عوامل القوة في حياة المسلمين
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, فضائل الإيمان, قضايا دعوية
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرف المسلم وعزه في تمسكه بالقرآن والسنة. 2- قصة ابن أم مكتوم مع النبي.
3- زواج جليبيب ومقتله. 4- عطاء بن رباح مفتي الحج. 5- عمر في بلاد الشام. 6- ربعي
في بلاط رستم. 7- التأسي بالساقطين والساقطات ومهازيل الأمم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس:
ومما زادني شرفا وفخرًا وكدتُ بأخْمصي أَطأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لِي نبيّا
من مبادئنا الأصيلة ومن تعاليمنا الجليلة أن نفتخر بهذا الدين، وأن نتشرف بأن جعلنا الله مسلمين، فمن لم يتشرف بالدين ومن لم يفتخر بكونه من المسلمين، ففي قلبه شك وقلة يقين، يقول الله في محكم التنزيل، مخاطبًا رسوله، : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف: 44]. أيْ: شرف لك، وشرف لقومك، وشرف لأتباعك إلى يوم القيامة، فالواجب أن تتشرف بالقرآن، لكونك من أمة القرآن، ومن أمة الإسلام.
بشرى لنا معشر الإسلام أنّ لنا من العناية ركنًا غيْر مُنْهدِم
لَمّا دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرُّسْلِ كنا أكرمَ الأممِ
ولذلك يقول جلّ ذكره: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
قال الأستاذ سيد قطب: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ الأعلون سندًا، والأعلون مبادئًا، والأعلون منهجًا، فمبدؤكم المبدأ الأصيل، وقرآنكم القرآن الجليل، وسندكم الربُّ الفضيل، فكيف يَهِن من كان الله سنده، وكيف يهن من كان الله ربه ومولاه، وكيف يهن من كان رسوله وقدوته محمدًا ، وكيف يهن من كان دينه الإسلام.
ولذلك كان لِزامًا علينا أن نفخر، وأن نشعر بالشرف والجلالة والنُّبل، يوم أن جعلنا الله مسلمين؛ لأن بعض الناس قد يخجل أن يلتفت إلى السّنّة، أو أن تظهر عليه معالم السنة، وهذا خطأ كبير وانهزام نفسي فاحش.
كيف يخجل المؤمن من السنة ونجاته يوم القيامة موقوفة على اتباعها؟! ويظن بعض هؤلاء أن الغرب بما وصل إليه من تقدم علمي هم أهدى سبيلاً من أهل الإيمان والإسلام! ولذلك يَرُدّ الله عز وجل على الذين ظنوا أن مبادئ الشرف ومبادئ الرِّفعة، في تحصيل الأموال وامتلاك الدنيا فقال سبحانه: وَقَالُوا لَولاَ نُزِّل هَذَا القُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيم أَهُمْ يَقسِمُونَ رَحمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحمَةُ ربِّك خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 31، 32].
الشرف كل الشرف ليس في الدور، ولا القصور، ولا في الأموال، ولا في الأولاد، ولا في الهيئات ولا في الذوات، الشرف أن تكون عبدًا لرب الأرض والسماوات، الشرف أن تكون من أولياء الله، الذين يعملون الصالحات، ويجتنبون المحرّمات.
جاء عبد الله بن أم مكتوم الضرير الفقير المسكين إلى المصطفى يسأله في بعض الأمور، والرسول مشغول بكفار قريش وساداتهم ويريد أن يهديَهم إلى صراط الله المستقيم، فلما دخل عليه قال: يا رسول الله، أريد كذا وكذا فأعرض عنه لأنه لا يريد أن تفوته الفرصة مع هؤلاء الكبار، فعاتبه ربه من فوق سبع سماوات، عاتبه في أمر هذا المسكين الضرير، يقول الله له: عَبَسَ فخاطبه بخطاب الغَيْبة، ولم يقل (عَبَسْتَ) وإنما يقول: عَبَسَ أي: تغير وجهه واكفهرّ، عبس هذا الرسول، عبس هذا النبي، عبس هذا الداعية في وجه الرجل الصالح عَبَسَ وَتَوَلَّى أي: أعرض عنه عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس: 1، 2]، ولم يُسمِّه باسمه، إنما ذكره بصفته أَن جَاءَهُ الأَعْمَى ثم قال له: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس: 3]، من أخبرك بحاله؟ لعله أراد أن يتطهّر بالعلم النافع أراد منك أن تُفقّهه بالدين، أراد منك أن تقوده إلى رب العالمين، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعهُ الذِّكرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس: 4، 5]، أما الكافر الذي استغنى عن الرسالة والرسول، وعن القرآن والسنة، وعن الهداية والنور أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى [عبس: 5، 6]، تستقبله، وتهش وتبش في وجهه، وتلين له في الخطاب. هؤلاء الجبابرة الذين أتوك تستقبلهم، أما هذا الأعمى فتعرض عنه، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى [عبس: 6، 7]، ليس عليك حسابهم، ذرهم يموتوا بكفرهم وجبنهم وعنادهم وجبروتهم، فالنار مثواهم، وَمَا عَلَيكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 7–9]، لا، لا تفعل. فأتى عبد الله بن أم مكتوم مرة ثانية، فقام له ، وعانقه، وفرش له رداءه، وقال له: ((مرحبًا بالذي عاتبني فيه ربي)).
وبالفعل كانت النتيجة أن من مات من هؤلاء الأشراف السادة، ماتوا على الكفر ودخلوا نارًا تلظى، وأما عبد الله بن أم مكتوم فأسلم واستمر على إسلامه ووفائه.
ولما أتى داعي الهداية وداعي الكفاح وداعي الجهاد وارتفعت راية الإسلام في يد عمر رضي الله عنه وأرضاه ونادى بالنفير إلى القادسية، إلى معركة فاصلة، مع آل كسرى وآل رستم، كان من المجاهدين عبد الله ابن أم مكتوم. قال له الصحابة: إنك معذور، أنت أعمى، قال: لا والله، الله يقول: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة: 41]. فلما حضر المعركة سلموه الراية، فوقف مكانه حتى قتل، فكان قبره تحت قدميه رضي الله عنه وأرضاه.
سلام على ذلك الصديق المخلص، وسلام على ذلك المنيب، الذي تشرف بالإسلام، فكان قلعة من قلاع الحق، استقبلت نور السماء، فوزعته على البشرية، والرسول عليه الصلاة والسلام، كما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ما أعجب رسول الله شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى. رواه أحمد. وعبد الرحمن بن عوف يقول: والله، ما رأيت متقيًا لله إلا وددت أنني في مسلاخه.
ترى المتقي، فيحبه قلبك إن كنت مسلمًا؛ لما يظهر عليه من علامات النصح والقبول والرضا، وترى الكافر فيبغضه قلبك ولو كان وسيما جميلاً، فعليه آيات السخط والغضب، وعليه سمات الإعراض عن الله. وإذا رأيتهم تعجبُك أجسامُهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُبٌ مُسَنَّدة [المنافقون: 4]. أما الأجسام فطويلة، وأما البشرة فجميلة، ولكن القلوب قلوب ضلالة، وقلوب جهالة، وقلوب عمالة، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم، لا يملكون في الدنيا قليلاً ولا كثيرًا، ولا يجد أحدهم إلا كسرة الخبز، وينام في الطرقات، ولكن الله نظر إلى قلوبهم فهداهم إلى الإسلام، أما الذين يتغنون في القصور والدور، قد لا يهديهم سبحانه وتعالى سواء السبيل: ولو عَلِمَ الله فيهم خيرًا لأسمَعَهم ولو أسْمَعَهم لتولَّوْا وهم معرضون [الأنفال: 23].
جاء جليبيب إلى رسول الله ، فتبسم عليه الصلاة والسلام، لما رآه، وقال وهو يناصحه: ((يا جليبيب أتُريدُ الزواج؟ فقال يا رسول الله: من يزوجني، ولا أسرة عندي، ولا مال، ولا دار، ولا شيء من متاع الدنيا. فقال عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى ذلك البيت من بيوت الأنصار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول الله ، يأمركم أن تزوجوني)) ، فذهب وطرق عليهم الباب وكانوا من سادات الأسر، ومن كبريات العشائر في الأنصار، فخرج ربُّ البيت، ورأى جُليْبيبًا وهيئته وفقره وعوزه، فقال له ماذا تريد؟ فأخبره الخبر، فعاد إلى زوجته، فشاورها، ثم قالوا: ليته غير جليبيب؛ لا نسب، ولا مال، ولا دار، فشاوروا تلك البنت الصالحة، التي تربت في مدرسة التوحيد، فقالت: وهل نردُّ رسولَ رسولِ الله ، فتزوج بها، وعمر بيته الذي أسسه على تقوى الله - عز وجل – ورضوانه، ترفرف عليه المسكنة، ويزينه التكبير والتهليل والتحميد، وتظلله الصلاة في الهجيرِ، والصيام في شدة الحر.
وحضر النبي ، معركة من المعارك، فلما انتهت بالنصر، قال ، لأصحابه: ((هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم، فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثم قال : هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: : لكني أفقد جليبيبًا فاطلبوه فطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعةٍ قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبيُ ، فوقف عليه، فقال: قتل سبعةً ثم قتلوه. هذا منِّي وأنا منه، هذا مني وأنا منه، ثم وضع ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي ، ثم حُفِر له، ووضع في قبره)) رواه مسلم.
لقد كانت عظمة هؤلاء يوم اتصلوا بالواحد الأحد، وعرفوا الله عزّ وجلّ، فَعَرَّفهم الله عز وجل على منازل الصديقين.
دخل سليمان بن عبد الملك الحرم، ومعه الوزراء، والأمراء، والحاشية، والجيش، فقال: مَن عالم مكة؟ قالوا: عطاء بن أبي رباح، قال: أروني عطاء هذا، فأشرف عليه، فوجده عبدًا، كأن رأسه زبيبة مشلولاً نصفه، أزرق العينين، مفلفل الشعر، لا يملك من الدنيا درهمًا ولا دينارًا، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا؟ قال: يقولون ذلك، قال بماذا حصلت على هذا العلم، قال: بترك فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة، ما خرجت منه، حتى تعلمت العلم، قال سليمان: يا أيها الحجاج لا يفتي في المناسك إلا عطاء.
وحدث ان اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج، فقال: دلوني على عطاء بن أبي رباح، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم، والناس عليه كالغمام، فأراد أن يجتاز الصفوف، ويتقدم إليه وهو الخليفة، فقال عطاء: يا أمير المؤمنين، خذ مكانك، ولا تتقدم الناس؛ فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي، عليكم بتقوى الله، والتفقه في الدين، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد. لأن الله يرفع من يشاء بطاعته، وإن كان عبدًا حبشيًّا، لا مال ولا نسب، ويذل من يشاء بمعصيته، وإن كان ذا نسب وشرف.
جاء هشام بن عبد الملك الخليفة، أخو سليمان، فحج البيت الحرام، فلما كان في الطواف، رأى سالم بن عبد الله بن عمر، الزاهد العالم العارف، وهو يطوف، وحذاؤه في يديه، وعليه عمامة وثياب، لا تساوي ثلاثة عشر درهمًا، فقال له هشام: يا سالم: أتريد حاجة أقضيها لك اليوم، قال سالم: أما تستحي من الله، تعرض عليَّ الحوائج، وأنا في بيت من لا يُعْوِزُني إلى غيره، فاحمر وجه الخليفة، فلما خرج من الحرم، قال: هل تريد شيئًا؟ قال: أمِن حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟ قال: أما حوائج الآخرة فلا أملكها، لكن من حوائج الدنيا، قال سالم: والله الذي لا. إله إلا هو، ما سألت حوائج الدنيا مِن الذي يملكها تبارك وتعالى، فكيف أسألها منك؟!.
