريق الخير وهديناه النجدين [البلد:10] وإما أن يختار طريق الشر قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [الشمس:9-10] وعلم الله السابق وكتابته السابقة ليست جبراً، وإنما هي لقيام الحجة على العباد، وأنه لا يحصل شيء إلا والله جل وعلا عالم به لكمال علمه سبحانه: وكان الله بكل شيء عليماً [الأحزاب:40].
أيها المؤمن: المؤمن المسدد موفق يوفقه الله جل وعلا، والعاصي يخذله الله جل وعلا، ولهذا يرى المؤمن الصالح أن كل خير عمله مع أنه اختاره، لكن الله وفقه إليه، أعانه عليه وسدده ويسر له سبيله، فيرى العبد المؤمن أنه مختار وأن الله أعانه ووفقه على عمل الصالحات، وأما غير المسدد، أما العاصي، وأما الفاجر، وأما المنافق، وأما الكافر فكل بحسبه فإن الله تركهم لأنفسهم ولم يعنهم لحكمته ولما اشتملت عليه أنفسهم من أمور وما اشتملت عليه أعمالهم كما قال سبحانه: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل [النساء:160-161] إذاً التوفيق جزاء للصالحات، والخذلان وترك المرء لنفسه وعدم إعانته للخير جزاء للسيئات، وما كان الله ليظلم العباد وما ربك بظلام للعبيد [فصلت:46] سبحانه وتعالى.
إذا تبين هذا لنا علمت أن عقيدة القضاء والقدر تجعل في قلوبنا برداً وطمأنينة بحيث إن المؤمن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه الله كما قال الله جل وعلا: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير [الحديد:22].
لكي لا يعني ذلك العلم بأن الأمور سابقة بقدر وأن المصائب بقدر وأن الكتاب سابق لم نؤمن به؟ ولم أوجب الله الإيمان به؟ أولاً لحق الله تعالى وللإيمان بأسمائه وصفاته ثم لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد:23] فالذي يؤمن إيماناً حقيقياً بالقضاء والقدر لا يأسى على ما فاته من الدنيا لا يأسى على موت الناس لا يأسى على ذهاب المال لا يأسى على ذهاب المنزلة لا يأسى على الأذى لأنه يعلم أن الأمور بقضاء وقدر، وأن ما شاء الله كان، وأن ما لم يشأ لم يكن، وأن المؤمن إذا أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإذا أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، ثم إنه لا يفرح بما أوتي لأن الفرح بغير الحق ذلك من خصال غير المؤمنين، فالمؤمن إذاً بقضاء الله وقدره يثمر إيمانه بالقضاء والقدر أنه في هذه الدنيا ليس بذي أسى وحزن على ما فاته وليس بذي فرح واختيال وفخر على ما آتاه الله تعالى، وتأمل ختام الآية حيث قال تعالى: ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:23] لأن الفرح بغير الحق يوجب الاختيال ويوجب الفخر وكما ترى في حال كثيرين من الأغنياء فإن غناهم أوجب لهم فخراً واستطالة واستغناء، وهذا والعياذ بالله ليس من خصال المؤمنين حقاً.
أيها المؤمن: إيمانك بقضاء الله وبقدره يثمر لك أنك مخاطب بالعمل ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) [2] ، وتأمل قول الله جل وعلا: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى [الليل:5-7] فرتب التيسير على العمل الصالح، على الإعطاء والتصديق، وكذلك رتب التعسير على التكذيب والاستغناء وعدم البذل، وهذا يعطيك أن إيمانك بقضاء الله وقدره لا يجعلك لا تعمل، بل تعمل وتتوكل على الله جل وعلا، ثم بعد ذلك أنت مؤمن بقضاء الله وبقدره.
ومن ثمرات إيمان المؤمن بقضاء الله وبقدره أن يعلم المؤمن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا يجعله في طمأنينة وبرد وسلام فيما يحدث له.
ومن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر أن يعلم المؤمن أن حكمة الله ماضية، وأن الأمور لا يجرها حرص الحريص، وأن عمل الناس لا يجر الأشياء، وإنما العمل سبب، وقضاء الله وقدره نافذ، وحكمته بالغة، فيجعل المؤمن يعمل كما أمره الله، ثم هو يرى الأمور بأن قضاء الله وقدره نافذ لا محالة.
فمثلاً ينظر إلى ما فيه المسلمون مثلاً اليوم بما هم فيه من نكبات وما هم فيه من ضعف وعدم عزة وما هم فيه من هوان ينظر إلى ذلك أنه يوجب عليه أن يعمل لنصرة الإسلام ولنصرة دين الله ولإعلاء كلمة الله، لكنه لا يسوغ له حال المسلمين أن يكون يائساً، وأن يكون متخاذلاً، أو أن يعمل أشياء لم يوجبها الشرع، لأن ذلك ليس مقتضى الإيمان الصحيح وليس مقتضى الشريعة وأيضاً ليس مقتضى الإيمان بحكمة الله تعالى.
فإذاً المؤمن إذا آمن فهو متوازن في عقيدته، متوازن في أعماله، متوازن في نظرته للأمور وهو مع ذلك كله يخاف لإيمانه بالقضاء والقدر، يخاف من الخواتيم، ويخاف من السوابق، وقد قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق. ينظر المؤمن إلى ما سبق أن كتبه الله فيبكي لا يدري ماذا كتب له، هل هو من أهل السعادة أم هو من أهل الشقاوة، فينظر إلى ذاك فتدمع عينه، ويسأل الله الثبات ويجاهد نفسه على الصلاح، وقال آخر من علماء السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها سر الخواتيم. وقال آخر: قلوب الأبرار معلقة بالسوابق يقولون ماذا سبق لنا، وقلوب المحسنين معلقة بالخواتيم يقولون بماذا يختم لنا. وهذا هو حال المؤمن فإنه بقضاء الله وقدره بين مخافتين، بين أمر قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله خالق فيه.
وهذا من عجاب إيمان المؤمن بقضاء الله وقدره.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل الإيمان في قلوبنا يقينا وأن يجعلنا مطمئنين بالإيمان وأنه في قلوبنا كأمثال الجبال الراسيات، اللهم نسألك صدقاً في الإيمان وصدقاً في الأقوال وصدقاً في الأعمال اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً واجعلنا في أقوالنا وفي أعمالنا على ما تحب وترضى، واسمعوا قول الحق جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير [الحج:70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ح (50) مختصراً عن أبي هريرة ، وأخرجه مسلم ح (8) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] رواه البخاري ح (4949) ، ومسلم (2647).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله، فخذوا العلم من كتاب الله، وإن خير الهدي هدي محمد بن عبد الله فاقتدوا بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، وإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وعليكم بلزوم التقوى أينما كنتم، فبالتقوى رفعتكم وبالتقوى نجاتكم ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [الطلاق:4].
أيها المؤمنون: كثيرة الأسئلة التي يطرحها المسلمون حول القضاء والقدر، والذي يجب على المؤمن أن يسلم لقضاء الله وقدره قال علي : (القدر سر الله فلا تكشفه) أي لا تحاول كشفه فإنك لن تصل إلى شيء، القدر سر من أسرار الله ولا يمكن للمرء أن يصل إليه، فبهذا عليه أن يؤمن بما أوجب الله الإيمان به عليه أن يؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، وأن لا ينازع القدر بقيل وقال وبسؤال، فإن كثرة السؤال منهي عنها، وإن الوساوس إذا كانت وساوس فإنها ربما كانت من الشيطان، فليدفعها المؤمن بقوة حتى يبقى له يقينه قوياً ثابتاً حتى لا يتردد ولا يكون في ريب لأن أمر القدر الأسئلة فيه كثيرة، وقد تردد أناس فيه فضلوا لأنه لا يمكن أن يعلموا حقيقة قدر الله وقضائه فهذا سر الله جل جلاله والأمر لله من قبل ومن بعد.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا أن نصلي على نبيه فقال سبحانه قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم على الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1450)
الطيب والخبيث 2
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1.... الفرق في الجزاء بين الطيب والخبيث.2.... النهي عن العجب بالخبيث وما يصور عنه من خبيث القول والفعل.3.... الخبيث والطيب لا يستويان.4.... كثرة الخبيث وقلة الطيب.5.... صور من المفارقة بين الطيب والخبيث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: يقول الله جل وعلا وتبارك وتعالى وتقدس وتعاظم: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون [المائدة:100]. فهذا بيان من الله جل وعلا، وحكم منه أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب، بل لا يستوي الطيب والخبيث مطلقًا، فالطيب مفضل، الطيب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل سافلين في أسفل الدرجات، الخبيث من الأقوال يدنيه الله جل وعلا في جهنم، والطيب من الأقوال يرفعه الله جل وعلا في الجنة في دار كرامته، الطيب من الأعمال يحبه الله جل وعلا، فإن الله طيبٌ لا يحب إلا طيبًا، إن الله جل جلاله طيب يحب الطيب من القول ويحب الطيب من العمل ويضاعفه لأصحابه ، الله جل وعلا يحب الطيبين من الناس، ويبغض الخبيثين من الناس، الله جل وعلا يرفع الطيب من المال ويبارك لأصحابه فيه، ويخفض الخبيث من المال ويجعله وبالاً على أصحابه.
فهذه أنحاء أربعة يكون فيها الطيب والخبث، طيب في الأقوال وطيب في الأفعال والأعمال، وطيب في الناس، وطيب في الأموال، وما يقابلها: خبث في الأقوال وخبث في الأعمال وخبث في الناس وخبث في الأموال.
وعلى هذا فلنعلم أن قول الله جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [المائدة:100] نهي لنا أن نُعجب بالخبيث، نهي لنا أن نُعجب بالكثير إذا لم يكن طيبًا، فالله جل وعلا أمر ونهى، أمر أن نكون طيبين في أقوالنا وأعمالنا وذواتنا وأموالنا، ونهانا أن نكون من الخبيثين في أقوالنا وأعمالنا وفي ذواتنا، وفي أموالنا.
فانظر رحمك الله هل يستوي الذي طاب لسانه وطاب قيلُه وقوله، فهو لا يقول إلا القول الطيب، إذا حضرت مجلسه وجدته طيبًا مطيبًا إنما يذكر القول الحسن الذي فيه إرشاد للخير، أو الذي فيه صلة أو الذي فيه إصلاح بين الناس لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء:114].
من الناس من أقواله طيبة، طيب في لسانه، لا ينطق إلا بكلام طيب حسن يُسر به سامعه، ويقربه إلى مولاه ويباعده من نزغات الشياطين، فهل يستوي من طاب لسانه مع ذلك الرجل الآخر أو تلك المرأة الأخرى الذي إذا تكلم ـ أعني الرجل ـ إذا تكلم تكلم بخبيث من القول، بغيبة، أو نميمة، أو بتفريق بين الناس، أو بنقل القالة فيما بينهم ليظهر قدر فلان من إخوانه المسلمين على الآخر، إذا تكلم فإنما يتكلم بالخبيث، يرشد إلى منكر أو يحبب إلى قبيح هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون [هود:24].
لا يستوي اللسان الطيب واللسان الخبيث ولو قل كلامه مَنْ لسانه طيب، فهو أزكى عند الله جل وعلا، وإن ظنه الناس في عيٍّ من القول وعدم إفصاح وإنما ينطق بالحق وما يقربه إلى ربه جل وعلا، قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ في وصيته له: ((وكُفَّ عليك هذا)) قال: يا رسول الله: أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) [1].
أيضًا أيها المؤمنون لا يستوي ذو الطيب من الأعمال، ذو الطيب من الأفعال، وذاك ذو الخبث في الأعمال وذو الخبث في الأفعال، هذا الطيب في عمله إذا رأيته رأيت عمله طيبًا، رأيت عمله حسنًا، رأيت عمله يحبب إلى الله ويحبب الله فيه الناس، فهو لا يسعى إلا بعمله يسر به من رآه، طيبٌ في عمله مؤدٍ لأمانته، مؤدٍ لأمانته العظمى في حق الله جل وعلا بأداء فرائض الله وأداء الواجبات التي أوجبها رب الأرض والسموات، إذا عمل فإنما يعمل على وصف الشرع، فهو طيب في أعماله، راع لأمانته في وظيفته، إذا استرعي على مال حفظه، إذا استرعي على أيتام حفظهم وحفظ أموالهم، إذا استرعي على ولده حفظهم وحفظ تربيتهم، فهو طيب في عمله، طيب في فعله، والله جل وعلا طيب يحب الطيبين، والجنة دار للطيبين.
هل يستوي هذا وذاك الآخر الخبيث في عمله، والخبيث في فعله، تراه لم يرع أمانة الله مفرطاً في واجبات الله، لم يؤد الصلوات وخان الأمانة، لم يؤد زكاة المال، إذا استرعي على عمل خان، إذا استرعي على مال أكله، إذا استرعي على وظيفة ارتشى وغش وخان، وهذا عمله خبيث وعمله موبق له، إذا رأيت هؤلاء كثيرين، والطيبون قليلون الذين يرعون أمانتهم، فتذكر قول الله جل وعلا: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
بعض الناس إذا رأى الأكثرين تسارعوا في الخبيث من الأقوال والخبيث من الأعمال، يقول: الناس كلهم كذلك فيحمله ذلك الظن على أن لا يكون طيبًا في قوله وفي عمله وفعله، وهذا من مداخل الشيطان على القلوب، وربك جل وعلا يقول: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
كذلك الطيب من الناس لا يستوي مع الخبيث من الناس، المؤمن التقي الموحد لله الذي أخلص قوله وعمله لله، فليس في قلبه عمل لغير الله، إنما هو مخلص لله، مخلص في قوله، مخلص في توجهاته لله، طاب ذاتًا وقلبًا فليس في قلبه إلا محبة الله، ليس في قلبه إلى محبة رسول الله. يبغض الشرك وأهله والبدع وأهلها، يبغض ذلك متقربًا بذلك إلى الله، ويجاهد في ذلك، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
هل يستوي هو والآخر الذي لا يحب السنة وأهلها، الذي لا يرفع رأسه بأعظم واجب ألا وهو توحيد الله، يتساهل في ذلك إما في نفسه أو في من حوله، أو في دعوته، كل ذلك لا يستوي عند الله قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث.
إذا كثر أولئك فلنتعزَّ بقول الله جل وعلا: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [يوسف:103] ، وقال جل وعلا ـ في وصف من آمن مع نوح ـ: وما آمن معه إلا قليل [هود:40].
فالطيب هو الذي يباركه الله جل وعلا، ويرفعه وينميه ويزكيه؛ لأن الله جل وعلا طيب لا يحب إلا طيبًا.
كذلك الطيب من المال والخبيث من المال لا يستويان؛ فالطيب في الأموال وإن قلَ فمآله إلى بركة، مآله إلى خير، بعض الناس تضيق عليه سبل الكسب فلا يحب إلا قليلاً طيبًا، فليفرح بذلك الطيب القليل؛ لأن معه بركة الله جل وعلا؛ لأن معه أن يكون نماء جسده ونماء دمه ونماء جسد أولاده من مال طيب يحبه الله، فإذا رفع ذلك الذي تحرى المال الطيب يديه إلى الله كان حريًا بأن تقبل دعوته وكان حريًا بأن يجيبه الله جل وعلا.
وكذلك لا يستوي هذا الرجل وذلك الآخر الذي تراه في عز وفي مال وفير يتنوع في الملابس ويتنوع في المراكب، وهي ليست من مال حلال، إنما هي إما من رشوة، وإما من ربا، وإما من غش وإما من خيانة لأموال المسلمين فلا يستوون عند الله، لا يستوون أبدًا، فذلك وإن كثر ماله فإنما هو مال خبيث وباله عليه في هذه الدنيا وفي الآخرة، وإذا غذي فيه جسده فإنه متوعد بأن لا يجيب الله دعوته، ثبت في صحيح مسلم أن النبي ذكر الرجل الذي يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)) [2] ، إن الله جل جلاله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال جل جلاله: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا [المؤمنون:51].
نعم أيها المؤمنون: لا يستوي الخبيث والطيب لا في القول ولا في العمل، ولا في الذوات ولا في المال، ولكن الشأن كل الشأن من يروم ربه جل وعلا من يخلص لربه، من يروم جنة الله، من يروم دار الخلد ودار الكرامة ودار الطيبين، فيصبر على ألا يقول إلا طيبًا ولا يعمل إلا طيبًا، ولا يكسب إلا طيبًا فإن ذلك يحتاج إلى صبر وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10] ، وأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأعمالهم وطابوا ذاتًا ونفسًا، اللهم اجعلنا وذرارينا ومن نحب من الطيبين المطيبين الذين رضيت أقوالهم ورضيت أعمالهم.
واسمع قول الله جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح أخرجه أحمد (5/231) ، والترمذي ح (2616) وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجه ح (3973) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم ح (1015) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده، أثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بتقوى الله عز وجل فإن بالتقوى فخاركم وسعادتكم ورفعتكم في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة.
أيها المؤمنون: لا يستوي الطيبون من الذرية، لا يستوي الطيبون من الأولاد وأولئك الخبثاء من الأولاد، تجد الطيب من الأولاد بارًا بوالديه، قريبًا من والديه، يسعى في خدمتهما، يسعى في إرضائهما، ممتثلاً في ذلك أمر الله جل وعلا حيث قال: وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا [الإسراء:24].
لا يذكر من القول إلا القول الكريم الذي هو أحسن الأقوال لا يجابه والده ولا أمه وكل منهما له أعظم الحق، أعظم حق البشر للبشر، فإذا كان كذلك كان المؤمن الطيب ساعيًا في أحسن القول ساعيًا في أحسن العمل، أولئك هم الطيبون من الأولاد، الطيبون من الذرية الذين يرومون إرضاء والديهم بأنواع ما يرضونهم به مما هو في طاعة الله جل وعلا، هل يستوون مع أولئك الذين خبثت ذواتهم بأن وُكّلوا إلى أنفسهم وتسلط الشيطان عليهم ولم يتوبوا إلى الله فتجدهم عاقين بوالديهم عاقين بأمهاتهم، يدخلون البيوت ولا يقولون إلا أشر القول، ويخرجون وهم لا يعينون والديهم، لا في أمر صغير ولا كبير، تبعتهم على والديهم كبيرة، إذا تكلموا تكلموا بالخنا يفرطون في واجبات الله، لا يؤدون الصلاة، وآباؤهم وأمهاتهم قلوبهم في حسرةٍ على أولئك وعلى تلك الذرية، أولئك عليهم أن يتخلصوا من ذلك الخبث الذي جعله الشيطان في أنفسهم وأن يكونوا طيبين مع آبائهم، طيبين مع أمهاتهم، أعظم الطيب، ابتغاء لوجه الله جل وعلا ثم إرضاءً لوالديهم، وكما تدين تدان.
كذلك بعض الآباء طيب في معاملته مع أولاده، إذا عملوا أمرًا يقره الشرع ساعدهم على ذلك، وحبب إليهم ذلك، وآخرون ليسوا كذلك، بل هم في وجه مطيعين من أبنائهم يبعدونهم عن الطاعة ويحببون إليهم بطريقٍ ظاهرٍ أو بطريقٍ خفيٍ يحببون إليهم أن يبتعدوا عن الطاعة، وأولئك عليهم أن يخافوا الله جل وعلا من سوء الخاتمة وبأن يحشروا مع الذين لا يسر العبد أن يحشر معهم.
ذلك أيها المؤمنون أمر عظيم يجب علينا أن نتنبه له، وأن نكون آباءً كنا أو أولادًا، أن نكون طيبين ساعين في ذلك بكل ما نستطيع، اللهم واجعلنا كذلك وباعد بينا وبين كل أمر لا تحبه ولا ترضاه.
عباد الله: إن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته فقال قولاً كريمًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/1451)
لا عدوى ولا طيرة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أمراض القلوب
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العدوى المنفية في الحديث. 2- المرض ينتقل بمشيئة الله وليس انتقاله بلازم. 3- عدم
مخالطة المريض أخذ بالأسباب. 4- التشاؤم يذهبه المؤمن بالتوكل. 5- التشاؤم من الجاهلية.
6- فضل الدعاء والتقوى في رد سوء القضاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون بالله وبرسوله: اتقوا الله حق التقوى، عظموا الله جل وعلا حق التعظيم فإن الحياة الدنيا إنما هي زمنٌ لعمل الصالحات، فمن عمل صالحاً فله العقبى الحسنة برحمة الله وبفضله، ومن لم يتق الله فلن تجد له مخرجاً، ومن لم يتق الله فستكون له عاقبة الخسران.
عباد الله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) [1] يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية من الاعتقادات الباطلة التي تؤثر في القلب وتضعف الظن الحسن، بل قد تزيل الظن الحسن بالله جل وعلا، وقد يكون معها نسبة الله جل وعلا إلى النقص، إما بنفي القدرة وإما بجعل شريك آخر معه في العبادة أو في التأثير فيقول عليه الصلاة والسلام للمؤمنين بالله جل وعلا حق الإيمان، للذين يعتقدون أن الله جل وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)) يعني بقوله: ((لا عدوى)) يعني لا عدوى مؤثرة بطبعها لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العدوى تؤثر بنفسها تأثيراً لا مرد له، وتأثيراً لا صارف له.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى)) لا ينفي أصل وجود العدوى وهي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بسبب المخالطة بينهما، فإن الانتقال بسبب المخالطة حاصل ملاحظ مشهود، لكنه عليه الصلاة والسلام بقوله: ((لا عدوى)) لا ينفي أصل وجودها، وإنما ينفي ما كان يعتقده أهل الجاهلية في العدوى، من أن الصحيح إذا خالط المريض عدي بالمرض لا محالة، ولا يقع ذلك في اعتقادهم بقضاء الله وبقدره، ويقولون: إن ذلك لابد أن يكون، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى)) يعني أن المرض لا ينتقل من المريض إلى الصحيح عند مخالطة الصحيح للمريض بنفسه، وإنما انتقاله وإصابة الصحيح بالمرض عند المخالطة إنما هو بقضاء الله وبقدره، وقد يكون الانتقال وقد لا يكون، فليس كل مرض معدٍ يجب أن ينتقل من المريض إلى الصحيح، بل إذا أذن الله بذلك انتقل، وإذا لم يأذن لم ينتقل، فهو واقع بقضاء الله وقدره، فالعدوى يعني بالمصاحبة والمخالطة من الصحيح للمريض سبب من الأسباب التي يحصل بها قضاء الله وقدر الله جل وعلا، وليست لازماً حتمياً كما كان يعتقد أهل الجاهلية، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يورد ممرضٌ على مصح، ولا يُورد ممرض على مصح)) [2].
يعني أن الإبل المريضة لا تورد على الإبل الصحيحة، لأن الخلطة سبب لانتقال المرض من الإبل المريضة إلى الصحيحة، وهذا فيه إثبات لوجود العدوى، ولكنه إثبات لسبب، والسبب يتقى، لأنه قد يحصل منه المكروه كما أنه إذا باشر المرء أسباب الهلاك حصل له الهلاك بقدر الله وبقضائه، كما أنه إذا أكل حصل له الشبع، وإذا شرب حصل له الري، فذلك كله لأنها أسباب.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((فرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) [3] لأن المخالطة سبب لانتقال المرض من المجذوم إلى الصحيح، لهذا كان عليه الصلاة والسلام، لتثبيت هذا النفي من أن العدوى لا تنتقل بنفسها، وأن المرء يجب عليه ألا يباشر أسباب الهلاك، ويجب عليه أيضاً أن يتوكل على الله حق التوكل، وأن يعلم أن ما قدر الله وقضى لابد كائنٌ لا محالة.
لهذا كان عليه الصلاة والسلام مرةً يأكل مع مجذوم، فأدخل يده معه في الطعام ليبين للناس أن انتقال ذلك المرض ليس بأمر حتمي وإنما هو سبب، والذين يمضي المسببات بالأسباب هو الله جل وعلا، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي يجير ولا يجار عليه، ثم قال عليه الصلاة والسلام بعد قوله: ((لا عدوى ولا طيرة)) قال: ((ولا طيرة)) لأن الطيرة أمرٌ كان يعتقده أهل الجاهلية بل ربما لم تسلم منه نفسٌ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) [4] قوله: (ما منا إلا) يعني ما منا إلا تخالط الطيرة قلبه، ولهذا نجد أن أكثر الناس ربما وقع في أنفسهم بعض ظن السوء وبعض التشاؤم إما بريح مقبلة وإما بسواه.
وإذا أراد بعضهم السفر ورأى شيئاً يكرهه ظن أنه سيصيبه هلاك لأنه أصابه نوع تطير، والمؤمن يجب عليه أن يتوكل على الله حق التوكل كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ولكن الله يذهبُه بالتوكل) فالطيرة باطلة ولا أثر لما يجري في ملكوت الله على قدر الله وقضائه.
يعني لا تستدل بكل شيء يحصل على المكروه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الطيرة ويحب الفأل لأن الفأل فيه حُسن ظن بالله جل وعلا، والمؤمن مأمور أن يحسن الظن بربه جل وعلا.
وأما الطيرة ففيها سوء ظن بالله، بأن يفعل بك المكروه، وبهذا كانت من اعتقادات أهل الجاهلية ونهى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: ((ولا طيرة)).
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا هامة)) وذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الذي قتل يظل طائرٌ على قبره يصيح بالأخذ بثأره، وبعضهم يعتقد أن الهامة طائرٌ تدخل فيه روح الميت فتنتقل بعد ذلك إلى حي آخر، فأبطل ذلك عليه الصلاة والسلام، لأن ذلك مخالف لما يمضيه الله جل وعلا في ملكوته، ولأن ذلك باطل من أصله، اعتقادات لا أصل لها ولا نصيب لها من الصحة.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا صفر)) وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا صفر)) يعني لا تشاؤم بصفر وهو الشهر المعروف الذي نستقبل أيامه.
ثم لما قال عليه الصلاة والسلام: ((لا صفر)) دلنا على إبطال كل ما كانت تعتقده الجاهلية في شهر صفر، فإنهم كانوا يتشاءمون بصفر ويعتقدون أنه شهر فيه حلول المكاره وحلول المصائب، فلا يتزوج من أراد الزواج في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يوفق، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر لاعتقاده أنه لا يربح، ومن أراد التحرك والمضيّ في شئونه البعيدة عن بلده فإنه لا يذهب في ذلك الشهر لاعتقاده أنه شهر تحصل فيه المكاره والموبقات، ولهذا أبطل عليه الصلاة والسلام هذا الاعتقاد الزائف فشهر صفر شهر من أشهر الله، وزمان من أزمنة الله، لا يحصل الأمر فيه إلا بقضاء الله وقدره، ولم يختص الله جل وعلا هذا الشهر بوقوع مكاره ولا بوقوع مصائب، بل حصلت في هذا الشهر في تاريخ المسلمين فتوحات كبرى وحصل للمؤمنين فيه مكاسب كبيرة يعلمها من يعلمها، ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه الأصول التي مردها إلى الاعتقاد، فإن التشاؤم بالأزمنة والتشاؤم بالأشهر وببعض الأيام أمر يبطله الإسلام، لأننا يجب علينا أن نعتقد الاعتقاد الصحيح المبَّرأ من كل ما كان عليه أهل الجاهلية، وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة ضرورة تخلص القلب من ظن السوء بربه ومن الاعتقاد السيئ في الأمكنة أو في الأشهر والأزمنة، كما أن بعض الناس يعتقد أن يوم الأربعاء يوم يحصل فيه ما يحصل من السوء، وربما صرفهم ذلك عن أن يمضوا في شئونهم.
ولهذا ينبغي علينا أيها المؤمنون أن ننبه إلى هذه الأصول وإلى الاعتقاد الصحيح وأن لا يدخل علينا اعتقادات باطلة ولا تشاؤم بأزمنة ولا بأمكنة، لأن هذا مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وللاعتقاد الناصع السليم الذي جاء به دين الإسلام.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والرشاد والهدى والسداد وأن يجعلنا معتقدين في الله الظن الحسن دائماً، وأن نعتقد أن الله جل وعلا مفيضٌ للخيرات على عباده.
ثم لنعلم أن ما عند الله جل وعلا إنما يجلب بطاعته، وأن المكاره المتوقعة أو الحادثة الحاصلة الموجودة إنما تدفع بالدعاء تارة وبطاعات الله تارة ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال جل وعلا: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً [الطلاق:4].
فلا يرد القدر والقضاء إلا الدعاء ولا تستدفع أسباب الهلاك وأسباب الفساد في النفس أو في ما حولك إلا بطاعة الله جل وعلا، جعلني الله وإياكم من المرحومين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [سورة العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه حقاً وتوبوا إليه صدقاً إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري عن أبي هريرة ح (5757) ، ونحوه في مسلم ح (2220).
[2] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (2221).
[3] رواه أحمد عن أبي هريرة ح (9429) ، ونحوه في البخاري في باب الجذام.
[4] رواه أبو داود ح (3910) عن ابن مسعود والترمذي ح (1614).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذّ عن الجماعة شذ في النار.
ثم اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال قولاً كريماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) [1].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (408).
(1/1452)
إصلاح المجتمع مسؤولية الجميع
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستجابة لله ولرسوله سمة المؤمنين. 2- من أثر شهوته وهواه على شرع الله ودينه أضر
بآخرته ودنياه. 3- تفاوت الإيمان في قلوب العباد. 4- تحقيق الإيمان في المجتمع شرط
للتمكين. 5- الاعتبار بمصارع الأمم السابقة التي كذبت الأنبياء وحادت عن طريقهم. 6- لا
يغير الله أحوال المسلمين حتى يعودوا إلى دينه. 7- صلاح أحوال الناس سبب في عموم الخير
والبركات. 8- واجب الإصلاح مشترك بين الحكام ورعاياهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، أقيموا سنة نبيكم واقرءوا حديثه، واجتهدوا ما استطعتم في أن تمتثلوا ذلك، فإن في ذلكم الخير العظيم المؤكد لكم في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون: يقول الله جل وعلا: واتل عليهم نبأ الذين آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآيتنا وأنفسهم كانوا يظلمون [الأعراف:175-177].
ويقول الله جل جلاله: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [الأعراف:96].
ويقول الله جل وعلا: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم [الأعراف:100].
ويقول جل جلاله: وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [العنكبوت:38]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في محكم التنزيل التي يبين الله جل وعلا بها أن من أخذ بآياته وهي آياته المتلوة: كتاب الله جل جلاله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن الله جل وعلا وعد بالعيشة الهنيئة المستمرة في هذه الدنيا وبالسعادة التامة في الآخرة، فإن العبد إذا كان من المؤمنين المتقين وأوتي الآيات فاستجاب لذلك ولم يصد عنها بل أخذها بقوة وحزم على نفسه في الامتثال لها، فإنه بذلك يكون من الذين وعدهم الله جل وعلا بما وعد به أولياءه الصالحين، وأما إذا آتاه الله جل وعلا الآيات فسمعها وسمع بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يرفع بذلك رأسه وآثر شهوته وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فإنه متوعد بسلب النعم عليه وبأن يكون قلبه قاسياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ثم بعد ذلك يبدل في أرضه بعد الأمن خوفاً، وبعد النعمة ضيقاً وضنكاً، ويبدل بعد الصحة مرضا ويبدل بعد الاطمئنان سوءًا في نفسه وفي من حوله.
ولهذا حث الله جل جلاله الأمة بأكملها، حث أفرادها، حث جماعاتها، حث حكامها، حث المحكومين، حث الجميع على أن يكونوا من أهل الإيمان والتقوى، وإذا كانوا كذلك فإنه تحل لهم مشاكلهم، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن الله يفتح لهم أبواب الخيرات ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض لو كانوا مؤمنين حقاً لكانوا من أهل تلك الصفة، فإذا كان الإيمان متبعضاً وكانت التقوى متبعضة نتج من ذلك أن من كان على شيء من الإيمان فإنه يؤتى من البركات من السماء ومن بركات الأرض بقدر ما امتثل من الإيمان في الحالة العامة للناس غير حالتي الابتلاء والعقوبة.
أيها المؤمن: لاشك أن الإيمان يزيد وينقص، لا شك أن الإيمان في الأفراد يتبعض، فمن الناس من إيمانه عظيم، ومن الناس من إيمانه متوسط، ومن الناس من إيمانه ضعيف، وكذلكم التقوى فإن من الناس من هو متقٍ لله جل وعلا معظم لله مراقب لله ومنهم من هو متوسط في ذلك تغلبه نفسه وشيطانه، وتارة يرجع إلى ربه منيباً إليه تائباً إليه، ومنهم من تقواه ضعيفة، غلبة الشيطان عليه أكثر من يقظته، وهكذا حال الأقوام وحال المجتمعات على ذلك النحو، والله جل وعلا وعد من كمل الإيمان بأن يبدله من بعد خوفه أمنا قال جل وعلا: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم [النور:55].
أيها المؤمن: إن ذلك الاستخلاف من أساسياته أن يكون المسلمون مؤمنين في بلادهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خير الإيمان: ((والذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة [يعني المرأة في هودجها] تسير من كذا إلى مكة لا تخشى إلا الله)) [1] من شدة الأمن الذي كان من أسباب إتمام الإيمان وإتمام التقوى.
تأمل قول الله جل وعلا: وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين إنهم قد زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن سبيل الله، عن الصراط المستقيم، عن الحق وكانوا مستبصرين كانوا أهل بصيرة، لم يكونوا أهل جهل وأهل عدم علم بالحق، بل كانوا مستبصرين قد تبين لهم ما جاءت به الرسل، قد تبين لهم ما في كتب الله، لكن آثروا طاعة الشيطان على طاعة الله فزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، وتأمل قول الله جل وعلا في الذي آتاه الله جل وعلا آياته فانسلخ منها قال بعد ذلك ربنا جل وعلا: ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون [الأعراف:176].
إنه ليس مثلاً لواحد من الناس بل هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، وينتج من ذلك أنه مثل أيضاً لتبعض صفات أولئك، مثل لمن كان فيه خصلة من ذلك، فإن الله جل جلاله يرضى عن العباد إذا أخذوا بشرعه كاملاً، ويرضى عنهم إذا جاهدوا أنفسهم بذلك، لهذا جعلهم خير أمةٍ أخرجت للناس بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110]. وقال جل وعلا: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [آل عمران:104].
إن الله جل جلاله جعل من سنته في الأمم أنهم إذا أطاعوه بارك لهم في أنفسهم، بارك لهم في أولادهم، وفي الأثر الإلهي: ((إنني أنا الله لا إله إلا أنا، إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإنني أنا الله لا إله إلا أنا، إذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتبلغ السابع من الولد)) [2] من جراء فعل الآباء.
أيها المؤمنون: إن علينا أن ننظر إلى واقع المسلمين اليوم وواقعنا بخاصة وواقع الناس المسلمين بعامة، وننظر بعين المتأكد غير الشاك أن ما أصاب الناس من خلل في أنفسهم، من خلل في أمنهم، من خلل في أموالهم، من خلل في اقتصادهم، من خلل في أحوالهم إنما هو بسبب إعراضهم عن بعض ما أنزل الله جل جلاله، إن لم يكن ذلك من الابتلاء الذي ابتلى الله به عباده.
ولكن الله بين لنا في كتابه أنه يعطي المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات الاستخلاف في الأرض ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً وإن أعلى ما تكون به طاعة الله في المجتمعات أن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذه سمة أهل الإيمان لأنه قال: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً [النور:55]. فسمة المجتمع المسلم الذي وعده الله بإحلال الخيرات عليه وبدفع النقم عنه أنه يعبد الله وحده لا شريك له، يعبده ولا يشرك به، يعبده ويأمر بعبادته، ويأمر بذلك، وينهى عن ضده من الشرك بالله.
فما في بعض المجتمعات من الشرك بالله ومن منابذة أهل التوحيد ومن إعلان السماح للشرك بالله إن ذلك من أسباب حصول الويلات، ومن أسباب حصول التفرق والاختلاف ومن أسباب حلول الخوف وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.
إن من أسباب حلول الخيرات أن يسعى الناس في الامتثال للكتاب والسنة ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [المائدة:66].
أيها المؤمن: إن صلاح المجتمعات، نعم يكون بصلاح الدول ويكون بامتثال الدول بأمر الله جل وعلا، لكن كما تكونوا يول عليكم، فإن بناء المجتمعات يكون من بناء خلاياها، وإن خلايا المجتمع إنما هي الأسر، إنما هي البيوت، فلو أصلح الناس بيوتهم، كل في شأنه، لو أصلحنا بيوتنا وسعينا بالنصيحة الشرعية الموافقة للكتاب والسنة فيما بيننا شيئاً فشيئاً لعم الخير ولقلّ الشر، وليس وعد الله جل وعلا فيما ذكرنا في الآيات يكون لمجتمع ليس فيه مخالفة وليس فيه معصية، وإنما هو لمجتمع الخيرُ فيه غالب، لأن الله جل جلاله وصف الإنسان بأنه ظلوم جهول فلابد أن تبقى هذه الصفة ولابد أن يبقى العصيان ليغفر الله جل وعلا للمستغفرين ولكي يتوب الله على التائبين وتظهر آثار اسمي الله: الغفور والرحيم لعباده.
لكن وعد الله يكون للمجتمع الذي خيره غالب على شره، وصلاح ذلك نبدأه نحن، وإن من سمة بعض الناس أن يلقي باللائمة على من تولى الأمر، على الدول والحكومات، وينسى أن أولئك لم يجبروا الناس على شر وإنما الناس الذين أقبلوا على الشر فيما رغبوا به فيه، نعم اللوم على الطائفتين، ولكن الإجبار لم يحصل، وصلاح البيوت ممكن، وجهاد الشيطان وعد الله أهله بالخير العظيم، فإذا أخطأ غيرنا فهل يسوغ شرعاً أو عقلاً أن نلقي باللائمة على غيرنا، على ذلك الغير وننسى أخطاءنا إننا نرى أن في البيوت من الأخطاء ما نعلمه من تفريط في الواجبات، المساجد إذا رأيتها رأيت المصلين فيها من أبناء البلد قليلاً وأكثرهم من غيرهم، إذا نظرت إلى أحوال الناس في امتثال أمر الله وجدت أن الغفلة سيطرت على القلوب وتحكمت إلا فيما شاء الله حتى يرى المرء نفسه إذا أذنب كأنه لم يذنب، وإذا فرط في واجب كأنه لم يفرط في واجب، والله مطلع على العباد، والعبد إذا فعل غير الخير فعل الشر ولم يحس بفعله للشر وبفعله لغير ما يرضي الله فإنه متوعد بأن يسلب عنه ما أعطي إياه من الخيرات وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7]. فإن الناس في أسرهم وفي قبائلهم وفي مجتمعاتهم إذا أصلحوا شيئاً فشيئاً فإن الخير يعم ونري الله جل وعلا من أنفسنا خيراً في الصلاح والإصلاح نصلح فيما بيننا، ونصلح فيما قد يظهر من الأخطاء في مجتمعاتنا، بالطرق الشرعية المرعية أما الرضى بغير ما يرضي الله فإن ذلك سبب لسلب الخيرات.
والله جل جلاله ضرب لنا مثلاً عظيماً في الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وجعله مثلاً للقوم لا للأفراد ثم قال: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون [الأعراف:176-177]. إن علينا أن نشعر أيها المؤمنون بمهمة الصلاح والإصلاح، وما من أسرة إلا وفيهم قدوة يقتدى به فإذا كانت القدوة غير صالحة أو كانت القدوة قدوة في غير تمام الخير أو في غير الخير من الشر، فأنى يرام الإصلاح، كذلك الأسر بعضها يقتدي ببعض، وحفظ النعمة التي بأيدينا ينبغي أن نتوجه بالتضرع إلى الله أولاً، في حفظها، وفي ثباتها، ثم أن نسعى جاهدين في طاعة الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
ثم تأمل أن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف التي ينتج عنها دخول المبادئ الهدامة ودخول الشهوات ودخول الشبهات تفريط بعض الناس بل تفريط الناس فيما أنزل الله جل وعلا وهم يعلمون ذلك قال جل وعلا: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذ ُكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء [المائدة:14].
نسوا حظاً مما ذكروا به فعاقبهم الله بماذا؟ عاقبهم الله بما وصف في قوله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة لأنهم فرطوا ولم يأخذوا بكتابهم ولم يطيعوا رسولهم، وتتابعت عليهم الأزمنة دون صلاح وإصلاح، ودون توبة وإنابة فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وجعل لهم بعد الأمن خوفاً، فتفرقوا في البلاد شذر مذر، نسأل الله العفو والعافية.
أيها المؤمنون: إن من الناس من يحلو له أن يلقي باللائمة دائماً في أخطاء الناس وفيما يحصل من الشر من المجتمعات الإسلامية يلقي باللائمة دائماً على الحكومات والدول وعلى من ولي الأمور، وهذا ليس بصحيح مطلقاًً، فإن عليهم من اللوم وإن عليهم من الواجب ما عليهم، وقد فرطوا وعصوا في كثير ولكن الناس هم الذين قبلوا ذلك وأقبلوا عليه، فالإصلاح عند المصلحين يكون بالتوجه في إصلاح الناس في الدعوة، حتى يرفضوا الشر ويقبلوا الخير ثم يتوجهوا إلى من بيده الأمر في نصيحة شرعية صحيحة يقتفي فيها أثر السلف الصالح في ذلك، لأنه لن يصلح الله آخر هذه الأمة إلا بالذي أصلح الله به أولها.
أسأل الكريم أن يجعلنا من المنيبين حقاً ومن الصادقين مع ربهم جل وعلا، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإعراضنا وأن يعفو عمن يذنب منا.
اللهم اغفر للمذنبين منا، اللهم اغفر لنا جميعاً، فإنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك إنك أنت الغفور الرحيم.
واسمعوا قول الله جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هو جزء من حديث عدي بن حاتم الطويل ، أخرجه البخاري [3400] وأحمد (4/257) بنحوه.
[2] أخرجه أحمد في الزهد من كلام وهب بن منبه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى، بتعظيم الله وبخوف مقام الله، إن بذلك السعادة في الدنيا والأخرى.
فاتقوا الله حق التقوى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
هذا واعلموا أن من أسباب حفظ الله للنعم ومن أسباب حفظ الله للأمن ومن أسباب إغداق الأرزاق والأموال على الناس كما وعد الله جل وعلا، من أسباب ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال جل وعلا: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
فالأمر والنهي، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن فرطت به أمة، إن فرطت به دولة، إن فرط به مجتمع، إن فرط به الناس فإن الله جل جلاله يلعن بعض هؤلاء ويضرب قلوب بعضهم ببعض كما فعل ببني إسرائيل وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء فاتقوا الله واتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [1] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على هذه الأمة على الكفاية، فلابد أن نقوم به كما يجب لله جل وعلا، ويجب على من ولاه الله جل وعلا الأمر حماية الأمر والنهي لأنه من خصائص الممكنين في الأرض الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة يعني أمروا بإقامتها وآتوا الزكاة أمروا بأدائها وجبوها من الأموال الظاهرة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أمروا به وساعدوا على الأمر به ونهوا عن المنكر وساعدوا على النهي عنه، وأعلى المعروف التوحيد، وأدنى المنكر الشرك، ثم يلي ذلك المعاصي.
ويلي المعروف الذي أعلاه التوحيد الطاعات، وواجب علينا السعي في ذلك، وإن المؤمن الحصيف إن المؤمن الخائف ليخشى أن يسلب الله جل وعلا نعمه على من أنعم عليه بالنعم، وإننا إذا رأينا ما في الأمة الإسلامية بعامة من التخبطات ومن الضيق والضنك ومن الأحول الاقتصادية المريرة ومن ضعف الأحوال ومن ومن ومن...
وإن المسلم وإن العاقل يرجع ذلك إلى أسبابه الشرعية، لأن القرآن فيه خبر من قبلنا وفيه نبأ من بعدنا، فيه الدواء بين الله ذلك كله وإذا أخذنا به أفلحنا، وإذا تركناه خبنا وخسرنا ونعوذ بالله من حال الهالكين.
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، فقال جل جلاله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم (4/2098) [2742] من حديث أبي سعيد ولفظه : ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة في بني إسرائيل كانت في النساء)).
(1/1453)
يا قوم اتبعوا المرسلين
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, قضايا دعوية
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمثال في القرآن للعظة والعبرة. 2- قصة القرية في المذكورة في سورة (يس). 3- تعلق
قلوب الكفار ببعض شبه الشيطان. 4- ذكر بعض ما جرى بين أنبياء القرية والملأ المكذبين لهم.
5- قصة المؤمن الناصح لأهل القرية. 6- شفقة الداعية على قومه. 7- الصبر على طول
طريق الدعوة وكثرة المعوقات فيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله إن الله جل جلاله ضرب الأمثال في القرآن وجعل في القرآن من كل شيء مثلاً، ضرب المثل لعبوديته الحقّة وعبودية الآلهة الباطلة وضرب مثلاً لرسله، وضرب مثلاً للحق والباطل، وضرب مثلاً لما جعل الله جل وعلا عليه الأمم السابقة، ضرب الأمثال لتكون عظة وعبرة، ولكن الأمثال إنما يعقلها من تفكر وعلم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت:43]. وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر:21]. فالله جل جلاله نوَّع الأمثال لنتفكر ولنتعظ ولنعتبر.ومن أعظم الأمثال التي ضربها الله جل وعلا في هذا القرآن ، جعلها مثلاً لنتدبرها ولنعي ما فيها، أمثال قصص الأنبياء والمرسلين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يفترى [يوسف:111].
وإن من تلكم القصص، وتلكم الأمثال قصة تلك القرية التي بعث الله جل وعلا إليها رسلاً، قال سبحانه: واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين [يس:13ـ17].
لقد جاء الله جل وعلا تلك القرية برسل هم أكرم الخلق عليه، برسل هم كريمون عليه، مقدمون عنده جل وعلا بما حباهم به وربك يخلق ما يشاء ويختار [القصص:68]. لقد أرسل الله رسوليه إلى تلك القرية لتعظم الحجة عليهم، وليكونوا على بينة من عظم هذا الأمر الذي جاءت به الرسل، أرسل الله إليهم اثنين فكذب هذين الاثنين أهلُ القرية أشد تكذيب، فعزز الله جل وعلا أولئك برسولٍ ثالث، وقال الرسل جميعًا: إنا إليكم مرسلون أكدوا تلك الرسالة وأنهم ليسوا بكاذبين وأنهم أهل صدق، وإنما وظيفتهم أن يبلغوا رسالات الله، وأنهم إن لم يؤخذ بما قالوا فإنما يخشون الله، الذين يخشون الله حق خشيته، أولئك هم الرسل الذين بعثهم الله جل وعلا، بعثهم الله لإنقاذ الناس، أرسل الله جل وعلا هؤلاء الثلاثة فقالوا لأصحاب القرية إنا إليكم مرسلون وماذا كان جواب أصحاب القرية؟ قالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء [يس:15]. لقد منعهم من التصديق أن أولئك الرسل كانوا بشرًا، أرادوا أن يكونوا ملائكة، ولو كانوا ملائكة فكيف سيفهمون عنهم، وكيف يعقلون كلامهم ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون [الأنعام:9].
إن أولئك رفضوا الحق بشبهة في ظاهرها قد يعتذر بعضهم إلى بعض بها، ولكنها في الحقيقة ليست بشيء، وهكذا دائمًا أصحاب الشبهات يوقع الشيطان في قلوبهم الشبه، فيقنعهم أنها شبهة حق وأنهم لو أتاهم الحق واضحًا لقبلوا ذلك، مع أن البينات كانت كافية وكانت باقية وكانت واضحة جلية فإن أولئك المرسلين جاءوا من عند الله بالآيات والبراهين الدالة على صدقهم، المؤيدة لدعواهم الرسالة، وكفى بذلك حجة لمن سلم قلبه لكنهم أرادوا أن يكون الرسل من الملائكة وتلك شبهة ألقاها الشيطان في قلوبهم، إن الناس يحتاجون إلى رسل من البشر يعلمونهم بلسانهم ويقتدي الناس بهم حتى يكون الدين متمثلا أمامهم في بشر يمشون به ويروحون به ويجيئون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء كذبوا بإنزال الله جل وعلا الكتب عليهم قالوا ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون حصروا أولئك في الكذب، وكأن الكذب لم يتعداهم، وكأن الكذب متمثل فيهم لا يعدوهم إن أنتم إلا تكذبون فكان جواب أهل الحق الثابت الذين يدلون بالحق ويعلمونه، بكلمة واضحة قال الرسل: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وكفى بشهادة الله شهادة، فهل يكون الرسول الذي أرسله الله وأيده بالمعجزات كاذبًا؟ إن الذي يدعي الرسالة لا يلبث أن يعاقب، إن من ادعى رسالات الله في التاريخ لابد أن تحيق به العقوبة سريعًا، وأما من يقول: إني مرسل من عند الله ومؤيد من عند الله بالحجج والآيات والبراهين ثم الله يؤيده على خصمه وينصره ويقوي حجته فإن ذلك دليل على صدق رسالته، وإن ذلك دليل على أن الله جل جلاله بعثه مرسلاً إلى الناس ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين إن الرجل تكون عنده الحجة فيلقي بها في الناس طيبًا لفظها, طيبًا معناها.
وأما من صد عن الحق ولم يقبل الحق الذي جاءت به الرسل ووجد حرجًا في نفسه من كلام الرسل، ومن كلام من اصطفاهم الله جل جلاله إن أولئك البلاء في أنفسهم وليس البلاء في الحق، البلاء في شهواتهم وشبهاتهم، وليس البلاء فيما أنزل الله وفيما بلغته الرسل من عند الله، ورسل الله صادقون مصدقون لا ينطقون عن الهوى قالت الرسل: وما علينا إلا البلاغ المبين فماذا كان جواب أولئك الذين كذبوا الرسل؟ قالوا إنا تطيرنا بكم ، تطيروا بهم قالوا: إن سبب ما جاءنا من الشر وسبب ما جاءنا من البلاء إنما هو من جهتكم إنما هو من أسبابكم، أما نحن فإننا مستحقون لكل فضل من الله ولكل رحمة من الله، ولكن سبب بلائنا أنتم أيها الرسل لأنكم خالفتم ما عهدنا عليه الآباء وما عهدنا عليه من سبقنا في عباداتهم للآلهة المختلفة وفي اتباعهم لكبرائهم إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم.
يعني إن لم تتركوا ذلك فلنرجمنكم ولنقتلنكم أيضًا ليمسنكم منا عذاب أليم، فكان جواب الرسل، جواب المطمئن إلى الله الذي أنس بما عند الله المصدق بوعد الله قالت الرسل: طائركم معكم سبب شقائكم وسبب التطير وسبب ما سيحيق بكم من البلاء إنما هو معكم، ملازمكم، وهو ما صدر عنكم من عمل الشر وما صدر عنكم من سوء وما صدر عنكم من تكذيب الرسل وعدم الإيمان بكتب الله وبما أنزل الله على رسوله قالت الرسل: أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون [يس:19]. يعني أتقتلوننا لأجل التذكير بالله وبسنة الله وبالصدع بما أنزل الله في كتابه، أتقتلوننا لذلك؟ بل أنتم قوم مسرفون ، فسبب ذلك الإسراف، إسرافكم في الأمر وإسرافكم في أنفسكم ومجاوزتكم للحد الذي أذن الله به، وهكذا كل من خالف الرسل من الذين اتبعوا شهواتهم، واتبعوا شبهاتهم، إن أولئك دائمًا حجتهم من جنس تلك الحجة يظنون أن البلاء من جهة المذكرين، أن سبب ما يصيب الناس إنما هو من جهة الذين ذكروهم بما أنزل الله في كتابه، وهذه حجة قديمة جديدة أتواصوا به بل هم قوم طاغون [الذاريات:53].
ثم بين الله جل جلاله وظيفة رجل من المؤمنين آمن بما جاءت به الرسل. بعثه واعظًا لقومه مذكرًا لهم قال سبحانه: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين [يس:20]. وجاء من أقصى المدينة ، وهي تلك القرية رجل يسعى قال المفسرون في قوله: من أقصى المدينة ما يشعر بأنه ليس من أغنياء الناس بل من فقرائهم، وليس من أهل الجاه، بل هو ممن يرفض قوله الأكثرون لأنه جاء من أقصى المدينة وعادة الناس في الأزمنة الأُوَل أن الأشراف والكبراء يسكنون وسط المدن وأن من هم دونهم يسكنون الأطراف والأقصى من المدينة.
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين لقد كان حريصًا أن يتبع أولئك الناس المرسلين، فيتبعونهم فيما جاءوا به من الحق وينصرونهم ولا يخذلونهم؛ لأن في ذلك أسباب السعادة لهم في الدنيا والأخرى.
قال يا قوم اتبعوا المرسلين ثم علل ذلك بقوله: اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون [يس:21]. إن من أدلة صدقهم أنهم مهتدون على صراط الله، وأنهم مجدوا الله جل جلاله وأنهم دعوا إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة، دعوا إلى ذلك وكانوا على بصيرة في ذلك الأمر، وهم لم يسألوا الناس أجرًا ولم يتكلفوا قال: اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون. يعني اتبعوا من لا يطلب منكم مالاً، والحال أنه من المهتدين، لأن من الناس من لا يسأل الناس أجرًا في دعوته، ولكنه على ضلالة، على مخالفة للرسل، والناس قد يظنون أن كل زاهدٍ أو أن كل من لا يسأل الناس أجرًا أو أن كل مدافع عن حقوق الناس أنه على هداية.
وهذه الآية فيها التنبيه على أنه لابد أن يكون مع الأول على هداية، والهداية هي الهداية إلى طريق الرسل الذي بينه الله جل وعلا في كتابه اتبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون ، والقضية ليست أنهم لم يسألوا الناس أجرًا فحسب، بل القضية الكبرى أنهم على هداية من الله، أن حالهم الهداية، أنهم اهتدوا بهداية الله، وأخذوا ما أنزل الله، ولم يفرقوا بين أمر الله، لم يفرقوا بين كلام الله، بل كانوا على وفق ما يحب الله ويرضى، ابتعدوا عن المشتبهات وأخذوا بالحق فكانوا على الهداية، وقبلوا ما أمرهم الله به، فكانت تلك الهداية للمرسلين.
وكذلك تكون تلك الهداية لكل من اتبع الرسل قال الله جل وعلا مخبرًا عن قيل ذلك الرجل الصالح: ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [يس:22]. يقول: لماذا لا أعبد الله الذي فطرني؟ لماذا لا أعبد الواحد الأحد، وأعلق قلبي به وأدلُّ الناس عليه وأجعلهم مطمئنين إلى الله، عابدين له وحده دون ما سواه خالعين للأنداد وهذه هي دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، إن دعوتهم ودعوة أتباعهم إلى التوحيد الخالص ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون قال جل وعلا لنبيه : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف:108]. قال ذلك الرجل الصالح: أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغنِ عني شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون إني إذاً لفي ضلال مبين.
إذا كانت دعوة الرسل ودعوة ذلك الرجل الصالح فيما دعا به قومه، في توحيد الله وردّ الناس إلى التعلق بالله، لأنها مهمة المصلحين، لأنها مهمة الذين يريدون أن يعلقوا قلوب الناس بالله جل جلاله، فإذا صلحت القلوب وصلح الناس أنزل الله جل وعلا البركات على الأرض وأذن بما يأذن به من سننه الكونية، قال جل وعلا مخبرًا عن قوله: إني إذًا لفي ضلال مبين يعني إن كنت على تلك الحال من الشرك فإني على ضلال مبين، نعم كانت تلك أقواله، وكانت تلك دعوته، فما كان منهم إلا أن قتلوه، ما كان منهم إلا أن توجهوا إليه بالتهديد لما قال لهم: إني إذًا لفي ضلال مبين توجه إليهم بكلمة الحق وقال: إني آمنت بربكم.
إما أن يكون توجه إلى المرسلين وإما أن يكون توجه إلى الناس إني آمنت بربكم فاسمعون فلما قال ذلك بادروا إليه وقتلوه فتلقته الملائكة بقولهم: قيل ادخل الجنة لأنه دعا إلى ما دعا إليه المرسلون واتبع سيرتهم وجاهد في ذلك، ولو كان في ذلك بذل نفسه، تلقته الملائكة ألا تخف ولا تحزن وادخل الجنة، فنظر لما دخل الجنة ورأى النعيم، تذكر قومه ورحم قومه فقال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين أدركته الرحمة، أدركته رحمة الخلق، وهكذا الداعية الصالح الناجح يأمر الناس بما أمر الله به، وهو رحيم بهم يرحم العاصي إذا عصى، ويرحم الضال أن ضل، ويرحم الناس أن لا يكونوا من أهل الجنة، وبوده لو بذل نفسه ودخل الجنة جميعًا جنة الله جل جلاله، قال الإمام أحمد: وددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن الخلق أطاعوا الله جل جلاله، لأنه يحب المؤمنين ويحب أهل الإسلام ويحب أن يكون خلق الله جميعًا من أهل الجنة، لكن ذلك لا يمكن أن يكون، لأن الله ذرأ لجهنم نصيبًا وذرأ للجنة نصيبًا وكل سيأتيه نصيبه.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الجنة.
لما دخل الجنة وقتل ثم صار بقومه ما صار من تكذيب الرسل قال جل جلاله: وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ليس الأمر بعسير على رب العالمين، لا يحتاج إلى جنود مجندة، إنما هي صيحة من السماء فأخذتهم صاعقة أتتهم، فأخذتهم فكانوا أمواتًا فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد.
أيها المؤمنون: إن في قصص القرآن لعبرة، وإن الدعوة الصالحة الناجحة لابد أن يكون فيها ومعها ولها التدبر الأعظم في سنن الله، وفي قصص القرآن، وفي دعوة الأنبياء والمرسلين، لأن من أخذ بدعوتهم، من أخذ بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أخذ بسنته فإنه على نجاح في دعوته، ولو لبثت دعوته ما لبث نوح في قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا [العنكبوت:14]. المهم أن يكون الطريق صوابًا، وليس المهم أن يكون الطريق قصيرًا لأن مع الصواب رضى الله جل جلاله، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أتباع نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن الذين يحشرون تحت لوائه، ومن الذين يردون حوضه فيسقون منه سقية، ويشربون شربة لا يظمأون بعدها أبدًا.
أسأل الله أن يجعلنا من المنيبين إليه, الخاشعين، الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون، واسمعوا قول الله جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه حقًا وتوبوا إليه صدقًا إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.
هذا وإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة، عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله؛ فإن بالتقوى فخاركم ورفعتكم عند لقائكم لربكم، فاتقوا الله حق التقوى بتعظيمكم أمره وإجلالكم له بالسر والعلن، فإن في ذلكم الفوز العاجل والآجل، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمرنا جميعًا بأمر جليل بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، ومصلحته عائدة لنا، فقال جل وعلا قولاً كريمًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [1] يعني من قال: اللهم صل على محمد وسلم تسليمًا كثيراً مرة واحدة، أثنى الله عليه بها في الملأ الأعلى عشر مرار.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] رواه مسلم عن أبي هريرة ح (408).
(1/1454)
عيد الحب: حقيقته وحكمه
الإيمان
الولاء والبراء
مصطفى بن سعيد إيتيم
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين وتمام النعمة. 2- محاسن الإسلام. 3- مكر اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية. 4- حال المسلمين اليوم. 5- حقيقة عيد الحب وتاريخه وحكمه. 6- تحريم موالاة الكفار والاحتفال بأعيادهم. 7- ضلال عقيدة النصارى. 8- معنى الحب في الإسلام والحث عليه. 9- تلبيس أعداء الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله -عبادَ الله- حقَّ التقوى، فتلكم هي الجُنَّة، وراقبوه في السر والنجوى، فذلكم طريق الجَنَّة.
أيها المؤمنون:
إن الله سبحانه قد حبانا بدين عظيم، وهدانا إلى صراط مستقيم، فيه الغُنيةُ والكفاية، وبه السعادة والهداية، منه الأمن والسلام، وإليه الحبُّ والوئام، من أقبل عليه أعزَّه الله بقدر ما تمسَّك وأخذ، ومن أعرض عنه أذلَّه الله بقدر ما ترك وجحد.
إن الدين قد كمُل بالإسلام، فلا نفتقر بعده إلى رأيِ مخترِع ولا هوى مبتدِعٍ ولا تصويت مقنِّنٍ مشرِّع، وإن النعمة قد تمَّت بالإيمان، فاكتملت الفرحة وتمَّ السرور فلا نحتاج بعد ذلك إلى موسم بدعي ولا عيد مفرِّح، ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة: 3].
ديننا -أيها المؤمنون- خير الأديان وأفضلها، وأتمُّ الشرائع وأكملها، جمع بين مصالح الأولى والأخرى؛ خدم الروح ولم يغفل الجسد، وأمَّ الآخرة ولم يهمل الدنيا، قال تعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا [القصص: 77].
ديننا -أيها المؤمنون- دين الوسطية؛ لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا إسرافَ ولا تقتير، لا غواية فيه ولا رهبانية، ولا غلوَّ ولا تقصير، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ?لنَّاسِ وَيَكُونَ ?لرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143].
فبالله عليكم، كيف يرضى المسلم لنفسه أن يضيِّع هذه المكانة التي جعلها الله بين يديه، وأن يرضى بالهوان والكتاب والسنة نصبَ عينيه؟! أم كيف يرضى لنفسه الأبيّة أن يكون مقودًا بعدما كان قائدًا، وأن ينقلب مقلِّدًا بعدما كان مرشدًا؟ كيف يرضى لنفسه أن يصبح ضالاً بعدما كان دالاً، وأن يصير عبدًا منفِّذا بعدما كان سيّدًا؟ ولكنه قول النبي : ((لتتبعُنّ سَنَنَ من كان قبلكم، شبرًا بشر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) [1].
أيها المسلمون:
ليس بخاف عليكم مكرُ اليهود والنصارى بالأمة الإسلامية، ومحاولتُهم القضاء على قيمها ومبادئها الأخلاقية، إنهم يبذلون في سبيل ذلك أعزَّ أوقاتهم وأنفسَ أموالهم، سخّروا لذلك العقول والطاقات، وسطَّروا المناهج والمخططات، ولقد -والله- أصابت سهامهم، وأثخنت رماحهم، كيف لا؟! والسنة الكونية تقرِّر أن من جدَّ وجد، ومن زرع حصد. فصرنا اليوم نرى مظاهر ما كنا نراها بالأمس القريب، صرنا نرى التفنّن في السفور والإمعان في التبرّج، صرنا نرى الجرأة على الدين والتبجّح بالمعاصي، ناهيكم عن التشكيك في ثوابت هذه الأمة، وزعزعة مبادئها وأصولها.
اذكروا معي -رحمكم الله- قبل بضع عشرة سنة كيف كانت المبادئ الأخلاقية والقيم المرضية منتشرة في المجتمع، كان الحياء والعفاف هو السائد في هذا المجتمع، كان الشاب لأن يحمل فوق ظهره جبلاً أهونُ عليه من أن يراه من يعرفه يمشي مع فتاة، وكذا شأنها هي بل أشد؛ إذا دخلا حيًا من الأحياء طردهما سكانُه، وإذا مشيا بين الناس كان شزَرُ أعينهم إليهما أشدَّ عليهما من الكلام اللاذع، ثم انظروا إلى ما صرنا إليه اليوم، واعتبروا يا أولي الألباب.
وها هي جيوش الكفر وجنود الإلحاد تَكِرّ من جديد، وتروّج لعيد ما أمكَرَه من عيد، عيدٍ سموه بغير اسمه تدليسًا وتلبيسًا، سمّوه باسم شريف، ليروج على التقي النقي العفيف، سموه عيد الحب وهو في الحقيقة عيد الخنا والرذيلة والعهر، ينشرون الرذائل في أثواب الفضائل، وهذه سنة إبليسية قديمة، فضحها الله في كتابه، وكشف أمرها لعباده، فقال عن مكر إبليس بأبينا آدم وأمنا حواء: وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف: 152].
فاحذروا أيها المسلمون، احذروا المضِلَّ الخائن الذي يأتي في لباس الناصح الأمين، إنه لو جاء في ثوبه، ما أدرك مطلوبه ولا وصل إلى إربه، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30].
فهل تعرفون حقيقة هذا العيد الفسقي البدعي الكفري؟! أتدرون قصته وتاريخه؟!
زعموا أن الرومان الوثنية كانت تحتفل في يوم 15 فبراير من كل عام، وكان هذا اليوم عندهم يوافق عطلة الربيع، وفي تلك الآونة والنصرانية في بداية دعوتها أصدر الإمبراطور كلايديس الثاني قرارا بمنع الزواج على الجنود، وكان رجل نصراني راهب يدعى فالنتاين تصدى لهذا القرار، فكان يبرم عقود الزواج خُفيةَ، فلما افتضح أمرُه حُكم عليه بالإعدام، وفي السجن وقع في حب ابنة السجّان، وكان هذا سرًّا لأنَّ شريعة النصارى تحرّم على القساوسة والرهبان الزواج وإقامة علاقات عاطفية، ولكن شفع له لديهم ثباتُه على النصرانية، حيث عرض عليه الإمبراطور أن يعفوَ عنه على أن يترك النصرانية ويعبُد آلهة الرومان، ويكون لديه من المقربين ويجعله صهراً له، إلا أنه رفض هذا العرض وآثر النصرانية، فأٌعدم يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلةَ 15 فبراير عيد الرومان، ومن ذلك الحين أطلق عليه لقب القديس. وبعدما انتشرت النصرانية في أوربا أصبح العيد يوم 14 فبراير، وسمي بعيد القديس فالنتاين، إحياءً لذكراه، لأنه فدى النصرانية بروحه، وقام برعاية المحبين زعموا.
هذه هي قصة هذا العيد، ومع ذلك وللأسف الشديد غُرِّر بكثير من الشباب والفتيات لضعف إيمانٍ من بعضهم وجهلِ وغفلة من آخرين، ونقص توجيهٍ وإرشادٍ من الدعاة الناصحين، غُرّر بهم فاغترّوا بهذا العيد، وراحوا يحتفلون به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فمن مظاهر ذلك لبسُ الفساتين الحمراء، وانتشار الورود الحمراء، وتبادل التهاني والتحيات، والهدايا والبرقيات، وتذكر الزوجات والخليلات، بل عَدُّوا ذلك من علامات الإخلاص في الحب، وأن من لم يهنِّئ زوجته في ذلك اليوم، أو لم يهد لها هدية فليس بمخلص لها في حبها، فإلى الله المشتكى.
ألا فليعلم هؤلاء وليعلم كل مسلم أن الاحتفال بهذا العيد من أعظم البدع الكفرية، وأنه محرّم في دين الإسلام، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم المعتبرين، إنه لو كان هذا العيد من إحداث المسلمين لكان الاحتفال به حرامًا لقوله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [2] ، ولقوله لما جاء إلى المدينة ووجد أهلها يلعبون في يومين هما من أعياد الجاهلية: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر)) [3] ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "استُنبِط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم، وبالغ الشيخ أبو حفص الكبير النسفي من الحنفية فقال: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيما لليوم فقد كفر بالله تعالى" [4].
إنه -يا عباد الله- لو كان هذا العيد من ابتداع المسلمين لكان الاحتفال به حرامًا فكيف وهو من ابتداع الكافرين الضالين؟! أما كفى العلماء والدعاةَ إلى الله -يا عباد الله- أن يحاربوا البدع التي أحدثها المسلمون بعد نبيهم، حتى نشغلهم بالبدع التي أحدثها المشركون في أديانهم؟!.
فاتقو الله رحمكم الله، اتقوه وابتغوا رضاه، واجتنبوا سخطه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام (7320)، ومسلم في كتاب العلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب السنة (4606)، ومسلم في كتاب الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه أحمد (12006)، وأبو داود في كتاب الصلاة (1134)، والنسائي في كتاب العيدين (1556)، والضياء في المختارة (1911) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحافظ في الفتح (2/442).
[4] فتح الباري (2/442).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرع لنا دينًا قويمًا، وهدانا صراطًا مستقيمًا، والحمد لله أكرمنا بالإيمان، وفضَّل ديننا على سائر الأديان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حذرنا من اتباع الكفار وموالاتهم، وأمرنا بمخالفتهم، فقال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَ?لْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة: 57]، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله القائل: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [1]. صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اعلموا أن الأعياد من شعائر الأديان، فمن دان بدين احتفل بأعياده، ولم يحتفل بأعيادِ سواه، واعلموا أن للانحراف طرقا وللضلال سبلاً، أخصرها موالاة الكفار، فإن كان للموالاة دليل، فدليله تقليدهم، فإن كان للتقليد عنوان، فعنوانه الاحتفال بأعيادهم.
فكيف يرضى مسلم بعد ذلك؛ كيف يرضى لنفسه ولمن يعول ويرعى أن يحتفل بعيد فسقي بدعي كفري، عيد الحب المزعوم؟! كيف يرضى أن يحتفل بعيد القسيس فالنتاين الذي كان يسبّ الله صباحَ مساء ويقول: إنه ثالث ثلاثة، وإنه اتخذ صاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقول الأفاكون علوًا كبيرًا.
ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: تَكَادُ ?لسَّمَـ?و?تُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ?لأَرْضُ وَتَخِرُّ ?لْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـ?نِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَـ?نِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ إِلاَّ اتِى ?لرَّحْمَـ?نِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَـ?هُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَرْداً [مريم: 88 ـ 95].
فاحذر يا عبد الله، احذر أن تكون السماء والأرض والجبال أغيرَ منك على الله تعالى، احذر أن تكون هذه الجمادات أفضل منك إذا أنت لم تكترث لما يقوله الأفاكون المبطلون، فرُحْت تحتفل بهذا العيد أو بغيره من أعيادهم الباطلة الزائفة.
أيُّ حبٍّ هذا الذي يحتفل به أعداء الإنسانية بل أعداء أنفسِهم؟ كم أبادوا من قرى، وقهروا من شعوب؟! كم نهبوا من أموال ودمَّروا من ممتلكات؟! اضطهدوا الإنسان باسم حقوق الإنسان، وقتلوا الأنفس باسم الدفاع عن النفس، أين حبُّ من يصنع أسلحة الدمار وعتاد الفساد، ثم يجرِّبها على أضعف العباد وأفقر البلاد؟! متى عرف الحبَّ من سفك دماء الأبرياء، ويتَّم الأطفال ورمَّل النساء، وأخذ البريء بجريرة المشبوه فضلا عن المسيء؟! إنه ما عرف العدل حتى يعرف الحب! كيف يُتَصوَّر حبٌ ممَّن خرق البنود والعقود، ونقض الوعود والعهود، وتجاوز المواثيق والأعراف، متى علمتم -يا عباد الله- الوحشَ استأنس؟! وهل تلد الأفاعي إلا الأفاعي؟!
أيها المسلمون:
إنه مهما تكلم الضالون عن الحب فإن إجرامهم يفضحهم، ومهما مجَّدوه وعظَّموه فنحن أولاهم به، نحن أولى الناس بالحب؛ عَقْدُ الدين مبني عليه، وأساس الإيمان راجع إليه، لا يؤمن أحدٌ ولا يأمن حتى يحب الله، ويحب دينه وأحكامه وشريعته، ولا يؤمن أحد ولن يأمن حتى يحب رسول الله ، ويحب آله وأزواجه وصحابته، لا يؤمن أحدٌ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير. المسلم يحب الخير وأهله، ويحب الخير للناس.
الملسم يحب والديه فيبرهما ولا يعصيهما، يأويهما ولا يرميهما، يرعاهما ولا يلقيهما في ديار العجزة كما هو حاصل في بلاد الغرب، ديار الكفر والفسوق والعصيان.
المسلم يحب أبناءه فيعولهم ولا يضيِّعهم، ويعدل بينهم ولا يظلمهم، ويرشدهم ولا يطردهم.
المسلم يحب زوجته فيحترمها ولا يحتقرها، ويوفيها حقها ولا يبخسها، ويعينها ولا يستغلها.
المسلم يحب إخوانه فينصحهم ولا يفضحهم، ويدعوهم ولا يقصيهم، ويحفظ أعراضهم ولا يغتابهم.
المسلم يحب نساء المؤمنين، يحبهن فيدفع الأذى عنهن ولا يؤذيهنّ، يحبهن فيحترمهنّ ولا يخلو بهن، يحبهم فيغض بصره عنهن ولا يسلّطه عليهن.
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها
سلوا المرأة في ديار الغرب، سلوها عن حياتها التعيسة، وعيشها المرير، إهانةٌ وإذلال، احتقارٌ واستغلال، لا يرحمها الزوج ولا الصديق، ولا الأخ ولا الرفيق، ولا الابن ولا اللصيق، إذا لم تُطعم نفسها بنفسها لم تَطعم، وإذا لم تؤمِّن لنفسها أسباب العيش وجدت نفسها ملقاة تحت جسر أو على قارعة الطريق، حقوقٌ مهضومة، وقوانين جائرة مشؤومة، وهذه حال كلِّ من أعرض عن كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الأحبة في الله:
إن الحب عند المسلمين معنى عظيمٌ شريف، يقول ابن القيم رحمه الله: " فبالمحبة وللمحبة وجدت الأرض والسموات، وعليها فطرت المخلوقات، ولها تحركت الأفلاك الدائرات، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها، واتصلت بداياتها بنهاياتها، وبها ظفرت النفوس بمطالبها، وحصلت على نيل مآربها، وتخلصت من معاطبها، واتخذت إلى ربها سبيلاً، وكان لها دون غيره مأمولاً وسؤلا، وبها نالت الحياةَ الطيبة وذاقت طعم الإيمان لما رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً" [2]. انتهى كلامه رحمه الله.
ولقد ضرب قدوتنا وحبيبنا المصطفى أروع الأمثلة للحب، فهذه الصديقة بنت الصديق تحكي لنا وفاءَه الصادق المستمر لخديجة فتقول: ما غرت على امرأة للنبي ما غرت على خديجة، هلكتْ قبل أن يتزوجني بثلاث سنين، لِما كنت أسمعه يذكرها، وفي لفظ: من كثرة ذكر رسول الله إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها ـ أي صديقاتها ـ منها ما يسعهن [3] ، هذا هو الحب الراسخ الذي يدل على صدقه العمل الصالح.
ومن حرصه على هذه المعاني العظيمة دلَّ أمَّته إلى ما يحقِّق لهم الحبَّ فيما بينهم، وأعظم من ذلك أنه جعل دخول الجنة معلقا على تحقيق هذه الخصلة الكريمة، فقال : ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) [4] ، وقال مبينا سببا آخر لتحقيق الحب: ((تهادوا تحابوا)) [5] ، وقال : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) [6] في أحاديث كثيرة تبيِّن حرصه الشديد على إفشاء الحب في المجتمع، والحث على الأسباب المعينة عليه، والتحذير من كل ما يضعفه أو يذهبه.
ثم ترى هؤلاء الأفاكين المبطلين، وحلفاءهم من ضعفة النفوس والمنافقين، وأذنابهم من المخدوعين المغرورين، يستغلون هذا الاسم بدهاء، ويستخدمونه بمكر، ويطلقونه كذبًا وزورًا على العلاقات الغرامية، والأحلام الوهمية التي سرعان ما تتبخر في أرض الواقع، وتخفق في أرض التجربة.
إننا ـ والله ـ في زمان انقلبت فيه الموازين واختلت فيه المقاييس والتبست الحقائق، وسميت فيه الأشياء بغير أسمائها؛ فسمي الفسوق والخنا والفجور والزنا حبًا، وسميت العفة والحياء والحشمة والوفاء مرضًا، وسميت العلاقة الزوجية الكريمة والحياة الأسرية النبيلة عبئا وقيدًا، وسمي قطع الطريق وقتل الأبرياء جهادًا، وسمي الجهاد الحق، الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه وإعلاء كلمته، سمي إرهابًا، وسمي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتداءً وتدخلا في الشؤون الخاصة، وسميت التقاليد البالية والعادات الدنية تراثًا وثقافة، وسمي التمسك بالدين وإحياء السنة رجعية وتخلفًا، وسمي تقليد الكفار ومشابهة الفجار رقيًا وتقدمًا، وسمي الرقص والغناء والمجون والبغاء فنًا، إنها ـ والله ـ لمن أشراط الساعة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا عبد الله، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]، لا يغرنك ما هم عليه، فإنها دنيا زائلة، وَ?لآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [الأعلى: 17]، كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـ?هَا [النازعات: 46]، واحذر هذه الأعياد البدعية الكفرية، وحذر الناس منها، اعتزَّ بدينك، وتميَّز عن الضالين من غيرك، اربأ بنفسك أن تسير على آثارهم، أو تتأثر بأفكارهم، واسأل الله دائما الهداية والتثبيت.
ويا أمة الله، لا يستخفنَّك الذين لا يوقنون، ولا يضلنك الذين لا يؤمنون، اعتزي بدينك، وافخري بأعيادك، وحافظي على شخصيتك وهويتك، وإياك ثم إياك من تقليد الكفار ومشابهتهم؛ فإنه طريق الدمار وسبيل النار. نسأل الله السلامة والعافية.
[1] أخرجه أحمد (2/50، 92)، وأبو داود في كتاب اللباس (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الحافظ في الفتح (6/98): "في الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتمامه"، وحسنه الألباني في تعليقه على المشكاة (4347).
[2] من مقدمة روضة المحبين ونزهة المشتاقين.
[3] أخرجه البخاري في المناقب (3816)، ومسلم في الفضائل (2435).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (594)، والبيهقي في الكبرى (6/169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسن إسناده الحافظ في التلخيص (3/70)، والألباني في الإرواء (1601).
[6] أخرجه أحمد (17171)، والبخاري في الأدب المفرد (542)، وأبو داود في الأدب (5124)، والترمذي في الزهد (2392) من حديث المقدام رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب، وفي الباب عن أبي ذر وأنس"، وصححه ابن حبان (2514)، وهو في السلسلة الصحيحة (417).
(1/1455)
أحوال القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأثير الفتن على القلوب. 2– أنواع القلوب. 3– علامات مرض القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عن حذيفة بن اليمان قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض)) [رواه مسلم].
بيّن النبي حال القلوب عندما تتعرض للفتن والفتن نوعان فتن الشهوات التي تحول بين العبد وبين طاعة أمر الله ورسوله وفتن الشبهات التي تحول بين العبد وبين تصديق خبر الله ورسوله، فبين أن الفتن تؤثر في القلب كتأثير أعواد الحصير في جنب النائم عليه، فالقلب الذي أُشْرب الفتنة أي تخللته الفتنة كما يتخلل الشراب في الإسفنج ظهرت عليه علامة سوداء ثم ظلت هذه العلامات السود تزداد حتى يصبح هذا القلب أسود وفي لونه رُبْدة وهي لون بين السواد والغبرة كالكوز المقلوب لا ينفذ إلى داخله نور ولا ضياء، وأما القلب الذي أنكر الفتنة ورفضها واعتصم بالله تعالى فإنه تظهر عليه علامة بيضاء ثم تزداد هذه العلامات البيض حتى يتحول قلبه إلى قلب أبيض منير لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض.
عن أبي هريرة قال رسول الله : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صُقل قلبه وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) [رواه الترمذي والنسائي].
وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله : ((القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلبٌ أغلف مربوطٌ على غلافه وقلب منكوس وقلب مصفح فأما القلب الأجرد فقلب مؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه)) [رواه أحمد وحسنه ابن كثير في تفسيره 1/87].
قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [الإسراء:2].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال رسول الله : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) [رواه البخاري ومسلم].
وقد بين الله سبحانه في كتابه الكريم أن القلوب على ثلاثة أقسام :
أ - القلب السليم: الذي سلم من أمراض الشبهات ومن أمراض الشهوات وهو القلب الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من جاء به قال تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89]. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: إذ جاء ربه بقلب سليم [الصافات].
ب - القلب الميت وهو قلب الكافر وقد صار عليه غلاف يمنع وصول الحق إليه، قال تعالى: وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً وهو القلب القاسي، قال تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [البقرة].
ج- القلب المريض بمرض الشهوات كما في قوله تعالى: ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [الأحزاب].
أو بمرض الشبهات كما في قوله تعالى: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [النور].
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
إن لمرض القلوب أعراضاً وعلامات منها: تقديم العبد حظه وشهوته على طاعة ربه ومحبته قال تعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً [الفرقان:43]. قال بعض السلف هو الذي كلما هوى شيئاً ركبه.
ومن العلامات: أن صاحبه لا تؤلمه جراحات المعاصي كما قيل: وما لجرح بميت إيلام، فالقلب الصحيح السليم يتوجع بالمعصية ويتألم كما قال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف:201].
ومنها: الإعراض عن الأغذية النافعة للقلب كتلاوة القرآن وذكر الله وطاعته والعلم النافع واستبدالها بالسموم القاتلة للقلب كسماع الغناء والمحرمات والنظر إلى ما حرم الله.
أيها المسلمون: إن الإنسان إذا مرض قلبه فلم يبادر بالعلاج وتناول الدواء واستمر على تعاطي ما يزيد في مرضه يوشك أن يموت قلبه.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1456)
أسباب النصر وأسباب الهزيمة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب الهزيمة وأسباب النصر. 2- حال المسلمين اليوم. 3- كيفما تكونوا يولِّي عليكم.
4- التحذير من إضاعة الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : ((خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سُلّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة لا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر)) [رواه الطبراني وهو حسن، انظر: صحيح الجامع 3240].
وفي رواية: ((ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديداً)).
يبين لنا النبي أسباب النصر وأسباب الهزيمة فنقض عهد الله وعهد رسوله - أي معصية الله ورسوله - هو سبب الهزيمة وتسلط الأعداء وتحكيم القوانين التي وضعها البشر والإعراض عن حكم الله هو سبب الفقر والاختلاف والتفرق الذي يعاني منه المسلمون، وفي المقابل فإن طاعة الله ورسوله هي سبب النصر قال تعالى: إن تنصروا الله ينصركم ويثب أقدامكم.
مرّ سعد بن أبي وقاص يوم القادسية على معسكرات الجيش بالليل فمر بقوم يصلون فقال: من ههنا يأتي النصر، ومر بقوم نيام فقال: ومن هنا تأتي الهزيمة، رغم أن هؤلاء ناموا عن صلاة مستحبة ليست واجبة إلا أن سعداً رأى أن التكاسل عن المستحبات من أسباب الهزيمة.
ومر قتيبة بن مسلم – أحد القواد الفاتحين الكبار – على محمد بن واسع – أحد عبّاد التابعين – وهو رافع أصبعه إلى السماء يدعو وكانت الترك قد أغارت على خراسان وكان قتيبة أمير خراسان فقال قتيبة: أصبعه تلك أحب إليّ من ثلاثين ألف عنان – أي من ثلاثين ألف فارس.
فكيف ينتظر المسلمون أن ينصرهم الله وقد فشا في المسلمين تضييع الصلاة والزكاة وأكل الربا وانتشرت في بلادهم الحانات والمراقص ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا انتشر الخبث وكثر عم البلاء قيل: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) ، وقال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [الأنفال]. فإذا أراد المسلمون النصر المبين فعليهم أن يغيروا ما بأنفسهم، قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد].
ولكن المسلم لا ييأس من رحمة الله فإن الله تعالى قد ينصر المسلمين لأجل ضعفائهم من المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فقد قال : ((إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)).