إنهم عظماء لأنهم عاشوا في مدرسة النبي ، التي أخرَجت خير أمة للناس، يرون الذهب والفضة للكفار، فيهدمونها ويطأونها بالأقدام، فيقول لهم المستعمر والكافر: خذوا هذا الذهب، واتركوا بلادنا، قالوا: لا والله، دارنا وبلادنا، جنة عرضها السماوات والأرض.
ومن الذي باع الحياةَ رخيصةً ورأى رضاك أعزَّ شيء فاشترى
أم من رأى نار المَجوس فأُطفئت وأبان وجه الصبحِ أبيضَ نيِّرا
إنهم أصحاب رسول الله.
يخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فيخرج له الناس، ويستعرض الجيش المسلم، بقيادة أمرائه الأربعة تحت راية أبي عبيدة المقدام الهمام؛ يستعرضون له في الجابية، فلما أشرف عليهم قال: لا إله إلا الله، ثم قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، ثم أمر الكتائب والجيوش أن تتفرق؛ فيدخل مسكنه في تواضع وفي هدوء، فلما اقترب الأمراء منه قال: تفرّقوا عني، أين أخي أبو عبيدة عامر بن الجراح، فتقدم أبو عبيدة، فعانقه وبكى طويلاً، فقال عمر: يا أبا عبيدة، كيف بنا إذا سألنا الله يوم القيامة، ماذا فعلنا بعد رسولنا ، قال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، تعال نتباكى، ولا يرانا الناس فانحرفا عن الطريق، والجيوش تنظر إليهما، والأمراء، والقساوسة، والرهبان، والنصارى، فاتجها إلى شجرة، ثم توقفا يبكيان طويلاً.
رضي الله عنكم أيها السلف الصالح، يوم عرفتم أن الحياة بسنينها وأعوامها، ينبغي أن تصرف في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
يقول رستم قائد فارس، وتحت يديه مائتان وثمانون ألفًا من الجنود الكفرة، يقول لسعد بن أبي وقاص القائد المسلم. أرسل إليَّ من جنودك رسولاً أكلمه، فأرسل له سعدٌ رضي الله عنه رِبعيّ بن عامر وعمره ثلاثون سنة، من فقراء الصحابة، قال سعد: اذهب ولا تغير من مظهرك شيئًا، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، فخرج ربعيّ بفرسه الهزيل، وثيابه الرثة ورمحه البسيط، فلما سمع رستم أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه، جمع حوله الأسرة الحاكمة، والوزراء، والجنود، واستعدوا لأن يرهبوا هذا الوافد، علّه يتلعثم، فلا يستطيع الكلام، فلما جلس رستم قال: أدخلوه عليّ، فدخل يقود فرسه، واعتمد برمحه على بُسُطهم فخرّقها وأفسدها؛ ليظهر لهم أن الدنيا حقيرة، وأنها رخيصة، وأنها لا تساوي عند الله شيئًا، ومن علامات رخصها وحقارتها؛ أن أعطاها هذا الكافر، وجعل سعد بن أبي وقاص ينام على الثرى.
فلما وقف أمامه قالوا: اجلس، قال ربعيّ: ما أتيتك ضيفًا، وإنما أتيتك وافدًا، فقال رستم: - والترجمان بينهما – مالكم أيها العرب، ما علمنا – وأقسم بآلهته – قومًا أذل ولا أقل منكم؛ للرومان حضارة، ولفارس حضارة، ولليونان حضارة، وللهنود حضارة، أما أنتم، فأهل جعلان، تطاردون الأغنام والإبل في الصحراء، فماذا أتى بكم؟
قال ربعيّ: نعم، أيها الملك كنا كما قلت وزيادة، كنا أهل جهالة، نعبد الأصنام، يقتل القريب قريبه على مورد الشاة، لا نعرف نظامًا ومبدأ، ولا حضارة – أو كما قال – ثم انتفض ,ورفع صوته كأنه الصاعقة في مجلسه قائلاً: ولكن الله ابتعثنا لنخرج العباد؛ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سَعَة الآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام، فغضب رستم وقال: والله لا تخرج، حتى تحمل ترابًا من بساطي، فحمَّله على رأسه، فقال ربعيّ: هذه الغنيمة إن شاء الله؛ تسليم أرضك وديارك، فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام: 45]. فلما أشرف على سعد، قال: ماذا على رأسك يا ربعيّ؟ فقال: تراب من تراب أرض رستم وكسرى، فكبر المسلمون حتى اهتز مخيّمهم وقالوا: هو النصر، تسليم أرضهم بإذن الله.
وفي الصباح الباكر، يوم أشرقت الشمس بأشعة النصر على الدنيا، كان سعد رضي الله عنه وأرضاه في أول الصفوف، والتقى الجمعان، وبرزت الفئتان، وتبدى الرحمن لحزبه سبحانه وتعالى وفي ثلاثة أيام، تسحق كتائب الضلالة والعمالة، وتداس الجماجم التي ما عرفت لا إله إلا الله، وتضرب الرؤوس التي ما دخل فيها نور لا إله إلا الله، ويدخل سعد في اليوم الرابع إيوان كسرى، الذي حكم الدنيا ألف سنة، فيراه مموَّهًا بالذهب، ويرى الياقوت والزبرجد والمرجان، فيبكي سعد ويقول: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماءُ والأرضُ وما كانوا منظرين [الدخان: 25–29].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسْ مَك فوق هاماتِ النجومِ منارا
كنا جبالاً فِي الٍجبالِ وربما صِرْنا على موج البحارِ بِحارا
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهـ ـدمُها ونَهدمُ فوقَها الكفارا
لو كان غيْر الْمسلمين لصاغها حُلْيًا وحاز الكنْزَ والدينارا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وإمام المتقين, وحجة الله على الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الناس، إن مما يجب على المسلم الذي يريد أن يؤسس بيته على تعاليم الإسلام وشرائعه؛ أن يُعَرِّف بيته وأبناءه بالإسلام, وأن يعظم شعائر الله في قلوبهم, وأن يعظم الحدود التي أمر الله بحفظها, فيكون بيته معظمًا لله سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أن تربي في نفس ابنك تعظيم الله, فلا يكون أحدٌ في قلبه أعظم من الله, ولا أجل من الله, ولا أحب من الله, هذا هو البيت المسلم.
واستقامة البيت المسلم وهداية الأبناء تحصل بأمور منها:
أن تعظم في قلب ابنك اسم الله سبحانه وتعالى وتعرفه على الواحد الأحد, فلا يتلفظ بلفظ الجلالة إلا في مكارم الأمور, وفي أشرف المناسبات, وأن تعلمه أين هو الله تبارك وتعالى في علوه, وتعرفه على صفات الواحد الأحد كرمه سبحانه وتعالى وحلمه وبره تبارك وتعالى, وتريه آثار القدرة في أسمائه وصفاته.
يأكل الطعام فتقول له: هذا من فضل الله؛ ليحب الله, يلبس اللباس فتقول له: هذا من جود الله, فيتعرف على الله, يدخل البيت فتقول له: هذا من عطاء الله وفضله, فيتحبب إلى الله تعالى.
ومن أمور التعظيم أيضًا, تعظيم كتاب الله فتحبب إليه القرآن, وتعظم مبدأ القرآن في قلبه, وتجعل القرآن من أعظم اهتماماته في الحياة, فإن وجدت قصاصةُ من المصحف رفعتها وقبلتها وطيّبتها وهو يراك, فإن هذا السلوك أعظم من مائة محاضرة, تحاضر فيها عن عظمة القرآن.
ترى شيئًا من حديث المصطفى فترفعه, يُذكر لك الرسول في المجلس فتصلي وتسلم عليه فتعظم في قلبه رسول الهدى وتعظم في نفسه جهوده وجهاده.
وتعظم كذلك أبا بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين, حتى يكون هؤلاء الأخيار هم النجوم عند أبنائنا, لا نجوم الفن ولا نجوم الغناء؛ لأن كثيرًا من الأطفال تربوا على أن العظماء هم المغنون والمغنيات الأحياء منهم والأموات, فيرى أن هذا المغني قد شق طريق المجد, وقد صعد إلى القمة, وقد نال من الفخر ما لم ينله أحد من العالمين.
ويظن بعض الأطفال أن هؤلاء الفنانين والفنانات رزقوا من العقول ومن الذكاء ما لم يرزقه أحد من الناس, لا لشيء إلا لأن الطفل يصبح ويمسي على صوت هذا المغني, وهذا الفنان وهذا المهرج, أما ذكر محمد فقل أن يسمعه في بيته.
وطائفة من الناس, ثقافتهم آثمة, دخيلة, عميلة, ضالة؛ رأوا أن نجوم المجد ماركس, ولينين وهرتزل ونابليون, وهتلر, أعداء الإنسانية, وشرذمة البشرية, إنهم يقرأون كتبهم ويحفظون كلماتهم, وهؤلاء والذي لا إله إلا هو, والذي شرف محمدًا بالرسالة لا يساوون غبار نعليه ولا يساوون التراب الذي وطئه ولا يساوون ولو اجتمعوا من الشرق إلى الغرب حذاء أبي بكر, أو عمر, أو عثمان, أو علي.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جَمَعتْنَا يا جريرُ المجامعُ
أولئك الذين هدى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90].
أولئك الذين ركبوا متن التاريخ, وأسمعوا أذن الزمن, وامتطوا بحار المجد, يرفعون لا إله إلا الله.
أولئك الذي علم الله الإنسانية بهم العدالة, وأفنى الله بهم الضلالة, ومحق الله بهم العمالة.
أولئك الذين كان كل منهم قرآنًا يمشي على الأرض, يتعاملون بتعاليم القرآن, وينامون على تلاوة القرآن, ويستيقظون على صوت القرآن.
أولئك الذين نظر الله إلى قلوبهم, فرضي عنهم ورضوا عنه؛ يكلم شهداءهم كفاحًا, ويرضى عن مواقفهم, ويثني عليهم وهم في الحياة الدنيا.
يجتمعون تحت شجرة, فينزل جبريل بكلام الله سبحانه وتعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة [سورة الفتح: 18].
ويجتمعون في الصباح الباكر فيتنزل جبريل بقوله سبحانه وتعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا سيماهم في وجوههم من أثر السجود [الفتح: 29].
جلالة, ونور, وبياض, وإشراق, وبشاشة, أما أولئك الذين دخلوا علينا في المجلات الخليعة, وفي الكتب الظالمة الغاشمة, وفي الأفكار الإلحادية الضالة, أولئك أبخس خلق الله, ولا أبالغ إذا قلت: إن الكلاب أطهر منهم, وإن الحمير أنزه منهم؛ لأنها مخلوقة بلا عقول ولا تكليف, أما هم فكلفوا بعقول, ثم ألحدوا, وكفروا, وأعرضوا فهم أضل منها سبيلاً أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله [الجاثية: 23].
نعم إن الذي لا يؤمن بالله, تطارده لعنة الله في الدنيا والآخرة, كما قال تعالى: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ أولئك عليهم لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفَّفُ عنهم العذابُ ولا هم ينظرون [البقرة: 161، 162].
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ علينا إسلامنا, ذلك الإسلام الذي أتى به رسول الله فأخرج به الدنيا من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان والتوحيد.
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدَّل حالَها
بل كرَّم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
عباد الله، صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56]، وقد قال : ((من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/1317)
مدرسة الاستهزاء
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استهزاء قريش وثقيف بالنبي ودعوته. 2- الجلاس وعمير بن سعد ومثال آخر في
الاستهزاء. 3- حرب أعداء الإسلام ودعايتهم السيئة ضد الصحوة وشبابها. 4- قصة
المستهزئين بالرسول وأصحابه في تبوك. 5- نماذج من تتبع المنافقين لعورات المؤمنين.
6- شائعة مرجفة تسري في المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
خطبتنا هذا اليوم بعنوان: مدرسة الاستهزاء، وهي مدرسة قديمة، أنشأها الأفاكون المارقون لمحاربة الصالحين، عبر حقب التاريخ.
وقد عاش مرارتها وبأسها وقسوتها رسولنا عليه الصلاة والسلام، لقد شوّه الأفاكون مسيرته، وتكلموا في عرضه، وأرادوا النيل من مبادئه، وإحراق جهاده ودعوته.
فكان عليه الصلاة والسلام، يقوم في الليل مجروحاً، متأثراً، شاكياً إلى الله تعالى.
يخرج النبي عليه الصلاة والسلام إلى الطائف ماشياً على قدميه، يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، فلم يجيبوه، فينصرف حزيناً، فيأتي ظلّ شجرة، فيجلس، ثم يقول: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ أن ينزل بي غضبك، أو يحلّ بي سخطك، لك العُتبى [1] حتى ترضى ولا قوة إلا بالله)) [2].
آذوه عليه الصلاة والسلام، وأبكوه وطردوه، وأخرجوه من أرضه، وجرّدوه من كل شيء، وهو يدافع عن دينه، ويذب عن مبادئه، حتى إذا تعب أو كلّ، أتى الوحي من السماء يدمغ أنوف المارقين، ويفضح قلوب المستهزئين.
جلس عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في المسجد، يعلمهم، ويربيهم، ويزكيهم، وانطلق شاب صغير مُلئ حكمة وإيماناً، اسمه عمير بن سعد، ودخل على عمه، وهو شيخ كبير في الستين من عمره، ولكن النفاق في قلبه كالجبال، يصلي مع الناس في المسجد، ويصوم ويعتمر، ولكنه مكذب بالرسالة والرسول.
فقال عمير بن سعد: يا عماه، سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام، يخبرنا عن الساعة حتى كأني أراها رأي العين، فقال الجُلاس بن سويد وهو عمه: يا عمير، والله إن كان محمد صادقاً، فنحن شر من الحمير، فانتقع وجه عمير بن سعد، واهتز جسمه، وانتفض كيانه، وقال: يا عم، والله إنك كنت من أحب الناس إلى قلبي، والله لقد أصبحت الآن أبغضهم إلى قلبي جميعاً.
يا عم، أنا بين اثنتين؛ إما أن أخون الله ورسوله، فلا أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بما قلت، وإما أن أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام وليكن ما يكون.
ولكن ما معنى كلمة الجُلاس هذه؟ معناها: الكفر بلا إله إلا الله، وعدم تصديق الرسول والاعتراض عليه.
قال الجُلاس بن سويد: أنت طفلٌ غرٌ لا يصدقك الناس، فقل ما شئت، فذهب عمير، وجلس أمام الرسول، عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله، الجُلاس بن سويد، خان الله ورسوله، وهو عمي، وقد تبرأت إلى الله ثم إليك منه. قال الرسول، عليه الصلاة والسلام: وماذا قال؟ قال عمير: قال: لو كان محمد صادقاً، لنحن شر من الحمير!!.
فجمع الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابة، واستشارهم في هذا الأمر، فقالوا: يا رسول الله، هذا طفل صغير لا تصدقه، فهو لا يعي ما يقول، والجُلاس بن سويد يصلي معنا، وهو شيخ كبير، وعاقل، فسكت عليه الصلاة والسلام، ولم يصدق هذا الغلام.
وسالت دموع هذا الغلام، وانتفض جسمه، والتفت إلى السماء، حيث القدرة، حيث علم الغيب، توجه إلى الذي يعلم السرّ وأخفى ثم قال: اللهم إن كنت صادقاً فصدقني، وإن كنت – يا رب – كاذباً فكذبني، فوالله ما غادر مجلسه، ولا قام من المسجد، إلا وجبريل ينزل بتصديقه من فوق سبع سماوات، يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا [التوبة:74].
واستدعى الرسول الجلاس فسأله عن الكلمة، فحلف بالله ما قالها، فقال عليه الصلاة والسلام يقول الله: يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم. أما أنت يا جُلاس، فقد كفرت بالله، فاستأنف توبتك، فإن الله تعالى يقول: فإن يتوبوا يكُ خيراً لهم [التوبة:74]. واستدعى الرسول عليه الصلاة والسلام عمير بن سعد وقال له: ((مرحباً بالذي صدقه ربه من فوق سبع سموات)) [3].
ماذا يُستفاد من هذه القصة؟ ومن هذا السرد؟ يُستفاد أن هناك معسكراً يسير مع الصالحين، ويصلي مع الصالحين، ويصوم مع الصالحين، وهو في الحقيقة مكذب بالله ورسوله.
وظيفة هذا المعسكر الولوغ في أعراض الصالحين من العلماء والدعاة، كما تلغ الكلاب في الماء.
وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً [الفرقان:31].
يقول المتنبي:
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان عن ملأٍ هم الثريا وذان الشيب والهرم
إن المستقيمين على أمر الله، والطائعين والخائفين من الله – تعالى –، من شباب الصحوة المباركة، ومن دعاتها، ومن علماء الأمة، صالحيها، ومن الذين يحملون سنته، عليه الصلاة والسلام، كل هؤلاء يواجهون بحرب دعائية مفتعلة، لا هوادة فيها، فهم يوصفون بالتطرف والتزمت تارة، وبقلة العقل والتشدد، والتنفير تارة، وتكليف الناس بما لا يطيقون تارة أخرى، وغير ذلك من عبارات الذم والتنقص والاستهزاء.
كبرت كلمة تخرجُ من أفواههم إن يقولون إلا كذباً [الكهف:5].
إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يسرقوا أموال الناس ولا أراضيهم بالغصب والقوة.
إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يضايقوا الناس في أرزاقهم.
إن أتباع محمد عليه الصلاة والسلام لم يعطلوا مصالح الناس، ولم يستهينوا بالفقراء والمساكين، ولم يقفوا حجر عثرة في طريق المستضعفين.
إنهم هم الذين يبينون الظلم، ويكشفون أوراقه، ويقولون للظالم: اتق الله يا ظالم، ويقفون مع الفقراء والمستضعفين والمستذلين، حتى يأخذوا حقوقهم.
ومع هذا كله، فإن صنفاً من الناس لا يعجبه هذا، فيأخذ في إلحاق الوشايات بحملة الشريعة، وأساتذة الجيل، من القضاة، وأهل التمييز، والعلماء، والقائمين على دواوين المظالم، وكتاب العدل، ونجوم الدعوة، وحملة السنة، وأساتذة الجامعات، والمربين وأهل الفضل.
تريد هذه الطائفة من البشر، أن تسقط عدالة هؤلاء جميعاً لأنهم – صراحة – يحملون دين الرسول، عليه الصلاة والسلام، ويحمونه من كيد الكائدين، وتحريف المبطلين، ويبلغونه غضاً طرياً للأمة.
فحذار – أيها الناس – من هؤلاء، حذار من الإنصات إليهم، أو الحضور معهم، أو مخالطتهم.
والحمد لله، فإن أوراقهم مكشوفة، فما رأيناهم إلا لاغين، لاهين، عابثين، مسرفين.
أسرفوا في الأموال وضيّعوها، ولعبوا في الأوقات وبدّدوها، وخاضوا في الأعراض وهتكوها، وكلما نصحت أحداً منهم، وصفك بالرجعية والغلظة والتزمّت!!.
حملة الشريعة يقومون الثلث الأخير من الليل، ويحفظون كتاب الله، ويعلمون الناس سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أما هؤلاء فتجدهم يسهرون على اللعب المحرمة، وعلى الأفلام الهابطة، وعلى الأغنية الخليعة.
يأكلون أموال الناس بالباطل، ويتفكهون الخوض في أعراض المسلمين.
فدخلهم حرام، وكلامهم حرام، وصمتهم حرام، وليلهم حرام، ونهارهم حرام، ولا يحرص أحدهم على تعلم آية من القرآن، أو سنة من سنن سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، فهم في وادٍ والسنة في وادٍ آخر.
قام نفر في عهده، عليه الصلاة والسلام، واتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصحابه بأنهم جبناء لا يثبتون عند اللقاء، وأنهم يأكلون كثيراً، قالوا ذلك وهم قافلون من غزوة تبوك، فاستدعاهم عليه الصلاة والسلام، وسألهم، وأعاد عليهم كلمتهم، فقالوا: معذرة يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله – عز وجل – فيهم قرآناً يتلى إلى قيام الساعة: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:65-66].
لقد خرج هؤلاء النفر من الملة، بسبب كلمة قالوها في حق محمد وأصحابه.
ولست أدري، ماذا يعجب هؤلاء. وماذا يريدون لهذه الأمة؟ هل يريدون أن تتحول الأمة إلى أمة لاهية؟ لا تحمل رسالة، ولا تعرف هدفاً لها في الحياة!!.
ماذا يريدون صراحة؟
وما هو الحل الذي يرضيهم؟!
إن تمسك الشباب بالسنة بغّضوهم إلى المجتمع، وحذروا منهم، ورموهم بالتهم والشائعات.
وشبابنا، وشباب العالم الإسلامي، الذي تمسك بالسنة، ورأى فيها مصدر عزته وكرامته، تاجٌ على جبين هذه الأمة، لا تطرف، لا عنف، لا تشدد، لا غلو، لا تفريط.
أهؤلاء الشباب أفضل أم أولئك الذين خرجوا عن معالم الإسلام، فتراهم يملأون الشوارع، ويتسكعون في الطرقات، ويسافرون إلى المدن التي تعرف بالفساد، لينفقوا فيها أموال الأمة؟
أشباب الصحوة أفضل أم أولئك الذين إذا حضروا ما أقاموا الصلاة، وإذا قرؤوا ففي غير المصحف، وإن شهدوا فبغير الحق، وإن استمعوا فإلى الحرام، وإن ذهبوا فإلى غير المساجد، وإن غضبوا فلغير الله؟
فأي الفريقين أحسن، وأسعد، وأقوم، وأنفع؟ أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون [القلم:35-36].
لقد وجدنا الملتزمين أكثر الناس دفاعاً عن المبادئ، وعن البلاد الإسلامية، فتراهم هناك في فلسطين، وفي أفغانستان، وقد اختلطت دماؤهم بدماء الشعب الأفغاني المسلم، فهل هذا جزاؤهم؟ وهل هذه جريمتهم؟!.
لشتّان ما بين اليزيدين في الندا يزيد بن عمرو والأغرّ بن حاتم
فهمّ الفتى الأزدي إتلاف ماله وهمّ الفتى القيسي جمع الدراهم
ولا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم
قال تعالى: الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جُهدهم فيسخرون منهم سَخِر الله منهم ولهم عذاب أليم [التوبة:79].
ويقول أيضاً: وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [البقرة:14-16].
أيها المسلمون:
قال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته)) [4].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] العتبى: الرضى.
[2] قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/38) رواه الطبراني وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة ، وبقية رجاله ثقات.
[3] ذكره السيوطي في الدر المنثور 3/463 ، 464) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر.