وعلى قدر ما في عامة الناس من الخير والعدل يكون الخير والعدل في أمرائهم وحكامهم قال ابن القيم – رحمه الله -: (تأمّل حكمة الله تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه، كيف يسلط الله عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها، وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وولاتهم من جنس أعمالهم بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ملوكهم فإن استقاموا استقامت ملوكهم وإن عدلوا عدلت عليهم وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا به عليهم..
وقيل لعلي : لم كثرت الفتن في عهدك ولم تكن كذلك في عهد أبي بكر وعمر؟ فقال : كان أبو بكر وعمر أميرين على مثلي وأنا اليوم أمير على مثلك.
أيها المسلمون: إن من أعظم مظاهر إضاعة الدين إضاعة الصلاة فكم ممن ينتسب إلى الإسلام قد أضاع الصلاة إما أنه لا يصليها بالكلية أو لا يصلي إلا الجمعة أو يضيع أوقات الصلاة.
قال : ((لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة)) وقال : ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) [مسلم عن جابر].
((الصلاة عمود الدين من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين)).
وهي أول ما يحاسب عليه العبد وهي آخر وصايا رسول الله : ((الصلاة الصلاة)) ووصف الله تعالى المؤمنين بقوله: والذين هم على صلاتهم يحافظون.
وقال تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
وقد أخبر النبي أنه ستكون بعده أمراء يميتون الصلاة يصلونها في غير وقتها فقال : ((صل الصلاة لوقتها ثم صل معهم فإنها تكون لك نافلة)).
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1457)
الأخوّة الإيمانية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الأخوّة الإيمانية. 2- أركان الإسلام من دعائم الأخوّة. 3- المسلم أخو المسلم. 4-
مؤاخاة النبي بين أصحابه. 5- صور للأخوة الصادقة عند السلف. 6- نسخ التوارث
بالمؤاخاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال تعالى: إنما المؤمنون إخوة [الحجرات:10].
وقال تعالى: وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم [الأنفال:63].
وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [التوبة:71].
في هذه الآيات الكريمة يأمر الله تعالى جميع المؤمنين بالتآخي والتحاب والتراحم، ويبين سبحانه أن أخوة الإيمان أعظم حقاً من أخوة النسب إذا وقع التعارض بين الأخوّتين، فلو كان لمسلم أخ كافر من النسب فإنه يفضّل عليه كل مسلم ولو لم يربط بينهما النسب.
وهذا المعنى عبر عنه مصعب بن عمير حين قال لرجل من الأنصار في غزوة بدر رآه قد أسر أخاه أبا عزيز بن عمير قال: اشدد وثاقه فإن له أماً غنية ستفديه، فقال أبو عزيز لمصعب: أهكذا وصاتك بأخيك؟ فقال مصعب: (إنه أخي دونك) [رواه ابن إسحاق وابن هشام].
ولقد كان من الحكم العظيمة لأركان الإسلام الخمسة إرساء دعائم الأخوة الإيمانية، فالشهادتان هما الشعار الجامع للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والصلاة شرع أداؤها في جماعة ليجتمع المسلمون في الصلوات الخمس اجتماعاً صغيراً ثم يأتي الاجتماع الأكبر لأهل الحي في صلاة الجمعة ثم اجتماع أكبر لأهل البلد في صلاة العيد والغرض من هذه الاجتماعات أن يتعارف المسلمون وأن يتآلفوا ويتعرفوا على حوائج من يحتاج منهم إلى مساعدة.
ثم الزكاة تؤدي إلى التآخي والتراحم بين الأغنياء والفقراء.
ثم الصيام صورة لاجتماع المسلمين على شعيرة ظاهرة يمسكون عن الطعام في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد، ويشعر الصائمون بحاجة الجائعين.
ثم الحج اجتماع للمسلمين يضم وفوداً من كل فج عميق من فجاج الأرض فيتعرف المسلمون من خلاله على أحوال إخوانهم في شتى بقاع الأرض.
ولقد كثر التعبير عن المسلم بالأخ في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيه حتى إن الله سبحانه سمي ولي القتيل أخاً للقاتل فقال تعالى: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف [البقرة].
وسمي أهل الجنة إخواناً فقال: إخواناً على سرر متقابلين [الحجر].
وقال تعالى: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه [الحجرات].
وقال: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً [آل عمران].
ويقول : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) [رواه البخاري].
ويقول : ((يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)) [ابن حبان وأبو نعيم عن أبي هريرة، الصحيحة 33].
وقد آخى النبي بين أصحابه مرتين، مرة بمكة آخى فيها بين المهاجرين، وكان الغرض من هذه المؤاخاة – كما بين الحافظ ابن حجر في الفتح (15/129) أن بعض المهاجرين كان أكثر مالاً أو أقوى عشيرة، ليحسن الأعلى إلى الأدنى وينصره، وليعين الأدنى الأعلى فيما يحتاج إلى الإعانة فآخى النبي بينه وبين علي بن أبي طالب حيث كان يقول بتربية علي منذ صباه وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة رضي الله عنهما لأن زيداً كان مولاهم.
ثم كانت المؤاخاة في المدينة بين المهاجرين والأنصار، وكانوا مائة وخمسين من كل فريق، وكانت المؤاخاة على الحق والمواساة والتوارث بعد الممات دون ذوي الأرحام كما روى ذلك البخاري عن ابن عباس، ثم نسخ التوارث وبقيت المؤاخاة على المواساة والنصيحة.
ومما روي في أمر التطبيقات العملية لهذه المؤاخاة، قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، حين قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: (لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟) فدل على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم أخذ يتردد على السوق، يبيع ويشتري حتى استغنى بماله عن مال أخيه سعد، وتزوج امرأة من الأنصار، أمهرها بنواة من ذهب، وطلب منه الرسول أن يولم ولو بشاة بهذه المناسبة.
آخى الرسول بين أصحابه ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويستأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة، ويشد بعضهم أزر بعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، وانخرطوا في الحياة، وعرفوا وسائل اكتساب الرزق، أبطل الله التوارث بالمؤاخاة، وأبقى أخوة المؤمنين، وأنزل في ذلك: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم ، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً كان ذلك في الكتاب مسطوراً.
وكان ذلك في وقعة بدر، وروي أنه كان بعد أحد. روى البخاري ما ذكر ابن عباس أن ما ألغي من نظام المؤاخاة هو الإرث، أما النصر والرفادة والنصيحة فباقية، ويمكن أن يوصى ببعض الميراث بين المتآخين، وإلى هذا المعنى ذهب النووي.
نسأل الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين وأن يجمع كلمتهم على الحق، اللهم آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1458)
الخوف من الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخوف والرجاء. 2- تعريف الخوف. 3- أسباب الخوف من الله. 4- فضل الخشية من الله
تعالى. 5- ثمرة الخوف من الله. 6- الخوف المحمود في الكتاب والسنة. 7- الخوف من الله
سبب المغفرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن شداد بن أوس أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، إن أَمِنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمّنته يوم أجمع عبادي)) [رواه ابن المبارك وأبو نعيم والبزار وحسنه الألباني صحيح الجامع 4208].
قال المناوي: من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس.
الخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون، يتسابقون بها إلى رضوان الله وجنته، فهما كالجناحين للطائر إذا انكسر أحدهما لم يستطع الطيران.
وحديثنا اليوم عن الخوف.
الخوف هو تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل وهو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات قال تعالى: فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف:99].
ولابد أن يجمع العبد بين الخوف والرجاء لأن الخوف إذا لم يكن معه رجاء في رحمة الله تعالى أدى بصاحبه إلى اليأس والقنوط من رحمة الله قال تعالى: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87]. وقال تعالى: ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون [الحجر:56].
الخوف من الله تعالى تارة يكون للمعرفة بالله تعالى والمعرفة بصفاته وأنه الجبار المتكبر المنتقم من المجرمين وتارة يكون لمعرفة العبد بكثرة جنايته ومعرفته بعيوب نفسه فأخوف الناس من الله تعالى أعرفهم بربه وأعرفهم بنفسه.
قال الله تعالى: إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء [فاطر:28].
قال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً.
قيل لأحمد بن حنبل: هل كان مع معروف الكرخي شيء من العلم قال: معه رأس العلم: خشية الله، وقد حذر من عدم إبصار عيوب النفس عن أبي هريرة مرفوعاً: ((يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه)) [ رواه ابن حبان وأبو نعيم وصححه الألباني].
ولهذا جمع النبي بين العلم بالله والخوف منه في قوله : ((والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)) [رواه البخاري ومسلم].
وإنما أخبر رسول الله عن نفسه بأنه أشد الناس خشية لله عن وحي من الله تعالى وإلا فالمؤمن يخاف ألا يكون خائفاً قال الفضيل بن عياض: إذا قيل لك: هل تخاف الله؟ فاسكت فإنك إن قلت: لا كفرت، وإن قلت: نعم كذبت. وهذا يفيد أن الخائف من الله تعالى في الحقيقة يتهم نفسه ويخاف ألا يكون خائفاً.
ثمرة الخوف من الله ترك المعاصي والهرب إلى الله، فالخوف من الله تعالى يكون بترك ما تخاف أن يعاقبك عليه، وقال بعض السلف: من خاف شيئاً هرب منه، ومن خاف الله تعالى هرب إليه.
ومن تأمل أحوال الأنبياء والصحابة والصالحين وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، فهم جمعوا بين الإحسان والخوف، ونحن جمعنا بين الإساءة والأمن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من خاف الله تعالى أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله تعالى أخافه الله من كل شيء.
الخوف المحمود في الكتاب والسنة أنواع:
1- الخوف من الله تعالى، قال تعالى: وخافونِ إن كنتم مؤمنين [آل عمران:175].
2- الخوف من النار ومن عذاب الله قال تعالى: واتقوا النار التي أعدت للكافرين [آل عمران].
3- الخوف من فوات الجنة والحرمان من النعيم، قال أبو بكر الصديق : لو أن إحدى رجلي بالجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله.
4- الخوف من سوء الخاتمة، قال سفيان الثوري رحمه الله: الذنوب أهون علي من هذه، ولكن أخاف من سوء الخاتمة.
5- الخوف من الذنوب التي عملها الإنسان، حتى لو تاب يخاف من عدم قبول التوبة.
6- الخوف من عدم قبول الطاعات التي عملتها.
قال تعالى يقص علينا خبر أهل الجنة: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [الطور:25-28]. مشفقين أي خائفين من الله وخائفين من معاصينا.
وقال تعالى: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [المؤمنون:57-61].
جاء في تفسير هذه الآيات أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت النبي فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)) [رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
الخوف من الله قد يكون سبباً في مغفرة عظائم الذنوب، فقد أخبر النبي عن رجل ممن كان قبلنا أشفق على نفسه من كثرة ذنوبه، فأوصى أهله إذا مات أن يحرقوه وأن يذروا رماده في ليم قال: فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ففعلوا فجمعه الله فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر الله به. [رواه البخاري ومسلم].
فهذا الرجل شك في قدرة الله على جمعه وشك في البعث، ولكن حمله على ذلك الخوف من الله فغفر الله له لوجله ولخوفه من الله.
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)) [رواه الترمذي والحاكم وصححه الذهبي والألباني].
أدلج أي سار من أول الليل، والمعنى بادر بالتوبة وبالأعمال الصالحة مخافة أن تعيقه العوائق عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1459)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف النصيحة. 2- معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامة
المسلمين. 3- النصح وظيفة الرسل. 4- النصيحة حق من الحقوق. 5- نماذج من نصح السلف
للحكام. 6- آداب النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد روى مسلم عن تميم الداري قال رسول الله : ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ، هذا حديث جليل عدّه بعض السلف رُبع الدين أي أحد أربعة أحاديث يقوم عليها الدين.
والنصيحة في اللغة هي الإخلاص وتخليص الشيء من الشوائب وإصلاح الخلل وهي في الشرع كلمة جامعة جعلها النبي ترادف الدين فإذا ضاعت النصيحة ضاع الدين، والنصيحة لله تعالى هي توحيده وعبادته وطاعة أمره وترك نهيه.
والنصيحة لكتاب الله إتقان تلاوته وفهم معانيه والعمل بأحكامه، والنصيحة لرسول الله محبته وطاعته وتصديقه والعمل بسنته، والنصيحة لأئمة المسلمين تشمل نصح الأمراء والعلماء فنصيحة الأمراء بكفهم عن الظلم وجمع كلمة الناس عليهم وإعانتهم على الخير والنصيحة للعلماء بتوقيرهم ونشر علومهم وإحسان الظن بهم.
والنصيحة لعامة المسلمين بأن تحب لهم من الخير ما تحبه لنفسك وأن ترشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وألاّ تغشهم.
وقد أرسل الله تعالى رسله الكرام ليكونوا ناصحين لأقوامهم، قال تعالى عن نوح عليه السلام: أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون [الأعراف:62]. وقال تعالى عن هود عليه السلام: وأنا لكم ناصح أمين [الأعراف:68]. وقال تعالى عن صالح عليه السلام: ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين [الأعراف:79].
والنصيحة من حق المسلم على أخيه المسلم روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : ((حق المسلم على المسلم ست إذا لقيته فسلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاتبعه)).
وروى البخاري عن جرير بن عبد الله أن رسول الله بايعه على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، فروى الطبراني أن جريراً اشترى من رجل فرساً فقال البائع: بثلاثمائة فقال جرير: إنه خير من ثلاثمائة فما زال يزيده حتى أعطاه ثمانمائة، وروى ابن حبان أن جريراً كان إذا اشترى شيئاً أو باعه قال لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر، وروى أبو داود عن أبي هريرة والطبراني عن أنس رضي الله عنهما قال : ((المؤمن مرآة المؤمن)) [صححه الألباني صحيح الجامع 6655]. أي المؤمن ينصح أخاه ويريه عيوبه كما يرى الإنسان نفسه في المرآة.
كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتناصحون فيما بينهم ويقبلون النصيحة ولو كان الناصح دونهم في السن أو العلم أو الجاه وحذروا من رد النصيحة، قال ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم [البقرة]. هو الرجل ينصح أخاه فيقول: [عليك نفسك] أو [مثلك لا ينصحني].
وقد كان لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم مواقف إيمانية عظيمة في نصح الحكام لا تأخذهم في الله لومة لائم وهذه نماذج منها:
- دخل محمد بن سيرين على ابن هُبيرة أمير البصرة فقال لابن سيرين: ماذا رأيت مذ قربت من بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، فغمزه ابن أخيه، فقال: إنك لست تُسأل، ولكن أنا أُسأل، فلما انصرف أرسل إليه الأمير بثلاثة آلاف فلم يأخذها.
- ودخل سفيان الثوري على الخليفة المهدي فنصحه وأغلظ له في القول فقال له وزير المهدي: تكلم أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال له سفيان: اسكت ما أهلك فرعون إلا هامان، فلما ولّى سفيان قال الوزير للمهدي: أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال له: اسكت، ما بقي على وجه الأرض من يُستحيا منه غير هذا.
- وكان الإمام النووي رحمه الله كثيراً ما ينصح الظاهر بيبرس وكان الظاهر يقول: إني أخاف من هذا الرجل، إذا رأيته كأني رأيت سَبُعاً.
- وخرج السلطان أيوب في يوم عيد في عساكر وأبهة والأمراء يقبلون الأرض بين يديه فرآه العز بن عبد السلام فقال: يا أيوب ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا، قال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور فقال السلطان: يا سيدي هذا ما أنا عملته هذا من زمان أبي فقال العز: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف]. فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة، فقيل للعز بن عبد السلام: أما خفته؟ فقال: استحضرت هيبة الله تعالى، فكان السلطان في عيني كالقط.
قال السلف رحمهم الله: من خاف الله تعالى أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله تعالى أخافه الله من كل شيء.
أيها المسلمون: للنصيحة آداب لابد من مراعاتها أهمها:
1- الإخلاص لله تعالى فيها وألا يكون الغرض منها الشماتة في المنصوح والفرح بأنك ظفرت له بعيب فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، ولا يجوز للمسلم أن يشمت في أخيه المسلم بل يحب له ما يحب لنفسه.
2- أن تكون النصيحة سراً إلا إذا كان المنصوح مجاهراً بالفسق أو البدعة يدعو الناس إليه أو تقتدي به الناس في بدعته أو فسقه فيمكن أن ينصح علناً من باب تحذير المسلمين قال بعض السلف: من نصح أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن نصحه علانية فقد فضحه وشانه.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التعيير لا أرضى استماعه
3- أن يسلك الناصح أفضل الوسائل التي يرجى معها استجابة المنصوح فيمكن أن يُعرِّض فيقول: ((ما بال أقوام يفعلون كذا)) ويمكن أن يهدي إليه شريطاً أو كتاباً، وكذلك على الناصح اختيار الوقت الملائم حتى لا يعين الشيطان على أخيه.
أيها المسلمون: لما جَبُن الناس عن النصيحة فشت فيهم الغيبة فصاروا إذا رأى أحدهم عيباً في أخيه لم ينصحه في وجهه بل فضحه به في غيابه والغيبة من كبائر الذنوب.
عن أنس قال: قال رسول الله : ((لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) [رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 533].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1460)
العفو
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات المتقين. 2- فضل كظم الغيظ وكف الغضب. 3- الحث على العفو والصفح. 4-
نماذج من عفو النبي. 5- نماذج من عفو الأنبياء والصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
1- قال تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذي ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
أثنى الله على عباده المتقين ووصفهم بالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس والإحسان إلى الخلق، ووعدهم جنة عرضها السموات والأرض فكيف بطولها؟ وأخبر سبحانه أنه يحبهم.
2- عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: ((ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة)) [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
3- قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى والعافين عن الناس أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال. أ.هـ.
مراده بأكمل الأحوال أي الأربعة:
أ- جزاءه السيئة بأسوأ. ب- جزاء السيئة بمثلها. ج- العفو عن المسيء. د- الإحسان إلى المسيء. ((صل من قطعك واعف عمن ظلمك وأحسن إلى من أساء إليك)).
4- أمر الله تعالى بالعفو والصفح في مواضع من كتابه منها قوله تعالى في خطاب نبيه : ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)).
5- قال ابن كثير: المراد بالفظ هنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك: غليظ القلب، أي لو كنت سيئ الكلام قاسي القلب لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم.
كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
6- ومنها قوله سبحانه تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون.
7- ومنها وقوله سبحانه: وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين.
8- ومنها قوله عز شأنه: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
9- ومنها قوله عز شأنه: فاصفح الصفح الجميل.
10- نماذج من عفو النبي :
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال : ((قد لقيت من قومي وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرية الثعالب فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت منهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بما شئت فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا)) [رواه البخاري ومسلم].
عن أنس كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذةً شديدة فنظرت إلى صفحة عنقه اليمنى وقد أثرت بها حاشية البردة من شدة جبذته.
11- ومن عفوه ، جاء في حديث ابن مسعود كأني أنظر إلى رسول الله يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) [متفق عليه].
12- وكذلك كان العفو من هدي الرسل الكرام.
فهذا نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم حسده إخوته وألقوه في الجب ونال منهم ألواناً من الأذى. ثم هو يقول لهم: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
13- وأبو بكر الصديق خير الناس بعد الأنبياء، كان من قرابته مسطح بن أثاثة وكان أبو بكر ينفق عليه ويحسن إليه فلما خاض مسطح فيمن خاض في حادثة الإفك، حلف أبو بكر ألا يحسن إليه كما كان يحسن في السابق فعاتبه ربه عز وجل وأنزل: ولا يأتل ألوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إليه وكفّر عن يمينه.
14- زين العابدين أتت جاريته تصب الماء عليه فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجه فقالت: والكاظمين الغيظ فقال: كظمت غيظي، قالت: والعافين عن الناس قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين، قال: أنت حرة لوجه الله.
15- عفو الإمام أحمد عمن أساء إليه.
16- عفو شيخ الإسلام ابن تيمية.
17- عن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي جالس فجعل النبي يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال: إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأبقى مع الشيطان ثم قال: يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغض عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة.
18- عن أبي هريرة قال : ((ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) [مسلم].
19- العفو من شيم الكرام:
قال الإمام الشافعي:
أحب من الإخوان كل مواتي وكل غضيض الطرف عن عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده ويحفظني حيا وبعد مماتي
فمن لي بهذا ليت أني أصبته لقاسمته مالي من الحسنات
تصفحت إخواني فكان أقلهم على كثرة الإخوان أهل ثقات
وقال أيضاً:
أقبل معاذير من يأتيك معتذراً إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1461)
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل أبي بكر وعمر. 2- قصة إسلام عمر. 3- خوفه من الله تعالى. 4- صفاته
الخلقية. 5- من مناقبه. 6- هجرته ومشاهده. 7- توليه الخلافة. 8- دخوله الشام. 9-
استشهاده.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فحديثنا اليوم عن الوزير الثاني لرسول الله أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي وأرضاه، وما أكثر ما كان يقال جاء رسول الله وأبو بكر وعمر، وخرج رسول الله وأبو بكر وعمر.
فهما وزيراه اللذان هما هما لفضائل الأعمال مستبقان
وقد تزوج النبي ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما كما تزوج عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما إكراماً لصاحبيه اللذين هما جاراه في قبره لا يشاركهما في هذه المنقبة أحد إلا عيسى بن مريم عليهما السلام فيما رواه البخاري في التاريخ أنه عليه السلام عندما يموت في آخر الزمان يصلي عليه المسلمون ويدفن بجوار النبي وأبي بكر وعمر.
عن جابر بن عبد الله قال رسول الله : ((أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس)) [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
وقال : ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) [رواه أصحاب السنن عن ابن مسعود وابن عمر وحذيفة وأنس، الصحيحة 1233].
كان النبي يدعو الله تعالى أن يعز به الإسلام فاستجاب الله دعاءه، وفي قصة إسلامه أنه سمع النبي يقرأ سورة الحاقة وهو قائم يصلي عند الكعبة، فقال في نفسه: هذا شاعر، فسمع قوله تعالى: وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون فقال عمر في نفسه: إذن هو كاهن، فسمع قوله تعالى: ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين فشرح الله صدره للإسلام وكذلك أيضاً أنه دخل على أخته فاطمة وزوجها وعندهما خباب يعلمهم القرآن فاستمع إلى الآيات من سورة طه فلما أسلم ضرب النبي صدره ثلاثاً وهو يقول: ((اللهم أخرج ما في صدره من غل وأبدله إيماناً)).
كان إسلامه عزة للإسلام قال ابن مسعود: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) [رواه البخاري].
وقال ابن مسعود عن عمر: (كان إسلامه فتحاً، وهجرته نصراً، وكانت إمارته رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر) [رواه ابن هشام وابن سعد].
سماه النبي الفاروق: أي الذي يفرق بين الحق والباطل.
كان شديد الخوف من الله تعالى حتى حفرت الدموع خطين أسودين في وجهه من كثرة البكاء، ومن خاف الله تعالى أخاف الله منه كل شيء، فعن سعد بن أبي وقاص أن النبي قال لعمر: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)) [رواه البخاري ومسلم]. وعن بريدة أنه قال: ((إن الشيطان ليفر منك يا عمر)) [أحمد والترمذي صحيح الجامع 1650].
ولد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة، وتوفي وله ثلاث وستون سنة في مثل عمر النبي وأبي بكر.
وكان عمر طويلاً جسيماً أصلع أسمر، وكان لفرط طوله يركب الدابة فيرفع رجليه عن الأرض لئلا تمس رجلاه الأرض وهو راكب ولذا كان يقال له: (الراجل الراكب).
وكان يجيد الكتابة بكلتا يديه، وكان في الجاهلية سفير قريش لدى القبائل إذا وقع بينهم حرب أو مفاخرة.
وكان نقش خاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر).
عن عقبة بن عامر أن النبي قال: ((لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب)) [أحمد والترمذي صحيح الجامع 5160].
بشره النبي بالجنة مراراً وبشره بالشهادة في سبيل الله، ورأى له الرؤى التي تدل على فضله وشرفه، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى رأيت الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر)) قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: ((العلم))، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رأيتني في المنام والناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها إلى كذا، ومر عمر بن الخطاب يجر قميصه)) فقيل يا رسول الله: ما أولت ذلك قال: ((الدين)).
هاجر وشهد بدراً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها مع رسول الله حتى توفي وهو عنه راض ثم كان قاضياً لأبي بكر ووزيراً له مدة خلافته إلى أن حضرت أبا بكر الوفاة فاستخلفه من بعده، وكلمه بعض الناس في شدة عمر وقالوا له: ماذا تقول لربك إذا سألك من استخلفت عليهم قال أقول: (قد استخلفت عليهم خير خلقك).
فلما ولي عمر الخلافة سار بأحسن سيرة وقال للناس: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
وفتح الله له الفتوح العظيمة في مشارق الأرض ومغاربها.
وهو أول من اتخذ الدرة يؤدب بها المسيء، وأول من سمي بأمير المؤمنين، وأول من أرخ بالتاريخ الهجري.
كان في مدة خلافته من أشد الناس زهداً وتواضعاً في لباسه وطعامه ومركبه يلبس الخشن من الثياب، ويأكل الخشن من الطعام.
ولما حدثت مجاعة في عهده أخذ على نفسه ألا يأكل إلا ما يأكله فقراء المسلمين، فكان يأكل الخبز اليابس بالزيت.
ولما ذهب إلى الشام ليستلم مفاتيح بيت المقدس ذهب وثوبه مرقع ومعه حمار يتناوب ركوبه هو غلامه، وجاء عليه الدور ليمشي عند الوصول فأصر على أن يدخل على وجهاء الشام ماشياً وغلامه راكب.
ولما قدم وفد المسلمين ومعهم الهرمزان - وكان قائداً من قواد كسرى - دخلوا على عمر وقد نام في المسجد وتوسد برنساً كان قد أعده لاستقبال الوفد فجعل الهرمزان يقول: أين عمر؟ قالوا: هو ذا ويخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه وجعل الهرمزان يقول: أين حُجّابه؟ وأين حرسه؟ قالوا: ليس له حجاب ولا حرس ولا كاتب، فقال: هذا ينبغي أن يكون نبياً، فقالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء، وقد أسلم بسبب ذلك الهرمزان.
قال حافظ إبراهيم في قصيدته العمرية:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها سوراً من الجند والأحراس يحميها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت ،ـوم قرير العين هانيها
ولأجل ما فتح الله على يديه وما حصل للإسلام من عز في عهده حقد عليه أعداء الإسلام ودبروا مكرهم للانتقام منه، فقتله أبو لؤلؤة المجوسي وهو قائم يصلي بالناس صلاة الفجر إماماً، فختم له بالشهادة وأرضاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1462)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم خلق النبي. 2- فضل حسن الخلق والحض عليه والتحذير من مساوئ الأخلاق.
3- حقيقة حسن الخلق. 4- الخلق كسبي ووهبي. 5- مكارم الأخلاق من مقاصد بعثته.
6- خلقه.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أثنى الله عز وجل في كتابه الكريم على نبيه فقال: وإنك لعلى خلق عظيم وفي هذا أعظم الدلالة على منزلة حسن الخلق.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلق النبي فقالت: ((كان خلقه القرآن)) أي كان يعمل بكل ما أمر الله تعالى به في كتابه من مكارم الأخلاق ويجتنب كل ما نهى الله تعالى عنه في كتابه من مساوئ الأخلاق.
ومما جاء في سنة النبي في الحض على حسن الخلق وبيان فضله وعظيم ثوابه هذه الأحاديث الصحيحة:
في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله عن البر والإثم قال: ((البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)).
وروى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) وعن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: ((الفم والفرج)) [وقال: حديث حسن صحيح].
وعنه قال: قال رسول الله : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خيركم لنسائهم)) [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح]. وفي لفظ: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)).
وفي الترمذي أيضاً عن جابر أن رسول الله قال: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسانكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)) قال: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون)) [قال الترمذي: حديث حسن].
والثرثار هو الكثير الكلام بتكلف والمتشدق المتطاول على الناس بكلامه الذي يتكلم بملء فيه تفاخماً وتعظيماً لكلامه والمتفيهق أصله من الفهق وهو الامتلاء وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه تكثيراً وارتفاعاً وإظهاراً لفضله على غيره.
روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي الدرداء عن النبي : ((ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق)).
روى البزار بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي : ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)).
روى الترمذي عن أبي الدرداء أن النبي قال: ((إن صاحب حسن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة)) [ورواه أيضاً أبو داود وابن حبان والحاكم عن عائشة رضي الله عنها].
ومن هذا الباب: ((دخل رجل الجنة في كلب سقاه ودخلت امرأة النار في هرة حبستها)).
وذكروا للنبي امرأة تصلي وتصوم وتتصدق وتفعل وتؤذي جيرانها قال: ((هي في النار)).
أما تعريف حسن الخلق فروى الترمذي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: حسن الخلق طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى.
ونقل ابن القيم عن جماعة من أهل العلم أن حسن الخلق قسمان:
1- أحدهما مع الله عز وجل وهو أن تعلم أن كل ما يكون منك يوجب عذراً وكل ما يأتي من الله يوجب شكراً فلا تزال شاكراً له معتذراً إليه سائراً إليه بين مطالعة إحسانه وشهود عيب نفسك وأعمالك.
2- والقسم الثاني: حسن الخلق مع الناس ويجمعه أمران بذل المعروف قولاً وفعلاً وكف الأذى قولاً وفعلاً.
حسن الخلق منه ما يكون بالجبلة ويطبع عليه الإنسان.
لما رواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان أن النبي قال للأشج: ((إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: يا رسول الله قديما كانا فيّ أو حديثاً؟ قال: قديما قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما)).
ولما رواه البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن مسعود قال: (إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم).
ولكن من حسن الخلق أيضاً ما يكون بالاكتساب لقول النبي : ((إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم)) فعلى الإنسان إذا كان مجبولاً على طباع ذميمة كالجشع والبخل والكبر والحقد أن يجاهد نفسه حتى يتخلص منها.
وجهاد نفسه من أجل التخلص منها حينئذ واجب قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وهذا وعد من الله تعلى بتوفيق من جاهد نفسه ليقوم طباعه ويهذب أخلاقه.
وقد بعث النبي ليتمم مكارم الأخلاق فما كان عند أهل الجاهلية من أخلاق حميدة كالكرم والشجاعة فقد أمر به الإسلام وحض عليه وما كان عندهم من الأخلاق ذميمة كالظلم والكبر والتحاسد فقد نهانا عنه الإسلام وحذرنا منه.
وقد كان النبي الأسوة الحسنة في كل خلق حميد كان أكرم الناس وأشجع الناس وأحلم الناس وكان أشد حياءً من العذراء في خدرها وكان يلقب قبل أن يبعث بالصادق الأمين ووصفته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها عند أول وحي أوحي إليه بقولها: (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1463)
حقوق رسول الله على أمته وبيان بدعية الاحتفال بالمولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أدلة بدعية الاحتفال بالمولد النبوي. 2- حقوق النبي على أمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد:
بعد أيام قلائل سوف تنقل الصحف والإذاعات من معظم البلاد الإسلامية أحداث احتفالات تجري في سرادقات ضخمة تقام لإحياء ذكرى مولد رسول الله في الثاني عشر من شهر ربيع الأول كما يحدث كل عام.
إذا نظرنا إلى هذه الاحتفالات بميزان الشرع الحنيف وجدنا أنها من البدع والضلالات التي لا يجوز للمسلم أن يشارك فهي للأسباب التالية:
1- أنه لم يفعله النبي في حياته قط ولا احتفل الصحابة رضي الله عنهم بمولده بعد وفاته.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.
• قال الله تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك]. قال الفضيل بن عياض أحسن عملاً أي أخلصه وأصوبه، إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، والصواب أن يكون على السنة، والخالص أن يكون لله، وقرأ: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً [الكهف].
• وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
• وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني عن العرباض بن سارية أن النبي قال: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)).
• وقال عبد الله بن مسعود : اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
• وقال مالك رحمه الله: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
• قال شاه الكرماني رحمه الله: من عمّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بالمراقبة، وتنزه عن أكل الحرام لم تخطئ له فراسة. وكان شاه لا تخطئ له فراسة.
2- أنها ليس لها أساس من التاريخ لأن كتب السيرة حكت اختلاف المؤرخين في يوم مولده قيل هو يوم 2 أو 8 أو 10 أو 12 أو 17 أو 22 وليس لأحد هذه الآراء ما يرجحه على الآراء الأخرى بل الحساب الفلكي الذي يتعصب له هؤلاء المحتفلون بالمولد ويرون أنه قطعي في صيام رمضان، الحساب الفلكي يؤكد أن يوم الاثنين في شهر مولده عام الفيل يوافق 2 أو 9 أو 16 أو 23 وقد ولد قطعاً يوم اثنين فلا يمكن أن يكون ولد يوم 12 (راجع الرحيق المختوم).
وهذا الاختلاف الكبير في تاريخ المولد دليل قطعي على أن النبي وأصحابه لم يعيروا هذه المناسبة أي اهتمام عندما تمر كل سنة.
3- النبي قد توفي في الثاني عشر من ربيع الأول 11هـ ، فهذا اليوم الذي يحتفلون فيه بالمولد هو نفس ذكرى وفاته وليس الفرح في هذه المناسبة بأولى من الحزن فيها.
4- أن الاحتفال بالموالد عادة نصرانية وقد قال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
فالنصارى هم الذين يحتفلون بأعياد الميلاد، وانتقلت هذه العادة النصرانية إلى المسلمين عندما ضعف تمسكهم بدينهم وفشا فيهم التشبه بأعدائهم.
5- هذه الاحتفالات تشتمل على الكثير من المحظورات الشرعية، وعلى رأسها الشرك بالله تعالى حيث ينشدون قصيدة البردة للبوصيري والتي يقول فيها:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وغير ذلك من الأبيات الشركية التي فيها الاستغاثة بالنبي وادعاء أنه يعلم الغيب، مع أن الله تعالى قال له: قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء [الأعراف:188].
وقال : ((لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)) [صحيح البخاري ومسلم عن عمر].
بالإضافة إلى ما يكون في هذه الاحتفالات من الرقص والطبل والزمر وأنواع اللهو واختلاط النساء بالرجاء، فشابهوا بذلك الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً.
6- كل بدعة تميت سنة: وبدعة الاحتفال بالمولد قد أماتت السنن ، لأن الذين يحتفلون بهذه الموالد يظنون بذلك أنهم قد أدوا واجبهم نحو رسول الله ، فتجدهم بعد ذلك يتركون الصلوات ويقعون في الفواحش والمنكرات ويتركون واجبهم الحقيقي تجاه رسول الله.
أيها المسلمون: للنبي حقوق على أمته، وهذه الحقوق هي جزء من شكرنا له تجاه ما أسداه إلى أمته من تبليغ ما أمر به، فقد كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً كما وصفه ربه سبحانه وقد فتح الله تعالى به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، قال الله تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولاً يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [البقرة:151].
ومن حقوقه على أمته:
1- الإيمان به وتعزيره وتوقيره، والتعزير هو النصر، والتوقير هو الاحترام والإجلال.
2- تصديقه فيما أخبر وعدم الشك في شيء مما ثبت أنه أخبر به لأنه الصادق الأمين، وقد شهد له أعداؤه بالصدق وقالوا: ما جربنا عليك كذباً قط، وقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى.
قال حسان بن ثابت:
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
أي دلائل صدقه لا تنحصر في المعجزات لأن النبي أصدق الصادقين، ومن ادعى النبوة بعده فهو أكذب الكاذبين ولا يلتبس أصدق الصادقين بأكذب الكاذبين إلا على أجهل الجاهلين قال عثمان : (ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على، صفحات وجهه وفلتات لسانه).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1464)
ذم التنافس على أمور الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الفتن
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة رجلين صالحين زاهدين في الدنيا. 2- حقيقة الدنيا. 3- ذم الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: قال النبي : ((اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرّةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم أبتع منك الذهب.
وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدّقا)) [رواه البخاري 3472، ومسلم 1721].
في هذا الحديث الجليل يخبرنا نبينا عن رجلين صالحين من الأمم السابقة اشترى أحدهما من الآخر أرضاً فوجد في هذه الأرض جرّة (إناء كبير من الخزف) مملوءة ذهباً فلم يقع منهما التنافس للحصول على هذا الذهب والاستئثار به دون الآخر، بل لم يقبل كل واحد منهما أن يأخذ من الذهب شيئاً ويترك لصاحبه الباقي خوفاً من أن يكون حراماً، والمال الحرام يّذهب البركة ويجلب غضب الربا ويمنع إجابة الدعاء ويؤدي إلى دخول النار ويكون الحساب عليه يوم القيامة بالحسنات والسيئات حيث لا درهم ولا دينار.
فلصلاح هذين الرجلين ذهبا يحتكمان إلى عالم من علمائهم، وكانت حجة البائع أنه باع الأرض بما فيها، فالذهب ليس له، وكانت حجة المشتري أنه اشترى الأرض ولم يشتر الذهب، ولو كان غيرهما من الناس لكانت هذه الحجج يستدل بها كل طرف على استحقاقه هو للمال دون صاحبه، ولكن الخوف من الله تعالى زهدهما في هذا المال المشتبه فيه.
فجاء الحكم الذي رضي به الطرفان وهو تزويج ابن أحدهما ببنت الآخر، والإنفاق من هذا المال على الأسرة الجديدة التي تقوي أخوة الإيمان بين هاتين الأسرتين الصالحتين، وكذلك التصدق من هذا المال.
وفي شريعتنا لو وجد شخص مالاً مدفوناً من أمد بعيد ولا يمكن الاستدلال على أصحابه فإنه يخرج خمسه في سبيل الله ويأخذ الباقي حلالاً لقوله : ((وفي الركاز الخمس)) [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة].
هذه نظرة الصالحين إلى الدنيا وهذه هي حقيقة الدنيا في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله ، والدنيا عبارة عن كل ما يشغل عن طاعة الله مما يكون قبل الموت.
فعلى هذا فإن الأموال والأولاد والمناصب إذا استعان بها صاحبها على طاعة الله فليست مذمومة، وإذا شغلت عن طاعة الله أو أدت إلى معصيته فهي مذمومة.
قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [البقرة:200-201].
وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين [آل عمران:144].
وقال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
وقد ورد لفظ (الدنيا) في كتاب الله تعالى في مائة وأربعة عشر موضعاً، وكذلك ورد لفظ (الآخرة) في كتاب الله في مائة وأربعة عشر موضعاً، والدنيا مذمومة في كتاب الله تعالى دائماً.
قال ابن مسعود : (من أراد الآخرة أضر بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضر بالآخرة، فيا قوم أضروا بالفاني للباقي).
وقال بعض السلف: الدنيا والآخرة ضرتان، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
عن أبي هريرة أن النبي قال: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)) [رواه ابن ماجه وحسّنه].
عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: ((إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) [رواه مسلم].
ولو تفكر الإنسان في عاقبة الدنيا إذا شغلت عن طاعة الله تعالى لزهد فيها.
عن أنس مرفوعاً: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط)) [رواه مسلم].
ولهذا فقد أمرنا بالتنافس في طلب الآخرة وفي العمل الصالح، ونهينا عن التنافس في الدنيا.
قال: ابن عباس : (يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة الخلقة، لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم: أتعرفون هذه؟ هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار، فتقول: يا رب أين أتباعي وأحبابي وأصحابي فيلحقونها).
وذكر في الخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان ذات يوم ماشياً فنظر، فإذا امرأة عليها من كل زنية فذهب ليغطي وجهه عنها فقالت: اكشف عن وجهك، فلست بامرأة، إنما أنا الدنيا، فقال لها: ألك زوج؟ قالت: لي أزواج كثير فقال: أكلٌ طلقك؟ قالت: بل كل قتلتُ، فقال: أحزنت على أحد منهم؟ فقالت: هم يحزنون علي ولا أحزن عليهم، ويبكون علي ولا أبكي عليهم.
قال الإمام الشافعي:
بلوت بنى الدنيا فلم أرفيهم سوى من غدا والبخل ملء إهابه
فجردت من غمد القناعة صارماً قطعت رجائي منهم بذبابه
فلا ذا يراني واقفاً في طريقه ولا ذا يراني قاعداً عند بابه
غنيٌ بلا مال عن الناس كلهم وليس الغني إلا عن الشيء لا به
وقال الإمام الشافعي أيضاً:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلا غروراً وباطلاً كمالاح في ظهر الفلاة سرابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها تنازعتك كلابها
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1465)
غربة الإسلام
أديان وفرق ومذاهب
الفرقة الناجية
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كن في الدنيا كأنك غريب... 2- اغتنام وجود المال والصحة. 3- من هم الغرباء. 4-
الفرقة الناجية والطائفة المنصورة. 5- مظاهر غربة الإسلام. 6- بشارات نبوية. 7- وصية
للغرباء.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
- روى البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي أخذ بمنكبه وقال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
وفي لفظ: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُدَّ نفسك في أهل القبور)).
- قال ابن حجر: شبه الناسك السالك بالغريب ثم ترقى إلى عابر السبيل، لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق، فإن من شأنه ألا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة.
- وقال النووي: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه.
- ومراد ابن عمر بوصيته التي أوصى بها عقب رواية الحديث: (وخذ من صحتك لمرضك) أن يبادر المسلم إلى اغتنام الأوقات في الأعمال الصالحات لأنك تستطيع من الأعمال الصالحة في حال الصحة ما لا تستطيعه في حال المرض، وفي حال الغنى ما لا تستطيعه في حال الفقر، وهو مستفاد من قول النبي فيما رواه الحاكم عن ابن عباس أن النبي قال لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [صححه الألباني].
- وقوله : ((وعُدَّ نفسك في أهل القبور)) أي استعد للموت وقصّر الأمل وهو ما شرحه ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
- من فوائد الحديث العظيمة أن المسلم يعيش في الدنيا كالغريب بين قوم يخالفونه في الدين وفي الأخلاق والعادات واللغة وغير ذلك.
وذلك أن غربة الإسلام نوعان:
1- غربة المسلمين بين الكفار، كما قال : ((أنتم في أهل الشرك كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود)).
2- غربة المتمسكين بالسنة والعاملين بدينهم بين المنتسبين إلى الإسلام ممن لا يعملون به ولا يتمسكون بالسنة، كما قال سفيان الثوري وهو بالكوفة إذا بلغك عن رجل بالمغرب أنه من أهل السنة فأقرئه مني السلام فإن أهل السنة غرباء.
- وغربة الإسلام هي التي أشار إليها النبي في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء)). وطوبى مصدر من الطيب أو هي شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة سنة.
- وقد جاء في روايات صحيحة لهذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي فقالوا: من الغرباء يا رسول الله، فقال: ((الذين يَصْلحون إذا فسد الناس)) وفي رواية ثانية: ((الذين يُصلِحون ما أفسد الناس من سنتي)) وفي رواية ثالثة: ((أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)).
ويستفاد من مجموع هذه الروايات أن الغرباء هم الصالحون في أنفسهم الذين يُصلحون غيرهم وذلك بإظهارهم دينهم وتمسكهم به ودعوتهم إليه وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
- هؤلاء الغرباء هم الفرقة الناجية التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة بسند حسن عن أبي هريرة أن النبي قال: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم الجماعة)). وفي رواية صححها الألباني: ((الذين هم على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) وهذا تفسير للمراد بالجماعة، وروى اللالكائي بسند صححه الألباني في السلسلة الصحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: (الجماعة من كان على الحق ولو كنت وحدك).
وذلك لأن المراد جماعة النبي وأصحابه، فمن سار على طريقتهم بعد ذلك في آخر الزمان فهو من هذه الجماعة حتى لو خالف أهل زمانه لكونهم تركوا ما عليه النبي وأصحابه.
- وهؤلاء الغرباء أيضاً هم الطائفة المنصورة التي جاء ذكرها في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمر ومعاوية رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة وهم ظاهرين على الناس)).
وظهورهم على الناس إما أن يكون بالسيف والسنان وإما أن يكون بالحجة والبيان.
قال الإمام أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلست أدري من هم؟ والمراد بأهل الحديث المتمسكون بما كان عليه النبي وأصحابه.
- أيها المسلمون: إن غربة الإسلام اليوم لا تخفى مظاهرها على أحد، فأكثر بلاد المسلمين اليوم قد غاب عنها الحكم بما أنزل الله وصار من يدعو إلى ذلك في بلاد الإسلام غريباً، وفشا فيهم بناء المساجد على القبور والاستغاثة بالأموات والذبح لهم والنذر لهم إلى جانب فشو الربا والزنا وسائر المنكرات، فيا شديد الطول والإنعام، إليك نشكو غربة الإسلام.
- ولكن في الأحاديث التي ذكرناها وغيرها بشارات وأمل، ففيها أن الله تعالى قد حفظ هذا الدين، وأنه لابد وأن تظل طائفة من المسلمين ظاهرين على الحق، فعلى كل مسلم أن يحرص على أن يكون من هذه الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
- وقد أخبر النبي أنه في آخر الزمان ستعود الخلافة على منهاج النبوة، وأنه لن يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله في الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الشرك وأهله، وهذه انتصارات المجاهدين في الشيشان تتتابع وتبشر بالنصر القريب، وكذلك بدأت الصحوة الإسلامية في جميع البلدان وأقبل المسلمون على دينهم فالحمد الله.
- من مظاهر غربة الإسلام في آخر الزمان:
روى مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن مسعود قال: (إنكم في زمان كثيرٌ فقهاؤه، قليلٌ خطباؤه، كثيرٌ معطوه قليلٌ سُؤّاله، العمل فيه قائد للهوى، وسيأتي بعدكم زمان كثيرٌ خطباؤه، قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ سُؤاله، قليلٌ معطوه، الهوى فيه قائد العمل، اعلموا أن حسن الهدي في آخر الزمان خير من بعض العمل).
قال الحافظ في الفتح: وسنده صحيح ومثله لا يقال من قبل الرأي. قال ابن عبد البر: هذا الحديث روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة، والعيان في هذا الزمان على صحة معنى هذا الحديث كالبرهان.
- المطلوب من الغرباء أن يتعارفوا ويتقاربوا ويتعاونوا على أمور غربتهم، فإذا كانت غربة الدنيا تجعل الغرباء يفعلون ذلك فغربة الدين أولى كما قال القائل: "فكل غريب للغريب نسيبُ" والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1466)
من حكم الصيام وآدابه
فقه
الصوم
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حكم الصوم : (أنه تزكية للنفس – يضيق مجاري الشيطان – يفرّغ القلب من الشواغل
- يقرّب من الله تعالى – يحقق التقوى – يدرّب على الإخلاص – يدرّب على الحكم – أنه
مظهر لوحدة المسلمين – يحمل على الشكر – ويعود على الصبر – ويدعوا إلى الجود والكرم
- أنه شهر القرآن – يضاعف فيه أجر العمرة – أن فيه فوائد صحية). 2- من آداب الصوم:
(المحافظة على السحور وتأخيره – تعجيل الإفطار – الإكثار من الدعاء – أن يفطر على رطبات أو ثمرات أو ماء – المحافظة على الواجبات والإكثار من النوافل والحذر من المحرمات).
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيها المسلمون: إن الله سبحانه هو الحكيم لا يشرع لعباده تشريعاً إلا وفيه حكمٌ بالغة تعود عليهم بالسعادة في الدنيا والآخرة، علمها من علمها وجهلها من جهلها.
وقد شرع سبحانه لعباده صوم شهر رمضان لحكم عظيمة منها:
1- الصوم تزكية للنفس وعلاج لها من البطر والأشر، وذلك أن النفس البشرية بطبيعتها يصيبها فخر وخيلاء وطغيان إذا كانت كلما اشتهت شيئاً حصلت عليه، والصوم يكسر النفس ويشعرها بضعفها وعجزها وحاجتها إلى خالقها ورازقها الذي يطعمها ويسقيها، وإذا مرضت فهو يشفيها وبذلك يجاهد المسلم نفسه وينهاها عن الهوى قال تعالى: فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [النازعات: 37-41].
فبالصيام يملك المسلم زمام نفسه ويقودها إلى ما فيه خيرها وسعادتها ويتعود على ألا يطلق لنفسه العنان فتقوده هي إلى ما فيه هلاكه.
2- الصوم يُضيّق مجاري الشيطان التي يجري بها داخل نفس الإنسان، فعن أنس وصفية رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)) [رواه البخاري ومسلم]. فيسكن الصيام وساوس الشيطان وتنكسر حدة الشهوة والغضب، فلا يجد الشيطان مدخلاً يدخل منه إلى قلب المؤمن، بالإضافة إلى تصفيد الشياطين بالسلاسل في رمضان، فإذا جرّب المسلم حلاوة الصلة بالرحمن والبعد عن تزيين الشيطان فإنه سيحرص بإذن الله بعد رمضان على أن يكون من عباد الله المخلصين الذين ليس للشيطان عليهم سلطان قال تعالى: قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ص:82-83].
3- الصوم تخلية للقلب من الشواغل الدنيوية وإعانة له على التذكر والتفكر، وكانت العرب تقول: (إذا امتلأت المعدة خمدت الفكرة) وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال : ((ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني صحيح الجامع 5674].
4- الصوم عبادة يتقرب فيها العبد إلى ربه بترك محبوباته من طعام وشراب ونكاح، فيظهر بذلك صدق إيمانه وكمال عبوديته لله وقوة محبته لله سبحانه، ورجاؤه ما عنده فإن العبد لا يترك محبوباً له إلا لما هو أعظم عنده منه.
ولما علم المؤمن أن رضى الله في الصيام بترك العبد شهواته المجبول على حبها قدم رضى مولاه على شهوات نفسه.
5- الصوم سبب للتقوى وهي فعل الأوامر وترك النواهي، فالعبد كما هو مأمور بالصوم عن الطعام والشراب فهو مأمور كذلك بالصوم عن جميع المعاصي في رمضان تهيئة لتركها كذلك بعد رمضان قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183].
وكما بدأ سبحانه آيات الصيام بالتقوى ختمها بالتقوى فقال: كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [البقرة:187]. وعن أبي هريرة قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري]. ولهذا فالصائم كلما همّ بمعصية تذكر أنه صائم فامتنع منها.
6- الصوم تدريب عظيم على الإخلاص لله تعالى لأن الصائم يكون في بيته وأمامه الطعام الشهي والشراب البارد وهو في شدة الجوع والظمأ، ولا أحد يطلع عليه إلا الله سبحانه، ومع ذلك فالصائم يترك الطعام والشراب، ويتحمل الجوع والعطش خوفاً من الله تعالى ومراقبة له وحده، فإذا تدبر المسلم هذا المعنى فإنه سيفعل ذلك في جميع المعاصي، إذا خلا بها تذكر أن الله تعالى يراه، وقال لنفسه: كما امتنعت من المعصية في رمضان خوفاً من الله وحده، فكذلك في غير رمضان سأجعل السر كالعلانية.
وإذا خلوت بظلمة في ريبة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
7- الصوم تدريب على الحلم وكظم الغيظ وكف الأذى ففي حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((والصوم جُنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني صائم)) [رواه البخاري ومسلم].
8- الصوم مظهر لوحدة المسلمين واجتماع كلمتهم لأنه شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام فيرى الناس المسلمين وقد أمسكوا عن المفطرات في وقت واحد وأفطروا في وقت واحد.
9- رمضان شهر شكر لله سبحانه لأن الصائم يحس بقدر النعم التي حرم منها في وقت الصيام، والإنسان عادة لا يشعر بقيمة النعمة إلا إذا فقدها أو خالط من فقدها فيؤدي هذا إلى حمد الله تعالى وشكره.
10- وهو كذلك شهر الصبر لأنه صبر على طاعة الله وصبر عن معصيته وصبر على المصائب وهي ألم الجوع والعطش، وهذه أنواع الصبر الثلاثة تجتمع كلها في شهر رمضان.
11- رمضان شهر الجود والكرم لأن الصائم الغني يحس حينئذ بحاجة إخوانه الفقراء الذين يبيتون جائعين لا يجدون ما يطعمون ولا ما يطعمون به أطفالهم الذين يتضاغون من الجوع، وهؤلاء كثيرون في أنحاء العالم الإسلامي الذي تشهد كثير من بلاده حروباً طاحنة ومجاعات، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وذلك كل ليلة، فلَرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة)) [رواه البخاري].
ومن مظاهر الجود التي دعينا إليها في رمضان تفطير الصائمين، ففي حديث زيد بن خالد أن النبي قال: ((من فطّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً)) [أحمد والترمذي وصححه الألباني، صحيح الجامع 6415].
وأجر الصائم عظيم قال تعالى في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)) [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً].
فإذا علمت أنك تحوز أجر الصائم بالإضافة إلى أجرك حرصت على المشاركة في هذا الباب العظيم من أبواب الأجر.
12- رمضان شهر القرآن وهو فرصة عظيمة يقبل فيها المسلمون على كتاب ربهم الذي هجروه طيلة العام فيتلونه ويتدبرونه.
13- وفي رمضان يتضاعف أجر العمرة فقد قال : ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي)) [رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس وغيره].
14- وفي الصيام فوائد صحية وإراحة لجهاز الهضم وتخليص للجسم من رطوبات وفضلات ضارة.
فإذا تأمل المسلم هذه الحكم العظيمة علم أن شريعة الإسلام هي الشريعة الكاملة التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيها المسلمون ، إن للصيام آداباً على المسلم مراعاتها منها:
1- المحافظة على السحور وتأخيره فعن أنس أن النبي قال: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) [رواه البخاري ومسلم].
ومن بركة السحور أنه يقوي على الصيام ويعين عليه، وأنه فرصة للاستيقاظ في وقت السحر للاستغفار أو صلاة ما تيسر قال تعالى: والمستغفرين بالأسحار [آل عمران:17].
والسحور كذلك مخالفة لهدي المشركين واقتداء بهدي الأنبياء، عن أبي الدرداء قال : ((ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة)) [الطبراني وصححه الألباني صحيح الجامع 3038].
2- تعجيل الإفطار للحديث السابق ولما رواه أحمد عن أبي ذر قال : ((لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار)) [صحيح الجامع 7284].
3- الإكثار من الدعاء أثناء الصيام فإن دعوة الصائم مستجابة عن أبي هريرة قال : ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر)) [رواه البيهقي وغيره وصححه الألباني، صحيح الجامع 3030].
4- أن يفطر على رطبات فإن لم تكن فتمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء فإن النبي كان يفعل ذلك. [رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس وحسنه الألباني إرواء 922]. فإن لم يجد أفطر على ما تيسر من الطعام أو الشراب الحلال فإن لم يجد نوى الإفطار بقلبه، وأن يقول عند الفطر: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله)) [رواه أبو داود والنسائي حسنه الألباني في الإرواء 920].
5- أن يحافظ الصائم على جميع الواجبات وأن يكثر من النوافل وأن يجتنب جميع المحرمات وأن يحذر الغيبة والنميمة وأن يشغل وقته بالخير.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على طاعته وأن يباعد بيننا وبين معصيته.
(1/1467)
من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فائدة التعرف على سيرة الصالحين. 2- ترجمة أبي بكر : (مولده – وفاته – اسمه – ألقابه
- صفاته). 3- آيات قرآنية في فضل أبي بكر الصديق. 4- كيف كان في الجاهلية. 5- إسلام
أبي بكر. 6- أبو بكر يدعو إلى الإسلام بنفسه وماله. 7- من مواقف أبي بكر الصادقة. 8-
أحاديث في فضل أبي بكر. 9- جهاده وزهده وعدله وإحسانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن سير الصالحين تتعطر بها المجالس وتنشرح لها القلوب وتهذب بها النفوس، قال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب [يوسف:111].
ولقد كان لأعداء المسلمين دور كبير في تجهيل المسلمين بسير سلفهم الصالح لئلا يتخذوهم نماذج تحتذى، كما كان لكثير من المسلمين أنفسهم دور مماثل حين انشغلوا بالتعرف على سير التافهين والفاسقين من أهل الفن والرياضة والسياسة وأعرضوا عن سير المرسلين والصديقين والشهداء والصالحين والتي تحيا بها القلوب.
وحديثنا اليوم عن أول من آمن بالنبي من الرجال وصاحب نبينا محمد قبل البعثة وأحب الرجال إليه ورفيقه في الهجرة ونائبه في الصلاة والحج وخليفته في أمته وجاره في قبره، الذي بشر بالجنة وأسلم على يديه ستة من المبشرين بالجنة وهم طلحة والزبير وعثمان وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة رضي الله عنهم جميعاً.
ولد بعد حادثة الفيل بسنتين فكان أصغر من رسول الله بسنتين ثم مات وله ثلاث وستون سنة في مثل عمر النبي عندما مات حيث إنه مات بعده بسنتين.
اسمه عبد الله بن عثمان بن عامر، وكان يلقب بعتيق الله ثم لقب بالصديق لمبادرته لتصديق النبي في كل ما أخبر به، كان نحيفاً طويلاً أبيض اللون خفيف شعر العارضين (جانبي الوجه) وكان كثير البكاء إذا تلا القرآن حتى إنه روى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت للنبي لما قال في مرض وفاته: ((مروا أبا بكر فليصل بالناس)) ، قالت: إن أبا بكر رجل أسيف – أي بكّاء – متى يقم مقامك لم يسمع الناس – أي من كثرة بكائه – رضي الله عنه وأرضاه.
أثنى عليه ربه سبحانه في كتابه فقال: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
ويكفيه شرفاً أن ربه سبحانه وصفه في كتابه العزيز بالتقوى والإخلاص وبين سبحانه أنه عنه راض وذلك في الآيات التي حكى ابن كثير إجماع المفسرين على أنها نزلت في أبي بكر : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:17-21]. ومما نزل فيه أيضاً قوله تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتو أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [النور:22].
كان في الجاهلية سيداً من سادات قريش، وكان يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، فما سجد لصنم قط، وكان في الجاهلية لا يشرب الخمر ولا يأكل الربا، وكان يعبد الله تعالى على ملة إبراهيم وذلك لما فطر عليه من الخير والكمال عقله، فلأجل ذلك اتخذه النبي صديقاً وصاحباً.
لما بعث النبي دعا صاحبه أبا بكر إلى الإسلام فلم يتردد لحظة في تصديقه والإيمان به وفي ذلك يقول : ((ما عرضت هذا الأمر على أحد إلا كانت منه كبوة وتردد إلا ما كان من أبي بكر، ما إن عرضت عليه الأمر حتى صدقني وآمن بي)) حتى إن علياً لما دعاه النبي إلى الإسلام قال: دعني استشير أبواي ثم إنه رجع بعد ذلك فأسلم وقال للنبي : ((إن الله تعالى لما خلقني لم يستشر في خلقي أبا طالب، فأنا حين أعبده فيم أستشير أبواي)).
كان أبو بكر رجلاً تاجراً فلما أسلم صار يشتري بماله كل من أسلم من العبيد والإماء ممن يعذبهم مواليهم لأجل إسلامهم ثم يعتقهم حتى أعتق عشرين من السابقين الأولين منهم بلال، وبادر إلى الدعوة إلى الله تعالى فأسلم على يده في أول يوم لإسلامه خمسة من العشرة المبشرين ثم أسلم على يده بعدها أبو عبيدة وسخّر أبو بكر ماله في خدمة الدعوة ونصرة الإسلام.
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي تعرض له سفهاء قريش وهو يطوف بالبيت وآذوه، فلم يطق أبو بكر ذلك ودخل يدفع عن النبي وهم يضربون أبا بكر حتى ضربه عتبة بن ربيعة بنعلين مخصوفتين على وجهه، حتى ما يعرف أنف أبي بكر من وجهه من كثرة الدم، وحلف بنو تيم – قوم أبي بكر – إن مات ليقتلن به عتبة بن ربيعة فلما أفاق أبو بكر – وكان مغشياً عليه فحمله أهله إلى البيت – كان أول ما قال: ما فعل رسول الله وأبى أن يأكل أو يشرب حتى يحملوه إلى رسول الله ليطمئن عليه.
ولما أسري بالنبي وكذبته قريش وذهبوا إلى أبي بكر شامتين مستهزئين فما كان من أبي بكر إلا أن قال: (إن كان قال فقد صدق، إنا نصدقه في الخبر يأتيه من السماء، أفلا نصدقه فيما دون ذلك؟).
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته)) [متفق عليه].
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي - قالها مرتين -، فما أوذي أبو بكر بعدها)) [رواه مسلم].
عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ما لأحد عندي يد إلا كافأته بها إلا ما كان من أبي بكر فإن له عندي يداً، والله يكافئه بها، ما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر)).
لما وصل مع النبي إلى المدينة ما ترك غزوة غزاها النبي إلا خرج فيها بنفسه مجاهداً في سبيل الله بسيفه كما جاهد بماله.
وكان حائزاً لأبواب الفضل كلها، فكان صواماً قواماً محسناً متصدقاً، فلأجل ذلك يدعي يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية كلها كما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
لما دنا أجل النبي قدمه ليصلي بالناس إشارة منه إلى أنه أحق الناس بالخلافة بعده فاجتمعت عليه كلمة الصحابة رضي الله عنهم.
ولما ولي الخلافة نزل بنفسه إلى السوق ليتكسب بالتجارة كما كان قبل أن يليها، فلقيه عمر وقال: (اذهب إلى أبي عبيدة – وكان أمينا على بيت المال – ليفرض لك راتباً كي تتفرغ لأمر المسلمين) فقبل وهو كاره.
ومع ذلك لما حضرت وفاته حسب كل ما كان أخذه من بيت المال من الرواتب فرده فيه، وكان قد أخذ من بيت المال قعباً يشرب فيه ووسادة من ليف وجارية لتخدمه فرد ذلك كله، حتى لم يبق لأهله إلا اليسير فكان كما وصفه ربه وما لأحد عنده من نعمة تجزى فقال عمر : (لقد أتعب أبو بكر من جاء بعده).
وكان أثناء خلافته يذهب إلى امرأة عجوز عمياء مقعدة فيحضر لها طعامها ويحلب شاتها من غير أن يعلم أحد بذلك حتى تتبعه عمر مرة ودخل بعد خروجه من عندها فسأل المرأة فأخبرته وكانت لا تعلم أنه أبو بكر.
وكانت خلافته حافلة بالأعمال العظيمة من جمع القرآن وحرب المرتدين والفتوحات العظيمة في بلاد فارس وبلاد الروم.
قال : ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)) [صحيح في صحيح الجامع].
عن جابر عن النبي : ((أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس)) [الطبراني والخطيب وحسنه الألباني سلسلة 815].
عن علي عن النبي : ((هذان – أي أبو بكر وعمر – سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا عليّ)) [رواه الترمذي وصححه الألباني صحيح الجامع 822].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1468)
الحجاب
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد الله الهذيل
الرياض
8/2/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشيطان منذ أول لحظة في الصراع مع آدم وحواء يريد نزع لباسهما. 2- أهمية ستر
العورات بحفظ أخلاق المجتمع ودينه. 3- جند الشيطان يحاولون كشف حجاب المرأة باسم
الحرية والتقدم. 4- مؤامرة تحرير المرأة في مصر. 5- أقوال تدعوا المرأة لهتك حجابها. 6-
ظهور الحجاب المتبرج.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سواءتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلكم تذكرون يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
أيها الأحبة في الله:
إنها لنعمة عظمى, امتن الله تعالى بها على عباده أن أنزل عليهم لباسًا يواري سوءاتهم, ويحفظ أعراضهم, ويحصن الحياء في نفوسهم. فكان من شرعه وأمره سبحانه وتعالى أن تستر العورات, ولا يبدي منها إلا ما أباحه, ليبقى الحياء قائدًا في الناس, وتبقى الأعراض في حصن حصين دون العبث والانتهاك.
فشرع للرجال عورة تناسبهم, وشرع للنساء عورة تناسبهن, لا يجوز لأي الطائفتين أن يتجاوز حدود ما أمر به, وإن أي تجاوز لذلك لهو الخطوة الأولى إلى ميادين اللاحياء.
أيها المسلمون:
وحين نتأمل في الآية السابقة نرى أن الدعوى الأولى التي بدأ بها إبليس مسيرته في إضلال العباد, كانت إلى نزع اللباس, وإبداء العورة, وهو لم يبدأها بالأمر بها صراحة؛ لأنه موقن أنها كذلك لن تنال قبولاً, ولكنه زين لها القول, وذلل لها الطريق, وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فأظهر لهما من نفسه حال المشفق الناصح, الذي لا يريد لهما إلا ما يعود بالخير عليهما, وقاسمهما على ذلك, فكان ما كان من مخالفة أمر الله تعالى, مما نتج عنه إخراج من الجنة, واهباط إلى هذه الأرض.
أيها الأحبة في الله:
وتلك الدعوة الأولى لإبليس في إظهار العورات, حمل على عاتقه بثّها بعد آدم في ذريته, وجنّد لذلك جنوده, لإدراكه بما تقود إليه, وإصابتها الأهداف التي يريدها فكانت دعوته للمجتمعات التي استجابت له هاوية مهلكة, ولججًا مظلمة في بحار الخنا والرذيلة.
أما المجتمعات التي استمسكت بأمر بها فهي في حصن حصين دون سهامه وشباكه, وهو لم ييأس في بث دعوته إليها بين الفينة والفينة, فإن ضعف استمساكها بشرع ربها, كان ذلك ثغرًا ينفذ منه الشيطان وجنوده سمومهم, فإن أدرك الخطأ, وسورع إلى سد الثغر عادت تلك السموم غصصًا في أجواف أصحابها.
وإن طغت الغفلة, فإن الثغر سيزيد, والخرق سيتسع على الراقع, ويكون للشيطان أبوابًا مشرعة إلى أنواع ضلالاته.
أيها الأحبة في الله:
وإن الحديث عن العورات وسترها لهو من الأهمية بمكان عظيم, لما لها من الأثر في مسيرة المجتمعات, وخاصة فيما يتعلق بالنساء, لما لهن من أثر وفتنة على الرجال, وبالتالي على المجتمع بأسره, فبصيانتها صون للمجتمع, وبإضاعتها إضاعة له, وقد حذر النبي من فتنة النساء فقال: ((واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)).
ولذا سأخص الحديث عن حجاب المرأة الذي هو عزها وجمالها وحريتها الحقيقية, التي تتحرر بها من كل شهوة ودعوة إلى الأغلال.
أيها المسلمون:
إن الله تعالى أراد من المرأة أن تكون في عزة وصيان, فشرع لها الحجاب, وأمرها به, لتكون في حمىً منيع, وحصن حصين, ولئلا تكون حقًا مشاعًا تتقلب في الاستمتاع بها كل عين, وتتأمل في جمالها كل نفس, بل إنها جوهرة مصونة, ودرة مكنونة, محفوظة أن تعبث بها الأيادي, ومستورة أن ترسل إليها السهام المسمومة, هكذا هي, حين تمسّك بأمر ربها. وتصون حجابها.
وأنعم من بنت صالحة, وأخت ناصحة, وزوج حافظة, وأم مربية, تظهر بصمات الخير التي أسدتها نورًا على جبين الجيل الذي تخرج على يديها.
أيها الأحبة في الله:
ولا يخفى عظيم ما يتركه الحجاب من أثر في المجتمعات, من طهر وصيانة, وحفظ للأعراض وطمأنينة للنفوس, والنهوض إلى الغايات السامية.
ولقد أدرك إبليس وجنده خطر ذلك الحجاب عليهم, ووقوفه عائقًا أمام مخططاتهم وأهدافهم التي يصبون إليها, فسعوا جاهدين في نزعه وإحلال السفور مكانه. متبعين بذلك طريقة قائدهم الأول إبليس في تزيين القول وتنميقه, فلا تراهم يدعون إلى السفور صراحة, ولا إلى الاغلال مواجهة, ولكن يدعون إليه باسم التقدم والحضارة, وباسم الحرية الشخصية, وباسم المساواة بين الرجل والمرأة, وهكذا يدقون على أوتار حساسة في النفوس الضعيفة حتى تنساق إلى دعوتهم, وتبارك خطوتهم.
أيها المسلمون:
وإن المتأمل في تاريخ الصدمات التي وجهها الغرب الكافر إلى كثير من ديار المسلمين يرى أن قضية السفور ونزع الحجاب من أولويات القضايا التي يبذلون لها كل جهد, ويجعلونها أساسًا في تحطيم كل مجتمع إسلامي, حتى قال بعضهم: "لا تستقيم حالة الشرق ما لم يرفع الحجاب عن وجه المرأة, ويغطى به القرآن".
وبهذه الطريقة نجحوا في كثير من مخططاتهم ووصلوا عن طريقها إلى كثير مما يصبون إليه, وهم لم ينتظروها ثمرة تقر بها أعينهم ما بين عشية وضحاها, ولكن خططوا لها على مدى سنين طوال.
ومن الأمثلة الصارخة بذلك ذلك المجتمع الذي كان الحجاب سائدًا على جميع نسائه, فأدرك الغرب أنهم لن يصلوا إلى نتيجة بالدعوة الصريحة إلى السفور, فكان أن أخذوا من أبناء ذلك المجتمع من يتربى في أحضانهم, ويستعظم حضارتهم الزائفة وتقدمهم المادي, حتى عاد أولئك الأبناء إلى مجتمعهم, ليكونوا أصواتًا تنعق باسم الغرب الكافر, وأقلامًا تكتب على حسابه, يعظمون في النفوس حضارته, ويباركون للناس خطاه, وأنه لن يكون هناك تقدم وتطور إلا بالأخذ بهديه وسبيله, وكانت قضية السفور هي أهم القضايا التي نالت أصواتًا في ندواتهم, وأقلامًا في صحفهم, حتى اغتر بذلك كثير من نساء ذلك المجتمع, ومع مرور الوقت أصبحن ينتظرن إشارة واحدة لينزعن الحجاب.
وهذا ما كان, لما أن جاء أحد أبناء ذلك المجتمع وهو زعيم فيه من ديار الغرب الكافر, وقد أخذت تلك التقاليد الغربية بمجامع قلبه, وكان في استقباله جموع من الرجال والنساء, فكان الرجال في سرادق خاص بهم, والنساء في سرادق آخر. فنزل من الباخرة, وأخذ طريقه إلى سرادق النساء وهن محجبات, فلما دخل عليهنّ استقبلته إحدى دعاة التحرير المزيف بحجابها المزوّر, فمدّ يده, فنزع الحجاب عن وجهها, تبعًا لخطة معينة, وهو يضحك, فصفقت تلك المرأة, وصفقت النساء لهذا الهتك المشين, ونزعن الحجاب, ومن ذلك اليوم أسفرت المرأة في ذلك المجتمع, حتى وصل إلى ما لم تحمد عقباه.
أيها الأحبة في الله:
وهكذا قلما قلّب المرء النظر في المجتمعات يرى أن ذلك الحجاب تحاربه أيدٍ مسمومة باسم التقدم والحضارة, وبأنه قيدٌ للمرأة, وذل لها.
حتى تجرأ أحدهم بخطاب إلى المرأة المسلمة يقول فيه:
مزقيه..
ذلك البرقع.. وارميه..
مزقيه...
أي شؤم أنت فيه؟
أي ليل أنت فيه؟
أي ذل أنت فيه؟
أي قبر أنت فيه؟
حطميه...
حطمي الخوف بعنف لا تأني
حطمي الصمت وقولي وتمني
حطمي السجن وقضبان التمني.
هكذا يرسمونها خُطًا مشؤومة في طريق المرأة لتنساق بضعفها إلى زينة القول, وزخرف الطريق, فإن لم تدرك حقيقة الأمر في بدايته, وانساقت وراء تلك الدعايات, فإنها ستدركه حتمًا حين تصل إلى نهاية الطريق, حين ترى عزتها نزعت من يديها, وأضحت ألعوبة, تتدافعها كل يد, ويتقلب فيها كل نظر.
أما المرأة المسلمة, المستمسكة بأمر ربها, فإنها كسرت كل يد امتدت لنزع حجابها, وصفعت كل وجه نادي إلى سفورها, وصدعت بما امتلأ به قلبها, فقالت:
أو ما كفاك به احتجابًا
اليوم واطرحي النقابا
يومه عنا وغابا
فمي ولم أعدم جوابًا
قد غركم إلا سرابا
غدا الرجال به ذئابًا
الأخلاق تنشعب انشعابًا
في الحشا جمرًا مذابا
صونًا وعيشًا مستطابًا
وارخوا عليهن النقابا
قالوا ارفعي عنك الحجابا
واستقبلي عهد السفور
عهد الحجاب لقد تباعد
فأجبتهم والضحك ملء
مهلاً فما هذا الذي
أولا ترون الغرب كيف
أولا ترون به عرى
كم نظرة للوجه تورث
إن ترغبوا لنسائكم
فدعوا السفور لأهله
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1469)
السيرة النبوية 1
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الله الهذيل
الرياض
9/6/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منة الله علينا بإرسال الرسل وخاتمهم نبينا. 2- أهمية دراسة السيرة النبوية. 3- حالة
البشرية قبل بعثة الرسول. 4- عبد المطلب يعيد حفر زمزم. 5- ولادة النبي وشأنه في بادية
بني سعد. 6- بركته على حليمة السعدية. 7- وفاة أمه ونشأته عند جده ثم عمه. 8- شباب
النبي وزواجه من خديجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله:
يقول الله تبارك وتعالى: لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إنها لنعمة عظمى, ومنّة كبرى أن بعث الله رسوله رحمةً للعالمين, وهدىً للمستبصرين, ونورًا يبدد ظُلم الفتن والجاهليات, فأحيا به قلوبًا ميتة, وأسمع به آذانًا صمًا, وأنار به أعينًا عميًا, وجعل رسالته خاتمة خالدة, شاملةً لكل أسود وأبيض, وكل حرّ وعبد, وكل عربي وعجمي, فبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار, ودخل كل بيت حجر ومدر..
فأعظم وأنِعم, وأجلّ وأكرم بذلك الرسول الذي بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, ونصح غاية النصح, وجاهد حق الجهاد, فأبان الخير كله ودعا إليه, وأبان الشر كله وحذر منه, وسعى الجهد الجهيد وبذل الوسع والطاقة في هداية أمته والأخذ بأيديهم إلى سبل الفوز والنجاة, وصرفهم عن كل ما تسوؤهم عاقبته, وكما قال الله تعالى عنه: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.
أيها الأحبة في الله:
وإن الخير كلَّ الخير في اتباع سنته , واقتفاء أثره, وسلوك طريقته.
وسبيلُ ذلك معرفة هديه, وتعلمُ أقواله وأفعاله, وتدارسُ سيرته, فإنها المعين الذي لا ينضب, والروضة الندية التي لا ينقطع زهرها.
فكلما قلّب المرء النظر فيها, وأوعى قلبه لها نال من معاني الإيمان واليقين, والبصيرة والهدى ما تستقيم به خطاه, وتطيب به الحياة.
أيها الأحبة في الله:
وإن البعد عن سيرته, والجهل بسنته مزلقٌ يهوي بصاحبه إلى ظلمات يتخطبها, وجهالات يرضى بها.
وما تجرع أفراد من الأمة مرارات البعد عن جمال الحياة, وطيب معانيها إلا يوم أن بعدت نفوسهم عن تلك السيرة العطرة, فلم يرفعوا بمعالمها رأسًا, فصاروا يركضون وراء كل من أوتي ظاهرًا من الحياة الدنيا, يخلعون عليه لباس العظمة زعمًا وزورًا, فكم من صفيق وجه صفقوا له, وكم من سفيه نصبوه إمامًا يقتدى به, فأضحى الذي أملوه سرابًا بقيعة, وأضغاث أحلام.
أيها الأحبة في الله:
ومن هنا, فإنا سنتدارس تلك السيرة المباركة ـ إن شاء الله تعالى ـ سيرة نبينا في حديث تتواصل أطرافه, وسلسلة تتابع حلقاتها, نعيش فيها أيامه ولياليه, ونتنقل فيها بين الدروس والعبر من حين مولده إلى أن أسلم الروح إلى باريها, بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة.
فإليكم الدرس الأول في تلك السيرة العطرة.
أيها الأحبة في الله:
في زمن عجب الأرض بالفتن, وخيم ظلامها على قلوب العباد كالليل البهيم سوادًا, ولفت شقاوة الجاهلية العالم بأسره, تسقيه كؤوس التخلف والوثنية, وتلصقه بالأرض ومطالب دنياه دون أن يتجاوزها.
وإندرست معالم الرسالات, فلم يستمسك بها إلا النزاع من الناس, يلجأون إلى الكهوف وقمم الجبال يفرون بما هم عليه.
فكانت الأمم على اختلاف أجناسها, وتباين لغاتها تعيش تلك الحِقبة المظلمة، وكما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم أن النبي قال: ((إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) ولقد كان العرب إذ ذاك متفرقين في جزيرتهم, قد لفتّهم تلك الجاهلية حتى بلغت بهم شأوًا بعيدًا, فصرفوا عبادتهم للأحجار والأشجار, حتى إنهم كانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجرًا خيرًا منه ألقوا الأول وعبدوا الآخر, وإذا لم يجدوا حجرًا جمعوا جَثوة من تراب ثم جاؤوا بالشاة يحلبونها عليه, ثم يطوفون عليه.
وأصبحت كل قبيلة تتخذ صنمًا لها, فكانت الأصنام حول البيت العتيق ثلاثمائة وستين صنمًا.
وكانت تحكم علاقاتهم العصبية الممقوتة، فتنشأ الحروب بينهم لأدنى سبب, وكانت الأمراض الجاهلية مستشرية فيهم من وأد للبنات وشرب للخمر وميسر وربا وأنكحة فاسدة ونحو ذلك.
وكان أهل مكة هم أوسط العرب ولهم مزية على غيرهم, ومكانة يحفظها لهم غيرهم.
ومع ذلك لم تنج من تلك الجاهليات الجهلاء, وكان عبد المطلب بن هاشم مسوّدًا في أهل مكة, ولقد كانت السقاة والرفادة صائرة إليه بعد عمه.
وكانت عين زمزم مدفونة من أعقاب جرهم حين طردوا من مكة, فرأى عبد المطلب في منامه أنه أمر بحفر زمزم, فما كان له من ولد إلا الحارث, فنذر إن وهبه الله عشرة من الولد أن يفدي بأحدهم قربانًا, فكان ما أراد وحفر بئر زمزم حيث يمنعه أبناؤه.
وحين أراد الوفاء بالنذر قدم أبناءه ليذبح أحدهم, فكتب أسماءهم في القداح, فخرج قدح ابنه عبد الله, فأخذه ليذبحه, فمنعته قريش, واستقر الأمر على الذهاب إلى كاهنة, فكان من أمرها أن قالت بأن تضرب القداح بين عبد الله وبين عشر من الإبل حتى تخرج على الإبل, فضربوا القداح بين عبد الله وبين الإبل فخرجت على عبد الله حتى عشر مرات ثم خرجت على الإبل ثم ذبحت الإبل فداءً عن عبد الله.
وما مرت أيام قلائل حتى تزوج عبد الله بآمنة بنت وهب, وبعد ليال من الزواج ليست طويلة سافر عبد الله في رحلة قريش إلى الشام, وفي عودته أصابه مرض اضطره إلى البقاء في يثرب عند أخواله بني النجار, وما هي إلا أيام وتوفي.
فما أسرع ما بين فدائه وبين موته, ومن تأمل ذلك يدرك أنها مهلة أمهلها ليضع الأمانة التي في صلبه, لتحملها آمنة في أعماقها.
لتكون علامة البشرى لتبديد تلك الظلمات التي غشيت الأرض وأهلها.
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة قال: "قلت: يا نبي الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال: ((دعوة أبي إبراهيم, وبشرى عيسى, ورأت أمي نورًا أضاءت منه قصور الشام)).
فولد يوم الاثنين, والتُمس له بعد ولادته مرضعة من مرضعات أهل البوادي, فكانت المرضعات تعرض عنه ليتمه, وما كانت إحداهن تدري أنه ولد مبارك, سينالها من البركة ما لم يكن لها بحسبان, حتى كانت حليمة السعدية هي صاحبة الحظ الأوفر بذلك المولود.
قد ورد من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: "لما ولد رسول الله قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة, قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي, قمراء, ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى, أحد بني سعد بن بكر, ثم أحد بني ناضرة, قد أدمت أتاننا, ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن في سنة عجفاء, قد جاء الناس حتى أخلص إليهم الجهد, ومعي ابن لي, والله ما ينام ليلنا, وما أجد في ثدي شيئًا أعلله به, إلا أنا نرجو الغيث, وكانت لنا غنم, فنحن نرجوها, فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله فكَرِهَتْهُ, فقلنا: إنه يتيم, وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد, فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده, فكل صواحبي أخذ رضيعًا, فلما لم أجد غيره, رجعت إليه وأخذته, والله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره, فقلت لصاحبي: والله لآخذن هذا اليتيم من بني عبد المطلب, فعسى الله أن ينفعنا به, ولا أرجع من بين صواحبي ولا أخذ شيئًا, فقال: قد أصبت. قالت: فأخذته, فأتيت به الرَّحل, فوالله ما هو إلا أنت أتيت به الرَّحل, فأمسيت أقبل ثدياي باللبن, حتى أرويته, وأرويت أخاه, وقام أبوه إلى شارفنا تلك يلمسها فإذا هي حافل, فحلبها, فأرواني وروي, فقال: يا حليمة, تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة, ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمنّ, قالت: فبتنا بخير ليلة شباعًا, وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا.
ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي, فركبت أتاني, فحملته معي, فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا, أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم, فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلامًا مباركًا. قالت: فخرجنا, فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرًا حتى قدمنا والبلاد سِنَةٌ, ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون, فتروح أغنام بني سعد جياعًا, وتروح غنمي شباعًا, بطانًا, حفلاً, فنحتلب, ونشرب, فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى, وغنم حليمة تروح شباعًا حفلاً, وتروح غنمكم جياعًا؟ ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم, فيسرحون معهم, فما تروح إلا جياعًا, كما كانت, وترجع غنمي كما كانت.
قالت: وكان يشب شبابًا ما يشبه أحد من الغلمان, يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر, ويشب في الشهر شباب السنة, فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة, أنا وأبوه, فقلنا: والله لا نفارقه أبدًا ونحن نستطيع, فلما أتينا أمه, قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبيًا قط أعظم بركة منه, وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها, فدعيه نرجع به حتى تبرئ من دائك, فلم نزل بها حتى أذنت, فرجعنا به, فأقمنا أشهرًا ثلاثة أو أربعة, فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بُهْم, إذا أتى أخوه يشتدُّ, وأنا وأبوه في البدن, فقال: إن أخي القرشي, أتاه رجلان عليهما ثياب بيض, فأخذاه واضطجعاه, فشقَّا بطنه, فخرجت أنا وأبوه يشتدُّ, فوجدناه قائمًا, قد انتقع لونه, فلما رآنا أجهش إلينا, وبكى, قالت: فالتزمته أنا وأبوه, فضحكناه إلينا, فقلنا: مالك بأبي أنت؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني, وصنعا به شيئًا, ثم رداه كما هو, فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب, إلحقي بأهله, فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه. قالت: فاحتملناه, فقدمنا به على أمه, فلما رأتنا أنكرت شأننا, وقالت: ما رجعكما به قبل أن أسألكماه, وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قد قضى الله الرضاعة، وسرّنا ما نرى وقلنا نؤويه كما تحبون أحبَّ إلينا, قال: فقالت: إن لكما شأنًا فأخبراني ما هو, فلم تدعنا حتى أخبرناها, فقالت: كلا والله, لا يصنع الله ذلك به, إن لابني شأنًا, أفلا أخبركما خبره, إني حملت به, فوالله ما حملت حملاً قط, كان أخف علي منه, ولا أيسر منه, ثم رأيت حين حملته خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى, فوالله ما وقع كما يقع الصبيان لقد وقع معتمدًا بيديه على الأرض رافعًا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته وانطلقنا".
ولما بلغ ست سنين توفيت أمه, وهي عائدة من زيارة قبر أبيه عبد الله, فعاش بعد ذلك في كنف جده عبد المطلب, ثم في كنف عمه أبي طالب.
وكان في حياته قبل بعثته محفوظًا من جميع أعمال الجاهلية, فكان مبغضًا للأصنام, فلم يخرّ لها يومًا, ولم يهمس بتعظيمها حرفًا.
وكان على خلق عظيم يشهده له كل أهل مكة, حتى أطلقوا عليه الصادق الأمين, وكانوا يودعون عنده ودائعهم, ويرضونه في التحكيم بينهم.
شب وتزوج بخديجة رضي الله عنها, ورزقه الله تعالى منها الولد, وشارك في بناء الكعبة, بل لقد كان محكمًا لقريش في اختلافها في رفع الحجر.
ومضى في حياته تلك حتى حبب إليه الخلاء, فكان يخرج إلى غار حراء, يتعبد لله تعالى فيه.
وهناك في ليلة من ليالي رمضان جاءه جبريل ليكون ذلك اليوم مبدأ لتاريخ الرسالة التي قضى لها أيامه وأسهر من أجلها لياليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1470)
زهد النبي صلى الله عليه وسلم
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الزهد والورع, الشمائل
عبد الله الهذيل
الرياض
5/8/1415
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله عز وجل رزقنا صغاراً وهو يرزقنا كباراً. 2- زهد النبي في طعامه. 3- زهد النبي
زهداً اختياري.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله:
حياةٌ مضت في الجهاد والدعوة, والصبر والثبات, فكانت كلُها أسوةً حسنة.
وصراطًا مستقيمًا, وطريقًا يهدي إلى الحق, ومعينًا صافيًا, يُنهل منه العذب الزلال.
حياة نبينا , أكرم الخلق على الله تعالى, وسيد ولد آدم أجمعين, الصادق الأمين.
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهتُه تأتيك بالخبر
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
ولنعش اليوم مع عيشه , كيف كان؟ أي بيت كان يسكن؟ وأي فراش كان يتوسد؟ وأي طعام كان يأكل, وأي حال كان فيه؟
أهي القصور الفارهة التي يكاد أن لا يُعلم أولها من آخرها؟!
أهي فرشٌ من حرير, تمتد أطوالها وأعراضها.
أهي الموائد الممتدة بأصناف المآكل والمشارب التي يحتار المرء في اختيارها.
لا, والله ليس من ذلك شيء...
ولو شاء الله تعالى لوهب له الدنيا وأمثالها معها, ولكن هي دنيا, وما ضد الدنو إلا العلو.
أيها المسلمون:
لنقف مع تلك الحياة, وذلك العيش, لندرك حقيقة ما نحن عليه, في وقت ترى فيه كثيرًا من الناس قابضًا على قلبه, منشغلاً فكره, خوفًا على رزقه أن ينقطع, وحياته أن تنتكس، ظانًا أن الرزق بيد فلان أو فلان, أو بكذا أو كذا, فيظل يلهث, ويبذل الجهود والأوقات, فيشتري فناءً ببقاء ولا يبالي, من أجل أن يزيد المال, أو أن يبقى هو هو على أقل تقدير, ونسي أن الله تعالى رزقه وهو في بطن أمه تسعة أشهر, وألهمه أن يتغذى وهو هناك دون أن يقدم له أحدٌ طعامًا أو شرابًا, ثم لما خرج من بطن أمه ألهمه أن يمص ثدي أمه, وأصبح ذاك الذي كان يتغذى منه في رحمها لبنًا صافيًا سائغًا يمصه من ثديها, وخرج وهو لا يعلم شيئًا, فجعل الله تعالى له السمع والبصر والفؤاد, ثم تنقل في مراحل عمره, ورعاية الله عز وجل تحيط به, ورزقه مقدر له عند الله تعالى, فيمضي ريعان شبابه حتى يبلغ الثلاثين أو الأربعين.
أبعد تلك السنين يخاف أن ينقطع رزق الله عنه؟ فيُعلق غناه وفقره بفلان أو فلان, بل ويعلق بالجمادات.
ولست أعني بذلك الأسباب, ولكن ذاك الاعتقاد في القلب, الذي يعبر عنه لسان الحال والمقال, من حيث يشعر صاحبه أو لا يشعر.
أيها الأحبة في الله تعالى:
عاش نبينا حياته ولم يشبع كما شبع أقلّنا, ولم يلبس كما لبس أقلنا, ولم يتوسد على مثل ما يتوسد عليه أقلنا.
عنده تسعة من البيوت, كلها حجرات, يأتيه ضيفه فلا يجد ما يضيفه به.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض".
وفي الصحيح أيضًا عنها رضي الله عنها قالت: " ما أكل آل محمد أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر".
وفيه عن قتادة قال: "كنا نأتي أنس بن مالك رضي الله عنه, وخبازه قائم, وقال: "كلوا فما أعلم النبي رأى رغيفًا مرققًا حتى لحق بالله, ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط".
وفيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا, إنما هو التمر والماء, إلا أن نؤتى باللُحم.
وفيه أيضًا عنها رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: ابن أختي, إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله نار, قال: فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان, التمر والماء, إلا أنه قد كان لرسول الله جيران من الأنصار, كان لهم منائح, وكانوا يمنحون رسول الله من أبياتهم فيسقيناه".
وفي الصحيح أيضًا عن عمر رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش, قد أثر الرمال في جنبه, متكئًا على وسادة من أدم حشوها ليف, فرفعت بصري في بيته, فوالله ما رأيت فيه شيئًا يرد البصر غير أهبة ثلاثة, فقلت: يا رسول الله, ادع الله فليوسع على أمتك, فإن فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله, فقال: ((أو في هذا أنت يابن الخطاب؟! إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في الحياة الدنيا)).
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله من الدنيا, ولم يشبع من خبز الشعير.
وفي المسند وسنن الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد, ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد, وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبطُ بلال)).
وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم ما يجد من الدَّقَّل [وهو التمر الرديء] ما يملأ به بطنه" وزِيْدَ في رواية: "وما ترضون دون ألوان التمر والزُبدِ".
وفي كتاب الزهد لوكيع بن الجراح عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كنا لنرفع للنبي الكُرَاع, فيأكلَه بعد شهر.
وكان في غزوة الخندق يربط على بطنه حجرًا من شدة الجوع.
وتأتيه ابنته وقد أثرت الرحى في يديها, تسأله خادمًا فيدلها على التسبيح والتهليل والتحميد.
وعن علي رضي الله عنه قال: "ما كان لنا إلا إهاب كبش, ننام على ناحيته, وتعجن فاطمة على ناحيته".
أيها المسلمون:
هذا هو عيش نبينا وآل بيته, وهو سيد البشر, وأكرم الخلق على الله تعالى, رفض الدنيا, ورغب بما عند الله تعالى, ولو أراد الدنيا لأتت إليه منقادة بإذن ربها, ولكن كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)) وفي رواية: ((كفافًا)).
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما يسرّني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا تمضي علي ثلاثة وعندي منه دينار, إلا شيئًا أرصده لِدَين, إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا)) عن يمينه وعن شماله ومن خلفه.
ومضى أصحابه رضوان الله عليهم من بعده على ما كان عليه, ومضى على ذلك سلف الأمة الأبرار, ثم خلفت خلوف, سارعت في دنوّها, فانشغلت بها عن ساميات الأمور ومعاليها, فلم يُغن ذلك عنها شيئًا, مرت عبر سنين وقرون, وفي المتقدم عبرةٌ للمتأخر, ولكن يأبى المتأخر إلا أن يكون عبرة لمن بعد, وهكذا تمضي الآيام والسنين, وتفنى معها الأموال والمناصب, ويبقى للإنسان ما قدم, إن خيرًا فخير, وإلا فعلى نفسه جنى.
أيها الأحبة في الله:
وليس معنى ذلك أن يجحد المرء خيرًا ساقه الله إليه, ورزقًا أغدقه عليه, ونعمة أسبغها عليه, فصاحبه الذي يؤدي حق الله تعالى له أجره ونوره عند ربه.
ولكن أن تصرف الهمم والجهود والأعمار في مطالب الدنيا على حساب الآخرة, بل ولا يؤدي الحق المفروض فيها, وكذلك أن يساء الظن بالله تعالى في أن سينقطع الرزق, أو أن يعلق الرزق بفلان أو بفلان, أو بكذا أو بكذا, فذاك منزلق خطير, وهوّة مهلكة.
فاحذر تزِّل فَتَحتَ رِجلك هوة كم قد هوى فيها من الثقلان
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1471)
دروس في سورة يوسف
سيرة وتاريخ
القصص
عبد الله الهذيل
الرياض
30/7/1416
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة يوسف عند أبيه وأثرها في إخوته. 2- عفة يوسف في بلاط العزيز رغم قوة الدوافع
الداعية إلى الخنا. 3- يوسف يفضل السجن على الفتنة. 4- يوسف يدعو إلى الله في سجنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين.
روى الإمام أحمد والبخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)).
سلسلة مباركة مصطفاة, انتظمت خيار عباد الله تعالى, الذين بلغوا ما أنزل إليهم من ربهم, وجاهدوا في الله حق جهاده, فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله.
ولقد قص الله تعالى علينا نبأهم, لننهل من معين سيرهم ما يُثبت به الفؤاد, ويُجَدّ به السَيْرَ, وتطيب الحياة بالاقتداء أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
ومن هنا سنعيش وقفات مع أحسن القصص, نتذاكر فيها, وأي قصص أحسن مما في كتاب الله تعالى؟!
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فنزلت نحن نقص عليك أحسن القصص.
أيها الأحبة في الله:
إن المرء ليقرأ السورة من القرآن ثم يعود إليها مرة بعد مرة, وكلما عاد يرى وكأنها أول قراءة له فيها, وينفتح له من معانيها ما يشعر أن لم يكن في قراءة سابقة.
وقد سمعتم صدر سورة يوسف, فمن لم يقرأها؟!, ومن لم يقف مع معانيها أو أكثرها؟!
أكاد أجزم أن لا أحد, ولكن ليُعد قراءتها مراتٍ, ويكرر النظر في معانيها, ليدرك حقيقة ما سبق.
أيها الأحبة في الله:
وإن تدارس ما في تلك السورة من معاني, مما لا يسعه هذا المقام, ولن يوفيه حقه ما نقول, كيف وقد قال قال سبحانه: لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين.
ولكن سنقضيها دروسًا نغترفها من عين معين عذبة طيبة, لعلّ إيمانًا يزيد, ويقينًا يملأ القلوب.
أيها الأحبة في الله:
فالدرس الأول: عند قوله تعالى: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين الآيات بعدها.
أولئك كان منهم ما كان, ولكنهم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا, وقبل الله تعالى منهم, وخصهم بالفضل بعد ذلك. لذا سنتدراس الفعل ودوافعه, أما أعيان فاعليه فشأنهم أعلى.
إن الفضل الذي خص به يوسف عليه السلام مما جعل أباه عليه السلام تبلغ محبته غاية في قلبه, إن ذلك وغيره لم يقبله اخوته, ولم يطيقوه, فتحركت في قلوبهم دوافع الحسد والغيرة, فسعوا في ضره والتخلص منه, ولو بالقتل, ولكن اجتمع أمرهم على أن يلقوه في غيابة الجب, فاستأذنوا أباهم وأصروا عليه وطمأنوه حتى أخذوا يوسف بحجة الاستئناس واللعب.
قال ابن كثير: وذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه, ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه, والفعل من ضرب ونحوه, ثم جاؤا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه, فربطوه بحبل ودلوه فيه, فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه, وإذا تشبث بحافات البئر, ضربوا على يديه, ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة, فسقط في الماء فغمره, فصعد إلى صخرة تكون في وسطه" يقال لها الراغوفة فقام فوقها".
أيها المسلمون:
إن دافع الحسد عندما يطغى على القلوب, يفسد عليها عيشها, فلا تقر لها عين على أي حال, فتسعى جهدها في إضرار عباد الله تعالى, ممن فتح الله عليهم بالخير, وكم نشاهد ممن امتلأت قلوبهم غيظًا وحسدًا على من شُهد له بالخير والفضل, فتراه لا ينام بليل, ولا يهنأ بعيش, فينفس عن بعض ما يغلي به الفؤاد بهمز ولمز وافتراء, وما شابه ذلك, بل يسعى جهده ووقته في الإضرار.
فمساكين أمثال هؤلاء, لم يلتفتوا إلى مصالح أنفسهم, وأشغلوا أنفسهم بما لازم ثمرته خلاف ما يريدون, وهم وإن قضوا أيامًا شفوا فيها بعض ما في الصدور, ولكن سرعان ما تعود عليهم الأمور أضعاف ما كان.
فليراجع كلٌ نفسه, ولينظر أي القلوب يختار, ولتصدق أقواله وأعماله حقيقة الاختيار.
أيها المسلمون:
والدرس الثاني: عند قوله سبحانه وتعالى: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
لما أن ألقاه إخوته في البئر جاءت سيارة تستسقي الماء, فأرسلوا الدلوا فتعلق به يوسف, فاستبشروا به, فباعوه واشتراه عزيز مصر, وكان يوسف عليه السلام ذا جمال شديد, بل قد جاء في الصحيح أنه أوتي شطر الجمال, فلم تتمالك امرأة العزيز نفسها لما رأت فيه ذلك الجمال حتى راودته عن نفسه, فأبى عليها.
وقد حفظه الله تعالى وصرف عنه السوء والفحشاء كما قال سبحانه ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه, كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين.
فالهم الذي هم به يوسف هو خطرات حديث النفس, وقوله سبحانه لولا أن رأى برهان ربه قال ابن جرير: والصواب أن يقال: إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به, وجائز أن يكون صورة يعقوب, وجائز أن يكون صورة الملك إلى أن قال: فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى. اهـ.
وتأملوا قوله سبحانه: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء فكأن السوء والفحشاء هي التي كادت تأتي إليه, ولم يقدم هو عليها, فصرف الله تعالى ذلك السوء عنه.
وشاهد الدرس في هذا: أن تتأملوا واقع الحال:
دعوة من امرأة ذات منصب, واختيار العزيز لها زوجة دليل على جمالها, وهي سيدة في بيتها, وقد هيأت المكان وتهيأت في وحدة غلقت الأبواب دونها.
وشاب في ريعان الشباب, بالغ في الجمال غايته, غريب الدار والوطن, كفي مؤونة الطلب, ولم يرَ في الزوج غيرة تُذكر, هذا وغيره, أليس دافعًا إلى الإنسياق وراء تلك الشهوة؟
نعم.. إذا كان القلب متخبطاً في ظلماته, لم يهتم بنور الإيمان, بل إن أقل من ذلك بكثير يجعله يسعى إليها سعيًا حثيثًا.
أما يوسف عليه السلام, فالمطلب عنده أعلى, والغاية أسمى, كيف لا, وقد اجتباه الله تعالى واصطفاه.
فمع كل تلك الدوافع, لم يجب يوسف عليه السلام امرأة العزيز إلى أدنى ما تريد, فضلاً عن أن يجيبها إلى أصل ما تريد.
وذلك موضع, الصبر فيه من أعظم الصبر, لذلك كان أشباه يوسف عليه السلام في ظل الله تعالى غدًا يوم لا ظل إلا ظله.
فأين أشباه يوسف عليه السلام؟! وأنت ترى شبابًا بل وشيبًا من المسلمين, ليس الحال فيهم أن يعرض عليهم الطلب بلا تقصد منهم إليه, بل إنهم يسعون إليه سعيًا حثيثًا في شرق وغرب, ويستعرضون المفاتن فيما يشاهدون ويسمعون, فإلى أي هاوية ينحدر أمثال هؤلاء؟
وأي حر وشدة سيعيشونها في حين يقضي غيرهم ـ ممن ترك شهوة حاضرة لوعد غيب لم يره ـ في ظل ظليل. ذلك الفضل من الله, وكفى بالله عليمًا.
فانظر لنفسك أيها الأخ الحبيب: أي الفريقين تختار, وأي الشبهين تريد أن تلحق, شبيه يوسف عليه السلام. أم شبيه من تعلم ممن حكوا معاني الفساد والخنا.
أيها الأحبة في الله:
والدرس الثالث عند قوله تعالى: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه, وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين.
لما لم تجدِ طريقة الترغيب والإغراء وعرض الطلب مرارًا, لم يعد عند الظالمين إلا التهديد والتعذيب والإيذاء, فسعت هذه المرأة لما لها من منصب في طريق الترهيب ليوسف عليه السلام, فأبت إلا أن يسجن ويؤذى, وتحسب أن السجن سيغير من الأمر شيئًا, ولكن تظهر الصدمة لها, لما أن يكون السجن حبيبًا عند خصمها في سبيل مرضاة الله عز وجل. قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه.
فمن يحب السجن؟
ومن يحب الأذى؟
لا أحد.
ولكن عندما تتعارض المطالب, ويكون السجن حتمًا, عندما يسعى المرء فيما يرضاه عنه ربه عز وجل... حينئذ يكون السجن حبيبًا, والعذاب عذبًا, والأذى لذةً, عندما يستشعر العبد أن ذلك كله في الله ولله.
وهكذا هددوا يوسف عليه السلام, ولكن ما حيلتهم فيه عندما عاد ذلك السجن والتعذيب عذوبةً يجد حلاوتها في قلبه, وإن ضاقت به الجدران, فهو في عيش فسيح لما أن ربط القلب بخالقه عز وجل...
وطغى الهول فاقتحم
ثابت القلب والقدم
تثنه شدة الألم
نورها بدد الظلم
باركي وطأة القدم
لا ولا سافكًا لدم
ينشر الخير في الأمم
سوف تغويه في الظلم
عالي القدر في القمم
برأ الخلق من عدم
وله الله منتقم
عبس الخطب فابتسم
رابط الجأش والهنى
لم يبال الأذى ولم
جنة في فؤاده
يا عرى السجن هللي
من أتى ليس مجرمًا
إنما ذاك مصلح
حسبوا أن روعة
ما دروا أنه فتىً
وجه الوجه للذي
فله الله ناصر
وذاك الطريق طريق الأنبياء واتباعهم في كل ما يؤذون فيه ويعادون من أجله.
ثم لما أن أدخلوا يوسف السجن, هل غاب عنه الهمّ الذي كان يحمله, فضاقت نفسه بما هي فيه وانشغل عن كل مطلب؟َ!
لا والله...
بل كان داعية إلى الحق وهو في سجنه, فعم خيره من في السجن. وتأملوا ذلك في قول الله تعالى عنه يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فالدعوة إلى الله تعالى هو طريق الأنبياء وأتباع الأنبياء. فطوبى لمن كانت أكبر همه, فما تراه في صغير ولا كبير إلا ويسعى جهده في تبليغها.
أيها الأحبة في الله:
والحديث يطول, والمعاني لم توف حقها.. ولكن غيض من فيض.
ولدروس أخر من هذه السورة حديث إن شاء الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1472)
رجال الفجر
فقه
الصلاة
عبد الله الهذيل
الرياض
29/2/1418
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيف يفكر ابن الدنيا في يومه. 2- كيف يقضي يومه رجل من أهل صلاة الفجر. 3-
رجال تشهدهم ملائكة الرحمن. 4- جزاؤهم في الآخرة. 5- فضل إدراك صلاة الفجر. 6-
المنافقون يغيبون عن صلاة الفجر. 7- بول الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله...
إن النظرة المادية للحياة لتعطي صورًا عظيمة لكل معنى تتحدث عنه, وتحيط بصاحبها في أفق ضيّق لم يتجاوز الخلود إلى هذه الأرض واتباع الهوى.
وفي سؤال يعرض على أهل تلك النظرات: بأي شيء يبدأ المرء يومه الجديد, بعد أن ودع أمسه الماضي؟ فإذا الجواب يأتيك وقد حاول أن يستوعب كل ما للدنيا من مطالب بأن يبدأ يومه بموعد جديد مع العمل الدؤوب والجهد المضاعف في وظيفته أو تجارته.
وبأن يبدأه بابتسامة عريضة أمام هذه الدنيا ومطالبها, وبأن يبدأه بتسريح شعره, وتنميق هندامه, وتنظيم مركبه ومكتبه.
وهكذا تسمعه متجاوزًا ذلك الجواب أسمى المعاني, وأعلى المطالب, متجاوزًا تلك الدقائق الغالية, التي يقفها المؤمن بين يدي ربه عز وجل, وقد فزع إليها أول ما استيقظ في يومه الجديد.
ولا عجب, أن تنسى أو تتناسى تلك النظرات المادية هذه الدقائق الثمينة, وتحذفها من سجل الأعمال اليومية؛ لأنها لم تعش حلاوتها, ولم تتذوق لذتها, ورضيت أن تعيش مختومة السمع والفؤاد.
أيها الأحبة في الله:
وفي هذه اللحظات سنتذاكر شأن تلك الدقائق الغالية, ونتدارس فضائل أهلها, الذين هم صفوة الناس حقًا.
أولئك رجال الفجر, وأهل صلاة الفجر, أولئك الذين ما إن سمعوا النداء يدوي, الله أكبر, الله أكبر, الصلاة خير من النوم, هبّوا وفزعوا وإن طاب المنام, وتركوا الفرش وإن كانت وثيرًا, ملبين النداء, فخرج الواحد منهم إلى بيت من بيوت الله تعالى وهو يقول: ((اللهم اجعل في قلبي نورًا, وفي لساني نورًا, واجعل في سمعي نورًا, واجعل في بصري نورًا, واجعل من خلفي نورًا, ومن أمامي نورًا, واجعل من فوقي نورًا)) فما ظنكم بمن خرج لله في ذلك الوقت, لم تخرجه دنيا يصيبها, ولا أموال يقترفها, أليس هو أقرب إلى الإجابة, فيالسعادة يعيشها حين لا ينفك النور عنه طرفة عين.
أيها الأحبة في الله: إن أهل الفجر لهم ثناء جميل, لا أقول سطرته وسائل الإعلام باختلاف أشكالها, فليسوا بحاجة إلى أن ينشر لهم عمل, ولكنه ثناء أعظم وأجل, مسطر في رق منشور, ثناء تكلم به الجبار جل جلاله, وحسبك بثناء من عند الله تعالى, الذي لا يزين مدحه إلا هو, ولا يشين ذمه إلا هو, فبشراكم ذلك الثناء يا أهل الفجر, قال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا , وقال سبحانه: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا , وقرآن الفجر: صلاة الفجر.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر)), وفي الصحيحين عنه رضي الله عنه أن النبي قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر, فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)).
أيها الأحبة في الله: وإن أهل الفجر كانت صلاتهم لهم ستارًا من النار, وسبيلاً إلى جنات نعيم.
ففي صحيح مسلم من حديث عمار بن رؤيبة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لن يلج النار أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)).
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: ((من صلى البَرْدين دخل الجنة)), والبردان: الفجر والعصر.
وأهل الفجر لهم وعد صادق بأن يروا ربهم عز وجل, ففي الصحيحن من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي قال: ((أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) يعني صلاة العصر والفجر ثم قرأ فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.
وأهل الفجر تضاعف لهم أجورهم بأن يكونوا كمن قام الليل كله, ففي صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي قال: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل, ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله)).
أيها الأحبة في الله: وأهل الفجر في ذمة الله تعالى وجواره, فما ظنكم بمن كان في جوار الله تعالى, وأنتم ترون الناس يطمئنون ويأمنون أشد الأمن حين يكون أحدهم في جوار عظيم من عظماء الدنيا, فلمن كان في جوار الله لهو أشد أمانًا واطمئنانًا.
ففي صحيح مسلم من حديث جُندَب بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال: ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله, فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء, فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه, ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)).
وإن أهل الفجر لما لم تمنعهم ظلمة الليل من أن يمشوا فيها إلى بيوت الله تعالى كان من جزائهم أن يسيروا في نور تام يوم القيامة، فعند أبي داود والترمذي من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)).
وعند الدارمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي قال: ((من مشى في ظلمة ليل إلى صلاة آتاه الله نورًا يوم القيامة)).
أيها الأحبة في الله: وإن صلاة الفجر لهي ميزان للإيمان, وأمارة من أمارات صدق صاحبها, وإنك لتعجب, ممن أظهر أمارات الإلتزام وله مع الطيبين ذهاب وإياب، ثم هو مفقود في صلاة الفجر, لا تكاد تراه إلا في فترات متباعدة, فأي التزام هذا، وهو لم يأخذ بصاحبه إلى أن يكون من أهل الفجر؟!
أيها المسلمون:
فصلاة الفجر لا يشهدها إلا صفوة الناس, لذلك كانت تلك الصلاة أشدّ صلاة على المنافقين, كما قال : ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء, ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)) رواه البخاري.
وعند الدارمي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى صلاة الصبح ثم أقبل علينا بوجهه فقال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا, فقال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا, لنفر من المنافقين لم يشهدوا الصلاة, فقال: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلاة على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)).
ولذلك كانت صلاة الفجر عند الصحابة مقياسًا يزنون به الناس, ففي صحيح ابن خزيمة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن.
أيها الأحبة في الله: وبعد هذا, فماذا يقول ذلك الذي آثر فراشه معرضًا عن نداء ربه عز وجل؟! ماذا يقول وقد فوّت على نفسه ذلك الفضل العظيم؟! في حين تراه خلف سقط المتاع يلهث من صبحه إلى مسائه.
ماذا يقول وهو يقيم الوقت الطويل في السهر الضائع, وجلسات اللهو واللعب؟! وإلى تلك الدقائق الغالية تقصر فيه كل همه.
فيامن فقدناك في صفوف الفجر, أعني في صف الفجر الذي لم يكتمل!! أرضيت أن تكون أسيرًا للشيطان والهوى؟! أرضيت أن يبول الشيطان في أذنيك؟! فلا يجعلها تسمع نداءً, ولا تجيب فلاحًا.
ففي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)), أو قال: ((في أذنه)).
ثم هل ترضى أن يحضر الشيطان منزلك كل ليلة فيبيت معك حتى تصبح, وهو يراك فريسة اصطادها في كل يوم!!
فإذا كان الذي تفوته الصلاة غير مفرط وهو معذور قد حضر الشيطان منزله, فكيف بمن هو مفرط فيها, ومعرض عنها؟!
فإن النبي لما استيقظ هو ومن معه من الجيش حين قفل من خيبر, لما استيقظوا بعد طلوع الشمس, قال عليه الصلاة والسلام: ((ليأخذ كل رجل برأس راحلته, فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان)).
فهلا عزمت من ساعة هذه أن تكون ضمن الركب المبارك, أهل الفجر, لتحظى بفضائلهم, ولتنجو من الوعيد الشديد للذين ينامون عن فرائض الله تعالى.
ففي الصحيح عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق, وإني انطلقت معهما وإنَّا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة, وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى, قلت لهما: سبحان الله, ما هذان؟!!)) وفي آخر الحديث أن جبريل قال له: (( وأما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1473)
رجل قلبه معلق بالمساجد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
أحاديث مشروحة, المساجد, فضائل الأعمال
عبد الله الهذيل
الرياض
26/3/1415
فيحان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحد السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم القيامة. 2- معنى: ((قلبه معلق بالمساجد)). 3- الترغيب في بناء المساجد. 4- بناء المسجد النبوي. 5- تعلق قلوب الناس بالدنيا وزخارفها. 6- تعلق قلب النبي بالمسجد والصلاة. 7- فضيلة المكث في المساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
وثالث سبعة يظلهم الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل قلبه معلق بالمساجد)).
وهذه عمارة المساجد حقًا, كما قال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18]، وقال عز من قائل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور: 36-38].
رجل تعلق قلبه بالمساجد, كلما نودي للصلاة فيها سارع إليها وإليه بشوقٍ وشديدِ رغبة؛ لينال القلب ارتياحه الذي لا يتهيأ بمتاع الدنيا وإن عظم, فسبيله في ذلك سبيل من كان يأمر بلالاً رضي الله عنه: ((أرحنا بها يا بلال)) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وإذا قضيت الصلاة ظلّ القلب معلّقًا بالمسجد وإن خرج منه الجسد حتى يعود إليه مرة أخرى.
وما كان هذا التعلق أن يأتي من فراغ, ولكنه ثمرة التعلق بالله سبحانه وتعالى محبة وإنابة ورغبة ورهبة وخوفًا ورجاءً وإخلاصًا وتوكلاً وذلاً وتعبدًا، فالتعلق بالله عز وجل وحده هو الغاية العظمى والنجاة الحقة.
ومن تعلق بغير الله عز وجل شأنه كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ الآية [العنكبوت: 41]. وكما قيل:
والمستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
أيها المسلمون، إن المسجد ركن ركين وأصل أصيل لا يخفى على أحد أهميته, لذا كان المسجد أول بيت وضع للناس بمكة, كما قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران: 96]. والأرض كلها لله عز وجل, ولأهمية المسجد خصه الله عز وجل لنفسه كما قال سبحانه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18].
وقد وعد سبحانه وتعالى بالثواب الجزيل لمن بنى له مسجدًا, ففي الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي قال: ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة)).
وأول ما قدم النبي المدينة بنى مسجد قباء، وأقام هناك الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ثم توجه إلى المدينة ضحى الجمعة, والصحابة رضوان الله عليهم كلٌ يريد أن يأخذ بزمام ناقته ليكون ضيفه ونزيله, وهو يقول : ((خلوا سبيلها فإنها مأمورة))، فسارت الناقة حتى وصلت إلى بيت أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه فبركت هناك, فنزل النبي بمنزل أبي أيوب, وبنى المسجد حيث بركت الناقة, وكانت أرضًا ليتيمين, فأراد شراءها منهما ، فرفضا البيع وقالا: نَهَبُهَا لك يا رسول الله, فرفض النبي إلا البيع, فابتاعها, ثم أخذ يستعد هو والصحابة في بناء المسجد, فأمر بتسوية الأرض ونبش القبور وقطع النخيل وعجن الطين وضرب اللبن وإحضار جذوع النخل، وكان ينقل اللبن والحجارة بنفسه وهو يقول:
((اللّهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة))
وكان يقول:
((هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبرُّ ربَّنا وأطهر))
فيقول الصحابة رضوان الله عليهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلّل
أيها المسلمون، ففي هذا دلالة بينة على أهمية المسجد, إذ لم يؤجله النبي , لا في قباء مع أن مكثه فيها أربعة أيام فقط, ولا في المدينة.
أيها الأحبة في الله، وإن الحديث عن المسجد وأهميته ودوره في بناء المجتمع والرسالة المناطة بأهله لحديث يطول الوقت فيه، وفي ذلك رسائل كتبت وكتبٌ أُلفت ومؤتمرات عقدت، هذا مع بيان الأمر وجلائه على كل مؤمن. ونقصر الحديث على السلسلة التي بدأناها، ويومنا هذا مع ثالثها وثالث السبعة.
أيها المسلمون، تعلقت قلوبٌ بالدنيا والدرهم فذهبت وتركتها, وتعلقت قلوبٌ بمواقع اللهو واللعب فذهبت وتركتها وأعقبتها حسرة وندامة، وتعلقت قلوب بمعاني الحب الزائغ والعشق المهلك حتى وقفت عندها ولم تستطيع عنها حراكًا فأنشدت:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حبًا لذكرك فليلمني اللوّم
فذهبت وتركتها, ونار الهوى تحرقها, وما يعقبها أشد وأبقى.
وهذه وأمثالها تعلقات بدواعي الهوى والدنيا والنفس والشيطان, وكل ذلك إلى فناء وزوال, فأي شيء يحظى به الظمآن من شراب في هاجرة فما تزيده إلا ظمأً, بل وتزيد أن تسوقه إلى حفرة هاوية يكون بها هلاكهُ؟!
أيها المسلمون، إن القلوب المتعلقة بالمساجد لهي قلوب ملؤها الإيمان والتقى والمسارعة إلى الخيرات, سارعت إلى محو الخطايا ورفع الدرجات, سارعت إلى ظل الله عز وجل, سارعت إلى النور التام يوم القيامة, سارعت إلى الصلاة فانتظرت الصلاة، فلم تزل الملائكة تصلي على أصحابها: اللهم صل عليهم, اللهم اغفر لهم.
قلوب أبت سبيل المنافقين الذين لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، قلوب حكت سنة سيد المرسلين الذي جعلت قرة عينه في الصلاة, والذي كان همه وهو يعاني شدة الموت الصلاة بالمسجد، عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله ؟ فقالت: بلى, ثقُل النبي فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله, قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب))، ففعلنا, فاغتسل, ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: ((أصلى الناس؟)) قلنا: لا, هم ينتظرونك يا رسول الله. قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء, فأرسل رسول الله إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس, وكان أبو بكر رجلاً رقيقًا, فقال: يا عمر، صل بالناس, فقال: أنت أحق بذلك, فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله وجد من نفسه خفةً, فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس, فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر, فأومأ إليه أن لا يتأخر, وقال لهما: ((أجلساني إلى جنبه)), فأجلساه إلى جنبه, فكان أبو بكر يصلي وهو يأتم بصلاة النبي , والناس يصلون بصلاة أبي بكر, والنبي يصلي قاعدًا.
أيها الإخوة المؤمنون، ثمة قلوب حكت سيرة الأسلاف لما كان أحدهم يأتي إلى المسجد يهادى بين الرجلين من شدة المرض، وهذا ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير لما أن مرض أمر أولاده بأن يحملوه إلى المسجد، وسعيد بن المسيب رحمه الله تعالى يقول في سكرات الموت: "والله، ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد". فيما نرى فئة من الناس هجرت المساجد فلا تقربها إلا في المناسبات، فئة من الناس لا تأتي المساجد إلا قليلاً, وإذا جاءت فعلى ثقل وكأنها على جمر الغضا، وهذا سبيل المنافقين إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً الآية [النساء: 142]. وهذه علامة للساعة, فعند أبي داود: ((ليأتين على أمتي زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)).
أيها الإخوة المؤمنون، أسرعوا في الخيرات وتعلقوا ببيوت الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح)) متفق عليه، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: صلينا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام المغرب, فرجع من رجع, وعقب من عقب, فجاء النبي مسرعًا قد حفزه النفس, قد حسر عن ركبتيه، قال: ((أبشروا, هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة, يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها, وأبغض البلاد إلى الله أسواقها))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا))، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: ((إذا صلى أحدكم ثم جلس مجلسه الذي صلى فيه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له, اللهم ارحمه؛ ما لم يحدث)), وعنه أيضًا رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((ما توطّن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشّش الله تعالى كما يتبشّش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم)), وفي رواية لابن خزيمة قال: ((ما من رجل كان توطن المساجد فشغله أمر وعلة ثم عاد إلى ما كان إلا يتبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1474)
حكومة طالبان وكسر الأوثان
التوحيد
الشرك ووسائله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مهمة الرسل إقامة التوحيد. 2- تحطيم الأصنام من أعظم واجبات الدين. 3- الكفر
بالطاغوت والسبيل إلى تحقيقه. 4- الأدلة على وجوب تحطيم الأصنام ، وبعوث النبي لذلك.
5- تحطيم الفاتحين لأصنام المشركين. 6- تعامي المنددين بتحطيم الأصنام عما يقوم به أعداء
الدين من إفساد وتدمير. 7- شُبه حول قضية تحطيم الأصنام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد أرسل الله جل وتعالى الرسل للدعوة إلى توحيده سبحانه، والتحذير من الشرك وعبادة الطواغيت، فقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل:36] ، وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25] ، وعلى هذا جاءت رسالة خاتم الرسل ، فنشر الله به التوحيد وأعلى مناره، ودك به حصون الشرك وقلع آثاره، فصلوات الله وسلامه عليه. ثم إن الناس مع كرّ السنين وتعاقب القرون ابتعدوا عن دينهم وجهلوا كثيراً من أمر التوحيد، فصارت قطعيات الدين والتوحيد محل نقاش وسؤال عند الكثيرين، ولا غرابة في هذا فقد قال النبي : ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)).
وإن من أعجب ما حصل في هذا الزمان هو عدم قبول بعض المسلمين شريعة كسر الأصنام وهدم الأوثان، مع كونها شريعة ربانية وملة إبراهيمية وسنة نبوية، وهذا أمر يثلج صدور أهل التوحيد ويُقِر أعينهم، في حين أنه يقض مضاجع أهل الشرك والتنديد على اختلاف أصنافهم من عباد الأوثان، وعباد ما يسمى بالتراث. ووالله ما يشك صبيان أهل التوحيد وأطفالهم بأن مثل هذا العمل من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهو ما بعثت له الأنبياء وأرسلت الرسل، وإن الدفاع عن التوحيد وأبوابه لمن أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه جل وعلا، ومن أجل ما تقضى به الأوقات وتفنى به الأعمار. وما كنا نظن أن يأتي زمن نحتاج إلى أن نثبت بالأدلة أن هدم الأوثان والأصنام وأوكار الشرك من أعظم واجبات الدين ولكننا والله المستعان كما يقال في زمن العجائب.
إن حدث كسر الأصنام لهو حديث الصحافة العالمية وغير العالمية هذه الأيام، وقد تنادت مؤسسات ولجان، ودول ورموز، وهيئات ثقافية عديدة في العالم لهذا الأمر، على رأسها منظمة اليونسكو العالمية وهيئة الأمم، بحجة المحافظة على إبداع الحضارة الإنسانية، والمحافظة على التراث البشري – زعموا – وهؤلاء لا عبرة بكلامهم لأن القضايا الشرعية لا تؤخذ من غير الكتاب والسنة لكن المؤسف هو قول من يحسب على أهل العلم عندما يقول: (أما التماثيل التي صنعها الأقدمون قبل الإسلام فهي تمثل تراثاً تاريخياً ومادة حية من مواد التاريخ لكل أمة، فلا يجب تدميرها وتحطيمها باعتبار أنها محرمات أو منكرات يجب تغييرها باليد، بل هي دلالة على نعمة الله تعالى على الأمة التي هداها للإسلام وحررها من عبادة الأصنام).
أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لكسر الأوثان والأصنام وتحطيمها، وأمره بالكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله وألا يعبد إلا هو سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، بل هذا هو أصل دعوة كل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [النحل:36] وإن من الكفر بالطاغوت خلع الأنداد والأصنام وبغضها ومعاداتها ومحوها وتحطيمها، فهل يُتَصور أن يُحقِق التوحيد من نهى أو خَذّل عن ذلك؟ وإن من الكفر بما يعبد من دون الله القيام على هذه الطواغيت والتي فتح أهل الكفر باب الدعوة لها باسم العودة إلى التراث والحضارة، وباسم الآثار الثمينة. يقول الامام ابن القيم رحمه الله تعالى: "لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعار الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة، وهذا حكم المَشَاهِد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركاً والله المستعان".
روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عمرو بن عبَسة قال: قلت يا رسول الله: بأي شيء أرسلك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئًا.
وفي الصحيح عن أبي الهياج رضي الله عنه قال: قال لي علي رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) وعند الإمام أحمد: ((وأن أطمس كل صنم)) وفي رواية: ((وأن تلطخ كل صنم)).
وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الشريعة بنفسه وبيده الكريمة كما جاء في صحيح البخاري ومسلم لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعُنها بالقوس ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [الإسراء:81]، قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجهها. وجاء عند البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام جذب نمطاً فيه تصاوير حتى هتكه.
بل لقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم السرايا لنواحي الجزيرة لكسر الأصنام فقد أرسل سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه لتحطيم العزى وكان صنماً تعظمه قريش فكسرها وحطمها. وأرسل سرية أخرى لكسر مناة. وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم لهذيل فكسره عمرو بن العاص بيده. وأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صنم طيء يدعى الفُلس، وكان صنماً منحوتاً على جبل من جبالهم. وأرسل سرية لتحطيم اللات. وهذه الأصنام الثلاث: العزى واللات ومناة الثالثة الأخرى هي أعظم أصنام العرب في ذلك الزمان، قال الله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [النجم:19-20].
ومع ذلك لم يكترث بأن تجتمع عليه العرب بأجمعها فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جذاذًا كلها ولم يدع منها شيئًا وأرسل سرية بقيادة جرير بن عبدالله رضي الله عنه كما رواها البخاري في مغازيه، قال جرير: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تريحني من ذي الخلَصة؟)) قال: فنفرت في مائة وخمسين راكباً فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده.
وقصة ثقيف معروفة لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية صنمهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما يهدمانها فهدماها في مشهد عظيم.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في فقه قصة وفد ثقيف، قال: (ومنها: هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المَشَاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويُشرَك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها..). وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى صنم دوس يقال له ذو الكفين فحرقه. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه من غزوة تبوك لهدم ودّ وقاتلهم حتى هدمه وكسره.
أيها المسلمون: هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الموحدين ومحطم أصنام المشركين والملحدين. فجاء بعده السلف الصالح من الصحابة والتابعين والملوك الصالحين والمجاهدين المخلصين فاقتفوا آثار هذه السنة النبوية فقد جاء في معجم البلدان أن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب غلب على ناحية سجستان في أيام عثمان رضي الله عنه فسار إلى الدَوَار فحصرهم في جبل الزون، وعلى الزون صنم من ذهب فقطع يديه وقطعه المسلمون وكسروه.
ثم القائد المجاهد محمود الغزنوي في نهاية القرن الرابع قال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله: الملك الكبير المجاهد الغازي، وكان يحب العلماء والمحدثين ويحب أهل الخير والدين، حينما غزا الهند كسر صنمهم الأكبر، واسمه سومنات سنة 416 هـ.
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس أن أهل بلْخ كان لهم صنم بناه بنو شهر فلما ظهر الإسلام خرّبه أهل بلْخ.
وكذا ما فعله إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من كسر الأصنام وتحطيم الأوثان في عصره في هذه الجزيرة، وهو أمر معروف مشهور.
أفيجيء بعد هذا من يشكك في هذه الشريعة الربانية والسنة النبوية بحجج واهية أملتها عليهم ضرورة مجاراة العصر والحضارات الكافرة؟ ونسوا أو تناسوا أنهم وافقوا الكفار في مرادهم، وما هذه الشبه التي تلقى على المسلمين هذه الأيام عبر وسائل الإعلام والأقاويل التي يتناولها هؤلاء إلاّ تخذيل لإتمام رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، علم هؤلاء أو جهلوا، والله سبحانه وتعالى يقول: فلا تكونن ظهيراً للكافرين ويقول سبحانه وتعالى: ولا تكن للخائنين خصيمًا [النساء:105] ويقول تبارك وتعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [النساء:107].
أيها المسلمون: لقد تباكى العالم أجمع مستنكرين ومنددين بل ومحاولين إيقاف كسر أصنام الشرك ورموز الكفر والإلحاد بحجة حماية الممتلكات الثقافية. فيقال: أين كان العالم عندما دمر الصرب الحاقدون المساجد الإسلامية في كوسوفا تدميراً كاملاً، وهي مساجد أثرية وتاريخية يعود بعضها للقرون الإسلامية المبكرة؟ وأين منظمة اليونسكو العالمية وهيئة الأمم عن اليهود الإسرائيليين وهم يدنسون المساجد الإسلامية كل يوم في القدس وهي مساجد أثرية تحت لائحة وحماية المنظمة العالمية ومسجلة ضمن التراث العالمي والتي تحافظ عليها اليونسكو وتعود إلى القرن الإسلامي الأول؟ وأين هم عن اليهود حينما سرقوا جميع الآثار في القدس وأريحا وجنوب لبنان في فترة الاحتلال؟ وتعمد اليهود وتحت أعين حراس الأمم المتحدة بقصف الآثار اللبنانية الرومانية والإسلامية في بعلبك والقرى الجنوبية.
إن العالم الأوروبي الذي أسس وسن أنظمة حماية التراث الإنساني هو الذي سرق آثار الشرق عندما كان مستعمِراً لها، وما زالت دول عديدة مثل: مصر وسوريا والسودان ولبنان والأردن تطالب تلك الدول بعودة الآثار المنهوبة إبان فترة الاستعمار. إن الغرب والعالم المتحضر في فترات الاستعمار الطويلة لم يسرق الممتلكات الثقافية فقط لكنه أباد أصحاب الأرض وسرق منهم كرامتهم وثقافتهم، وأزهق أرواحهم وحولهم إلى شعوب تباع بالمزاد كما تباع آثارهم.
لماذا لم تنتفض اليونسكو على المقدسات الإسلامية في القدس والمساجد في كوسوفا والمساجد في الهند التي أزيلت، ومساجد كشمير والشيشان وألبانيا وهي مساجد سجلتها لائحة اليونسكو على قائمة التراث العالمي؟ بل إن مسجد البابري ما يزال حياً في قلوبنا وقد أحرقه الهندوس وهدموه، وهو مسجد أثري عمره ثلاثة قرون، ثلاثمائة سنة وهو بيت من بيوت الله يرفع فيه الأذان وتقام فيه الصلوات ويعبد فيه رب الأرض والسموات، فما سمعنا شيئاً من التباكي من دعاة المحافظين والحريصين على التراث الإنساني الذي نسمعه هذه الأيام على كسر أصنام الشرك بحجة أنها تراث إنساني وحضارة بشرية. بل ولم نسمع شيئاً من التباكي من اليونسكو وهيئة الأمم على إزهاق آلاف الأرواح البشرية في شتى بلدان المسلمين من الفلبين مروراً بالبوسنة والهرسك والشيشان وحالياً أندنوسيا، ناهيك عن الشعب الفلسطيني الذي مازال يسحق ليل نهار، ولا يكاد يغيب شمس أي يوم إلا وعشرات الأسر تفقد بعض أفرادها
فيا عجباً لهؤلاء الكفار، أعداء الله وأعداء الإنسانية، ينددون تدمير الأحجار والأصنام ولا ينددون تدمير الآلاف من النفوس البشرية المسلمة في كل بلداننا!
آلآن استيقظت ضمائركم؟ أم هو الضحك على الذقون؟ بل أين كانت منظمة اليونسكو حين قُتل محمد الدرة؟ لم نسمع لها بياناً تلك الأيام؟ أم أن الأصنام أغلى عندها من محمد الدرة؟
نسأل الله عز وجل أن يعجل بفرج أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأن ينصر أهل التوحيد، وأن يجمع كلمتهم، وأن يوحد صفوفهم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن من الشبه التي أثيرت هذه الأيام والتي قد يتشربها بعض العوام ومن لا علم لديه هو أن الصحابة رضي الله عنهم قد دخلوا تلك البلاد والأصنام موجودة وتركوها ولم يكسروها، بل لقد فتحوا مصر وغيرها من البلاد وكان فيها الأصنام والأوثان وتركوها كصنم (أبو الهول) وغيره.
والجواب على هذه الشبهة: هو أن التماثيل والتصاوير التي كانت في الجاهلية وأدركها المسلمون أثناء الفتوحات الإسلامية قد هدموها وأتلفوها قطعاً، ولا يشك في ذلك مسلم يعرف الصحابة وقدرهم وما هم عليه من التوحيد ومنابذة الشرك وأهله، ودليلنا في ذلك أنهم على خطى المصطفى في كل شيء، وقد بعثهم في حياته صلى الله عليه وسلم كما سمعتم لهدم الأوثان ومحقها، فلا بد أن يفعلوا ذلك كما نشروا التوحيد، فنقطع أنهم أتلفوا آلاف الأصنام والمعبودات والآلهة في البلدان التي افتتحوها، بل كانوا يتلفون الكتب المخالفة للإسلام كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته قال رحمه الله: (ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها ونقلها للمسلمين، فكتب إليه عمر: أن اطرحوها في الماء، فإن يكن فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا).
فإذا كان هذا عملهم في كتب أولئك فما بالك بأصنامهم ومعبوداتهم؟!
وأما ما تركه المسلمون من الأصنام والتماثيل والمعبودات في البلدان التي فتحوها فإنها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان من هذه التماثيل داخلاً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، فتركت بشرط عدم إظهارها، وقد نُص على هذا في الشروط التي فرضها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة والتي عرفت بالشروط العمرية المعروفة.
القسم الثاني: أن تكون هذه التماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجزون عن هدمها وإزالتها، مثل تلك التماثيل الهائلة المنحوتة في الجبال والصخور بحيث لا يستطيعون إزالتها أو تغييرها، وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة، حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان، قال رحمه الله: "لذلك نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء" ثم مثل على ذلك بمثالين:
الأول: أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى فشرع في ذلك وجمع الأيدي واتخذ الفؤوس وحمّاه بالنار وصب عليه الخل حتى أدركه العجز.
المثال الثاني: أن المأمون أراد أن يهدم الأهرام في مصر فجمع الفَعلة ولم يقدر.
وأما القسم الثالث: من المعبودات والأصنام التي تركها المسلمون فهي التماثيل التي كانت مطمورة تحت الأرض أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات، وهذا مثل كثير من آثار الفراعنة في مصر فمعبد أبو سمبل مثلاً في مصر وهو من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل قرن ونصف تقريباً، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا الوقت لم تكتشف إلا قريباً، وقد ذكر المقريزي رحمه الله في تاريخ مصر أن أبا الهول كان مغموراً تحت الرمال في وقته ولم يظهر منه إلا الرأس والعنق فقط دون الباقي بخلافه اليوم. هذا وقد عاش المقريزي في القرن التاسع الهجري.
وسئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول ونحوها: هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر ؟! فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال ولا سيما أبا الهول.
لهذا فلا يصح مطلقاً نسبة ترك هذه التماثيل إلى خير القرون رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنهم من أحرص الناس على إقامة التوحيد وشعائره، وإزالة الشرك ومظاهره.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت الوهاب.
(1/1475)
بين يدي العام الهجري الجديد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, المسلمون في العالم
أحمد بن محمود الديب
العين
18/12/1415
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة محاسبة على أحداث عام قد انصرم. 2- ضرورة المحاسبة وأنها من فعل المؤمنين.
3- المعاصي هلاك للعبد. 4- ضروري أن تحاسب الأمة نفسها على حالها في العام المنصرم.
5- الصراع على أرض فلسطين صراع عقائدي. 6- اليهود يريدون بناء الهيكل على
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ونحن نودع عاماً هجرياً ونستقبل عاماً هجرياً جديداً، نجد سؤالاً يطرح نفسه: ماذا قدمنا في عامٍ أدبر، وماذا أعددنا لعام أقبل؟ فإذا أجاب كل منا على هذا السؤال استطعنا أن نحاسب أنفسنا، وإذا أجابت أمتنا على هذا السؤال استطاعت أمتنا أن ترى مكانها بين الأمم، فبهذا السؤال ماذا قدمنا في عامٍ أدبر، وماذا أعددنا لعام أقبل؟ نعلم أن ديننا يحثنا على صيانة أوقاتنا من الضياع لأننا سوف نحاسب على أوقاتنا، وإن أحدنا يحمل مفكرته معه، أو يضعها على مكتبه؛ فيسجل في هذه المفكرة يوماً بعد آخر الواجبات التي عليه، والمواعيد التي ارتبط بها، وكلما أتى ميعاد أو أتى وقت واجب سارع لأدائه، ثم إذا تصفح هذه المفكرة بعد فترة من الوقت وجد في صفحات أخرى أنه قصر في أداء واجب أو أنه لم يف بالوعد فتعلوه الكآبة والحزن، هكذا يفعل الواحد منا مع مفكرته، وإن التاجر يضع لنفسه في عالم التجارة موازين لأمواله موازين شهرية وأخرى سنوية وهذه للصادرات وهذه للواردات وهذا حساب متاجرة وهذه ميزانية ختامية وهذه ميزانية افتتاحية وهذه أوراق تجارية من سندات وكمبيالات وهذه مصروفات وهذه إيرادات وهذا كله ليرى فيها حساب الأرباح والخسائر، وما له وما عليه، أما يحق لنا ونحن نفعل هذا في هذه الدنيا أن نقوِّم آخرتنا كذلك، وأن ننظر ونحن نودع عاماً من حياتنا ومن حياة أمتنا ماذا قدمنا في عامٍ أدبر وماذا أعددنا لعام أقبل؟ إن ذلك جدير بكل مسلم ومسلمة. فعلى العاقل أن يحاسب نفسه دائماً، والمحاسبة هي مطالعة القلب وتفكره في أعماله، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح فمن لم يحاسب نفسه وتركها ترتكب المعاصي فكأنما قتل نفسه قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ، قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: ولا تقتلوا أنفسكم بارتكاب المعاصي، وفعل الآثام وأكل الأموال بالباطل لأن ذلك سيؤدي بكم إلى النار، والله تعالى لا يريد هذا لكم إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ، وقال سفيان بن عيينة – رحمه الله -: كان الرجل يلقى أخاه في زمن السلف الصالح فيقول له: اتق الله وإن استطعت ألا تسيء إلى من تحبه فافعل؛ فقيل لسفيان: وهل يسيء الإنسان إلى من يحبه؟ قال: سبحان الله نفسك أحب الأشياء إليك فإذا عصيت الله فقد أسأت إليها. وقال الحسن البصري – رحمه الله –: لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه. وقال بعض السلف – رحمه الله –: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها، ولم يجرها إلى مكروهها فهو مغرور، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.
وكما يحاسب كل منا نفسه على ما قدم في عامه المنصرم، فإن من واجب الأمة الإسلامية كذلك أن تحاسب نفسها على ما قدمت في عامها أين حالها اليوم؟ وأين حالها منذ عام؟ إن أمتنا حينما تنظر إلى عامها المنصرم ترى تقصير أبنائها في طاعة الله تعالى، وترى أن الأيام تمر عليها يوماً بعد يوم وهي لا تصعد إلى العُلى، ولا ترتفع في سلم المجد بل تهوي وتهوي يوماً بعد آخر، وترى كيف شتت قلوب أبنائها، وترى الأمم وهي تتداعى عليها شرقاً وغرباً كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
فعلينا أن ننظر إلى تقصيرنا، وأن نعزم عزماً أكيداً على ما نستقبله من أيام حياتنا أن نحسن ما أسأنا فيه، وأن نأخذ بالعزيمة الصادقة مع الله تعالى على أن يكون عامنا الجديد خيراً من العام الماضي، وأن نتمسك بشريعة ربنا، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم. وعلى أمتنا أن تعمل جاهدة لإعادة المسجد الأقصى - اللهم فك أسره يا رب العالمين والعن اليهود بقولهم وبفعلهم وقيض للأمة من يعمل على عودته - فإن المسجد الأقصى يدخل ضمن مقدسات ديننا؛ فالمسجد الأقصى مسجد الأنبياء روى مسلم – رحمه الله – في صحيحه: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ قَالَ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَى أَبِي الْقُرْآنَ فِي السُّدَّةِ فَإِذَا قَرَأْتُ السَّجْدَةَ سَجَدَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ أَتَسْجُدُ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ)) قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ((الْمَسْجِدُ الأَقْصَى)) قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ)) فهو مسجد الأنبياء صلى فيه الأنبياء وهو مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ مسجد الأنبياء صلى فيه الخليل صلى فيه موسى وسليمان وداود، باركه الله وبارك البقعة التي وجد فيها فالأرض مباركه دنسها اليهود. وعلى أمتنا أن تعلم أن سبب ضياع المسجد الأقصى يوم أن تخلى عن الحق أهله ولن يعود الأقصى مرة أخرى إلا إذا عاد المسلمون إلى الإسلام. وإن الصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود إنما هو صراع عقيدة ووجود، فأكبر حاخامات اليهود في القدس يصرح بسرعة هدم المسجد الأقصى لإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم، ونحن نعلم اليوم أن الأقصى الآن تقام تحت جدرانه حفريات ضخمة رهيبة ليسقط الأقصى ليقيم اليهود الهيكل المزعوم على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي الهزيل، والعالم الغربي العميل، فالعالم الغربي يبارك كل ما تريده إسرائيل، وإن اللوبي الإسرائيلي يضغط ضغطاً شديداً على كثير من الحكام ليباركوا خطوات إسرائيل فيما تفعل. ولكن ينبغي على الأمة أن تتحرك قبل هدم الأقصى، وإن الأقصى لن يعاد إلا بجيل تربى على القرآن والسنة ليجاهد في سبيل الله تعالى، وإن عمر رضي الله عنه قال وهو في طريقه لاستلام مفاتيح الأقصى يوم نظر إليه أبو عبيدة وهو ينظر إليه وعمر بن الخطاب ينزل من على ظهر دابته حتى لا يشق على الدابة التي ستعبر به مخاضة – أي بركة من الماء – فينزل الفاروق من على ظهر الدابة ليضع نعليه تحت إبطيه ليجر الدابة حتى لا يرهقها في هذه البركة، ويلتفت إليه قائد الجيوش يومها أبوعبيدة ليقول هذه القولة: يا أمير المؤمنين، والله ما أحبُ أن القوم قد استشرفوك – أي: ما أحب أن يراك القومُ على هذه الهيئةِ وأنت في طريقك لاستلام مفاتيحِ بيت المقدس ـ فردَ عليه عمر: أوه لو قاله غيرُكَ يا أبا عبيدة: لقد كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَ في غيره أذلنا الله – رضي الله عنك يا أمير المؤمنين - فأين أمتنا اليوم حينما ابتغوا العزةَ في بوتقةِ الشرق والغرب فأذلها الله تعالى. وصدق قول الله: وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ فلن تنفع المحافل الدولية كهيئة الأمم وحلف الأطلسي ومجلس الأمن. فالمسجد الأقصى فتحه عمر – رضي الله عنه - وحرره صلاح الدين – رحمه الله - وسلمه المسلمون من جديد إلى إخوان القردةِ والخنازير وسطِ ما تعيشُه أمتُنا الإسلاميةُ اليومَ من أزماتٍ وهجمةٍ شرسةٍ من أعدائِها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في فلسطين وأرتريا والفلبين والصومال وبورما وفي خضمِ هذه المعاناة ِالتي أحاطت بأمتنا نرى الأمل يشع بضوئه المشرق ليبعث فينا روح التفاؤل لعلنا نجد مخرجاً لما تعانيه الأمةُ. وإن المخرجَ يا عبادَ الله يتمثلُ في استعلاءِ الأمة بإيمانها والصدقِ مع الله تعالى، ومواجهة الأعداء بما أمرنا الله تعالى به. فالقدسُ وما حوَلها في خطرٍ، وها هي في كل يوم تستصرخُ ضميرَ ووجدانَ الأمةِ لينقِذوها من التهديدِ اليهوديِ فالقدسُ أمانةٌ في أعناقِ أمتنا، وهاهو الأقصى ينادي ويستنجدُ فهل من وقفةٍ لله رب العالمين ولإنقاذِ المستضعفين. وإننا مع ذهولِ الموقفِ واعتصارِ الألم فإننا لا نيأسَ وأملَنا في اللهِ تعالى كبير ثم في أمةِ الإسلام ولن يَنضُبَ معينُ أمتنا من الخيرين فالقدس أهل للعناية والرعاية ويقول الشاعر أحمد بركات بتصرف:
أبكي على أمة قامت حضارتها بالدين والعلم والأخلاق القيم
قد أمست اليومَ والأمواجُ تقذُفُها والخُلفُ حل بها والحربُ في ضرَمِ
إني لأصرخ من قلبٍ يفيضُ أسى وتستبد به حالٌ من السأمِ
في كل يومٍ ذئابُ الغاب تنهشُنا وتستبيحُ حمى الإسلام والحُرمِ
فالقدسُ تصرخُ والبلدانُ في ترحٍ والعينُ في سنةٍ والأذن في صممِ
لا تأمنن حقودا بات يخدَعُكُم يبدي وِدَادَا ويخفي السم بالدسمِ
رغم الخطوب على الأهوال مسرعةً يا دعوة النورِ جدي السيرَ واقتحمي
ولتَشهَرِي السيفَ حان اليومَ موعدُه قبل الضياعِ وفقدِ الروحِ والشممِ
هيا انهضي بعرى الإسلام واعتصمي من الإله بحبلٍ غيرَ منفصمِ
بئسَ التفرق كم ذقنا مرارته يا أمةَ الحق والقرءانِ فالتئميِ
إن ننصر اللهَ ينصرُنا وتحرسنا عنايةُ الله من ظلمٍ ومن ظُلمِ
بشائر الخير أنتم رغمَ محنتنَا ومشعلُ الخيرِ أنتمْ في النهار والعتمِ
اللهُ أكبر وليعلُ الهتافُ بها فالله أكبرُ رُغم الناسِ كلهمِ
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1476)
عام هجري جديد
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/12/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأيام تمضي وهي أعمارنا التي تحملنا إلى الآخرة. 2- تباين أحوال الناس في العام
المنصرم. 3- انصرام السنين قد يكون نعمة وقد يكون نقمة. 4- أزماتنا في العام المنصرم
تذكرنا بمعاناة رسول الله عام الحزن. 5- الفجر يولد من الظلام ، واليسر يأتي بعد العسر.
6- الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم ودلالاته. 7- دعوة لمحاسبة النفس والاعتبار
بمرور الليالي والأيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
وبعد ساعات قليلة ينتهي عام 1421هـ، إنها قنطرة نوشك أن نعبرها لتستقر أقدامنا على قنطرة أخرى، فخطوة نودع بها، وأخرى نستقبل بها، ونقف بين قنطرتين مودعين ومستقبلين، مودعين موسماً كاملاً أودعنا فيه ماشاء الله أن نودع، فخزائن بعضنا ملأى بما هو له، وخزائن بعضنا ملأى بما هو عليه، فلا إله إلا الله، يخلق ما يشاء ويختار، وما ربك بظلام للعبيد.
أيها المسلمون: إن هذه الجمعة هي آخر جمعة في هذا العام، الذي أوشك رحيله، وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله قيلاً: يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ، قال الله تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس.
وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار العمل ويقرب من دار الجزاء. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولاتكونوا من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل ولاحساب، وغداً حساب ولا عمل) أخرجه البخاري [1].
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل
معاشر المسلمين: أزف إليكم رحيل هذا العام، فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله ((وكل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) [2] ، عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكماً وعبراً، وأحداثاً وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، ولا إله إلا الله كم سعد فيه من آخرين؟ لا إله إلا الله كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ لا إله إلا الله كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، لا إله إلا الله كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، لا إله إلا الله دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، لا إله إلا الله عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، لا إله إلا الله آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام.
أيها المسلمون: لقد انتهى عام 1421هـ، بماذا انتهى؟ حضر فلان وغاب فلان، مرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغيَّر أحوال، وتبدل أشخاص، فسبحان الله ما أحكم تدبيره، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى، تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه.
معاشر المسلمين: تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام، فمنهم من يفرح، ومنهم من يحزن، ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً. فالسجين يفرح بانسلاخ عامه؛ لأن ذلك مما يقرّب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على أحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها فكأنه يحاكي قول القائل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها حتى يستثمر ريعها وأرباحها. وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية: إلى غير ذلك من المقاصد التي تفتقر إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من البيع المغبون.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده.
ومن أعظم الحكم في تعاقب السنين وتغيّر الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل على كمال عظمة الله تعالى وقيوميته. فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
عباد الله: إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته، فإذا طال عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله عليه السلام: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)) [3].
معاشر المسلمين: إن هذا العام الذي ولى مدبراً قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
سيرى كل عامل عمله ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ، وما ربك بظلام للعبيد.
أيها المسلمون: إننا وفي بدايات عام هجري جديد أحد رجلين، متفائل ومشائم، فمنا من يقول: إننا مقبلون على عام فرح وفرج، ومنا يقول: بل هو عام ترح وعوج. قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فلنتأمل بعض الأحداث الجسام التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قائد هذه الأمة وبأصحابه، في أقل من أربعة أشهر، كادت تعصف بالدعوة في مهدها، وكانت في نظر المرجفين، ومحدودي الرؤية، أحداثاً مؤذنة بنهاية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتصار معسكر قريش على معسكر الإيمان، مات أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، زوجه، فماذا كان أثر وفاتها.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلاك خديجة، وكانت له معيناً في دعوته إلى الإسلام. وهلك عمه أبو طالب، الذي كان له عضداً وحرزاً في أمره، وناصراً على قومه. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر التراب على رأسه [4]. قال ابن كثير رحمه الله: وعندي أن غالب ما روي - من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي، وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديداً حتى حال دونه أبو بكر الصديق، وكذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، مما أشبه ذلك، كان بعد وفاة أبي طالب.
نعم لقد فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عضده وحاميه من قريش فاجترأت عليه، وزادت في إيذائه حتى روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)) [5]. وفقد صلى الله عليه وسلم سلوته وملاذه وأم أولاده خديجة بنت خويلد. قال عليه الصلاة والسلام عنها: ((لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرمني ولد غيرها)) [6].
قال ابن إسحاق: وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء به، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من ردٍ عليه، وتكذيبٍ له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس رحمها الله تعالى رحمة واسعة.
فعلاً: إنها أحداث تهز الكيان البشري، وتزلزل الأرض من تحت أقدام الضعفاء. أما من قوي إيمانه بالله، ويقينه بوعده ونصره، فلا تزيده هذه الأحداث إلا تصميماً وعزماً على مواصلة الطريق.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أن أحس أنها لم تعد بيئة صالحة للدعوة، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام. وإلى أن يكونوا أنصاره وحماته، وكان ذلك بعد وفاة خديجة بقليل، فماذا كان جوابهم؟ لقد قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أسوأ مقابلة، وردوا عليه أقبح رد، وعاملوه بما لم تعامله به قريش، لقد رفضوا الداعي والدعوة، ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، حتى إنه لم يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي. إذاً ما العمل؟
ذهب السند الداخلي الذي كان يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالراحة والطمأنينة، والمشاركة والمواساة، وهلك المدافع عنه أمام قومه، الذي كان يوفر له مساحة يتحرك فيها لدعوة الناس وإبلاغ رسالة الله، وسُدَّ أقرب منفذ للدعوة يمكن أن تنتقل إليه، وتنطلق منه، فهل تنتهي الدعوة؟ وهل يقف الداعية؟ هل كانت هذه الأحداث إيذاناً بانتصار معسكر الكفر؟
لقد أجاد الشاعر وهو يصف هذه الأحزان وهذه المصائب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول:
وأنت مرتهن لا زلت في الرحم
ولم تكن حين ولت بالغ الحلم
فكنت من بعدهم في ذروة اليتم
فاختاره الموت والأعداء في الأجم
رُؤيت في ثوب جبار ومنتقم
سلا الجزور بكف المشرك القزم
وألبستك رداء العطف والكرم
فأسلمتك لجرح غير ملتأم
يعود ما بين مقتول ومنهزم
رأيت من لوعة كبرى ومن ألم
في عزم متقد في وجه مبتسم
مجدٌ وغيرك عن نهج الرشاد عُمي
ولى أبوك عن الدنيا ولم تره
وماتت الأم لمّا أن أنسْت بها
ومات جدّك من بعد الولوع به
فجاء عمك حصناً تستكن به
تُرمى وتُؤذى بأصناف العذاب فما
حتى على كتفيك الطاهرين رموا
أما خديجة من أعطتك بهجتها
غدت إلى جنة الباري ورحمته
وشج وجهك ثم الجيش في أحد
ورغم تلك الرزايا والخطوب وما
ما كنت تحمل إلا قلب محتسب
بليت بالصبر مجدٌ لا يماثله
هذه الحالة شبيهة بحال الأمة في واقعها الآن، حين أحكم العدو قبضته من كل جانب. فهل كانت تلك الأحداث في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيذاناً بانتصار معسكر الكفر؟ الجواب لا وألف لا. بل كانت علامة على قرب انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته. وفتح أبواب أكبر وآفاق أوسع قال الله تعالى: إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً لقد ضاقت مكة بالدعوة، ورفضت الطائف استقبالها، وأخذت بعض القبائل التي تأتي في الموسم، تساوم عليها. لقد ضاقت الأرض ففتحت السماء، لم تتأخر البشارة بهذا النصر كثيراً، ففي ذي القعدة من السنة العاشرة يُسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، فيؤم هناك الأنبياء عليهم الصلاة وأتم التسليم ثم يعرج به إلى السموات السبع.
إن حادث الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس بالذات - والله أعلم -: لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب. وأن الله سينقل هذا المنصب من بني إسرائيل الخبثاء إلى بني إسماعيل الحنفاء. ستنتقل قيادة البشرية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيعقب عام الحزن، أعوام فرح ونصر وتمكين. إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً.
لكن كيف تنتقل هذه القيادة، والرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بين جبال مكة طريداً وحيداً بين الناس، هل يمكن لهذه الحالة أن تتغير - كما يقول بعض اليائسين في وقتنا هذا-؟ هل يمكن لهذه الحالة التي تعيشها أمتنا أن تنقشع ويكون بعدها تمكين؟ إن مثل هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى، وهي أن طوراً من هذه الدعوة قد أوشك على النهاية والتمام، وسيبدأ طور آخر يختلف عن الأول في مجراه.
ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد في مثل قول الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً وإضافة إلى هذه الآيات، آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي ينبني عليها مجتمعهم الإسلامي، كأنهم آووا إلى الأرض، وتملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع، ففيها إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأً ومأمناً يستقر فيه أمره، ويصير مركزاً ليبث دعوته إلى أرجاء الدنيا ثم لم يتأخر النصر الموعود، فبعد ثلاث سنوات فقط من تلك الأحداث المحزنة التي بلغت قمتها بالمؤامرة الدنيئة لاغتياله عليه الصلاة والسلام، عند ذلك ولد الفجر، وظهرت تباشير النصر، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، ليؤسس هناك دولة الإسلام، ويعلن انتصار الإيمان وهزيمة الكفر: والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن أحداث عام الحزن بما فيها من ألم ومرارة تغرس في قلوب الأتباع روح التفاؤل والإيمان، والتطلع إلى غدٍ مشرق، وقطع العلائق بالخلائق، والالتجاء إلى رب الأرض والسماوات والاعتماد عليه وحده. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
لاشك أن في السيرة النبوية سلوى لكل الدعاة حيال ما قد يتعرضون له من مشاق أو مضايقات، فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
وفي السيرة سلوى لهذه الأمة، حيال كل ما يكُاد لها، ورغم كل المؤامرات والمؤتمرات التي يحيكها أعداء الإسلام ضدها في كثير من البلدان، بل والإساءة بالاتهامات الباطلة لعلماء الأمة، بمناسبة وبغير مناسبة نقول: هيهات لهم ثم هيهات، فإن أعوام الحزن التي مرت بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سمعتم، كان بعدها أعوام فرح وفرج وتمكين فلتثق هذه الأمة بدينها، ولتثق بمستقبلها، ولتثق بأن نصر الله لها لا يتأخر عن موعده لعباده الصالحين، والخسارة والخزي لأعداء الدين. فاصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم..
[1] صحيح البخاري – باب في الأمل وطوله (11/235 مع الفتح) معلقاً تعليقاً مجزوماً به، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف (8/155) كما في فتح الباري (11/236).
[2] قطعة من حديث أخرجه مسلم ح (223) وغيره عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[3] صحيح ، مسند أحمد (5/40) ، سنن الترمذي ح (2330) وقال : حديث حسن صحيح.
[4] سيرة ابن هشام (2/416).
[5] المصدر السابق في الموضع نفسه. وسنده صحيح إلى عروة بن الزبير مرسلاً. انظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني ص 123.
[6] أخرجه أحمد (6/117-118) ، وفي إسناده : مجالد بن سعيد ، قال ابن حجر في التقريب (6520) : ليس بالقوي ، وقد تغيّر في أخر عمره. قال الهيثمي: في المجمع (9/224) : إسناده حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ها نحن نودع عاماً كاملاً من أعوام العمر، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوى، فكم من حبيب فيه فارقنا، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا، وكم من سيئات فيه اجترحنا، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيراً، وكم من حوادث عظام مرت بنا ولكن أين المعتبرون المبصرون، وأين الناظرون إلى قول النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [1].
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير.
فانظر أيها الحبيب في صحائف أيامك التي خلت، ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن، وأين مشت هذه القدم، وماذا بطشت هذه اليد، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وأن تحاسبها، يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".
فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة.
سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرّت: فسُئل من هذا؟ فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: هذا أنت.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله، قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاماً جديداً نراه طويلاً لكن سرعان ما ينقضي. قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله ب منكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) [2] ، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها الأحبة: إن مضي الليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى وتاب إلى الله عز وجل، وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير، لأنه يذكر دائماً قول نبيه : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) [3] ، وهو يلهج دائما بدعاء النبي : ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) [4].
بكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل له لم تبكِ، قال: أبكي على قيام الليل وصيام النهار ثم أجهش بالبكاء وهو يردد: من يصلي لك يا يزيد؟ من يصوم لك؟ من يتوب عنك من الذنوب؟.
[1] أخرجه البخاري ح (6412).
[2] أخرجه البخاري ح (6416).
[3] تقدم قريباً.
[4] أخرجه مسلم ح (2720).
(1/1477)
الطلاق
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة بيت ينهدم بسبب كلمة. 2- السعادة الزوجية مرهونة بطاعة الزوجين لله. 3- كثر
الطلاق عندما قل الخوف من الله بين الناس. 4- نصيحة إلى من يريد طلاق زوجته. 5- كلمة
في فضل المدينة النبوية ، ودعوة للقيام بحق هذه البلدة المنورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، اتقوا الله حقيقة التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله:
كلمةٌ من الكلمات أبكت عيون الأزواج والزوجات، وروعت قلوب الأبناء والبنات، يا لها من كلمةٍ صغيرة، ولكنها جليلةٌ عظيمة خطيرة، الطلاق، الوداع والفراق والجحيم والألم الذي لا يطاق، كم هدم من بيوت للمسلمين، كم فرّق من شملٍ للبنات والبنين، كم قطّع من أواصر للأرحام والمحبين والأقربين، يا لها من ساعةٍ حزينةٍ، يا لها من ساعةٍ عصيبةً أليمة، يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها وودعت زوجها، ووقفت على باب بيتها؛ لتلقي آخر النظرات على بيتٍ مليءٍ بالذكريات، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ، هُدمت بها بيوت المسلمين، وفُرّق بها شمل البنات والبنين.
الزواج نعمةٌ من نعم الله، ومنةٌ من أجلّ منن الله، جعله الله آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، عندها تضرب السعادة أطنابها في رحاب ذلك البيت المسلم المبارك، ولكن ما إن يتنكب الزوجان أو يتنكب واحدٌ منهما عن صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزيناً كسيراً، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم الشقاق ويعظم الخلاف والنزاع، فيفرح الأعداء ويشمت الحسّاد والأعداء، عندها – عباد الله – يتفرّق شمل المؤمنين، وتقطّع أواصر المحبين.
كُثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يرعى الذمم، حينما فقدنا الأخلاق والشيم، زوجٌ ينال زوجته اليوم فيأخذها من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلة حزينة باكية مطلقة ذليلة.
كثر الطلاق اليوم حينما استخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وضيّعوا الأمانات والمسئوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخرةٍ، وضياعٌ لحقوق الزوجات، والأبناء والبنات، يُضحك الغريب ويبكي القريب، يؤنس الغريب يوحش الحبيب.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر النمّامون، وكثر الحسّاد الواشون.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجاً يغفر الزلة ويستر العورة والهنّة، حينما فقدنا زوجاً يخاف الله ويتقي الله ويرعى حدود الله ويحفظ العهود والأيام التي خلت والذكريات الجميلة التي مضت.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العنان، تخرج متى شاءت، وتدخل متى أرادت، خرّاجة ولاجة إلى الأسواق، إلى المنتديات، واللقاءات، مضيعة حقوق الأزواج والبنات، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر الحسّاد والنمامون والواشون والمفرّقون.
كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير، والأم تتدخل في شؤون بنتها في كل صغير وكبير وجليل وحقير حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق. ألم يعلما أنه من أفسد زوجةً على زوجها أو أفسد زوجاً على زوجته لعنه الله.
كثر الطلاق اليوم – عباد الله – لما كثرت المسكرات والمخدرات فذهبت العقول وزالت الأفهام، وتدنّت الأخلاق، وأصبح الناس في جحيم وألمٍ لا يطاق.
كثر الطلاق لما كثرت النعم وبطر الناس الفضل من الله والكرم، وأصبح الغني الثري يتزوج اليوم ويطلق في الغد القريب، ولم يعلم أن الله سائله، وأن الله محاسبه، وأن الله موقفه بين يديه في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ولا عشيرة ولا أقربون.
يا من يريد الطلاق، الطلاق الوداع والفراق، الطلاق جحيمٌ لا يطاق، الطلاق يبدد شمل البنات والبنين، ويقطّع أواصر الأرحام والأقربين.
الطلاق – عباد الله – مصيبة عظيمةٌ، فيا من يريد الطلاق اصبر فإن الصبر جميلٌ، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل.
يا من يريد الطلاق إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أياماً، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعواماً. يا من يريد الطلاق انظر إلى عواقبه الأليمة ونهاياته العظيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدد شملها، وتفرّق قلبها بسبب ما جناه الطلاق عليها.
يا من يريد الطلاق: صبرٌ جميلٌ فإن كانت المرأة ساءتك فلعل الله أن يخرج منها ذريةً صالحةً تقر بها عينك، قال ابن عباس في قوله تعالى: فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.
قال: هو الولد الصالح. المرأة تكون عند زوجٍ تؤذيه وتسبّه وتُهينه وتؤلمه، فيصبر لوجه الله ويحتسب أجره عند الله ويعلم أن معه الله، فما هي إلا أعوامٌ حتى يقرّ الله عينه بذريةٍ صالحةٍ، وما يدريك فلعل هذه المرأة التي تكون عليك اليوم جحيماً لعلها أن تكون بعد أيام سلاماً ونعيماً، وما يدريك فلعلّها تحفظك في آخر عمرك، صبر فإن الصبر عواقبه حميدةٌ، وإن مع العسر يسراً.
عباد الله: اتقوا الله في الأزواج والزوجات ويا معاشر الأزواج تريثوا فيما أنتم قادمون عليه. إذا أردت الطلاق فاستشر العلماء، وراجع الحكماء، والتمس أهل الفضل والصلحاء، واسألهم عمّا أنت فيه وخذ كلمة منهم تثبتك، ونصيحةً تقوّيك.
إذا أردت الطلاق فاستخر الله وأنزل حوائجك بالله، فإن كنت مريداً للطلاق فخذ بسنة حبيب الله طلّقها طلقةً واحدةً في طهر لم تجامعها فيه، لا تطلّقها وهي حائضٌ فتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، وإذا طلقتها فطلقها طلقة واحدةً، لا تزيد، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس طلقت امرأتي مائة تطليقة. قال : (ثلاثٌ حرمت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزواً). اللهم أصلح نياتنا، اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا وخذ بنواصينا إلى ما يُرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي نزّل على عبده الفرقان؛ ليكون للعالمين نذيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إنه كان بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إن الله شرّف المدينة وكرّمها وعظّم شأنها وطيّبها، طيبةُ الطيبةِ مثوى رسول الله ، ودار المهاجرين والأنصار، دار الصفوة والخيرة والأبرار، يا لها من دارٍ إذا دخلها المؤمن تحرّكت في قلبه الذكريات من أخبار الصحابة والصحابيات، هنا كان مسجده، وهنا كان منبره، وهنا كان مصلاه، يا لها من دار تنبيك عن ملاحم الصفوة الأبرار، هذا أحدٌ جبلٌ يُحبّنا ونحبه، على سهله ملحمةٌ من ملاحم الإسلام ويومٌ من أيامه الجليلة العظام، سالت على ذلك السهل دماءُ الشهداء، وفاضت بجواره أرواح السعداء.
هذا بقيع الغرقد كم ضم في جنباته من الصحب الكرام، عشرة آلاف من أصحاب النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. كم ضمّ بين جوانحه من الأبرار والأخيار والعلماء الأعلام.
دارٌ وأي دار؟ أي دارٍ سكنتموها، وأي محلةٍ نزلتموها؟ إن لها عليكم حقاً كبيراً، دارٌ أحبّها رسول الله ودعا ربه أن يحببها إلى قلبه. قال فيه عليها الصلاة والسلام: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا إلى مكة أو أشد)) قال فيها عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إن عبدك وخليلك إبراهيم قد دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة: اللهم اجعل مع البركة بركتين، اللهم اجعل مع البركة بركتين)).
دار كان إذا أقبل عليها من السفر فبدت معالمها وبدا جبلُ أحدٍ من بعيدٍ أمام عينيه ضرب دابته وأسرع إليها صلوات ربي وسلامه عليه، أي دارٍ سكنتموها؟
فيا عباد الله: الله يعلم كم من قلوب حنّت وتمنت ركعة في مسجد رسول الله ، تمنت ألف صلاة في مسجده. تمنّت عمرة في هذا المسجد الطيب المبارك.
فيا عباد الله: إن لهذه الدار حقوقاً عظيمةً، طوبى لمن حفظ فيها حق الجوار، طوبى لمن خاف ربه ذا العزة والجلال الواحد القهار، طوبى لمن حفظ فيها الحرمات وابتعد عن الفواحش والمنكرات.
وهاأنتم اليوم – عباد الله – سكان طيبة الطيبة قد حل عليكم ضيفٌ كريمٌ، ضيفٌ ما وطئ الأرض أحب ولا أكرم على الله منه، حجاج بيت الله الحرام، ضيوفٌ على أهل طيبة الطيبة فافتحوا قلوبكم، وافتحوا صدوركم ودوركم، وخذوهم فإنهم ضيفٌ كريمٌ، ضيف يحبكم وتحبونه، ويجلّكم وتجلونه، فاظهروا لله ما يرضيه عنكم، ذكروا ناسيهم، ونبهوا غافلهم، وأطعموا جائعهم، واستروا عاريهم وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
صلوا وسلموا على خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، فقد أمركم الله بذلك حيث يقول ذو الجلال والإكرام: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ، وقال : ((من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً)) اليوم يوم الجمعة، يوم الصلاة والسلام على خير خلق الله، وإن صلاتكم معروضةٌ عليه، تسليماً، وزاده تشريفاً وتكريماً، اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين..
(1/1478)
الأربع المهلكات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الكبائر والمعاصي
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى اللعن. 2- الذبح لغير الله. 3- لعن الوالدين أو التسبب فيه. 4- إعانة المجرمين
والتستر عليهم سبب للعن الله للعبد. 5- التلاعب بحدود الأراضي وعلامات الطريق سبب للعن
الله لك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عن علي وأرضاه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غير منار الأرض)) [1].
"حدثني رسول الله " فنعم المحدِّث ونعم المحدَّث وأرضاه، حدثه بأربع كلمات اشتملت على هذه اللعنات، فيهن موبقات مهلكات، اشتملت على أذية المؤمنين والمؤمنات وإضاعة حق فاطر الأرض والسموات.