[4] أخرجه أبو داود (4/270) ، رقم (4880) ، والترمذي (4/331) رقم (2032) ، وقال : حسن غريب ، وأخرجه أحمد (4/421 ، 424) ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (7984 ، 7985).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أيها الناس:
إن عادة ضعاف النفوس أنه يتلقون الشائعات، ثم يفشونها في الناس، وينشرونها في المجالس، ولا يعرضون هذه الشائعات على ميزان الكتاب والسنة.
وقبل أيام انتشرت شائعة، أن مولوداً ولد، فلما وضعته أمه على الأرض تكلّم، وأخبر أنه في هذا الشهر سوف تقع حوادث ووقائع وكائنات، وأخذ يحذر الناس من هذا الشهر، ثم ما لبث أن مات.
فماذا كان ردّ الفعل بعد سريان تلك الشائعة؟
رأينا أناساً من الذين نقص حظهم من العلم الشرعي، والفقه في الدين، خائفين وجلين من هذه الشائعة؛ فمنهم من جدّد توبته مع الله، تصديقاً لهذه الشائعة، ومنهم من أعلن أنه سوف يترك المعاصي، ومنهم من سهرت عينه فلم ينم خوفاً مما سوف يحدث من الوقائع والكوارث.
وهذه عجائب – والله – بعضها أدهى من بعض، قال تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قُبلاً [الكهف:55].
وفي هذه القصة أمور:
أولاً: لا يعلم الغيب إلا الله – تبارك وتعالى – قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [النمل:65]. وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [الأنعام:59].
فلا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله وحده، ولا يعلم بوقوع الكوارث ولا نزول العذاب إلا الله – تبارك وتعالى – وحده.
فليس لأحد أن يدعي أنه يعلم شيئاً من الغيب، إلا من أطلعه الله على ذلك من أنبيائه ورسله، عليهم الصلاة والسلام.
ثانياً: ينبغي على أهل الإسلام، إذا حدث نقل هذه الشائعات، أن يعودوا إلى أهل العلم والدعوة، فيسألوهم عن هذه الأمور حتى لا يقعوا في ما حذر منه الشرع.
وقد قال تعالى عن المرجفين والمروجين للإشاعات، وأهل الإثارة: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء:83].
فالواجب على المسلم أن يعود إلى أهل العلم فيما أُشكل عليه، يسألهم مباشرة عن هذه الواقعة أو الشائعة.
ثالثا: عجباً لهذه الأمة، لا تتوب إلا إذا سمعت بشائعة، ولا تعود إلى الله إلا إذا هددت ببركان أو زلزال!!.
كم أصابتنا من كوارث، وكم لدغتنا من عقارب، ومع ذلك فنحن في مكاننا لم نتعداه أولا يرون أنهم يفتنون في كل عامٍ مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون [التوبة:126].
تجد الناس في الرخاء لاهين، لاعبين، يضحكون على أنفسهم، فإذا اشتدت بهم الخطوب، وظهرت الكوارث والمحن، أعلنوا عهداً جديداً مع الله، ثم يعودون مرة أخرى بعد انتهاء المحنة إلى ما كانوا عليه من الغفلة والمعصية!!.
فها هم الآن قد صدقوا تلك الشائعة التي أذاعها مروّج كذاب، على لسان طفل رضيع، لم يتكلم، ولم ينطق، فأعلنوا أنهم سوف يحضرون الصلاة مع الجماعة، وسوف يحافظون على قراءة القرآن والذكر، وسوف ينتهون عن الكبائر والصغائر، حتى إذا بردت الشائعة وظهر كذبها، رُدّوا لما كانوا، وعادوا إلى حالهم الأول.
أيها الناس:
إن الواجب علينا جميعاً أن نتوب إلى الله – عز وجل – توبة نصوحاً، وأن نستعد للقائه – سبحانه وتعالى – وأن نعبد الله – عز وجل – في السراء والضراء، وأن نكثر دائماً من ذكر الموت، لأنه يمكن أن تكون وفاة الواحد منا قبل ذلك الوقت الذي حددته تلك الشائعة.
فتجهزوا عباد الله للقاء ربكم، وتهيئوا ليوم العرض على خالقكم، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور.
وبادروا بالتوبة النصوح قبل احتضارٍ وانتزاع الروح
لا تحتقر شيئاً من المآثم وإنما الأعمال بالخواتم
ومن لقاء الله قد أحبّا كان له الله أشدّ حباً
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتّكل
فالتوبة التوبة أيها الناس، والعودة العودة إلى الله، تصديقاً بالوحي، والتزاماً بالأمر، ومحبة لله – تبارك وتعالى – تفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، حيث قال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [1].
[1] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
(1/1318)
مناظرة بين فرعون وموسى
سيرة وتاريخ
القصص
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- على جبل الطور أوحي إلى موسى بثلاث قضايا. 2- كلام الله لموسى. 3- إرسال الله
موسى إلى فرعون الطاغية. 4- عناية الله بموسى في طفولته وشبابه. 5- المحاورة بين
فرعون وموسى. 6- هداية الله للمخلوقات. 7-دروس وعبر من قصة موسى عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
نحن مع موسى بن عمران في هذا اليوم، وموسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، شخصية لامعة في عالم الدعوة، بل هو بطل القصص القرآني، الذي أنزله الله على قلب النبي ، تسلية له ولأصحابه، وأخذاً للعبر والعظات لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:111].
وكما يقول بعض المفكرين: إن المناظرة بين موسى وفرعون كانت جدليةً، تنظيرية، عسكرية، اقتصادية، تربوية في نفس الوقت.
فحيا الله موسى بن عمران، وأهلاً وسهلاً ببطل الدعوة، الذي خاض غمارها، أكثر من خمسين عاماً.
فتعالوا نستمع إلى القرآن وهو يقصّ علينا من نبأ هذا النبي الكريم، فمن القرآن نأخذ القصص، ومنه نأخذ طرق الدعوة وأساليبها، ومنه نأخذ الأحكام والعقائد السلوك.
موسى في الصحراء، عصاه في يمينه، يجلس في ظل شجرة بعد أن أعياه هشّه على غنمه، فتأتيه عناية الله، وفضل الله، ووحي الله، يأتيه الأمر الإلهي بالذهاب إلى طاغية الأرض، السفاك المجرم، والإرهابي العميل، إلى فرعون الضال، الذي قتل النساء، والذي ذبح الأطفال، والذي دمر الأجيال، والذي استعبد الشعوب، والذي عاث في الأرض فساداً.
يقول الله تعالى: وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبسٍ أو أجد على النار هدى [طه:9-10]. ثم كانت المفاجأة التي لم يكن ينتظرها، فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادِ المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى [طه:11-13]. وكأن موسى عليه السلام يتساءل: من أنت؟ ما حقيقتك؟ دُلني عليك؟ فيقول الله عز وجل: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [طه:14].
هذا هو رب العالمين، هذه حقيقته عند أهل السنة والجماعة، إذا قال لك أحد من هو الله؟ فقل هو الله.. الذي لا إله إلا هو، فالله يعرف نفسه لموسى عليه السلام، كأنه يقول له: اعرفني قبل أن تُعرف بي، وقبل أن تنطلق بالدعوة إلي إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى [طه:14-15].
فهذه ثلاث قضايا ينبغي أن يعرفها كل من يتصدر للدعوة إلى الله عز وجل.
القضية الأولى: قضية التوحيد والعبودية: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني فلابد أن تعلم هذه القضية، قولاً وعملاً، وقد أمر الله نبيه محمداً أن يعلمها فاعلم أنه لا إله إلا الله [محمد:16]. فلا معبود بحق إلا الله، ولا متصرف إلا الله، ولا خالق، ولا مدبر، ولا حاكم، ولا مسيطر، ولا مرجوّ، ولا مقصود إلا الله تبارك وتعالى.
القضية الثانية: قضية الصلاة، فلا دين لمن لا صلاة له، ولا امتثال لمعالم العقيدة بغير صلاة.
والقضية الثالثة: قضية الإيمان باليوم الآخر، وهي قضية كبرى، ركز عليها القرآن في مواضع كثيرة، وأبطل زعم الذين أنكروا هذا اليوم زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤنّ بما عملتم وذلك على الله يسير [التغابن:7].
فعقيدة لا تبنى على اليوم الآخر عقيدة مهزوزة، وأدب وفن وجمال وتصوير لا يؤسّس على الإيمان باليوم الآخر، جهالة وعمالة ولعنة من الله تعالى.
ويوم سخر الكتبة أقلامهم في خدمة الإلحاد، وفي الاستهزاء باليوم الآخر، ضاعوا، وضلوا، ولعنوا في الدنيا والآخرة إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [طه:15-16].
ثم يتحدث الله بعد ذلك مع موسى حديثاً شيقاً، حديث الأنس واللطف؛ ليزيل الدهشة عنه، وليطرد الرعب عن نفسه، لأنه موقف صعب، لا يتحمله أي إنسان، تصور أنك تكلم الله تعالى، وتستمع إلى خطاب ملك الملوك، موسى كاد يطير قلبه من بين جوانحه، فألقى الله عليه خطاب المؤانسة والملاطفة، حتى لا يستوحش، وحتى لا تسيطر عليه الأوهام، والعرب كانت تعرف ذلك، فهذا الأزدي يقول في قصيدته:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فيقول الله لموسى عليه السلام: وما تلك بيمينك يا موسى [طه:17]. ليلاطفه، وليؤانسه.
وفهم موسى ذلك، فلم يقل: هي عصاً وسكت، وإنما لما لذّ له الخطاب زاد في الجواب؛ ليستمر الحوار بينه وبين رب العزة قال هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى [طه:18]. قال ابن عباس : رحم الله موسى، إنما كان يكفيه أن يقول عصاً، ولكن ارتاح لخطاب ربه فزاد في الكلام.
والله يسأله عن العصا، لأنها سوف تكون تاريخاً، وسوف تكون درساً للأجيال، وسوف تكون قروناً من العبر.
قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حيةٌ تسعى [طه:19-20]. يا سبحان الله!! إن موسى عليه السلام لا يعرف هذه الخوارق، ولا هذه المفاجآت، إنه يعرف أن السماء هي السماء، لا تتغير ولا تتبدل، ويعرف أن الأرض هي هذه الأرض التي يسير عليها، وأن العصا هي العصا، وأن الحية هي الحية.
الليل ليلٌ والنهار نهارُ والأرض فيها الماء والأشجار
*فلم تنقلب العصا إلى حية تسعى؟! ففر موسى خائفاً، وتصور موسى وهو يفر خائفاً من رب العلمين، فيطمئنه ربه، ويهدئه قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى [طه:21]. فعاد فأخذها، فإذا هي عصا.
موسى عليه السلام فر خائفاً من عصاه، ومع ذلك أرسله الله عز وجل إلى ذاك الطاغية المجرم، الديكتاتوري السفاك، الذي كان يلقي المحاضرات على العملاء الأغبياء البلداء، ويقول لهم: ما علمت لكم من إله غيري [القصص:38]. فيصفقون له، ويقول لهم: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [الزخرف:51]. فيهزون رؤوسهم طرباً، ويسجدون له تذللاً.
قال بعض المفسرين: كان على قصر فرعون ستة وثلاثون ألفاً من الحرس، كل واحد منهم يرى أن فرعون إلهه، وخالقه، ورازقه، ومحييه، ومميته!!.
ثم قال الله لموسى: واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء [طه:22].
فهذه آية أخرى من آيات الله عز وجل، أدخل يدك يا موسى في إبطك، ثم أخرجها، تخرج بيضاء من غير برص ولا بهق، وقد ذكر أهل التفسير أن موسى عليه السلام كان بيده برص، فأراد الله أن يعلمه أنه على كل شيء قدير.
آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى [22-23].