"لعن الله" ومن لعنه الله فقد أبعده من رحمته وطرده من دار كرامته وجنته، من لعنه الله أعمى قلبه وأشقى حياته ونغّص عيشه ونكده عليه، من لعنه الله غضب عليه سبحانه وتعالى ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [طه: 81]. قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت [المائدة: 60].
لا حول للعبد ولا طول، ولا قوة له أن يقف أمام لعنة الله جل جلاله، وإذا حلت لعنة الله على العبد لم يبق شيء في السموات والأرض إلا لعنه أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة: 159].
أما الأمر الأول: فقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
سبحان من خلق الخلق بقدرته، خلق لنا البهائم وسخرها برحمته ولطفه، سخَّر لنا لحمها، سخر لنا خيرها، سخر لنا أن نحمل عليها وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [النحل: 8]. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [النحل: 8].
سخر لنا الإبل والبقر والغنم رحمة منه سبحانه ذي الجود والكرم، سخر لنا لحمها، سخر لنا ألبانها وأصوافها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، فلو نظرت إلى خلقة البعير عظم الله جل جلاله في قلبك وقلت بملء القلب: سبحان العظيم الديان.
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [الغاشية: 17 ـ 20].
فذكر الإبل قبل السموات والأرض والجبال. هذا الحيوان الضخم العظيم سخره الله لابن آدم، كل ذلك منه ذو الفضل والتكريم سخره للإنسان حتى إن الطفل الصغير يمسك بزمام البعير يقوده حيث شاء بقدرة الله جل جلاله، سخر لنا ألبانها طعامًا وغذاء، سخر لنا حتى أبوالها فأبوال الإبل شفاء ودواء. سبحان ذي العظمة والجلال، سبحان ذي الوحدانية والكمال، سخرها سبحانه وتعالى فسخر ظهورها وسخر جميع ما يكون منها حتى أرواثها سمادًا وصلاحًا لمصالح العباد.
كل ذلك عباد الله؛ لنذكره مع الذاكرين ونشكره مع الشاكرين، تبارك الله رب العالمين لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [الزخرف: 13 ـ 14].
سخرها؛ لكي تحيا قلوبنا بذكر الله وتعمر ألسنتنا بشكره وحمده جل جلاله، فإن حمدناه شكر منا الحمد، والشاكر وهو الذي يجزي الشاكرين.
عباد الله: فإذا أراد العبد أن يذبحها وأن يريق دماءها أخذ الله عليه العهد أن يجعل ذبحها لوجهه وأن يجعل إراقة دمائها على الأرض له سبحانه جل جلاله، فلو أراق قطرة دم واحدة وقصد بها غير الله جل جلاله، فقد ضل ضلالاً بعيدًا، أشرك بالله جل جلاله، لو أراق قطرة من دم تقربًا لغير الله فقد أشرك بالله وحرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
حق لله جل جلاله لا يأذن به لأحد سواه، ولما أراد النبي أن يُضحي قال صلوات الله وسلامه عليه: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل هذا من محمد وآل محمد )) [2].
((اللهم هذا منك)) أنت الذي خلقته، وأنت الذي أوجدته، وأنت الذي أجريت الروح في هذا الجسد، وكذلك هو لك سبحانك جل جلالك وتقدست أسماؤك.
فمن أراق دماءها لغير الله فقد كفر بالله والعياذ بالله، وإن مات على هذا الاعتقاد فإن الجنة عليه حرام نسأل الله السلامة والعافية.
هذا البلاء العظيم: الذبح لغير الله قد لا يقع بصورة واضحة، ولكنه يقع عند كثير من الناس بصورة خفية بسبب ما يُدلِّسُه الشيطان ويُلَبسُه عليهم.
ومن أعظم ما عمت به البلوى وعظمت به الشكوى، ذبح كثير من الناس عند بناء البيوت والعمائر والفلل والمساكن يذبحون ما شاءوا من بهيمة الأنعام يلطخون أبواب الدور، ويعتقدون في ذلك دفعًا لأذى الشياطين والجن.
سبحان الله العظيم، من الذي بيده ملكوت كل شيء, وهو يجير ولا يجار عليه؟ من الذي يغيث؟ من الذي يعيذ؟ هو الملاذ والمعاذ سبحانه جل جلاله، يريقها لمن لا يملك له نفعًا ولا ضرًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا. تعالى الله عما يشركون.
فلا يجوز إراقة مثل هذه الدماء. ومثل هذه الدماء محرمة فلا يجوز لإنسان أن يطعمها؛ لأنها من الفسق الذي أهل به لغير الله.
فاتقوا الله عباد الله، حقوق الله عظيمة. حقوق الله في توحيده والإيمان به سبحانه والإخلاص لوجهه عظيمة لا يأذن أن يُصرف منها شيء لأحدٍ كائنًا من كان، ولو كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً، فحق الله لله، ولا إله إلا الله.
أما الكبيرة الثانية عباد الله فلعن الوالدين.
ومن هذا الذي يستطيع أن يلعن أباه أو أمه؟ من هذا الذي عنده الجرأة حتى يرفع وجهه في وجه أبيه فيلعنه ـ والعياذ بالله ـ قالوا: يا رسول الله، ويلعن الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه )) [3].
سبُّ آباء الناس وسب أمهاتهم يتسبب في سب والديك فإياك أن تلعن آباء الناس فيُلعن آباؤك وإياك أن تلعن أمهاتهم فتلعن أمهاتك. فاتق الله جل جلاله في والديك.
من الناس من جعله الله رحمة لوالديه يحسن إلى الأيتام، ويحسن إلى الأرامل والضعفة من بني الإسلام فيترحمون على والديه فيكون مفتاح خير عليهم في الدنيا والآخرة.
ومن الناس من هو شقي طريدٌ يؤذي الناس حتى يكون سببًا في لعن والديه. نسأل الله السلامة والعافية من لعن والديه أصاب العقوق، ومن أصاب العقوق لم يأمن من سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله ـ قال : ((لا يدخل الجنة عاق )) [4].
قال بعض العلماء: ((لا يدخل الجنة عاق)) أي أن الله لا ييسر للعاق حسن الخاتمة، بل يموت على سوء الخاتمة فيدخل النار والعياذ بالله.
الكبيرة الثالثة: إيواء المحدثين ((لعن الله من آوى محدثًا)).
المحدث: هو المجرم الذي أحدث الفساد في الأرض.
كانت العرب في الجاهلية يقدم السفاحون على سفك الدماء فيذهبون إلى قراباتهم إلى أبناء العم، وإلى القبيلة والعشيرة فيجتمعون حولهم ويحفظون هذا القاتل ويدافعون دونه. كل ذلك حمية وعصبية وظلمًا وعدوانًا, فلعن الله ولعن رسوله من آوى المجرمين ونصرهم وآزرهم ووقف معهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
كيف تستقيم الحياة, وكيف يطمئن الناس إذا أصبح المجرمون في مأمن مع ما يأتون ويفعلون من الجرائم والفواحش والمنكرات؟ بهذا تسود الفوضى ويصبح الناس في قلق عظيم وبلاء عميم.
فإياك أن تناصر الظالمين، وإياك أن تجادل عن الذين يختانون أنفسهم فتكون معهم وتحشر في زمرتهم ـ والعياذ بالله ـ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات: 22، 23].
احشروا الذين ظلموا ومن ناصروهم ومن آزروهم وكانوا معهم، فإياك أن تكون للظالمين معينًا أو ظهيرًا.
إيواء المحدثين أشد ما يكون في الحرم الذي حرمه الله ورسوله ومن ذلك حرم المدينة قال : ((المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً يوم القيامة )) [5].
قال بعض العلماء: "لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، يوم القيامة" أي أن الله لا يقبل منه حسنة واحدة لا صرفًا ولا عدلاً، لا فريضة ولا نافلة. كل ذلك بسبب حرمة المدينة وما لها عند الله جل جلاله من هذا الأمر العظيم.
إيواء المحدثين، في حرم رسول الله يكون بصور متعددة حتى ولو أجرته بيتك فإنه إيواء للمحدث. إذا علمت أنه ذو شر وأن منه الفساد وأنه ينشر الفحشاء وأنه يتخذ من بيتك وسيلة لإيذاء المؤمنين ونشر الفواحش بينهم فإنك ممن آوى محدثًا في حرم رسول الله. فاتق الله جل جلاله.
إيواء المحدثين، إيواء أعداء الله وأعداء رسول الله أو أعداء صحابته رضوان الله عليهم فليتق الله المسلم وليعلم أن الله سائله عما يكون منه ويذر.
اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك, وفجاءة نقمتك وتحول عافيتك ومن جميع سخطك.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى ومن العمل ما يوجب منك الرضا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي/باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله (13/141) بشرح النووي.
[2] رواه مسلم (13/122) بشرح النووي, ورواه أبو داود من حديث عائشة في كتاب الأضاحي/ باب ما يستحب من الضحايا.
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب/ باب لا يسب الرجل والديه (10/417) فتح، ومسلم عن عبد الله بن عمرو.
[4] أخرجه النسائي عن عبد الله بن عمرو في كتاب الأشربة/ باب الرواية في المدمنين في الخمر (8/318) بشرح السيوطي مع حاشية السندي.
[5] أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة/ باب حرم المدينة (4/97) فتح، ومسلم في كتاب الحج/ باب فضل المدينة (9/142 بشرح النووي، عن علي بن أبي طالب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، تعالى ربنا عن الشبيه والمثيل, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العظيم الجليل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله شرح صدره بالهدى وآيات التنزيل وعلى صحبه، رعيل ونعم الرعيل، وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم تسير منه الجبال كالثيب المهيل.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
الكبيرة الرابعة عباد الله: تغييرُ منار الأرض.
يقول : ((لعن الله من غير منار الأرض)).
منار الأرض هي العلامات التي يهتدى بها الناس في أسفارهم، ويهتدي بها الغريب، إذا نزل في المدينة أو القرية اهتدى بهذا المنار كأن تكتب أسماء المحلات أو أسماء الأحياء أو أسماء المدن والقرى، فمن أزال هذه الأسماء فإنه يكون سببًا في ضلال الغريب وتعبه وعنائه ولربما يكون سببًا في هلاكه خاصة إذا كان في السفر.
ولا شك أن هذا الأمر موجود في عصرنا الحاضر فبعض من الناس أصلحهم الله يقدمون على اللوحات الإرشادية فيعبثون بها فتارة يطمسونها وتارة يحرفونها، وتارة يبدلونها، فلعن الله من فعل ذلك من غير هذه المعالم وهذه المنارات يقول العلماء: عليه لعنة الله جل جلاله, وهذا هو الذي عناه النبي بقوله: ((لعن الله من غير منار الأرض)) أي العلم والأمارة التي يهتدي بها الناس.
قال بعض العلماء: لو كان هناك حجر أو صخرة في الطريق يعرف الناس أن هذه الصخرة هي نهاية بلدة كذا أو دليلاً على قرية معينة أو دليلاً على طريق معين فحرفها أصابته اللعنةـ والعياذ بالله ـ فكيف بطمس العلامات وتغيير المنارات وأذية المؤمنين والمؤمنات.
لو كنت في سفر واحتجت إلى الدليل ووقفت أمام هذه العلامات والأمارات مطموسة أترضى هذا لنفسك؟ أترضاه ومعك أهلك وأبناؤك وأنت في شدة السفر وعناء المؤونة؟ لذلك عظم الله جل وعلا هذه الأذية, لا خير في أذية المؤمنين والمؤمنات.
قال بعض العلماء: من تغيير منار الأرض ما يقع في حدود الأراضي فإن تغيير معالم الأراضي وتقديمها وتصغيرها وتكبيرها وتوسيعها وتضييقها كله من العبث بمنار الأرض, فإذا كان بينك وبين جارك حد فاصل فقدمته أو أخرته فقد غيرت منار الأرض.
العبث في حدود الأرضين سواء كان ذلك العبث على طبيعة الأرض أو كان داخل الصكوك ونحوها من الحجج، فكل ذلك من العبث وتغيير منار الأرض الذي لعن الله جل جلاله من فعله فاتقوا الله يا عباد الله واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة: 281] من أصابته لعنة الله جل جلاله فإنه قد أصاب كبيرة من كبائر الذنوب.
قال العلماء: هذه الأربعة الأمور: الذبح لغير الله، ولعن الوالدين, وإيواء المحدثين, وتغيير منار الأرض، من فعلها ولم يتب منها.
أما الأول منها فإن الجنة عليه حرام ـ والعياذ بالله ـ فمن مات وهو يذبح للجن أو يتقرب لهم أو يخاف منهم فإنه ـ والعياذ بالله ـ، قد خسر خسرانًا مبينًا, وكان من المشركين ـ والعياذ بالله ـ فإن تاب تاب الله عليه والله غفور رحيم.
وأما إذا لعن والديه أو آوى محدثًا أو غير منار الأرض فإنه إذا مات على هذا الذنب العظيم ولم يتب فإنه تحت مشيئة الله جل جلاله فإن شاء الله أن يعذبه كبكبه في نار جهنم ـ والعياذ بالله ـ فأصاب من عذاب الله وسخطه على قدر ما أصاب من حدوده، وإن شاء الله عفا عنه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء: 23]. يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب [ الرعد: 41].
الفائدة الأخيرة: التي نأخذها من هذا الحديث في أمر عمت به البلوى وهي الشفاعة في القتلة، فقد يقع القتل من إنسان باغ معتد فإذا وقع قتل العمد الذي فيه القصاص فينبغي النظر في هذا القتل: إن كان هذا القاتل قد تاب وتغير حاله وأناب شرعت الشافعة وشرعت الحمية الطيبة, وكذلك صلة الرحم. ويجوز لقرابته وقبيلته أن تقف معه حتى يسامح أولياء المقتول فإن سمحوا فالحمد لله وهي شفاعة مأجورة غير مأزورة. وأما إذا كان معروفًا بالفساد معروفًا بالإجرام والعناد وعلمت أنه لم يتب وعرف من حاله أنه إذا شفع فيه رجع إلى حالته فحرام أن يشفع في هذا.
قال بعض العلماء: القتلة الذي يعرفون بسفك الدماء والجرائم والسوابق إن كانوا ثابتين على ما هم عليه فلا يجوز لأحد أن يشفع لهم، ومن شفع لهم وخرجوا من حالهم فإنهم إذا فعلوا الجرائم فهو شريك لهم؛ لأنه تسبب في إعانتهم على الفساد. اللهم سلمنا وسلم منا وتب علينا وارحمنا وتجاوز عنا. وصلوا على الرحمة المهداة فقد أمركم الله بذلك....
(1/1479)
الأمانة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الترغيب في أداء الأمانات إلى أصحابها. 2- الأمانة في عرصات يوم القيامة. 3- الأمانة
من خصال الإيمان. 4- صور من خيانة الأمانة. 5- خيانة الجار جاره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورًا رحيمًا [الأحزاب:72-73].
إنها الأمانات التي عرضت على الأرض والسموات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً. حملتها على ظهرك ووضعتها أمانة في عنقك لكي ترهن بها بين يدي الله ربك.
إنها الأمانات التي وصى الله بها من فوق سبع سموات إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [النساء: 58].
أمرنا بحفظها ورعايتها والقيام بها وأدائها إلى أصحابها, وأخبر سبحانه وتعالى أن القيام بها والعناية بها شيمة من شيم المؤمنين وخصلة من خصال الأخيار الصالحين فقال في كتابه المبين وهو يُثني على عباده المفلحين: والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [المؤمنون: 8].
إذا رأيت الرجل يحفظ الأمانة، ورأيته يؤديها إلى أصحابها على أتم الوجوه وأكملها فاعلم أن وراء ذلك قلبًا يخاف الله جل جلاله ويتقيه, وأن هذا العبد يعلمُ عِلمَ اليقين أن الله محاسبُهُ وسائِلُه ومجازيه.
الأمانة ـ عباد الله ـ التي عظم الله أمرها حتى أخبرَ النبي أنه يؤتى يوم القيامة بجهنم والناس في عرصاتها ـ أي في عرصات يوم القيامة ـ حفاة عراة غرلاً في ذلك الموقف العظيم يؤتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك [1] فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه، ثم يضرب الصراط على متن جهنم, وينادي الله جل جلاله بأن يسير العبادُ عليه وعندها تكون دعوة الأنبياء: اللهم سلم سلم. فإذا ضُرب الصراط على متن جهنم قال كما في الصحيح: ((قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط)) [2] أما الأمانة فإنها تكبكب في نار جهنم كل من خانها، وأما الرحم فإنها تزل قدم من قطعها وظلمها.
إنها الأمانة ـ عباد الله ـ التي أقضت مضاجع الصالحين، وهان على الإنسان أن يُسفك دمه ولا يخون أمانتهُ, وهان على العبد الصالح أن يَلقى شدائد الدنيا ولا يخون الأمانة.
إنها الأمانة ـ عباد الله ـ التي أخبر النبي أن أداءها والقيام بها إيمان، وأن تضييعَها والاستهتار بها وخيانتها نفاق وعصيان. قال : ((لا إيمان لمن لا أمانة له)). فمن حرم الأمانة فقد حرم كمَال الإيمان, ومن تلبس بالخيانة فبئسَ ـ والله ـ البطانة؛ فإن فيه خصلة من خصال المنافقين قال : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) [3].
الخيانة دليل على سوء البطانة، دليل على ذهاب الإيمان بالله جل جلاله ـ أي كماله ـ فالإنسان إذا كمل إيمانه كملت أمانته، وأداها على أتم الوجوه، وخاف من الله جل جلاله، من تبعتها ومسئوليتها. إذا ضاعت الأمانة سفكت الدماء, وانتهكت الأعراض, وأكلت أموال المسلمين بالباطل. إذا ضاعت الأمانة وتفشت الخيانة فباطن الأرض خير من ظهرها. إذا ضاعت الأمانة ضاعت الحياة الطيبة السعيدة, وأصبح الإنسان لا يأمن حتى على نفسه التي بين جنبيه.
أعظم ما تكون به خيانة الأمانات إذا كانت خيانة لله والرسول يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال: 27]. نزلت في أبي لبابة وأرضاه وقف والنبي محاصرًا لبني قريظة فأشار إليهم أنهم يُقتلون. فبهذه الإشارة عَظُم ذنبه, وأنزل الله فيه من فوق سبع سموات قرآنًا يُتلى فبقي في المسجد، وحبس نفسه يبكي حتى أخبره النبي بتوبة الله عليه [4].
أعظم ما تكون الخيانة إذا كانت لله والرسول بالكذب على الله والكذب على رسول الله. الكذب على الله بتحليل الحرام, وتحريم الحلال والفتوى في الشريعة والأحكام دون حُجة من الله جل جلاله.
أعظم ما تكون الخيانة إذا كانت بالكذب على رسول الله والتحديث بالأحاديث الباطلة المكذوبة على النبي.
أعظم ما تكون الخيانة إذا كان فيها ظلم للقرابات كالأبناء والبنات تضييع حقوقهم، والاستهتار في واجباتهم خيانة للأمانة. تركُ الأبناء والبنات والحبل على الغارب يسهرون ويعبثون دون حسيب ولا رقيب خيانة للأمانة. ترك تربيتهم وتوجيههم وتعليمهم وإرشادهم خيانة للأمانة, والله يوقفك بين يديه ويسألك عن أمانتهم إذا تركتهم نائمين والصلاة ينادى بها منادي الله فقد ضيعت الأمانة، إن لم توقظهم، وليتعلقن بك الصغيرة والكبيرة بين يدي الله، إذا كان الصغير ممن يؤمر بالصلاة فيقول: يا رب سل أبي رآني نائمًا ولم يوقظني للصلاة.
تضييع الأمانات ـ عباد الله ـ خسارة وحسرة يوم القيامة وندامة.
أعظم ما تكون به الخيانة إذا كانت ظلمًا للقرابات وأذية لهم في أعراضهم, وكذلك أموالهم. كذلك ـ عباد الله ـ أعظم ما تكون الخيانة إذا كانت بالكذب والزور والشهادات والمستندات والعبث فيها قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك بالله, وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)) [5].
كررها؛ لأن شهادة الزور من أعظم الخيانات بها تسفك الدماء البريئة، وبها تُنتهك أعراض المسلمين بدون حق، وبها تؤكل أموالهم بالباطل، فشاهد الزور خان الله ورسوله وعباده المؤمنين خان القاضي حينما ائتَمَنَه أن يكون صادقًا في شهادته فكان من الكاذبين، وخان من شهد له؛ لأنه أدخل عليه المال الحرام، وأدخل عليه السحت والآثام، وخان المظلوم الذي شهد عليه حينما أضره وآذاه وتسبب في البلية التي كانت بسبب شهادته بالعبث.
أعظم ما تكون الخيانات إذا كانت بالعبث بالمستندات ونحوها من الشهادات إذا أؤتمن الإنسان على السجلات ونحوها أمانة عليك أن تتقي الله وأن تؤديها كما أخذتها، دون زيادة أو نقص فيها بدون حق، أن تتقي الله جل جلاله في كل ما يوضع بين يديك من السجلات والوثائق والشهادات، تخاف الله جل جلاله وتجعله نصب عينيك دون محاباة للقريب أو الحبيب، إن فعلت ذلك كنت من الأمناء، وإن غيَّرت أو بدلت غير الله عليك وبدل.
أعظم ما تكون الخيانات ـ عباد الله ـ إذا كانت بهتك عورات المسلمين، وتتبع ما فيهم من العيوب ونشرها بين الناس، وأشد ما يكون ذلك بين الأرحام. نعم ولنأخذ مثالاً على ذلك الزوجين. الزوجان بينهما أسرار وعيوب كثيرة لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ثم الزوج إذا أخذ امرأةً فإنه يطلع على عيوبها وعيوب أهلها وقرابتها، والزوجة كذلك تطلع على عيوب زوجها وعيوب أقربائه. إفشاء هذه الأسرار خيانة للمؤمنين والمؤمنات, واعتداء على حدود الله جل جلاله خاصة إذا وقعت الخصومات والنزاعات، فيذهب الزوج إلى قرابته يُحدثهم بما يكون من زوجته ولربما حدثهم عن أدق الأمور وأخفاها.
كذلك الزوجة لا تخاف الله جل جلاله فبمجرد أن تكون الخطيئة من زوجها تذهب إلى أهلها وقرابتها؛ لكي تخون الله في أماناتها فتهتك العورات وتكشف السوءات دون خوف من الله جل جلاله.
الأمانات حقوق وواجبات ومسئوليات وتَبِعَات شَمِلَت الصغير والكبير والجليل والحقير ولن يضيع فيها مثال حبة من خردل أو قطمير فاتقوا الله يا عباد الله واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
اللهم سلمنا وسلم منا وخذ بنواصينا إلى ما يُرضيك عنا.
اللهم وفقنا لأداء الأمانات وحفظ الحدود والمحارم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
[1] كما عند مسلم في كتاب الجنة, باب جهنم (17/179) بشرح النووي، عن ابن مسعود.
[2] رواه مسلم في كتاب الإيمان, باب الشفاعة (3/17)
[3] رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة النفاق ح 33، ومسلم في كتاب الأيمان، باب بيان خصال المنافق، ح 59.
[4] رواه ابن جرير في تفسيره (9/221).
[5] رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين, باب إثم من أشرك بالله ح 6919 (12/276) فتح، ومسلم في كتاب الإيمان، باب أكبر الكبائر (2/81) بشرح النووي، عن أبي بكرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو أرحم الراحمين, وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين. صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وعلى جميع أصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: من أعظم ما تكون عليه الخيانة الجار، فخيانة الجار يا عباد الله عظيمة، قال عبد الله [1] وأرضاه: سألت النبي : ((أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)) [2].
الزنى بحليلة الجار من أعظم الخيانات وأشدها عند الله جل جلاله.
الزنى بزوجته أو ببنته أو بأخته أو بشي من عرضه وقرابته. فتلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه [الطلاق:1].
اشتد غضب الله على من هتك ستر جاره، فالجار له حقوق على جاره تَعلم أخباره تعلم مدخله ومخرجه وصدقه وكذبه وما يكون منه من الأمور فاتق الله جل جلاله.
واعلموا عباد الله أن الأمانة كل شيء رأته عيناك أو سمعته أذناك من عورات المسلمين فإنه أمانة في عنقك فاتق الله جل جلاله، ومن ستر مسلمًا ستره الله, ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه في الدنيا والآخرة.
ألا وصلوا وسلموا على خير الأنبياء وإمام الأتقياء فقد أمركم الله بذلك....
[1] أي ابن مسعود.
[2] رواه البخاري في كتاب التفسير, باب قوله تعالى: فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون ح 4477 (8/13) فتح، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الشرك أقبح الذنوب (2/79) بشرح النووي، عن ابن مسعود.
(1/1480)
الامتحانات
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصائح للطلاب والطالبات بمناسبة الامتحانات. 2- حديث إلى أولياء أمور الطلاب. 3-
تذكير المعلمين بواجبهم في هذه المناسبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: في هذه الأيام يعيش الطلاب والطالبات هموم الامتحانات والاختبارات فنسأل الله العظيم أن يعينهم وأن يشرح صدورهم وأن ينور قلوبهم.
يا معاشر الطلاب والطالبات خير الوصايا وأنفعها وأصلحُها وللخير أجمعها: الوصية بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن اتقى الله جعل له من أمره يسرًا، وجعل العسير يسيرًا وأتاه خيرًا كثيرًا.
يا معاشر الطلاب والطالبات:خذوا بأسباب النجاح وأسباب الصلاح والتوفيق والفلاح، وأجمعها وأصلحها: أن تعلموا علم اليقين أنه لا حول ولا قوة للعبد إلا بالله رب العالمين، توكلوا على الله وفوضوا الأمور إلى الله، واعلموا أنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إلى الله، لا تعتمدوا على الذكاء والحفظ ولا على النبوغ والفهم ولكن توكلوا على الحي الذي لا يموت وسبحوا بحمده، وكان يقول: ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)) [1].
إذا أراد الله بعبده التوفيق جعله مفوضًا الأمور إليه وفقه وسدده لكي يعتمد على حول الله وقوته لا على حوله وقوته، وإذا وكل الله العبد إلى نفسه وكلَه إلى الضعف والخور.
يا معاشر الطلاب والطالبات هذا أوان الجد والاجتهاد فاجتهدوا ولكن الله الله في أنفسكم، الله الله في أرواحكم وأجسادكم، اتقوا الله في نفوسكم فـ لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة:15]. لا تحملوا النفوس ما لا تطيق من السهر والتعب فإن الله سائلكم عن هذه الأرواح وهذه الأجساد.
وقال سلمانُ وأرضاه لأبي الدرداء وأرضاه: إن لنفسك عليك حقًا. فقال : ((صدق سلمان)) [2].
بعض الطلاب والطالبات يرهقون أنفسهم ويعذبون أرواحهم وأجسادهم. ألا فاتقوا الله في أنفسكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا [النساء:29]. يعذب نفسه فلربما خرج من أيامه بألم في نفسه أو مرض في جسده، فالمنبت لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع.
يا معاشر الطلاب والطالبات: إياكم والغش والتزوير فإنه خيانة وبئس البطانة، من كانت حياته على الغش سلبه الله الخير في دنياه وأخره قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "من خادع الله يخدعه الله".
فمن نجح بالزور وغش ودلس فإن الله يمكر به ويعاقبه في دنياه قبل أخراه إلا من تاب فيتوب الله عليه.
يا معاشر الطلاب والطالبات ها هي أيامُ الاختبارات قد أقبلت عليكم فاستعينوا بالله وتراحموا وتعاضدوا، وإياكم والشحناء والبغضاء والحسد، ليكن كل إنسان كما أمره الله أن يكون، يحب لأخيه ما يحب لنفسه فتعاونوا وتراحموا وتعاطفوا، فإن احتاج إليك أخوك في حاجة أو في مسألة فأعنه أعانك الله على أمورك، فمن نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن أعان أخاه أعانه الله في دنياه وأخراه.
يا معاشر الطلاب والطالبات الحسدُ لا خير فيه، تنافسوا وليكن ذلك على وجه يرضي الله عز وجل. الحسد حسد الغبطة لا حسد الشحناء والبغضاء، ولا تتمنوا زوال نعم الله عن عباد الله واشكروا فضل الله عليكم واحمدوه على نعمه التي لديكم.
يا معاشر الطلاب والطالبات إن لله حرمة، ولكتابه حرمة ولسنة النبي وكتب العلم حرمة عظيمة ألا فاتقوا الله في كتاب الله، اتقوا الله في الآيات، واتقوا الله فيما جمعته الأوراق من كلام الله وكلام رسول الله. القرآن أعظم وأجل وأكرم من أن يرمى في الطرقات، أو تقطع أوراقه للامتحانات، الله الله في كتاب الله، وفي كلام الله وكلام رسول الله ، وإياكم وامتهان كتاب الله فمن امتهن شيئًا من كتاب الله فإن الله يهينه، ولربما ينتقم منه في دينه أو دنياه أو آخرته فاتقوا الله عباد الله واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله [البقرة:281].
يا معاشر الطلاب والطالبات الرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله نعمة من الله على عباد الله وإماء الله، فإن دخلتم ووجدتم بعد الاختبار خيرًا فاحمدوا الله على فضله، واشكروه على نعمه واسألوا المزيد من جوده وكرمه، ولا تقولوا نجحنا بحولنا ولا بقوتنا ولا ذكائنا، فالله قادر على أن يسلبك العافية، والله قادر على أن يسلبك الذكاء والفهم، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، له الفضل كله، وله الحمد كله فالحمد لله على كل حال. وإن وجدتها محزنة ووجدت الإختبار مؤلمًا قاسيًا فقل الحمد لله فلعل درجة من الدنيا تفوت عنك فيعوضك الله بها درجات الآخرة.
الرضا عن قضاء الله، إياك والسب والشتم والغيبة، إياك وأذية المؤمنين في الغيب أو انتقاص من له عليك فضل كبير وهم معلموك ومربوك فاذكرهم بالجميل ورد إلى نفسك التقصير، وسل الله أن يجبر لك الكسر.
يا معاشر الآباء والأمهات رفقًا بالأبناء والبنات ها هي أيامهم قد أقبلت وهمومهم قد عظمت فخذوهم بالعطف والحنان واشملوهم بالمودة والإحسان، وأعينوهم على هموم الاختبار والامتحان يكن لكم في ذلك الأجر عند الكريم المنان، أحسنوا إلى الأبناء والبنات وخففوا عنهم في التبعات ويسروا عليهم يسر الله عليكم الأمور، أعينوهم على ما هم فيه وقوموا بواجبهم عليكم، علموهم وأرشدوهم واشحذوا هممهم.
بعض من الآباء لا يبالي بأبنائه وبناته ولربما جاءه ابنه فرحًا مسرورًا بنجاحه فلا يعطيه وجهًا، وبعض الأمهات لا يبالين بتربية الأبناء والبنات، فلا سؤال ولا توجيه ولا إرشاد، الله الله في هذه الذرية الضعيفة، عيشوا مشاعرهم، وأدخلوا السرور عليهم؛ فإنها ذرية ضعيفة، تحتاج منكم إلى العطف والإحسان، قل لي بربك لو رأى ابنك جاره، أو رأى ابنك ابنًا قريبًا لقريب منك جاء إلى أبيه فرحًا مسرورًا فكافأه على نجاحه، وجاءك فرحًا مسرورًا فلم تعطه وجهًا ولم ترد إليه جميلاً وقولاً؟ الله الله في كسر القلوب، الله الله في أذية هؤلاء الضعفاء، أحسنوا فإن الله يحب المحسنين.
اللهم إنا نسألك التيسير، اللهم يسر أمورنا واشرح صدورنا، ووفق أبناءنا وبناتنا، اللهم اجعلهم مشاعل النور والهداية، وخذ بهم إلى سبيل الرضا والولاية يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (1/545).
[2] رواه البخاري في كتاب الصيام، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ح 1968 (4/246) فتح، عن أبي جحيفة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى صحابته الأبرار، وآل بيته الطيبين الأطهار، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحشر والقرار.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبِلَى، وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
معاشر المعلمين والمعلمات والمربين والمربيات: ها هو نصف عام ستطوى صحيفته، وتذهب أيامه وذكرياته، ذهبت بما فيها منكم من التوجيه والتعليم والإرشاد، شكر الله سعيكم وعظم الله أجوركم وجزاكم عن أبناء المسلمين وبناتهم بخير الجزاء وأوفاه، نعم ما صنعتم، وأسأل الله أن يعظم الأجور لنا ولكم.
معاشر المعلمين والمعلمات: الامتحانات مسئوليات وأمانات وتبعات فالله الله في فلذات أكباد المؤمنين، فاتقوا الله عز وجل فيهم، كونوا أشداء بدون عنف، ورحماء بدون ضعف، وأعطوا كل ذي حق حقه وكل ذي قدر قدره، وزنوا بالقسطاس المستقيم، واعدلوا بين أبناءكم وبناتكم فإنهم أمانة في أعناقكم.
اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الاختبار لا يقصد به التعجيز والأذية والأضرار، فهذه ذرية ضعيفة بين أيديكم إياكم وأن تشقوا عليهم فتكلفوهم ما لا يستطيعون أو تحملوهم ما لا يطيقون فقد قال : ((اللهم من ولي من أمور أمتي شيئًا فشق عليهم، فاللهم اشقق عليه)) [1] الله الله أن يشق عليكم فاتقوا الله في هؤلاء، وأحسنوا إليهم، إن الله يحب المحسنين، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء، قدروا ضعفهم، واشملوهم بالعطف والحنان، إن الطلاب والطالبات يدخلون إلى الامتحان والاختبار بنفوس مهمومة، وقلوب مغمومة، فيها من الأكدار، وفيها من الأشجان والأحزان ما الله به عليم، فامسحوا على رؤوسهم عطفًا وحنانًا وأكرموهم لطفًا وإحسانًا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
معاشر المعلمين والمعلمات أسئلة الاختبار أمانة في أعناقكم، فاحفظوا الأمانات ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، إفشاء الأسرار أو تنبيه الطلاب على مواضع الأسئلة، أو السكوت عن الغشاشين والمتساهلين، ذنب كبير، ووزر عظيم وشر مستطير يخرج للأمة من يتسمى بالعلم غشًا وزورًا وتحمل بين يدي الله إثمه ووزره فاتقوا الله يا عباد الله.
يا معاشر المعلمين والمعلمات درجات الاختبار أمانة، فاتقوا الله في أبنائكم الطلاب وبناتكم الطالبات، أعطوا كل ذي حق حقه، وكل ذي قدر قدره، وزنوا بالعدل والقسط فإن الله يحب من عدل، وأحسنوا فإن الله يحب المحسنين، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم لنا ولكم، ولجميع المسلمين السداد.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا وقال : ((من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا)).
[1] رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق (12/212) بشرح النووي، عن عائشة.
(1/1481)
الثلاث المهلكات
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, نواقض الإيمان
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كلمة في فضل علي رضي الله عنه. 2- ثلاث خصال مهلكات كثير وجودها في مجتمعاتنا.
3- الكذب في النسب والانتساب إلى رسول الله زوراً. 4- ظلم العباد وأكل حقوقهم. 5- تكفير
المسلمين وتبديعهم بلا حجة أو دليل. 6- من وقع بهذه البلايا فعليه بالتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله, هذا حديث من أحاديث رسول الله العظيمة اشتمل على توجيه من توجيهاته الجليلة الكريمة, حديث عن رسول الله فيه وعيد , فيه نذير وتخويف وتهديد, فيه ثلاثة أمور من فعل واحدة منها أو فعلها كلها فقد زلت قدمه إلى جهنم وبئس المصير.
هذا الحديث الشريف يرويه الصحابي البر الأغر, أبو ذر صاحب العلم والزهادة, والخير والعبادة, جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه, هذا الصحابي الذي قال عنه أهل السير: إن الله أكرم وجهه فما سجد لصنم ولا وثن, سمع برسول الله وبينه وبين رسول الهدى مسافة عظيمة فخرج بقربةٍ من الماء مهاجرًا إلى الله ورسوله, ووقف على رسول الله فعرض عليه الإسلام والحنيفية, ونبذ الأوثان والجاهلية, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم خرج وأرضاه وقد دخل الفرح والسرور إلى قلب رسول الله بإسلامه.
ذكر أهل السير أنه لما نطق بالشهادة على رأس رسول الله تهلل وجه الرسول بالفرح والسرور. كان خامس خمسة, أو سادس ستة, ما على الأرض مؤمن سواهم. أسلم وأرضاه وخرج من ساعته فوقف على عبدة الأوثان, وصاح بشهادة الإيمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فقاموا فضربوه وآذوه وأهانوه, فغابت شمس ذلك اليوم على أبي ذر وفي صحيفة أعماله صفحة من الابتلاء في الله ولله.
روى هذا الحديث الشريف الذي فيه ثلاثة أمور عمت بها البلوى وكثرت منها الشكوى, ثلاثة أمور ضاعت بها الحقوق والواجبات, وكفرَ أصحابها نِعَم الله وِنعَم عباد الله عليهم, يقول هذا الصحابي وأرضاه في حديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله يقول : سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجل يدَّعي لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر, ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار, ومن قال لرجل: يا كافر أو يا عدو الله وليس كذلك إلا حارت عليه)) [1].
ثلاثة أمور عظيمة:
• أولها عقوق للوالدين ولعب بالأنساب وتلاعب بالأسماء.
• وأما ثانيها فإنه اعتداء على حقوق عباد الله وظلم الناس في تلك الحقوق.
• وثالثها ـ والعياذ بالله ـ تكفير عباد الله من دون حجة من الله وبرهان.
أما الأمر الأول: فهو اللعب بالأنساب حينما ينسب الإنسان نفسه لغير أبيه فيقول إنه ابن فلان وليس كذلك, سواء انتسب إلى أب غير أبيه أو إلى جد غير جده, أو إلى قبيلة غير قبيلته فعليه لعنة الله، ورسوله والناس أجمعين, حينما كَفَر نعمة والديه, وحينما عبث بنسبه وادعى ما ليس له.
وأعظم ذلك أن يدعي الشرف والنسب إلى رسول الله بدون حجة ولا برهان, فالناس مأمونون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف.
تغيير الإنسان لنسبه فيه كفر بنعمة الله وعقوق للوالدين يجحد أباه ونسبته إلى أبيه فتحل عليه لعنة الله، حينما يعق والده حلت عليه لعنة الله, حينما كَفَر قرابته حلت عليه لعنة الله, حينما غش المسلمين حلت عليه لعنة الله, حينما دخل في قوم وليس منهم.
الأنساب أمرها خطير, وشأنها عظيم وليس بحقير, ليس طعمة سائغة لكل أحد يعبث فيها أو يغير فيها, فمن كفر نعمة أبيه وانتسب لغير أبيه يريد الغنى أفقره الله, ومن انتسب لغير أبيه يريد العزة أذله الله, ومن انتسب لغير أبيه يريد الكرامة أهانه الله, فاتقوا الله يا عباد الله في الأنساب واحفظوا أنسابكم.
وكما أن هذا الوعيد فيمن غير نسبه, كذلك العبث في الأوراق وفي المستندات داخل في هذا, تزوير الشهادات, تزوير الوثائق, العبث فيها كله من العبث في الأنساب, إذا تضمنت نسبًا غير النسب الصحيح, ومن أعانه على شيء من ذلك فقد عصى الله ورسوله واعتدى حدود الله, وأعان على ظلم عباد الله.
أما الأمر الثاني: عباد الله فهو الذي حذر منه النبي تحذيرًا عظيمًا, وهو العبث في حقوق الناس, ظلم الناس في حقوقهم, وادعاء أمور ليست للإنسان, أكل أموال الناس بالدعاوى الكاذبة حينما يظلم الناس ويدعي ما ليس له يقول : ((ومن ادعى ما ليس له فليس منا)) تبرأ منه رسول الله أن يكون على سنته وهديه الكامل ثم قال يبين ما ينتهي به المآل لمن فعل هذه الخصلة العظيمة: ((وليتبوأ مقعده من النار)) إذا ظلم الناس وادعى حقوقهم بالباطل فليعلم أنه يفسح لنفسه مكانًا في نار جهنم فليستقل ليستكثر.
قال العلماء: ادعاء الإنسان ما ليس له أعظمه وأشده ادعاء العلم. التعالم من الجهلاء من أعظم الدعاوى الزائفة, وأشدها ظلمًا واعتداء لحدود الله جل جلاله يلبس لباس العلماء, ويفتي بفتوى العلماء, ويدعي أنه مثلهم, والله يشهد أنه جاهل بالعلم, يحل الحرام ويحرم الحلال, ومن أظلم ممن افترى كذبًا على رب العزة والجلال.
لا يقتصر الأمر على إنسان يدعي أنه شيخ أو أنه عالم بل لربما ادعى الإنسان أنه عالم بكلمة من كلماته, نعم يا عباد الله حينما نجلس في مجالسنا ونتكلم في أمور العلم دون بينة ولا برهان من ربنا, حينما نذكر فتاوى العلماء ونُعقب على فتوى فلان وفلان من أهل العلم ونستهزئ بفتاوى العلماء ونكذبها ونردها فقد ادعينا العلم واعتدينا حدود الله جل جلاله. لنحترم العلماء ولنوقر أهل الحكمة والقرآن الذين عظم الله شأنهم ورفع مكانهم، لنتأدب مع خيارنا وصلحائنا, ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه, لا تتكلم في الأحكام, لا تتكلم في حلال ولا حرام, ورد الأمر إلى أهله من الأئمة الأعلام وإلا فقد تقحمت نار الله على بصيرة.
من ادعاء الإنسان ما ليس له ادعاؤه للصناعات والتجارات, فهذا يدعي أنه طبيب فيُتلف أرواح الناس وأجسادهم ويعتدي حدود الله بأذيتهم والإضرار بهم، إذا فعل ذلك فليس منا كما قال وليتبوأ مقعده من النار, لا يقتصر الأمر على الذي يتطبب, بل إن الطبيب إذا علم أن هذا المرض ليس من علمه, وأنه خارج عن فهمه ينبغي أن يرفع يده, وأن يتقي الله في عباد الله, وأن لا يعرض أرواحهم وأجسادهم للخطر وإلا فليتبوأ مقعده من النار.
وهكذا كل الصناعات فالإسلام في أحكامه فيه عموم وشمول لا يقتصر الأمر على العلم والطب, بل يشمل الحداد والنجار, وكل من ادعى صنعة من الصناعات فغش المسلمين واعتدى على حدود رب العالمين وأكل أموالهم بالباطل.
من ادعاء الإنسان ما ليس له ظلم الناس في أموالهم واعتداء حدود الله جل وعلا بادعاء أراضيهم, غصب الأراضي وأخذها بالباطل ظلم وجريمة, ومن فعل ذلك فليس منا وليتبوأ مقعده من النار. )) من ظلم مسلمًا قيد شبر من الأرض طُوِّقهُ يوم القيامة من سبع أراضين (( [2].
قال العلماء: يجعل الله رقبته تسع على قدر ما غصب على قدر سبع من الأراضين. سبحان من لا يُعجزه شيء, لا تقل هذا أمر غريب, ولا تقل أمر عجيب, فالله على كل شيء قدير, ولقد صح في الحديث أن المكان الذي يجلس فيه الكافر من نار جهنم وهو مقعده من النار كما بين مكة والمدينة كما ثبت في الحديث الصحيح [3]. هذا مكان جلوسه فسبحان من بيده ملكوت كل شيء. من ظلم قيد شبر من الأرض فآذى عباد الله في حقوقهم طوَّق الله رقبته بذلك القدر من سبع أراضين, قال بعض العلماء: إن الله يجعل هذا الظلم الذي أخذه من إخوانه المسلمين محمولاً على ظهره في عرصات يوم القيامة, فهل تطيق حمل هذه المظالم, وهل تطيق أن تقف بهذه المآثم بين يدي الله جل جلاله؟
ألا فليتق الله المسلمُ, ولا يدعي ما ليس له, وأعظمُ ما يكون ادعاء الحقوق الكاذبة إذا كان عن طريق القضاء بشهادات الزور والعبث في الأوراق وتزويرها فكل ذلك اعتداء على حدود الله, ومن فعل ذلك فليس منا وليتبوأ مقعده من النار.
أما الأمر الثالث: فقد أشار النبي إليه بقوله : ((ومن قال لرجل يا كافر أو يا عدو الله وليس كذلك إلا حارت عليه)).
تكفير المسلمين, تبديع المسلمين, تضليل المسلمين, بدون حجة من كتاب الله, وسنة رسول الله ضلال, شأن أهل الأهواء, وأهل الضلال, نسأل الله السلامة والعافية, فأول بدعة في الإسلام عظمت بها البلوى بدعة التكفير, من الخوارج, حينما كفروا الأمة وكفروا علماءها وكفروا صلحاءها, وخرجوا عن جماعة المسلمين. التكفير بلاء عظيم ومن قال لأخيه المسلم يا كافر فإن كان كافرًا وإلا رجعت كلمته عليه ـ والعياذ بالله ـ لا يختص الأمر بكلمة كافر, بل لو قال له يهودي أو نصراني أو مجوسي أو غير ذلك ـ والعياذ بالله ـ من كلمات الكفر فهو داخل في هذا الوعيد, إن للسان هنَّات وله سيئات وخطيئات, فطوبى لمن عصمه الله بعصمته.
عليك نفسك فاشتغل بمعايبها ودع عيوب الناس للناس
لا تكن جريئًا على تكفير المسلمين, أما إذا كان الإنسان عنده علم ونور وبصيرة من كتاب الله وسنة رسول الله فله الحق أن يحكم بالكفر والبدعة على من انطبقت عليه الحجة أنه كافر ومبتدع, أما أن يترك الأمر لكل من هب ودب, وندخل إلى عقائد الناس ونخرجهم من دين الله وسنة رسول الله بدون بينة ولا حجة فظلم واعتداء لحدود الله رب العالمين.
ألا فلنتق الله, وكان خيار الأمة وصلحاؤها إذا سئلوا عن الأمور العظيمة التي يكون الإنسان بها قد زلت قدمه, يقولون من الورع: أخشى عليه الكفر, أخاف عليه الكفر, فإذا استبان الأمر على كماله قالوا: هو كافر وعدو لله ورسوله.
اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل, والسداد في القول والعمل, اللهم سلمنا وسلم منا واشرح صدورنا ونور قلوبنا وارض عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب المناقب, ح 3508 (6/623) فتح, ومسلم في كتاب الإيمان, باب حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر (2/49) بشرح النووي, واللفظ لمسلم.
[2] كما في البخاري في كتاب المظالم, باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض (5/123) فتح, ومسلم في كتاب المساقاة, باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (11/48) بشرح النووي, عن سعيد بن زيد.
[3] رواه الترمذي في كتاب صفة جنهم, باب ما جاء في عظم أهل النار, عن أبي هريرة (7/301) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وعلى جميع أصحابه الغر الميامين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله, إذا وقع الإنسان في واحدة من هذه الثلاث, فعليه أن يتوب إلى الله جل جلاله فإن كان قد عبث في نسبه وانتسب لغير أبيه فمن شرط صحة توبته أن يبين الحقيقة, وأن يعترف بها وأن ينسب نفسه إلى ما أوجب الله عليه النسبة إليه, وكذلك إذا أخذ مظالم الناس وأكل أموالهم بالباطل, أو اغتصب من المسلم أرضه أو ماله فليتب إلى الله جل جلاله وليقف على أخيه المسلم ويقول إني ظلمتك فاعف عني ويرد حقه إليه كاملاً, وكذلك إذا كفر أخاه المسلم تاب إلى الله جل جلاله من تكفيره, ومن تبديعه وتضليله, وسأله السماحة على أذيته قال : ((من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها قبل أن لا يكون دينار ولا درهم)) [1]. فتحلل عبادَ الله من حقوقهم قبل أن تقف صفر اليدين إلا من رحمة الله جل جلاله.
ألا فصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا. وقال : ((من صلى عليَّ مرة صلى الله بها عليه عشرًا)).
[1] رواه البخاري في كتاب المظالم, باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته (5/121) (فتح الباري), عن أبي هريرة.
(1/1482)
الخلق العظيم
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, مكارم الأخلاق
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النبي صلى الله عليه وسلم حاز مكارم الأخلاق. 2- جود النبي صلى الله عليه وسلم. 3-
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم. 4- رفق النبي صلى الله عليه وسلم. 5- فضل حسن الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إن الله بعث نبيه بالهدى والنور فاطمأنت به القلوب وانشرحت به الصدور، بعثه رحمة للعالمين وقدوة للأخيار والصالحين، بعثه ليتمم من الأخلاق مكارمها، فكان صلوات الله وسلامه عليه إمامها وهاديها. وأقسم له ربه من فوق سبع سموات أنه قد حاز أفضلها وأشرفها وأعظمها ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرًا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:1 ـ 4].
كان خُلُقُه عظيمًا، حينما كان أكمل الناس أدبًا مع الله وأشدهم خشية لله وخوفًا من الله قال : ((إني أخشاكم لله وأتقاكم)) [1]. قام في جوف الليل حتى تورمت قدماه من القيام، وصام النهار فما مل ولا سَئم، بل واصل الصيام.
كَمُلَ أدبُهُ مع ذي العزة فزينه وكمله بأفضل الشمائل والخصال، كان إمامًا في الأخلاق، كان خلقه عظيمًا، حينما كان دائم البِشْر طليق الوجه بالسرور. قال جرير بن عبد الله وأرضاه: "ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي" [2]. كان خلقه عظيمًا حينما كان سيد الأنبياء وإمام الرحماء يرحم الصغير والكبير ويعطف على الجليل والحقير.
قال أنس بن مالك وأرضاه: (ما لمست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله ، ولقد صحبت رسول الله عشر سنين، ما قال لي يومًا قط: أف) [3].
كان خلقه عظيمًا حين كان جوادًا كريمًا، كان أجود بالخير من الريح المرسلة. قال جابر بن عبد الله وأرضاه: (ما سُئل رسول الله شيئًا فقال: لا) [4]. وقال حبر الأمة وترجمان القرآن ـ القبس والنبراس عبد الله بن عباس وعن أبيه ـ : (كان النبي أجود بالخير من الريح المرسلة) [5].
خرج إلى بقيع الغرقد فخرج وراءه الصحابي الأغر أبو ذر جندب بن جنادة، علم من أعلام الخير والحلم والزهادة، فقال: ((يا أبا ذر أترى أحدًا؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما أحب أن لي مثل أُحدٍ ذهبًا وتُمسي عندي ثالثة أو رابعة وعندي منه دينار أو درهم )) [6].
كان جوادًا كريمًا، كان يبذل الدنيا وهي في يديه حقيرة صغيرة، كان يُعطي الشاة والبعير وما كان في بيته صاع من شعير.
كان خُلُقُه عظيمًا حين كان برًا بالعباد رحيمًا، كان رحيمًا في دعوته، رحيمًا في توجيهه وحكمته، كان رحيمًا بالأمة حتى في إمامته وصلاته، كان يدخل إلى الصلاة يريد أن يُطولها فإذا سمع بكاء الأطفال أشفق على الأمهات فخففها [7]. وكان يقول : ((إذا أمّ أحدكم بالناس فليخفف، فإن وراءه الضعيف والسقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة وإذا صلى لوحده فليُطول ما شاء )) [8]. كان يصلي في الفجر بالستين إلى المائة آية [9] فلما دخل ذات يوم يريد أن يطول فسمع بكاء صبي فقرأ: إنا أعطيناك الكوثر [الكوثر: 1]. فلما انفتل من صلاته قال: ((إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)) [10].
كان خُلُقُه عظيمًا، وهو على منبره يُفصَّلُ الشريعة والأحكام ويأخذ بمجامع القلوب إلى طريق السلم والرحمة والسلام، ما كان يجرح الناس ولا يعنفهم ولا يكسر خواطرهم ولا يُشهِّرُ بهم، كان يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما بال أقوام)) [11].
كان رحيمًا، كان جوادًا بالأخلاق كريمًا، وهو جالس بين أصحابه لو دخل عليه الغريب لا يستطيع أن يعرفه من بين الصحابة من تواضعه بأبي وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان السائل يقول: أيكم محمد؟ ما كان جبارًا ولا فظًا ولا سخابًا ولا لعانًا ولكن كان رحمة للعالمين، إلى يوم الدين.
كان رحيمًا بالأحياء والأموات، كان إذا جن عليه الليل خرج إلى بقيع الغرقد ـ كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة ـ فوقف على قبور المؤمنين والمؤمنات وسأل ربه بصالح الدعوات أن يُسبغ عليهم شآبيب الرحمات [12].
وتوفيت امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد فلم يشهد صلوات الله وسلامه عليه حتى قام على قبرها وصلى عليها ودعا لها وقال: ((إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم)) [13].
كان خُلُقُه عظيمًا إذا دخل إلى بيته، كان خير الأزواج وأبرهم وأفضلهم بأبي وأمي، صلوات الله وسلامه عليه، حتى كان إذا دخل من باب البيت لا يدخل من وجه الباب؛ لكي يتخون أهله، بل كان يدخل من طرفي الباب إما يمينًا وإما شمالاً [14] ، فإذا دخل إلى بيته ملك قلوب أزواجه بالعطف والإحسان وبالرحمة والحنان، تسليمًا كثيرًا.
ما عاب طعامًا وضع بين يديه [15] ، ولا سب امرأة ولا شتمها ولا ضربها ولا أهانها، يكرم ولا يهين، يُعزُّ ولا يُذلُّ، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، كانت زوجه إذا جاءت بالشراب أقسم عليها أن تشرب قبل أن يشرب، فإذا شربت من الإناء وضع فمه حيث وضعت فمها، كانت تأتيه بالمرق والعظم فيه اللحم فيقسم عليها أن تنهش منه قبله فإذا نهشت منه وضع فمه حيث وضعت فمها [16] فبأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ما أكرمه وما أحلمه وما أرحمه، لا يعنف ولا يؤذي ولا يجرح أحدًا.
دخل أعرابي المسجد وهو جالس مع أصحابه فرفع ثوبه؛ لكي يبول فقام الصحابة ينهرونه ويمنعونه، فقال: ((لا تزرموه)) فرحمه وأشفق عليه حتى قضى بوله وحاجته، فأمر بذنوب من ماء يصب على بوله ثم دعاه فوجهه وعلمه وأرشده, فقال: ((اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا ترحم معنا أحدًا)) [17]. وصلى بأصحابه فصاح رجل وتكلم في الصلاة، فما زال الصحابة يُسَكتونه حتى رمقوه بأبصارهم، فصاح الرجل: واثُكل أماه فلما سلم يقول هذا الصحابي: فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله يقول والله ما كهرني ولا شتمني، ولكن قال لي: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن)) [18].
عباد الله : هذا قليل من كثير من سيرة البشير النذير، فما أحوجنا أن نملأ بمحبته قلوبنا، ما أحوجنا أن نربي على هذه السنة والأخلاق الكريمة صغارنا وكبارنا، ما أحوجنا أن نتربى عليها صغارًا وكبارًا، ونعتقد فضلها سرًا وجهارًا، وتظهر آثارها علينا ليلاً ونهارًا.
اللهم ارزقنا محبته واتباعه، اللهم إنا نسألك التمسك بسنته، اللهم لا تخالف بنا عن طريقته، اللهم احشرنا يوم القيامة تحت لواءه وفي زمرته، اللهم أوردنا حوضه واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (9/5) فتح، عن أنس بن مالك.
[2] رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر جرير بن عبد الله البجلي (7/164) فتح، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل جرير بن عبد الله (16/35) بشرح النووي.
[3] رواه البخاري في كتاب المناقب، باب صفة النبي (6/654) فتح، ومسلم في كتاب الفضائل.
[4] رواه البخاري في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب الفضائل.
[5] رواه البخاري في بدء الوحي، وفي صفة النبي ، وفي فضائل القرآن وفي بدء الخلق، ومسلم في فضائل النبي.
[6] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول النبي ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبًا (11/268) فتح.
[7] رواه البخاري في كتاب الأذان باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (2/236)
[8] رواه البخاري في كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء (2/233) فتح، ومسلم في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (4/187) بشرح النووي، عن أنس.
[9] رواه البخاري في كتاب الأذان، باب القراءة في الفجر (2/294) فتح، ومسلم في كتاب الصلاة، باب القراءة في الصبح (4/179) بشرح النووي، عن أبي برزة الأسلمي.
[10] رواه البخاري في كتاب الأذان باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (2/236) فتح، ومسلم في كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (4/187) بشرح النووي، والحديث فيهما في الموضعين المشار إليهما دون قوله (فقرأ (إنا أعطيناك الكوثر)) وعند مسلم (فيقرأ بالسورة القصيرة) قال الحافظ ابن حجر: بيَّن ابن أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن سابط مقدار السورة القصيرة ولفظه (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الواحدة بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية بثلاث آيات) وهذا مرسل. انتهى كلام الحافظ من فتح الباري (2/237).
[11] رواه مسلم في كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مئونة (9/175) بشرح النووي عن أنس.
[12] عن عائشة أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد). رواه مسلم في كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور (7/40) بشرح النووي.
[13] رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب كنس المسجد (1/658) فتح، دون قوله (إن هذه القبور...) فهي عند مسلم في كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبور (7/25) بشرح النووي، عن أبي هريرة.
[14] رواه البخاري في الأدب المفرد، باب كيف يقوم عند الباب ح 78، وأبو داود في سننه (5186) عن عبد الله بن بسر.
[15] رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعامًا (9/458) فتح، ومسلم في كتاب الأشربة، باب لا يعيب الطعام ح 2064، عن أبي هريرة.
[16] رواه النسائي في كتاب الطهارة، باب مؤاكلة الحائض والشرب من سؤرها وأصله في صحيح مسلم.
[17] رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد (1/386) فتح، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد (3/190) بشرح النووي، عن أبي هريرة وزيادة (اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا ترحم معنا أحدًا) جاءت مفردة عند البخاري في كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (10/452) فتح.
[18] رواه مسلم في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة (5/20) بشرح النووي، عن معاوية بن الحكم السلمي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغُرِّ الميامين، ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
إن الله عز وجل عظم الأخلاق وشرفها وأحيا منارها ورفع مقامها، فأولى الناس برسول الله أحفظهم لحقها وأدومهم للعمل بما جاء من مكارمها.
سُئل عن أقرب الناس منه مجلسًا يوم القيامة فقال: ((ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقًا: الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويُؤلفون)) [1].
ولما سُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة يوم القيامة قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) [2] ، وسُئل عن أعظم شيء وأثقل شيء في الميزان فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) [3] ، ولا يزال الإنسان بحُسن الخلق حتى يضع الله به طيب الذكر في الأرض والسماء.
الإسلام التزام بالشريعة والأحكام، واستقامة على هدي وسنة خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ما أحوجنا إلى حسن الخلق ونحن فيما بيننا وبين الله جل جلاله، فنستحي من الله حق الحياء ونخافه ونخشاه كما ينبغي أن يُخاف ويُخشى، ونستحي من عظيم نعمته وجليل منته، ونعظمه حق تعظيمه، ونقدره حق قدره، ومن رزق خوف الله في قلبه فإن الله يفتح عليه في أخلاقه وأقواله وأعماله. إذا رأيت الرجل يخاف الله في قلبه فاعلم أن الله سيسدده ويوفقه لمكارم الأخلاق ومحاسنها، فابدأوا بإصلاح ما بينكم وبين الله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن حسن الخلق لا يكون إلا إذا نقيت السريرة وصلحت السيرة، لا تكون حسن الأخلاق إلا إذا كان قلبك مليئًا بالصفاء، مليئًا بالمحبة للمسلمين والمودة والإخاء، فلا تكون الأخلاق لمن كان في قلبه الشحناء والبغضاء، كان ذات يوم جالسًا مع أصحابه فجاءه رجل فأخبره عن رجل بشيء ـ وهذا الشيء سيء وليس بخير ـ فقال : ((دعوا لي أصحابي، دعوا لي أصحابي إني أريد أن أخرج نقي الصدر لهم)). إذا فسدت القلوب فسدت القوالب، وإذا أصبحنا نتهم الناس ونسيء الظن بالناس وندخل إلى نيات الله فسدت أقوالنا وأفعالنا في معاملتهم، فأحسنوا الظن ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً.
اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل في القول والعمل.
وصلوا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، فقد أمركم الله بذلك...
[1] روى الترمذي (1/363) عن جابر مرفوعًا ((إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)). وأخرج الطبراني في (معجمه الصغير) ص 125 عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحاسنهم أخلاقًا: الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)).
[2] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، في باب ما جاء في حسن الخلق عن أبي هريرة.
[3] روى أحمد (6/446) عن أبي الدرداء مرفوعًا ((أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن)).
(1/1483)
الرحماء
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث المرأة التي سقت كلباً فغفر الله لها. 2- أحق الناس بالرحمة الوالدان. 3- الرحمة
حق الأولاد على الوالدين. 4- الرحمة حق العمال والخدم والفقراء. 5- الرحمة حق المظلومين
والمضطهدين علينا. 6- الله هو الرحيم ، وكلنا عتاج رحمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
هذه قصة من قصص النبي حفظها أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر وأرضاه, وجعل أعالي الفردوس مسكنه ومثواه, حافظ الصحابة, وعالم من علمائهم, حفظ هذه القصة العظيمة التي إذا تأملها المسلم وجد فيها عبرة جليلة كريمة حفظها وأرضاه من رسول الله , أخبر بها صلوات الله وسلامه عليه, والله شهيد مطلع عليها, وكفى بالله شهيدًا, وكفى بالله حسيبًا.
حاصل هذه القصة الصحيحة التي ثبتت بأصح الأسانيد عن رسول الله أن امرأة كانت عاصية بعيدة عن الله سبحانه وتعالى خرجت ذات يوم فبينما هي تسير في الطريق إذ رأت ذلك الكلب الذي اكتوى بالظمأ والعطش, رأت كلبًا معذبًا قد أنهكه العطش والظمأ وقد وقف على بئر من الماء لا يدري كيف يشرب, يلهث الثرى من شدة الظمأ والعطش, فلما رأته تلك المرأة العاصية أشفقت عليه ورحمته, فنزلت إلى البئر وملأت خفها من الماء ثم سقت ذلك الكلب وأطفأت ظمأه وعطشه، فنظر الله إلى رحمتها بهذا المخلوق فشكر لها معروفها فغفر ذنوبها [1].
بشربة ماء غفرت ذنوبها, وبشربة ماء سترت عيوبها, وبشربة ماء رضي عنها ربها, إنها الرحمة التي أسكنها الله القلوب، فرج بها الغموم والهموم عن كل مهموم ومنكوب، إنها الرحمة التي يرحم الله بها الرحماء, ويفتح بها أبواب البركات والخيرات من السماء, بعث بها سيد الأولين والآخرين كما قال في كتاب المبين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107]. هي شعار المسلمين ودثار.الأخيار والصالحين وشأن الموفقين المسددين، كم فرج الله بها من هموم، كم أزال الله بها من غموم، إنها الرحمة التي إذا أسكنها الله في قلبك فتح بها أبواب الخير في وجهك, وسددك وألهمك وأرشدك وكنت من المحسنين.
الرحمة عباد الله أحوج من يكون إليها أقرب الناس إليك، من هم أحوج الناس إلى رحمتك وشفقتك وإحسانك وبرك؟ أحق الناس برحمتك الوالدان: الأم والأب, ما أحوجهما إلى الرحمة, فارحمهما ولا تعذبهما, وسامحهما ولا تؤاخذهما ولا تُهنهما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا [الإسراء: 24]. يحتاجان إلى رحمتك خاصة عند المشيب والكبر, إذا خارت قواهما وصار البياض في شعورهما, والتهبت بالأحاسيس مشاعرهما فهما عند ذلك أحوج ما يكونان إلى عطفك ورحمتك وحلمك, يحتاج الوالدان إلى رحمة الأولاد وهم بين القبور, ينتظران البعث بعد النشور, فما أحوجهما اليوم إلى دعوة صالحة منك, ترفعهما إلى الله جل جلاله أن يفسح لهما في قبريهما فقد صارا غرباء سفر لا يُنتظرون, ورهناء ذنوب لا يُفكون ولا يطلقون, فارفع الأكف الصادقة إلى الله أن يرحمهما, قال: يا رسول الله هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: ((نعم, الصلاة عليهما والاستغفار لهما, وصلة الأرحام التي لا توصل إلا بهما)) [2].
أحوج الناس إلى رحمتك أولادك أبناؤك وبناتك, وزوجتك, وإخوانك وأخواتك وسائر الأقربين, أحوج الناس إلى رحمتك الأبناء والبنات, عن أنس وأرضاه قال: (ما رأيت أحدَا أشد رحمة بالعيال من رسول الله ) [3] , قبَّل الحسن أو الحسين فقال له رجل: إني لي عشرة من الولد ما قبلت واحدًا منهم, قال : ((أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)) [4].
ولما دعي صلوات الله وسلامه عليه وقد حضر الموت لابنه إبراهيم فاضت عيناه بالدموع, فقيل: ما هذا يا رسول الله؟ قال: ((هذه رحمة أسكنها الله في قلوب عباده)) [5].
الأولاد يحتاجون إلى العطف والإحسان, يحتاجون منك إلى البر والحنان, فارحمهم برحمة الله جلا وعلا.
أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من العمال والمستضعفين والمستخدمين, قال : ((إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم)) [6] , فأمرنا أن نطعمهم مما نطعم, وأن نكسوهم مما نكتسي, فأحسنوا إليهم, أحسنوا إلى أمثال هؤلاء من المستضعفين, واجبروا خواطرهم طلبًا لرحمة الله رب العالمين, أحوج الناس إلى رحمتك من قلدك الله أمره من الموظفين والمستخدمين, فارحمهم ووسع عليهم, قال : ((اللهم من ولي من أمور أمتي شيئًا فرفق بهم فاللهم ارفق به)) [7] , فمن أراد أن تصيبه دعوة النبي فيكون مرحومًا من الله جل وعلا فليوسع على من قلده الله أمره فمن رحمة هؤلاء أن يوسع الإنسان صدره لمن يُسيء منهم ولمن يعتدي عليه من هؤلاء, فالعفو والصفح عن الزلات وستر الخطيئات شأن أهل المكرمات والرحمات.
أحوج الناس إلى رحمتك الضعفاء والفقراء, فمن شعائر الإسلام العظيمة إطعام الطعام والإحسان إلى الأرامل والأيتام والتوسيع عليهم طلبًا لرحمة الله الملك العلام قال : ((الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يَفْتُر)) [8] , الذي يطعم الأرملة ويدخل السرور عليها ويرحم بُعد زوجها عنها حين يكون لها كزوجها إحسانًا وحنانًا كالصائم الذي لا يفطر من صيامه, والقائم الذي لا يفتر من قيامه, فهنيئًا ثم هنيئًا لأمثال هؤلاء الرحماء.
أحوج الناس إلى رحمتك الفقراء، فلعل القليل من المال تكفكف به دموعهم وتجبر به كسر قلوبهم, يكفكف الله به نار جنهم عنك يوم القيامة قال : ((فاتقوا الله ولو بشق تمرة)) [9] , وفي الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: إن امرأة دخلت عليها ومعها صبيتان فاستطعمت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات, فأعطت كل صبية تمرة, ثم رفعت التمرة الثالثة تريد أكلها فاستطعمتها إحدى البنتين فأطعمتها التمرة فعجبت عائشة رضي الله عنها من صنيعها, فلما دخل رسول الله أخبرته فقال : ((أتعجبين مما فعلت إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك)) [10].
الصدقات والإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات من أعظم الأمور التي تُفرج بها الغموم والكربات والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
عباد الله: وتعظم حاجة المسلم إذا كان مظلومًا مخذولاً, فعند ذلك يجب عليك نصره, وتجب عليك معونته, ويجب عليك أن تُمدَّ له يد المساعدة لله جل جلاله.
عباد الله: وهؤلاء إخوانكم المسلمين وأخواتكم المسلمات يعانون ظلم الكافرين والكافرات, ها هم عباد الله تحت هدير المدافع والرصاص, لا يعلم كيف تمر عليهم الساعات واللحظات إلا الله جل جلاله وقع عليهم ذلك في ظلم واضطهاد لم يكن له من مثيل على مرأى ومسمع من الجليل والحقير.
عباد الله, ها هم اليوم تسفك لهم الدماء وتقطع لهم الأشلاء والأعضاء ولا يعلم بحالهم إلا الله فاطر الأرض والسماء, وقفوا اليوم ـ عباد الله ـ ينتظرون منكم العون والمساعدة, ينتظرون منكم أن تغيثوهم بعد الله جل جلاله, فأنفقوا ينفق الله عليكم, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال تداوي به جرح مسلم أو تفرج به كرب مسلم فيفرج الله عنك كربة من كرب يوم القيامة, وما يدريك فلعل هذا القليل من المال يكفكف الله به دمعة اليتيم ويجبر به الأرملة, فاحتسبوا عباد الله هُبُوا لنجدة إخوانكم ونصرتهم لله وفي الله، وها هي ـ عباد الله ـ قد يسرت الأسباب لمعونتهم ومساعدتهم فاحتسبوا البذل لوجه الله.
اللهم إليك توجهنا، وببابك وقفنا يا منتهى كل شكوى، ويا سامع كل نجوى، ويا كاشف كل ضر وبلوى، أدنى شهيد وأقرب حفيظ يا من يحصى ويبديء ويعيد, يا من يفعل ما يريد, يا ذا البطش الشديد والأمر الرشيد نسألك بعزتك يا ذا الجلال والكمال أن تدمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، واجمع قلوب عبادك المسلمين واجعلنا رحمة منك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الشرب, باب فضل سقى الماء (5/50) فتح, وفيه (بينما رجل يمشي), ورواه مسلم في كتاب السلام, باب فضل سقي البهائم المحترمة (14/ 241, 242) بشرح النووي.
[2] رواه أحمد (3/498), وأبو داود في كتاب الأدب, باب في بر الوالدين عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي.
[3] رواه مسلم في كتاب الفضائل, باب رحمته صلى الله عليه وسلم وتواضعه (15/75) بشرح النووي.
[4] رواه البخاري في كتاب الأدب, باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (10/440) فتح, ومسلم في كتاب الفضائل, باب رحمته صلى الله عليه وسلم وتواضعه (15/76) بشرح النووي, عن عائشة.
[5] رواه البخاري في كتاب الجنائز, باب قوله صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه (3/150) فتح, ومسلم في كتاب الجنائز, باب البكاء على الميت (6/224) بشرح النووي, عن أسامة بن زيد.
[6] رواه البخاري في كتاب الإيمان, باب المعاصي من أمر الجاهلية (1/106) فتح, ومسلم في كتاب الإيمان, باب صحبة المماليك (11/133) بشرح النووي, عن المعرور بن سويد.
[7] رواه مسلم في كتاب الإمارة, باب فضيلة الأمير العادل وعقوبة الجائر (12/ 212) بشرح النووي, عن عائشة.
[8] رواه مسلم في كتاب الزكاة الإمارة ح (1828).
[9] رواه البخاري في كتاب الزكاة, باب اتقوا النار ولو بشق تمرة (3/283) فتح, ومسلم في كتاب الزكاة, باب الحث على الصدقة وأنواعها حجاب من النار (07/ 101) بشرح النووي, عن عدي بن حاتم.
[10] رواه مسلم في كتاب البر, باب فضل الإحسان إلى البنات (16/179) بشرح النووي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه البررة الأخيار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحشر والقرار.
أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل جلال.
عباد الله: ومن صفات الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم أنه أرحم الراحمين يرحم سبحانه وتعالى عباده رحمة عامة فيشملهم بها أجمعين ويرحم رحمة خاصة بعباده المؤمنين, يرحم سبحانه عباده فيرحم المعذبين فيزيل عنهم العذاب, والضالين فيهديهم إلى رشدٍ وصوابٍ، يرحم ربك المذنبين فيغفر ذنوبهم ويستر عيوبهم ويقيل عثرات النادمين ويجود بإحسانه على التائبين.
ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى رحمة الله جل جلاله بنا، فكم لله علينا من نعمة لا تعد ولا تحصى، ومنن لا تكافأ ولا تجزى، ولكننا إذا نظرنا إلى أعمالنا نشكو إلى الله عظيم تقصيرنا، ما أحوجنا إلى رحمة يغفر بها ذنوبنا ويستر بها عيوبنا، ويفرج عنها بها كروبنا، فأكثروا ـ عباد الله ـ من سؤال الرحمة فقد كان النبي يقول: ((اللهم اهدني وارحمني وعافني واجبرني )) [1] وكان يسأل الله الرحمة في أكثر من دعاء، وكان يستعيذ برحمة الله من عذابه، نسأل الله عز وجل من واسع رحمته وأن يشملكم بعظيم حلمه وعفوه.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة فقد أمركم الله بذلك....
[1] رواه أبو داود في كتاب الصالحين، باب الدعاء بين السجدتين، والترمذي في كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، وابن ماجه في كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين.
(1/1484)
الرحيل
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل من على هذه الأرض يفنى ويموت. 2- في ساعة الاحتضار يحزن المؤمن والكافر.
3- الملائكة تبشر المؤمن فتزيل عنه الحزن المتعلق بأهله وبمصيره في الآخرة. 4- من
علامات حسن الخاتمة. 5- الاستقامة والمسارعة في الخيرات من أسباب حسن الخاتمة. 6-
عظم حاجتنا إلى الله وإلى القرب منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم [فصلت: 30, 31].
عباد الله إن الحياة مهما طالت أيامها, وتتابعت سنينها وأعوامُها, فلابد للإنسان من أن يرتحل عنها, وأن يودع أصحابها وأهلها.
إنا من الدنيا على طريق إما إلى الغسَّاق أو إلى الرحيق
في ساعة هي آخر الساعات, ولحظة هي آخر اللحظات, ووقفة هي آخر الوقفات, يقف الإنسان عند آخر أعتاب هذه الدنيا, فينظر إلى الأصحاب والأحباب, ينظرُ إلى الأبناء والبنات, وإلى الإخوان والأخوات, وإلى الأصحاب, والأحباب, والإخوان, والخلان, فكأن الحياة طيف من الخيال, وكأنها ضرب من الأحلام.
دنى الرحيل فقلت اليوم وأسفاه كيف الرحيل وذنبي قد تقدمني
في ساعة يقف فيها المؤمن لكي تطوى عليه صحائف الأعمال والأقوال, تطوى عليه صحائف الأعمال وقد رضي عن ذي العزة والجلال, مليئة بالخيرات والباقيات الصالحات.
يقف العبد الصالح عند آخر هذه الدنيا في ساعة يؤمن فيها الكافر, ويوقن عندها الفاجر, وتزول عندها الأوهام, وتتبدد عندها الأحلام, فيقف المؤمن تلك الوقفة بين حزنين عظيمين:
أما الحزن الأول فإنه ينظر إلى أبنائه وما خلف في هذه الدنيا, ينظر إلى ذريته الضعيفة, فمن يعولهم من بعده؟ فمن يرحمُ ضعفهم, ومن يجبر كسرهم بعد الله جل جلاله؟ فتستولي عليه الأشجان والأحزان, وينظر كذلك إلى عظيم تفريطه في جنب الله جل جلاله, فيتذكر الساعات واللحظات وما كان فيها من هنات وزلات, فلا يدري أغفر الله ذنبه, وستر عيبه, أم سيلقى الله جل جلاله بما كان؟
أما الحزن الثاني فينظر أمام عينيه إلى دار غير داره, وحياة غير حياته, ينظر إلى دار لا يدري ما الذي سيكون فيها؟
يقف العبد هذه الوقفة العظيمة, فينظر الله إله وهو أرحم الراحمين, فينظر الله إليه وهو الحليم الرحيم نزلاً من غفور رحيم فتتنزل عليه ملائكة الرحمن تُبشره بما عند الله من الروح والريحان والجنان, وأن الله راض عنه غير غضبان, فيحن إلى لقاء الله, ويشتاق إلى الرحيل؛ لكي يقف بين يدي الله جل جلاله, ويبشره الله جل وعلا بأن ذريته من بعده محفوظة نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة , فيتولى الله جل جلاله ذرية العبد الصالح.
هذا موسى بن عمران ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ معه الخضر يرفعان الجدار فيقول الله جل جلاله حكاية عن الخضر: وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا [الكهف: 82], حفظ الله ذرية العبد الصالح بعد موته, فيبشرهم الله جل جلاله بعدم الخوف على الذرية وأن الله وليهما إن ولييَّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [الأعراف: 196].
من كان في هذه الحياة على استقامة فإنه لا يرى عند موته خزيًا ولا ندامة يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [إبراهيم: 27].
من كان في هذه الحياة على استقامة أصلح الله أمره, وأحسن له عاقبته, وتنزلت عليه الملائكة بالبشائر, فابتهج وسر وظهر السرور على وجهه, تراه مشرق الوجه مسرورًا.
ومن علامات حسن الخاتمة أن ترى وجهه أشرق ما يكون عند الموت, وأبيض ما يكون عند السكرات حتى يلقى الله جل جلاله, فيرى من رحمته ما لم يخطر له على بال, قال : ((هو العبد الصالح إذا نزلت عليه الملائكة فبشرته بما عند الله من الرحمة اشتاق إلى لقاء الله وأحبه فأحب الله لقاءه)) [1] , كيف إذا لقي الحبيب حبيبه؟
من كان في هذه الحياة على استقامة ثبت الله قلبه عند الموت فيرى بشائر ورحمات لم تخطر له على باب واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين [البقرة: 223].
حضر الموت إمامًا من أئمة السلف, الإمام مالكًا جلس أربعة أيام مغمى عليه, فلما أفاق في اليوم الرابع قالوا: يا أبا عبد الله كيف حالك؟ قال: إني أرى الموت, ولكنكم سترون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال.
الظن بالله حسن, فمن كان على استقامة في هذه الدنيا فإن الله يختم له بخاتمة السعداء, فلا يزال لسانه رطبًا بذكر الله حتى تأتيه سكرة الموت, فيكون آخر كلامه لا إله إلا الله, قال : ((من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة)) [2] , ووقف النبي على أبي طالب فقال: ((يا عم قل كلمة أحاج لك بها بين يدي الله)) [3] , لا يزال المؤمن في استقامة حتى يختم الله له بخاتمة الصلاح, ويختم الله له بخاتمة الفلاح والنجاح, فمن وطن نفسه على الصالحات والباقيات الطيبات المباركات أتاه الموت على خصلة من خصالها, فهذا يموت ساجدًا, وهذا يموت راكعًا, وهذا يموت بارًا بأمه, وهذا يموت في سفره يصل رحمه فيختم له بخاتمة السعداء, فمن علامة حسن الخاتمة أن يموت العبد على عمل من الأعمال الصالحة, من ذكر الله جل جلاله, أو غير ذلك من صلاة, وصيام, وعبادة, وقيام.
ومن علامة حسن الخاتمة للمستقيمين أن تكون خاتمتهم أشرف الخواتم وأحبها إلى الله جل جلاله, ألا وهي خاتمة الشهادة في سبيل الله جل جلاله, فمن ختم الله له بالشهادة كان له من الله الفضل والزيادة, من ختم له بخاتمة الشهادة تأذن الله برفعته وزيادة, قال عن الشهيد: ((يغفر له عند أول قطرة من دمه )) [4] , فتُغفر جميع ذنوبه, وتُغفر جميع عيوبه, فيلقى الله نقيًا من الذنوب, ويؤمن الفزع الأكبر, كذلك يُجار من عذاب القبر [5] , وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تشرب من أنهارها, تأوي إلى قناديل معلقة في العرش, كما ثبت عن النبي [6] حتى إذا كان يوم القيامة بُعث الشهيد وجرحه يثعب دمًا, اللون لون الدم, والريح ريح مسك [7] , يلقى الله جل جلاله بدمائه وأشلائه وأعضائه تحاج له بين يدي الله سبحانه وتعالى, ويُشفع في سبعين من أهله, ويزوج بسبعين من الحور العين [8].
يالها من كرامة أعدها الله جل وعلا للأولياء, واختارها للمتقين الأصفياء, إنها الاستقامة التي يبتدؤها المسلم في حياته, فتكون أول وقفة منك أيها المسلم أن تذكر بعدك عن الله, وطول غربتك عن طاعة الله, فتريق دمعة على التفريط في جنب الله.
تبدأ الاستقامة بدمعة من دموع الندم, بدمعة من دموع الحزن والألم على ما كان من الذنوب والهنات, وعلى ما كان من الذنوب والسيئات, تبدأ الاستقامة من هذه اللحظة حينما تعلن الإنابة والتوبة وتعزم على أن تسير إلى الله لعل الموت أن يأتيك على طاعة من طاعة الله, إلى متى الصدود عن الله, إلى متى البعد عن الله؟ تبدأ الاستقامة بالمسارعة إلى الخيرات, والمسابقة إلى الباقيات الصالحات, تبدأ الاستقامة حينما تقترب من الصالحين, وتحب الأبرار والمتقين, فتحشر معهم يوم الدين, تبدأ الاستقامة عباد الله حينما يخاف الإنسان مما بقي من عمره, فيسأل ربه العفو عما سلف وكان, ويسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان, فإلى الله عباد الله فإنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إلى الله.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا, وتغفر بها ذنوبنا, وتستر بها عيوننا, اللهم أصلح أحوالنا, اللهم خذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى, وصفاتك العلى أن تختم لنا بخاتمة السعداء, اللهم اختم لنا بخير, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري, كتاب الرقاق/ باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه (11/364). ومسلم, كتاب الجنائز/ باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه, عن عائشة وعبادة.
[2] أخرجه أحمد (5/233), وأبو داود (3116). والحاكم (1/351) عن معاذ وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي.
[3] أخرجه البخاري, كتاب التفسير, باب (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) (8/192) فتح. ومسلم, كتاب الإيمان, باب (وفاة أبي طالب وما نزل في شأنه) (1/214) بشرح النووي.
[4] أخرجه أحمد والترمذي في أبواب فضائل الجهاد, وابن ماجه, كتاب الجهاد باب فضل الشهادة في سبيل الله عن المقدام بن معديكرب.
[5] نفس المرجع السابق.
[6] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد, باب أن أرواح الشهداء في الجنة (13/31) بشرح النووي, عن ابن مسعود.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير, باب من يجرح في سبيل الله (6/24) فتح, عن أبي هريرة.
[8]
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو أرحم الراحمين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وعلى جميع أصحابه المباركين, ومن سار على نهجهم, واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أخي المسلم ليس هناك ساعة أفضل ولا أحب إلى الله جل وعلا من ساعة تطيع فيها ربك, وليس هناك ساعة أبرك ولا أهنأ للعبد من ساعة رضي الله عنه فيها.
يحتاج المؤمن ـ عباد الله ـ إلى الهداية؛ لكي يصلح بها حاله مع الله جل جلاله, فما أحوج العبد إلى قربه من الله سبحانه وتعالى ولو بكلمة ترضي الله جل جلاله, والله غفور حليم, إن تقربت منه شبرًا تقرب منك ذراعًا, وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا, ومن أتاه يمشي أتاه هرولة [1] , وكم من عبد تاب إلى الله, وتذكر في ساعته كثرة الذنوب في جنب الله, فندم وأراق دموع الندم, فقام مغفور الذنب من الله, إن الله غفور حليم, إن الله جواد كريم, وبمجرد أن يطلع إلى قلبك أنك تريد أن تصحح مسيرك إليه, وأن تصلح حالك بينك وبينه, فإن الله يوفقك ويسددك ويعينك ويهيئ لك من أمرك رشدًا, ويهب لك من لدنه رحمة, إنه هو الوهاب.
فيا عباد الله أصلحوا لله قلوبكم, واستشعروا الندم في جنب ربكم؛ لعل الله أن يرحمنا وإياكم.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا , وقال : ((من صلى علىَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)) , اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك, وأفضل رسلك, سيدنا ونبينا محمد, اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين, الأئمة المهديين, وعن بقية أصحاب نبيك أجمعين, وزوجاته أمهات المؤمنين, اللهم ارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين....
[1] كما في البخاري في كتاب التوحيد, باب قول الله تعالى (ويحذركم الله نفسه) (13/395) فتح, ومسلم في كتاب التوبة (17/60) بشرح النووي عن أبي هريرة.
(1/1485)
أبواب الخير في رمضان
فقه
الصوم
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة ذنوبنا وخطايانا تدعونا لتوبة نصوح في رمضان. 2- صيام الجوارح مع الصيام عن
الطعام والشراب. 3- رحمة الفقراء والمحتاجين في رمضان. 4- نعمة إدراك رمضان وبلوغه.
5- رمضان شهر القيام وشهر قراءة القرآن. 6- تزكية عمل المؤسسات الخيرية التي تهتم
بأحوال المسلمين. 7- الحث على التبرع لجمعية تحفيظ القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عن أبي هريرة وأرضاه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة)) [1].
فتحت أبواب الرحمات، فتحت أبواب الخيرات والبركات، فتحت أبواب المغفرات. فما أحوجنا إلى رحمة من ربنا، ما أحوجنا إلى رحمة من رحماته ومغفرة من واسع مغفراته.
وقفنا على أبواب رمضان، وكلنا أمل في عفو الحليم الرحمن. وقفنا وقد أثقلتنا ذنوبنا وعظمت علينا عيوبنا وإساءتنا، وفي الله رجاؤنا وأملنا، فبباب الله أنخنا، ولرحمته وحلمه وعفوه تعرضنا، فيا أرحم الراحمين لا تجعلنا عن بابك مطرودين، ولا من فضلك وإحسانك ـ بما كان منا من إساءة ـ محرومين، اللهم إنا نسألك من واسع رحمتك.
الأمل في الله كبير، الأمل في الله عظيم، فما منا إلا ومذنب ومسيء, وما منا إلا وهو مخطئ ولكن رجاؤنا فيمن يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومن يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
((يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي)) [2]. استغفروا الله؛ فإن الله غفور رحيم، واستفتحوا شهركم بتوبة نصوح يأمن العبد بها الخزي والفضوح، فكم لله جل وعلا في هذه الأيام من نفحات ورحمات.
ما أحوجنا أن نستفتح هذا الشهر الكريم وقد ألقيت عن ظهورنا الأحمال والأوزار، وما ذلك على الله بعزيز.
نقف اليوم على مشارف شهر رمضان ، شهر الرحمات والبركات والخيرات، ونحن أحوج ما نكون إلى أسباب رحمة الله.
ألا وإن من أسباب رحمته صفاء قلوبنا ونقاء صدورنا من الشحناء والبغضاء.
كفى أيها المتهاجرون، كفى أيها المتقاطعون، كفى أيها المتباعدون.
إلى متى ونحن متعادون؟ إلى متى ونحن مختلفون؟ إلى متى ونحن متباغضون؟ هل لنا أن نستفتح هذا الشهر الكريم وقد ملئت قلوبنا بالصفاء والمودة والإخاء؟
فيا أيها الأحبة في الله: دعوة أن تصوم قلوبنا عن الشحناء والبغضاء، كفى ما مضى فما قلتم ولا قلنا ولا كان بينكم بيننا. كفى، فلا كان منكم ولا كان منا، ولا فعلتم ولا فعلنا. فلتجتمع قلوبنا ولتلتحم صفوفنا ولنرض الله جل وعلا.
صفحًا عن الأبناء والبنات، صفحًا عن الإخوان والأخوات، صفحًا عن المؤمنين والمؤمنات.
ما أحوجنا أن نصوم صيام الصالحين فنستفتح هذا الشهر المبارك وقد زال ما بيننا وبين المؤمنين، ما أحوجنا في هذا الشهر المبارك أن ننظر إلى البائسين، وأن نرحم البائسين، وأن نحسن إلى المحتاجين، فالله يرحم من عباده الرحماء.
ألا عطفًا على البائسين والمحتاجين والمنكوبين, فمن رحم عباد الله رحمه الله، والصدقة تطفئ غضب الله، فكم من حسنة إلى منكوب، وكم من صدقة إلى مكروب غفر الله بها الذنوب، وستر بها العيوب، فاحتسبوا عند الله.
إن الصيام يذكركم بالجائع الذي لا يجد طعامه. إن الصيام يذكركم بإخوان لكم في الدين عاشوا بائسين منكوبين، يذكركم بتلك الأمعاء والأحشاء التي ظمئت وجاعت فاحتسبوا عند الله، فمن فرج كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، يسروا على المعسرين، وأحسنوا إلى المحتاجين. فكم غابت شمس رمضان فغابت معها ذنوب العباد من الله الرحمن. ارحموا عباد الله فإن الله يرحم من عباده الرحماء.
عباد الله ما أحوجنا ونحن نعيش هذه الأيام أن نلهج بالثناء والشكر لله فاطر الأرض والسماء. بلغنا رمضان وما كنا لنبلغه بحولنا وقوتنا. كم من قلوب تمنت, وكم من نفوس حنت أن تبلغ هذه الساعات واللحظات دهمهم هادم اللذات، فهم غرباء سفر لا ينتظرون، وسكان لحد وشق إلى الحشر يساقون. فيا عباد الله اشكروا نعمة الله عليكم بالحياة وبلوغ شهر رمضان, واسألوه التوفيق للطاعة؛ فإنه الموفق والمسدد لمن شاء من عباده، واحمدوا نعمة الله على عافية الأبدان، وأمن الأوطان، وما كان من الله من إحسان، فمن شكر نعمة الله آذنه بالمزيد. اللهم لك الحمد كالذي نقول ولك الحمد خيرًا مما نقول.
عباد الله: شهر الصيام صامت فيه الجوارح والأركان عن الآثام والعصيان، فطوبى لمن صامت أحشاؤه وأمعاؤه, وطوبى لمن صام بصره عن الحرام، وصام لسانه عن الفحش والآثام، طوبى لمن صام الشهر واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر. أخذ رمضان كاملاً وسلمه للملائكة كاملاً، فلا غيبة ولا نميمة ولا أذية للمؤمنين صام فصامت جوارحه وأركانه قانتًا آناء الليل ساجدًا وقائمًا يرجو رحمة ربه ويخشى من عذابه.
الصيام إقبال على الله، مدرسة الصالحين ومنازل الأخيار والمتقين، فلمثل هذا فليعمل العاملون. جعلنا الله وإياكم منهم أجمعين.
عباد الله: إن قيام شهر رمضان حسنة من الحسنات وطاعة من أجلَّ الطاعات.
عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين, وخُلق عباد الله المتقين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [الذاريات:17-18].
وأكثروا من تلاوة القرآن؛ فإنه يأتي شفيعًا لأهله يوم القيامة. أكثروا من قراءة القرآن في شهر رمضان؛ فإنه نعمة ورحمة وهداية وموعظة, وقفوا أمام الآيات وتدبروا تلك العظات البالغات، وأتبعوها العمل تحببًا إلى الله فاطر الأرض والسموات.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا وسائقنا وقائدنا إلى رضوانك وجناتك جنات النعيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الصوم،
[2] هذا حديث قدسي رواه الترمذي في كتاب الدعوات عن أنس، ورواه أحمد (5/167) من حديث أبي ذر بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عظيم الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الديان، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله بالهدى والبيان، فشرح به الصدور وأنار به القلوب. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما آذنت شمس بغروب، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله إن المؤسسات الخيرية والجماعات الخيرية تقوم بأمر عظيم، تحملت الأمانة وقامت بتلك المسئولية العظيمة التي رعت فيها أبناء المسلمين وبناتهم. فالله أعلم كم فرجت بهم من كربات, وكم زالت بهم من نكبات. الله أعلم كم كان من هذه الجمعيات والمؤسسات الخيرية من خير وبر. أسأل الله العظيم أن يعظم أجرهم وأن يثقل في موازين الحسنات حسناتهم.
عباد الله: ووراء هذه الجمعيات أقوام يحتسبون الأجر عند الله ومحسنون بذلوا لوجه الله فكم كان لهم من فضل بعد الله عز وجل في بقائها وحسن أدائها وعظيم رعايتها.
فيا عباد الله: القيام بأمر هذه الجمعيات يحتاج إلى معونة ومساعدة ومواساة من المسلمين يحتاج إلى كل واحد منا أن يقف مع إخوانه ويعينهم على الطاعة والبر. فمن أعان ذا خير على خيره أُجر كأجره، فتعاونوا على البر والتقوى، واحتسبوا ـ عباد الله ـ في مد يد العون لهم فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن هذه الجمعيات والمؤسسات تلك المؤسسة الخيرية والجمعية المباركة التي قامت على تحفيظ كتاب الله لأبناء المسلمين وبناتهم. كم حبرت من آيات، وسمعت من تلاوات وكم من جاهل عُلِم، وكم من ضال قُوِّم. كم كان فيها من خير. كم كان فيها من نفع للمسلمين والمسلمات فاحتسبوا ـ عباد الله ـ في معونتها وأداء الخير إليها. وما يدريك فلعل هذا المال الذي تدفعه أن يكون سببًا في حفظ كتاب الله جل وعلا. وما يدريك فلعل هذا المال الذي تعطيه يكون سببًا في حفظ آية أو سورة، ما تلفظ بها صاحبها إلا كان لك كأجره، ما يدريك لعل الله عز وجل أن يرحمك بما كان منك من خير لكتابه، ومن أعان على حفظ كتابه، وإن إخوانكم ينتظرون منكم العون فأعينوهم أعانكم الله. تقبل الله منا ومنكم.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ فقد أمركم الله بذلك....
(1/1486)
الكهان
التوحيد
نواقض الإسلام
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علم الله يشمل الشهود والغيوب ، الصغير والكبير. 2- لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل.
3- مستلزمات الإيمان بعلم الله لكل شيء. 4- حكم تصديق السحرة والكهان. 5- الضار
والنافع هو الله وحده. 6- القرآن رقية مباركة من الأمراض والأسقام. 7-آداب الرقية الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله : ومن صفات الحي القيوم, الذي لا تأخذه سنة ولا نوم, أنه بكل شيء عليم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر:19]. أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد, يحصي عليه ثم يبدئ ويعيد, وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [الأنعام:59]. لو أن نملة سوداء, على صفاة ملساء, في ليلة ظلماء, لعلم الله حالها وشأنها, لا تخفى عليه خافية, فالسر عنده علانية, ما من ثلاثة إلا هو رابعهم, ولا خمسة إلا هو سادسهم, ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا, يعلم سبحانه قطرات المطر, يعلمُ سبحانه ما في البر والبحر, يعلم سبحانه دفقات الرياح العاتية, وقطرات الأمطار والأنهار والعيون الجارية, سبحان من لا تخفى عليه خافية, يعلمُ ما كان وما لم يكن, أن لو كان كيف يكون, ويعلم ما هو كائن, جل جلاله كل ذلك علِمَه ربُّنا.
ومن عقيدة المسلم في ربه أن يعلمَ علم اليقين أن علم الغيب له سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب إلا الله, ولا يعلم الأحداث والأخطار والأخبار وما سيكون في ظلمات الليل وضياء النهار غير الواحد القهار, لذلك لا يجوز للمسلم أن ينسب هذا العلم لغير الله, أو يعتقده في أي شيء سواه, لا يعلم الغيب إلا الله, فلا يعلمه السحرة, ولا المشعوذون, ولا الكهنة, ولا العرافون, يعلمه سبحانه وحده هو المطلع على الأمور, الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, فإذا علم المؤمن ذلك كله اطمأن قلبه بالله, وقويت عقيدته في الله, وفر من الله إلى الله, قال : ((لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك)) [1].
إذا علمنا ـ عباد الله ـ ذلك فينبغي أن يكون لهذا العلم أثر في سلوكنا وأعمالنا, فإذا علمنا أن علم الغيب لله, فلا يجوز للمسلم أن يقف على باب أحد سواه, لماذا نقف على أبواب السحرة والمشعوذين؟ لماذا نقف على أبواب الكهنة والعرافين؟ أطردنا عن باب الله, حتى نقف بباب من سواه؟ هل بيننا وبين الله حجاب؟ هل بيننا وبين الله واسطة تحول بيننا وبين إجابة الدعاء وكشف البلاء وإزالة العناء؟.
لذلك عباد الله من اعتقد في غير الله فقد خسر وضل ضلالاً مبينًا, من اعتمد على السحرة والمشعوذين ووقف بباب الكهنة والعرافين خذله الله في الدنيا والآخرة, ألبسه الله لباس الخوف ولباس الضيعة ولباس الخسارة في الدنيا والآخرة.
لذلك عباد الله يقول النبي يشير إلى هذه العاقبة الوخيمة: ((من أتى عرافًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد))، ((من أتى عرافًا أو كاهنًا)) في رواية أحمد في مسنده ((فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) [2]. أي ضل الضلال البعيد كأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [الحج:31]. ذلك بأن الله لم يكن مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الأنفال:53]. حتى يغيروا العقيدة في الله ويتعلقوا بما سواه, فعندها يكون الخذلان والخسارة من الله.
لذلك عباد الله اعتبر العلماء إتيان الكهان, والسحرة, والمشعوذين, ومن يدعي علم الغيب, وتصديقهم في جميع ذلك, كفرًا بالله ورسوله , لا يشترط أن تقف على باب الساحر أو المشعوذ, بل إن الإنسان ربما يقف هذا الموقف الوخيم بعقيدته, حينما يفتح صفحة من المجلة؛ لكي ينظر إلى برجه وطالعه, فإذا نظرت إلى الطوالع, والبروج, وما يذكرون فيها من الأمور, يقولون إذا كنت من مواليد برج كذا وكذا, فسيكون من أمرك كذا وكذا, فإن صدقت كلمة واحدة فقد كفرت بما أنزل على محمد , وإن وقفت أمام إنسان لكي يقرأ الكف أو الفنجان, فاعلم أنها الخسارة العظيمة في الدنيا والآخرة, إن وقفت أمام إنسان يقرأ الكف أو الفنجان, فاعلم أنك أمام عدو لله ورسوله , وأن إن وقع في قلبك شيء مما يقول فإنها الخسارة الأبدية, والعاقبة الوخيمة السرمدية, فتوبوا إلى الله واستغفروه.
عباد الله:
إن أصابتنا الهموم والأحزان, وقفنا بباب الرحيم الرحمن, إن نزلت بنا الخطوب والكروب, فررنا إلى علام الغيوب, وقفنا بباب أرحم الراحمين, وعذنا بالله وهو رب العالمين ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3]. فما السحرة والشياطين يملكون لك ضرًا أو نفعًا من دون الله رب العالمين, الله أكبر يوم يأخذ بالنواصي والأقدام, الله أكبر هو السلام ومنه السلام.
وقف موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام أمام أمة من السحرة, كانوا أقوى الناس في السحر, وأعلم الناس في السحر في زمانهم, وقف أمامهم مؤمنًا بالله, متوكلاً على الله, واثقًا بالله جل جلاله قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا... [الأعراف: 115-116]. قالها بإيمان وعقيدة في الرحمن, فلما ألقوا حبالهم وعصيهم فإذا هي حياتٌ تسعى, وإذا بكل عصاة كالأفعى, فلما رأى هذا المنظر العظيم دخله ما دخل فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [طه: 68-69].
ألق العصاة بأمرنا, وفوض الأمور إلينا, فالله هو الحسيب, وهو الرقيب, فألقى عصاة ضعيفة, ألقى العصاة الهزيلة فإذا بها تلقف جميع ما صنعه السحرة, فغلبوا هنالك وانقلبوا خاسرين, فلما رأوا إلى عظمة الله جل جلاله خروا ساجدين, قالوا: آمنا بالله رب العالمين.
ليس عند أحد غير الله نفع ولا ضر, النفع من الله, والضر من الله, فتوكلنا على الله وحسبنا الله, ومن عاذ بالله أعاذه, ومن لاذ بالله كان الله له سبحانه وتعالى, لو كادته السموات والأرض ومن فيهن, لجعل الله له من بين أطباقها فرجًا ومخرجًا, فطوبى للعبد المسلم الذي إذا أصابته الضراء علم أنه ما أصابه من سوء إلا من نفسه, فأناب إلى الله, وتضرع لله, واستغفر الله, وتاب إلى الله, حتى فرج الله كربه, وأزال الله همه وغمه.
اللهم اجعل فقرنا إليك, وغنانا بك, وتوجهنا إليك. اللهم املأ قلوبنا إيمانًا, اللهم ثبت قلوبنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنك على كل شيء قدير, وبالإجابة قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الدعوات, باب ما يقول إذا نام (11/117) فنح, ومسلم في كتاب الذكر والدعاء, باب الدعاء عند النوم (17/33) بشرح النووي, عن البراء بن عازب.
[2] رواه أحمد والبيهقي في كتاب القسامة, باب تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كلام كفر صريح والحاكم عن أبي هريرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, يجيب دعوة المضطرين, وأ
شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين, وعلى جميع أصحابه الغر الميامين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحشر والدين.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله إن الله أنزل هذا الكتاب رحمة بعباده المؤمنين, وشفاء لما في الصدور من الله رب العالمين, أنزله رحمة بعباده وبركة وخيرًا للعبد في دينه ودنياه ومعاده.
ومن بركات هذا القرآن التي جعلها الله جل وعلا فيه أنه جعله رقية لمن استرقى, جعل فيه الشفاء من الأدواء, ومن العلل والأسقام والمتاعب والآلام, فكم بدد الله به من أحزان, وكم أزال به من هموم وغموم وأشجان, فهو كلام رب العالمين, وموعظة إله الأولين والآخرين, قرأ بعض أصحاب النبي الفاتحة قرأها على مجنون فأصبح عاقلاً [1] , وقرأها على لديغ فأصبح سليمًا مشافى [2] , كل ذلك بإذن الله جل جلاله, فما أعظم الخير الموجود في كتاب الله عز وجل, إن في كتاب الله غناء لمن استغنى, وفيه كفاية لمن استكفى, فالرقية الشرعية هي الرقية بكتاب الله جل جلاله, وبما ثبت في سنة النبي من الأدعية المأثورة.
كان من دعائه صلوات الله وسلامه عليه: ((أذهب البأس رب الناس, واشف أنت الشافي, لا شفاء إلا شفاؤك, شفاء لا يغادر سقمًا)) [3]. كلمات عظيمة لو وزنت بالسماوات والأرض لرجحتهن, كلمات عظيمة إذا قالها المؤمن اطمأن قلبه, وقوي إيمانه, وكان إذا عاد مريضًا صلوات الله وسلامه عليه كان يقول ويأمر أن يقال سبعًا: ((أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفيك, أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفيك)) يقولها المؤمن سبع مرات معتقدًا في الله جل جلاله فإنه يشفى, إلا إذا كان الأجل قد حضره, هكذا ثبت عن النبي [4] , فيشرع للمسلم إذا أصابه الهم والحزن وأراد أن يسترقي أن يسترقي بالرقية الجائزة المشروعة إذا كانت بما ذكرنا من كتاب الله وسنة النبي , وهكذا إذا كانت بأسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى ففيها الخير الكثير والبركة العظيمة من الله جل جلاله.
وإذا أراد المسلم أن يسترقي فإنه يذهب أو يطلب الرقية ممن عرف بصلاح دينه واستقامته لله سبحانه وتعالى, يذهب لمن عرف بالصلاح والاستقامة معتقدًا في الله سبحانه أنه يجعله سببًا وليس شافيًا بذاته, فالشفاء من الله وحده سبحانه وتعالى.
وعلى الذي يقوم بالرقية أن ينفع أخاه المسلم؛ لأن النبي لما سُئل عن الرقية قال: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) ) [5] ؛ فإن المهموم والمغموم, ومن به حزن أو شجى يحتاج منك إلى كلمة تثبته, أو رقية يكون فيها شفاؤه بإذن الله جل جلاله, فإذا أردت أن ترقي الناس فانصح لهم, ولتكن رقياك بما ثبت عن النبي.
وعلى من يقوم بالرقية أن يتقي الله جل جلاله؛ فإن بعض الناس قد توسع في هذا الأمر إلى أمر لا تحمد عقباه, فبعض الذين يقومون بالرقية يدخلون الوسوسة على الناس, فبمجرد أن يأتيه المريض ويقرأ عليه فيغشى عليه جعل يفسر ذلك بالعين والسحر, وهذا أصابته عين من الإنس, وهذا أصابته عين من الجن, وهذا به مس ظاهر, وهذا به مس طائر, إلى غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله, ينبغي للمسلم أن يكون عنده من الورع وخوف الله جل جلاله أن يتكلم بدون علم, الأرواح والشياطين أمر من الغيب ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [الإسراء: 85]. اقرأ على أخيك المسلم وتوكل على الله أنه يشفيه, وأنه يذهب ما به من العناء والبلاء, ولا تدخل على الناس الوسوسة حتى ولو علمت أنه مسحور, أو شعرت أنه مسحور فليس من الحكمة أن تدخل عليه الوسوسة, فإن من النصيحة أن تخفي ذلك عنه؛ حتى تقوى نفسه, ويستجم فؤاده, فهذا هو خير الدين, وهو العقل والحكمة التي ينبغي لمن نصح أن يفعلها, أما أن نقول به عين أو سحر, لكي يتردد علينا, ويدمن الوقوف بأبوابنا, فذلك يخالف ما قصد من الرقية الشرعية.
وينبغي على من استرقى فوجد النفع في الرقية أن يعتقد في الله, ولا يعتقد في المشايخ, فما المشايخ إلا سبب من الله سبحانه وتعالى, إن شاء الله العافية كانت, وإذا لم يشأ لم تكن, فالفضل كله لله وجل الله.
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا. وقال : ((من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا)).
[1] أخرجه أحمد (5/ 210), وأبو داود (2/95) وغيرهما عن خارجة بن الصلت عن عمه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الطب, باب الرقى بفاتحة الكتاب (10/208) فتح, ومسلم في كتاب السلام, باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرأن (14/187) بشرح النووي, عن أبي سعيد الخدري.
[3] رواه البخاري في كتاب المرضى, باب دعاء العائد للمريض (10/136) فتح, ومسلم في كتاب السلام, باب استحباب رقية المريض (14/181) بشرح النووي, عن عائشة.
[4] رواه الترمذي في كتاب الطب عن ابن عباس, انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري (6/259).
[5] رواه مسلم في كتاب السلام, باب استحباب الرقية من العين (14/186) بشرح النووي عن جابر.
(1/1487)
المديونون
فقه
الديون والقروض
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدَّين هَمّ بالليل وذل بالنهار. 2- وصايا للمديونين. 3- نصائح للدائنين والأغنياء. 4-
الديون بسبب تكاليف الزواج المرهقة. 5- التحذير من فجأة الموت قبل سداد الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عن أبي سعيد الخدري وأرضاه قال: دخل رسول الله المسجد ذات يوم فرأى رجلاً من الأنصار يقال له أبو أمامة جالسًا فيه فقال : يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في غير وقت صلاة؟ قال: يا رسول الله، هموم لزمتني وديون غلبتني. فقال : ((أو لا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله عنك همك وقضى عنك دينك؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: قل إذا أمسيت وأصبحت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) [1].
عباد الله: إنه الدين هَمّ الليل، وذل النهار، إنه الدين الذي يزعج القلوب ويشتت الأفكار. المديون مهموم مغموم ولو رآه الناس فرحًا مسرورًا. المديون ذليل حسير، كسيرٌ أسيرٌ ولو رآه الناس حرًا طليقًا. كيف يرتاح قلبه وكيف يطمئن فؤاده وهموم الناس أحاطت به من كل جانب؟ كيف يرتاح في بيته وقد طرقت عليه الأبواب من أصحاب الديون وأصحاب الحقوق.
كيف يرتاح نومه، كيف تنام عينه وهمُّ الدين يقلقها؟ وكيف يطمئن جسده ومصائب الحقوق تزعجه؟
لذلك ـ عباد الله ـ استعاذ النبي من الدين وقهر الرجال.
المديون مهموم مغموم فما أحوجه إلى الرحمة والعطف والإحسان. الله أعلم كم في قلوب المدينين من هموم وغموم لا يعلمها إلى الله رب العالمين، لذلك عباد الله وقف رسول الله بأبي وأمي على هذا المهموم والمغموم، وقد كان أرحم بأصحابه من الوالد بولده، وقف عليه فرأى آثار الأحزان والأشجان على وجهه فنزل الوحي عليه من السماء بهذا الدعاء؛ لكي يكون سلوانًا للمديونين وعزاء للمعسرين والمنكوبين.
معاشر المديونين: أنزلوا الحوائج بأرحم الراحمين وقفوا بباب أكرم الأكرمين.
الوصية الأولى: أن يكون فقركم إلى الله وغناكم بالله، توكلوا على الحي الذي لا يموت، توكلوا على من بيده خزائن السماوات والأرض، توكلوا على الحليم الكريم، وفوضوا الأمور إليه، وأذعنوا له بالذلة والتسليم.
استودع ربي أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها
أنزلوا الحوائج بالله وتوكلوا على الله، وأحسنوا الظنون بالله وإن ضاقت عليكم قلوبكم فوسعوها باليقين بالله سبحانه وتعالى، فكم من هموم وغموم أحاطت بأصحابها فرجها الله عنهم من حيث لا يحتسبون.
الوصية الثانية: خذوا بالأسباب واطلبوا الرزق كما جعله رب الأرباب فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [الملك:15]. إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بأسباب الرزق، وسددوا ولو بالقليل قال : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) [2].
أي من أخذ الدين وفي نيته أن يسدد أعانه الله وفتح له أبواب الرزق، ومن أخذ وهو يريد أن يضيع أموال الناس ويتلفها أتلفه الله عز وجل. خذوا بالأسباب وسددوا ولو بالقليل؛ فإن الله يجعل القليل بالبركة كثيرًا.
يا معاشر الأغنياء والأثرياء: ارحموا الفقراء والضعفاء وتفقدوا المحتاجين والبؤساء، رجل يريد الدين فأعينوه وأعطوه، وإياكم وسوء الظن بالناس, وإن ذهبت أموالكم بالدنيا فلن تذهب عند ذي العزة والجلال، إن كانت تفنى أموالها فالآخرة ستصلح أحوالها.
يا معاشر الأغنياء والأثرياء: ارحموا الفقراء والضعفاء، وتفقدوا المحتاجين والبؤساء، يسروا ولا تعسروا، واستمعوا إلى ذي العزة والجلال حيث يقول في كتابه أصدق مقال: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [البقرة:280].
يا معاشر الأغنياء: الله امتحنكم بالغنى والثراء، فاحمدوا نعمة الله عليكم، فإن جاءكم المديون يشكي دينه فساعدوه، إن جاءكم رجل يريد الدين فأعينوه وأعطوه، وإياكم وسوء الظن بالناس، وإن ذهبت أموالكم في الدنيا فلن تذهب عند ذي العزة والجلال إن كانت الدنيا تفنى أموالها فالآخرة ستصلح بأحوالها.
يا معاشر الأغنياء: وسعوا على الفقراء والضعفاء وردوهم إلى بيوتهم وقد جبرت نفوسهم، وجبرت خواطرهم المكسورة، فأي نعمة من الله عز وجل يُنعم بها على العبد يوم يجعله مفتاحًا للخير والرحمة، فينقلب الناس من عنده وقد فرجت همومهم وغمومهم. تصوروا رب العائلة تصوروا شيخًا كبيرًا له أسرة إذا وقف بالغنى فسأله حاجته ورده إلى أهله فرحًا مسرورًا. كم من أناس طوتهم القبور، وكم من أناس توسدوا اللحود إلى البعث والنشور لا زالت تغشاهم إلى اليوم الدعوات، وتفيض عليهم في مساكن لحودهم الرحمات بما أسدوا من الجميل وتفريج الكربات.
يا معاشر الأغنياء والأثرياء: الدنيا فانية وزائلة حائلة، ووراءكم يوم لا يغني فيه مال ولا بنون فادخروا من صالح الأعمال وفرجوا لوجه ذي العزة والجلال.
عباد الله: في هذه الأيام تكثر الديون وتعظم الهموم على شاب يريد الفرح فتنقلب أفراحه أتراحًا، على شاب يريد أن يبني بيته ويرتاح مع أهله فإذا به يدخل إلى بيت الزواج مرهقًا بالديون مأسورًا بحقوق الناس.
اليوم تقام الأفراح، وتقام الولائم هنا وهناك, وهناك قلوب كسيرة أسيرة بالديون، نعم أناس يُهنَّون بأفراحهم وزواجهم، ولكن تمضي أيام قليلة فيكتوون بنار الديون، ويعيشون هموم الحقوق، حقوق الناس التي استعاذ النبي من بلائها.
الزواج نعمة من نعم الله، ومنة من أجلِّ منن الله، ولكنه ينقلب عذابًا على عباد الله، على الشباب الضعفاء الذي يخدعون بزهرة الدنيا ومتاعها فارفقوا عباد الله بإخوانكم.
يا معاشر أولياء الأمور من الآباء والأمهات: يسروا ولا تعسروا، لا تشددوا على أبنائكم وبناتكم، ولا تضيقوا عليهم، وخذوا الأمور بالتيسير ييسر الله عليكم لا تضيقوا عليهم في تكاليف الزواج، ولا تحملوهم ما لا يطيقون، ولا تجعلوهم في هم وغم الديون، ارحموهم يرحمكم الله، فكم من شاب دخل إلى بيت الزوجية وهو في العذاب يصلى بنار الديون، كيف يرتاح الزوج وقد تحمل الهموم والغموم؟ كيف يرتاح في بيت الزوجية وهو يدخل مشتت الذهن والبال؟ كيف يرتاح في عيشه ونصف راتبه أو ثلاثة أرباعه ذهبت طعامًا لضيوفه أو خرقًا لإخوانه وأخواته في لباسهم.
عباد الله: اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، الدنيا فانية، ومظاهر زائلة حائلة، ومع هذا كله فإن علاج هذه المشكلة أن نعلم علم اليقين أن الله سائلنا عما ننفقه من الأموال، وأن الله سائلنا عما يكون من البذخ في الأحوال.
حل هذه المشكلة أن نتقي الله عز وجل بترك السرف والخيلاء والبعد عن المظاهر ومطالب النساء التي أصبحت تقلق الصغير والكبير دون فائدة أو عائدة، فاتقوا الله يا معاشر الآباء واتقوا الله يا معاشر الأمهات، وارفقوا بالأبناء والبنات، واعلموا أن الله سائلكم ومجازيكم ومحاسبكم واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [البقرة:281].
لا يزال الأخيار بالخير، لا يزال في هذا المجتمع أناس لهم الفضل ولهم الخير قدوة للناس، نعم تجد الرجل منهم في قمة الحال علمًا وفضلاً, ولكنه يقيم زواجه باليسر والسماحة، يقيم زواجه باليسير وترك المبالغة والسرف والتبذير.
فخذوا من أمثال هؤلاء قدوة ترضي الله عنكم، وإياكم والتشبه بالسفهاء، وإياكم والمبالغة في الخيلاء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
اللهم إنا نعوذ بك من همّ الدين وقلقه. اللهم صن ماء وجوهنا عن ذل سؤال غيرك.
اللهم احفظنا من الوقوف بغير بابك. اللهم اجعل فقرنا إليك وغنانا بك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود في أبواب الوتر، باب الاستعاذة (4/412) عون المعبود شرح سنن أبي داود.
[2] رواه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها ح 2387 (5/66) فتح عن أبي هريرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى جميع أصحابه الغر الميامين وعلى من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الحساب والدين.
أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إن النبي عظم أمر الدين، وكان من حكم الإسلام في أول الأمر أن من مات وعليه دين كان النبي لا يصلي عليه حتى يقضى دينه [1] كل ذلك؛ لكي يخوف الناس من الدين، كل ذلك لكي يرهبهم من الدين ويجعلهم في عافية من هذا البلاء العظيم.
الدين همّ بالليل وذل بالنهار، يمنع الإنسان من الخشوع في عبادته والطمأنينة في جسده والراحة بين أهله وولده، ولذلك ينبغي على المسلم أن يبتعد عن أسباب الدين.
ومن أحكام الإسلام أن من ابتلي بالدين أنه مطالب بالسداد؛ حتى يبرئ ذمته، ويخلص نفسه، حتى إن الميت ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه لو مات أحب ميتة إلى الله جل وعلا وهي ميتة الشهادة، لو مات شهيدًا غفرت ذنوبه ولم يغفر دينه قال : ((يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين)) [2]. هذا الشهيد الذي يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويؤمن من عذاب القبر وفتنة القبر, ويشفع في سبعين من أهله، وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، يغفر له كل شيء إلا الدين.
حقوق الناس يا عباد الله، ووصية للأبناء والبنات عند موت الآباء والأمهات أن يبادروا بسداد الحقوق.
التأخر في سداد دين الميت يعتبر بلاء عليه، ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((أنه أتى برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دين؟ قال: نعم. قال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله ـ أي الديناران الذان هما دين هذا الرجل علي أنا أقوم بالسداد ـ فصلى عليه النبي قال أبو قتادة: فلم يزل يلقني في طرق المدينة ـ أي النبي ـ ويقول: هل أديتهما؟ هل قضيتهما؟ فيقول: لا بعد. حتى لقيني ذات يوم فقال: هل أديتهما؟ قلت: نعم. فقال: الآن بردت جلدته)) [3] ، الآن بردت جلد ذلك الميت بسبب كونه مرهونًا بالدين.
وعلى المديون أن يبادر بالسداد إذا كان عنده مال. فإذا تأخرت عن سداد الدين وعندك القدرة فأنت ظالم وعليك الإثم، وهذا من الجور وأذية العباد، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يماطل أصحاب الحقوق فأنت مديون ولو كنت غنيًا ثريًا إذا أخرت حقوق العمال عن وقتها. أنت مديون ومأسور بدينك وظالم في فعلك إذا منعت الضعفاء والأجراء ومضت عليهم الشهور وأجسادهم تتصبب العرق لا ينالون حقوقهم، أنت ظالم لهم ومسئول بين يدي الله عما فعلت بهم وعما حصل من الضرر لهم ولعوائلهم فاتقوا الله عباد الله.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله فقد أمركم الله بذلك...
[1] رواه أبو داود في كتاب البيوع، باب التشديد في الدين, والنسائي في كتاب الجنائز، باب الصلاة على من عليه دين، عن جابر.
[2] رواه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين (13/30) بشرح النووي، عن عبد الله بن عمرو.
[3] رواه البخاري في كتاب الحوالة، باب إن أحال دين الميت على رجل جاز حديث 2289 (4/545) فتح، وزيادة (فلم يزل يلقني في طرق المدينة...) إلخ، عند الحالكم.
(1/1488)
الوصية
فقه
الفرائض والوصايا
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية حفظ للحقوق وأداء للواجب. 2- الوصية بثلث المال لغير الورثة. 3- الوصية في
الأقربين (من غير الورثة) أفضل. 4- أذكر الديون والحقوق المترتبة على المرء في الوصية.
5- التحلل من المظالم. 6- الاستعانة في كتابة الوصية. 7- إحسان الظن بالله حال الاحتضار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فمن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا.
عباد الله: ما من إنسان في هذه الدنيا إلا هو مفارق لها ومودع لأهلها، ولكن ينبغي على المسلم أن يعلم أن هناك حقوقًا وواجبات، وأن هناك فرائض وأمانات حمّله الله إياها وأوجب عليه أداءها لأهلها ومستحقيها.
عباد الله: شرع الله الوصية للمسلمين؛ لكي تؤدى بها الحقوق والواجبات، ويخرج المسلم من هذه الدنيا خفيف الحمل من التبعات والمسئوليات.
الوصية ـ عباد الله ـ تكون للإنسان في حق نفسه، وتكون في حق أهله وولده، وتكون بحقوق الناس وما لهم عليه.
أما وصية الإنسان فإنه يوصي لنفسه بخير بعد وفاته، يُبقيه الله جل وعلا له حسنة باقية، يدر عليه أجرها ويبقي له ثوابها، فيوصي من ماله بصدقة أو بر أو إحسان، ويجعل ذلك لوجه الله جل جلاله، يحتسب ثوابه عند الله.
وجعل الله للمسلم قدر الثلث فيوصي بما دون ذلك من ماله، دخل رسول الله على سعد بن أبي وقاص وأرضاه وهو طريح الفراش في المرض في حجة الوداع فقال: يا رسول الله لقد بلغ بي من الوجع ما ترى، وإن لي مالاً كثيرًا وليس لي إلا بنت، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: ((لا. قال: أفأوصي بشطره؟ قال: لا. قال: فبالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير)) [1].
قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لو أن الناس غضوا من الثلث؛ لأن رسول الله قال: ((الثلث والثلث كثير)) [2].
يعني لو أن الإنسان إذا أراد أن يوصي فلا يبلغ بوصيته الثلث؛ لأن رسول الله عده كثيرًا ثم علل رسول الله وبين السبب حينما منع سعدًا أن يوصي بأكثر ماله قال له عليه الصلاة والسلام والخطاب للأمة كلها: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) [3] ، هذا المال الذي تركته إذا تركته لأولادك فصنت وجوههم عن ذل المسألة والفاقة إلى الناس فإن الله يأجرك على ذلك ويثيبك عليه وهم أقرب الناس منك وأولاهم بمعروفك وإحسانك.
عباد الله: يوصي المسلم بالصدقة من ثلث ماله فينظر أول ما ينظر إلى أقرب الناس إليه، لا يوصي للبعيد ويترك أرحامه وأقاربه، فإن ذلك من ضياع الخير على الإنسان؛ لأن أعظم ما يكون من الأجر أن يحسن الإنسان إلى أقرب الناس إليه فالوصية للقرابة فيها أجران: أجر الصدقة عليهم، وأجر صلة الرحم التي يصل الله أهلها بوصله يُحسن إلى قرابته فينظر إلى أقربائه الذين لا يرثون؛ لأن الوصية لا تكون لوراث، فلا يجوز لمسلم أن يوصي لابنه أو لبنته، أو من يرثه؛ لأن النبي قال: ((لا وصية لوارث)) [4] يوصي بالمعروف والخير الذي يرى عظيم نفعه للمسلمين وعظيم أجره للمؤمنين، خاصة إذا كان من الصدقات الجارية كحفر الآبار، وبناء المساجد ونحو ذلك من سبل الخير، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ((ومن بنى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرًا في الجنة)) [5].
يوصي الإنسان ويكتب وصيته، يحفظ بها حقوق أهله وأولاده، فإذا كانت للإنسان ذرية وكانت الذرية ضعيفة وهم الأيتام والقصار والبنات والنساء الضعفة إذا علم أنهم يتضررون من بعد موته وأنهم يحتاجون إلى من يتفقدهم ومن يحسن إليهم ويقوم عليهم نظر إلى أقربائه نظر الصالح الدّين الذي يأمنه ويرى فيه الخير والاستقامة والحفظ لحدود الله، فعهد بالأمانة إليه حتى إذا لقي الله جل جلاله وسأله عن ذريته كان حافظًا غير مضيع، ينظر إلى أقرب الناس وأكثرهم محافظة على ولده من بعده، فيوصيه بتقوى الله جل جلاله، ويوصيه بحفظ أبنائه وبناته وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا [النساء:9].
قال العلماء: من كان له صبية أو أبناء وبنات صغار فيجب عليه أن يوصي إذا غلب على ظنه أنهم يضيعون من بعده، أو يكون له أقرباء يخشى عليهم من بعده أن يوذيهم عهد بهم إلى من يتق الله فيهم، وذلك من حقوق الأولاد على الوالدين من بعد وفاتهم، فإن كان لهم أخ يحفظهم ويعرف فيه الدين والأمانة والرحمة عهد إليه وذكره الله جل جلاله في ذريته، فمن أعظم ما يكون البر أن يحسن الإنسان إلى أبناء وبنات الوالد، فذلك من أعظم البر، وأحبه إلى الله جل جلاله.
فلابد للمسلم إذا كانت له ذرية من بعده أن يوصي إذا غلب على ظنه أنهم يضيعون، فإذا لم يجد الإنسان في قرابته من يعرف فيه الدين والأمانة والمحافظة عهد ولو إلى بعيد يُعرَف فيه ذلك، يُعرَف فيه الدين والأمانة والحفظ لحدود الله جل جلاله، وأمرَه أن يتقي الله في ذريته، وعهد إليه بالوصية وكيف يتصرف في أمرهم من بعد وفاته.
كذلك أيضًا يوصي المسلم لحق الناس فإذا كانت حقوق الناس عليه كالديون ونحوها من الأمور التي تتعلق بها ذمم الناس وصى من بعده بأدائها وردها إلى أهلها قال : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) [6] ، فلا يجوز للمسلم إذا كان عليه دين أن ينام ولو كان صحيحًا قويًا لا يجوز له أن ينام ليلته إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه، يكتب فيها القليل والكثير والصغير والكبير قبل أن يأتي يوم يحاسب فيه على الخردلة والقطمير والنقير، يكتب وصيته بحقوق الناس كاملة غير منقوصة، يؤديها إلى عباد الله وهو يخاف الله ويرجو بذلك النجاة بين يدي الله جل جلاله، فأمامه اليوم الذي تنشر فيه الدواوين وتنصب فيه الموازين؛ لكي يحاسب على مثقال خردلة ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء:47].
ومن حقوق الناس التي يوصي بها الديون، سواء كانت من النقدين أو كانت من غير النقدين، فيكتب لفلان بن فلان علي كذا وكذا، ويذكر اسمه ويذكر عنوانه ويحدد أوصافه إذا كان يعلم أو يغلب على ظنه أن الورثة من بعده يحتاجون إلى مثل هذا، يكتب بحقه إليه قال : ((ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ) [7].
كذلك أيضًا من حقوق الناس مظالمهم، فإذا علم أنه ظلم مسلمًا أو اغتصب أرضه أو أكل ماله أو آذاه في عرضه كتب لورثته من بعده أن يُخرجوا هذا الحق لصاحبه، وأن يتحللوا صاحب الحق من مظلمته قبل أن يفلس بين يدي الله قال : ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم. قال: إنما المفلس من يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ من حسناته على قدر مظلمتهم، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئات صاحبه فوضعت عليه ثم أمر به فطرح في النار)) [8].
فيؤدي هذه الحقوق إلى أهلها قال بعض السلف: حضرت الوفاة رجلاً من الصالحين فنادى أولاده وقال: تحللوا من جاري؛ فإن له حقًا عندي. قالوا: يا أبانا وما حقه الذي عندك؟ قال: إني أكلت طعامًا فأصابت يدي السمن والودك ـ أي الدهن ـ فأدرت أن أغسل يدي فاحتجبت إلى التراب فحككت جدار جاري، فتحللوا لي منه. حك جداره وأخذ الطين اليسير منه، يتحلل منه قبل أن يلقى الله جل جلاله، ومن خاف الله جل جلاله بصَّره الله بحقوق عباده وأخرجه من الدنيا خفيف الظهر خفيف الحمل من حقوق الناس.
حق الله إذا استغفر العبد غفره، وإذا استرحمه رحمه، وإذا سأله وهو الكريم أعطاه، ولكن حقوق العباد بالقصاص، والله لا يضيع حق العبد، ولا بد أن يأخذه كاملاً غير منقوص، فالسعيد من رزق التحلل من المظالم، إذا سب الناس أو شتمهم أو وقع في أعراضهم أو أكل أموالهم أو اغتصب أراضيهم خرج من الدنيا خفيف الحمل، فتحلل من أصحاب هذه المظالم وسألهم العفو وطيَّب خواطرهم ولو بإعطائهم شيئًا من الدنيا حتى يرضوا؛ حتى يكون ذلك أدعى لخفة حمله بين يدي الله جل جلاله.
عباد الله: مما ينبغي للموصي أن يكتب وصيته، فإذا كان عاجزًا عن الكتابة عهد إلى الذَّين الأمين، وهو الكاتب العدل، فأمره أن يكتب، وعلى الذي علمه الله الكتابة أن يكتب، وأن لا يكفر نعمة الله إذا علمه من فضله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا [البقرة:282]. فيؤدي الحق كاملاً ثم إذا انتهى من كتابة هذا الحق أمر بعدلين، فقرأ الكتاب عليهما وقُرأت الوصية عليهما، ويعلمان ما فيها، وأشهدهما على ما كتب وكفى بالله شهيدًا وكفى بالله حسيبًا.
وإذا أراد المسلم أن يكتب وصيته فخير ما يوصي به تقوى الله جل جلاله، أوص ِ أولادك وذريتك من بعدك أن يتقوا الله جل جلاله، وأعظم وصية وأجلها وأشرفها على الإطلاق الوصية بتوحيد الله جل جلاله، وصى بها إبراهيم حينما حضره الموتُ، ووصى بها يعقوب ووصى بها الأنبياء، وصوا بلا إله إلا الله، وصوا بما أمر الله به من فوق سبع سموات فأنزل من أجله كتبه، وأرسل من أجله رسله ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:132].
اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وأصلح أحوالنا وسدد أقوالنا..
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة بما يرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس ح 2742 (5/362) فتح، ومسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث ح 1628 (11/76) بشرح النووي.
[2] رواه البخاري في كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث ح 2743 (5/434) فتح، ومسلم في كتاب الوصية (11/82) بشرح النووي.
[3] رواه البخاري في كتاب الوصايا، باب أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس ح 2742 (5/362) فتح، وسلم في كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث ح 1628 (11/76) بشرح النووي.
[4] رواه أحمد (05/267) وأبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث، والترمذي في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث عن أبي أمامة الباهلي.
[5] كما عند ابن ماجه في كتاب المساجد، باب من بنى لله مسجدًا، عن جابر لكن فيه (...بنى الله له بيتًا في الجنة).
[6] رواه البخاري في كتاب الاستقراض، باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها ح 2387 (5/66) فتح، عن أبي هريرة.
[7] رواه البخاري في كتاب الوصايا، باب الوصايا ح 2738 (5/4199) فتح، ومسلم في كتاب الوصية (11/74) بشرح النووي، عن ابن عمر.
[8] رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (16/135) بشرح النووي، عن أبي هريرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العزة والجلال والعظمة والكمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يصرف الشئون والأحوال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى الآل، وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إذا أحس أقرباء الإنسان بدنو أجل قريبهم فعليهم أن يتقوا الله جل وعلا فيه، عليهم أن يذكِّروه بحقوق عباد الله التي عليه، وعلى الأطباء أن يُنبهوا المرضى إذا دنى الأجل ولو بأسلوب غير مباشر؛ حتى يحتاط الإنسان لنفسه، ويحتاط لحقوق عباد الله عليه، فإذا أحسَّ الإنسان بدنو الأجل فعليه أن يحسن الظن بالله جل جلاله قال : ((لا يؤمن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) [1] والله عند حسن ظن عبده به، وليعلم المسلم أنه إذا حانت أمارات الموت ودنا الموت أنه سيقدم على رب حليم رحيم كريم، وأن الله سبحانه أرحم به من أهله وألطف به من خلقه، وعليه أن يُقبل مجيبًا داعي الله بقلب مطمئن ونفس منشرحة، مشتاق أشد من شوق الحبيب إلى حبيبه.
الله جل جلاله ينتزع حبيبه المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ينتزع حبيبه المؤمن من مهانة الدنيا إلى كرامة الآخرة، ينتزع حبيبه المؤمن من عذاب الدنيا إلى رحمة الآخرة، قال لما مُرَّ بجنازة: ((مستريح ومستراح منه)) قالوا: يا رسول الله ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: ((أما العبد المؤمن فيسترح من نكد الدنيا وتعبها إلى راحة الآخرة)) [2] ، فأحسنوا الظن بالله جل جلاله، وإن خطرت في قلبكم رحمة من الله فاعملوا أن رحمة الله فوق ما تتصورون وفوق ما تظنون واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين [البقرة:223].
ومن يقول: ستلقاني وأبشر، فالظن به حسن، وهو أهل أن يُحسن به الظن، فيحسن المؤمن ظنه بالله ولا تنقبض نفسه من الآخرة أبدًا؛ فالدنيا سجن المؤمن ولكنها جنة الكافر، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر، وإذا دنا الموت من ولي الله وعلم الله ضعفه وعلم سبحانه أنه جاهل بما هو قادم عليه فأصابه الخوف والحزن أنزل الله من فوق سبع سماوات ملائكته معهم كفن من أكفان الجنة فيجلسون منه مد البصر [3] فإذا رآهم اطمأن قلبه وارتاحت نفسه واشتاق إلى لقاء الله، لو خُيِّر ساعتها بين أهله وولده والقدوم على الله لاختار القدوم على الله.
فيا عباد الله: إن الله فوق ما تتصورون وفوق ما تتخيلون من رحمة وإحسان وبر، وهو ألطف بالعبد من نفسه فأحسنوا الظن بالله وتهيئوا للقاء الله، وينبغي للمسلم مهما كان في صحة وعافية أن يخاف من الموت، فكم اخترم هادم اللذات ومفرق الجماعات من شباب في عز شبابهم ونضرة حياتهم وبهجتهم وسرورهم.
فيا عباد الله: تهيئوا للقاء الله، وتجملوا بالطاعات والباقيات الصالحات.
وصلوا وسلموا على أشرف الخلق وسيد الكائنات، فقد أمركم الله جل جلاله بذلك فيما أنزل من آيات....
[1] رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت (17/209) بشرح النووي، عن جابر.
[2] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب سكرات ح 6512 (11/369) فتح، ومسلم في كتاب الجنائز، باب ما جاء في مستريح ومستراح منه (7/20) بشرح النووي، عن أبي قتادة.
[3] كما عند أحمد (4/287) عن البراء.
(1/1489)
بركة الرزق
الأسرة والمجتمع, التوحيد
الربوبية, قضايا المجتمع
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله خلق الخلق وقدر أرزاقهم. 2- البركة في الرزق تجعل القليل كثيراً. 3- التقوى سبب
من أسباب البركة. 4- الدعاء سبب من أسباب البركة. 5- صلة الرحم سبب في البركة. 6-
الإنفاق في سبيل الله من أسباب البركة. 7- الكسب الطيب كسب مبارك. 8- نصيحة عن
الزواج وآدابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى، وأكثروا من ذكر الموت والبلى وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله: إن الله أنعم علينا بنعم عظيمة ومنن جليلة كريمة. نعم لا تعد ولا تحصى ومنن لا تكافأ ولا تجزى، فما من طرفة عين إلا والعبد ينعم فيها في نعم لا يعلم قدرها إلى الله جل وعلا: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود: 6].
خلق الخلق فأحصاهم عددًا وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينس منهم أحدًا، فما رفعت كف طعام إلى فمك وفيك إلا والله كتب لك هذا الطعام قبل أن يخلق السموات والأرض، سبحان من رزق الطير في الهواء والسمكة والحوت في ظلمات الماء، سبحان من رزق الحية في العراء والدود في الصخرة الصماء، سبحان من لا تخفى عليه الخوافي فهو المتكفل بالأرزاق، كتب الآجال والأرزاق وحكم بها فلم يعقب حكمه، ولم يُردُّ عليه عدله، سبحان ذي العزة والجلال مصرف الشؤون والأحوال.
وإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أولاه من النعم, البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشؤون والأحوال، نعمة من الله الكريم المتفضل المتعال, الله وحده منه البركة ومنه الخيرات والرحمات، فما فتح من أبوابها لا يغلقه أحد سواه، وما أغلق لا يستطيع أحد أن يفتحه.
لذلك عباد الله: إذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه وقوته، إنها البركة التي يصير بها القليل كثيرًا، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة, فكم من قليل كثره الله، وكم من صغير كبره الله, وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب.
ومن أعظم الأسباب التي تفتح بها أبواب الرحمات والبركات تقوى الله جل جلاله، تقوى الله التي يفتح الله بها أبواب الرحمات ويجزل بها العطايا والخيرات ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [الأعراف:66]. الخير كل الخير، وجماع الخير في تقوى الله جل وعلا، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب، فلن تضيق أرض الله على عبد يتقي الله، ولن يضيق العيش والرزق على من خاف الله واتقاه.
عباد الله: ومن أسباب البركات ومن الأمور التي يفتح به الله أبواب البركات على العباد الدعاء والالتجاء إلى الله جل وعلا، فهو الملاذ وهو المعاذ, فإن ضاق عليك رزقك وعظم عليك همك وغمك وكثر عليك دينك فاقرع باب الله الذي لا يخيب قارعه، واسأل الله جل جلاله فهو الكريم الجواد، وما وقف أحد ببابه فنحّاه، ولا رجاه عبد فخيبه في دعائه ورجاه، "دخل النبي يومًا إلى مسجده المبارك فنظر إلى أحد أصحابه وجده وحيدًا فريدًا ونظر إلى وجه ذلك الصحابي فرأى فيه علامات الهم والغم رآه جالسًا في مسجده في ساعة ليست بساعة صلاة فدنى منه الحليم الرحيم صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان لأصحابه أبر وأكرم من الأب لأبنائه ـ وقف عليه رسول الهدى فقال: ((يا أبا أمامة ما الذي أجلسك في المسجد في هذه الساعة؟)) قال: يا رسول الله، هموم أصابتني وديون غلبتني ـ أصابني الهم وغلبني الدين الذي هو همّ الليل وذل النهار ـ فقال : ((ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك)) صلوات ربي وسلامه عليه، ما ترك باب خير إلا ودلنا عليه, ولا سبيل هدى ورشد إلا أرشدنا إليه فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته ((ألا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله همك وقضى دينك؟)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وأمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) قال وأرضاه: فقلتهن فأذهب الله همي وقضى ديني" [1].
الدعاء حبل متين وعصمة بالله رب العالمين إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]. فإذا أراد الله أن يرحم المهموم والمغموم والمنكوب في ماله ودينه ألهمه الدعاء، وشرح صدره لسؤال الله جل وعلا من بيده خزائن السموات والأرض، يده سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة.
ومن أسباب البركات، ومن الأسباب التي يوسع فيها على أرزاق العباد صلة الأرحام، قال : ((من أحب منكم أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، وأن يزاد له في عمره فليصل رحمه)) [2].
صِلُوا الأرحام؛ فإن صلتها نعمة من الله ورحمة يرحم الله بها عباده، أدخل السرور على الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وسائر الأرحام والقرابات. فمن وصلهم وصله الله وبارك له في رزقه ووسع له في عيشه.
ومن أسباب البركات التي توجب على العباد الرحمات والنفقات والصدقات، فمن يسر على معسر يسر الله له في الدنيا والآخرة، ومن فرج كربة المكروب فرج الله كربته في الدنيا والآخرة، فارحموا عباد الله يرحمكم من في السماء، والله يرحم من عباده الرحماء، وما من يوم تصبح فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا [3].
يا ابن آدم أنفق ينفق الله عليك، وارحم الضعفاء يرحمك من في السماء، فرجوا الكربات وأغدقوا على الأرامل والمحتاجين، فإن الله يرحم برحمته عباده الراحمين، قال : ((يا أسماء أنفقي يُنفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك)) [4] امرأة يقول لها أنفقي ينفق الله عليك، فمن أنفق لوجه الله ضاعف الله له الأجر؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله، ولك الخلف من الله، فما نقصت صدقة من مال. كان الناس إلى عهد قريب يعيشون حياة شديدة صعيبة، ومع ذلك فرج الله همومهم، ونفس الله غمومهم بفضله ثم بما كان بينهم من الرحمات، كانوا متراحمين متواصلين متعاطفين فجعل الله القليل كثيرًا، وانظر إلى أصحاب رسول الله كيف كانوا رحماء بينهم فرحمهم الله من عنده.
ومن الأسباب التي يبارك الله بها في الأرزاق، بل يبارك بها في الأعمار وفي أحوال الإنسان العمل والكسب الطيب، الإسلام دين العمل، دين الكسب، الحلال الذي يعف الإنسان به نفسه عن القيل والقال وسؤال الناس، فمن سأل الناس تكثرًا جاء يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم [5] والعياذ بالله.
خذ بأسباب الرزق وامش في مناكبها فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [الملك: 15]. بسط الله الأرض وأخرج منها الخيرات والبركات، وجعل الخير في العمل، والشر في البطالة والكسل، الإسلام دين الجهاد والعمل قال : يرشدنا إلى فضل الأعمال وما فيها من الخير في الأرزاق ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي)) [6].
فليست الأرزاق أن يجلس الإنسان في مسجده، فلا رهبانية في الإسلام فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، خذوا بالأسباب واطلبوا الرزق الحلال من أبوابه يفتح الله لكم من رحمته، وينشر لكم من بركاته وخيراته، الرجل المبارك يسعى على نفسه وأهله وولده، فيكتب الله له أجر السعي والعمل، ليس العمل بعار، فقد عمل أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كان نبي الله داود يعمل صنعة لبوس فكان يعمل في الحدادة فكانت منة من الله على عباده.
ليس بعار أن تكون حدادًا أو نجارًا، ولكن العار كل العار في معصية الله جل وعلا والخمول والكسل والبطالة حين يعيش الإنسان على فتات غيره، حين يعيش الرجل على فتات غيره مع أنه صحيح البدن قوي في جسده، فهذا من محق البركة في الأجساد، فخذوا رحمكم الله بأسباب البركة بالعمل المباح والكسب المباح، فلن يضيق الرزق بإذن الله على من اكتسب, قال : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروحوا بطانًا)) [7] فأخبر أنها تغدو وأخبر أنها تذهب، فمن ذهب للرزق يسر الله أمره، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود في كتاب الوتر, باب في الاستعاذة (4/412) عون المعبود شرح سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري.
[2] رواه البخاري في كتاب الأدب، باب من بسط له الرزق بصلة الرحم (10/429) فتح، ومسلم في كتاب البر، باب صلة الرحم وتحريم قطعها (16/114) بشرح النووي، عن أنس.
[3] رواه البخاري في كتاب الزكاة, باب قول الله تعالى: فأما من أعطى واتقى... (3/304) فتح، ومسلم في كتاب الزكاة، باب كل نوع من المعروف صدقة (7/95) بشرح النووي، عن أبي هريرة.
[4] رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (7/118) بشرح النووي، عن أسماء.
[5] كما عند البخاري في كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (7/118) بشرح النووي، عن أسماء.
[6] رواه البخاري تعليقًا في كتاب الجهاد, باب ما قيل في الرماح، ورواه أحمد (2/50) عن ابن عمر.
[7] رواه أحمد (1/30) والترمذي في كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا، عن عمر بن الخطاب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأبرار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله:
بعد أيام قليلة ينتهي هذا النصف من العام الدراسي وتُقبل العطل على الناس فيعيش الناس هذه العطلة والله أعلم بما غيبت لهم من الأقدار والأخبار, ولكنَّ كثيرًا من الناس قد يكرمهم الله عز وجل بفضله فيغتنمون هذه العطل في خير يعود عليهم بصلاح دينهم ودنياهم وأخراهم.
ومن الأمور التي يكثر وقوعها في هذه العطلة: الزواج: الرحمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة التي بها يضاف بيت مسلم إلى بيوت المسلمين فنسأل الله العظيم أن يبارك للمسلمين فيما يكون لهم من ذلك وأن يجعل أفراحهم عونًا على طاعته ومحبته ومرضاته، وأن يُخرجَ منها الذرية الصالحة التي تقر بها العيون.
فيا معشر الشباب، يا معشر الآباء والأمهات إن الزواج مسئولية عظيمة، فمن أراد أن يكرمه الله بنعمته فليأخذ بأسباب الخير في هذا الرباط العظيم خيرها وأفضلها:
أن يتقي الله عز وجل في نكاحه فلا تنكح إلا عبدًا صالحًا ولا تنكح إلا مؤمنة تتقي الله وتخافه قال رجل للحسن البصري رحمه الله: يا إمام إن لي ابنة لمن أزوجها؟ قال: زوجها التقي؛ فإنه إن أمسكها أكرمها وإن طلقها لم يظلمها.
فاتقوا الله عز وجل في اختيار الأزواج والزوجات، وإذا أكرمك الله فوجدت المرأة الصالحة وأردت أن تبني هذا البيت فابنه على تقوى من الله ورضوانه، فإنه الأساس المتين والحصن الحصين بإذن الله رب العالمين، فمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان أسعده الله في حياته وبارك له في نفقة الزواج, فخير النساء وأبركهن أيسرهن مئونة، فإياك والإسراف, إياك والبذخ, فإن الله لا يحب المسرفين، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، وجليل منته لديك، إذ أعطاك المال وحرم غيرك، فاتق الله في مالك وما تنفقه في زواجك ونكاحك، واطلب اليسير فإن الله يجعله كثيرًا بفضله ورحمته.
لو كان التفاخرُ في المهور ومئونة النكاح خيرًا لفعله رسول الله والأخيار من بعده فخيرُ النساء وأبركهن أيسرهن مئونة.
الأمر الثالث: اتق الله في ليلة عُرسك، اتق الله أن تستفتح هذا الزواج بمعاصي الله، وانتهاك حدود الله ومحارم الله وجمع العباد على ما يسخط الله ويغضب الله، اللهَ اللهَ أن تستفتح هذا النكاح بما يوجب غضب الله عليك وسخطه عليك فإنه من يخادع الله يخدعه، ومن يكفر نعمة الله عز وجل فإن الله عزيز ذو انتقام.
عباد الله: إن الله أمرنا بالصلاة والسلام على خير الأنام رسول الخير والسلام....
(1/1490)
حديث القبرين
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث ابن عباس في عذاب القبر. 2- عذاب القبر لا يعلم كيفيته وكنهه إلا الله عز وجل.
3- عذاب القبر يدرك مستحقه على أي ميتة مات. 4- كشف العورات سبب في عذاب القبر.
5- عدم الإستنزاه من البول سبب في عذاب القبر. 6- عظم أمر النميمة وأنها سبب في عذاب
القبر. 7- دور النميمة في إفساد البيوت وهدمها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى, واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى, وأكثروا من ذكر الموت والبلى, وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: مر النبي على حائط من حيطان المدينة فسمع إنسانين يُعذبان في قبريهما فقال : ((إنها ليعذبان وما يعذبان في كبير, بلى, أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ثم دعا رسول الله بجريدة فكسرها كسرتين ثم وضع على كل قبر كسرة, فقيل: يا رسول الله, لم فعلت ذلك؟ قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا)) [1].
حديث عظيم اشتمل على وعيد وتهديد, اشتمل على تخويف وعذاب شديد لمن ضيع حقوق الله, وأفسد بين عباده المؤمنين, معجزة من معجزات رسول الله , أطلعه الله جل وعلا عليها, يقول حبر الأمة وترجمان القرآن: مر رسول الله بحائط من حيطان المدينة فسمع صوت إنسانين يعذبان. سمع صوتًا لا يسمعه الناس, ولو سمعوه لماتوا وصُعقوا, سمع صوتًا لا يسمعه الناس, ولو سمعوه ما هدأت جفون ولا نامت عيون, قال : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء)) [2] , سمع صوتهما وهما يعذبان وكيف يعذبان؟ وما هو مقدار هذا العذاب؟ وما هي صفته؟ وما هي كيفيته؟.
الله أعلم, فذلك أمره إلى الله علام الغيوب يقص الحق وهو خير الفاصلين [الأنعام:57]. ويحكم ولا معقب لحكمه وهو رب العالمين. كيف يعذبان وهما تحت الأرض, قد هجم عليهم الدود وأتاهم البِلَى, فذهبت الأشلام والأعضاء إن الله على كل شيء قدير [البقرة:20]. لو غيبت الإنسان البحار, ولو أخذته سفاسف الريح في الغفار, لجمعه الله في أقل من طرفة عين وهو الواحد القهار إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [يس:82-83]. في الصحيح عن النبي : ((أن رجلاً حضره الموت فقال لأولاده ـ يوصيهم ـ: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني وارموا بنصفي في البر ونصفي في البحر؛ فلئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين, فلما مات أحرقوه ثم طحنوه ثم بعد ذلك رموا نصف الدقيق في البر ونصفه في البحر, فأوحى الله إلى البحر أن اجمع ما فيك, وإلى البر أن اجمع ما فيك. فإذا هو قائم بين يدي الله جل جلاله)) [3].
إن الله على كل شيء قدير, فلو أكلت النار, ولو دُمر الإنسان وقطعت أشلاؤه ولو التقمته السباع فإن الله على كل شيء قدير ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [لقمان:28]. له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [الأعراف:54].
((إنهما ليعذبان)) , يعذبان وهما مسلمان مؤمنان, فكأن الصحابة رضوان الله عليهم عجبوا, كأنهم يسألونه ما السبب؟ فقال: ((وما يعذبان في كبير)) ما يعذبان في أمر صعب عسير, ولكن في أمر سهل على الإنسان أن يتقيه ويحذره إذا وفقه الله جل جلاله, ولذلك قال: ((وما يعذبان في كبير)) في أمر يسير, وهذا يدل على أنه ينبغي للمؤمن أن يكون على خوف من الله, وأن الذنب قد تراه صغيرًا, ولكنه عند الله كبير وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم [النور:15]. قد تتكلم بالكلمة اليسيرة من غضب الله جل جلاله يكتب الله بها سخطه على العبد إلى يوم يلقاه, فالأمر قد يكون يسيرًا في نظر الإنسان ولكنه عظيم عند الله جل جلاله, قال : ((بلى)) , وفي رواية: ((إنه لكبير)) , أي إنه ذنب عظيم, يستحق صاحبه هذا العذاب الكبير, ثم بين هذين الذنبين فقال : ((أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله)) , وفي رواية: ((لا يستنزه من بوله)) , وفي رواية: ((لا يستبرؤ من بوله)) اشتملت هذه الروايات على أمور:
أولها: لا يستتره من بوله, ولا يستبرؤ من بوله بمعنى أنه يقوم مباشرة قبل التأكد من انقطاع البول. هذه العجلة تفضي إلى بقاء شيء من البول, فإذا قام قبل أن ينقى الموضع فإنه مظنة أن يخرج البول فتبطل صلاته والعياذ بالله.
((لا يستتر من بوله)) قال بعض العلماء: ((لا يستتر من بوله)) أي يبول فيكشف عورته أمام الناس عند بوله, يأتي إلى المواضع التي فيها الناس ولا يأمن من نظر الناس فيكشف عورته ويقضي حاجته دون حياء من الله والناس, فمن جلس أمام صنابير المياه التي يجتمع عندها الناس؛ لكي يستنجي فتنكشف عورته ينطبق عليه هذا, ومن جلس على طريق الناس لكي يقضي حاجته فيراه الذاهب والآتي فإنه داخل في هذا الوعيد.
((لا يستتر من بوله)) أي لا يجعل لنفسه سترًا يحول بينه وبين نظر الناس.
من السنة إذا طلب الإنسان مكانًا يقضي فيه حاجته أن يكون هذا المكان فيه ستر لعورته؛ فإن الله أمر بستر العورات, وامتن على المؤمنين والمؤمنات بل على الناس جميعًا بستر عوراتهم أنزل علينا اللباس؛ لكي يكون سترًا لنا من نظر أعين الناس وإلا لذهب الحياء من الوجوه.
إذا أراد الإنسان أن يقضي حاجته ينبغي أن يطلب الأماكن المستترة بعيدًا عن الناس فإن كان في الخلاء والصحراء طلب الحجار الكبيرة؛ لكي يستتر بها أو الحفر؛ لكي يكون فيها أو شيئًا من النشز والمرتفع من الأرض؛ لكي يجعله بينه وبين أعين الناس فإن لم يجد شيئًا من ذلك أبعد في المذهب؛ حتى لا تدرك العين عورته.
سبحان ربي العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن يقضي بوله, فتنكشف عورته فكيف بمن يخرج بلباس تنكشف به عورته وهو كاس عار؟ إذا كان هذا الوعيد للحظات يسيرة للبول فكيف بمن لبس الشفاف من الثياب وفتن الناس بلباسه؟ ولذلك قال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)) [4] , وصفهن بكونهن كاسيات، ولكن أخبر أنهن في الحقيقة عاريات فليستتر الرجال والنساء بستر الله, وليحمد الإنسان العافية من الله جل جلاله.
كشف العورات مذلة للمنظور وفتنة للناظر, فينبغي على من لبس الثياب أن يتقي الشفاف, وأن يتقي كل ما يبين عورته وينمي عنها؛ لأن هذا الوعيد المقصود منه أن يحفظ الإنسان عورته من كل وجه.
أما رواية ((لا يستنزه من بوله)) ففيها وجه ثالث, وهو أنه إذا بال يجلس في مكان صلب فيتطاير البول على قدميه وساقيه وعلى ثيابه, فلا يأمن أن يصلي وهو متلبس بالنجاسة في بدنه, وهذا يدل على خطر النجاسة في الثياب عند الصلاة, تحفظوا عند صلاتكم رحمكم الله من النجاسات وتوقوا منها؛ فإن النبي يقول: ((اتقوا البول فإن عامة عذاب القبر منه)) [5] ، قال العلماء: السبب في ذلك أنه يصيب الثياب والبدن؛ لأن الإنسان لم يحسن طلب المكان الذي يقضي فيه حاجته. قال بعض العلماء: يستحب لمن أراد أن يبول أن يطلب الموضع الرخو الطاهر الذي إذا بال فيه لا يتطاير بوله على ثوبه وأسافل بدنه.
سبحان الله العظيم إذا كان هذا الوعيد لمن قصر في الطهارة وهي شرط الصلاة يعذب في قبره ويفتن في قبره إلى حشره فكيف بمن أضاع أركان الصلاة؟ كيف بمن ضيع واجباتها؟ كيف بمن ضيع أوقاتها؟ كيف بمن لم يصل بالكلية والعياذ بالله العظيم؟
فيا عباد الله إن وراءنا الأهوال ووراءنا الشدائد العظيمة التي يحاسب فيها الإنسان على كل صغير وكبير, وعلى كل جليل وحقير.
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة نسألك برحمتك الواسعة أن تنير قبورنا بأنوارك الساطعة. اللهم ارحم في القبور غربتنا, اللهم ارحم في ظلمات القبور وحشتنا, اللهم ارحم في القبور ضعفنا وقلة حيلتنا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الوضوء, باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله (1/379) فتح, ومسلم في كتاب الوضوء, باب الدليل على نجاسة البول, ووجوب الاستبراء منه ح 292, واللفظ للبخاري.
[2] رواه الطبراني في الكبير, والحاكم, والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء.
[3] رواه البخاري في كتاب الأنبياء, باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/570) فتح عن حذيفة, ومسلم في كتاب التوبة, باب سعة رحمة الله تعالى (17/70) بشرح النووي عن أبي هريرة.
[4] رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة, باب النساء الكاسيات العاريات (14/109) بشرح النووي, عن أبي هريرة.
[5] رواه الدارقطني في سننه ص 47, عن أنس وابن عباس, ورواه ابن ماجه وأحمد (2/326) عن أبي هريرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى جميع أصحابه الغر الميامين, ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله, يخبر النبي عن حال الرجال الثاني الذي فتن في قبره وعُذب, فيقول عليه الصلاة والسلام: ((وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) قدم النبي الإخبار عن التساهل في البول؛ لأنه يتعلق بالصلاة وهي ركن من أركان الدين ثم أعقب ذلك بهذا الذنب العظيم وهي النميمة. النميمة تفريق بين المسلمين وإيقاع للشحناء والبغضاء بين المؤمنين, الله يجمع بين عباده المؤمنين, والنمام يفرق, الله يؤلف بين القلوب، وهو يشتت ويمزق, النمام مجرم عظيم وأفاك أثيم ينقل الحديث إليك؛ لكي يفسد قلبك على إخوانك وأخواتك المسلمات, كل ذلك حقدًا وحنقًا على عباد الله وأولياء الله, ولذلك أخبر الله أن النمامين فيهم المهانة والكذب والفجور ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم [القلم: 10ـ 12] مناع للخير لا يريد الخير للناس أفرادًا ولا جماعة.
قد تكون النميمة من الإنسان وهو لا يدري، فكل من نقل حديثًا إلى إنسان عن إنسان بقصد أن يوغر صدره عليه أو نقل هذا الحديث فوقعت الشحناء بينهما فإنه نمام والعياذ بالله, ولذلك أخبر النبي من كان نمامًا لا يدخل الجنة, قال : ((لا يدخل الجنة نمام) ) [1] , قال بعض العلماء: قوله: ((لا يدخل الجنة نمام)) أنه لا يوفق لحسن الخاتمة والعياذ بالله, فلذلك لا يختم له بخاتمة خير, ولا يدخل الجنة نسأل الله السلامة والعافية, وكان السلف الصالح رحمة الله عليهم يخافون من النمامين وكانوا يحتقرونهم ويهينونهم, جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فقال: إن فلانًا يتكلم فيك. فقال له: أما وجد الشيطان رسولاً غيرك؟ تحقيرًا له وامتهانًا.
وجاء رجل إليه فقال: إن فلانًا يذكرك بسوء أو يسبك. فقال: والله لأغيظن من أمره بذلك, اللهم اغفر لي ولأخي. قصد بذلك أن يغيظ شياطين الإنس والجن.
النمامُ لا خير فيه. والنميمة قد تكون من الأبناء والبنات, وقد تكون من الأزواج والزوجات, وقد تكون من الآباء والأمهات, وتكون من عموم المسلمين والمسلمات. فقد يكون ابنك نمامًا والعياذ بالله حينما ينقل لك الأمور التي تفسد قلبك على إخوانه وأخواته, وقد تكون البنت نمامة والعياذ بالله حينما تفسد قلب أمها على أخواتها, وقد يكون الإنسان نمامًا أشد ما يكون والعياذ بالله إذا فرق بين الأقرباء والأرحام, من فرق بين الوالد وولده, فتجد بعض الناس إذا اشتكى له إنسان من ابنه جلس يذم هذا الابن وينقل أفعالاً وأقوالاً تغيظ أباه عليه, ويقول له: ابنك هذا لا خير فيه, إن فعل ذلك فالقبر موعده, فإن شاء فليستقل أو ليستكثر.
النميمة أشد ما تكون إذا فرقت بين الآباء والأبناء وبين الأمهات والبنات وبين الأخوان والأخوات, فاتقوا الله عباد الله في عباد الله, اتقوا الله في الأرحام والأقرباء ولذلك قال : ((لعن الله من خبب امرأة على زوجها) ) [2] , قد تفسد الأم بنتها على زوجها, وقد يفسد الأب بنته على زوجها, ويفسد الابن على زوجته حينما يقول زوجتك تفعل كذا وكذا, وتقول عنك كذا وكذا, ونقلت عنك كذا وكذا؛ لكي يوغر صدر ابنه على زوجته أو توغر صدر ابنتها على زوجها فإن فعلت ذلك فلها أمران:
أحدهما: قوله عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله من خبب امرأة على زوجها)).
والثاني: هذا الوعيد الشديد والتخويف والتهديد الذي اشتمل عليه هذا الحديث الصحيح, فاتقوا الله عباد الله, وأصلحوا ذات بينكم, واعلموا أن الله سائلكم عن الأقوال والأفعال.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك...
[1] رواه مسلم في كتاب الإيمان, باب غلظ تحريم النميمة (2/113) بشرح النووي, ورواه البخاري بلفظ (لا يدخل الجنة قتات) في كتاب الأدب باب ما يكره من النميمة (10/487) فتح, عن حذيفة.
[2] روى الإمام أحمد (2/397) عن أبي هريرة مرفوعًا (من أفسد امرأة على زوجها فليس منا) ورواه أبو داود في الطلاق, باب فيمن خبب امرأة على زوجها (6/224) عون المعبود شرح سنن أبي داود.
(1/1491)
حقوق الكبار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أطوار يعيشها الإنسان فيصل إلى الكبر والهرم. 2- انتهاك البعض لحقوق الكبير. 3- كلمة
إلى الكبار. 4- إجلال الكبير ومعرفة فضله. 5-من نعم الله أن تطول حياة المرء في طاعة الله.
6- الكبير ودوره في القدوة الحسنة. 7- سؤال الله حسن الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من ضعف قوة ثم جعل من قوة ضعفًا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [الروم: 54].
سبحان من خلق الخلق بقدرته, وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته, وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته, خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمده بالصحة والعافية فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من ضعف قوة قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام والذكريات مع الأصحاب والأحباب, ثم تمر السنين والأعوام وتتلاحق، الأيام تلو الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام. يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام ثم بعد ذلك يفجع بفراق الأحبة والصحب الكرام.
إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه وخارت قواه وشاب رأسه، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته فرحمه وعفا عنه إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًا غفورًا [النساء: 98, 99].
نقف اليوم مع الكبير مع حقوقه التي طالما ضُيَّعت ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جرحت ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.
أصبح الكبير اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده من هذا الذي يجالسه؟ من هذا الذي يؤانسه؟ من هذا الذي يباسطه ويدخل السرور عليه؟.
إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان, وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار والصبيان, فأصبحت حكمته وحنكته إلى ضيعة وخسران, أما إذا خرج من بيته فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب وإلى الإخوان والخلان, فإذا خرج اليوم يخرج بالأشجان والأحزان, يخرج إلى الأحباب والأصحاب يُشيع موتاهم, ويعود مرضاهم, فالله أعلم كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب المجروح المنكسر, وبالعين الدامعة, وبالدمع الغزير المنهمر.
يا معاشر الكبار: الله يرحم ضعفكم, الله يجبر كسركم، في الله عوض عن الفائتين, في الله أنس للمستوحشين.
يا معاشر الكبار: أنتم كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين علمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم لئن نسي الكثير فضلكم فإن الله لا ينسى, ولإن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى ثم إلى ربك المنتهى, وعنده الجزاء الأوفى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيح أجر من أحسن عملاً [الكهف: 30].
يا معاشر الكبار, أمّا الآلام والأسقام التي تجدونها فالملائكة كتبت حسناتها, والله عظم أجورها, وستجدونها بين يدي الله, فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات, اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم وتقض مضاجعكم, ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكم وتضحككم, فاصبروا على البلاء واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء قال : ((عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)) [1].
عظم الله أجوركم, وأجزل في الآخرة ثوابكم فأحسنوا الظن بما تجدونه عند الله ربكم.
يا معاشر الشباب: توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام, وسنة من سنن سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
يا معاشر الشباب: إجلال الكبير وتوقيره وقضاء حوائجه سنة من سنن الأنبياء وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير [القصص: 23, 24].
يا معاشر الشباب: ارحموا الكبار وقدروهم ووقروهم وأجلُّوهم فإن الله يحب ذلك ويثني عليه خيرًا كثيرًا, قال : ((إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم)) [2] إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه, وأكبر شيبَهُ, وقدِّر منزلته, وارفع درجته, وفرج بإذن الله كربته يعظم لك الثواب, ويجزل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب.
يا معاشر الشباب: أحسنوا لكبار السن لاسيما من الوالدين من الآباء والأمهات إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا , لاسيما إن كان الكبار من الأعمام والعمات والأخوال والخالات, كم تجلسون مع الأصحاب والأحباب من ساعات وساعات, كم تجالسوهم وتباسطوهم وتدخلوا السرور عليهم, فإذا جلستم مع الأقرباء الكبار مللتم وضقتم وسئمتم, فالله الله في ضعفهم... الله الله في ما هم فيه من ضيق نفوسهم.
يا معاشر الشباب: ما كان للكبار من الحسنات فانشروها واقبلوها واذكروها, وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها فإن الله يُعظم لكم الأجر والثواب.
اللهم اختم لنا بخير, اللهم اختم لنا بخير, اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها, وخير أعمالنا خواتمها, وخير أيامنا يوم نلقاك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم ارحم كبارنا, ووفق للخير صغارنا, وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب الزهد, باب في أحاديث متفرقة (18/ 125) بشرح النووي, عن صهيب.
[2] رواه أبو داود عن أبي موسى بلفظ (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) في كتاب الأدب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الحليم الرحمن وأشهد أن لا إله إلا الله وحده, العظيم الديان, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, أرسله بالهدى والفرقان, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, أهل الرحمة والرضوان, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد, فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
سُئل بعض السلف فقيل له: من أسعد الناس؟ قال: أسعد الناس من ختم الله له بالخير.
أسعد الناس من حسُنت خاتمته, وجاءت على الخير قيامتُه, قال : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله)) [1].
يا ابن آدم إذا رق عظمك, وشاب شعرك فقد أتاك النذير أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [فاطر: 37]. قال بعض العلماء: وهْنُ العظام والشيب في الشعر والرأس.
تذكرة من الله جل جلاله, وتنبيه من الله سبحانه وتعالى رحمة بعباده, وإلا فلربما غفلوا وكانوا عن طاعته بعيدين, فرحمهم الله جل وعلا بهذا النذير؛ حتى يُحسن خاتمتهم؛ حتى يُحسن الختام لهم سبحانه وتعالى, كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا بلغ الرجل أربعين سنة لزم المساجد, وسأل الله العفو عما سلف وكان, وسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحًا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [الأحقاف: 15, 16].
كانوا إذا بلغوا أربعين عامًا لزموا بيوت الله, وأكثروا من ذكر الله, وأحسنوا القدوم على الله جل جلاله, أما اليوم فأبناء ستين وسبعين في الحياة يلهثون, غافلون لاهون, أما اليوم فنحن في غفلة عظيمة من طلوع الصباح إلى غروب الشمس والإنسان يلهث في هذه الدنيا, لا يتذكر ولا يعتبر, لا ينيب ولا يدَّكر, وتجده إذا غابت عليه الشمس وقد مُلئ بالذنوب والآثام من غفلة الدنيا وسيئاتها, ينطلق إلى المجالس, إلى مجلس فلان وعلان, وغيبة ونميمة وغير ذلك مما لا يُرضي الله, فيأتي عليه يومه خاملاً كسلانًا بعيدًا عن رحمة الله.
كبارنا خيارنا أهل الفضل والحلم فينا، هم قدوتنا في كل خير هم أئمتنا إلى الطاعة والبر.
يا معاشر الكبار أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم, قدوة في مجتمعاتكم إذا جلست مع الأبناء والبنات، فإن كنت محافظًا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وأجلّوك وأكرموك, وإن وجدوك تسب الناس وتشتمهم وتنتقصهم وتعيبهم وتغتابهم أهانوك وأذلوك ثم سبوك وعابوك, وهكذا يجزي المحسن بالإحسان, والمسيئون بالخيبة والخسران.
يا معاشر الكبار: إنابة إلى الله الواحد القهار, وتوبة من الحليم الغفار إذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب منك ذراعًا, وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا, وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة, إذا نظر الله إلى قلبك أنك تحب التوبة وتحب الإنابة إليه فتح لك أبواب رحمته ويسر لك السبيل إلى مغفرته وجنته, إلى متى وأنت عن الله بعيد, إلى متى وأنت في غفلة؟ إلى متى وأنت بعيدُ عن الله طريد؟ ما الذي جنيت من السهرات؟ وما الذي جنيت من الجلوس هنا وهناك؟ توبة إلى الله.