ثم بدأ التكليف بالدعوة، بدأت الرحلة الشاقة المضنية اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24]. وتصور موسى عليه السلام وهو يستمع إلى هذا الأمر الإلهي، لقد فرّ موسى من فرعون، لأنه تمرد عليه، وقتل شخصاً من رعيته، وقد حكم عليه فرعون بالإعدام غيابياً، ثم يأتي الأمر الإلهي: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24].
لم يقل له اذهب إلى حاشية فرعون، أو جنود فرعون، أو أرسل إليه رسالة، وإنما أمره بالتوجه مباشرة إلى هذا المجرم الطاغية اذهب إلى فرعون لماذا؟ إنه طغى.
لقد تجاوز الحدّ؛ سفك دماء الأبرياء، قتل الأطفال، نشر الفساد، أرهب العباد، دمر البلاد، داس الأجيال تحت قدميه.
فماذا طلب موسى من ربه؟ وعلى الدعاة أن يتنبّهوا إلى هذا الطلب قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي [طه:25-28].
فموسى عليه السلام ما كان يبين في حديثه، بل كان يأكل بعض الحروف إذا تكلم، فليس في استطاعته أن يبلغ الدعوة، وسوف يضحك عليه هذا المجرم العُتُل، وقد فعل ذلك بالفعل، حيث عقد مقارنة بينه وبين موسى عليه السلام، وفضل نفسه على نبي من أنبياء الله، ورسول من أولي العزم، قال في سورة الزخرف: أليس لي ملكُ مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [الزخرف:51-52]. يقول: إنني أغني منه مالاً، وأعظم منه سلطاناً، وأفصح منه لساناً، فأنا ألقي المحاضرات، وأعقد الندوات، وموسى لا يستطيع ذلك، مع أن هذا بعد أن طلب موسى من ربه أن يحلل عقدة من لسانه، فكيف لو ذهب موسى قبل ذلك؟!
إن موسى عليه السلام ما طلب أن يكون أفصح الخلق، ولا أخطب الناس، وإنما طلب أن يكون كلامه مفهوماً، لتقوم بذلك الحجة على فرعون، وقد قامت، إلا أن هذا هو شأن المفسدين، يتصيدون الأخطاء للدعاة الصادقين، ولا يتورعون عن رميهم بالتهم والافتراءات التي هم منها برآء.
وطلب موسى من ربه أيضاً نصيراً، ومعاوناً له على تلك المواقف الصعبة واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي [طه:29-30]. سماه وعينه لربه ليختاره له، وعلل لذلك بقوله: اشدد به أزري وأشركه في أمري [طه:31-32]. فإن الواجبات كثيرة، وإن التبعات جسيمة، فأريد أخي ليكون على ميمنتي فيقويني ويثبتني عند ذاك الطاغية الجبار كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً [طه:33-34]. فالاثنان يسبحان ويذكران أكثر من الواحد، والأخ الصالح يذكر أخاه إذا نسى، ويقويه إذا فتر. إنك كنت بنا بصيراً [طه:35]. فأنت الذي أرسلتنا، وتعلم ضعفنا، فأعنا على تلك المهمة الصعبة، وكن معنا بالتأييد والنصرة.
ثم كان الجواب من الله الواحد الأحد: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه:36]. ولم يقل سؤالاتك، أو طلباتك، لأن المطالب مهما كثرت، ومهما عظمت فهي هينة في ميزان الله عز وجل: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون [يس:82]. ثم ذكره الله عز وجل بتاريخه وماضيه، وإنعامه عليه في كل وقت، أعاد عليه ذكريات الطفولة والصبا ولقد مننّا عليك مرة أخرى إذا أوحينا إلى أمّك ما يوحى أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليمّ بالساحل يأخذه عدوّ لي وعدوّ له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني [طه:37-39].
وهذه الآيات فيها قضايا أربع:
أولها: كأن الله يقول لموسى عليه السلام: لا تخف من فرعون، ولا تتهيب منه، فقد عصمناك منه وأنت طفل رضيع، وقد ربيناك في قصره وفي بلاطه، كنت تضربه على وجهه وأنت طفل صغير، أتخاف منه الآن وأنت في الأربعين، لا تخف منه فإنه أحقر وأهون من أن تخاف منه.
فموسى الذي ربّاه فرعون مؤمنٌ وموسى الذي ربّاه جبريل كافرُ
موسى الذي تربى في قصر فرعون، هذا القصر الذي فيه الإلحاد والقهر وشرب الخمر وعبودية غير الله، موسى هذا مؤمن ونبي من أنبياء بني إسرائيل.
وهناك موسى آخر، موسى السامري، رباه جبريل على الوحي والتوحيد والنور والعبادة، لكنه خرج كافراً مارداً بعيداً عن الله.
فلا تستغرب أن ترى شاباً من بيت متهتك، بيت منحل، بيت يعادي شرع الله، وهذا الشاب ولي من أولياء الله، كأنه من شباب الصحابة.
ولا تتعجب كذلك إذا أريت شاباً من بيت من بيوت العبودية، بيت ينام على القرآن، ويستيقظ على القرآن، بيت يعظم تعاليم الإسلام، وهذا الشاب ينشأ شيطاناً ضالاً، فهذه حكمة بالغة، وقدرة نافذة.
ثم يستمر القرآن في تعديد نعم الله عز وجل على موسى: إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن [طه:40]. لا تظن أننا نسينا النفس التي قتلها، فإن ذلك مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولكننا غفرنا لك وفرّجنا همك وقتلت نفساً فنجّيناك من الغمّ وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدرٍ يا موسى واصطنعتك لنفسي [طه:40-41].
هذا تاريخ موسى أمام عينيه، وكأن الله تبارك وتعالى يقول له: هذا تاريخك يا موسى، وتلك هي الأحداث التي مررت بها، كانت عنايتنا معك في كل حدث منها، وكان حفظنا يلاحقك في كل مكان حللت فيه اذهب أنت وأخوك بآياتي ولاتنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:42-43].
ولنقف الآن عند هذا الحد، لننتقل إلى قصر فرعون، نستمع إلى ذاك الحوار الساخن الذي دار بين موسى وفرعون، على موسى السلام، وعلى فرعون اللعنة، وهذا موضوع الخطبة الثانية إن شاء الله.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله.. الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيصل بنا الخطاب إلى قول الله تعالى: اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري [طه:42]. لقد أجبت سؤالك يا موسى، فجعلت أخاك معك، وجعلته نبياً من الأنبياء المصطفين، ولا تنيا في ذكري وهذا على معنيين:
الأول: لا تضعفا في الدعوة، ولا تخافا أحداً مهما بلغ عتوه وجبروته، وابذلوا ما استطعتم في سبيل تبليغ الدعوة إلى الناس.
الثاني: قيل إن قوله تعالى: ولاتنيا في ذكري أي لا تفتروا عن ذكري؛ من التسبيح، والتهليل، والتكبير، والتحميد، لأن موسى عندما طلب أخاه وزيراً معه قال: كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً [طه:33-34]. فلا ينبغي أن تنسى يا موسى ما قطعته على نفسك من كثرة التسبيح والذكر.
فزاد الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرت
وناد إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متّى
فزاد القلوب هو التسبيح والتكبير، وزاد الأرواح هو التحميد التهليل، فالله يقول لموسى وهارون: أكثرا من الذكر، فإنكما ستمران بمواقف صعبة، وتكاليف ضخمة، لا تستطيعان خوض غمارها إلا بأن تكونا على قرب مني، وأن تكونا دائماً في ذكر وثناء وافتقار لجلالي اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:43].
عاد الخطاب كما كان أول السورة، في أول السورة قال الله لموسى: اذهب إلى فرعون إنه طغى [طه:24]. وهنا يقول لموسى وهارون: اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه:43]. اذهبا إليه، واعلما بأنه طاغية جبار، ولكن كيف يخاطب موسى وهارون هذا الجبار؟ ما الوسيلة التي يستخدمها موسى في عرض الدعوة عليه؟
فيبين الله أن الوسيلة الناجحة في مخاطبة هؤلاء الجبابرة، هي اللين، وعدم العنت، وذلك بأن تعرض عليه الدعوة بأسلوب هيّن وليّن حسن، فلعل الله أن يهديه، ولعل الله أن يشرح صدره، فلا ينبغي أن نحكم على الناس، بأن الله ختم على قلوبهم، فلا يهتدون، ولا يعقلون، ولا يفهمون، قال تعالى: اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [طه:43-44].
ما أحسن هذا الكلام، وما أعجب هذا الخطاب، يقول عن فرعون: إنه طاغية، جبار، سفاك للدماء، ملحد، عنيد، ومع ذلك، يأمر أنبياءه باللين معه، وعدم تعنيفه وتوبيخه، لعله يستحسن الخطاب، فيستجيب إلى الحق. قال ابن عباس في قوله تعال: فقولا له قولاً ليناً ، قال: يُمنّياه بالملك.
فلما دخل عليه موسى قال له: إذا أجبتنا، أبقى الله عليك ملكك، ومكنك أكثر من ذلك فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى لعله يتذكر نعم الله عليه، وتمكينه إياه، فبعض الناس لا يأتي إلا من باب الرغبة، وبعضهم لا يستجيب إلا بالترهيب، والداعية لابد أن يكون بصيراً بالقلوب، عالماً بطبائع النفوس، حتى يدخل على كل إنسان من الباب الذي ترجى إجابته منه.
فقال موسى وهارون: ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:45]. والله يعلم أنه يطغى، والله يعلم أنه جبار، قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه:46]. وإذا كان الله معك فلماذا تخاف؟ وإذا كان الله ناصرك فممن تخشى ؟ فانطلقا بهذا المبدأ، لا تخافا أحداً، مادام الله معكما، وناصركما، ويؤيدكما.
وموسى عليه السلام خاف ثلاث مرات؛ مرة لما رأى العصا وقد انقلبت حية، فقال الله له: خذها ولا تخاف [طه:21]. وهذه المرة، حين دخل البلاط الفرعوني قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى [طه:46]. ومرة ثالثة، يوم أن نازل فرعون في الميدان أمام الجماهير فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى [طه:67-68]. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم قد جئناك بآيةٍ من ربك والسلام على من اتبع الهدى [طه:46-47].
دخل موسى عليه، ووقف هارون بجانبه، موسى يتكلم، وهارون يثبت ويساعد، والمجرم ينظر إليهما بعلوّ وعتو وجبروت، لأنه صور نفسه أنه رب، وأنه صانعٌ، أنكر توحيد الربوبية، وادعى ذلك لنفسه؛ كبراً، وعتواً، وإن كان في الباطن يوقن بربوبية الله للكون، كما قال له موسى عليه السلام: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنّك يا فرعون مثبوراً [الإسراء:102]. فلما تكلم موسى، ودعاه إلى الله عز وجل، ضحك فرعون منهما، ضحك استهزاء واستهتاراً؛ لأنه مستخف بالقيم، يدوس التاريخ بقدميه، يجعل المروءات خلف ظهره، لا يقيم للمثل وزناً ولا قيمة.
أخذ ينظر إلى موسى على أنه راعي غنم، يحمل عصاه على كتفه، وأنه أتى من الصحراء، حيث لا حضارة ولا تقدم، ثم ينظر إلى نفسه فيرى الدنيا تحت قدميه، فيزداد كبراً وصلفاً.
وهكذا يفعل الطغاة، يوم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يوم لا يصلون ولا يخافون من الواحد الأحد، هكذا يفعل كل فرعون إلى أن تقوم الساعة.