قال بعض كبار السن: اللهم أحسن لي الخاتمة, فمات بين الركن والمقام. وقال ثان: اللهم أحسن الختام, فمات وهو ساجد بين يدي الله جل جلاله. وقال ثالث: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة, فمات يوم الخميس صائمًا لله جل جلاله. أحسنوا الختام, وأقبلوا على الله جل جلاله بسلام وودعوا هذه الدنيا بأحسن العمال وشيم الكرام.
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا...
[1] رواه أحمد (5/40) والترمذي في كتاب الزهد, باب ما جاء في طول العمر للمؤمن عن أبي بكرة, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1/1492)
صلاح الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الولد الصالح زينة من زينة الحياة الدنيا. 2- الأنبياء يسألون الله صلاح ذرياتهم. 3- دور
القدوة الصالحة للأب في صلاح الأبناء. 4- دور الموعظة والتربية في صلاح الأبناء. 5-
ثمرات صلاح الأولاد. 6- واجبات على الأب تجاه ابنه وابنته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: صلاح الأبناء والبنات أمنية الآباء والأمهات، يا لها من نعمةٍ عظيمةٍ، يا لها من منةٍ جليلة كريمةٍ، يوم تمسي وتصبح، وقد أقرّ الله عينيك بالذرية الصالحة، ذرية تخاف الله، ذرية تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة.
الولد الصالح بهجة الحياة، وسرورها، وأنسها، وفرحتها، تحبه ويحبك، توده، ويودك، وتأمره فيطيعك ويبرّك، الولد الصالح يفتقر أول ما يفتقر إلى دعوة صالحةٍ تهديه إلى الله، يحتاج أول ما يحتاج إلى صالح الدعوات إلى الله فاطر الأرض والسموات، مصلح الأبناء والبنات، قال الله عن عبده الخليل عليه من الله الصلاة والسلام: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء [إبراهيم:40]. وقال الله عن نبيه زكرياً: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء آل عمران:8]. قل كما قال الأخيار، وصفوة عباد الله الأبرار: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً [الفرقان:74].
علم الأخيار أنه لا صلاح للأبناء والبنات إلا بالله، وأنه لا يهدي قلوبهم أحدٌ عداه، فصدعوا إلى ربهم بالدعوات، ما أحوج بناتك وأبنائك إلى دعواتك الصالحة، سلوا الله للأبناء البنات الصلاح، سلوا لهم الخير، والسداد، والفلاح.
صلاح الأبناء والبنات يكون أول ما يكون منك، يكون من حركاتك وسكناتك، يكون من أقوالك وأفعالك، يوم ينشأ الابن وتنشأ البنت في أحضان أب يخاف الله، وفي أحضان أم تخشى من الله.
صلاح الأبناء والبنات يقوم أول ما يقوم على قدوة صالحة من الآباء والأمهات، إن رآك ابنك تخاف من الله خافه، وإن رآك ابنك تخشى من الله عظمه وهابه، إن رآك ابنك مع المصلين كان من المصلين. إن رآك ابنك من الأخيار والصالحين كان من الأخيار والصالحين.
القدوة الصالح نبراس للذريات، ودليلٌ يهدي قلوب الأبناء والبنات.
صلاح الأبناء والبنات يحتاج منك إلى كلمات نافعات وتوجيهات ومواعظ مؤثرات وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلمٌ عظيم [لقمان:13]. أخذ بمجامع ذلك القلب البريء إلى الله، وعلمه توحيد الله والعبودية لله، فخذوا بمجامع لقلوبهم إلى الله خذوهم بنصيحة مؤثرة وموعظة بليغةٍ تأخذهم إلى محبة الله ومرضاة الله. كم من نصيحةٍ من أبٍ ناصح، وأم مشفقة ناصحة نفعت الأبناء والبنات ما عاشوا أبداً.
صلاح الأبناء والبنات يتوقف على أمرهم بالصلوات، الصلاة عماد الدين ومرضاة الله رب العالمين، فمروهم بها تصلح أحوالهم وتصلح شؤونهم أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون [العنكبوت:45].
علم الخليل عليه الصلاة والسلام عظيم شأن الصلاة فرفع كفّه إلى الله داعياً سائلاً ضارعاً رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [إبراهيم:40]. أي رب اجعل ذريتي تقيم الصلاة.
مروا أولادكم بالصلاة إذا بلغ الابن سبع سنين وبلغت البنت سبع سنين، فالله سائلك يوم القيامة هل أمرته بالصلاة، وليتعلقن الابن بأبيه بين يدي الله في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، يقول: يا رب ما أمرني بالصلاة، يا رب تركني نائماً، يا رب ما أمرني بطاعتك. وتتعلق البنت بأمها في يومٍ يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
صلاح الأبناء والبنات يتوقف على أمرهم بالأخلاق الفاضة، والآداب الكريمة يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور [لقمان:17-18].
أمر الأبناء بالأخلاق الفاضة والآداب الجليلة الكاملة، يعوّدهم على الخير والصلاح، يقودهم إلى مناهج الفلاح، علّموهم إفشاء السلام وإطعام الطعام وخصال الكرام، وعوّدوهم على هدي أهل الإسلام يكن لكم في ذلك خيري الدنيا والآخرة.
عباد الله: من صلاح الأبناء والبنات، أمرهم بصلة الأرحام، وزيارة الأخوال والخالات والعمّات والأعمام، والله ما علمت ابنك صلتهم فرفع قدمه في ضياء نهار أو ظلمة ليل إلا كتب الله لك أجره، ما علّمته خصلة من خصال الخير إلا كتب الله لك أجره، ما عمل بها حياته أبداً.
صالح الأبناء والبنات تقر به العيون في الحياة وفي الممات، تقر به عينك في الدنيا، تراه عبداً ناصحاً، عبداً خيراً صالحاً، إن أمرته أطاعك، وإن طلبته برّك، وكان لك بعد الله نعم المعين، وكان لك الناصح الأمين.
صلاح الأبناء والبنات تقر به العيون في اللحود والظلمات يوم تغشاك منه صالح الدعوات وأنت في القبور وحيداً، وأنت في مضاجعها فريداً، يذكرك بدعوةٍ صالحة، ينعّمك بها الرحمن، ويغشاك منه الروح والريحان.
صلاح الأبناء والبنات تقرّ به العيون في الموقف بين يدي الديان، حجابٌ من النار، قال : ((من ابتلي بشيءٍ من هذه البنات فأدّبهن فأحسن تأديبهن ورباهن فأحسن تربيتهن كن له حجاباً من النار)) [1].
اللهم يا مصلح الذريات أصلح ذرياتنا، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين وشاباتهم يا أرحم الراحمين، اللهم خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، وألهمهم السداد والهدى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب الزكاة ، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة (3/283) فتح ، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب ، باب الإحسان إلى البنات(16/179) بشرح النووي ، عن عائشة ، ولفظه فيهما (من ابتلى من البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العزة والجلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له العظمة والكمال، يصرّف الشؤون والأحوال، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بطيّب الخلال وكريم الخصال، صلى الله عليه وعلى جميع الصحب والآل، ومن سار على نهجهم إلى يومٍ تسيّر فيه الجبال.
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
أخي المسلم، أختي المسلمة: إن الله عز وجل إذا أنعم عليك بالذرية، ونظرت عيناك إلى ابنك وبنتك، فاعلم أن الله عليك حقاً عظيماً، وفضلاً جليلاً كريماً، فليكن:
- أول ما يكون منك أن تقول بلسان حالك ومقالك: الحمد لله، الحمد لله حيث لم يقطع مني نسلي، ولم يجعلني عقيماً لا ولد لي، فهو الذي وهبك وهو الذي تفضّل عليك، فاشكره فقد تأذّن للشاكرين بالمزيد.
- الأمر الثاني: أن تأخذ من نفسك أن يكون في نفسك الشعور بعظيم المسئولية، الأبناء والبنات ما هم إلا أمانة وضعت في عنقك إما أن تنتهي بك إلى جنةٍ أو إلى نار، أبناؤك وبناتك مسئوليةٌ قبل أن يكونوا أبناءً وبناتاً فإنهم واجب ومسئوليةٌ. قال : ((كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته)) [1]. ولتقفن بين يدي الله فيحاجك الابن وتحاجك البنت، فإما أن يكونوا سبيلاً لك إلى الرحمة أو إلى العذاب، فاسأل الله خيرهم واستعذ بالله من شرهم، فما هم إلا فتنة وزينة في الحياة، واضرع إلى الله جل وعلا أن يعينك على إسداء الخير إليهم.
- الأمر الثالث: إن الله أمرك في أبنائك وبناتك أن تكون من العادلين اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أبنائكم وبناتكم، لا تفضلوا الأبناء الذكور، ولا تفضلوا البنات الإناث، واتقوا الله في الجميع، فإذا عدلت بين أبنائك وبناتك حللت منابر من نور في الجنان على يمين الرحمن في يوم يغبطك فيه الأنبياء والصديقون قال : ((إن المقسطين على منابر من نورٍ يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء الذين يعدلون في أهليهم وما ولوا)) [2].
- فإياك أن تفضّل بعض أبناءك بالعطية، إياك أن تكتب أرضاً، أو تعطي مالاً، أو تهدي سيارة أو عقاراً إلى ابن أو بنتٍ، بل اتق الله فيهم واعدل بينهم، إن ظلم الأبناء والبنات يوجب الحقد والبغضاء ويوجب انتشار الشحناء، فتتفرق قلوبهم، وتتقطع أواصر المحبة بينهم. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعدلون بين أولادهم حتى لو قبّل أحدهم ابناً ذهب إلى البنت وقبّلها، يخاف من الله عز وجل أن يكون مفضلاً لواحدٍ منهم على الآخر.
- الأمر الرابع: إياك أن يكون أبناؤك وبناتك سبباً في أذية المسلمين احفظهم عن أذية الأقرباء وعن أذية الجيران، وعن أذية المسلمين خاصة في بيوت الله، إذا دخلت بهم إلى المساجد فاجلعهم عن يمينك ويسارك، واجعلهم تحت نظرك وملاحظتك، خذهم بالتوجيه والإرشاد قبل أن تأخذهم دعوة عبدٍ صالح فتهلكهم. حافظوا على الأبناء والنبات في بيوت الله وامنعوهم من العبث والتشويش على المصلين الواقفين بين يدي الله.
- الأمر الخامس: إياك أن يكون أبناؤك سبباً في أذية المسلمين فتنجرّ وراء العواطف لتشتري لصغير السن والحدث سيارة تزهق بها الأرواح وتسفك بها الدماء، ويكون بها الشقاء والعناء، اتقوا الله في أولادكم، وإياكم والانسياب وراء العواطف.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسيماً. وقال : ((من صلى علي مرة، صلى الله عليه بها عشراً)) اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على خير خلقك وأفضل رسلك سيدنا ونبينا محمدٍ، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين..
[1] رواه البخاري في كتاب الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن (2/141) فتح ، ومسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الأمير العادل (12/213) بشرح النووي عن ابن عمر.
[2] رواه مسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الأمير العادل (12/211) بشرح النووي ، عن ابن عمرو.
(1/1493)
غزوة بدر الكبرى
سيرة وتاريخ
غزوات
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غزوة بدر من أعظم ملاحم الإسلام. 2- الصبر مفتاح الفرج ، واليسر يأتي بعد العسر.
3- أهمية تلاحم القلوب وتآلفها. 4- صدق وبلاء الصحابة رضي الله عنهم في بدر. 5- كلمة
بين يدي العشر الأخير من رمضان. 6- كلمة لمن أراد الاعتكاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: إن في سيرة النبي العطرة وآثاره الجميلة الجليلة النضرة أسوة للمؤمنين وقدوة للأخيار والصالحين.
سيرة خير الورى حبيب الله جل وعلا، سيرة مُلئت علمًا وحكمة وإيمانًا، سيرة ملئت ثباتًا وصبرًا وإيقانًا، سيرة ملئت حلمًا ورحمة وبرًا وفضلاً وإحسانًا، سيرة خير الورى حبيب الله جل وعلا، ثلاثة وعشرون عامًا حمل فيها رسالة الله وبلغ فيها شريعة الله، ما ترك باب خير إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشد إلا هدانا إليه تسليمًا، وزاده تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا.
وفي ثنايا هذا الشهر المبارك [1] كانت ملحمة من ملاحم الإسلام ويوم من أيامه الجليلة العظام، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم أعز الله فيه جنده ونصر فيه عبده وأذل فيه من عاداه ورفع المنار لمن والاه، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، يوم خاضه رسول الله بالثبات واليقين والإيمان، خاضه مع الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم وبوأهم دار السلام، ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً ما على وجه الأرض يومها أحب إلى الله منهم، ثلاثة مائة وأربعة عشر رجلاً كتبت لهم السعادة وهم في بطون أمهاتهم، ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً نادى عليهم منادي الله: يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً أقدامهم حافية وثيابهم مرقعة بالية، وأحشاؤهم ظامئة خاوية، ولكن قلوبهم نقية زاكية، وهممهم شريفة سامية عالية، الصحب الكرام عليهم من الله الرضوان والسلام.
قاد رسول الله جحفل الإيمان، أسد الشرى، رجال الوغَي أتم الله عليهم المحبة والرضا.
وقفنا أمام يوم بدر؛ لكي نستلهم العظات والعبر، وقفنا أمام ملحمة الإسلام، واليوم الأول من أيامه العظام، رأينا العبر، رأينا العظات، أعظمها وأجلها أن الإسلام كلمة الله الباقية ورسالته الخالدة باقية ما بقي الزمان وتعاقب الملكان يرفع شعارها ويقدس منارها بعز عزيز وذل ذليل، هذا الإسلام الذي كتب الله العزة لمن والاه، وكتب الذلة والصغار على من عاداه، كلمة باقية ورسالة خالدة زاكية.
من عِبَر يوم بدر أخذنا أن الصبر مفتاح الفرج فما ضاقت الأمور على من صبر، الصبر مفتاح الخير.
أخذنا من غزوة بدر أن مع العسر يسرًا، وأن عاقبة الصبر خير واصبر وما صبرك إلا بالله [النحل:127]. صبر حبيب الله ورسول الله فأقر الله عينه ونصر الله حزبه بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا [آل عمران:125]. فإن وجدت عبدًا من عباد الله قد صُبت عليه المحن والبلايا من الله ونصب وجهه صابرًا لله، فبشره بحسن العاقبة والمآل من الله ، علمنا أن الصبر عواقبه الخير، ولقد صدق رسول الهدى إذ يقول: ((ما أعطي عبد عطاء أفضل من الصبر)) [2]. بالصبر يتوسع ضيق الدنيا، وبالصبر تتبدد همومها وغمومها وأحزانها، يطيب العيش وترتاح النفوس وتطمئن القلوب، وصدق عمر وأرضاه إذ قال: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر) [3].
وقفنا أمام غزوة بدر فوجدنا أن التقوى سبيل النصر للمؤمنين وطريق الفلاح للمفلحين بلى إن تصبروا وتتقوا [آل عمران:125]. بالصبر والتقوى تنزلت ملائكة الرحمن؛ نصرة لجند الإيمان، فمن صبر واتقى جعل له ربه من كل همّ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا. صبرًا يا أهل الإسلام في زمان عظمت كربه، في زمان اشتدت بلاياه ومحنه، حيثما وليت بناظريك رأيت الأشجان والأحزان، نساء وأرامل وأطفال وثكالى، لا يعلم مقدار ما ويعانون ولا يعلم مقدار ما يكابدون إلا الله المطلع على الخفيات، عالم السر والنجوى، فاطر الأرض والسموات. فيا أهل الإسلام لئن ضاقت الأرض عليكم فلم تضيق بالصبر والتقوى، إن وراء الليل فجرًا، إن تحت الرماد نارًا، صبر جميل لعل الله أن يأتي بالفرج الجليل.
عباد الله: وقفنا أمام غزوة بدر الكبرى، فعلمنا أن من أسباب النصر العظيمة تآلف القلوب وتراحمها، كان أصحاب النبي في قلة من العدد والعدة، ولكن كانت بينهم المحبة والصفاء والمودة، كانوا متراحمين متعاطفين متآلفين متكاتفين متناصرين متآزرين، شعارهم: لا إله إلا الله فسبحان من أعزهم وهم أذلاء، سبحان من أغناهم وهم فقراء، سبحان من رفعهم وهم وضعاء.
التآلف والتعاطف والتكاتف والتناصر والتآزر سبيل إلى نصر المؤمنين، طريق لعزة الأخيار والصالحين، فإن وجدت أهل الإسلام متعاطفين متراحمين فاعلم أن النصر حليفهم، وإن وجدتهم متقاطعين متباعدين متناحرين، إن مزقتهم الجماعات والحزبيات والرايات والشعارات فادمع على الإسلام بين أهله.
عباد الله: وقفنا أمام غزوة بدر الكبرى، فاستلهمنا منها مواقف المحبة والرضا من أصحاب رسول الله ، وجدناهم تحت رايته لا يقولون غير قوله، لا يتقدمون عليه ولا يؤخرون أمراً أمر بإمضائه صلوات الله وسلامه عليه، سلام على أسد الشَّرى، سلامٌ على رجال الوغَى يوم سمعوا وأطاعوا، سلامٌ عليهم يوم قال قائلهم: (يا رسول الله امض لما أمرك الله، وصل حبال من أردت، واقطع حبال من شئت، فإنا سِلمٌ لمن سالمت، وحرب لمن حاربت، وخذ من أموالنا ما شئت، والله ما أخذت منها أحب إلينا مما تركت) [4] ، سلام عليهم من الله ورحمات رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [الأحزاب:23].
اللهم يا فاطر الأرض والسموات أسبغ عليهم شآبيب الرحمات وبوئهم المنازل العلى في الجنات واجمعنا معهم مع الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأبناء والبنات يا مصلح الأحوال والشئون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أي شهر رمضان.
[2] رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله (11/309) فتح، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر (7/144) بشرح النووي، عن ابن مسعود.
[3] رواه البخاري تعليقًا في كتاب الرقاق، باب الصبر عن محارم الله (11/309) فتح، وأحمد في كتاب الزهد بسند صحيح كما قال ابن حجر في الفتح (11/309).
[4] قائل ذلك هو: سعد بن معاذ. انظر تهذيب سيرة ابن هشام لعبد السلام هارون ص 126.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأخيار ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم ما أظلهم الليل وأضاء النهار.
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: أنعم الله علينا بهذه النعمة العظيمة والمنة الجليلة الكريمة فبلغنا شهر رمضان وما كنا لنبلغه إلا بفضل الحليم الرحمن، بلغنا شهر رمضان ونحن في عافية في الأبدان وأمن في الأوطان ورغد عيش بين الأهل والولدان، فالحمد لله كالذي نقول، والحمد لله خيرًا مما نقول.
عباد الله: وها هي أيام الشهر قد تتابعت ولياليه الغر قد تلاحقت، هذه أيام رمضان قد أوشكت بالرحيل، وها نحن في هذا اليوم أو بعد يومين سنستقبل العشر الأواخر، ختام شهر رمضان ووداعه، وقفنا على الليالي العشر ونحن فقراء إلى رحمة الله، وقفنا على أبواب العشر الأواخر نشكو تقصيرنا إلى الله، وقفنا على أبواب العشر الأواخر وكلنا أمل وطمع في رحمة الله ألا يخيب رجاءنا وأن يستجيب دعاءنا، وقفنا على أبواب عشر ما دخلت على رسول الله إلا شد مئزره وأيقظ أهله وأحيا ليله [1] ، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، بينها ليلة خير من ألف شهر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، عشر إذا دخلت على الأخيار والصالحين فروا إلى بيوت الله معتكفين ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود قد فارقوا النوم والكرى والهجود، يرجون رحمة الله الحليم الودود ويسألونه مقامًا مع الركع السجود في نعيم الجنات جنات الخلود مع المقربين الشهود، قد سمت أرواحهم إلى الخيرات وتنافست أجسادهم في فعل الباقيات الصالحات، عشر وما أدراك ما هذه العشر؟ أقسم الله بها في كتابه المبين [2] وعظم شأنها بهدي رسول الله الأمين.
فيا معاشر المعتكفين والمعتكفات وصية لكم من كتاب الله وسنة رسول الله اعلموا أن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، لا يقبل الله من الاعتكاف إلا ما كان خالصًا لوجهه يراد به ما عنده فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً [الكهف:110]. أخلصوا لله النيات، وأخلصوا لله العبادات والطاعات، فلا يزال العبد بخير إذا تكلم تكلم لله وإذا عمل عمل لله.
يا معاشر المعتكفين والمعتكفات: قدموا الحقوق والواجبات، إياك أخي المسلم أن تعتكف ووراءك حق أمرك الله بأدائه يضيع باعتكافك، إن كان الوالدان بحاجة إلى برِّك وحنانك وعطفك وإحسانك فاحتسب عند الله في القيام عليهما، كم من قائم على أم حنون يسقيها دواءها ويعالج جراحها ودائها بلغه الله أجر المعتكفين، كم من قائم على أب ضعيف شيخ كبير يقضي حوائجه ويرحم ضعفه ويحسن إليه ويجبر بإذن الله كسره بلغه الله مقام المعتكفين، كم من قائم على زوجة سقيمة مريضة يقوم عليها بلغه الله أجر الاعتكاف بما كان من إحسانه إليها.
تخلف عثمان رضي الله عنه وأرضاه عن غزوة بدر بسبب زوجه التي كان يمرضها، رقية رضي الله عنها وأرضاها، لو كنت مريضًا لقامت على رأسك ولأحسنت إليك فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، إياك أن تعتكف والأبناء والبنات بحاجة إليك أو يكون اعتكافك سببًا في ضياعهم، فاتق الله في الأقربين إليك.
يا معاشر المعتكفين والمعتكفات: اخرجوا إلى بيوت الله بالنية الصادقة وليس في قلوبكم إلا الله وادخلوا إلى بيوت الله معظمين شعائر الله، فللمساجد حقوق عظيمة فلا تسبن مسلمًا ولا تشتمن قائمًا ولا تلزمن صائمًا، إياك وأذية المسلمين في اعتكافك، تجنب النوم في الأماكن الفاضلة ومكن الناس من بيوت الله، ولا يجوز حجز الأماكن في المساجد إلا لمن خرج لقضاء حاجته، أما من عدا ذلك فلا يجوز له أن يؤذي المسلمين في بيوت الله رب العالمين، المساجد بيوت الله استوى فيها الغني والفقير والجليل والحقير، ذلة لله العظيم الكبير. تقبل الله منا ومنكم وأصلح أحوالنا وأحوالكم.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:92].
[1] كما عند البخاري في كتاب صلاة التراويح ح (2024).
[2]
(1/1494)
فضائل العلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلماء ورثة الأنبياء. 2- فضل العلم. 3- فضل محبة العلماء وآثارها على المرء والآخرة.
4- حقوق العلماء على المسلمين. 5- دعوة لتعليم الأبناء العلم الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله إن الله أحب من عباده العلماء، واصطفاهم واجتباهم ورثة للأنبياء, وزادهم من الخير والبر فجعلهم من عباده الأتقياء السعداء, وشرفهم وكرمهم فكانوا من عداد الأولياء، وأثنى عليهم في كتابه بأنهم أهل خشيته فقال: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر: 28].
العلماء وما أدراك ما العلماء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى أهل الرحمة والرضا، بهم يُحتذى ويُهتدى ويُقتدى. كم طالب علم علموه, وتائه عن صراط الرشد أرشدوه وحائر عن سبيل الله بصروه ودلوه بقاؤهم في العباد نعمة ورحمة، وقبضهم وموتهم عذاب ونقمة قال : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) [1].
العلم رحمة من الله وخير وهداية منه سبحانه وتعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا [البقرة: 269].
العلم بصيرة من الله قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف: 108].
العلم بينة تستبين بها الحقائق، ويخرس عند دليلها كل متكلم ناطق: قل إني على بينة من ربي [الأنعام: 57].
العلم سبيل الله ينتهي بعبد الله إلى جنة الخلد ورضوان الله، قال : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) [2] فما أقرب الطريق على العلماء إلى جنة الله ورحمة الله، حملوا الكتاب والسنة وأحيوا منارات الدين والملة, فالله أعلم كم بذلوا وكم ضحوا من أجل هذا العلم المبارك والخير الكبير.
عباد الله إذا أحب الله عبدًا من عباده حبب إلى قلبه العلماء، ومن أحب قومًا حشر معهم. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ـ أي ليس عنده كثير صلاة ولا صلاح ولا صيام يحب الصالحين وليس عنده كثيرٌ من الصلاح ويحب العلماء وليس عنده العلم، يحب القوم ولما يلحق بهم فقال : ((المرء مع من أحب)) [3].
من أحب العلماء حشر مع الأتقياء السعداء: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا [النساء: 69].
إذا أحب الله عبدًا حبب إلى قلبه أولياءه العلماء فأحبهم في الله ودعا لهم, واعتقد فضلهم, وكان خير معين لهم.
حب العلماء طاعة وقربة وإيمان بالله وحُسبة. نحبهم لكتاب الله الذي حفظوه, ولسنة رسول الله التي وعوها وعلموها ودعوا إليها. نحبهم للدين نحبهم لسمت الأخيار وشعار الصالحين. نحبهم لعظيم بلائهم على الأمة وما قدموا من خير لها, فاللهم عظم أجورهم وثقل في الآخرة موازينهم.
حب العلماء ـ عباد الله ـ رحمة من الله سبحانه وتعالى. من أحب العلماء حرص على مجالسهم، وحرص على مواعظهم، وحرص على دعوتهم والعمل بما يقولون، قال يبين فضل العلماء حينما ذكر رجلاً كثير الذنوب مر على قوم صالحين وقد اجتمعوا في حلقة علم فجلس معهم يذكر الله وعنده ذنوب وعيوب فصعدت الملائكة إلى ربها فأخبرته بما كان من شأن هؤلاء القوم فقال الله: ((وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليس)) [4].
من أحب العلماء حرص على مجالسهم وحرص على مواعظهم، وكان محافظًا عليها عاملاً بما فيها من الخير، ولذلك حبب الله إلى الصالحين، حبب إليهم مجالس الذاكرين فكانوا لا يفترون عن شهودها يضحون من أجل بلوغها، فكن رحمك الله ذلك الرجل فإن المحروم من حرم.
من أحب العلماء دعا لهم وترحم على أمواتهم وذكرهم بالجميل والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر: 10].
يذكرهم بصالح الدعوات, ويسأل الله أن يُسبغ عليهم شآبيب الرحمات.
علماء الأمة من الماضين من الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، أهل الخير والأثر، وأهل السنة والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. تُنشر فضائلهم وتُذكر مآثرهم. ماتوا وما ماتت في القلوب حسناتهم وكلماتهم ومواعظهم.
من أحب العلماء حرص على الأدب معهم، فأنصت إليهم إذا تكلموا، وأصغى إليهم إذا حدثوا وأطاعهم إذا أمروا أو نهوا يسلم تسليمًا لا يعترض عليهم بالآراء ولا يلتمس سبيل أهل الغي والأهواء.
ما أحوجنا إلى الأدب مع العلماء وهم يتكلمون ويحدثون ويفتون، نصغي إلى هذه المشاعل وهذه الكلمات النيرة والمواعظ البليغة من كتاب الله وسنة رسول الله. نحبهم ومن حبهم نهابهم.
أهابُك إجلالاً وما بك قدرة عليَّ ولكن ملء عين حبيبُها
المحب للعلماء يظهر حبه إذا تكلم العالم كيف ينصت, وكيف يخشع، وكيف يتأثر ويدمع، وكيف يجعل هذه الكلمات والمواعظ التي يقولها العلماء يجعلها في قلبه كالغيث للأرض الطيبة.
ما أحوجنا إلى التأدب مع العلماء في كل كلمة يقولونها وفي كل حكمة يعلمونها ما دامت من كتاب الله وسنة رسوله.
ما أحوجنا إلى تقديرهم في المجالس ورفع مكانتهم وإجلالهم وتقديرهم، كان ابن عباس وأرضاه يدخل على أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب وعن أصحاب النبي أجمعين كان إذا دخل عليه رفع مقامه وأعلى مجلسه حتى صار في أعلى المجالس فوق المشايخ وكبار السن قالوا له: لم تفعل هذا يرحمك الله وهو كمثل أبنائنا؟ فذكرَ لهم فضله وعِلمَه وأرضاه [5].
العلماء يوقرون ويحترمون ويقدرون، ومن أكرمهم فهو الكريم، ومن أهانهم خِبٌّ لئيمٌ. ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى تقدير العلماء بنشر فتاويهم ونشر علومهم، وطبع كتبهم وبثها في الآفاق لعله أن يكون لنا من الأجور كمثل أجورهم. ما أحوجنا أن ننشر ما يقولونه من الخير ونبثه بين الناس؛ ليكون لنا كمثل أجورهم.
ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى التأدب مع العلماء في غيبتهم نذكرهم بأرفع الألفاظ وأجلّها ما لم تبلغ حدود الحُرمة والغلو، نذكرهم مجلين مقدرين موقرين فتلك سنة سيد الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فتقديرهم في الخطاب يُعتبر من سنة الأخيار والصالحين، وإهانتهم في الخطاب من شأن اللئام، ولذلك قال العلماء: من نادى العالم باسمه فقد أساء الأدب. أساء الأدب؛ لأن الله يقول: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9]. وهذا الجاهل ينادي العالم كما ينادي عوامَ الناس لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا [النور: 63].
لا ينبغي نداء العالم باسمه، ينادى بوصفه ورسمه، ينادى بما هو أهل له من التقدير والإجلال والإكبار. اللهم عظم أجورهم. اللهم ارزقنا حبهم وتقديرهم. اللهم ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ولا نادمين ولا مُبدلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري كتاب العلم/ باب كيف يقبض العلم (1/234) فتح، وأخرجه مسلم كتاب العلم/ باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (16/223) بشرح النووي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
[2] رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار/ باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، عن أبي هريرة (17/21) بشرح النووي.
[3] أخرجه البخاري، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب/ باب المرء مع من أحب (16/188) عن ابن مسعود.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الدعوات/ باب فضل ذكر الله عز وجل (11/212) فتح، عن أبي هريرة.
[5] أخرجه البخاري، كتاب التفسير/ باب تفسير سورة إذا جاء نصر الله (8/606) فتح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وعلى جميع أصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حقيقة التقوى. واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وأكثروا من ذكر الموت والبِلىَ وقرب المصير إلى الله جل وعلا.
عباد الله: إذا أنعم الله على العبد فرزقه الذرية من الأبناء والبنات فليكن من شكره لله عز وجل أن يُعلمهم العلم النافع. من أعظم النعم على الإنسان إذا رزق الذرية أن يضع الله فيها الصلاح والخير والاستقامة والفلاح. وهذا لا يكون إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى فقد رفعت أكف الصالحين إلى أرحم الراحمين أن يرزقهم صلاح البنات والبنين فقالوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا [الفرقان: 74].
فليكن في نفس الإنسان أن يقدم ابنًا من أبنائه يتعلم العلم. احرصوا على دعوة أبنائكم؛ لتلقي العلوم الشرعية والإقبال على حلق الذكر وحب العلماء وتقديرهم وإجلالهم، واغرسوا ذلك في نفوسهم يكن لكم كمثل أجورهم. احرصوا على غرس هذه الأخلاق الكريمة في نفوسهم. احرصوا على غرس حب العلم في قلوب الأبناء والبنات، فإذا رزقك الله ابنًا صالحًا يخلفك من بعدك بالعلم فإنه خيرٌ ـ والله ـ كثير، كم من أب علم ابنه فكان علم ابنه وما علم في ميزان حسناته. قد يحرم الأب العلم ولكن لن تحرم التوفيق من الله إذا أخذت بيد ابنك إلى رياض العلم وطاعة الله, لن تحرم التوفيق إذا غرست في قلب ابنك حب العلماء وغشيان حلق الذكر والانتفاع بما فيها من خيري الدنيا والآخرة، وإذا علم الله في قلبك أنك تحب العلم لابنك لربما أقر عينك في حياتك قبل موتك فرأيته عالمًا من علماء المسلمين وما ذلك على الله بعزيز فلا تقل من أنا, ولا تقل: من ابني ولكن قل: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة: 54]. ومن أحب أن يكون ابنه عالمًا وفقه الله للأسباب وسهلها له إذا علم منه صدق النية وتوجه السريرة. اللهم إنا نسألك صلاح الأبناء والبنات، وأن ترزقنا خيرهم وصالح دعائهم بعد الممات. ألا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة فقد أمر الله بذلك...
(1/1495)
الخشية سبيل النجاة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
مازن التويجري
الرياض
16/9/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الغامدية التائبة. 2- خشية النبي صلى الله عليه وسلم. 3- لا تنظر إلى صغر
المعصية. 4- أهل الخشية هم الفائزون. 5- خشية يوسف عليه السلام. 6- صور من خشية
الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: انظروها من ورائكم, تقطع ردهات الزمن, وتمخر عباب التاريخ, تخوض غماره, بسفينتها العظيمة, لتحجز قبل تلك البواخر مرسى.
كأني بها وقد أقبلت على رسول الله بخطىً ثابتة, وفؤادِ يرجف وجلاً وخشية, رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم, تناست العار والفضيحة, لم تخشى الناس, أو عيون الناس, وماذا يقول الناس؟ أقبلت تطلب الموت, نعم تطلب الموت, فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح, يهون إن كان بعده الرضا والقبول, يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم, ولسع المعصية, وتأنيب الضمير (يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني) عندها يشيح النبي عنها بوجهه, فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني, أُراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك, فوالله إني حبلى من الزنا, فقال: ((اذهبي حتى تضعيه)) فولت والفرح يملأ قلبها, والسرور يخالط نفسها أن نجت من موت محقق؟ وردها رسول الله, كلا, بل لم يزل الهم يعترك في فؤادها وسياط الخوف تعلو هامة تفكيرها.
ويمر الشهر والشهر, والآلام تلد الآلام, فتأتي بوليدها تحمله: ها أنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله, فيقول البر الرحيم: ((اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه)).
فعادت بابنها الرضيع, فلو رأيتها ووليدها بين يديها, والناس يرقبونها عجبًا وإكبارًا, والشيطان يسول لها ويزين أن تلك فرصتك, وقد قمت بما عليك, والنبي ردك مرارًا, وترجع به, وحولين كاملين, كلما ألقمته ثديها, أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها, وحبها له, فهي أم, وللأم أسرار وأخبار.
وتدور السنة تعقبها سنة, وتأتي به في يده خبزة يأكلها, يا رسول الله قد فطمته فطهرني, عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ هذا الذي تحمله, ما هذا الإصرار والعزم, ثلاث سنين تزيد أو تنقص, والأيام تتعاقب, والشهور تتوالى, وفي كل لحظة لها مع الألم قصة, وفي عالم المواجع رواية, فيدفع النبي الصبي إلى رجل من المسلمين, ويؤمر بها فتدفن إلى صدرها ثم ترجم, فيطيش دم من رأسها على خالد بن الوليد, فسبها على مسمع من النبي , فقال عليه الصلاة والسلام: ((والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)) [1].
إنه الخوف من الله, إنها خشية الله ترتقي بالنفوس فلا ترى لها قرارًا إلا بجوار الرحمن في جنة الرضوان.
إنها الخشية لم تزل بتلك المؤمنة حين وقعت في حبائل الشيطان, واستجابت له في لحظة ضعف, نعم أذنبت, ولكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملأه الإيمان, ونفسٍ لسعتها حرارة المعصية, نعم أذنبت ولكن قام في قلبها مقام التعظيم لمن عصت, فتحشرجت في صدرها سؤالات, كيف أعصيه وهو المنعم الخالق! كيف أعصيه وهو الرازق الواهب؟ كيف أعصيه وقد نهاني؟ كيف أعصيه وقد كساني وآواني؟! فلم تقنع إلا بالتطهير وإن كان طريقه إزهاق النفس وذهاب الحياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد [ق: 31 ـ 35].
قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه, وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة" رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته, إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه, فقالت: يا رسول الله, أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر, وأراك إذا رأيته عَرفتُ في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة, ما يُؤمنني أن يكون فيه عذاب, قد عُذب قوم بالريح, وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا )) [الأحقاف: 24] [2].
في مصنف ابن أبي شيبة عن العباس العِّميِّ رحمه الله قال: "بلغني أن داود عليه السلام قال: سبحانك تعاليت فوق عرشك, وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض, فأقرب خلقك إليك أشدهم لك خشية, وما علم من لم يخشك؟ وما حكمة من لم يطع أمرك؟".
إن الخشية الحقة, والخوف المحمود هو الحامل على العمل, الذي لا يزال يدفع بصاحبه إلى الطاعة, وينفره من المعصية.
الخشية الحقة هي التي تربي القلب حتى لا يفرق بين معصية وأخرى, فلا ينظر إلى صغر المعصية، ولكن ينظر إلى عظمة من عصى, قال الله سبحانه ـ يحصر المنتفعين بالذكرى ـ: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى [طه: 1 ـ 3]. يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها [النازعات: 41 ـ 45] , وقال سبحانه: فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى [الأعلى: 8 ـ 9].
إن المنتفعين بالذكرى, المستفيدين من النذارة والبشارة هم أهل الخشية والمراقبة, قال جل ذكره: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير.
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [يس: 10 ـ 11].
أهل الخشية هم السعداء في الدنيا, الفائزون في الآخرة ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون , إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنها ذلك لمن خشي ربه [البينة: 6 ـ 7].
روى الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة [المؤمنون: 60] قالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا يا بنت الصديق, ولكنهم الذي يصومون, ويصلون, ويتصدقون, وهم يخافون ألا تقبل منهم, أولئك الذي يسارعون في الخيرات [المؤمنون:61] )) [3].
وفي يوم حضره الشيطان, وغابت فيه خشية الله ومراقبته أجمع أخوة يوسف على رميه في غياهب البئر, وكان ما كان من أمر السيارة, وبيع العبيد وهو الحر الأبي, وبعد كل ما لاقى من الآلام والمتاعب وهو بعدُ فتح يافع دخل بيت العزيز غلامًا يخدم, وقد بلغ من الجمال مبلغًا حتى أوتي شطر الحسن, لم تصبر معه امرأة العزيز المفرطة في البهاء والجمال, حتى تجملت وتزينت وغلقت الأبواب، فأقبلت تدعو وتغري هيت لك, هيت لك, قد ملكت جمالاً تغريه به, ومنصبًا وجاهًا يحفظه من العقوبة, فهي امرأة العزيز, وكان الطلب منها, بعد أن غلقت الأبواب، وهو في نفسه غريب بعيد عن أهله ووطنه, والغريب قد يقدم بما لا يقدم عليه أهل الديار, وهو شاب قد فطر على الميل إلى الأنثى بما ركب الله فيه من شهوة, فتصور كل هذا, والمكان يعلوه السكون, لا يُسمع فيه إلا نداء الإثم والفجور, هيت لك, هيت لك.
حينها أقبل يوسف قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [يوسف: 23] عندها هرب يوسف عليه السلام, هرب إلى الله, فرّ إلى الله, يمم الباب خشية من الله, فمدت يدها تجر قميصه.
ودارت الأيام وعظم الإغراء, وقُدِّم عليه السلام بين يدي نساء عِلية القوم فقُطعت الأيدي, وأعجمت الألسن قلن حاشا لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم [يوسف: 31].
في هذه الأثناء نطقت صاحبة الشأن وأعلنت أمرها, وجددت عزمها قالت فذلكن الذين لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكونًا من الصاغرين [يوسف: 32] أبعد الحرمان, وفراق الأهل والأوطان, وألم الرق والعبودية يكون السجن؟ قلها, تكلم, تخلص بكلمة, استعطفها, اعرض أمرك على العزيز, قص خبرك, اهرب وانجُ بنفسك, كلا, كلا, قال رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه [يوسف: 33] , السجن, نعم, ولمَ لا يكون إذا كان دون العهر والفاحشة والرذيلة.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) [4].
قال مسروق ـ رحمه الله ـ: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله, وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله". وقال إبراهيم بن سفيان: "إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهواتِ منه وطرد الدنيا عنه".
راود رجل امرأة في ظلمة الليل, فقال: لا يرانا من أحد إلا هذا الكوكب. فقالت: وأين مكوكبها؟ فوجل وأقلع.
واليوم عاثت الدنيا بأهلها فأضحى المخلوق يخشى المخلوق دون الخالق, يرجو المربوب دون الرب سبحانه, فعجبًا لمن يخشى الناس, ويخاف الناس, وعيون الناس, وألسنة الناس, وعقاب الناس, فأعماله للخلق, وسؤاله للخلق, يعطي ليرضي فلان, ويمنع ليحظى بقرب فلان, يحب للدنيا, ويبغض للدنيا, خاب وخسر, ما قام في قلبه الوجل من ربه, ولا عرف الله حق المعرفة وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [الزمر: 67].
قال عمر بن عبد العزيز: "من خاف الله أخاف الله منه كل شيء, ومن لم يخف الله خاف من كل شيء" فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية [النساء: 77] , أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين [التوبة: 13]. إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وأتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين [التوبة: 18].
إن هذه العبادة العظيمة, إن مفهوم الخشية والمراقبة غاب في قاموس كثير من الناس إلا من رحم ربك, غاب في تعاملنا مع ربنا, في تعاملنا في أنفسنا, في تعاملنا مع الناس في أقوالنا, في أفعالنا, في بيعنا وشرائنا, في تربيتنا لأبنائنا, في أدائنا في وظائفنا, في تعاملنا مع الأجراء والخدم, في حياتنا كلها, والموفق من وفقه الله.
بالخوف والخشية تصلح أمور العباد, بل يصلح الكون كله, قال أبو حفص: "الخوف سراج في القلب يبصر به ما فيه من الخير والشر".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار, وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء, وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون [البقرة: 74], لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [الحشر: 21].
فكم من البشر وفي الحجارة والجبال والأشجار والحيوان خير منه, وقديمًا قيل: "من كان بالله أعرف كان له أخوف", ولهذا يتمايز المؤمن من غيره, ويظهر الصادق في خشيته ممن يدّعي ويتزين, يظهر أهل الخشية الحقة في وقت الخلوات وساعات الوحدة والعزلة عن الخلق, فكثير أولئك الذين يتصدقون أمام الناس ولكنهم في السر قليل, كثير الذين يتورعون عن ظلم الناس أمام الناس وهم في السر أظلم الخلق, كثيرٌ هم أولئك الذين يقومون بالطاعات ويهجرون المعاصي في حضرة الخلق, وإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [الملك: 12].
[1] رواه مسلم ح (1695).
[2] الحديث رواه البخاري ح (4829)، مسلم ح (899).
[3] الحديث رواه الترمذي ح (3175)، وابن ماجه (4198).
[4] رواه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031).
_________
الخطبة الثانية
_________
في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله ليلة من الفراش, فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد (أي في السجود) وهما منصوبتان وهو يقول: ((اللهم أعوذ برضاك من سخطك, وبمعافاتك من عقوبتك, وأعوذ بك منك, لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) [1].
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي, فآخذ التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها, ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)) [2].
قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "لقد مضى بين يديكم أقوام لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى لخشي أن لا ينجو من عظم ذلك اليوم", وقال رحمه الله: "عملوا والله بالطاعات, واجتهدوا فيها, وخافوا أن ترد عليهم, إن المؤمن جميع إيمانًا وخشية, والمنافق جمع إساءة وأمنًا".
روى الترمذي ـ وقال: حسن صحيح ـ والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع, ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم)) [3].
وروى الترمذي وابن ماجه وحسنه النووي عن أنس رضي الله عنه أن النبي دخل على شاب وهو في الموت فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي, فقال رسول الله : ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو, وأمنه مما يخاف)) [4].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو نادى مناد من السماء: أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحدًا لخفت أن أكون أنا هو".
وروى البيهقي بسنده عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: "كنا جلوسًا مع رسول الله تحت شجرة فهاجت الريح, فوقع ما كان فيها من ورق نخِر, وبقي ما كان من ورق أخضر, فقال رسول الله : ((ما مثل هذه الشجرة؟)) فقال القوم: الله ورسوله أعلم, فقال: ((مثل المؤمن إذا اقشعر من خشية الله عز وجل وقعت عنه ذنوبه وبقيت له حسناته)) [5].
[1] رواه مسلم ح (486).
[2] رواه البخاري (3433).
[3] رواه الترمذي ح (1633)، والنسائي ح (3108)، وأحمد (10182).
[4] رواه الترمذي ح (983)، وابن ماجه ح (4361).
[5] رواه أبو يعلى في مسنده، وأشار الهيثمي على تضعيفه (10/310).
(1/1496)
الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
مازن التويجري
الرياض
16/12/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعاء سلاح المؤمن. 2- الدعاء سلاح الأنبياء ، وبه هلك أعداؤهم. 3- أوقات إجابة
الدعاء. 4- أحوال أحرى بإجابة الدعاء. 5- آداب الدعاء. 6- منزلة الدعاء عند الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
يتقلب الناس في دنياهم بين أيام الفرح والسرور, وأيام الشدة والبلاء, وتمر بهم سنين ينعمون فيها بطيب العيش, ورغد المعيشة, وتعصف بهم أخرى عجاف, يتجرعون فيها الغصص أو يكتوون بنار البُعد والحرمان.
وفي كلا الحالين لا يزال المؤمن بخير ما تعلق قلبه بربه ومولاه, وثمة عبادة هي صلة العبد بربه, وهي أنس قلبه, وراحة نفسه.
في زمان الحضارة والتقدم, في كل يوم يسمع العالم باختراع جديد, أو اكتشاف فريد في عالم الأسلحة, على تراب الأرض, أو في فضاء السماء الرحب, أو وسط أمواج البحر, وإن السلاح هو عتاد الأمم الذي تقاتل به أعداءها, فمقياس القوة والضعف في عُرف العالم اليوم بما تملك تلك الأمة أو الدولة من أسلحة أو عتاد.
ولكن ثمة سلاح لا تصنعه مصانع الغرب أو الشرق, إنه أقوى من كل سلاح مهما بلغت قوته ودقته, والعجيب في هذا السلاح أنه عزيز لا يملكه إلا صنف واحد من الناس, لا يملكه إلا أنتم, نعم, أنتم أيها المؤمنون الموحدون, إنه سلاح رباني, سلاح الأنبياء والأتقياء على مرّ العصور.
سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان, ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا وأظهر هودَ عليه السلام, وأعز محمدًا في مواطن كثيرة.
سلاح حارب به رسول الله وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: قوة الفرس, وقوة الروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم, في القوة والمنعة, ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال.
تلكم العبادة وذلك السلاح هو الدعاء.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الدعاء هو العبادة)) ثم قرأ: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين [غافر: 60] [1].
وليعلم أن للدعاء أدابًا عظيمة حريٌ بمن جمعها أن يستجاب له, فمنها:
أولاً: أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة, ورمضان من الشهور, ويوم الجمعة من الأسبوع, ووقت السحر من ساعات الليل, وبين الآذان والإقامة وغيرها.
روى الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده ـ وحسنه ابن حجر ـ أن أنسًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الدعاء لا يرد بين الآذان والإقامة)) [2].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه قال: وهي ساعة خفيفة)) رواه البخاري ومسلم [3].
ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له, ومن يسألني فأعطيه, ومن يستغفرني فأغفر له)) [4].
ثانيًا: أن يغتنم الأحوال الشريفة كحال الزحف, وعند نزول الغيث, وعند إفطار الصائم, وحالة السجود, وفي حال السفر.
أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)) [5].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ في حديث طويل وفيه ـ قال عليه الصلاة والسلام: ((فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل, وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمِنٌ أن يستجاب لكم)) [6] رواه مسلم, أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم.
وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد, ودعوة المسافر, ودعوة المظلوم)) [7].
وأخرج الترمذي وحسنه وابن ماجه والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر, والإمام العادل, ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [8].
ثالثًا: أن يدعو مستقبلاً القبلة رافعًا يديه مع خفض الصوت بين المخافتة والجهر, وأن لا يتكلف السجع في الدعاء, فإنَّ حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع, والتكلف لا يناسب, قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة: 186].
ذكر ابن حجر عن بعض الصحابة في معنى قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً [الإسراء: 110] أي لا ترفع صوتك في دعائك فتذكر ذنوبك فتُعير بها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري: "فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه, فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب [9] ".
رابعًا: الإخلاص في الدعاء والتضرع والخشوع والرغبة والرهبة, وأن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاؤه فيه.
قال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدًا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 14 ـ 16].
أخرج الترمذي والحاكم وقال: حديث مستقيم الإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)) [10].
وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة, ولا يقولن اللهم: إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له)) [11].
قال ابن بطال: ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء الإجابة, ولا يقنط من الرحمة, فإنه يدعو كريمًا, وقديمًا قيل: ادعوا بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والإنطلاق.
خامسًا: أن يلح في الدعاء ويكون ثلاثًا ولا يستبطئ الإجابة, قال تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [النمل: 62].
أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي)) [12].
قال الداودي ـ رحمه الله ـ : على الداعي أن يجتهد ويلح ولا يقل: إن شئت، كالمستثني, ولكن دعاء البائس الفقير.
سادسًا: أن يفتتح الدعاء ويختمه بذكر الله تعالى والصلاة على النبي ثم يبدأ بالسؤال.
قال سبحانه: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
أخرج النسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله جالسًا يعني ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد وتشهد دعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت, المنان, بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام, يا حي يا قيوم إني أسألك, فقال النبي لأصحابه: ((تدرون بم دعا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)) [13].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل ((اللهم لك الحمد, أنت نور السموات والأرض, ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض, ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن, وأنت الحق ووعدك الحق, وقولك الحق, ولقاؤك حق, والجنة حق، والنار حق, والساعة حق, اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت, وأسررت وأعلنت, أنت إلهي لا إله إلا أنت)) [14].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك ) [15].
قال أبو سليمان الداراني ـ رحمه الله ـ: من أراد أن يسأل الله حاجة, فليبدأ بالصلاة على النبي ثم يسأل حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
سابعًا: التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة, وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة تحري أكل الحلال, كما قال الغزالي رحمه الله.
أخرج الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) [16].
قال الأوزاعي ـ رحمه الله ـ : خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد, فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: (يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟, قالوا: بلى, فقال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91]. وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا, اللهم اغفر لنا, وارحمنا واسقنا), فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقوا.
وقال سفيان الثوري: "بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال, وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون فأوحى الله إلى أنبيائهم عليهم السلام: لو مشيتم إليَّ بأقدامكم حتى تَحْفَى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم من الدعاء فإني لا أجيب لكم داعيًا, ولا أرحم لك باكيًا حتى تردوا المظالم إلى أهلها, ففعلوا فمطروا من يومهم". والتوجيه النبوي يقول: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) [17].
[1] الحديث رواه الترمذي ح (2969)، وأبو داود ح (1479)، وابن ماجه ح (3828).
[2] رواه الترمذي ح (212)، وأبو داود ح (521)، وأحمد ح (22174).
[3] رواه البخاري ح (935)، ومسلم ح (852).
[4] رواه البخاري ح (6321)، ومسلم ح (758).
[5] رواه مسلم ح (482).
[6] رواه مسلم ح (479).
[7] رواه أبو داود ح (1536) وابن ماجه ح (3862) والترمذي ح (1905) وأحمد ح (8375).
[8] رواه الترمذي ح (3598)، وأحمد ح (9450)، وابن ماجه (1752).
[9] رواه البخاري ح (1737).
[10] رواه الترمذي ح (3479) والحاكم ح (1817) وأحمد (6617) قال الهيثمي: وإسناده حسن (10/148).
[11] رواه البخاري ح (6338).
[12] رواه البخاري ح (6340)، ومسلم (2735).
[13] رواه الترمذي ح (3544)، والنسائي ح (1300)، وابن ماجه ح (3857).
[14] رواه البخاري ح (1120)، ومسلم ح (769).
[15] رواه الترمذي ح (486).
[16] رواه الترمذي ح (3382) بإسناد ضعيف والحاكم ح (1997) وصححه، ووفقه الذهبي.
[17] رواه الطبراني في معجمه الصغير، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم (10/290).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون:
الدعاء من أعظم العبادات, فيه يتجلى الإخلاص والخشوع, ويظهر صدق الإيمان, وتتمحص القلوب, وهو المقياس الحقيقي للتوحيد, ففي كلامٍ لشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إذا أردت أن تعرف صدق توحيدك فانظر في دعائك.
أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء, وأبخل الناس من يبخل بالسلام...)) [1].
وأنت أيها المبارك مأجور في دعائك, موعود بالإجابة.
أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفرًا ليس فيهما شيء)) [2].
وخرج الترمذي ـ وقال: حسن صحيح غريب ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)) فقال رجل من القوم: إذا نكثر قال: ((الله أكثر)) [3]. فبكلٍ أنت غانم رابح, مأجور مشكور.
والدعاء كريم على الله, عظيمٌ قدره عنده سبحانه, أخرج الترمذي والبخاري في الأدب المفرد والطبراني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء)) [4].
واسمع إلى النداء الرباني, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) [5].
الله أكبر, ولا إله إلا الله, إذن فابشروا وأقبلوا، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, انطرحوا بين يديه, وارفعوا حاجاتكم برداء الذل والمسكنة, ومرغوا الأنوف والجباه, واهتفوا باسمه فثم السعادة والأمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمت الله قريب من المحسنين [الأعراف: 54 ـ 56].
[1] ذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الأوسط... ورجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة (8/30).
[2] رواه الترمذي ح (3556)، وأبو داود ح (1488)، وابن ماجه (3865) والحاكم بنحوه (1830) ووافقه الذهبي على تصحيحه.
[3] رواه الترمذي ح (3573)، وأحمد ح (10749)، والحاكم ح (1816).
[4] رواه الترمذي ح (3370) ورواه الحاكم ح (1801) ووافقه الذهبي على تصحيحه، والبخاري في الأدب المفرد ح (712) وحسنه الألباني.
[5] رواه الترمذي ح (3540).
(1/1497)
الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
مازن التويجري
الرياض
17/11/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد الذكر. 2- النصوص الشرعية تمدح الذاكرين. 3- فوائد أخرى لذكر الله. 4-
الكائنات تسبح الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بينما الناس في غفلتهم راقدون, في غيهم سادرون, قد شغلتهم الدنيا وملذاتها, وألهتهم الأموال والمناصب, في زمن طغت فيه الحضارة والمدنية, فأغرت البشر لينساقوا خلفها لاهثين, قد تعلقت قلوبٌ بالشهوات وتربعت على كثير من العقول الشبهات... مع هذا وغيره كان لابد من وقفة تأمل ومراجعة وحديث حساب وتذكير, يرجع فيه المسلم لنفسه, يناقشها وينظر في صلاحها.
وما أصيب القلب بداء أعظم من الغفلة عن أخراه, وإخلاد إلى الدنيا وحلاوتها المُرة, فتمر عليه الليالي والأيام وهو مريض لا يعلم أنه مريض, عليل لا يدري ما علته, بل ميت وإن نبض قلبه بروح الحياة, حتى يعلوه الران, وتسكن أرجاءه الظلمة, فيبدو في أعين الناس سعيدًا, والسعادة عنه بمعزل, مسرورًا وقد عان الحزن في حياته, تعلو محياه الضحكات والبسمات, وقلبه يتفطر حرقة وألمًا, ويتقطع همًا وغمًا, فللقلوب صدأ لا يجلوه إلا ذكر الله, ولها أقفال مفتاحها لهج اللسان بحمده, وإدامة العبد لشكره, فالذكر جنة الله في أرضه, من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وهو إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها, بل هو طريق ميّسر مختصر إلى كل فوز وفلاح, طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر, وجرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف, والفزع, والهم والحزن, بذكره تنزاح جبال الكرب والغم والأسى.
ولا عجب أن يرتاح الذاكرون, ولكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون الساهون عن ذكره أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [النحل: 21].
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: "والذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل, ومن مُنعه عُزل, وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا, وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا, وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق, وماؤهم الذي يطفئون به نار الحريق, ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب, والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب هو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون.
يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا, ويوصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكورًا, به يزول الوقر عن الأسماع, والبكم عن الألسن, وتنقشع الظلمة عن الأبصار, زين الله به ألسنة الذاكرين, كما زين بالنور أبصار المبصرين, فاللسان الغافل كالعين العمياء, والأذن الصماء, واليد الشلاء, وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده, ما لم يغلقه العبد بغفلته, ولقد امتدح الله عباده المؤمنين أولو العقول والألباب إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران: 190 ـ 191].
وهم أصحاب القلوب الرقيقة الرحيمة فلهم شهادة الله بالإيمان الحق إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [الأنفال: 2 ـ 4].
أخرج مالك في الموطأ والترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوِرق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى, قال: ((ذكر الله تعالى)) [1].
آه, ما أشد الغفلة والإعراض عن خير العمل, وأزكاه عند الرب, وأرفعه في الدرجات وخير من إنفاق الذهب والفضة, بل وخير من الجهاد في سبيل الله, إنها الخسارة العظيمة, والغبن والهزيمة يوم يَحرم المرء نفسه هذا الفضل العظيم.
أخرج الترمذي والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله, إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) [2].
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك, فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء".
وللذكر فوائد عظيمة, يضيق المقام عن إحصائها, بل يعجز العقل عن إدراكها, ولكن حسبنا شيئًا من ثماره, وفوائده كما عدّها ابن القيم في الوابل الصيب:
منها: أنه يورث الذاكر القرب من الله, فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه حين يذكرني, إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا, وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا, وإن أتاني يمشي أتيته هروله)) [3].
ومنها: أنه يورثه حياة القلب وهو قوته, فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر به مثل الحي والميت)) [4].
ومن فوائده أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) [5].
ومنها: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده, قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى.
ومنها: أنه لما كان الذكر متيسرًا للعبد في جميع الأوقات والأحوال, فإن الذاكر وهو مستلقٍ على فراشه يسبق في الفضل والخير القائم الغافل.
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وهو على كل شيء قدير, وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله, ثم قال: "رب اغفر لي" أو قال: "ثم دعا استجيب له, فإن عزم فتوضأ, ثم صلى قبلت صلاته)) [6].
ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد, فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم, وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله أقل عنه حديثًا مني, وإن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله, ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك, قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم, ولكنه أتاني جبريل, فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) [7].
ومنها: أنه سبب تنزيل السكينة, وغشيان الرحمة, وحفوف الملائكة بحلقات الذكر, ومجالس الذكر مجالس الملائكة, ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين, فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به, فهو مع أهله في الدنيا والآخرة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي عليه السلام أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة, وغشيتهم الرحمة, ونزلت عليهم السكينة, وذكرهم الله فيمن عنده)) [8].
ومنها: أنه يورثه المراقبة حتى يدخله باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه, ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان, كما لا سبيل للقاعد في الوصول إلى البيت.
ومنها: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه, وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل, فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.
والواقع يشهد من خلال تجرأ العباد على معصية الله, بل والمجاهرة بها على رؤوس الأشهاد.
ومنها: أن الذاكرون هم السابقون يوم القيامة.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جمدان فقال: ((سيروا, هذا جمدان, سبق المفردون)) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات)) [9].
قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الجبل لينادي الجبل باسمه, يا فلان هل مربك أحدٌ ذكر الله عز وجل, فإذا قال نعم: استبشر).
ومنها: أنه يحط الخطايا ويذهبها.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب, وكتبت له مائة حسنة, ومحيت عنه مائة سيئة, وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي, ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك, ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه, ولو كانت مثل زبد البحر)) [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين نبينا محمد, صلى الله وسلم عليه وآله وصحبه أجمعين.
[1] رواه الترمذي ح (3377)، وابن ماجه ح (3790)، الموطأ ح (490) وأحمد ح (22195).
[2] رواه الترمذي ح (3375) وابن ماجه ح (3793) وأحمد ح (17227).
[3] رواه البخاري ح (7405)، ومسلم ح (2675).
[4] رواه البخاري ح 6407)، ومسلم ح (779).
[5] رواه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031).
[6] رواه البخاري ح (1154).
[7] رواه مسلم ح (2701).
[8] رواه مسلم ح (2700).
[9] رواه مسلم ح (2676).
[10] رواه مسلم ح (2691).
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن فوائد الذكر أنه سدٌ بين العبد وبين جهنم ـ والعياذ بالله ـ, فإذا كان ذكرًا دائمًا محكمًا, كان سدًا محكمًا لا منفذ فيه, وإلا فبحسبه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خذوا جنتكم)) أي ما تستترون به وتتقون به, قالوا: يا رسول الله, أمن عدو حاضر؟ قال: ((لا, ولكن جنتكم من النار, قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, فإنهن يأتين يوم القيامة معقبات مجنبات, وهنَّ الباقيات الصالحات)) [1].
ومنها: أنه يزيل الهم والغم عن القلب ويجلب له الفرح والسرور والبسط.
قال تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد: 28].
ومن فوائده أنه ينبه القلب من نومه, ويوقظه من سنته.
قال تعالى: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا [الكهف: 24].
ومنها: أنه غراس الجنة.
أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد, أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان, وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) [2].
ولقد عدَّ ابن القيم أكثر من سبعين فائدة للذكر في كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب", فهي حقيقة بإطلاعك.
ويكفي من فوائده أنه يورث ذكر الله تعالى للذاكر.
قال تعالى: فاذكروني أذكركم [البقرة: 152] قال ابن القيم: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا".
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [النور: 36 ـ 38].
واسمع يا رعاك الله إلى هذا الحديث العظيم, روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الفقراء إلى النبي فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم, يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم, ولهم فضلٌ من أموالٍ يحجون بها ويعتمرون, ويجاهدون ويتصدقون قال: ((ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم, وكنتم خَيْرَ مَنْ أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله, تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)) [3].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لكل شيء جلاء, وإن جلاء القلوب ذكر الله عز وجل".
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ما عَمِل العبد عملاً أنجى له من عذاب الله, من ذكر الله".
وإن حكم الله بيّنٌ واضح في الغافلين الساهين ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [الزخرف: 36 ـ 37] ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه: 124 ـ 126].
فكم من لسان ناطق يحسن الحديث في كل شيء إلا في ذكر الله وما ولاه, وكم من قلوب تنبض بالحياة وهو خاوية على عروشها, قد علاها غبار الغفلة, وعشعشت في زواياها عناكب الران والقسوة, وكم من أجساد تدب على الأرض وهي إلى الموات أقرب, تتقرب إلى كل أحد, وتبتعد عن ربها وخالقها, تذكر كل مخلوق وتنسى الخالق سبحانه, تخطب ود العباد, وهي تسعى جهدها في إسخاط رب العباد.
الكون من حوله يسبح, الطير في الهواء, والحوت في الماء, النملة في جحرها, الدواب والشجر, الجبال والحجر, الهواء والماء, الأرض والسماء وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم , ويبقى هو أسير الغفلة والهوى, صريعَ الجهل والنسيان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون [النور: 41].
[1] رواه الحاكم ح (1985) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة.
[2] رواه الترمذي ح (3462).
[3] رواه البخاري ح (843)، ومسلم ح (595).
(1/1498)
تعرف على الله في الرخاء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الدعاء والذكر
مازن التويجري
الرياض
21/9/1419
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة يونس والعبرة منها. 2- وفي مقابلها قصة موت فرعون. 3- صورة من استغاثة
الأنبياء بربهم واستجابته لهم. 4- قصة أصحاب الغار وفائدة العبادة في الرخاء. 5- أعظم شدة
ننتظرها الموت فكيف نفرج هذه الشدة. 6- كل الصور التي ذكرنا موضوعها ودرسها من
عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
كم مضى من عمر الحياة! وكم سلف من العصور! وكم تقلب من الدهور! أمم على إثرها أمم, وأجيال تعقب أجيالاً, ورجال على إثر رجال, أحوال متباينة, وصور متغايرة, وأمور تدار, والله يخلق ما يشاء ويختار.
فتعالَ نستخبر الخبر كي نستقي العبر
اسألوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون العبر
هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت في ظلمة جوف البحر في ظلمة الليل, في ظلمات ثلاث, فلا أحد يعلم مكانه, ولا أحد يسمع نداءه, ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام, ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان, فدعا وقال وهو على هذه الحال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء: 87] , فسمعت الملائكة دعائه, فقالت: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
فيجئ الجواب الإلهي له: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات: 144]. أتاه الجواب بالنجاة فنجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء:88].
قال الحسن البصري: "ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت, ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء, وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) [1].
وفي البحر قصص أخرى وعبر تترى, فهذا الطاغية فرعون يدركه الغرق فيدعو بالتوحيد آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [يونس: 90] , وسمعت الملائكة دعائه فنزل جبريل إليه سريعًا, منجدًا؟ لا, مغيثًا؟ لا, وإنما يأخذ من حال البحر ووحله فيدسه في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
وبعدها آتاه الجواب آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس: 91].
لقد سمعت الملائكة دعاء كلا المكروبين, ولكن فرق عظيم, فالأول: تقول فيه: صوت معروف في أرض غريبة, هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة.
وأما الآخر فينزل جبريل يدس الوحل في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
يا ترى! ما الفرق بين الحالين, والكرب واحد, والصورة واحدة؟!! إن الفرق واضح, والبون شاسع.
فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه, فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فيونس رخاؤه صلاة ودعاء ودعوة.
وفرعون رخاؤه ظلم وفسق وكفر وجحود.
وأما رسول الله عليه السلام فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
ولا يزال لطيف صنع الله عز وجل بأوليائه وعباده الصالحين يتوالى عليهم في حال الشدائد والكرب, فيفرج كربهم, وينفِّس شدائدهم حيث كان لهم مع الله معاملة في الرخاء.
فهذا نبي الله أيوب, كان كثير المال, من سائر صنوفه وأنواعه، من العبيد والأنعام والمواشي والأراضي, وكان له أولاد كثير وأهلون, فسلب ذلك كله وابتلي في جسده بأنواع البلاء, لم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما ربه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس, وأوحش منه الأنيس, ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، ترعى له حقه, فضعفت حالها وقل مالها, حتى كانت تخدم الناس بالأجر ثم عافها الناس لما عرفوا أنها زوجة أيوب خشية أن تعديهم, وكانت تقول له: يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك. فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا, فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة, ولما عافهما الناس اضطرت أن تبيع ظفائرها, فعندما علم أيوب بذلك نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [الأنبياء: 83] , فيأتيه الجواب: فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين [الأنبياء: 84].
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
وزكريا يدخل على مريم فيجد عندها رزقًا, يجد عندها فاكهة لم يأتِ أوان حصادها بعد, قال: أنى لك هذا قالت هو من عند الله [آل عمران: 37]. ورجع زكريا وفكر ورأى، فإذا هو طاعن في السن وامرأته مع كبر السن عقيم لا تلد, ولكن!! الذي يرزق الشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدًا وإن كان طاعنًا في السن وامرأته عاقر.
قال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرًا عنده فخافته فقال: يا رب, يا رب, يا رب, فقال الله: لبيك لبيك لبيك, قال: رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا... [مريم: 4], هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.
فجاءه الجواب على الفور: يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميًا [مريم: 7].
لماذا هذا؟ وكيف حصل؟! لا تسل, وحسبك أن تقول إنه عرف الله في الرخاء فعرفه الله في حال الشدة والكرب والحاجة.
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
ثم استخبر خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين قص النبي عليه السلام قصتهم, وأخبر خبرهم, يوم أن آواهم المبيت إلى غار فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار, فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق, مقفل موثق الإقفال.
إن نادوا فلن يسمع نداؤهم, وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم, وإن دفعوا فسواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة سدت باب هذا الغار, وكانت كربة, وكانت شدة, فلم يجدوا وسيلة يتوسلون بها في هذه الشدة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء, فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء.
دعا أحدهم ببره والديه, يوم أتى فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون من الجوع, وكان بين خيارين إما أن يوقظ الوالدين من النوم, وإما أن يطعم الصبية!! فلم يختر أيًا من هذين الخيارين, ولكن اختار خيارًا ثالثًا وهو أن يقف والقدح على يده والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ الوالدين الكبيرين, والوالدان يغطان في نوم عميق حتى انبلج الصبح وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما وأعرض عن حنان الأبوة وقدم عليه حنان البنوة على الأبوة فشرب أبواه وانتظر بنوه.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ثم دعا الآخر, فتوسل إلى الله بخشيته لله ومراقبته يوم أن قدر على المعصية, وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه, بعد أن اشتاق إليها طويلاً وراودها كثيرًا وحاول فأعيته المحاولة, حتى إذا أمكنته الفرصة واستطاع أن يصل إلى شهوته وينال لذته خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فارتعد القلب واقشعر الجلد, ووجفت النفس وتذكر مراقبة الله تعالى فوقه، فقام عنها, وهي أحب الناس إليه وترك المال الذي أعطاها.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
ودعا الثالث فتوسل بعمل صالح قربه, وهو الصدق والأمانة حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم, وبقي واحد لم يأخذ أجره فنمّاه وضارب فيه, فإذا عبيد وماشية وثمر.
ثم جاء الأجير بعد زمن طويل يقول: أعطني حقي.
لقد كان يستطيع أن يقول: هذا حقك أصوعٌ من طعام, ولكنه كان أمينًا غاية الأمانة, نزيهًا غاية النزاهة, فقال: حقك ما تراه, كل هذا الرقيق, وكل هذه الماشية, كلها لك, فكانت مفاجأة لم يستوعبها عقل هذا الأجير الفقير, فقال: "اتق الله ولا تستهزء بي" فقال: يا عبد الله إني لا أستهزء بك, إن هذا كله لك, فاستاقه جميعًا, ولم يترك له شيئًا.
((اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه)).
وتنامت دعواتهم, وتنامت مناجاتهم، فإذا الشدة تفرج والضيق يتسع, وإذا النور يشع من جديد فيخرجون من الغار يمشون [2].
وأما رسول الله فيقول: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
التعرف على الله بالتزلف إليه بالنوافل والقربات في حال الرخاء.
وكما كشف عن الأفراد كروب وفرجت شدائد, لأنهم عرفوا الله في الرخاء, فكذا تفرج عن الأمة كروب وتنفس عنهم شدائد إذا عرفوه في الرخاء.
أما طاف الأحزاب بالمدينة وهم عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف, وكانت شدة فرجت عن قوم عرفوا الله في الرخاء، فأرسل الله الريح فاقتلعت الخيام, وكفأت القدور, وإذا بالجيش يرتحل من غير نزال ولا قتال.
أمَا نزل التتار حول دمشق فطوقوها كما يطوق اللجام رأس الفرس, فما خرج إليهم جيش ولا احتشدت أمامهم حشود الجنود، ولكن أنزل الله الجليد وكثر عليهم الثلج وكأنما يقول لهم: لا مقام لكم فارجعوا [الأحزاب: 13].
ونحن اليوم نعيش شدة تعيشها الأمة, تدكها دكًا. فنعرف أن الأمة اليوم تدفع الثمن الباهظ ثمن غفلة طويلة ونسيان لله, وطول صدود عنه, فها نحن ندعو في الشدة, ندعو في الشدة, ندعو في الشدة, ولكن طالما أطلنا التفريط في الرخاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين.
[1] رواه أحمد في المسند ح (2800).
[2] قصة أصحاب الغار رواها البخاري ح (2272)، ومسلم ح (2743).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة المؤمنون:
إن الشدائد في طريقنا لن تخطئنا, ولن نخطئها, وإن خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء.
والصحة رخاء, الشباب رخاء, المال رخاء, الأمن رخاء, الفراغ رخاء, القوة رخاء, فهل نعرف الله في هذا الرخاء.
وأما الشدائد فقد تخطئنا شدة الفقر, فلا نفتقر, وقد تخطئنا شدة المرض فلا نمرض, ولكن لن تخطئنا الشدة التي لا أشد منها, هل يخطئنا الموت؟! وهل أشد منه؟ وهل كرب أعظم منه؟ ولكنها شدة تفرج بمعرفة الله في الرخاء, وإن ربنا أكرم وأرحم وأبر من أن يخذل عبدًا عند ذل ذلك المصرع، وهو قد تعرف عليه حال الرخاء إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [فصلت: 30].
قال بعض السلف: يدخل هؤلاء الجنة, وإن لذة الفرحة لا تزال في قلوبهم يوم بشروا عند الموت بالجنة.
أمامنا شدة لن تخطئنا ولن نخطئها, أمامنا شدة القبر, وشدة الحشر, وشدة العرض, وشدة المنقلب إما إلى جنة وإما إلى نار.
هذه شدائد نحن أحوج ما يكون إلى أن يعرفنا الله فيها.
إن من عرف الله في الرخاء يدخل الجنة, ويقول عند دخولها: إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [الطور: 28].
أما المعرضون عن ربهم في الرخاء فيعرضون على النار ويقال لهم: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون [الأحقاف: 20].
يا عبد الله:
((احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده أمامك, تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).
(1/1499)
غزوة الأحزاب
سيرة وتاريخ
غزوات
مازن التويجري
الرياض
23/5/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليهود يستنفرون قريشاً ويستعدونها على المسلمين. 2- خروج أحزاب مختلفة من العرب
لقتال المسلمين. 3- فكرة حفر الخندق وشروع الصحابة في تنفيذها. 4- ذكر بعض ما جرى
أثناء حفر الخندق. 5- مناوشات حول الخندق. 6- غدر يهود بني قريظة. 7- نعيم بن مسعود
يوقع بين الأحزاب. 8- الريح تهزم قريش وحزبها.
_________
الخطبة الأولى
_________
وهدأت الأوضاع بعد غزوة أحد، ولكن ثمة عصبة من شرذمة يهود، غاضهم هذا السلام وتورمت قلوبهم خنقًا وغيضًا بعد أن أجلاهم رسول الله إلى خيبر، لتبدأ مسيرة الظلام والصدّ عن سبيل الله، فخرج عشرون رجلاً من زعماء اليهود وساداتهم إلى قريش بمكة يحرضونهم على قتال محمد وأن لهم النصر والتأييد، فأجابتهم قريش، ثم خرج هؤلاء اليهود حتى أتوا غطفان ودعوهم إلى ما دعوا إليه قريش فأجابوهم، وهكذا خرجت من الجنوب قريش وكنانة وحلفاؤهم وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، وخرجت من الشرق قبائل غطفان، واتجهت هذه الأحزاب نحو المدينة، وبعد أيام تجمع جيش عرمرم قوامه عشرة آلاف مقاتل، ربما زاد عدده على أهل المدينة كلهم بشبابهم وشيوخهم، ونسائهم وصبيانهم.
وبلغ النبي تحرك الأحزاب، فاستشار أصحابه، فأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال يا رسول الله: إنا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنًا علينا. فاستحسن رسول الله الرأي، وكان أمرًا لم تعرفه العرب من قبل.
وكانت المدينة تحيط بها الحرات ـ وهي الحجارة السود ـ من الشرق والغرب والجنوب، فأمر أن يحفر الخندق من جهة الشمال وكان طوله نحو ميل، ووكل إلى كل عشرة أن يحفروا أربعين ذراعًا، أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
((اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة))
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا [1]
وعند البخاري كذلك عن البراء بن عازب قال: رأيته ينقل تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل من التراب ويقول:
((اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الآلي قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا))
ثم يمد بها صوته بآخرها [2].
وقد أصاب الناس من الجوع والبر ما أصابهم، قال أبو طلحة كما عند الترمذي: شكونا إلى رسول الله الجوع فرفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله عن حجرين [3].
وقد لاحت في حفر الخندق أعلام للنبوة كثيرة منها ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله أنه لما رأى ما في النبي من التعب والجوع، ذبح بهيمة وطحنت امرأته صاعًا من شعير ثم التمس من رسول الله سرًا أن يأتي في نفر من أصحابه، فقام النبي بأهل الخندق وهم ألف فأكلوا من ذلك الطعام وشبعوا، وبقيت برمة اللحم تغط به كما هي، وبقي العجين يخبز كما هو، وجاءت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر إلى الخندق ليتغذى أبوه وخاله، فمرت برسول الله فطلب منها التمر وبدده فوق ثوب، ثم دعا أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه وجعل التمر يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه يسقط من أطراف الثوب.
وروى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: ((أنا نازل)) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر فأخذ المعول فضرب فعاد كثيبًا أهيل أو أهيم [4] ـ أي صار رملاً لا يتماسك.
وروى أحمد عن البراء قال: لما كان يوم الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول، فاشتكينا ذلك لرسول الله ، فجاء وأخذ المعول فقال: ((بسم الله ثم ضرب ضربة وقال: الله، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر فقال: الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني)) [5].
وأقبلت قريش في أربعة آلاف فنزلت بمجتمع الأسيال، وغطفان ومن معهم في ستة آلاف حتى نزلوا إلى جانب جبل أحد، وخرج رسول الله في ثلاثة آلاف من الصحابة فتحصنوا بالخندق بينهم وبين المشركين، وكان شعارهم "حم لا ينصرون" ولما هم المشركون بمهاجمة المسلمين فوجئوا بالخندق أمامهم فقال أبو سفيان: هذه مكيدة ما عرفتها العرب، وأخذ المشركون يدورون حول الخندق غضابًا يبحثون فيه عن منفذ يقتحموا فيه نحو المسلمين، وكره فوارس قريش أن يقفوا موقف المتفرج، فخرجت منهم جماعة فيها عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم، فتيمموا مكانًا ضيقًا من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها، ودعا عمرو إلى المبارزة، فانتدب له علي بن أبي طالب فاقتحم عمرو عن فرس فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي فتجاولا وتصاولا، حتى قتله علي رضي الله عنه، وانهزم الباقون والرعب يملأ قلوبهم، والوهن يفت عزيمتهم.
وحاول المشركون اقتحام الخندق أو بناء طريق فيه، فلم يمهلهم المسلمون بل كافحوا مكافحة شديدة ورشقوهم بالنبل، ففي الصحيحين عن جابر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما جاء يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش، فقال يا رسول الله، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال النبي : ((والله ما صليتها)) فنزلنا مع النبي بطحان، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب" [6] وفي هذا يتبين شدة الموقف وحراجته، وطول الحصار الذي دام قرابة الشهر فقال النبي : ((ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)) [7].
الله أكبر... يتحسر على فوات وقتها، وهم معذورون يجالدون العدو، ويذودون عن حياض الدين، فعجبًا لمن يقرع النداء مسامعه في كل حين، فيبقى حبيس الكسل والغفلة، معرضًا عن نداء ربه، منشغلاً بملذات الدنيا وشهواتها.
وبقي الخندق حائلاً بين الجيشين لم يجر بينهما قتال مباشر، بل اقتصروا على المراماة بالنبل وقد قتل من جراء ذلك ستة من المسلمين وعشرة من المشركين وفي هذه المراماة رُمي سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم فقطع منه الأكحل فدعا سعد: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحدٌ أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بينا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم، حتى أجاهدهم فيك وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة).
في هذه الأثناء انطلق كبير مجرمي يهود بني النضير حيي بن أخطب إلى ديار بني قريظة، فأتى كعب بن أسد القرظي سيدهم، وكان قد عاقد رسول الله على أن ينصره إذا أصابته حرب، فضرب حيي عليه الباب، فأغلقه كعب دونه، فما زال يكلمه حتى فتحه فقال حيي: إني قد جئتك يا كعب بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال من ردمه، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه.
فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق، ليس فيه شيء، ويحك يا حيي فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقًا ووفاءً فلم يزل به حتى أعطاه عهدًا من الله وميثاقًا: لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب عهده وبرئ مما كان بينه وبين المسلمين ودخل مع المشركين.
وهكذا فعل جد اليهود الأول حربًا لله ولرسوله، والذي لابد أن يعلم ويربى عليه أبناء الأمة الواحدة درسًا من واقع الحياة وأحداث السيرة أن الكلاب لا تلد إلا الكلاب، وأبناء الأفاعي كأمهاتهم لا تجيد إلا لغة المراوغة والخداع ونفث السم في صف الأمة الوسط.
ألا فليعلم جهال المتعلمين من بني قومنا أن الكفر ملة واحدة لا فرق فيه بين يهودي ونصراني أو وثني.
وبدأت يهود بني قريظة بعمليات الحرب، مر رجل منهم فجعل يطوف بالحصن الذي فيه النساء والذراري، فرأته صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله فشدت على وسطها ثم أخذت عمودًا، ونزلت من الحصن، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن، وبهذا ظن اليهود أن للمسلمين ظهرًا فلم يقربوهم، وهنا دب الرعب في قلوب بعض المؤمنين حين علموا بنقض بني قريظة العهد فأمامهم جيش عرمرم لا يستطيعون الانصراف عنه، وبنو قريظة خلفهم لا يؤمن من هجومهم على نسائهم وذراريهم حتى قال المنافقون: كان محمدًا يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وقال بعضهم: إن بيوتنا عورة من العدو، فاذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج المدينة، وهمت بنو سلمة بالفشل، وكان حالهم كما حكى الله عن موسى وقومه حين أدركهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا والبحر من أمامهم قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء: 61 ـ 62].
[1] رواه البخاري ح (2834)، ونحوه في مسلم ح (1805).
[2] رواه البخاري ح (4106)، ومسلم ح (1803).
[3] رواه الترمذي ح (2371).
[4] رواه البخاري ح (4101).
[5] رواه أحمد ح (18219).
[6] رواه البخاري ح (596) ومسلم ح (631).
[7] رواه البخاري ح (6396)، ومسلم (627).
_________
الخطبة الثانية
_________
وأما رسول الله فتقنع بثوبه حين أتاه غدر قريظة ثم نهض وهو يقول: ((الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين)) [1] ، أي بفتح الله ونصره، وأرسل إلى المدينة من يحرسها، ثم أراد أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفوا فاستشار السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا: يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعًا وطاعة، وإن كان شيء تصنعه لنا فلا حاجة لنا فيه لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بيعًا فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف، وصّوب رأيهما وقال: إنما هو شيء أصنعه لكم لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة.
في هذه الأثناء يسر الله أمرًا وهيأه، أن أسلم نعيم بن مسعود رضي الله عنه فجاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت فقال رسول الله : ((إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)) [2] فذهب إلى بني قريظة وكان عشيرًا لهم في الجاهلية فدخل عليهم وقال: قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت, قال: فإن قريشًا ليسوا مثلكم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهروكم عليهم، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن أصابوا فرصة انتهزوها، وإلا لحقوا ببلادهم وتركوكم ومحمدًا فانتقم منكم، قالوا: فما العمل يا نعيم. قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: أشرت بالرأي.
ثم مضى نعيم إلى قريش وقال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم، قال: إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم، ثم ذهب إلى غطفان فقال: مثل ذلك.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس للهجرة بعثوا إلى اليهود: أنا لسنا بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف فانهضوا بنا حتى نناجز محمدًا، فرد اليهود أن اليوم يوم سبت، ومع هذا فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا إلينا رهائن، فقالت قريش وغطفان: صدقكم والله نعيم. فأبى المشركون فقالت يهود: صدقكم والله نعيم فتخاذل الفريقان، وخارت عزائمهم.