فانبرى الخسيس من على كرسيه وسأل موسى سؤالاً تافهاً حقيراً مثله فمن ربكما يا موسى [طه:49]. فهو لا يعرف رباً ولا يؤمن بإله، فماذا كان جواب موسى: قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [طه:50]. فإن كنت تستطيع ذلك فأنت رب، وإن كنت لا تستطيع فلست برب، وأنى لك ذلك!!
قال الزمخشري: لله درّه من جواب؟
وقال أحدهم: والله لقد تناوله موسى بكفّ على وجهه، وتحت كلمة ((خلقه)) مجلدات من العبر، وتحت كلمة ((هدى)) مجلدات من الصور. هدى كل شيء هدى الطفل يوم أن وضعته أمه، لا يعرف شيئاً، ولا يبصر شيئاً، فهداه إلى ثدي أمه ليجر منه اللبن.
وهدى النحلة أن تطير آلاف الأميال، لتأخذ رحيق، وتعود مرة ثانية إلى خليتها.
وهدى الحمام الزاجل، يوم ينقل الرسائل، من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، ثم يعود إلى مكانه لا يضل ولا يضيع.
يقول العالم الأمريكي: ((كيرسي ميرسون)) في كتاب ((الإنسان لا يقوم وحده)): إنني أتعجب من النحل، وأقول: لعل النحلة معها جهاز (إريال) تكتشف به خليتها!! فيرد عليه سيد قطب في سورة (سبح) قائلاً: لا، ليس معها جهاز، ولكن الله عز وجل يقول: وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً [النحل:68-69]. إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [طه:50]. فهزم فرعون وبهت، وظهر فشله وعجزه، ولكنه أتى بسؤال آخر كالذي قبله أو أتفه منه قال فما بالُ القرون الأولى [طه:51]. أين ذهب أجدادنا وآباؤنا؟! قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه:52]. ما شأنك أنت بهذا؟ ما أهمية هذه المسألة عندك؟ أنت ذرة من الذرات، أنت حشرة من الحشرات؟
أنت لا تعرف من أنت ولا أنت لا تدري بماذا قد تئول
أنت مخلوقٌ حقير بائس أنت لا تدري إلى أين الرحيل
قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه:52]. فهزمه موسى مرة ثانية، وانتصر عليه، وفضحه أمام الجماهير، وبين عجزه أمام الأجيال.
وبقي موسى إلى قيام الساعة يذكر في مواكب الأنبياء المخلصين، وفي مواكب الدعاة الخالدين.
أيها المؤمنون:
في هذه القصة دروس وعبر:
أولها: الاعتصام بلا إله إلا الله، فهذه الكلمة من أجلها أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، وخلقت السموات والأرض، وأقيمت المعالم، وبذلت الأموال، وشهرت السيوف.
فلابد أن نعتصم بهذه الكلمة، ولابد أن نفتخر بهذه الكلمة، ولابد أن تسيطر على حياة كل واحد منا؛ على الأمير، على الوزير، على القاضي، على المسؤول، على الصحفي حين يكتب، على الشاعر حين ينظم، على الأديب حين يبدع.
ثانياً: قضية الصلاة، فالدين يقوم على الصلاة، فلا دين بغير صلاة، ولا صلاة بغير دين.
ثالثاً: قضية الإيمان باليوم الآخر، فإذا لم نجعل هذه القضية أمامنا، وفي أذهاننا، فلا سلام، ، ولا أمن، ولا استقرار، ولا طمأنينة، لأن الذين نسوا اليوم الآخر تقاتلوا، وتحاسدوا، ودمر بعضهم مدن بعض، وأطلقوا صواريخهم، وقتلوا الآمنين، كل ذلك لأنهم لا يؤمون باليوم الآخر.
رابعاً: قضية النّصرة، ينبغي أن نؤمن أن الله عز وجل ينصر أولياءه، ويدافع عن أحبابه، ولو ظهروا على الساحة أنهم هم المهزومون، هم القليلون، هم المضطهدون، فالعاقبة لهم، والنصر حليفهم.
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51].
خامساً: قضية الشكر، فالله عز وجل يطلب من العبد أن يتذكر المعروف، وأن يشكر النعم، وأن يشكر النعم وأن يحفظ الأيادي.
سادساً: على الداعية أن يعرف مداخل القلوب، وألا يكون عنيفاً في أسلوبه، مجرحاً للشعور ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران:159].
دخل أحد الأعراب على هارون الرشيد، الخليفة العباسي الكبير، فقال الأعرابي: يا هارون، قال: نعم، قال: إن عندي كلاماً شديداً قاسياً فاستمع له: قال هارون: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع، قال: ولم؟ قال: لأن الله أرسل من هو خيرٌ منك، إلى من هو شر مني، ثم قال له: فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى [طه:44]. فاللين في الدعوة مطلوب، وأدب الحوار مطلوب، وإنزال الناس منازلهم مطلوب، ومراعاة شعور الآخرين مطلوبة.
سابعاً: لا خوف على المسلم، فإن النفوس بيد الله، والأرزاق في خزائن الله، فهو الذي يحيي ويميت، ويغني ويعدم، وينفع ويضر، بيده مقاليد كل شيء لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
هذه بعض دروس قصة موسى عليه السلام وأغلبية سور القرآن، تحلق بنا دائماً مع موسى عليه السلام فقصته طويلة، وأحداثها متعددة، فيها العبرة، وفيها العظة، وفيها السلوى، وفيها الثبات على المبدأ، فسلام الله على موسى في الأولين، وسلام على موسى في الآخرين، وشكر الله سعيه.
أما فرعون وأتباعه فـ النار يعرضون عليها غدواّ وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر:46].
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
(1/1319)
هكذا فلتكن العدالة
سيرة وتاريخ
تراجم
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لمحة سريعة عن نشأة عمر بن عبد العزيز 2- وفاة سليمان بن عبد الملك واستخلافه عمر
3- أول يوم في خلافة عمر 4- شروط عمر على جلسائه 5- رد عمر لمظالم بني أمية
6- ورع وعبادة عمر بن عبد العزيز 7- تفقد عمر أحوال رعيّته 8- موقف عمر مع
الشعراء والمداح 9- حفظ الله لأنبيائه وأوليائه
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة: "هكذا فلتكن العدالة".
أقدم اليوم رمزًا من رموز العدالة على مر تاريخ الإنسان، أقدمه لكم غضًّا طريًّا، وأنا أشعر بالحرج، لأنني مهما قلت، فسوف أقصر في سيرته وترجمته، إنه حياة لضمير الأجيال، إنه رمز لعدالة الإسلام.
كان واليًا تحبه الرعية كأجل ما تحب الرعية الولاة، لأنه لم يفعل ما يدعو إلى السخط والبغض، لأنه كان يتقي الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه جعل القرآن قائده، والتقوى رائده، لأنه كان يُعظِّم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحب الفقراء والمساكين.
كان يحب أن يسمع الرأي الآخَر والنصيحة، فسرى حبه في قلوب الأطفال، وفي قلوب العجائز، وفي قلوب الفقراء، وفي قلوب المساكين. ولكن لماذ اخترت هذا العنوان في هذا اليوم "هكذا فلتكن العدالة"؟.
سمعت قبل أسبوعين أخا القردة والخنازير – شامير – وهو يتهجم على العالم الإسلامي، ويصفه بأنه عالَم ظالم، ليس فيه حوار ولا حرية، فأردت أن أُظهِر لذلك المجرم، صورة براقة وضيئة، لإمام عادل نفخر به على مرِّ التاريخ.
من هو هذا العادل؟ أظن أني لا أضيف جديداً هذا اليوم إذا حدثتكم عنه، وهل يخفى القمر؟ إنه مجدد القرن الأول، إنه الرجل الذي لمّا مات، أمست مدن الإسلام في مناحة وفي مصيبة وعزاء.
والمسلمون مصابُهم متفرق في كل بيت رنةٌ وزفير
إنه الرجل الذي قال فيه الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز.
السلام عليك يا عمر بن عبد العزيز، وبيننا وبينك أكثر من ثلاثة عشر قرناً، السلام عليك اليوم وغدًا وفي المستقبل، وحتى نلقى الله بك، وأنت رمز من رموز العدالة.
أيها الناس:
أنا لن أسرد حياته الشخصية، ولن أقدم ترجمة عن تفصيلات وجزئيات ما مرّ به، لكنني أَصِلُ بكم إلى سُدَّة الحكم يوم أن تولى عمر، كان شابًّا مترفًا من بني مروان، يغيِّر في اليوم الواحد ثيابه أكثر من ثلاث مرات، كان إذا مر بسكة شمَّ الناسُ طيبَه، كان يسكن قصرًا في المدينة، وعند والده قصر في الشام، وقصر في مصر، وقصر في العراق، وقصر في اليمن، وأراد الله لأمة محمد عليه الصلاة والسلام خيرًا، فتولى الخلافة.
حضر وفاة الخليفة، فرأى كيف يصرع الموت الولاةَ، وكيف يعقِر الموت الملوك، وكيف يشدخ الموت رؤوس العظماء.
رأى سليمان بن عبد الملك وهو منطرح على سرير المُلك كالطفل ولقد جئتمونا فُرادى كما خلقناكم أول مرّة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء [الأنعام:94].
كان سليمان يعصره الموت عصرًا، وكان منطرحًا بين يدي ربه يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، وكان يصرخ قائلاً:
أفلح من كان له كِبارُ إن بَنيَّ فتيةٌ صغار
يقول يا ليت أبنائي كباراً، يتولون الملك بعدي. فقد أفلح من كان أبنائه كبارًا. قال عمر بن عبد العزيز أمامه: لا والله قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربِّه فصلَّى [الأعلى:14-15]. ومات سليمان، وكتب الخلافة لرجل في كتاب سرِّيّ، لم يُعلَم بعد.
ولما وارى الناس جثمان سليمان، قام رجاء بن حَيْوة أحد علماء المسلمين، فأعلن على المنبر أن خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين للعالَم الإسلامي، عمر بن عبد العزيز.
فلما تلقى عمر بن عبد العزيز خبر توليته، انصدع قلبه من البكاء، وهو في الصف الأول، فأقامه العلماء على المنبر وهو يرتجف، ويرتعد، وأوقفوه أمام الناس، فأتى ليتحدث فما استطاع أن يتكلم من البكاء، قال لهم: بيعتكم بأعناقكم، لا أريد خلافتكم، فبكى الناس وقالوا: لا نريد إلا أنت، فاندفع يتحدث، فذكر الموت، وذكر لقاء الله، وذكر مصارع الغابرين، حتى بكى من بالمسجد.
يقول رجاء بن حيوة: والله لقد كنت أنظر إلى جدران مسجد بني أمية ونحن نبكي، هل تبكي معنا !! ثم نزل، فقربوا له المَراكب والموكب كما كان يفعل بسلفه، قال: لا، إنما أنا رجل من المسلمين، غير أني أكثر المسلمين حِملاً وعبئاً ومسئولية أمام الله، قربوا لي بغلتي فحسب، فركب بغلته، وانطلق إلى البيت، فنزل من قصره، وتصدق بأثاثه ومتاعه على فقراء المسلمين.
نزل عمر بن عبد العزيز في غرفة في دمشق أمام الناس؛ ليكون قريبًا من المساكين والفقراء والأرامل، ثم استدعى زوجته فاطمة، بنت الخلفاء، أخت الخلفاء، زوجة الخليفة، فقال لها: يا فاطمة، إني قد وليت أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام – وتعلمون أن الخارطة التي كان يحكمها عمر، تمتد من السند شرقًا إلى الرباط غربًا، ومن تركستان شمالاً، إلى جنوب أفريقيا جنوبًا – قال: فإن كنت تريدين الله والدار الآخرة، فسلّمي حُليّك وذهبك إلى بيت المال، وإن كنت تريدين الدنيا، فتعالي أمتعك متاعاً حسنًا، واذهبي إلى بيت أبيك، قالت: لا والله، الحياة حياتُك، والموت موتُك، وسلّمت متاعها وحليّها وذهبها، فرفَعَه إلى ميزانية المسلمين.