وكان المسلمون يدعون: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، وكان النبي يدعو: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)) [3].
وسمع الله دعاء نبيه والمسلمون وأرسل الله عليهم الريح فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدرًا إلا كفأتها، ولا طنبًا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وأرسل جندًا من الملائكة يزلزلونهم، ويلقون في قلوبهم الرعب، فرحلوا لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال. ثم توجه إلى قريظة فقتل رجالهم وسبى نساءهم بحكم سعد بن معاذ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرًا إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارًا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرًا ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولاً قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذًا لا تمتعون إلا قليلاً قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءًا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليًا ولا نصيرًا [الأحزاب:9ـ17]. إلى أن قال سبحانه: ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا [الأحزاب: 25].
[1] رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة ابن هشام (3/222).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة ابن هشام (3/228).
[3] رواه البخاري ح (2933)
(1/1500)
غزوة حنين
سيرة وتاريخ
غزوات
مازن التويجري
الرياض
21/6/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قبائل الطائف تستعد لغزو النبي صلى الله عليه وسلم. 2- استبشار النبي بالنصر. 3- طلب
مسلمة الفتح أن يكون لهم ذات أنواط. 4- هزيمة المسلمين أول المعركة. 5- كرة الصحابة
بعد فرارهم. 6- توزيع غنائم حنين على الأعراب ومسلمة الفتح. 7- وجد الأنصار في أنفسهم
على النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد أن تم فتح مكة العظيم حيث أذعنت عامة قبائل العرب عدا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة كثقيف وهوازن وغيرها, اجتمعت ورأت من نفسها عزًا وأنفة أن تقابل انتصار المسلمين في مكة بالخضوع, فقادها مالك بن عوف النصري, وقرر المسير إلى حرب المسلمين, وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم حتى نزل بأوطاس, وفيهم دريد بن الصمة وكان شيخًا كبيرًا, ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب, فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس, قال: نعم مجال الخيل, لا حزن ضرس, ولا سهل دهس, مالي أسمع رغاء البعير, ونهاق الحمير, وبكاء الصبي, ثغاء الشاء ؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم, فدعا مالكًا وسأله عما حمله على ذلك, فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فقال: رأي ضأن والله, وهل يرد المنهزم شيئًا؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه, وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك, يا مالك: إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا, ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم, ثم الق الصباة على متون الخيل, فإن كانت لك لحق بك مَن وراءك, وإن كانت عليك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك, ولكن مالك بن عوف قال: والله لا أفعل, إنك قد كبرت وكبر عقلك, والله لتطيعني هوازن, أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري, وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي, فقالوا: قد أطعناك.
وجاءت العيون إلى مالك بن عوف قد تفرقت أوصالهم, قال: ويلكم, ما شأنكم, قالوا: رأينا رجالاً بيضًا على خيل بلق, والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى.
ونقلت الأخبار بمسير العدو إلى رسول الله , فبعث أبا حدرد الأسلمي, وأمره أن يدخل في الناس, فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم, ثم يأتيه بخبرهم.
ففعل, وفي السادس من شوال سنة ثمان من الهجرة, غادر رسول الله مكة في اثني عشر ألفًا من المسلمين, عشرة آلاف ممن كانوا معه في فتح مكة, وألفان من أهل مكة, وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام, واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها, واستعمل على مكة عتاب بن أسيد.
ولما كان عشية جاء فارس, فقال: إني طلعت جبل كذا, فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشأنهم, فتبسم رسول الله وقال: ((تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء الله)) [1].
إنه الدرس العظيم, في الرضا عن الله, والاستبشار بنصر الله, وإعلاء جنده وحزبه, إنه الفأل الحسن مقرونًا بفعل السبب وبذل الوسع, إنه الدرس العظيم في صدق التوكل على الله, والإيمان بموعوده وفتحه.
وفي طريقهم إلى حنين رأوا سدرة عظيمة خضراء يقال لها: ذات أنواط, كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم, ويذبحون عندها ويعكفون, فقال بعض الجيش لرسول الله : اجعل لنا ذات أنواط, كما لهم ذات أنواط, فقال: ((الله أكبر, قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة, قال: إنكم قوم تجهلون, إنها السنن, لتركبن سنن من كان قبلكم)) [2].
وهكذا كان لزامًا على أهل الحق والدعوة أن يعلموا أن أساس الأمر هو توحيد الله, فكل شيء يغتفر في أخطاء الناس إلا ما كان من أمر التوحيد والعقيدة, فالنبي لم يترك هذه المقالة تمر مر الكرام؛ حيث أن القوم حديثو عهد بكفر, بل نبه وأغلظ في القول, لأن هذا الأمر لا يقبل المساومة وأنصاف الحلول, ومن هنا يعلم خطأ أولئك المجتهدين الذي يعرضون صفحًا عن تصحيح العقائد ومحاربة الشركيات خوفًا من نفور المدعو ومجابهته, فتراهم يقفون معهم عند قبورهم يتمسحون بها فلا ينكرون ولا يزجرون, كل هذا تأليفًا للقلوب وتقريبًا للحق, يا هؤلاء, الحق واضح أبلج, ورافع لواء الحق لا يساوم في مسائل كهذه, فأين الإتباع أيها المدعون.
وقد قال بعض المسلمين لما نظر إلى كثرة الجيش: لن نغلب اليوم, فشق ذلك على رسول الله , نعم ولم لا يشق وسنن الله في أرضه أن النصر لا يقاس بعدد وعدة, وإنما هو هبة الله, وإلا متى قاتل المسلمون أعداءهم على مر العصور بعدد أكثر وعتاد أعظم, إنه التوفيق والتوكل, وصدق التعلق بالله, لا بالدنيا, ومادياتها.
وانتهى الجيش الإسلامي إلى حنين ليلة الأربعاء لعشر خلون من شوال, وكان معسكر الكفار بقيادة مالك بن عوف قد سبقهم, فأدخل جيشه في ذلك الوادي ليلاً, وفرق كمناءه في الطرق والمداخل والشعاب والمضايق, وأمرهم أن يرشقوا المسلمين أول ما يطلعوا, ثم يشدوا شدة رجل واحد, وبالسَحَر عبأ رسول الله جيشه, وعقد الألوية, وفي حماية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين وشرعوا ينحدرون فيه, وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق الوادي, فبينما هم ينحطون إذا بالنبال تمطرهم, وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد.
فقفل المسلمون راجعين, لا يلوي أحد على أحد, وكانت هزيمة منكرة, حتى قال أبو سفيان رضي الله عنه وهو حديث عهد بإسلام: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر الأحمر, وصرخ جبلة بن الجنيد: ألا بطل السحر اليوم, وانحاز رسول الله جهة اليمين, وهو يقول: ((هلموا إليَّ أيها الناس, أنا رسول الله, أنا محمد بن عبد الله)) [3] , ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين وأهل بيته, وظهرت شجاعته عليه السلام فطفق يركز بغلته قِبَل العدو وهو يقول:
((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب))
بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان أخذا بلجام بغلته, والعباس بركابه, يكفانها أن لا تسرع, ثم دعا عليه السلام: ((اللهم أنزل نصرك)) [4].
وأمر عليه السلام عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي الصحابة فقال بأعلى صوته: أين أصحاب السمرة, قال العباس: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أوادها, فقالوا: لبيك: لبيك, ويذهب الرجل يثني بعيره فلا يقدر عليه, فيأخذ درعه, فيقذفها في عنقه, ويأخذ سيفه وترسه, ويقتحم عن بعيره, ويخلي سبيله فيؤم الصوت حتى إذا اجتمع إليه مائة منهم استقبلوا الناس واقتتلوا ثم نادى الأنصار, يا معشر الأنصار, يا معشر الأنصار فتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة, وتجالد الفريقان مجالدة شديدة, ونظر رسول الله إلى ساحة القتال وقد استحر واحتدم, فقال: ((الآن حمي الوطيس)) [5] , ثم أخذ قبضة من تراب الأرض, فرمى بها في وجوه القوم, وقال: ((شاهت الوجوه)) [6] , فما خلق الله إنسانًا إلا ملئ عينيه ترابًا من تلك القبضة فلم يزل حدهم كليلاً وأمرهم مدبرًا, وما هي إلا ساعات قلائل حتى انهزم العدو هزيمة منكرة وقتل من ثقيف وحدهم نحو السبعين وقام المسلمون بمطاردة فلول جيش العدو المتفرقة في نخلة وأوطاس فقتلوا دريد بن الصمة وغيره، ومعظم المشركين تجمعوا في الطائف.
وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرون ألفًا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة، أمر عليه السلام أن تجمع ثم حبسها بالجعرانة وجعل عليها مسعود الغفاري، ثم توجه والمسلمون بنفسه إلى حصن الطائف فحاصروه مدة بين العشرين إلى الأربعين يومًا وقعت فيه مرامات ومقاذفات بالنبل من المشركين فقتل اثنا عشر رجلاً من المسلمين وأصيب آخرون، ونصب المنجنيق على أهل الطائف، ونادى منادي رسول الله أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً فيهم أبو بكرة، ولما طال الحصار وكان أهل الحصن أعدوا ما يكفيهم لسنة كاملة استشار عليه السلام نوفل بن معاوية البديلي فقال: هم ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس: إنا قافلون غدًا إن شاء الله ولما ارتحلوا واستقلوا قال: قولوا: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون. وقيل يا رسول الله: ادع على ثقيف فقال: ((اللهم اهد ثقيفًا وآت بهم)) [7].
ثم عاد للغنائم الجعرانة وكان في السبي الشيماء بنت الحارث السعدية، أخت رسول الله من الرضاعة فلما جئ بها إليه عرفها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ثم منّ عليها وردها إلى قومها. ثم مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، ويتأنى بها، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين، فيحرزوا ما فقدوا ولكنه لم يجئه أحد فبدأ بقسمة المال، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة، أعطى أبا سفيان أربعين أوقية ومائة من الإبل فقال: ابني يزيد، فأعطاه مثلها فقال: ابني معاوية فأعطاه مثلها، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى، فأعطاه إياها وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل ثم مائة ثم مائة. وأعطى الحارث بن الحارث بن كلدة مائة من الإبل وكذلك أعطى رجالاً مائة مائة وآخرين خمسين خمسين، وأربعين أربعين حتى شاع في الناس أن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال: ((أيها الناس ردوا عليّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جبانًا ولا كذابًا)) ، ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة، فجعلها بين إصبعه ثم رفعها فقال: ((أيها الناس، والله ما لي من فيئكم، ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)) [8].
أيها المؤمنون: أترون فيمن لاحق رسول الله يريد المال أبا بكر أو عمر؟ أترون فيهم ذا النورين أو علي، أيلاحق أهل الشجرة المال وهم من بايع على بذل النفس، أينشد أهل بدر وهم خير الناس مالاً أو نعمًا لا والله وحاشاهم، إنهم من تعلقت قلوبهم بالآخرة وعلموا أنها معبر فرحها إلى حزن، وغناها إلى فقر، وعزها إلى ذل، فكيف تطيب لمؤمن صادق، ألا فهكذا فلتكن نفوس أهل الإيمان والدعوة، تعلقها بربها، سؤالها لربها، توكلها على خالقها، تعلم أنه المحيي المميت، الخالق الرازق فأنى لها أن تذل لغيره أو تسأل سواه، ثم أعطى عليه السلام المشاركين من الرجالة والفوارس.
[1] أخرجه أبو داود ح (2501).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته سيرة ابن هشام (4/442) ونحوه في الترمذي ح (2180) وأحمد ح (21390).
[3] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/443).
[4] روى بعضه البخاري ح (3042)، ومسلم ح (1776).
[5] رواه مسلم (1775).
[6] رواه مسلم ح (1777).
[7] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/488)، نحوه في الترمذي ح (3942) وأحمد ح (14292).
[8] رواه النسائي في سننه ح (3688)، وأحمد ح (6690).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبادئ الأمر لم يفهم مقصود النبي فأطلقت ألسنة شتى بالاعتراض، وكانت الأنصار ممن حرموا أعطية حنين، روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله ما أعطى من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوا في أنفسهم وكثرت فيهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟)) قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) فجمع الأنصار فأتاهم رسول الله ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم)) قالوا: بلى الله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل، قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدقتم، أتيتنا مُكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا [1].
الله أكبر، والله ليست أعظم من مال حنين فحسب، بل أعظم من الدنيا وما فيها، حين يعود الناس بالشاة والبعير ويعود الأنصار بخير البشر، وخليل الله، يعودون بالشفيق الرحيم، يعودون بمن تفديه الآباء والأمهات وهو يدعو: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين [التوبة: 25 ـ 26].
[1] رواه أحمد ح (11322).
(1/1501)
فتح مكة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, غزوات
مازن التويجري
الرياض
14/6/1420
جامع حي النزهة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قريش تنقض شروط صلح الحديبية. 2- أبو سفيان يحاول تجديد الصلح. 3- قصة كتاب
حاطب إلى قريش. 4- إسلام أبي سفيان بن الحارث. 5- رسول الله يفتح مكة. 6- بعض ما
جرَ من بعد فتح مكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كان من بنود غزوة الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه, ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه, وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءًا منه, فأي عدوان عليها هو عدوان على من دخلت في عهده وعقده.
ودخلت خزاعة في عهد النبي , ودخلت بنو بكر في عهد قريش, وقد كانت الحروب والعداوات بينهما منذ غابر الأزمان, فأضحت كل واحدة في أمن من الأخرى, ولكن حصل غدر من بني بكر, فخرج نوفل بن معاوية في جماعة معه في شهر شعبان للسنة الثامنة من الهجرة فأغاروا على خزاعة ليلاً, وهم على ماء يقال له الوتير, فأصابوا منهم رجالاً, وتناوشوا واقتتلوا, وأعانت قريش بني بكر بالسلاح, بل وقاتل رجال منهم مع بني بكر مستغلين ظلمة الليل, حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فقالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم: إلهك إلهك. فقال: لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم, فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم, أفلا تصيبون ثأركم فيه.
وانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله في المدينة مستغيثًا ومستنجدًا فقال له عليه السلام: ((نصرت يا عمرو بن سالم)) ثم عرضت له سحابة من السماء فقال: ((إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب)).
وسرعان ما أحست قريش بخطأها وغدرها, فخافت من عواقبه الوخيمة, فبعثت قائدها أبا سفيان ليجدد الصلح, وقد أخبر رسول الله أصحابه بما ستفعل قريش إزاء غدرتهم فقال: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة, ودخل أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة, فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه, فقال: يا بنية, أرغبت بي عن هذا الفراش, أم رغبت به عني؟ قالت: بل هذا فراش رسول الله , وأنت رجل مشرك نجس, فقال: والله لقد أصابك بعدي شر, ثم خرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يرد عليه شيء, ثم ذهب إلى أبي بكر ليكلم رسول الله فقال: ما أنا بفاعل, ثم أتى عمر فكلمه, فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله , فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به, ثم جاء عليًا فقال: إنك أمس القوم بي رحمًا, وإني قد جئت في حاجة, فلا أرجعن كما جئت خائبًا, اشفع لي إلى محمد, فقال: ويحك يا أبا سفيان, لقد عزم رسول الله على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه, حينها أظلمت الدنيا في عيني أبي سفيان, فعاد أدراجه إلى مكة لم يصب مطلوبه, وبعد ذلك تجهز النبي وأمر الصحابة بالجهاز, وأعلمهم أنه سائر إلى مكة, وقال: ((اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها)) وزيادة في الإخفاء بعث سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن إضم على ثلاثة برد من المدينة في أول شهر رمضان سنة ثمان للهجرة, ليظن الظان أنه يتوجه إلى تلك الناحية ولتذهب بذلك الأخبار [1].
وكتب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشًا, فجعلته في قرون رأسها, ثم خرجت به، وأتى الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث رسول الله عليًا والمقداد فقال: انطلقا حتى تأتيا روضة خاخ, فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش, فانطلقا يسابقان الريح حتى وجد المرأة بذلك المكان, فاستنزلاها, وقالا: معك كتاب قالت: ما معي كتاب, ففتشا رحلها فلم يجدا شيئًا, فقال علي: أحلف بالله ما كذب رسول الله 4 ولا كذبنا, والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك, فلما رأت الجد منه قالت: أعرض, فأعرض, فحلت قرون رأسها فأخرجت الكتاب فدفعته إليهما، فأتيا به رسول الله فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بمسير رسول الله إليهم, فدعا رسول الله حاطبًا, فقال: ((ما هذا يا حاطب؟)) قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله, والله إني لمؤمن بالله ورسوله, وما ارتددت ولا بدلت, ولكني كنت امرأ ملصقًا في قريش لست من أنفسهم, ولي فيهم أهل وعشيرة وولد, وليس لي فيهم قرابة يحمونهم, وكان من معك لهم قرابات يحمونهم, فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنقه, فإنه قد خان الله ورسوله, وقد نافق, فقال رسول الله : ((إنه قد شهد بدرًا, وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) [2] , فذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم أخرجه البخاري.
وهكذا أخذ الله العيون, فلم يبلغ إلى قريش خبر خروج المسلمين إليهم, ولعشر خلون من شهر رمضان للسنة الثامنة من الهجرة غادر رسول الله المدينة متجهًا إلى مكة, في عشرة آلاف من الصحابة, ولما كان في الجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب, وكان قد خرج بأهله وعياله مسلمًا مهاجرًا.
ثم لما كان رسول الله بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية, فأعرض عنهما, لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجر, فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك, وقال علي لأبي سفيان: ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: تا الله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين [يوسف: 91] فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً, ففعل ذلك أبو سفيان فقال له رسول الله : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [يوسف:92]. فأنشده أبو سفيان:
لتغلب خيل اللات خيل محمد
لعمرك إني حين أحمل راية
فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
لكا لمدلج الحيران أظلم ليله
على الله من طردته كل مطرد
هداني هاد غير نفسي ودلني
فضرب رسول الله صدره وقال: ((أنت طردتني كل مطرد)) [3]. فأسلم وحسن إسلامه, ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله منذ أسلم حياء منه, وكان رسول الله يحبه, وشهد له بالجنة.
وواصل رسول الله سيره وهو صائم والناس صيام حتى بلغ الكديد فأفطروا, أفطر الناس ثم واصل حتى بلغ مر الظهران، نزله عشاءً, فأمر الجيش, فأوقدوا النيران, فأوقدت عشرة آلاف نار, وفي الصباح من يوم الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان غادر رسول الله من الظهران إلى مكة, وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بن حرب وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمضيق الوادي عند خطم الجبل, حتى تمر به جنود الله ميراها, ففعل, فمرت القبائل على راياتها, كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: قبيلة كذا, فيقول: مالي ولها حتى نفدت القبائل, فمر به رسول الله في كتيبته الخضراء, فيها المهاجرون والأنصار, لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد, قال سبحان الله يا عباس, من هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار, فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة, ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا, قال العباس: يا أبا سفيان, إنها النبوة, قال: فنعم إذن.
ولما مر رسول الله بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك, فأسرع أبو سفيان بن حرب حتى دخل مكة فصرح بأعلى صوته, يا معشر قريش, هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به, فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن, قالوا: قاتلك الله, وما تغني عنا دارك, قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن, ومن دخل المسجد فهو آمن, فتفرق الناس إلى دورهم وفي المسجد, وتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين, ونزل رسول الله بذي طوى وكان يضع رأسه تواضعًا حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل, وهناك وزع جيشه فجعل على الميمنة خالد بن الوليد, وفيها: أسلم, وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل أخرى, فأمره أن يدخل مكة من أسفلها, وقال: إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصدًا, حتى توافوني على الصفا.
وجعل على الميسرة الزبير بن العوام وكان معه راية رسول الله فأمره أن يدخل مكة من أعلاها من كداء, وأن يغرز رايته بالحجون, ولا يبرح حتى يأتيه, وكان أبو عبيدة على الرجالة ولا سلاح لهم, فأمره أن يأخذ بطن الوادي, حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله.
وتحركت كل كتيبة, فأما خالد فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه, وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد بالخندمة فناوشوهم شيئًا من قتال, فأصابوا منهم اثني عشر رجلاً فانهزم المشركون, وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله الصفا.
وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله بالحجون عند مسجد الفتح, وضرب له هناك قبة, فلم يبرح حتى جاءه رسول الله , ثم نهض رسول الله والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله, حتى دخل المسجد فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه, ثم طاف بالبيت وفي يده قوس, وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا, فجعل يطعنها بالقوس ويقول: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا [الإسراء:81]. قل جاء الحق وما يبدي الباطل وما يعيد [سبأ: 49]. والأصنام تتساقط على وجهها [4].
بأبي أنت وأمي يا رسول الله, كم من صنم في هذا الزمان يرنو إلى قوسك الطاهر, ويراعك النقي ليخر صريعًا على وجهه في الثرى, أصنام الآراء والأفكار المسعورة, أصنام العلمنة والحداثة, أصنام النعيق والتبعية واللهث وراء الغرب الكافر, ألا كم من صنم في هذا الزمان لا يسجد له ولا يتمسح به, لكنه أشد على الإسلام من ألف صنم وحجر.
وكان طوافه على راحلته, فلما أتمه دعا عثمان بن طلحة, فأخذ منه مفتاح الكعبة, فأمر بها ففتحت فدخلها, فرأى فيها الصور, ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام, فقال: قاتلهم الله والله ما استقسما بها قط, ورأى في الكعبة حمامة من عيدان فكسرها بيده, وأمر بالصور فمحيت, ثم أغلق عليه الباب ومعه أسامة وبلال.
وصلى في الكعبة ثم دار في البيت وكبر في نواحيه ووحد الله, ثم فتح الباب, وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع فقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له, صدق وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج, ألا وقتيل الخطأ شبه العمد، بالسوط والعصا، ففيه الدية مغلظة, مأئة من الإبل, أربعون منها في بطونها أولادها, يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء, الناس من آدم, وآدم من تراب, يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات:13]. ثم قال: ((يا معشر قريش, ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا, أخ كريم وابن أخ كريم, قال: ((فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم [يوسف: 92]. اذهبوا فأنتم الطلقاء)) [5].
ثم سأله علي أن يجمع لهم الحجابة مع السقاية, فقال رسول الله : ((أين عثمان بن طلحة؟)) فدعي له فقال له: ((هاك مفتاحك يا عثمان, اليوم يوم بر ووفاء, خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم, يا عثمان: إن الله استأمنكم على بيته, فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف)) [6].
[1] القصة بطولها رواها ابن إسحاق في سيرته (سيرة ابن هشام ح 390 ـ 391).
[2] رواه البخاري ح (3983).
[3] سيرة ابن هشام 4/400 ـ 401
[4] انظر قصة الفتح تمامها في سيرة ابن هشام كما رواها ابن إسحاق (4/400 ـ 405).
[5] رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة ابن هشام (4/412).
[6] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/412).
_________
الخطبة الثانية
_________
وحانت الصلاة, فأمر رسول الله بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة, وأبو سفيان وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة, فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدًا أن لا يكون سمع هذا, فيسمع منه ما يغيظه, فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته, فقال أبو سفيان بن حرب: أما والله لا أقول شيئًا, لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء, فخرج عليهم رسول الله فقال لهم: ((قد علمت الذي قلتم)), ثم ذكر لهم ذلك, فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله, والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا, فنقول: أخبرك [1].
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله في الناس خطيبًا, فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله, ثم قال: ((أيها الناس, إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا أو يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم, وإنما حلت لي ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب)) [2].
ولما تم الفتح قالت الأنصار فيما بينها: أترون رسول الله إذ فتح عليه أرضه وبلده أن يقيم بها, وهو يدعو على الصفا رافعًا يديه, فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله, فلم يزل بهم حتى أخبروه, فقال رسول الله : ((معاذ الله, المحيا محياكم, والممات مماتكم)) [3].
ثم أخذ رسول الله البيعة على الرجال بالسمع والطاعة فيما استطاعوا, ثم أخذ البيعة على النساء فقال: ((أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا, ولا تسرقن)) فقالت هند بنت عتبة: إن أبا سفيان رجل شحيح فإن أنا أصبت من ماله هنات, فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال, فضحك رسول الله وعرفها, فقال: ((وإنك لهند)) قالت: نعم, فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
فقال: ((ولا يزنين)) فقالت: أوَ تزني الحرة؟ فقال: ((ولا يقتلن أولادهن)) فقالت: ربيناهم صغارًا, وقتلتموهم كبارًا, فأنتم وهم أعلم, فقال: ((ولا يأتين ببهتان)) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح, وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق, فقال: ((ولا يعصينك في معروف)) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك, ولما رجعت جعلت تكسر صنمها, وتقول: (كنا منك في غرور) [4].
ثم أقام عليه السلام بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام, ويرشد الناس إلى الهدى والتقى, وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام, ولكسر الأوثان التي حول الكعبة, فكسرت كلها, ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره.
[1] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/413).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/415 ـ 416)، وبعضه في البخاري ح (112).
[3] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/416) والخبر رواه مسلم ح (1780).
[4] رواه الطبري في تاريخه (2/161).
(1/1502)
الداعية المطارد
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نشأة رسول الله بمكة. 2- مكر قريش بالرسول وخروجه من مكة. 3- دروس من الهجرة
النبوية: أ- التوكل على الله. ب- حفظ الله لأوليائه. ج- عالم التضحيات والبذل. د- عام هجري
منصرم. هـ- معية الله لأنبيائه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الجيل الموحد، يا حملة المبادئ، أيتها الكتيبة المقدسة:
نقف هذا اليوم نحيي بملء القلوب والأجفان والأسماع رسولنا ، نحييه في أول العام الهجري، وهو رجل الهجرة الأول، نعيش اليوم مع الأطفال في أيام طرد هو من أطفاله، ونعيش اليوم منعمين في الدور والقصور، في أيام شرد من دوره، ونعيش اليوم مرفهين سعداء، في أيام عاشها هو كلها أسى، وكلها لوعة، يقدم رأسه وروحه من أجل لا إله إلا الله.
إنها الهجرة، وعنوان الخطبة: ((الداعية المطارد)).
طارده أقاربه وأرحامه وأصهاره، فما سبب المطاردة؟ لأنه يحمل مبدأ الإنقاذ، لماذا طورد؟ أمن أجل أنه أتى لينهب الأموال، ويسفك الدماء، ويحتل الأراضي، ويبتز المعطيات؟ لا.. من أجل أنه أتى لينقذ الإنسان، ليخرج الإنسان من الظلمات إلى النور؟
هذا حديث الهجرة، أغلقت فئة أبوابها في وجه الابن البار، وأنذرته في خلال أربع وعشرين ساعة أن يغادرها، ولا يبقى في ساحتها.
عجيب.. ولد في ربوعها، ترعرع في تلالها، شرب ماءها، استنشق هواءها، وتقول له مكة: اخرج، إلى أين؟ لا ندري.
وليتهم تركوه ليخرج سالماً معافى، لكن يريدون أن يخرجون جثة، أو يحبسوه ويقيدوه بالحديد، أو ينفوه من الأرض وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
تخفى قبل أن يذهب.
تخفيت من خصمي بظل جناحه فعيني ترى خصمي وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درت وأين مكاني ما عرفن مكاني
دخل في غرفة علي أو في بيته هو، وطوقه الكفرة الفجرة؛ لأنه يهدد مصالحهم التي بنيت على الظلم، ولأنه يصادر شهواتهم، ولأنه لا يطاوعهم في نزواتهم.
إن أهل الباطل قديماً وحديثاً يرون في حملة المبادئ، وفي رواد الحق، خصماء على طوال الطريق؛ لأنهم يقولون لهم: لا، في كل معصية، وفي كل شهوة، وفي كل نزوة، طوقوا بيته بالسيوف المشرعة، وتحروا متى يخرج ليفتكوا به، وهنا تأتي الشجاعة، ليست الشجاعة التي يبديها الناس، من أجل أراضيهم ومزارعهم ومناصبهم، الأنوف الحمراء التي تغضب للجيوب والبطون، السيوف المسلولة من أجل التراب والطين، أما محمد عليه الصلاة والسلام، فيقدم رأسه من أجل مبدئه، يتحدى الشمس أن تهبط في يمينه، والقمر أن ينزل في يساره، والله لو نزلت الشمس ونزل القمر، ما تزحزح خطوة واحدة، حتى تعلن لا إله إلا الله أصالتها في الأرض.
طوقوه، وأتاه جبريل، أخبره قائلاً: الخصوم خارج البيت، يريدون قتلك، فيقول: إن الله معنا، لله درك، ولله در الشجاعة المتناهية، ولله در الروح العالية:
يا قاتل الظلم ثارت هاهنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
فخرج من البيت بلا سيف، وهم بالسيوف، وخرج بلا رمح، وهم بالرماح والعار، وأخذ حفنة من التراب، فألقى الله النوم عليهم فناموا، وسقطت سيوف الخزي والعار من أيديهم، فخرج ونثر التراب والغبار على رؤوس الفجار، وهو يقول: وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون [يس:9].
نقف اليوم بعد هذا الحدث، بأربعة عشر قرناً لنأخذ دروساً.
أولاً: درس التوكل على الله، وتفويض الأمر له، وصدق اللجأ، فلا كافي إلا الله، يقول سبحانه على لسان أحد أوليائه: وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصيرٌ بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا [غافر:44-45]. ويقول - سبحانه وتعالى - لرسوله: ويخوّفونك بالذين من دونه [الزمر:36].
وكل من دون الله فهو تحته ودونه وعبد له، فلا قيمة له، ولا وزن ولا تأثير.
والناس اليوم يحملون صدق التوكل والانتصار بالله في أذهانهم، لا في حياتهم وتصرفاتهم، إنهم أجبن من كل شيء، وأجبن ما يكون عندما تهدد لا إله إلا الله.
إن قضية الوظائف قد استعبدت البشر، والمناصب، والموائد، والجاهات، والشارات؛ إنها تستبعد الحر الشجاع، فتجعله ذليلاً جباناً، لا يقول كلمة الحق ((تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة)) [1].
إن محمداً عليه الصلاة والسلام؛ أراد أن يبني جيلاً قوياً شجاعاً، يقدم الواحد منهم رأسه لمبدئه، وروحه لمنهجه، ولكن طال الأمد وقست القلوب، وانطمس المنهج، وأصبحت الأمة تعيش خواءً عقدياً، أخوف ما تكون من البشر، انظر إليهم، والله إن البشر عندهم أخوف إليهم من رب البشر، فكم يخافون، كم يجبنون، وكم يصيب أحدهم الزلزلة والرعدة من تهديد بسيط يتعرض لوظيفته، أو لمنصبه، أو لدخله ورزقه، ولا يرزق إلا الله، ولا يخلق إلا الله واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً [الفرقان:3].
إن قصة الهجرة، يتجلى فيها التوكل، كأحسن ما يتجلى في أي صورة وفي أي موقف. يدخل الغار، ويتكرر لنا حديث الغار، ونعيد دائماً حديث الغار؛ لأن أول التاريخ بدأ من الغار، والنور انبعث من الغار، فمن يمنعه عليه الصلاة والسلام، أين موكبه، أين أقواس النصر التي تحف الناس، أين الجنود المسلحة التي تحمي عظماء الناس وكبراءهم، وهم أقل خطراً وأقل شأناً منه، لا جنود، لا حراسة، لا سلاح، لا مخابرات، لا استطلاع.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
فيقول أبو بكر، يا رسول الله والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيتبسم عليه الصلاة والسلام، والتبسم في وجه الموت أمر لا يجيده إلا العظماء، حتى يقول المتنبي يمدح عظيماً، لا يستحق أن يكون جندياً في كتيبة محمد عليه الصلاة والسلام:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم
يتبسم عليه الصلاة والسلام ويقول: ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) [2]. هل يغلب هؤلاء الثلاثة، أم تكون الدائرة على أعدائهم، إذا كان الله ثالثهما، فمن المغلوب؟ من هو الخاسر في الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟ ويقول عليه الصلاة والسلام، لأبي بكر مواسياً له: ((لا تحزن إن الله معنا)) [3] بعلمه - سبحانه وتعالى - وهي معية الحفظ والتأييد والتسديد لأوليائه، المعية التي صاحبت إبراهيم عليه السلام، وهو يهوي بين السماء والأرض، في قذيفة المنجنيق إلى النار، فيقول له جبريل: ألك إليّ حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فكانت النار برداً وسلاماً.
والمعية التي صاحبت موسى راعي الغنم، الذي يحمل عصاه، ولا يجيد اللغة أن ينطقها، ويدخل إيوان الظالم السفاك المجرم فرعون، حرس فرعون أكثر من ثلاثين ألفاً، الدماء تسيل في البلاط الملكي الظالم، موسى يلتفت ويقول: يا رب: إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:5].
فيعلمه الله درس التوحيد والتوكل: لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه:46]. إنني معكما أسمع وأرى. نواصي العباد بيديه، رؤوس الطغاة في قبضته، مقاليد الحكم بيمينه، لا يصرف متصرف إلا بقدرته.
يطارد سراقة محمداً عليه الصلاة والسلام، فلا يلتفت، يقرأ القرآن ولا يلتفت؛ لأن الله معه، يدعو على سراقة، فيصبح سراقة مهدداً بالموت فيقول: يا محمد، اكتب لي أماناً على حياتي، أنت الآن محميّ، وأنا مهدد، بالله لا تقتلني.
فرّ من الموت، وفي الموت وقع!!.
محمد عليه الصلاة والسلام، يتبسم، ويقول: ((يا سراقة، كيف بك إذا سُوّرت بسواري كسرى؟)) أين كسرى؟! إمبراطور فارس، ديكتاتوري الشمال، المجرم السفاك، فيضحك سراقة كأنه ضربٌ من الخيال، هذا يستولي على إمبراطوريات الدنيا!! هذا يلغى مملكة العالم!! وهو لا يستطيع أن ينجو بنفسه.
وبالفعل تم ذلك، ودُكدك الظلم، وفتح الشمال، ورفرفت لا إله إلا الله على الإيوان.
وما أتت بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تسري في نواحيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
الثاني: من دروس الهجرة: أن الله يحفظ أولياءه، نعم يؤذون، ويضطهدون، ويحبسون، ويقدمون رؤوسهم رخيصة لله، ولكن ينتصرون، لأن العاقبة للمتقين: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار [غافر:51-52]. والنتيجة الحتمية، أنهم هم المنتصرون في آخر المطاف، وأن الباطل مهما انتفش، ومهما علا، ومهما كبر، فإنه كما قال سبحانه: فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:15]. الباطل له صولة، والحق له دولة، والعاقبة للمتقين، وتكفل الله أن يحفظ دعائم هذا الدين، والمتمسكين به، والمنضوين تحت لوائه، فمهما تعرضوا له من الإساءات، والاضطهاد والإقصاء، والاستخذاء، فإنه لا يزيدهم إلا إصراراً على مبادئهم، وشمماً وقوة.
الثالث من دروس الهجرة: عالم التضحيات والبذل، تحقق في سيرته، عليه الصلاة والسلام، لكن ما فعلت أنا، وماذا فعل أنت لهذا الدين؟ ماذا قدمنا؟ ومحمد عليه الصلاة والسلام، شغله الشاغل، أنفاسه، خواطره، أفكاره، أمواله، أهله، روحه، لله، يقول في أحد مواقفه: ((والذي نفس محمد بيده؛ لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)) [4].
هاجر من مكة مطروداً، أغلقت مكة أبوابها في وجهه، ووقف في حمراء الأسد، يخاطب مكة، فبينه وبين مكة كلام رقيق مشوق.
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا لا تفارقهم فالراحلون هم
يقول لمكة: ((والذي نفسي بيده إنك من أحب بلاد الله إلى قلبي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) [5]. ثم تدمع عيناه ويذهب، بناته أمامه، يضربن، فلا يستطيع أن يدفع عنهن الظلم، يوضع السلا على رأسه وهو ساجد فلا يتحرك، وهم يضحكون، ثم تأتي فاطمة - رضي الله عنها - فتلقي السلا عن ظهره، فلما قضى رسول الله الصلاة قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليكم بقريش، اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)).
قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر [6] ، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله.
تباع غُرفه في مكة، بعقد يتولاه عقيل بن أبي طالب، أعمامه يكذبونه أمام الناس، يحثى التراب عليه، يطارد بعيداً بعيداً، يشج رأسه، ويدمى أصبعه، وتكسر رباعيته، فيصبر ويحتسب.
يريدون إغلاق صوته، فيزداد الصوت، أقوى، وأعظم، وأعمق، وأأصل، فيصل إلى المدينة فإذا الدنيا تتحدث عنه.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
ولولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب نفح العود
هكذا العظمة، وهكذا الريادة.. وينصت العالم له، ويسمعون كلمته، ويقويه الله بجند من عنده، وتحف به الملائكة.
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاجة ما حادوا وما انكشفوا
سعدٌ وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
إذاً التضحية هكذا، أن تقدم دمك، ومالك، ودموعك، ووقتك للإسلام، وإلا الركعات والتسبيحات، التي يمتن بها كثير من الناس، ولكنهم لا يحترقون على الدين ولا يغضبون لانتهاك محارم إياك نعبد وإياك نستعين، فهؤلاء لا يستطيعون أن يتقدموا معك خطوة، لنصرة لا إله إلا الله، هذا عالم آخر.
الرابع من الدروس: ماذا قدمنا للعام الهجري المنصرم، ذهب من أعمارنا عام، مات فيه قوم، وعاش قوم، واغتنى قوم، وافتقر قوم، وتولى قوم، وخلع قوم، فماذا قدمنا للإسلام؟ ولك أن تتعجب معي، وإن تعجب، فعجب فعلهم في هجرة محمد عليه الصلاة والسلام، أين هي الصحف الصباحية ؟ أين هي الشاشة؟ أين صحفٌ لا تحيي محمداً عليه الصلاة والسلام، كتابها حسنة من حسناته، كتابها متطفلون على مائدته، كتابها أحرار لما أخرجهم من الرقّ؛ رق الوثنية والعبودية لغير الله، بلاد ما أشرقت عليها شمس إلا بدعوته، ولا تحييه!! لا كلمة، ولا عموداً صغيراً، ولا زاوية تحيي المصلح العظيم. والله لقد قرأت أخباراً عن كلاب، حدثت لها وقائع ومصائب في الغرب وترجموا لها، لكن محمداً عليه الصلاة والسلام، لا يجد من يترجم له.
ونقول للكتبة وللمحررين وللنخبة المثقفة - كما تزعم - ولأهل الكلمة، ولأبناء الفكر، لا عليكم وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [محمد:38]. لا عليكم إن بخلتم بأقلامكم على محمد عليه الصلاة والسلام، وعلا صفحاتكم الفنية كواكب الفن وشموس الغناء، فعندنا جيلٌ الآن، أعلن توجهه إلى الله، جيل كتب الهجرة بدموعه، وحفظ المسيرة بقلبه، وأصبح حب محمد عليه الصلاة والسلام، يجري في دمه. عندنا جيل كعدد الذر، كلهم والله يتمنى اليوم قبل غد، أن يقتل في سبيل الله، من أجل مبادئ محمد عليه الصلاة والسلام، هذا أثره عليه الصلاة والسلام علينا، وهذا موقفنا من دعوته ورسالته، تُبحث الأفكار إلا فكره!! وتدرس المناهج إلا منهجه!! ويتكلم عن الشخصيات إلا شخصيته.
ورأيت في صحيفة زاوية، خصّصتها للأعلام والمشاهير ولوفياتهم.
إنهم مشاهير السفك والنهب في العالم؟ مشاهير القتل والإبادة، واستخذاء الشعوب، أما المحرر الأول، أما إنسان عين الكون، أما الرجل الذي أصلح الله به الأمة، فلا كلام، ولا ترجمة!! فبماذا يعتذر هؤلاء أمامه، عليه الصلاة والسلام غداً.
ولا يفهم فاهم، أو يزعم زاعم؛ أني أريد أن ننشئ له عيد هجرة، فالإسلام لا يقر هذا، ولا عيد ميلاد، فالإسلام لا يؤمن بهذا، ولا أن نجتمع في زوايا، وفي خلايا، وفي جوانب، لنرقص كما يرقص المخذولون المتهوكون، بالنشيد والتصفيق، فتحيته ليست هكذا. تحيته؛ أن نطهر بلاده مما طهرها هو، فتكون بلاداً مقدسة، تحيته أن نسير على خطواته، وأن نقتفي منهجه، وأن نضحي لمبدئه، أعظم مما يضحي الثوريون العرب، والماركسيون العرب، والاشتراكيون العرب، للأقزام الملاعين، وللنخبة المخذولين، وللأصنام المبعدين.
تحيتنا له؛ أن نقف مع سنته، وننشرها في الأرض ((بلغوا عني ولو آية)) [7].
((نضر الله امرئً سمع مني مقالة، فوعاها، فأداهما كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع)) [8]. إن عالَم البادية، الذي كان يسجد للحجر ويجمع التمر على صورة صنم، ويصلي له، ويأتي إلى الوثن الذي تبول عليه الكلاب والثعالب، ويدعوه أن يشفي مريضه لهو عالَم ضال.
رب يبول الثعلبان برأسه!! قد ضل من بالت عليه الثعالب
فمن الذي حرر البشرية من هذا؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام؟ وإن العجب العجاب، أن تحتفل جهات متعددة بنظافة البيئة، محاضرة في نظافة البيئة، ومحاضرة في فن السياحة، ومحاضرة في أدب الاصطياف، ولم يبق إلا محاضرة رابعة في بيطرة البقر، وما هو علاج البقر، ومن هم الأبطال الذين يعالجون الأبقار من أمراضها.
علي نحت القوافي من معادنها وما علي إذا لم تفهم البقر
لماذا لم تعد محاضرة بعنوان: أثر رسالته عليه الصلاة والسلام على العالم؟ لماذا لا يأتي هؤلاء المحللون والمنظرون بمحاضرة عن: ((الإسلام وحاجة العالم إليه))، ((نحن والقرآن))، ((ماذا قدمنا للعالم))، ((أثر لا إله إلا الله في حياة الإنسان)) أما هذه المحاضرات التي شبع منها الناس، ومجتها الآذان، وأصبحنا نصاب بغثيان من سماعها وتردادها، فوالله إنها شغل للأقوات، وإنها تسويد للصحف، وإنها مجٌ للأسماع، ورداءة على القلوب.
هذا هو المهاجر الأول، هذا هو الداعية المطارد من أجل مبدئه، وهذه الصحف، وهذه الأقلام، ولكم أن تحكموا: بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره [القيامة:14-15]. يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك [الانفطار:6-7].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه البخاري (7/175).
[2] أخرجه البخاري (4/190).
[3] أخرجه البخاري (4/190).
[4] أخرجه البخاري (1/14) ، ومسلم (2/16) ، رقم (1876).
[5] أخرجه الترمذي (5/679) رقم (3925) وقال: حسن غريب صحيح ، ورقم (3926) وقال : حسن غريب من هذا الوجه.
وابن ماجه (2/1037) رقم (3108) ، والدارمي (2/311) رقم (2510).
[6] أخرجه البخاري (1/131 ، 132) ومسلم (3/1418) رقم (1794).
[7] أخرجه البخاري (4/145).
[8] أخرجه أبو داود (3/322) رقم (3660) ، والترمذي (5/33) رقم (2656) وقال : حديث حسن ، ورقم (2657) وقال : حسن صحيح رقم (2658) ، وابن ماجه (1/85). رقم (231 ، 232) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6763 - 6766).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون:
في مثل هذا الشهر، طورد داعية أول، أخٌ له عليه الصلاة والسلام، نهجهُ نهجه، ومسيرته مسيرته، ودعوته دعوته، إنه موسى عليه السلام: وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً [الفرقان:31].
لا يبعث نبي، إلا وقد هيأ الله طاغية هناك يتربص به، ولا يحمل رائد من رواد الدعوة مبدأ، إلا ويتهيأ له ظالم يرصده، سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، في هذا الشهر خرج موسى مطروداً من مصر، يطارده فرعون المجرم؛ بستمائة ألف مقاتل: فاستخف قومه فأطاعوه [الزخرف:54].
قطيع الضأن، الشعوب التي لا تفهم إلا الخبز، ولا تفهم إلا الأكل، ولا تفهم إلا ثقافة القِدْر والجيب والبطن، تصفق للطاغية، وتحثوا على رأس الداعية، الشعوب المهلهلة، المهترية، المتهالكة من داخل، طاردت موسى، يريدون قتله؛ لأنه يريد أن يحررهم، ويقولون: لا، يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقولون: لا، يريد أن يرفع رؤوسهم، ويقولون: لا، اصطدم بالبحر، الجيش وراءه والموت والبحر أمامه، إلى أين يا رب؟ إلى الله. التفت موسى ودعا، والله قريب وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا [البقرة:186]. بنو إسرائيل ولولوا، الخونة خافوا، الجبناء ارتعدوا، انهارت حوله الكتائب، يا موسى: إنا لمدركون [الشعراء:61]. يتبسم موسى؛ كما تبسم محمد في الغار كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء:62]. قالوا له كما ذكر بعض أهل السير: أين يهديك وفرعون خلفك، والبحر أمامك؟! هذه ورطة لا حل لها، هذا مضيق لا مخرج منه في عرف البشر، قال: كلا إن معي ربي سيهدين ويتلقى الأمر في الحال، لا تتأخر اضرب بعصاك البحر ، بسم الله، ضرب البحر، انفجر البحر، انفلق، ظهر لهم طريق، مشى موسى، ومشى بنو إسرائيل، وأتى المجرم يريد أن يجرب آخر جولة له في عالم الضياع، وفي مصارع الطغاة، والطغاة لهم مصارع؛ إما أن تلعنهم القلوب، وهم يسيرون على الأرض، وهذا مصرع، وإما أن يّشدخون كما شدخ هذا، وهذا مصرع، إما أن يدّخر الله لهم ناراً، وهذا مصرع.
ووصل فرعون وجنوده، ونجي موسى، وقال الله للبحر اجتمع فاجتمع، وكانت نهاية المجرم، دخل الطين في فمه، فلما أصبح في وقت ضائع قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [يونس:90]. فيقول الله: آلآن [يونس:91].
في هذه اللحظة أيها المجرم الخسيس!! بعد أن فعلت من الأفاعيل ما تشيب له الرؤوس، لا، ونجى الله موسى.
والحدث أن الرسول عليه الصلاة والسلام يشارك أخاه في فرحة الفلاح والانتصار، ويشارك زميله في هذا اليوم الأغر، يوم عاشوراء، ولذلك تضامن معه، وتكاتف هو وإياه.
وجد بني إسرائيل، اليهود الخونة الجبناء، في خيبر والمدينة، يصومون عاشوراء، قال: ((ما هذا اليوم قالوا يوم نجى الله فيه موسى قال: نحن أولى بموسى منكم)) [1]. موسى قريبنا، موسى حبيبنا، نحن حملة منهج موسى، لا أنتم يا خونة العالم، ويا حثالة التاريخ، ويا أبناء القردة والخنازير، فصامه وقال عليه الصلاة والسلام عن هذا اليوم، كما في صحيح مسلم: ((إني أرجو من الله أن يكفر السنة الماضية)) [2].
ومن السنة أن تصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده؛ اليوم التاسع والعاشر من هذا الشهر، أو اليوم العاشر والحادي عشر من هذا الشهر، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)) [3] ، فشكر الله لموسى دعوته ومنهجه وبذله وتضحيته، وشكر الله لمحمد عليه الصلاة والسلام، بذله وشجاعته وتضحيته من أجل هذه الأمة، وشكر الله لكل من سار على منهجه عليه الصلاة والسلام، وضحى من أجل مبادئه، وبذل من أجل دعوته، وساهم في رفع رسالته.
أسأل الله أن يجمعنا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وبإبراهيم وبموسى وعيسى، وبالأخيار الطيبين، وبالشهداء الصالحين، وبالأبرار الصديقين، وبالشجعان الباذلين، في مقعد صدق عند رب العالمين.
أيها الناس:
صلوا على الداعية المطارد، والمهاجر الأول، والرسول الأعظم، والهمام الإمام، عليه أفضل الصلاة والسلام، ؛ ما ترقرق الغمام، وما جنح الظلام، وما أفشي السلام، وما كان في قلوبنا وفي أذهاننا إمام، ، ما فاحت الأزهار، وما تمايلت الأشجار، وما تدفقت الأنهار، وما كور النهار في الليل والليل في النهار، ، ما تألقت عين لنظر، وما تحرقت أذن لخبر، وما هتف ورقٌ على شجر، وعلى آله وصحبه.
اللهم انصر دينك، ومنهجك، اللهم اجعله عاماً مباركاً، عاماً ينتصر فيه الدين، وترتفع فيه إياك نعبد وإياك نستعين.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [1].
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
[1] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
[1] أخرجه البخاري (2/251).
[2] أخرجه مسلم (2/819) رقم (1162).
[3] أخرجه مسلم (2/798) رقم (1134).
(1/1503)
الفريضة المهملة (صلاة الجماعة)
فقه
الصلاة
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عمى القلب وعمى البصر. 2- لا عذر حتى للأعمى في التخلف عن صلاة الجماعة.
3- النصوص تأمر بصلاة الجماعة. 4- فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد. 5- حرص
السلف على حضور صلاة الجماعة. 6- حال الخلف وتركهم للجماعات. 7- فهم خبيث سيء
لبيان الشيخ ابن باز في الانتصار للدعاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون:
جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، رجل أعمى فاقد البصر، لكنه نير البصيرة.
وهناك عمىً لا طبّ له ولا دواء، وهو عمى القلب أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكّر أولو الألباب [الرعد:19]. والعمى هنا عمى القلب.
أما الذي وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام، فرجل عميت عيناه، فأبصر بقلبه.
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
وقال آخر:
قلبي زكي وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارمٌ كالسيف مسلول
هذا الرجل الذي وفد على رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان منارة من منارات التوحيد، قتل في المعركة، وقد استثنى الله العميان من حضور المعارك، أما هو فقد باشر القتال، وقتل شهيداً في سبيل الله.
ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله أنا رجل أعمى، وبيني وبين المسجد وادٍ مسيل، وأنا نائي الدار، وليس لي قائد يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي.
فرأى عليه الصلاة والسلام المشقة، رأى العذر واضحاً، فقال: نعم، ثم ولّى الرجل، فانتبه عليه الصلاة والسلام كالذي نسي أمراً ثم تذكره، فقال: علي به، ماذا تذكر عليه الصلاة والسلام؟ ما هو الأمر الذي طرق أحاسيسه، وأعاد الأعمى من أجله ؟ إنها فريضة الجماعة، فقال للرجل: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)) [1] ، وفي رواية: ((لا أجد لك رخصة)) [2].
إنني لا أستطيع أن أرخص لك في ترك الجماعة، ولو كنت أعمى، ولو كان بينك وبين المسجد وادٍ مسيل، ولو لم يكن لك قائد يقودك، ولو كان ما كان، ما دمت تسمع النداء، ويصل إلى قلبك هذا الوعي الرباني، أجب فإني لا أجد لك رخصة.
هذه ذكرى للمتخلفين عن صلاة الجماعة، الذين ألهتهم أموالهم وأهلوهم عن ذكر الله، يجاور أحدهم المسجد ولا يزوره، ولو مرة واحدة في اليوم، ثم بعد ذلك يتشدق بإسلامه، وبعقيدته الصحيحة، وربما ردّ على الدعاة وطلبة العلم!!.
روى أحمد وابن ماجه والحاكم، وصححه عبد الحق الأشبيلي، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((من سمع النداء لم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)) [3].
أخذ المحدثون بهذه الأدلة فأوجبوا صلاة الجماعة، وأخبروا أنها لا تسقط إلا بعذر شرعي؛ من مرض ونحوه.
صف الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه لصلاة العشاء، فوجد الصفوف قليلة، فقام مغضباً وهو يقول: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت بالصلاة فتقام، ثم آمر بحطب فيحتطب، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرّق عليهم بيوتهم)) [4].
وزاد أحمد: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية)) [5].
فقد هم أن يحرّق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم، وهذا من أعظم الزجر على ترك هذه الشعيرة العظيمة.
ورأيت في ترجمة رجل صالح أن صلاة الجماعة فاتته، وما فاتته منذ أربعين سنة، فندم ندماً عظيماً، وتأسف أسفاً بالغاً، ثم قام يصلي وحده، فصلى سبعاً وعشرين صلاة، لأنه سمع حديث النبي : ((صلاة الرجل في جماعة تفضل عن صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) [6]. فصلى الصلاة التي فاتته سبعاً وعشرين مرة، ثم نام، فرأى في المنام خيّالةً يركبون على خيول، عليهم ثياب بيض، ثم رأى نفسه على فرس وحده، يحاول أن يلحق بهم فلا يستطيع، فيضرب فرسه ليدركهم فلا يقدر، ثم التفتوا إليه وقالوا: لا تحاول، نحن صلينا في جماعة، وأنت صليت وحدك!!.
وكان عليه الصلاة والسلام يحثّ الأمة على صلاة الجماعة، وكان الصحابة يعتقدون أنه لا يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
وكان عبد الله بن مسعود يقول: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) [7].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)) [8].
لما حضرت سعيد بن المسيب عالم التابعين الوفاة، بكت ابنته عليه، فقال له: لا تبكي علي يا بنيّة، والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد.
من أربعين سنة، لا يؤذن المؤذن إلا وسعيد بن المسيب في المسجد ينتظر الصلاة، ينتظر النداء ليصلي مع المسلمين.
وكان الأعمش يقول: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة خمسين سنة.
فكيف لو علم هؤلاء الأخيار بالذين يختلسون الصلاة، وينقرونها نقراً، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، كيف لو رأوا الأحياء وقد امتلأت بالسكان، ومع ذلك لا يصلي الفريضة في المسجد إلا الصف والصفّان.
أين هؤلاء الأبناء الثمانية أو السبعة في كل بيت؟ أين الشباب الذين نراهم وقد طفحت بهم السكك والأرصفة؟ أين الأجيال الذين نشاهدهم في النوادي والمدرجات والمنتديات؟
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوتٌ من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العُبّادِ خالي
هذا إقبال شاعر الإسلام، يفتخر بالصحابة الذين فتحوا الدنيا بلا إله إلا الله فيقول:
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
يروى عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي أنه قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)) [9].
نحن شهود الله في الأرض، ولا نشهد بالإيمان إلا لمن يصلي معنا في المسجد كل يوم خمس مرات، أما رجل قريب من المسجد ثم تفوته الصلاة مع المسلمين فلا نشهد له عند الله يوم القيامة.
ما معنى لافتة الإيمان التي يدعيها أقوام، ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة؟ ما معنى الإيمان؟ وما قيمة الصلاة في حياتهم؟ ثم إذا أمرت أحداً من هؤلاء أو نهيته زعم بأنك تتهمه بالنفاق!!.
إن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود : ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
فأي دين لهؤلاء الذين لا يعمرون المساجد؟ وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون؟
أحد المفسرين قال في معنى قوله تعالى: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [الصافات:35]. قال: هي في الذين لا يحضرون الصلاة في الجماعة!!.
فأين الأجيال ؟ وأين شباب الأمة؟ والمساجد خاوية تشكوا إلى الله – تبارك وتعالى-؟
كان عمر الفاروق إذا سمع النداء أخذ درّته فضرب بها الأبواب وقال: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين [القصص:17].
كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله – عز وجل -؟ كيف تفلح أمة لا تقدّس شعائر الله؟ كيف تكون صادقة في الحرب، أو في التعليم، أو في التصنيع، أو في الحضارة، وهي لا تتصل بربها في صلاة فرضها الله عليها؟
لقد اتهم أهل العلم من تخلف عن الجماعة بالنفاق والبعد عن الله – تعالى – وأوجب المحدثون الجماعة، وجعلها بعضهم شرطاً في صحة الصلاة.
فيا عباد الله:
كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، تلكم الأوقات التي أضعناها في الأكل والشرب، والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، يرتفع فيها المؤمنون، ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق.
فحافظوا – رحمكم الله – على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، عمّروا المساجد، وتسابقوا إلى الصفوف الأولى، واعلموا أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم (1/452) ، رقم (653).
[2] أخرجه ابن ماجه (1/260) ، رقم (792). وأحمد (3/423) عن عبد الله ابن أم مكتوم.
[3] أخرجه ابن ماجه (1/260) ، رقم (793) وصححه الألباني كما في صحيح الجامع ، رقم (6300).
[4] أخرجه البخاري (1/158) ومسلم (1/541) ، رقم (251 – 253).
[5] أخرجه أحمد (2/367) وفيه نجيح أبو معشر السندي ، ضعيف.
[6] أخرجه البخاري (1/158) ، ومسلم (1/450) رقم (650).
[7] أخرجه مسلم (1/453) رقم (654).
[8] أخرجه أبو داود (1/150) رقم (547). والنسائي (1/106) رقم (847). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5701).
[9] أخرجه الترمذي (5/285) ، رقم (3093) وقال : حسن غريب ، وابن ماجه (1/263) رقم (802). والدارمي (1/203) رقم (1223) ، وأحمد (3/68 ، 76) ، وضعفه الألباني ، كما في ضعيف الجامع رقم (509).. قلت: لأن في إسناده: درّاج أبو السمح ، ضعيف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المعلم الهادي إلى سواء السبيل، الناطق بالحكمة، والمسدد في الرأي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس:
سمعتم ما بثته وسائل الإعلام من بيان لعالم الأمة الشيخ عبد العزيز ابن باز – حفظه الله – هذا البيان الذي ألهم فيه سماحته وسُدد، وكان البيان بحمد الله ضربة للمنافقين، وإسكاتاً للعلمانيين.
ومن العجيب أن كثيراً من الناس لم يفهموا بيان الشيخ، وحملوه على غير محامله، فمنهم من لم يسمع البيان أصلاً، ومع ذلك فقد علق عليه بحسب ما في ذهنه من هوى، وما في قلبه من مرض، وأخذ يقول في المجالس: سماحة الشيخ يرد على الدعاة، ويهاجم طلبة العلم، ويحذرهم من تكفير المسلمين.
ورأيت في صحيفة عنواناً جانبياً بارزاً تقول فيه: سماحة الشيخ يحذر الدعاة من التكفير والتفسيق والتبديع على رؤوس المنابر!!.
والحقيقة أن هذا ليس بصحيح، فسماحة الشيخ يدافع عن الدعاة في هذا البيان، وينتصر للدعاة في هذا البيان، يذب عن أعراض الدعاة في هذا البيان، فالصراع أصلاً ليس بين الدعاة والعلمانيين أو المستغربين، وإنما كان بين الدعاة البارزين وبين بعض المنتسبين إلى العلم، حيث حذر هؤلاء من الخوض في لحوم الدعاة ووصفهم بالتطرف، فسماحته يدافع عن الدعاة، ويحذر الذين يهاجمونهم من العلمانيين والمستغربين، وأهل الحداثة، هذا ما أراده الشيخ، وهو حي يرزق ما زال على قيد الحياة لمن أراد أن يتثبّت من هذا الكلام.
وإن تعجب فعجب أن يأتي بعض الكتبة، فيكتب تعليقاً على بيان الشيخ وهو لا يدري ما سبب هذا البيان، كما قالت العرب: ساء سمعاً، فساء إجابة، إنه هوى في ونفوسهم، ومرض في قلوبهم، قالوا إن الشيخ يحذر الدعاة من التكفير، فنقول: إننا دعاة أهل السنة والجماعة لم نكفّر مسلماً، ولم نُبدّع سنياً، ولم نحرّم حلالاً، ولم نحلل حراماً؛ لأن من درس الشريعة، وتربى في مدرسة الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، وعبد العزيز ابن باز، سوف يكون سلفياً سنياً من أهل السنة والجماعة، وقد قال سماحته عن هؤلاء الدعاة: وهؤلاء الدعاة من دعاة أهل السنة والجماعة.
فلا بد من التثبت من الأمر وتحقيقه، وتبيّنه على حقيقته، قبل أن نكتب، وقبل أن نعلق، وقبل أن نتهم.
أما هؤلاء الذين علقوا وكتبوا، فإنهم لا يحفظون آية، ولا يعرفون حديثاً، بل لا يعرفون الحديث الصحيح من الموضوع، ولم يقرأوا كتب أهل العلم، ولا يعرفون متى توفي أحمد بن حنبل، ومتى ولد ابن تيمية، وما هي كتب محمد بن عبد الوهاب!!.
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ولا يُستشهدون وهم شهود
إنما هم كما قال عمر لما رأى ناساً يتابعون سارقاً قطعت يده – يحبون الإثارة، تجدهم عند التعليق، عند البيانات، يتكلم أحدهم ويهدر هديراً بلا علم، ولا فقه، ولا وعي – رأى عمر هذه الشلة تتابع السارق، وتنظر ماذا حدث له، فأخذ حفنة من التراب، وضرب بها وجوه هؤلاء السفهاء، وقال: شاهت الوجوه، لا تُرى إلا في الشر.
هؤلاء الذين يعلقون ويكتبون، لم ينهوا عن منكر، ولم يدعوا إلى فضيلة، ولم يذبّوا عن دين، ولم يوضحوا منهجاً، وليس لهم أثر محمود في الأمة، فقط نجدهم عند الإثارات والفتن، يرشقون الدعاة وطلبة العلم بكلماتهم الخبيثة، حقداً وحسداً، وبغضاً ورياءً.
رب من أنضجت حقداً قلبه قد تمنى لي سوءاً لم يطع
ويراني كالشجي في حلقه جلجلاً في حلقه ما ينتزع
فهذا البيان بحمد الله تعالى انتصار للدعاة، وهو وثبة عظمى من سماحة الشيخ يبرئ بها ساحتهم، ويرفع بها صحيفتهم.
وقد ذكر سماحته أيضاً في هذا البيان أن هؤلاء الدعاة لهم قبول وبروز في المجتمع، والحمد لله على ذلك، لأنهم صدقوا مع الله، وأخلصوا النصح للأمة وحملوا مذهب أهل السنة والجماعة، وأرادوا تجديد فكر الأمة أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خير أمن أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جنهم والله لا يهدي القوم الظالمين [التوبة:109].
وقد حذر سماحة الشيخ أيضاً في هذا البيان من التعاون مع العلمانيين والمستغربين فيما يكتبونه وينشرونه بين الناس، والحمد لله، لم يكتب لهم القبول في الأرض إن شانئك هو الأبتر [الكوثر:3]. إن حاضروا، حضر لهم عشرون نفراً، وإن كتبوا، لم يقرأ لهم إلا من كان من جنسهم، وإن تكلموا لم يسمع لهم، وإن طلبوا المحاضرة في المسجد مُنعوا من ذلك، لأن اللغو لا يكون في بيوت الله.
إن ألاعيب هؤلاء لا تخفى على أحد، فكيف تخفى على سماحة الوالد وهو العالم الجليل، والرجل الخبير.
أنا ممن سماحته أنالت وممن درّبت تلك الأيادي
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جذواه راحلتي وزادي
فانتبهوا رحمكم الله، لئلا يستغل ضعاف الأنفس هذا البيان في التشنيع على الدعاة وطلبة العلم، والحمد لله، فإن هؤلاء الدعاة قد درس الواحد منهم الشريعة أكثر من عشرين سنة، أما المعلّقون، المحللون، والمنظرون، فما درسوا ولو سنة واحدة.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، والحفظ والرعاية، وأسأله – سبحانه – أن يصلي ويسلم على رسول الإنسانية، ومعلم البشرية، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(1/1504)
الله.. الله.. الصلاة
فقه
الصلاة
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التهاون في الصلاة. 2- حرص النبي على الصلاة ، والجماعة خصوصاً. 3- حرص
السلف على صلاة الجماعة. 4- الاستعانة بالصلاة على لقاء العدو. 5- حرص عمر على
الصلاة وهو في سكرات الموت. 6- آداب يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون:
يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) [1].
أمره الله أن يقاتل هذا الإنسان حتى يسجد لله، فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أو يترك الصلاة، أو يتنكر للصلاة، أو لا يتعرف على بيت الله، يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن.
هذا الإنسان حين يترك الصلاة، يكون دمه رخيصاً لا وزن له، يسفك دمه، تهان كرامته، يقطع رأسه بالسيف، قيل حداً، وقيل كفراً وهو الصحيح.
يقول الله تعالى عن جيل من الأجيال تهاونوا بالصلاة: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً [مريم:59].
قال أحد السلف: أما إنهم ما تركوها بالكلية، ولكن أخروها عن أوقاتها.
أي إسلام لإنسان يترك الصلاة، أي دين له، ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله، لرجل تؤخره تجارته، أو وظيفته، أو عمله، أو منصبه، أو اجتماعه عن الصلاة، ثم يتبجح بعد ذلك مدعياً أنه مسلم!! إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً [النساء:142].
إنهم يصلون.. لكن صلاة العصر مع غروب الشمس وصلاة الظهر في الساعة الثانية، وصلاة المغرب مع العشاء، وصلاة الفجر مع طلوع الشمس !! فأين الإسلام، وأين لا إله إلا الله، وأين التحمس للدين؟!.
حضرت رسول الله معركة الأحزاب قبل أن تنزل صلاة الخوف فقام يقاتل المشركين، دمه يسيل على الأرض في مخاصمة لأعداء الله، فنسي صلاة العصر حتى غربت الشمس، ما نسيها لأنه كان في لهو أو لعب، حاشا وكلا، بل نسيها من احتدام القتال، اليهود، المشركون.. المنافقون.. عملاء الصهيونية العالمية.. أنسوه صلاة العصر، فلما غربت الشمس قال : ((ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى)) [2] ، ثم قام فصلاها، فأنزل الله – تعالى – صلاة الخوف، يصليها المسلم أثناء القتال، يصليها الذي يقود الدبابة، يصليه الذي يحمل الرشاش، يصليها المريض على سريره، لا يعذر في تركها أحد.
إن تأخير الصلاة عن وقتها، معناه النفاق الصريح الذي وقع فيه كثير من الناس، إلا من رحم ربك، يقول عليه الصلاة والسلام، وهو في سكرات الموت: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) [3] ، فأي دين بلا صلاة، وما معنى الانتساب للإسلام بغير صلاة، يقولون: مسلمون، ولكن لا نصلي، أو نتهاون بالصلاة، أو ننقر الصلاة، فأين الإسلام؟ وأين الصدق مع الله؟ وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم)) [4].
وعند أحمد: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني، يحرقون ما في البيوت بالنار)) [5] لماذا ؟ لأنهم أصبحوا في عداد المنافقين، يتذرعون بالإسلام، ولكن لا يصلون الجماعة مع الناس، ويدّعون لا إله إلا الله، ثم يخرجون الصلاة عن أوقاتها، يسأل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الأعمال فيجيب: ((الصلاة لوقتها)) [6]. ويقول أيضاً: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) [7] ، دمه مسفوك بسيف الشريعة، خارج من الملة، لا طهر له، لا قداسة، لا حرمة، لأنه حارب الله ولم يعظم شعائره، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) [8].
إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، ما دام صحيحاً سليماً، يقول ابن مسعود – -: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) [9].
مرض أحد الصالحين من التابعين، اسمه ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير، فسمع أذان المغرب، فقال لأبنائه: احملوني إلى المسجد، قالوا: أنت مريض، وقد عذرك الله، قال: لا إله إلا الله!! أسمع حي على الصلاة.. حي على الفلاح ثم لا أجيب!! والله لتحملوني إلى المسجد، فحملوه إلى المسجد، ولما كان في السجدة الأخيرة من صلاة المغرب، قبض الله روحه.
قال: بعض أهل العلم: كان هذا الرجل إذا صلى الفجر، قال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قيل له: وما الميتة الحسنة قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد.
نعم هذه هي الميتة الحسنة، أن يتوفاك ربك وأنت في صلاة، أو في جهاد في سبيل الله، أو على طهارة وأنت تقرأ القرآن، أو في طلب العلم، أو في مجالس الذكر.
والميتة القبيحة: أن يتوفاك الله وأنت تستمع إلى الأغنية، أو في سهرة خليعة، أو على كأس الخمر، أو في سفر إلى الفاحشة، أو في مجالس الغيبة، هذه هي الميتة القبيحة التي تعوذ منها الصالحون.
سعيد بن المسيب إمام التابعين، كان يأتي في ظلام الليل، إلى مسجد النبي ، فقال له إخوانه: خذ سراجاً لينير لك الطريق في ظلام الليل، فقال: يكفيني نور الله. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور [النور:40].
وفي الحديث عنه، عليه الصلاة والسلام، ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) [10]. وهل في القيام ظُلم؟ وهل في القيامة ليل؟ إي والله.. ليل أدهى من الليل، وظلمة أدهى من الظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، وللذين انحرفوا عن بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة: انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً [الحديد:13].
كان لسعيد بن المسيب عين واحدة، ذهبت الأخرى، قالوا: من كثرة بكائه في السحر، خشية لله، وكان يذهب بهذه العين الواحدة في ظلام الليل إلى المسجد، وقال في سكرات الموت وهو يتبسم: والله ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد، قبل الأذان، تجد سعيد بن المسيب في المسجد.
لكن أتى أناس، أكلوا نعم الله، وتمرغوا في فضل الله، ولكنهم نسوا حقه وأهملوا شعائره، فأصبحت الصلاة في حياتهم آخر شيء يفكرون فيه، وإلى الله المشتكى.
ودع عمر – - وأرضاه، سعداً إلى القادسية، ثم قال له: يا سعد، أوصي الجيش بالصلاة، الله الله في الصلاة، فإنكم إنما تهزمون بالمعاصي، فأوصهم بالصلاة.
كان الصحابة إذا تلاقت الصفوف، التحمت الأبدان، وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزلت الرؤوس من على الأكتاف، تركوا الصفوف لطائفة، وقامت طائفة أخرى تصلي.
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
حضر أجدادنا حصار كابل – عاصمة أفغانستان – فطوقوها من كل جهة، ولبسوا أكفانهم، لأنهم يريدون؛ إما الحياة في عز، وإما الموت في شرف. قل هل تربّصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون [التوبة:52].
هذه هي غاية المسلم وهذا هو مراده.
فإما حياةٌ نظّم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعادي
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامُنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حادي
وقف أجدادنا يحاصرون كابل، ولما صلوا الظهر، قال القائد العظيم قتيبة بن مسلم، وقد كان قبل المعركة يبكي ويقول: اللهم انصرنا، فإن النصر من عندك، فلما وقف بعد صلاة الظهر، وكان جيشه يقدر بمائة ألف مقاتل، قال: ابحثوا لي عن الرجل الصالح محمد بن واسع أين هو محمد بن واسع؟
لقد حانت ساعة الصفر، ساعة بيع الأرواح، ساعةٌ تفتح فيها أبواب الجنان، ساعة حضور الملائكة، ولا زال القائد يقول: ابحثوا لي عن محمد بن واسع، فالتمسوه، فوجدوه يبكي، وقد اتكأ على رمحه، ورفع إصبعه إلى السماء يقول: يا حي يا قيوم. فأخبروا قتيبة بذلك، فدمعت عيناه، ثم قال: والذين نفسي بيده، لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف مقاتل طرير، وابتدأت المعركة، وحمي الوطيس، وانتصر المسلمون، ولم يصلوا العصر إلا داخل كابل.
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق، إنها العهد بين الإنسان وبين ربه.
ويوم يتركها المرء، أو يتهاون بها، يدركه الخذلان، وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
عباد الله:
إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا.
يقول لقمان عليه السلام لابنه: يا بُني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك [لقمان:17].
فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادى بهن؟ وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة؟ إنها الحياة، ولا حياة بغير صلاة.
لما طعن عمر بن الخطاب في صلاة الفجر، فاتته ركعة واحدة، غلبه الدم، فحمل على أكتاف الرجال، ووصل إلى بيته فلما أفاق قال: هل صليتُ ؟ قالوا: بقيت عليك ركعة، فقام يصلي، فأغمى عليه، ثم عقد الصلاة، فأغمي عليه، ثم قام يصلي، فأغمي عليه، ثم أتم الركعة وقال: الحمد لله الذي أعانني على الصلاة.
فالله الله في الصلاة، من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها، ضيعه الله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون [العنكبوت:45].
فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها؛ بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، وواجباتها، وسننها، علّ الله أن يحفظنا ويرعانا كما حافظنا عليها وعظمناها.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه البخاري (1/11 ، 12) ، ومسلم (1/52) رقم (21).
[2] أخرجه البخاري (3/233) ، ومسلم (1/436) رقم (627).
[3] أخرجه أحمد (6/290 ، 311 ، 315 ، 321) ، وابن ماجه (1519) رقم (1625) ، عن أم سلمة ، في الزوائد: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[4] أخرجه البخاري (1/158)، ومسلم (1/451) رقم (251 ، 252 ، 253).
[5] أخرجه أحمد (2/367) وفي إسناده : نجيح أبو معشر السندي قال ابن حجر في التقريب (2/298) : ضعيف من السادسة ، أسن واختلط.
[6] أخرجه مسلم (1/89) رقم (85).
[7] أخرجه النسائي (1/231) رقم (463) ، والترمذي (5/15) رقم (2621) ، وقال : حديث حسن صحيح غريب ، وابن ماجه (1/342) رقم (1079) ، وأحمد (5/346 ، 355). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع ، رقم (4143).
[8] أخرجه مسلم (1/88) رقم (82).
[9] أخرجه مسلم (1/453) ، رقم (654).
[10] أخرجه أبو داود (1/154) رقم (561). والترمذي (1/435) رقم (223) وابن ماجه (1/256) رقم (781). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع ، رقم (2823).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس:
يوم الجمعة أفضل الأيام عندنا أهل الإسلام، يوم الجمعة عيد لنا، يوم الجمعة تاريخ، وله قصة من أعظم القصص، هذا اليوم خلق الله فيه آدم، وفي هذا اليوم أدخله الله الجنة، وفي هذا اليوم أخرجه الله منها، وفيه تقوم الساعة [1].
وفي هذا اليوم كانت ساعة النزال بين موسى عليه السلام، وبين فرعون عليه اللعنة، أدخله الله بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين الهدى والضلال.
يوم جاء موسى بالتوحيد، وليس معه إلا عصاه، وجاء فرعون بالصولة والصولجان، ومعه دجاجلة الدنيا، وسحرة الدنيا قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضُحى [طه:59]. هذا هو يوم الجمعة في التاريخ.
ولكن ما هو واجب هذا اليوم العظيم علينا؟
إن من المؤسف أن كثيراً من الناس، جعلوا هذا اليوم موسماً للنزهة والخروج، بحيث يضيعون في طريقهم صلاة الجمعة، فلا يحضرون الخطبة ولا يؤدون الصلاة، ولا يتهيئون لهذا اليوم العظيم.
إن الملائكة تقف من الصباح على أبواب المساجد؛ تسجل الأول فالأول، فإذا صعد الخطيب على المنبر، طوت الصحف، وأنصتت لسماع الخطبة.
أما الإنسان فيجعله يوماً للهو واللعب، فيخرج ويترك صلاة الجمعة، ويبارز ربه عز وجل بالمحاربة.
نص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، على أن المسافر إذا حضر صلاة الجمعة في المدينة، فعليه أن يؤديها في المسجد.
المسافر، وهو في حال السفر، ومظنة المشقة، إذا نزل في مدينة تقام فيها الجمعة، عليه وجوباً أن يحضر صلاة الجمعة، ليستمع إلى الخطبة، ويعيش مع المسلمين مشاعرهم وأحاسيسهم.
أيها المسلمون:
يوم الجمعة له علينا واجبات وحقوق منها:
الاغتسال والتطيب: وقد أوجب غسل الجمعة بعض أهل العلم، والجمهور على أنه سنة مؤكدة، وذلك ليتهيأ العبد للقاء الله؛ لأنه عيد، وهو يذكر بيوم العرض الأكبر على الله تعالى.
وكما أنه ينبغي أن نتجمل بالاغتسال والطيب واللباس الحسن، فكذلك ينبغي أن نتجمل بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، كالصدق والأمانة والحلم والمروءة، وأن نتخلى عن الأخلاق الذميمة؛ كالحقد والحسد والغيبة والنميمة وغيرها.
فليس في القيامة ثياب، ولا بشوت، ولا سيارات، ولا كل هذه الزينة الظاهرة، وإنما يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [الحاقة:18].
فالسجل مكشوف، والبدن عارٍ، والضمائر معروضة، وكتابك مفتوح أمام عينيك اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً [الإسراء:14].
ولقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرة [الأنعام:94].
وقالوا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [الكهف:49].
كان عمر بن الخطاب يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله) [2].
فما الفائدة إذا كانت الظواهر جميلة، والبواطن خراب!!.
لبسنا واشياً من كل حسن فما سترت ملابسنا الخطايا
وتلك قصورنا بالعَمْر باتت وتلك قبورنا أضحت خلايا
ومن حقوقها كذلك: التبكير إلى الصلاة، وإتيان المسجد قبل الأذان فليس من المعقول أن يدخل الخطيب المسجد قبل الأذان، ثم يأتي المصلون بعده تباعاً.
يأتي المصلون من بيوتهم بعد صعود الخطيب على المنبر!! بل إن المساجد تبقى فيها الأماكن الكثيرة الخالية من المصلين، وقد أشرف الخطيب على الانتهاء من الخطبة، حتى إذا ما انتهى من خطبته، دخل المتخلفون بلا أجور؛ ليشهدوا الصلاة هكذا مع الناس!!.
فأين الساعة الأولى، وأين الساعة الثانية، وأين المُبكرون.
إن قوماً لا زالوا يتأخرون، حتى يؤخرهم الله فيمن عنده، وإن قوماً لا زالوا يتقدمون، حتى يقدمهم الله فيمن عنده.
وإن بعض الغوغاء ممن لا يفهمون أحكام الله يبيعون ويشترون بعد الأذان الثاني وصعود الخطيب، أيُّ بيع لهم، لا أربح الله تجارتهم!.
الملائكة تنصت للخطبة، والسماء مفتوحة تستقبل الدعاء، وخطباء الأمة الإسلامية الخالدة على المنابر، وقلوب الناس متجهة لسماع الخطيب، والسكينة تغشى الناس، والرحمة تحف بهم، والله يباهي بهم من في السماء.
وهؤلاء اللاهون يبيعون ويشترون ، ويجرحون مشاعر المسلمين ، ويتعدون على حرمة صلاة الجمعة.
فإذا أذن المؤذن، فلا بيع، ولا شراء، ولا تجارة، ولا دنيا، إنما توجه إلى الله تعالى، وإنصات لأحكامه، بل إن الجالس ليس له أن يكلم من بجانبه ولا أن يسلم عليه، قال بعض العلماء: وليس له بعد دخول الخطيب، وبدء الخطبة أن يكلمه، ولو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)) [3]. وزاد بعضهم: ((ومن لغا فلا جمعة له)) [4]. وفي الصحيح: ((من مس الحصى فقد لغا)) [5].
فعليكم بالسكينة أيها الناس، لا تنشغلوا باللعب بالسواك ولا بتهيئة الغترة، ولا بمسك اللحية، وإنما خشوع وسكينة، وتوجه إلى الله الواحد الأحد.
وقد بين النبي فضل ذلك فقال: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام)) [6].
ومن معالم الجمعة كذلك: قراءة سورة الكهف، فقد صح عند الدارقطني والبيهقي: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) [7].
وفي لفظ: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق)) [8].
أيها الناس:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
[1] لفظ الحديث : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة)) أخرجه مسلم (2/585) حديث رقم (854).
[2] ذكره الترمذي في سننه (5/550),
[3] أخرجه البخاري (1224) ، ومسلم (2/583) ، كتاب الجمعة ، حديث رقم (851).
[4] أخرجه أبو داود (1/276 ، 277) رقم (1051) عن علي رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم (2/588) رقم (857).
[6] أخرجه مسلم (2/587 ، 588) رقم (857).
[7] أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد ، وصححه الألباني كما في الإرواء رقم (626).
[8] أخرجه البيهقي في الشعب ، وصححه الألباني كما في الإرواء رقم (626) وانظر صحيح الجامع رقم (6470 ، 6471).
(1/1505)
أول ليلة في القبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أول ليلة في القبر وفراق الإلف. 2- بعض ما قيل في الموت والفراق. 3- قصة وحزن
على فقد من مات. 4- نصيحة أبي العتاهية عن فجأة الموت. 5- دفن ذي البجادين وبكاء النبي
عليه. 6- خوف عمر بن عبد العزيز من الموت. 7- خوف عثمان من الموت. 8- قصة
مؤثرة في موت امرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول لليلة بالله قل لي ما يكون
ليلتان اثنتان، يجعلهما كل مسلم في مخيلته؛ ليلة في بيته مع أطفاله، وأهله، منعماً سعيداً، في عيش رغيد، وفي عافية وصحة، يضاحك أولاده ويضاحكونه، والليلة التي تليها مباشرة، أتاه فيها ملك الموت، فوضع في القبر وحيداً منفرداً.
وهذا الشاعر العربي يقول:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون
يقول: لما انتقلت من المكان الذي اعتدت عليه، إلى مكان آخر فارقني النوم، فما بالك كيف تكون الليل الأولى التي أوضع فيها القبر!! حيث لا أنيس، ولا جليس، ولا زوجة، ولا أطفال، ولا أموال.
ثم رُدّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].
أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء، وصنفت فيها المصنفات.
أول ليلة في القبر، أتي بأحد الشعراء وهو في سكرات الموت، لدغته حية، وكان في سفر، فنسي أن يودع أمه، وأباه، وأطفاله، وإخوانه، فقال قصيدة، يلفظها مع أنفاسه، تعد من أهم المراثي العربية، يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله درّي يوم أترك طائعاً بنيّ بأعلى الرقمتين وداريا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
يقول: كيف أفارق أولادي في هذه اللحظة، لماذا لا أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلس الحياة؟ أهكذا تذهب؟ أهكذا أفقد كل شيء في لحظة؟ ويقول أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد، أي لا أبعدك الله، وهل هناك أبعد من هذا المكان، وهل هناك أوحش من هذا المكان، وهل هناك أظلم من هذا المكان؟! حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].
كلا.. الآن تراجع حسابك، الآن تتوب، الآن تكف عن المعاصي، يا مدبراً عن المساجد ما عرفت الصلاة، يا معرضاً عن القرآن، يا منتهكاً لحدود الله، يا ناشئاً في معاصي الله، يا مقتحماً لأسوار حرسها الله، آلآن تتوب، أين أنت قبل ذلك؟!.
أول ليلة في القبر:
ذكر مؤرّخ الإسلام في تاريخه قال: مات الحسن بن الحسن، من أولاد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه وأرضاه – كانت عنده زوجة وأطفال، وكان في الشباب، والموت لا يستأذن شاباً، ولا غنياً، ولا أسيراً، ولا ملكاً، ولا وزيراً، ولا سلطاناً.
الموت يقسم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور.