ونام القيلولة في اليوم الأول، فأتاه ابنه الصالح عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أبتاه، تنام وقد وليت أمر أمة محمد، فيهم الفقير والجائع والمسكين والأرملة، كلهم يسألونك يوم القيامة، فبكى عمر واستيقظ. وتوفي ابنه هذا قبل أن يكمل العشرين.
عاش عمر – رضي الله عنه – عيشة الفقراء، كان يأتدم خبز الشعير في الزيت، وربما أفطر في الصباح بحفنة من الزبيب، ويقول لأطفاله: هذا خير من نار جهنم.
يذهب فيصلي بالمسلمين، فكان أول مرسوم اتخذه، عزل الوزراء الخونة الظلمة الغشمة، الذين كانوا في عهد سليمان، استدعاهم أمامه وقال لشريك بن عرضاء: اغرُب عني يا ظالم رأيتك تُجلس الناس في الشمس، وتجلد أبشارهم بالسياط، وتُجوّعهم وأنت في الخيام والإستبرق.
واستدعى الآخر وقال: اغرب عني والله لا تلي لي ولاية، رأيتك تقدم دماء المسلمين لسليمان بن عبد الملك. ثم عيّن وزراءه وأمراءه من علماء وصُلَحاء المسلمين.
وكتب إلى علماء العالم الإسلامي رسالة، إلى من؟ إلى الحسن البصري، ومُطرّف بن عبد الله بن الشّخِّير، وسالم بن عبد الله بن عمر؛ أن اكتبوا لي كتبًا انصحوني وعِظوني، قبل أن ألقى الله ظالماً، فكتبوا له رسائل، تتقطع منها القلوب، وتشيب لها الرؤوس.
كتب له الحسن: يا أمير المؤمنين صم يومك، لتفطر غدًا. وقال سالم: يا أمير المؤمنين، إنك آخر خليفة تولَّى، وسوف تموت كما مات من قبلك. وخوّفوه ووعدوه.
وجعل سُمَّاره سبعة من العلماء، يسمرون معه بعد صلاة العشاء، واشترط عليهم ثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يُغتاب مسلم.
الشرط الثاني: ألا يُقدِّموا له شِكاية في مسلم، التقارير المخزية في أعراض المسلمين، وفي كلمات المسلمين، ومجالس المسلمين، أبى أن تُعرض عليه أو تُرفع إليه.
الشرط الثالث: ألا يمزح في مجلسه، إنما يذكرون الآخرة وما قرب منها، فكان يقوم معهم، وهم يبكون، كأنهم قاموا عن جنازة.
ثم صعد عمر – رضي الله عنه – المنبر وأعلن سياسة حكومته الجديدة، وأتى بمزاحم مولاه، وهو مولىً أسود، قوي البُنية، يخاف الله. قال: يا مزاحم، والله إني أحبك في الله، أنت وزيري. قال: ولِم يا أمير المؤمنين، قال: رأيتك يومًا من الأيام تصلي وحدك في الصحراء صلاة الضحى، لا يراك إلا الله. ورأيتك يا مزاحم تحب القرآن، فكن معي، قال: أنا معك. فاعتلى عمر بن عبد العزيز المنبر، وكان بيده دفتر، كتب فيه معلومات ضرورية، عن خطوط عرضة لدولته وخلافته، ووقف مزاحم بالسيف، والأمراء الظلمة من بني أمية، الذين أخذوا أراضي الناس، وبيوت الناس، وقصور الناس، وضربوا وجوه الناس، وآذوا الناس، جعلهم في الصف الأول.
قال عمر: أولاً: هذا كتاب عبد الملك بن مروان، بإقطاعية الأرض لكم يا بني مروان، وقد صدق الله، وكذب عبد الملك بن مروان، ثم قطع الصك، ثم قال: ائتني بصكوك بني أمية، فسلم له صكاً للعباس بن الوليد بن عبد الملك، أخذ أرضاً شاسعة، يمكن أن تكون أرض مدينة، فأخذه بالمقص فقصّه كله وأتلفه، وقال: لا حقَّ لك في ديار المسلمين، قال: يا أمير المؤمنين أعد لي أرضي وإلا لي ولك شعري – يتهدده – قال: والله إن لم تسكت ليأتيني مزاحم برأسك الآن، فسكت، ثم أتى إلى الصكوك طيلة صلاة الجمعة، يُشققها طولاً وعرضاً، لأنها صكوك بُنيت على الظلم.
واستمر به الحال على هذا المستوى، واستدعى مهاجرًا أحد الوزراء، وقال: كن بجانبي، فإذا رأيتَني ظلمت مسلمًا أو انتهكت عرضاً، أو شتمت مؤمناً، فخذ بتلابيب ثوبي وقل: اتق الله يا عمر. فكان وزيره مهاجر يهزه دائمًا، ويقول: اتق الله يا عمر.
أما حياته الشخصية فحدّث ولا حرج، كان إذا صلى العشاء دخل مصلاه، فيستقبل القبلة، ويجلس على البطحاء، ويُمرّغ وجهه في التراب، ويبكي حتى الصباح.
قالوا لامرأته فاطمة بعد أن توفي: نسألك بالله، أن تصِفي عمر؟ قالت: والله ما كان ينام الليل، والله لقد اقتربت منه ليلة فوجدته يبكي وينتفض، كما ينتفض العصفور بلَّله القطْر، قلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: مالي !! توليت أمر أمة محمد، وفيهم الضعيف المجهد، والفقير المنكوب، والمسكين الجائع، والأرملة، ثم لا أبكي، سوف يسألني الله يوم القيامة عنهم جميعاً، فكيف أُجيب؟!
عليك سلامُ الله وقفًا فإنني رأيت الكريم الحرَّ ليس له عُمْر
ثوى طاهر الأردان لم تبْقَ بقعةٌ غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
أيها الناس:
إذا لم نخرج بعمر بن عبد العزيز أمام العالَم، فبمن نخرج؟ وما النموذج الذي نُقدمه إذا لم نُقدّم هؤلاء؟
أتى إلى بيت المال يزوره، فشم رائحة طيب، فسدّ أنفه، قالوا: مالك؟ قال: أخشى أن يسألني الله – عز وجل – يوم القيامة لم شممت طيب المسلمين في بيت المال. إلى هذه الدرجة، إلى هذا المستوى، إلى هذا العُمق.
دخل عليه أضياف في الليل، فانطفأ السراج في غرفته، فقام يصلحه، فقالوا: يا أمير المؤمنين: اجلس قال: لا، فأصلح السراج، وعاد مكانه، وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز.
كان عالماً مجتهداً يُفتي للمسلمين فتح الله عليه من فتوحاته، لأنه يتقي ربه، ويعدل في رعيته.
خرج في نزهة يومًا، فمروا به على حديقة من حدائق دمشق العاصمة، فوقف يبكي على سور الحديقة، قالوا: مالك؟ قال: هذا نعيم منقطع، فكيف بجنة عرضها السماوات والأرض، أوّاه، لا حُرمنا الجنة.
ومر يوم العيد، بعد أن صلى بالمسلمين، وهو على بغلته، مرَّ بالمقابر، فقال: انتظروني قليلاً – ذكر ذلك ابن كثير – انتظروني قليلاً فوقف الوزراء، والصلحاء، والأمراء، والناس، ونزل عن بغلته، فوقف على المقبرة، التي فيها الخلفاء من بني أمية، والتي فيها الأغنياء، وقال:
أتيت القب،ورَ فناديتها أين المعظَّم والمحتقر
تفانوا جميعًا فما مخبرٌ وماتوا جميعًا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضَوْا أمالَك فيما مضى معتبر
ثم وقف على طرف المقبرة وقال: يا موت، ماذا فعلت بالأحبة؟ يا موت ماذا فعلت بالأحبة؟ ثم بكى وجلس ينتحب، حتى كادت أضلاعه أن تختلف، ثم عاد إلى الناس، وقال: أتدرون ماذا قال الموت؟ قالوا: ما ندري. قال: يقول بدأت بالحدَقتين، وأكلت العينين، وفصَلت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والعضدين من الكتفين، وفصلت القدمين من الساقين، والساقين من الركبتين، والركبتين من الفخذين.
باتوا على قُلَلِ الآمال تحرسهم غُلبُ الرجالِ فما أغنتهم القُلَلُ
واستُنْزِلوا بعد عزٍّ من مساكنهم إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا
وقف يومًا من الأيام وقال: والله لا أعلم ظالماً إلا أنصفتكم منه، ولا يحول بيني وبين الظالم أحد، حتى آخُذ الحق منه، ولو كان ابني. قال الناس: صدقت.
كان يدور في ظلام الليل يسأل: هل من مريض فأعوده، هل من أرملة فأقوم عليها، هل من جائع فأطعمه. يقول أحد ولاته: ذهبت إلى إفريقيا، أوزع الزكاة، فو الله ما وجدت فقيراً في طريقي، لقد أغنى عمر بن عبد العزيز الفقراء، فما بقي فقير، ولا جائع، ولا مَدين، ولا شاب أعزب!!
كان يُصلي الجمعة، فيقوم نوّابه، معهم دفاتر بأسماء الناس، فيوزع الأُعطيات على طلبة العلم، واليتامى، والمساكين، والمرضى، والأرامل، والمحتاجين، والمعوزين، فيهتفون بعد الصلاة: اللهم اسق عمر بن عبد العزيز من سلسبيل الجنة، ونحن نقول: اللهم اسق عمر بن عبد العزيز من سلسبيل الجنة.
ضَمُر جسمه بعد الخلافة، أصبح وجهه أصفر شاحباً، يقول أحد العلماء: والله لقد رأيت عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة المنورة، فرأيته بضًّا أبيض سمينًا، فلما ولي الخلافة، رأيته يطوف وقد رفع الإحرام عن جنبه، ووالله لقد كنت أعد عظام ساعديه من الضعف والضمور.
دخل عليه زياد المولى أحد العلماء، فرأى وجهه شاحبًا باكيًا، أثر الدموع في أجفانه، أثر الجوع والفقر على خديه، ثوبه مُرقّع، قال: يا أمير المؤمنين: أين القصور التي كنت تسكنها، والملابس التي كنت تلبسها، والنعيم الذي كنت تعيشه، قال: هيهات يا زياد، ذهب ذلك، لَعلّي تغيرت عليك. قال: أي والله، قال: كيف بي لو رأيتني بعد ثلاث ليالٍ، إذا طُرحت في القبر، وقطعت أكفاني، وسار الدود على خدي، وأكل عيني، ووقع التراب على أنفي، والله لقد كنت أشدّ تغيرًا مما تراه!!
وقف في يوم عيد الفطر يستقبل المسلمين، ويرحب بالمؤمنين، وإذا بكوكبة من الشعراء عند باب الغرفة، يريدون الدخول، قال له البوّاب: شعراء يريدون الدخول عليك على عادتهم السابقة عند الخلفاء، يدخل أحدهم بقصيدة خاطئة كاذبة، يمدح نفاقًا، يثني بكلام مجاملة، فيصف الخليفة بأنه محرر الشعب، وبأنه كافل الأيتام، وبأنه أستاذ المشاريع، وبأنه درة الأفق.