مات الحسن بن الحسن فجأة، فنقلوه إلى المقبرة، ووجدت عليه امرأته، وحزنت حزناً لا يعلمه إلا الله، فأخذت أطفالها، وضربت خيمة حول القبر [1] – هكذا ذكر مؤرّخ الإسلام – وأقسمت بالله لتبكين هي وأطفالها على زوجها سنة كاملة. هلع عظيم، وحزن دائم، وبقيت تبكي على زوجها، فلما وفت سنة، أخذت أطناب الخيمة وحملتها، وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ فردّ عليه آخر قائلاً: لا بل يئسوا فانقلبوا، ما وجدوا ما فقدوا، ما وجدوا ضيعتهم ولا وديعتهم.
كنزٌ بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدّين
ما كلمهم من القبر، ولا خرج إليهم، ما قبّل أطفاله، ولا رأى زوجته.
هذه هي أول ليلة، ولكن هناك ليالٍ أخرى قال الله تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [الطور:21].
لقد ودّعنا منذ شهر شابين، وقع لهما حادث انقلاب سيارة، وكان عزاؤنا أنهما من الشباب الصالح المستقيم على أمر الله تعالى؛ أما أحدهما فقد كان صاحباً للقرآن، وكان القرآن صاحبه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) [2].
هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، وقالت أمه وأبوه: إنه كان يقوم الليل لله رب العالمين، ولذلك خفّت المصيبة، لأنه قدم على قبر هو روضة من رياض الجنة، - إن شاء الله تعالى -.
وأما الثاني: فقد كان مستقيماً على أمر الله، لا يعرف إلا السجود، والمصحف، والرفقة الصالحة ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].
أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين، غرته قصوره، وما تذكّر أول ليلة ينزل فيها القبر، ونحن نقول لكل عظيم، وكل متكبّر، وكل متجبّر: أما تذكرت أول ليلة!!
هذا السلطان بني قصوراً عظيمة في بغداد، فدخل عليه أبو العتاهية يهنئه على تلك القصور فقال له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
عش ألف سنة، ألفين، ثلاثة، سالماً من الأمراض والآفات، يتحقق لك ما تريده من طعام وشراب ولذة.
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
ولكن ماذا بعد ذلك:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى السلطان حتى أغمي عليه.
أول ليلة في القبر.
وأنا أطالب نفسي وإياكم معاشر المسلمين أن نهيئ لنا نوراً في قبورنا أول ليلة، ولا ينير القلوب إلا العمل الصالح، بعد الإيمان بالله.
خرج النبي إلى تبوك في غزوة، وفي ليلة من الليالي، نام هو أصحابه. قال ابن مسعود : قمت في الليل، فنظرت إلى فراش الرسول عليه الصلاة والسلام فلم أجده في فراشه، فوضعت كفي على فراشه فإذا هو بارد، وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده، فالتف إلى فراش عمر فما وجدته. قال: فإذا بنور آخر المخيم في طرف المعسكر، فذهبت إلى ذلك النور، فإذا قبر محفور، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل في القبر، وإذا جنازة معروضة، وإذا ميت قد سُجي في الأكفان، وأبو بكر وعمر حول الجنازة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لهما: دلياً لي صاحبكما، فلما أنزلاه، وضعه عليه الصلاة والسلام في القبر، ثم دمعت عيناه ثم التفت إلى القبلة، ورفع يديه وقال: ((اللهم إني أمسيت عنه راضٍ فارض عنه)).
قال ابن مسعود: قلت من هذا؟ قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين؛ مات في أول الليل. قال ابن مسعود: فوددت والله أني أنا الميت.
كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية، يغيّر الثوب في اليوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده، الخدم والقصور، المطاعم والمشارب، كل ما اشتهى وطلب وتمنى تحت يده، وعندما تولى الخلافة وأصبح مسئولاً عن المسلمين، انسلخ من ذلك كله؛ لأنه تذكّر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر، فبكى يوم الجمعة، وقد بايعته الأمة، وحوله الأمراء والوزراء، والعلماء، والشعراء، وقواد الجيش، فقال: خذوا بيعتكم، قالوا: ما نريد إلا أنت، فتولاها، وهو كاره، فما مرّ عليه أسبوع، إلا وقد هزل وضعف وتغيّر لونه، ما عنده إلا ثوب واحد، قالوا لزوجته: مال عمر؟ قالت: والله ما ينام الليل، والله إنه يأوي إلى فراشه، فيتقلّب كأنه ينام على الجمر، يقول: آه آه، توليت أمر أمة محمد يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين، الطفل والأرملة.
قال له أحمد العلماء: يا أمير المؤمنين، رأيناك وأنت ولي مكة، قبل أن تتولى الملك، في نعمة وفي صحة وفي عافية، فمالك تغيّرت، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال لهذا العالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد، لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد عن الثياب، وأتوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث.. والله لرأيت منظراً يسوءك، فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعماً فيها بكل لذيذة متلذذاً فيها بسكنى قصره
لا يعتريه الهم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلةٍ في قبره
فيا عباد الله:
ماذا أعددنا لتلك الليلة والنبي يقول: ((القبر روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار)) [3].
كان عثمان بن عفان ، إذا شيع جنازة بكى، حتى يغمى عليه، فيحملونه كالجنازة إلى بيته. فقالوا له ذات مرة: مالك؟ قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((القبر أول منازل الآخرة))، فإذا نجا العبد منه، فقد أفلح وسعد وإذا عُذب فيه – والعياذ بالله – فقد خسر آخرته كلها.
والقبر روضةٌ من الجنان
أو حفرةٌ من حفر النيران
إن بك خيراً فالذي من بعده
أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فبعده أشد
ويل لعبدٍ عن سبيل الله صد
عباد الله :
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذا العمل غير مشروع في الإسلام ، وإنما هكذا ذكر الذهبي.
[2] أخرجه مسلم (1/553) رقم (804).
[3] أخرجه الترمذي (4551) رقم (260) وقال : غريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أتيت القبور فناديتها أين المعظّم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
أتيت القبور.. قبور الرؤساء والمرؤوسين، الملوك والمملوكين، الأغنياء والفقراء، استوت جميعاً عند الله – تبارك وتعالى – أرأيت قبراً مُيز عن قبر؟ أأنزل الملك في قبر من ذهب أو من فضة؟ والله لقد ترك ملكه، وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولبس قطعة من القماش، كما نلبس، ولحد له في التراب.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
من الناس من عمل لهذا اليوم، فهم دائماً متهيئون للقاء الله، مترقبون للموت في كل لحظة. خرج رجل من الصالحين أعرفه، خرج بزوجته من الرياض يريد العمرة، وكانت زوجته صائمة قائمة ولية لله تعالى، وقبل السفر، حدث شيء غريب، وهو أن هذه المرأة أخذت تودع أطفالها، وتقبلهم، ثم كتبت وصيتها وهي تبكي، كأنه ألقي في خلدها أنها ستموت.
ذهب الرجل بأهله واعتمر، وفي طريق العودة أتى الأجل المحتوم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم على الآخرة هم غافلون [الروم:6-7].
انحرف إطار السيارة فانقلبت، ووقعت المرأة على رأسها، ولكنها شهيدة إن شاء الله. أولئك الذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [الأحقاف:16].
خرج زوجها من السيارة، ووقف عليها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الله.. الله، الله ثم قالت لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسبت رهين [الطور:21].
نسأل الله تعالى أن يجمع تلك الأسرة في الجنة إنه على كل شيء قدير.
بنتم وبِنّا فما ابتلّت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسيّنا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
عاد الرجل وحده إلى الرياض، فدخل بيته واستقبله أطفاله، وكان الموقف الرهيب.. قالت له طفلة من بناته: أين أمي، فيجيب الرجل: سوف تأتي، فتقول الطفلة: لا والله لابد أن أرى أمي، وعندئذ انهار الرجل ولم يتمالك نفسه، ولم يجد جواباً لابنته، فنقول لتلك الطفلة: سوف ترين أمك بإذن الله، سوف ترينها في جنة عرضها السموات والأرض، أعدت المتقين.
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابتٌ فيها
فيا إخوتي في الله: هل أعددتم لأول ليلة في القبر؟ ويا شيخاً كبيراً أحدودب ظهره، ودنا أجله، هل أعددت لأول ليلة؟ يا شاباً غره شبابه وطول أمله، هل أعددت لأول ليلة؟ أيقظني الله وإياكم من رقدة الغافلين، وحشرني الله وإياكم في زمرة المتقين.
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [سورة الأحزاب:56].
وقد قال : ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [1].
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم (1/288) ، رقم (384).
(1/1506)
حقيقة البعث والنشور
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1-وقفة مجادلة مع منكري البعث. 2- بعض أهوال يوم القيامة. 3- إبراهيم عليه السلام يرى
قدرة الله الباهرة على إحياء الموتى. 4- دعوة للاستعداد لما بعد الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
إذا قيل أنتم قد عملتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب إذ ذاك والأمر أصعب؟
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [يس:77-83].
أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة.
يا أيها الإنسان، يا من خلقه ربه وصوره.
يا أيها الإنسان، يا من تعدى حدود الله، وانتهك حرمات الله، وأكل نعم الله، واستظل بسماء الله، ووطأ أرض الله.
يا أيها الإنسان إنك سوف تعرض على الله.. ويل لك أيها الإنسان، أما فكرت في القدوم على الله؟!
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم [الانفطار:6].
ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! ما الذي غرك، حتى تجاوزت حدود الله؟
ما الذي أذهلك، حتى انتهكت حرمات الله؟
يا أيها الإنسان: أما كنت نطفة؟ أما كنت ماء؟ أما كنت في عالم العدم؟!.
هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه [الإنسان :1-2]. مسكين هذا الإنسان، حقير هذا الإنسان. أتى من ماء، أتى من نطفة، أتى من عالم العدم، فلما مشى على الأرض تكبر، وتجبر، ونسي الله الواحد الأحد.
في مسند الإمام أحمد، بسند جيد، عن بسر بن جحاش القرشي؛ أن رسول الله ، بصق يوماً في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله عز وجل: ابن آدم، أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذا، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق!! وأنى أوان الصدقة!!)) [1].
من هذا المجرم الذي تكبر وتجبر، من هذا الخاسر، الذي لم يحسب للأمر حسابه، ولم يعد له عُدته، إنه ينكر البعث بلسان حاله، وإن كان يخفي ذلك في مقاله.
صاح هذي قبورنا تملأ الرحبة فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
هذا المجرم؛ العاص بن وائل ثمر الله ماله، وأصح جسمه، وعلّى شأنه في الدنيا، ولكنه كفر بلا إله إلا الله.
أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، بعظم بالٍ، فتته ونفخه أمام المصطفى وقال: يا محمد، أتزعم أن ربك يعيد هذه العظام بعد أن يميتها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((نعم يميتك الله، ثم يبعثك، ثم يدخلك النار)) [2].
يقول الله له: ضرب لنا مثلاً أتى يضرب لنا الأمثال، نسي مكرماتنا، نسي معروفنا، نسي جميلنا ونعمنا، وأتى يضرب لنا الأمثال اليوم! ونسي خلقه! من الذي أنشأه من العدم؟! من الذي أغناه من الفقر؟! من الذي مشّاه على رجليه؟! ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين [البلد:8-10]. فماله نسينا اليوم؟!.
العاص بن وائل هذا، أتاه أحد الفقراء من المسلمين، وقد عمل له عملاً، واشتغل له شغلاً، فقال له الفقير: يا أبا عمرو، أعطني أجرتي، قال: أتؤمن أن الله يبعثنا يوم القيامة؟ قال: نعم، فقال ضاحكاً مستهزءاً: فإذا بعثنا الله، بعثني ربي من قبري، وعندي كنوز من الأموال، فأحاسبك في ذاك اليوم، وأعطيك أجرتك [3] ، فقال الله: أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا ً أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مداً ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً [مريم:77-80].
وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [يس:78-79].
والله لنبعثنّ كما نستيقظنّ حفاة عراة غرلاً، كما بدأنا أول مرة يعيدنا، ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون [الأنعام:94].
سوف نخرج من قبورنا مذهولين، خائفين، وجلين، إلا من رحم الله، ولا يأمن من مكر الله، ولا من عذاب الله ولا من طرد الله إلا من أمّنه الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين [الأنبياء:101-104].
صح عنه أن الناس يخرجون من قبورهم فمنهم من يبلغ عرقه كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ حنجرته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً [4]. يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً [الفرقان:27-28].
ثم يرد الله – عز وجل – على من أنكر البعث وجهل قدرة الله تبارك وتعالى.
قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون [يس:78-80].
قال أهل العلم: الشجرة بذرة أنبتها الله ورعرعها بالماء، ثم يبست وأصبحت حطباً، يوقد به في النار وقال بعضهم: المرخ والسفار شجر في الحجاز إذا ضربت هذا بهذا وهو أخضر انقدح ناراً.
فمن الذي قدح النار منه؟! ومن الذي جعل آيات الكون قائمة أمام الأعين؟ أليس هو الذي يعيدنا يوم العرض الأكبر؟! الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [يس:80-81].
يا أيها الإنسان، انظر إلى السموات بلا عمد.
يا أيها الإنسان، انظر إلى الأرض في أحسن مدد.
انظر: من أجرى الهواء؟ من سيّر الماء؟ من جعل الطيور تناظم بالنغمات؟ من جعل الرياح غاديات رائحات؟ من فجّر النسمات؟ من خلقك في أحسن تقويم؟: أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادرٍ على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم [يس:81].
سبحان الله! ما أقدر الله!!.
يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: والله لولا يوم القيامة لكان غير ما ترون، لو لم يكن هناك يوم بعث ونشور، أكل الأقوياء الضعفاء، وأخذ الظلمة المظلومين، وتجبر المتجبرون في الأرض.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرّمت كاسات المدام تعففا وعليك كاسات الحرام تدور
متى يستفيق من لم يستفق اليوم؟
متى يتوب إلى الله من لم يتب هذه الساعات؟ متى يحاسب نفسه من لم يحاسبها قبل العرض على الله؟!
عباد الله:
أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/210) ، وابن ماجه (2/903) رقم (2707) ، وحسنه الألباني كما في صحيح ابن ماجه (2/111).
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (2/108) وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (5/507 ، 508) وعزاه لعبد الرزاق ، وابن مردويه ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي ، وابن المنذر.
[3] انظر الدر المنثور (4/506).
[4] أخرجه مسلم (4/2196) رقم (2864).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراٌ، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد، ومعلم الحنيفية، وأستاذ العقيدة، إبراهيم خليل الرحمن، الذي نشر عقيدة التوحيد في الأرض.
مرّ يوماً من الأيام على ساحل البحر، فرأى جثة حيوان ميت، قد ألقاها البحر بالساحل، وهذه الجثة تأتيها السباع فتأكل منها، والطيور فتنهش منها، فوقف عليها متعجباً، وهو يقول في نفسه: كيف يعيدها الله يوم القيامة، وقد أكلتها السباع والطيور؟ كيف يعيد الله هذه الجثة، وقد تشتت في بطون السباع، وتفرقت في حواصل الطير؟! وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تُحيي الموتى [البقرة:260].
فكلم ربه، ونادى ربه، وسأل ربه أن يريه عملية الإحياء، وعملية الموت، كيف تقوم عملية الإحياء وعملية الموت.
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال له الله: أولم تؤمن ، أما آمنت إلى اليوم؟ أما تيقنت أن الله يبعث من في القبور؟ أما علمت أن الله سبحانه وتعالى ينشر الناس يوم النشور؟!
والله يعلم أنه مؤمن، وأنه موحد، وأنه مصدق.
قال بلى آمنت يا رب، وأسلمت يا رب، وتيقنت يا رب ولكن ليطمئن قلبي سبحان الله!!ّ.
في الصحيح عنه ، أنه قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم)) [1].
معنى ذلك: لو كان إبراهيم يشك لكُنا نحن أولى أن نشك في قدرة الله، ولكننا لا نشك، فإبراهيم عليه السلام أولى ألا يشك.
قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [البقرة:260]. ثم قال الله: قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك [البقرة:260]. خذ أربعة من الطيور من أنواعها، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما قال: حمام ودجاج وأوز، وطائر من عنقاء مغرب، أو كما قال.
ولا يهمنا تعداد الطيور، لكن يهمنا الشاهد والدلالة في الآية، فأخذ أربعة من الطيور، قال الله: فصرهن إليك أي قطعهن ومزقهن، فقطع رؤوسها وفصل أرجلها وأكتافها وأيديها ومزق ريشها، ثم خلط الأربعة بعضها ببعض.
قال الله له: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً [البقرة:260]. فأخذ هذه المجموعات؛ ومن اللحم، والعظام، والريش، والدم، فوزعها على أربعة جبال، ثم نزل إلى الوادي، قال الله: ثم ادعهن يأتينك سعياً [البقرة:260].
فلما نزل قال: تعالي أيتها الطير بإذن الله، تعالي أيتها الطير بإذن الله، فبعث الله الأرواح فيها، وكانت رؤوس الطير بيده، فأقبل الريش والعظم واللحم؛ كل طائر يدخل في رأسه، لا يدخل في رأس غير رأسه، فلما تركبت أجسامها في رؤوسها، رفرفت وطارت، وأخذت مجالها في الجو، ثم قال الله له: واعلم أن الله عزيز حكيم [البقرة:260]. قال عليه السلام: أعلم أن الله عزيز حكيم.
فيا من شك في قدرة الله، ويا من شك في البعث والنشور، ترقب يوم يبعث الله الأولين والآخرين، يوم يناديهم لذاك اليوم، وتزين ليوم العرض على الله، والبس لباساً ليس كلباسنا اليوم، فوالله لا تجزئ ألبستنا، إن لم تكن من التقوى، واستعد بحسنات وبأعمال صالحات ترفع درجاتك عند الله.
إن بعد الحياة موتاً عظيماً، فاستعد لذلك البعث، وارتقب واشكو حالك إلى الله، وجدد توبة صادقة إلى الحي القيوم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
يوم يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون، ثم يطوى الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون [2].
فنسأل الله أن ينجينا وإياكم في ذلك اليوم.
ونسأل الله أن يبيض وجوهنا ووجوهكم في ذاك اليوم.
ونسأل الله ألا يجعلنا من أهل الفضائح، وأهل النكبات، وأهل البوار، وأهل الخسار.
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [3].
اللهم صل وسلم على نبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
[1] أخرجه البخاري (5/163) ، ومسلم (1/133) رقم (151).
[2] أخرجه مسلم (4/2148) رقم (2788).
[3] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
(1/1507)
خطبة عيد الأضحى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الدعاء والذكر, المسلمون في العالم, قضايا دعوية
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محامد وثناء على الله. 2- فضل لا إله إلا الله. 3- أثر هذه الكلمة في الصحابة. 4-
موعظة الموت الصامتة. 5- موعظة لتارك الصلاة. 6- الوصية بصلة الأرحام. 7- واقع
المسلمين وما في بلادهم من بلايا ومحن. 8- الخوف على الصحوة من المستهترين والمتشددين.
9- الوصية بكتاب الله ثم بالتوبة النصوح. 10- سنن العيد. 11- أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
?لْحَمْدُ للَّهِ ?لَّذِى خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَجَعَلَ ?لظُّلُمَـ?تِ وَ?لنُّورَ ثْمَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
?لْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ جَاعِلِ ?لْمَلَـ?ئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَـ?عَ يَزِيدُ فِى ?لْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر:1].
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً.
وتبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدّره تقديراً.
الحمد لله خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول.
لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، لا إله إلا أنت.
في السماء ما ملكت، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لا إله إلا أنت.
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر.. كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
الله أكبر كلما لمع نجم ولاح، الله أكبر كلما تضوع مسك وفاح، الله أكبر كلما غرد حمام وناح.
الله أكبر كلما رجع مذنب وتاب، الله أكبر كلما رجع عبدٌ وأناب، الله أكبر كلما وسّد الأموات التراب.
الله أكبر ما وقف الحجيج بصعيد عرفات، وباتوا بمزدلفة في أحسن مبات، ورموا بمنى تلك الجمرات.
الله أكبر كلما ارتفع علم الإسلام، الله أكبر كلما طيف بالبيت الحرام، الله أكبر كلما دكدكت دولة الأصنام.
لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
لا إله إلا الله: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
لا إله إلا الله يفعل ما يريد، لا إله إلا الله ذو العرش المجيد، لا إله إلا الله رب السموات والأرض وهو على كل شيء شهيد.
سبحان الله.. سبحان الله.
سبحان من قهر بقوته القياصرة، وكسر بعظمته الأكاسرة، الذين طغوا وبغوا، فأرداهم ظلمهم في الحافرة.
اللهم صل على نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية، وهديت به الإنسانية، وأنرت به أفكار البشرية، وزلزلت به كيان الوثنية.
اللهم صلّ وسلم على صاحب الحوض المورود، واللواء المعقود، والصراط الممدود.
اللهم صل وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصيّ، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل.
اللهم صل على من رفعت له ذكره، وشرحت له صدره، ووضعت عنه وزره.
اللهم صل وسلم على من جعلته خاتم الأنبياء، وخير الأولياء وأبر الأصفياء، ومن تركنا على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا أهل الأهواء، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. نعم، نعيش هذه المناسبة الكبرى يوم نتذكر فضل لا إله إلا الله، وعظمة لا إله إلا الله، وقدسية لا إله إلا الله.
أي أمة كنا قبل الإسلام، وأي جيل كنا قبل الإيمان، وأي كيان نحن بغير القرآن.
كنا قبل لا إله إلا الله أمة وثنية، أمة لا تعرف الله، أمة تسجد للحجر، أمة تغدر، أمة يقتل بعضها بعضاً، أمة عاقة، أمة لا تعرف من المبادئ شيئاً.
فلما أراد الله أن يرفع رأسها، وأن يعلي مجدها؛ أرسل إليها رسول الهدى.
هُوَ ?لَّذِى بَعَثَ فِى ?لأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدّل حالها
بل كرّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقّع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسّرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تنتظر إلا رضاه سعى لها
فأتى عليه الصلاة والسلام، فصعد على الصفا. ونادى العشائر والبطون، ثم قال لهم لما اجتمعوا: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فقامت دعوته على لا إله إلا الله، كما كانت دعوة الأنبياء من قبله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
ومعنى لا إله إلا الله؛ لا معبود بحق إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ لا مطلوب ولا مرغوب ولا مدعو إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن تعيش عبداً لله، فتكون حياً بقوة لا إله إلا الله، وتموت على لا إله إلا الله، وتدخل الجنة على لا إله إلا الله.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى بالله رباً وإلهاً فتتحاكم إلى شريعته، ولا ترضى شريعة غيرها. فمن رضي غيرها شريعة. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً، ولا كلاماً، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى برسول الله قدوةً، وإماماً، ومربياً، ومعلماً، فتجعله أسوة لك: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لاْخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
ومعنى لا إله إلا الله؛ أن ترضى بالإسلام ديناً، فإنك إن لم ترض به ديناً غضب الله عليك، وكشف عنك ستره، ولم يحفظك فيمن حفظ، ولا تولاك فيمن تولى.
جاء بها فأعلنها صريحة؛ أنه لا إله إلا الله، فاستجاب له من أراد الله رفع درجته، وصمّ عنها من أراد الله عذابه في الدنيا والآخرة.
إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ ?للَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35]. استجاب له أصحابه الأبرار، وأحبابه الأطهار، فقتلوا بين يديه.
يأتي عبد الله بن عمرو الأنصاري يوم أحد فيعلم أنه لا إله إلا الله، ويفيض حباً للا إله إلا الله، ويرفع طرفه قبل المعركة ويقول: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى [1].
فيقتل، ويقطع، يقول جابر بن عبد الله عن أبيه: لما كان يوم أحد جيء بأبي مٌسجيّ، وقد مثل به، فأردت أن أرفع الثوب، فنهاني قومي، فرفعه رسول الله ، أو أمر به فرفع، فسمع صوت باكية أو صائحةٍ، فقال: ((من هذه؟)) ، فقالوا: بنت عمرو، أو أخت عمرو، فقال: ((ولم تبكي؟ فما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رُفع)).
وفي رواية قال جابر: فجعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وجعلوا ينهونني، ورسول الله ، لا ينهاني، قال: وجعلت فاطمة بنت عمرو تبكيه. فقال رسول الله : ((تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتى رفعتموه)) [2].
فجعل الله روحه، وأرواح إخوانه، في حواصل طير خضر ترد الجنة، فتأكل من أشجارها، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أي أمةٍ كنا، وأي أمة أصبحنا!! وأي أمة سوف نكون!!.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
عباد الله، يا من لبس الجديد، يا من اغتسل بالماء البارد، يا من أتيتم إلى هذا المصلّى، هل ذكرتم من صلى معكم في العام الماضي من الآباء والأجداد، من الأحباب والأولاد؟ أين ذهبوا؟ كيف اختطفهم هادم اللذات؟ آخذ البنين والبنات، مفرق الجماعات.
أسكتهم فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، والله لقد وُسدوا التراب، وفارقوا الأحباب، وابتعدوا عن الأصحاب، فهم من الحفر المظلمة مرتهنون بأعمالهم، كأنهم ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.
اختلف على وجوههم الدود، وضاقت عليهم ظلمة اللحود، وفارقوا كل مرغوب ومطلوب، وما بقيت معهم إلا الأعمال.
فهل ذكر ذاكر ذاك القدوم؟ وهل أعدّ لذاك المصير؟ وهل أعد العدة لذلك الموقف الخطير؟
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أيها الناس، أذكركم ونفسي بتلك الشعيرة العظيمة، بتلك الفريضة الجليلة، بالصلوات الخمس؛ لاحظ في الإسلام لمن تركها، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه.
تارك الصلاة عدو الله، عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله.
تارك الصلاة محارب لمنهج الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، مغضوب عليه في الأرض.
تارك الصلاة تلعنه الكائنات، والعجماوات، تتضرر النملة في جحرها من تارك الصلاة، وتلعنه الحيتان في الماء لأنه ترك الصلاة.
تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يصدّق، ولا يؤتمن.
تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقض ميثاق الله.
تارك الصلاة يأتي ولا حجة له يوم العرض الأكبر.
الله الله في الصلاة، فإنها آخر وصايا محمد قبل فراق الدنيا، وهو في سكرات الموت.
عباد الله، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، أوصيكم ونفسي بصلاة الجماعة، والمحافظة عليها في المساجد، فمن صلاها بلا عذر في بيته فلا قبلها الله، فإن من شروط صحتها صلاتها في جماعة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار)) [3].
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله:
أوصيكم ونفسي بعد تقوى الله – عز وجل – بصلة الرحم؛ فإن الله تبارك وتعالى لعن قاطعي الأرحام، فقال عز من قائل: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
وقال جل ذكره: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
فقاطع الرحم ملعون، لعنه الله في كتابه، وصح عنه أنه قال: ((لما خلق الله الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك)) [4].
فعهد الله أن يصل من وصل رحمه، وعهد الله أن يقطع من قطع رحمه.
وهذا العيد ـ يا عباد الله ـ من أكبر الفرص للعودة إلى الحي القيوم، فمن لم يعد إلى الله فما استفاد من العيد، ومن لم يتفقد أرحامه بالصلة والزيارة والبر فما عاش العيد.
العيد أن تصل من قطعك، العيد أن تعطي من حرمك، العيد أن تعفو عمن ظلمك، العيد أن تسلّ السخيمة من قلبك، العيد أن تخرج البغضاء من روحك، العيد أن تعود إلى جيرانك بالصفاء والحب والبسمة، العيد أن تدخل الطمأنينة في قلوب المسلمين، العيد ألا يخافك مسلم، قال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن والله لا يؤمن)) ، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) [5].
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أذكركم ونفسي آلاء الله، ونعم الله، وعطاء الله، فاشكروه سبحانه وتعالى يزدكم، فإنه من لم يشكر الله عز وجل، أصابه موعوده سبحانه وتعالى من الهلاك والدمار: وَضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ?للَّهِ فَأَذَاقَهَا ?للَّهُ لِبَاسَ ?لْجُوعِ وَ?لْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112].
انظروا أي نعمة نعيشها؛ نعمة الأمن في الأوطان، والصحة في الأبدان، وتحكيم الشريعة والقرآن.
انظروا جيراننا من الدول والشعوب، يوم تركوا تحكيم شرع الله، وكتاب الله، غضب الله عليهم، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
منهم من ابتلاه الله بالحروب فدكدكت منازله بالمدافع والقنابل والصواريخ، وقتل أطفاله وشرد عياله، فلم يعلم يمينه من شماله وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
ومنهم من ابتلاه الله بالأمراض والأسقام التي لم تكن من قبل، لأنه ارتكب الفاحشة، وابتعد عن منهج الله، وترك شريعة الله، فعاش الخوف والغضب، والمقت في الدنيا والآخرة.
فاذكروا هذه النعم، وتصدقوا عنها بالشكر والبذل والعطاء، وأداء ما افترض الله، فإن كثيراً من الشعوب التي ترونها تعيش الفقر والجوع، كانوا في أرغد العيش وأهنئه، لكنهم كفروا بنعمة الله، وبدلوا دين الله، وجحدوا شرع الله.
وهذه البلاد لما أنعم الله عليها بتحكيم الشريعة، رغد عيشها، وكثر خيرها، وهنأ شعبها، فليس لنا ـ والله ـ إلا أن نتمسك بهذا الدين، وأن نعضّ بالنواجذ على هدي سيد المرسلين، فهذا هو السبيل الوحيد لاستبقاء النعم وعدم زوالها.
الله أكبر.. والحمد لله كثيرا.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أيها المسلمون، تعيش الأمة الإسلامية اليوم صحوة إسلامية مباركة، تعيش الأمة عوداً حميداً إلى الله. نسأل الله أن يبارك هذه الصحوة، وأن يحفظها، وأن يثمرها، وأن يوجهها، وأن يهديها سواء السبيل.
لكننا نخاف على هذه الصحوة من صنفين:
• متشدد في دين الله، نفسُه نفسٌ خارجي، علم ظاهر القرآن، وأخذته العبادة عن حقائق الإيمان، فكفّر من شاء، وشهد لمن شاء بالإيمان، وأدخل في الدين من شاء، وأخرج من الدين من شاء. فهذا أول ما نخافه على هذه الصحوة المباركة.
فليست العبادة كل شيء، صح عنه أنه قال عن الخوارج: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)) [6]. وذلك لأنهم أخذوا ببعض النصوص وتركوا بعضها، فلم يتمكنوا من الاستنباط الصحيح، ولا عرفوا دلائل الألفاظ، ومقاصد الأدلة، فضلوا وضلوا حتى كفّروا كثيراً من الصحابة واستحلوا دماءهم.
ورجل مستهتر مستهزئ منافق جعل عباد الله فاكهته، فاستهزأ بهم في المجالس، وحقرهم في المنتديات، وجعل الدعاة غرضاً له؛ يقع في أعراضهم، ويسخر من حركاتهم وسكناتهم وهيآتهم.
قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66]. ولذلك كان هذا منافقاً معلوم النفاق، لأنه جعل أولياء الله عرضة للاستهزاء والاستهتار، فسموا الصالحين والدعاة متطرفين، ومتزمتين، وعصابة مشبوهة، وما أطلق ذلك إلا الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، وأتباعهم من العلمانيين والمستغربين.
عباد الله، إن هذه الصحوة ينبغي علينا تجاهها أمران: أولهما: أن نبارك وندعو لمن قام عليها من ولاة الأمور العاملين بكتاب الله وسنة رسوله، ومن العلماء المخلصين الناصحين للأمة، ومن الدعاة الأبرار الذين وجهوا الجيل إلى الطريق الصحيح.
والأمر الثاني: أن نتواصى بيننا في مساعدة أبنائنا وشبابنا في هذه المسيرة، فقد وُجد في البيوت من الآباء من حارب أبناءه يوم استقاموا، ويوم اتجهوا إلى الله، وهذه حربٌ صريحة على الله، ومحادة مكشوفة لدينه.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أوصيكم بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه.
كتاب الله، حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، كتاب الله، النور الذي لا ظلمة فيه. كتاب الله الهداية الذي لا ضلال بعده. قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
كتاب الله: لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
كتاب الله من استمسك به بلّغه الله منازل السعداء، ومن صدف عنه كبّه الله على وجهه في دركات الأشقياء، اقرؤوه آناء الليل والنهار، ضوعوا به بيوتكم تدارسوه مع أبنائكم، اجعلوه قربة تتقربون بها إلى ربكم.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
عباد الله، أوصيكم بالتوبة النصوح، وبالاستغفار من الذنوب والخطايا، يقول سبحانه وتعالى: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]. ويقول جل ذكره: وَ ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ [آل عمران:135، 136].
عباد الله، إن من المعاصي التي انتشرت بصورة كبيرة في أوساط الشباب وغيرهم؛ جريمة تعاطي المخدرات، وما انتشرت هذه الجريمة إلا بسبب البعد عن الله وعن كتابه وسنة رسوله فامتلأت السجون بالشباب، لأنهم تركوا طريق المسجد، وتركوا تلاوة القرآن، وتركوا حلقات العلم، فابتلوا بهذه الخبيثة: فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ?للَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لْفَـ?سِقِينَ [الصف:5].
ومن المعاصي كذلك تلك المجلات الخليعة، التي أظهرت المرأة معبوداً وصنماً فافتتن بها شباب الإسلام، زنت أبصارهم قبل فروجهم، فجعلوا الصورة الخليعة ـ إلا من رحم الله ـ معبودهم، فأخذهم الهوى، وأصابهم الوله، وضلوا بالعشق، لأن قلوبهم لم تمتلئ بذكر الله، ولم تعمر بلا إله إلا الله.
ومن المعاصي كذلك ـ عباد الله ـ ذلك الغناء والموسيقى الذي ملأ البيوت ـ إلا بيوت من رحم الله ـ من أصوات المغنين والمغنيات، والماجنين والماجنات، الأحياء منهم والأموات، وهذه معصية ظاهرة حورب الله بها تبارك وتعالى.
فالله الله في التوبة النصوح، وفي العودة إلى الواحد الأحد سبحانه وتعالى.
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
العيد يا عباد الله معناه كما سلف؛ العودة إلى الله، ثم العودة إلى كتابه ثم العودة إلى سنة رسوله.
العيد يا عباد الله ليس بصف الموائد الشهية، ولا بركوب المراكب الوطية ولا بسكنى الفلل البهية.
العيد لمن خاف يوم الوعيد. العيد لمن استعد للعرض على الرب سبحانه وتعالى، العيد لمن اتقى الله في السر والعلن.
العيد لمن استعرض صحيفته فاستغفر من السيئات، وسأل الله التوفيق للأعمال الصالحات.
العيد لمن وصل ما بينه وبين الله، وما بينه وبين العباد، العيد لمن عمر بيته بالقرآن، وأخرج آلات اللهو ومغريات الشيطان.
العيد لمن أقام في بيته منهج القرآن، العيد لمن ضوع منزله بالأذكار الحسان.
إذا ما كنت لي عيداً فما أصنع بالعيد!!
جرى حبك في قلبي كجري الماء في العود
الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
[1] لم أقف عليه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت (1293)، ومسلم في : فضائل الصحابة، باب : من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471)، من حديث جابر رضي الله عنهما بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في : الأذان، باب: وجوب صلاة الجماعة (644)، ومسلم في : المساجد ومواضع الصلاة، باب : فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف (651)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري: في الأدب، باب : من وصل وصله الله (5987)، ومسلم في : البر والصلة، باب: صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2554)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في : الأدب، باب : إثم من لا يأمن جاره بوائقه (6016) من حديث أبي شريح رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في : المناقب، باب : علامات النبوة في الإسلام (3610)، ومسلم في : الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم (1064) واللفظ له ، من حديث أبي سعيد الخدري.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله.. الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
كان من هدي المصطفى في العيدين؛ أنه كان يؤخر صلاة عيد الفطر، ويعجل الأضحى، وكان يخرج في الأضحى قبل أن يأكل شيئاً، بخلاف عيد الفطر فإنه كان يأكل تمرات كما أخبر أنس عنه. وفي رواية: يأكلهن وتراً [1].
وكان يخرج لابساً أحسن ملابسه، متطيباً بالمسك، يمشي بسكينة ووقار، يكبر ربه ـ تبارك وتعالى ـ.
وكان عليه الصلاة والسلام يخرج للعيد من طريق ويعود من طريق آخر.
قال جابر بن عبد الله: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق [2]. وذكر العلماء لذلك حكماً جليلة.
منها: إظهار قوة الإسلام والمسلمين في كل مكان.
ومنها: أنك تمر على أكبر عدد من المسلمين فتسلم عليهم.
ومنها: إغاظة أعداء الإسلام.
ومنها: قضاء حوائج من له حاجة من المسلمين.
ومنها: أن يشهد لك الحفظة والملائكة الذين يقفون على الطرق.
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.
لا إله إلا الله.. والله أكبر.
الله أكبر.. ولله الحمد.
وكان إذا وصل إلى المصلّى يبدأ بالصلاة قبل الخطبة فيصلي ركعتين، يكبر في الأولى قبل القراءة سبع تكبيرات منها تكبيرة الافتتاح، ثم يقرأ الفاتحة: وسَبِّحِ ?سْمَ رَبّكَ ?لأَعْلَى? [الأعلى:1]. وفي الركعة الثانية يكبر خمس تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ?لْغَـ?شِيَةِ [3] [الغاشية:1]. وربما قرأ في الأولى: ق وَ?لْقُرْءانِ ?لْمَجِيدِ. والثانية: ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ وَ?نشَقَّ ?لْقَمَرُ [4] [القمر:1].
وكان إذا انتهى من الصلاة، وقف على راحلته مستقبلاً الناس، وهم صفوف جلوس، فخطبهم بخطبة جليلة، يبين فيها أسس العقائد والأحكام، ويأمر المسلمين بالصدقة، ثم يتوجه إلى النساء فيخطُبُهن، ويذكرهنّ.
عباد الله، يسن إذا رجع الإنسان من المصلى يوم الأضحى أن يبدأ قبل كل شيء بذبح أضحيته إن كان مستطيعاً فيسمي ويكبر، ويذبح الأضحية.
والأضحية في الإسلام شأنها جليل وحكمها نبيلة وعظيمة، منها: أنها فداء لإسماعيل عليه السلام.
ومنها: أنها قربة إلى الله الواحد الأحد بالذبح في هذا اليوم العظيم، فإذا ذبحتها فإن السنة أن تأكل ثلثها، وأن تتصدق بثلثها، وأن تهدي ثلثها، وإن فعلت غير ذلك فالأمر فيه سعة، ولكنه خلاف الأولى.
والأضحية ـ يا عباد الله ـ لابد أن تُستسمن، وأن تختار، وأن تصطفى؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فلا تجزئ العوراء البيّن عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء البين عرجها، ولا الهزيلة، ولا العضباء، التي كسر النصف من قرنها أو أكثر، ولا ما قطع نصف أذنها أو أكثر.
ويكره الشرقاء التي انشقت أذنها طولاً، أو الخرقاء التي خرقت أذنها.
والسنة ألا يضحّى من الضأن إلا بالجذع [5] فأكبر، وأما المعز فالثنية [6] فأكبر، سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.
فاذكروا الله على ما هداكم، وكبروه ـ سبحانه وتعالى ـ واحمدوه على النعم الجليلة، والمواهب النبيلة، فإنه ـ والله ـ ما حفظت النعم إلا بالشكر، وما ضيعت إلا بالكفر.
فنعوذ بالله أن نكون من قوم بدلوا نعمة الله كفراً، وأحلوا قومهم دار البوار.
ونعوذ بالله أن نكون من قوم أنعم الله عليهم بنعم، فجعلوها أسباباً إلى المعاصي، وطرقاً للشهوات والمخالفات.
[1] أخرجه البخاري في : العيدين، باب : الأكل يوم الفطر قبل الخروج (953).
[2] صحيح، أخرجه البخاري في: العيدين ، باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد (986).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: الجمعة – باب ما يقرأ به في صلاة الجمعة (878) من حديث النعمان بن بشير.
[4] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب صلاة العيدين – باب ما يقرأه في صلاة العيدين (891) من حديث أبي واقد الليثي.
[5] قال ابن الأثير في النهاية (1/250) : أصل الجذع : من أسنان الدواب ، وهو ما كان منها شاباً فتياً ، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية ، وقيل: البقر في الثالثة ، ومن الضأن ما تمت له سنة ، وقيل أقل منها.
[6] النية من المعز : ما دخل في السنة الثالثة. النهاية (1/226).
(1/1508)
خطر على الأمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخمر أم الخبائث اجتنبها العقلاء في الجاهلية. 2- التحذير من شرب الخمر وحضوره
والمساهمة فيها بيعاً وتصنيعاً. 3- أضرار الخمر. 4- أسباب الضعف والتهتك في مجتمعاتنا.
5- علاج أسباب الضعف.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
إن من أعظم الجرائم، ومن أكبر المشاكل التي تفشت في مجتمعاتنا، والتي عرضت ديننا وقيمنا، وأمننا وأموالنا للضياع وللسفك، وللانسلاخ؛ هو ما تفشى في مجتمعاتنا من تعاطي المخدرات، وشرب الخمر.
إنها مصيبة نكراء، وجريمة شنعاء، فتكت بشبابنا، وأذهبت أموالنا، وأهدرت دماءنا، وزعزعت أمننا وسكينتنا، فنشكو حالنا إلى الله تبارك وتعالى.
والله – عز وجل – تحدث عن المفسدين في الأرض، وعرض لجرائمهم، وبين أحكامهم فقال: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم [المائدة:33-34].
ولقد كانت الخمر وكل مسكر تسمى عند العرب في الجاهلية أم الخبائث لا يشربها عقلاؤهم، ولا يتعاطاها حكماؤهم، حرمها كثير منهم على نفسه؛ منهم حاتم الطائي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وهرم بن سنان، وكانت تسمى عندهم (السفيهة) و(المؤذية)، و(القبيحة)، و(والمكروهة).
فلما جاء الإسلام حرمها الله تبارك وتعالى في كتابه، وحرمها رسوله في سنته، وقال: ((ما أسكر كثيرهُ، فقليله حرام)) [1] ، وقال عليه الصلاة والسلام، وقد جاءه رجل من اليمن، يسأله عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المِزْر، فقال النبي : ((أو مسكر هو؟)) قال: نعم، فقال رسول الله : ((كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر، أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار)) [2].
وقال : ((من شرب الخمر وسكر، لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة)) قالوا: يا رسول الله وما ردغة الخبال؟ قال: ((عصارة أهل النار)) [3].
وفي الحديث أن النبي قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر)) [4].
عباد الله:
إن شرب الخمر من أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات، فهي أم الفواحش، لعنها الله، ولعن عاصرها، ومعتصرها وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها، وآكل ثمنها [5].
إن شرب الخمر يُجرئ المرء على معصية الله – عز وجل – ويهوّن عليه ارتكاب الموبقات، فعن ابن عمر أن أبا بكر الصديق جلس بعد وفاة رسول الله فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو، أسأله عن ذلك، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم، فأنكروا ذلك، ووثبوا جميعاً، فأخبرهم أن رسول الله قال: ((إن ملكاً من بني إسرائيل أخذ رجلاً، فخيّره بين أن يشرب الخمر، أو يقتل صبياً، أو يأكل لحم خنزير، أو يقتلوه إن أبى، فاختار أن يشرب الخمر، وأنه لما شرب، لم يمتنع من شيء أرادوه منه)) [6].
إن أضرار الخمر وبيلة، ومصائبها كثيرة، ويكفي ما نسمع، وما نرى، وما ينتقل إلينا من تلك الأضرار الوخيمة، والعواقب الأليمة، التي تفشت في مجتمعاتنا.
لقد انتشرت العصابات الفاجرة المجرمة التي تجلب إلينا المسكرات والمخدرات، والتي تسعى في الأرض فساداً، والتي زعزعت أمن البلاد، وأمن العباد، وأرهبت أهل البيوت في بيوتهم، وسفكت الدماء، وهتكت الأعراض، وعرضت الأنساب للاختلاط، وعرضت الشباب للانحراف والضياع.
أيها الناس:
إن من أعظم أضرار المسكرات والمخدرات:
أولاً: أنها محاربة لله تبارك وتعالى، ومعصية ظاهرة له، فمن تناول شيئاً منها، أو جلب شيئاً منها لغيره، أو روّج لها، أو استحسنها، أو سكت عن مروج لها، فقد بارز الله بالمحاربة واستوجب لعنة الله تعالى وغضبه، وأمن من مكره سبحانه، وقد قال الله عز وجل عن هؤلاء: أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [الأعراف:99].
إنها عداوة صريحة لله رب العالمين، وهي أعظم ما عصي الله تعالى في أرضه فإن الإنسان إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وإذا افترى، قتل، وزنى، واغتصب، وفعل كل فاحشة خبيثة.
ثانياً: أن فيها إذهاباً للعقل، الذي هو أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على الإنسان، فإذا أذهب هذه النعمة، وهذه المنة، فقد تردى في الحضيض، وباء بالغضب واللعنة. يقول الله سبحانه وتعالى عن أصحاب العقول: وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت:43]. وقال عن أهل النار: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [الملك:10].
وقال عز من قال: وما يذكر إلا أولو الألباب [البقرة:269]. أي أهل العقول.
فالذي أذهب عقله، وأضاع لُبّه، فهو في مسلك البهيمة، وفي مستوى الحمار، أو الثور، لا يدرك شيئاً، ولا يعرف شيئاً، قلّت قيمته، وخفّ وزنه، وهان على ربه، فلا رجولة فيه، ولا حياة، ولا مروءة، ولا دين ولا خير.
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميّت الأحياء
أذهب الله بهاءه، ونزع رداءه، وهتك ستره، وفضحه على رؤوس الخلائق، فنسأل الله تبارك وتعالى الستر والعافية.
ثالثاً: إن في شرب المسكر والمخدر سفكاً للدماء. وهتكاً للأعراض، وإهداراً للأموال.
فأما الدماء؛ فإننا نسمع كل يوم عن تلك الجرائم البشعة التي تحدثها هذه العصابات الضالة وتلك الشلل التائهة، من قتل رهيب، وتعدّ على البيوت الآمنة، وترويع من فيها من عباد الله.
ونسمع دائماً عن قضايا الإعدام التي تلحق بهؤلاء المفسدين نسأل الله أن يقطع دابرهم، وأن يطهر البلاد من شرورهم.
وأما الأعراض فإن أكبر جريمة بعد شرب الخمر جريمة الزنا، وهي لا تأتي في الغالب إلا بعد أن يذهب العقل بالخمر، حتى أن بعضهم لما شرب الخمر وسكر، ثنّى بالجريمة الفحشاء، والفعلة النكراء، على أمه التي ولدته!! فنفذ فيه حكم الله، جزاءً على تلك الجريمة التي يتنزه عنها اليهود والنصارى والبوذيون، وتقشعر منها جلودهم، ولا تفعلها الكلاب ولا الحمير، وإنما حمله على ذلك شرب الخمر الذي أذهب عقله ففعل هذه الفعلة البشعة.
وفيها أيضاً إزهاق للأموال، فهي تؤدي إلى الميسر والقمار، وإلى إتلاف الآلاف بل والملايين في غضب الله تعالى وسخطه ولعنته.
رابعاً: ومن أضرارها أنها ضياع لشباب الأمة، وإهدار لقوة الأمة ومستقبلها، فما ضاع أكثر شبابنا إلا بسبب هذه الخبيثة.
لقد امتلأت بهم السجون، في جرائم ارتكبوها بسبب شرب الخمر، دعاهم ربهم تبارك وتعالى إلى المساجد، وإلى حلق الذكر وجالس العلم، وإلى أن يرفعوا من أنفسهم ولكنهم أبوا إلا الضياع والانحطاط، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي الله القوم الفاسقين [الصف:5].
أدخلوا السجون بالعشرات، بل بالمئات، والإحصائيات التي سمعنا بها رهيبة رهيبة، تنذر بأشد الخطر، وأسوأ العواقب.
خامساً: وللخمر أضرار صحية لا حصر لها، وكذلك المخدرات، وقد شهد على ذلك أهلها، ومنتجوها، ومروجوها، ومصنعوها.
لقد دخل عن طريق إرسال المخدرات إلى مجتمعاتنا كثير من الأمراض، منها مرض الإيدز، وأمراض الالتهاب الرئوي، وسوء الهضم، والتشنج، والصرع، والسهاد، والقلق، والسهر، والارتباك، والأمراض النفسية، والعصبية، والغم والهم، والحزن، واللعنة في الدنيا والآخرة إلى غير ذلك مما ذكره أهل الطب، مما يزيد على مائة مرض من أخطر الأمراض؛ ومن أعظمها مرض الإيدز، والسرطان اللذان يصاب بهما كثير من الناس في هذا العصر، حتى قال بعض الأطباء الأمريكان: إن كل أربعة من عشرة من الأمريكيين مهددون بالإيدز بسبب المخدرات.
ويقول صاحب كتاب ((دع القلق وابدأ الحياة)): إن الأمريكان قد حفروا لأنفسهم قبوراً، يردونها؛ لأنهم ما عرفوا الله نصف ساعة في اليوم، ثم صرح بأن السبب الرئيسي في ذلك هو تعاطي المخدرات، التي أذهبت عقولهم.
ويقول إلكسس كارلي في كتاب ((الإنسان ذلك المجهول)): إن من أكبر الأسباب التي أدت إلى انهيار الإنسان في أوروبا، هو تلك المخدرات التي انتشرت في مجتمعاتها.
سادساً: ومن أضرار المسكرات والمخدرات أيضاً، أنها ضربة للأمة في قوتها واقتصادها، في قوتها العسكرية وقوتها الصناعية، ولذلك ذكر أهل التاريخ، أنه في القرن السادس عشر الميلادي، تواجه الصينيون واليابانيون، فانهزم الصينيون وسحقوا، فلما بحثوا في أسباب الهزيمة ووجدوا أن من أعظم الأسباب، هو انتشار الأفيون انتشاراً رهيباً بين صفوف الجيش الصيني، مما اضطره إلى أن يترك المعركة وينسحب.
وهذا الأمر أيضاً كان معروفاً عند العرب، فقد كانوا في الجاهلية يسمون الأفيون ((عطر منشم)) إذا شمه الجيش وأروح رائحته في المعركة انهزم وولى الأدبار.
وفي ذلك يقول زهير بن أبي سُلمى في ميميته وهو يمدح هرم بن سنان:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
أيها لناس:
إن معنى تعاطي المخدرات في مجتمعاتنا، والترويج لها، أن نعيش في جو من الإرهاب، بسبب تلك العصابات المجرمة؛ أن لا نأمن في بيوتنا ولا في أعمالنا؛ أن لا نأمن على زوجاتنا ولا أخواتنا، معناه أن نقدم شبابنا لقمة سائغة إلى تلك الفئات الضالة، فيصبحون شللاً من المجرمين والمنحرفين يهددون أمن هذه الأمة واستقرارها.
إن الصهيونية العالمية، تخطط لإفساد شباب المسلمين، ولذلك فإن إسرائيل عدوة الإنسانية من أكثر الكيانات التي تعمل على إغراق البلاد الإسلامية بالمخدرات، وقد نشر هذا في بعض الإحصائيات.
ولكن ما هي الأسباب التي أدت بشبابنا ومجتمعاتنا إلى هذا التهتك والانحلال؟ أذكر من ذلك بعضاً من أهم هذه الأسباب.
السبب الأول: ضعف مراقبة الحي القيوم، ومن لا يراقب الله يضيعه الله، ولا يحفظه، ومن لا يحفظه سبحانه وتعالى فقد هلك، قال تعالى: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً [الكهف:17].
لما ضعفت مراقبة الله تعالى في قلوب كثير من الناس، بما فيهم الشباب سهل عليهم تعاطي المخدرات فاستحقوا غضب الله ومقته ولذلك فإن أعظم ما يوصى به في هذا المقام وصية النبي لابن عباس: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)) [7] ، فمن حفظ الله تبارك وتعالى، فأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، وأدى الفرائض، وانتهى عن النواهي، حفظه الله، لم يضيّعه.
وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فيدركه فيكبه في نار جنهم)) [8].
فلما ترك هؤلاء، صلاة الفجر في جماعة، ابتلاهم الله بالكبائر، وأخذهم من حيث لا يشعرون حتى وقعوا في مستنقع الرذيلة،..، والقبح، والعياذ بالله.
والسبب الثاني: سوء التربية، فإن مسئولية الأب والأم كبيرة، فالشاب الذي ينشأ على الأغنية والموسيقى، لا يستغرب ولا يستبعد أن يتناول كأس الخمر، أو يتناول الأفيون أو يتعاطى الحشيش أو يروج للمخدرات، وما الذي يمنعه من ذلك، وقد ترب على الأغنية الماجنة، والأفلام الساقطة وعلى الجريمة والفحش.
ما تربى على سورة طه والواقعة وق ما سمع حديثاً من صحيح البخاري أو مسلم، ما حضر درساً من دروس العلم.
فالأب والأم مسئولان أمام الله تعالى يوم القيامة عن ضياع هؤلاء الشباب.
السبب الثالث: الفراغ، فلما فرغت قلوبهم من طاعة الله، ومن ذكر الله، ومن محبة الله، امتلأت من محبة الشيطان، فأضحت تقاد كما تقاد الدابة حتى أوردت مورد الهلاك.
والسبب الرابع: قرناء السوء، والشلل البائرة الفاسدة، التي مكرت بشبابنا، وصورت لهم الدين، وحلقات العلم، على أنها تخلف ورجعية، وتزمت وتأخر!!.
ولكن هاهو إنتاجهم على الصعيد الآخر، وهاهو التقدم الذي يزعمون، حتى أصبحنا نعيش على هامش الحياة، وخلف سطور التاريخ!!.
مر أحدهم بأحد طلاب العلم وهو يقرأ في صحيح البخاري، فقال له ضاحكاً مستهتراً: الناس صعدوا على سطح القمر، وأنت تقرأ في هذا الكتاب!! فردّ عليه طالب العلم قائلاً: أنت ما قرأت في الكتاب وما صعدت على سطح القمر، فأينا أفضل!!.
إنهم ما قدموا شيئاً، ولم يحرزوا مجداً، إنهم لا يجيدون إلا تقليد أوروبا في ميوعتها، وخنوثتها، وتدنيها، وسخفها، وسفهها، لكنهم ما صنعوا لنا طائرة ولا ثلاجة، ولا قدموا لنا خدمات كما تفعل أوروبا، فقد أضاعوا الدين والدنيا جميعاً.
كفقير اليهود لا دين ولا دنيا.
مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء [النساء:143].
خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11].
فتجد أحدهم يفتخر في المجالس أنه سافر إلى أمريكا، وإلى لندن، وإلى باريس، وأنه عاش هناك، ودرس هناك، وهذا والله ليس بشرف، وإنما يحل لنا السفر إلى هذه البلاد للضرورة كما يحل لنا لحم الميتة!!.
قال أهل العلم: لا يسافر إلى بلاد الكفر إلا لعلاج لا يوجد في بلاد المسلمين أو دراسة دنيوية، لا تتحصل إلا في هذه البلاد، أو للدعوة إلى الله عز وجل.
فهل يذهب هذا العدد الكبير إلى هذه الدول للدعوة؟!!.
هل يذكرون لا إله إلا الله في شوارع لندن وباريس؟!.
هل رفعوا لواء محمد هناك؟!.
هل نشروا القيم والأخلاق؟
لقد ذهبوا هناك فأصبحوا أذل وأخس وأحقر من أبناء تلك الدول.
وما ذهبوا لعلاج، والحمد لله فإن في بلادنا ما يكفي في هذا المجال.
وما ذهبوا لطلب العلم، لأنهم ما قدموا لنا شيئاً، وما أنتجوا لنا شيئا.
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا ننتج السيارة
فمن أعظم الأسباب التي أدت إلى فساد كثير من الشباب، السفر إلى هذه البلاد الغربية، وخاصة إذا سافر المراهقون الذين لم يدركوا نعمة الإسلام، فيذهب أحدهم، فينسلخ من دينه ومن عقله، ومن حياته، ويعود في مسلاخ البهيمة والحيوان.
السبب الخامس: تعاطي بعض العقاقير عن طريق الخطأ، أو بزعم أن فيها شفاء من بعض الأمراض، أو أنها نافعة في تقوية شهوة الجنس، وقد كذبوا، لأنه ثبت عند أهل الطب من المسلمين أنها سبب لضعف شهوة الجنس، وضعف النسل وتهديده.
فهذه بعض الأسباب التي أحدثت هذا الاضطراب وهذا الخلل في شباب الأمة، فنسأل الذي بيده مفاتح القلوب، أن يرد شباب المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن ينقذنا من هذه الأزمات، وأن يتوب على شبابنا إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود (3/327) ، رقم (381) ، والترمذي (4/258) رقم (1865) وقال : حسن غريب. وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5530).
[2] أخرجه مسلم (3/1587) رقم (2002).
[3] أخرجه ابن ماجه (2/1120) رقم (3377) ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6313).
[4] أخرجه الترمذي (5/104 ، 105) رقم (2801) وقال : حسن غريب ، وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6506).
[5] أخرجه أحمد (2/71) قال الهيثمي في المجمع (5/76): رواه أحمد والطبراني ، ورجاله ثقات.
[6] قال الهيثمي في المجمع (5/70 ، 71) : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ، خلا صالح بن داود التمار ، وهو ثقة.
[7] أخرجه الترمذي (4/576) رقم (2516) وقال : حسن صحيح ، وأحمد (1/293). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7957).
[8] أخرجه مسلم (1/454) رقم (657).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله:
تكلمنا عن الأضرار وتكلمنا عن الأسباب، وما أنزل الله داء إلا وجعل له دواء، فما العلاج إذن، وما هو الدواء الشافي من هذه الأزمات التي هزت مجتمعاتنا هزاً عنيفاً؟!
إن علاج ذلك يتلخص في عدة أمور:
أولها: وأعظمها وأشرفها العودة إلى الحي القيوم. ومراقبته سبحانه وتعالى وتقواه، فإنها النجاح في الدنيا والآخرة.
قال سعيد بن المسيب وقد ذُكر له رجل ٌ شرب الخمر، ما سبب ذلك وقد كان معنا؟ فقال: ترك طاعة الله، فسقط من عين الله، فرفع الله ستره عنه، وإذا أراد الله أن يرفع كنفه عن العبد، خلاه ونفسه، ولم يستدركه بطاعة، ولم يلهمه رشده، فتردى على وجهه في النار.
فأعظم العلاج، أن نعود بشبابنا وأمتنا إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نعتبر بالأمم الأخرى التي سقطت على وجهها في الهاوية، وحلت بها الكوارث، وفسد شبابها ومجتمعاتها، ودب الاضطراب في كيانها، وأصبح الانتحار عندهم عادة مألوفةَ!! ثم إنهم يستدركون الآن أخطاءهم، يقول كيرسي ميريسون: الآن عرفت الله، لما رأيت أوروبا تزحف إلى النار.
والأمر الثاني: تربية شبابنا وأطفالنا على منهج لا إله إلا الله، وإدخال الإسلام في حياتنا حقيقة لا اسماً، أما أن نزعم بأننا مسلمون فقط لأننا نذهب ونروح إلى المسجد، فهذا ليس بصحيح.
معنى الإسلام أن يكون المهيمن على بيتك وعملك وحياتك كلها هو الله سبحانه وتعالى، وأن لا نتحاكم إلى أحد غير الله تعالى في كل شئون الحياة قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت [الأنعام:162-163].
والأمر الثالث: أن نتعلم النافع: الذي تحتاج له القلوب والأبدان، فنملأ به أذهان الناس، فراغ الناس، حياة الناس، نقود الناس إليه، نعمل على نشره وإيصاله إلى كل فرد من أفراد المجتمع، ونحارب تلك العلوم الخبيثة السخيفة التي لا تنفع ولا تقرب إلى الله تعالى، فهي ليست علوماً على الحقيقة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: كل علم وفد إلى المسلمين فإن كان خيراً، فإن عندنا من الخير ما يكفينا، وإن كان شراً، فلسنا في حاجة إلى الشر.
فمن العلاج أن نأتي بشباب الأمة، ونجلسهم في ندوات العلم، وندعوهم إلى لقاءات العلماء والدعاة، نحبب إليهم الكتاب والسنة، نرغبهم في دروس الفقه والتفسير والأصول، لترتفع أصولهم إلى الله الحي القوم، ويملأها بالنور والإيمان.
والأمر الرابع: محاولة القضاء على الفراغ، فليس في حياة المسلم ما يسمى بوقت الفراغ، والله عز وجل يقول: قد علم كل أناس مشربهم [البقرة:60].
فمن كانت وجهته علمية فليذهب إلى المؤسسات العلمية، من جامعات ومعاهد، ومدارس، وقد انتشرت والحمد لله، مما يسهل على طالب العلم الالتحاق بها، فعليه أن يبذل جهده في المذاكرة والتحصيل.
وإن كان له تميز وتخصص في مجال آخر فليذهب به إلى ما يجيده، من تجارة نافعة، أو صناعة، أو عسكرية شريفة، يحمي دينه ووطنه ومقدساته.
فالقضاء على الفراغ في حياة الشباب المسلم، ينبغي أن يكون من أول ما يوجه المصلحون عنايتهم إليه.
خامساً: الحفاظ على أبنائنا من قرناء السوء، فإن بعض الآباء من الذين قلَّ تدينهم وفقههم في دين الله، يذهب ابنه الساعات والأيام، ولا يسأله أين ذهب؟ ومع من كان؟ وأين نام؟ ولا يدري هذا الأب أن ابنه كان في جولة مع شياطين الإنس، يسلخونه من دينه وعقله وإسلامه، ليصبح فرداً من أفراد تلك العصابات الضالة ثم لا ينتبه الأب، إلا وابنه خلف الأسوار، أو حين يطبق عليه حكم الله، فيكون عاراً وفضيحة لأسرته وأمته في الدنيا والآخرة.
سادساً: ومن العلاج أيضاً: أن لا نسكت على ترويج هذه السموم، وأن نحارب كل مروج ومهرج ومفسد، فنأخذ على يده، ونخبر عنه، إذا كان مجاهراً، فإن التستر على المجاهر تعاون معه ومساعدة له وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب [المائدة:2].
كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110].
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك، أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم قرأ: لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [المائدة:78-79].
ثم قال : ((كلا والله.. لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنّه [1] على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً)) [2].
أيها المسلمون:
إن السعادة ليست في أن نجمع الأموال، ولا أن نبني القصور، ولا أن نتفاخر بالفلل، فإن قصور أوروبا وأمريكا أطول من قصورنا، وفللهم أعظم من فللنا، وسياراتهم أفخر من سياراتنا، قال تعالى: ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سُقُفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين [الزخرف:33-35].
فسعادتنا - أيها المسلمون – في حمل رسالة الله، وسيادتنا في عبوديتنا لله، وسعادتنا في تطبيقنا لشرع الله عز وجل.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيناً
فيا شباب الإسلام:
عودة إلى الله، عودة إلى المسجد، عودة إلى المصحف، عودة إلى حلقات العلم، عودة إلى ربكم.
شباب الدين للإسلام عودوا فأنتم مجده وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجره الباهي الجديد
أسأل الله لنا ولكم عودة صادقة إليه.
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
[1] أصل الأطر: العطف والتثني ، أي : لتردنه إلى الحق ، ولتعطفنه عليه.
[2] أخرجه أبو داود (4/121 ، 122) رقم (4336) وأخرجه الترمذي (5/235) رقم (3047) وقال : حسن غريب.
(1/1509)
عبادة الرسول
سيرة وتاريخ
الشمائل
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة النبي. 2- وصف الله له بالعبودية. 3- صور من عبادة النبي وخشوعه. 4-
صور من عبادة الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
إن الأمم والشعوب والدول، تفتخر بعظمائها، وتبني بهم أمجادها وتؤسس التاريخ لمنقذيها، وما علمنا، ولا عرفنا، ولا رأينا، رجلاً أسدى لبني جنسه ولأمته من المجد والعطاء والتاريخ، أعظم ولا أجل من رسول الله.
أما ترى ما يفعل الإنجليز والألمان والفرنسيون والأمريكان بعظمائهم.
وعظماؤهم سفكة للدماء، ملاحدة وخونة، بنوا مجدهم على الجماجم والأشلاء، وسقوا زروع تاريخهم بدماء الضحايا والأبرياء، قتلوا الأطفال والنساء، وحاربوا الفضيلة والشرف، ونشروا العهر والرذيلة بين الشعوب.
فحرام حرام، أن يذكر رسول الله، عليه الصلاة والسلام، مع هؤلاء، أو أن يجعل في مصافّهم، أو يقارن بهم، إنه صلى الله عليه وسلم من نوع آخر، إنه نبي وكفى، إنه رسول فحسب، تلقى تعاليمه من ربه تبارك وتعالى.
والعجيب أنهم من تعظيمهم لهؤلاء الجبناء، الأذلاء، الرخصاء، يُذرون على نبينا عليه الصلاة والسلام.
غريب هذا الأمر، وعجيب هذا التصرف.
إذا عيّر الطائي بالبخل مادرٌ وعيّر قسًّا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت كسيفة وقال الدجا للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويانفس جدي إن دهرك هازل
الرسول عليه الصلاة والسلام هو أعظم الناس، وإذا سمعت عن عظيم فاعلم أنك إذا رأيته كان أقل مما سمعت، إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، إنه أعظم وأعظم مما تسمع عنه.
واليوم نتحدث عن جانب العبودية في حياته ، كيف عاش عبداً، ما هي عبادته لله، كيف كانت صلاته، كيف كان يصوم، ما هو ذكره لله تبارك وتعالى.
الله عز وجل يمدحه في القرآن بالعبودية في أشرف أحواله ، فيقول عنه: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى [الإسراء:1].
ويقول عنه: وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً [الجن:19].
ويقول أيضاً: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً [الفرقان:1].
محمد أعبد الناس لله، وأشدهم له خشية.
يقول الله له: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر:99]. يعني الموت لا كما قال المنحرفون: اعبد ربك حتى تتيقن بوحدانيته ثم اترك العبادة، وقد كذبوا على الله إنما المعنى: اعبد ربك في الشتاء والصيف، في الحل والترحال، في الصحة والسقم، في الغنى والفقر حتى يأتيك الموت يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً [المزمل:1-5].
يا أيها المزمل قم لإصلاح الإنسان، يا أيها المدثر في لحافه: قم لهداية البشرية، يا أيها المزمل في فراشه: قم لهداية الإنسانية، فقام عليه الصلاة والسلام، ثلاثاً وعشرين سنة، ما نام ولا استراح، أعطى الإسلام دمه ودموعه، أعطى الدعوة وماله وكيانه، أعطى الإسلام ليله ونهاره، فما نام ولا فتر ولا هدأ حتى أقام لا إله إلا الله.
يأتيه الحزن والهم والغم، فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) [1] أي بالصلاة. تأتيه المصائب والكوارث فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) تأتيه الفواجع والزلازل فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)) يموت أبناؤه وأحبابه وأصحابه، ويقتل جنوده، ويهزم جيشه، فيقول: ((أرحنا بها يا بلال)).
يقول : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) [2] ما كان يرتاح إلا إذا قام يصلي، إذا قال: الله أكبر، كبر بصوت تكاد تنخلع لصوته القلوب، فيضع يده على صدره فيكون الله أعظم من كل شيء لأنه الكبير – سبحانه وتعالى – فيقف متواضعاً متبتلاً متخشعاً متذللاً أمام الواحد الأحد.
يقول عبد الله بن الشخير: (دخلت على رسول الله فوجدته يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) [3] والمرجل: القدر إذا استجمع غلياناً.
ويقول حذيفة: قام عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة الليل بعد صلاة العشاء، قال: فدخلت معه في الصلاة فافتتح سورة البقرة، فقلت يسجد عند المائة، فختمها، فافتتح سورة النساء فاختتمها، فافتتح سورة آل عمران ثم اختتمها، لا يمرّ بآية رحمة إلا سأل الله، ولا بآية عذاب إلا استعاذ بالله ولا بتسبيح إلا سبح، قال: ثم ركع، فكان ركوعه قريباً من قيامه، ثم قام فكان قيامه قريباً من ركوعه، ثم سجد فكان سجوده قريباً من قيامه وركوعه، ثم صلى الركعة الثانية قريباً من الأولى [4] ، ما يقارب الست ساعات أو السبع ساعات مع الفقر والجوع، ومع الجهاد في النهار، ومع الزهد، ومع الدعوة إلى الله، ومع تربية الأطفال، ومع شئون البيت، ست أو سبع ساعات وهو يتبتل إلى الله، تفطرت قدماه، وتشققت رجلاه فتقول له زوجته عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله كيف تفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) [5].
يقول عبد الله بن مسعود: صليت مع رسول الله ، فأطال حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه [6].
الرسول عليه الصلاة والسلام قام ليلة من الليالي فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم بكى، ثم قال: ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله، ويلٌ لمن لم تدركه رحمة الله.
يسجد عليه الصلاة والسلام السجدة الواحدة مقدار ما يقرأ الواحد منا خمسين آية، ويركع الركعة الواحدة مقدار ما يقرأ القارئ منا خمسين آية، هذا في صلاة الليل، يدعو ويبكي إلى الصباح، حتى تسقط بردته من على كتفيه، كما في ليلة بدر، يناجي ربه، ويقرأ كتابه، ويتبتل إلى الله؛ لأن العبادة أقرب باب إلى الله.
ونحن أيها المسلمون: في سعد ورغد، في عيش رضي، في أمن وصحة، الموائد الشهية، الفلل البهية، المراكب الوطية، ومع ذلك نترك صلاة الجماعة إلا من رحم الله، أيُّ أمة نحن، أي قلوب نحملها، إذا لم نقم بالصلوات الخمس، كما أرادها الله عز وجل.
قال بلال كما روى ابن جرير وابن مردويه: مررت على رسول الله قبل صلاة الفجر، فسمعته يبكي فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي هذه الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبرها قلت: ما هي يا رسول الله؟ فأخذ يقرأها ويبكي: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران:190-191].
كيف ترقى رقيك الأولياء يا سماء ما طاولتها سماءُ
إنما مثلوا صفاتك للناس كما مثل النجوم الماءُ
حن جذع إليك وهو جماد فعجيب أن يجمد الأحياءُ
كان عليه الصلاة والسلام يصوم، فيواصل الليل بالنهار، ثلاثة أيام وأربعة أيام، لا يأكل شيئاً فأراد الصحابة أن يواصلوا كما يواصل فقال: ((لا إنكم لستم كهيئتي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) [7] ، لا يطعمه طعاماً، ولا يسقيه شراباً، إنما حكماً ومعارفاً، وفتوحاتٍ ربانية وإلهامات إلهية.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتُلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد
يصوم في السفر وقد التهب الجو، قال أبو الدرداء كنا في شدة الحر حتى والله الذي لا إله إلا هو، إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة حرارة الشمس، وما فينا صائم إلا رسول الله وابن رواحة.
يجلس مع الصحابة، فيقول لابن مسعود: ((اقرأ علي القرآن)) ، فيندفع يقرأ عليه حتى بلغ قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً [النساء:41]. قال: ((حسبك)) ، قال ابن مسعود، فنظرت فإذا عيناه تذرفان [8].
يبكي تواضعاً لله تبارك وتعالى، وشفقة على هذه الأمة.
قالت عائشة رضي الله عنها استفقت ليلة من الليالي فبحثت عن الرسول، عليه الصلاة والسلام، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك [9].
أيها المسلمون:
متى يقدّم الإنسان للقبر ما لم يقدم هذه الليالي، متى يصلي إذا لم يصل هذه الأيام، متى يذكر الله إذا لم يذكر الله في هذه الأوقات.
إذا دفن الإنسان فلن يصلي عنه أحد، ولن يصوم عنه أحد، ولن يذكر عنه أحد.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
تسير وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
رسول الله هو أعبد الخلق لله، وأشدهم له خشية، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك أجهد نفسه في العبادة، في صلاة الليل، في الذكر، في تلاوة القرآن، في التسبيح والتهليل.
فتمسكوا – رحمكم الله – بهديه، وعضوا على سنته بالنواجذ، ففي الأثر الإلهي:
لو جاءوني من كل طريق واستفتحوا علي من كل باب، ما فتح لهم حتى يأتوا خلفك يا محمد.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود (4/296) ، رقم (4985 ، 4986) ، وأحمد في المسند (5/364 ، 371) ، وصححه الألباني ، كما في صحيح الجامع رقم (7892).
[2] أخرجه النسائي (7/61 ، 62) رقم (3939 ، 3940) ، وأحمد في المسند (3/128 ، 199، 285) ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3098).
[3] أخرجه أبو داود (1/238) رقم (904) والنسائي (3/13) رقم (1214) ، وأحمد في المسند (4/25 ، 26).
[4] أخرجه مسلم (1/536 ، 537) ، وأحمد في المسند (5/384 ، 397).
[5] أخرجه البخاري (2/44) ومسلم (4/2171) رقم (2819 ، 2820).
[6] أخرجه مسلم (1/537) رقم (773).
[7] أخرجه البخاري (2/232 ، 242 ، 243) ، ومسلم (2/774) رقم (1102 ، 1103).
[8] أخرجه البخاري (5/180).
[9] أخرجه مسلم (1/352) رقم (486).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم؛ أن المارّ إذا مر بهم في السّحر سمع لبيوتهم دوياً كدوي النحل، من البكاء وقراءة القرآن والدعاء، هذا في مدينة رسول الله ، دعاءٌ وبكاءٌ ومناجاةٌ وقت السحر،، فما هو حالنا مع حالهم، كيف نعيش بالنسبة إليهم، إن تلك التلاوة، وذاك الدعاء، وهذا البكاء من خشية الله، أبدل في بيوتنا – إلا من رحم الله – بالغناء والموسيقى والعود والوتر.
روى بن أبي حاتم أنه كان يمر في ظلام الليل يتفقد أصحابه، كيف كانوا يصلون، كيف كانوا يدعون، كيف كانوا يبكون، فسمع عجوزاً تقرأ من وراء الباب وتبكي. عجوز مسنة، تقرأ قوله تعالى: هل أتاك حديث الغاشية [الغاشية:1]. وتبكي، وتعيد الآية وتبكي، فوضع رأسه على الباب وبكى ، وردد الآية ثم قال: ((نعم أتاني، نعم أتاني)). هذه عجوز ضعيفة، فأين شباب الأمة، أين أهل القوى والعضلات، أين أهل البروز والإجادة.
إن القوي هو القوي في طاعة الله، وإن المفلح هو السائر في طريق الله، وإن المتقدم هو المتقدم إلى مرضات الله، إذا علم هذا فإنه في جانب الذكر كان أكثر الناس ذكراً لله تبارك وتعالى، نفسه ذكر لله، وفتواه ذكر لله، وخطبه ذكر، وكلامه وليله ونهاره وحركاته وسكناته ذكرٌ لله تبارك وتعالى.
قال ابن عباس كان النبي إذا قام من الليل يتهجد، قال: ((اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد، أنت ملك السموات والأرض ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمدٌ حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) [1].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا قام من الليل افتتح صلاته: ((اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) [2].
هل سمعتم بعد كلام الله أحسن من هذا الكلام، ما أجمل وقت السحر، يوم تناجي الله، يوم ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟
يقول محمد إقبال شاعر الإسلام:
يا رب لا تحرمني أنّة السحر، يا رب اجعلني من البكائين الخاشعين لك في السحر، يا رب إذا حرمتني جلسة السحر فإن قلبي يقسو ولن يلينه شيء.
فيا عباد الله:
هذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام في عبادته، في صلاته وصيامه، في قراءته وذكره، وهو أسوتكم وقائدكم إلى الجنة، ونجاتكم مرهونة باتباعه، وعقدكم وسيركم إذا لم يكن على سنته، فهو الهلاك والدمار، وهو العار والخسار، في الدنيا والآخرة: لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة [الأحزاب:21].
فيا من أراد الجنة، يا من أراد النجاة، يا من أراد الفلاح، يا من أراد الخير والعدل والسلام، والله ليس لك قدوة، لا زعيم ولا رائد، ولا مصلحٌ، ولا إمامٌ، ولا عابدٌ، ولا منقذٌ، ولا معلم، إلا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الناس:
صلوا وسلموا على من جمّلنا المجلس بذكره فقد أمركم بذلك ربكم فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري (2/41 ، 42) ، ومسلم (1/532 ، 533) رقم (769).
[2] أخرجه مسلم (1/534) رقم (770).
(1/1510)
ما هي السعادة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فضائل الإيمان
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل إنسان يبحث عن السعادة في مظانها. 2- بعضهم يرى السعادة في الحال وآخرين في
الجاه. 3- السعادة في الإيمان والعمل الصالح وصور ذلك في حياة السلف. 4- نصيحة أبي
العتاهية لهارون الرشيد. 5- احتضار عبد الملك بن مروان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون:
عنوان هذه الخطبة ((ما هي السعادة)).
يبحث كل إنسان بكل ما أوتي من قوة عن السعادة، فما هي السعادة؟ وأين توجد؟
هل السعادة مال وفير وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث؟
هل السعادة منصب يرفع العبد على الناس، فيصبحون له خدماً وخولاً؟
هل السعادة صحة الجسم، فلا يمرض، ولا يجوع، ولا يبأس؟
هل السعادة السلامة من الناس، والنجاة من غوائلهم ودواهيهم؟
لقد طلب السعادة أقوام من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق، سبباً لدمارهم وهلاكهم، وللعنة الله التي وقعت عليهم.
طلبها فرعون وتلاميذه في الملك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلطن بلا طاعة، فتشدق في الجماهير: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [الزخرف:51]. ونسي أن الذي ملكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول: ما علمتُ لكم من إله غيري [القصص:38]. فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله؛ إنه لم يتحصل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها فأخذه الله نكال الآخرة والأولى [النازعات:25]. ويقول الله عنه وعن مثله: النار يُعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر:46].
ويمنح الله قارون كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته الوقحة، فأبى وأصر على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر فخسفنا به وبداره الأرض [القصص:81].
وطلب السعادة الوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن الله خلفه فرداً بلا ولد ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا [المدثر:11-16].
فماذا فعل، كيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم جنوداً يحاربون الله، إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر [المدثر:26-30].
وهذا يلتمس السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه، ليصبح معبود الجماهير، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره، ويمحق سعيه فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
وذاك يظن أن السعادة في الفن، الفن المتهتك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، ويحجب الله السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته، ويدين بربوبيته، فيقول: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه:124-126].
فأين السعادة؟ أين توجد لمن يبحث عنها؟ أين مكانها؟ من الذي أتى بالسعادة وأدخلها القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
السعادة الإيمان والعمل الصالح، وجدها يونس بن متى، وهو في ظلمات ثلاث: في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به الحبال، إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب، إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت، بلسان ضارع حزين: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين [الأنبياء:87]. فوجد السعادة.
ووجدها موسى عليه السلام، وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد: كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء:62].
ووجدها محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً: لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
سهدت أعينٌ ونامت عيون في شئون تكون أو لا تكون
فاطرح الهم ما استطعت فحملانك الهموم جنون
إن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكون
ووجد السعادة يوسف عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار [يوسف:39]. فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.
ووجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً، لو جلده الجمل لمات، كما قال جلاده، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة، فيجد السعادة.
أما الذي جلده، وهو المعتصم، فلما حضرته سكرات الموت، رفع بساطه، ومرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه. ثم يقول: لو علمت أني أموت شاباً، ما فعلت الذي فعلت من الذنوب.
ووجدها ابن تيمية، وهو يكبّل بالحديد، ويغلق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب [الحديد:13].
ويلتفت ابن تيمية إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأ وخبراً من السجن فيقول: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي.. أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة!!.
ووجدها إبراهيم بن أدهم، وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا يجد كسرة الخبز ويقول: والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش، لو علم به الملوك لجالدونا عليه بالسيوف!.
هذه هي السعادة، وهذه أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح، الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه: فإن له معيشة ضنكاً [طه:124]. ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: فإن له معيشة ضنكا. ومن جمع الدنيا، وتقلد المنصب بلا إيمان، جعل الله خاتمته فإن له معيشة ضنكا.
فيا طلاب السعادة، ويا عشاق السعادة، ويا أيها الباحثون عن الخلود في الآخرة، في جنات ونهر، لا يكون ذلك إلا من طريق محمد عليه الصلاة والسلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر له شكراً شكراً، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، والهادي إلى رضوان ربه، وعلى آله وصحبه، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المتنبي الشاعر:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعقُ
نُبقي على الدنيا وما من معشرٍ جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحدٌ ضيق
خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلالٌ مطلقُ
قال أهل السير وأهل التاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة، وتولاها بعد أبيه، أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة، في عمارة قصر على نهر دجلة؛ يدخل النهر من شمال القصر ويخرج من جنوبه، وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية، فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يقول: ليهنك العيش والسعادة، ودوام الصحة والعافية، في ظل هذا القصر، فارتاح هارون لهذا الكلام وقال: هيه، يعني زد، قال:
يجري عليك بما أردت مع الغدوّ مع البكور
يقول: يأتيك الخدم والجواري، بالأطعمة والأشربة، وكل ما أردت، صباحاً ومساء قال: هيه، قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!!
قال: أعد. أعد. قال: فإذا النفوس تغرغرت، يعني إذا حضرت سكرات الموت، وحان الأجل، وساعة الصفر، وبلغت الروح التراقي: وقيل من راق [القيامة:27]. والتُمس الطبيب، وذلك الذي يحيد منه العبد.
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!!
يقول: إذا أتتك سكرات الموت، وأشرفت على الهلاك، سوف تعلم أنك كنت تضحك على نفسك، وأنك كنت تعبث كما يعبث الصبيان، قال: أعد، ثلاثاً، فردد أبو العتاهية:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!!
فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهتكت، والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم، فلم يمض عليه شهر واحد، حتى أصبح في عداد الموتى.
هذا هو هارون الذي كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة، ويغزو سنة، ويحج سنة.
وقصص الذين كانوا يبحثون عن السعادة، ولكنهم لم يوفقوا لها كثيراً، فهذا عبد الملك بن مروان حكم العالم الإسلامي، طوله وعرضه، شرقه وغربه، ولكنه لما أتته سكرات الموت، نزل من على سرور الملك، لأن سرير الملك لرجل آخر غيره، لأنه لا يمكن أن يستمر عليه، فالله – تبارك وتعالى – وحده، هو صاحب الملك والملكوت، وهو وحده الذي يعزل ويولي، ويملك ويخلع، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت.
نزل، وسمع غسالاً بجانب القصر في سعادة، وفي هناء، ما عنده ملك، ولا مشاغل، ولا مشاكل، وكان هذا الغسال ينشد نشيداً، وهو يغسل الثياب، فقال عبد الملك: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الخلافة، يا ليتني ما توليت الملك، ثم مات. قال سعيد بن المسيب، معلقاً على هذه الكلمات: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا في سكرات الموت، ولا نفر إليهم.
أيها الناس:
من أراد السعادة فليلتمسها في المسجد، في المصحف، في السنة، في الذكر، في التلاوة، في الهداية، في الاستقامة، في الالتزام، في اتباع محمد، عليه الصلاة والسلام.
عباد الله:
صلوا على المعصوم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه فإنه يقول: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليّ)).
(1/1511)