فقال للبواب: من بالباب؟ قال الفرزدق. قال: والله لا يدخل عليَّ عدو الله وقد سمعته يتغزل في بنات المسلمين. ومن الآخر؟ قال: الآخر نصيب. قال: ليس له عندي نصيب ولا يدخل علي؛ سمعته يفتري في شعره. ثم قال: ومن الثالث؟ قال: الأخطل. قال: حرام على ابن النصرانية أن يطا بساطي.
والرابع: قال: الرابع عمر بن أبي ربيعة قال: أما آن له أن يتوب إلى الله، والله لا ترى عيني وجهه. ومن الخامس؟ قال: جرير. قال: إن كان ولا بد، فأدخل جريرًا، فلما دخل قال له:
فما كعبُ ابن مامةَ وابن سعدي بأفضل منك يا عمر الجوادا
تعوّد صالح الأخلاق إني رأيتُ المرء يلزم ما استعادا
قال عمر: اتق الله يا جرير، لا تكذب في شعرك، فإن الله سوف يسألك عن هذا. قال يا أمير المؤمنين: أعطني قال: ما وجدت للشعراء في كتاب الله عطاء، إن كنت فقيرًا أو مسكينًا أو ابن سبيل أعطيناك.
إنها مدرسة الجدية، والنصح، والعمق، وعدم الضحك على الذقون؛ أعرابي يدخل يمدح، ويأخذ الدنيا بما فيها، وينسى الفقراء، يموتون جوعًا وعُريًا على الأرصفة!!
شاعر كذاب متملّق، يمدح بشيء من الهراء، يأخذ من المال ما يغطي رأسه، والأطفال في حجور أمهاتهم يتضوّرون جوعًا، لا يفعل ذلك عمر، إنه عاقل، إنه جهبذ، إنه عبقري.
قال جرير: أنا فقير، قال: خذ مائتي درهم من مالي، ليس من بيت مال المسلمين. قال جرير: فو الله لقد كان هذا المال أبرك مال رأيته في الحياة.
وأتت سكرات الموت، أتدرون كم تولى الخلافة؟ سنتين، لكنها عند الله – عز وجل – أفضل من قرنين، إنني أعرف أناسًا في التاريخ، تولى الواحد منهم خمسين سنة، فلما مات لعنه المسلمون، وإن بعضهم تولى أربعين سنة، فلما مات بشّر بعض المسلمين بعضهم بموته، فليس العمر بالكثرة، العمر بالبركة، تولى سنتين، فأزال الظلم، فتح بابه، فتح صدره، فتح عينه، فتح قلبه ففتح الله عليه.
حضرته سكرات الموت، فجمع أبناءه السبعة أو الثمانية، فلما رآهم بكى واستعبر، ودمعت عيناه، ثم قال لأبنائه: والله ما خلّفت لكم من الدنيا شيئًا – عنده غرفة واحدة – إن كنتم صالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كنتم فجَرة فلن أُعينكم بمالي على الفجور. تعالوا، فاقتربوا فقبّلَهم واحدًا واحدًا، ودعا لهم، وكأن قلبه يُسَلُّ من بين جوارحه، وخرج أبناؤه.
قال أهل التاريخ: أغفى التاريخ إغفاءة عن أبناء عمر بن عبد العزيز السبعة أو الثمانية، وقد خلّف لكل واحد منهم اثني عشر درهمًا فقط، وأما هشام بن عبد الملك الخليفة، فخلّف لكل ابن من أبنائه مائة ألف دينار، وبعد عشرين سنة، أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز، يُسرجون الخيول في سبيل الله، منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأبناء هشام بن عبد الملك في عهد أبي جعفر المنصور، يقفون في مسجد دار السلام، يقولون: من مال الله يا عباد الله!
إنَّ من حفظ الله حفظه الله، ومن ضيّع الله ضيّعه الله، هذه سنة من سنن الله – عز وجل – ثم أمر عمر أبناءه بالخروج فخرج أطفاله أمام عينيه، ينظر إليهم، ومع كل طفل يخرج، قطَرَات من الدموع تسقط، وقال: أَدخِلوا أمّكم عليَّ، فدخلت امرأته، فودعها، وسألها أن تتقي الله، وأن تبقى على الزهد وعلى الفقر، لتكون زوجته في الجنة، ثم قال: يا فاطمة، إني أرى نفَرًا، ليسوا بإنس ولا جن، أظنهم ملائكة، فاخرجي عنّي، فخرجت زوجته، وأغلقت الباب، ودخل الملائكة على عمر بن عبد العزيز مبشرة إنّ الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكةُ ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنةِ التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون. نُزُلاً من غفور رحيم [فصلت:30-32].
مات عمر، وفتحت زوجته الباب فوجدته في عالم الآخرة، سلام عليك يا أيتها النفسُ المطمئنة ارجعي إلى ربِّك راضيةً مَرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي [الفجر:27- 30].
"هكذا فلتكن العدالة". إنني مقصر في سيرته وترجمته، عودوا إلى عمر، فبطون التاريخ مليئة بذكره، قد غمرت فضائله الكتب والموسوعات، رحم الله عمر بن عبد العزيز، رضي الله عن عمر بن عبد العزيز، جمَعنا الله بعمر بن عبد العزيز في الجنة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العزيز الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد عباد الله:
من يتق الله يُحمد في عواقبهِ ويكفهِ شرَّ من عزّوا ومن هانوا
من استجارَ بغير الله في فزعٍ فإن ناصرهُ عجزٌ وخُذلانُ
فالزمْ يديك بحبل الله معتصمًا فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ
صح عن الترمذي وأحمد، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: ((يا غلام، إني أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفَّت الصُّحف)) [1].
هذه وصية رسول صلى الله عليه وسلم، لأتباعه وأنصاره، أن يتقوا الله تعالى، وأن يحفظوه في السر والعلانية.
قال بعض الصالحين: إذا أردت أن توصي صاحبك، أو أخاك، أو ابنك، فقل له: "احفظ الله يحفظك". فالله - عز وجل – يحفظ أوليائه، في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي أموالهم، وفي جوارحهم، وفي أعراضهم.
يحفظهم من مكر الأعداء، وكيد الحاقدين، وتدبير المارقين ويُنجِّي الله الذين اتَّقوا بمفازتهم لا يَمَسُّهم السوءُ ولا هم يحزنون [الزمر:61].
حفظ الله خليله إبراهيم – عليه السلام – لما ألقاه قومه في النار، فأوحى الله إليها قلنا يا نارُ كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم [الأنبياء:69].
وحفظ الله نبيه وحبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم، من كيد المشركين، الذين أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم، فقد اجتمعوا في دار الندوة، ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل، قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا – والله – ما نأمنه على الوثوب علينا، فأجمعوا فيه رأيًا، فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه باباً حتى يموت ! فقال إبليس، وقد تنكّر في زيّ شيخٍ نجديّ: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجنَّ أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يَثِبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يُكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم. ما هذا لكم برأي، فانظروا إلى غيره، فتشاوروا. ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فو الله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، إذا غاب عنَّا وفرغنا منه. فقال إبليس: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حُسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ,والله لو فعلتم ذلك، ما أمنتم أن يحلَّ على حيٍّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه، وحلاوة منطقه، حتى يُتابعوه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد.
دبِّروا فيه رأيًا غير هذا. فقال أبو جهل ابن هشام: والله إن لي فيه لرأيًا، ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًّا، جليدًا، نسيبًا، وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربونه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك، تفرّق دمه في القبائل جميعًا. فقال إبليس: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا أرى غيره، فأجمع القوم على ذلك!!
فهل ترك الله نبيه صلى الله عليه وسلم يفتك به هؤلاء المشركون؟ هل خذله أمامهم؟ هل أسلَمهُ إليهم؟ كلا والله، لم يخذله ولم يُسلمه وإذ يمكُرُ بك الذين كفروا لِيُثبِتُوك أو يَقتلُوك أو يُخرجُوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [الأنفال:30].
أرسل الله جبريل عليه السلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بخطب هؤلاء، بمكر هؤلاء، بتدبير هؤلاء، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: لا تَبِتْ هذه الليلة على فِراشك الذي كنت تبيت عليه. فلما كان الليل، اجتمع الفتيان الأشداء على بابه صلى الله عليه وسلم، يرصدونه متى ينام، فيَثِبون عليه وثبة رجل واحد، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ((نم على فراشي، وتسَجَّ ببردي [2] ؛ فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه)).
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله أبصارهم عنه، فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو قول الله – تبارك وتعالى –: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراطٍ مستقيم تنزيلَ العزيزِ الرحيم لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقِهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ فهم مُقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يُبصرون [يس:1-9]. حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات، ولم يبق منهم رجل، إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف [3].
عناي،ةُ الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدّروع وعن عالٍ من الأُطُمِ
ظَنُّوا الحَمامَ وظنّوا العنكبوت على خيرِ البريَّة لم تنسج ولم تَحُمِ
لما فتح عبد الله بن عليّ العباسي دمشق قتل في ساعة واحدة ستة وثلاثين ألفًا من المسلمين، وأدخل بغاله وخيوله في المسجد الأموي الكبير !! ثم جلس للناس، وقال للوزراء: هل يعارضني أحد؟ قالوا: لا. قال: هل ترون أحدًا سوف يعترض عليَّ؟ قالوا: لا، إن كان فالأوزاعي – والأوزاعي محدث فحل، إمام الدنيا، أمير المؤمنين في الحديث، كان زاهدًا عابدًا من رواة البخاري ومسلم – قال: تعالوا به. فذهب الجنود للأوزاعي، فما تحرك من مكانه، قالوا: يريدك عبد الله بن علي. قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. انتظروني قليلاً، فذهب، واغتسل، ولبس أكفانه، وتجهز للموت، ثم قال في نفسه: قد آن لك يا أوزاعي أن تقول كلمة الحق، لا تخشى في الله لومة لائم، قال الأوزاعي وهو يصف القصة: فدخلت فإذا أساطين من الجنود، قد جُعلوا على صفّين، وقد سَلّوا سيوفهم، فدخلت من تحت السيوف، حتى إذا بلغت إلى عبد الله بن علي العباس، وقد جلس على سريره، وبيده خيزران، وقد انعقد على جبينه عقدة من الغضب. قال: فلما رأيته، كان أمامي كأنه ذبابة. قال: فما تذكرت أحدًا؛ لا أهلاً، ولا مالاً، ولا ولدًا، إنما تذكرت عرش الرحمن، إذا برز للناس يوم الحساب!
قال: فرفع بصره وقد ظهر عليه الغضب، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية التي أرقناها؟ قال الأوزاعي: حدثنا فلان عن فلان.. عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة)) [4] ، فإن كان مَن قتلتهم مِن هؤلاء، فقد أصبت، وإن لم يكونوا منهم، فدماؤهم في عنقك.
قال الأوزاعي: فنكث بالخيزران، ورفعت عمامتي أنتظر السيف !! ورأيت الوزراء يستجمعون ثيابهم ويرفعونها حتى لا يصيبها الدم. قال: وما رأيك في الأموال؟ قال الأوزاعي: إن كانت حلالاً فحساب وإن كانت حراماً فعقاب. قال: خذ هذه البدرة – كيس ملوء ذهبًا – قال الأوزاعي: لا أريد المال. قال: فغمزني أحد الوزراء، يعني خذها. فأخذ الأوزاعي الكيس، ووزعه على الجنود، حتى لم يبق فيه شيء، ثم رمى به وخرج، فلما خرج قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل " قلناها يوم دخلنا، وقلناها يوم خرجنا!! فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله والله ذو فضلٍ عظيم [آل عمران:174].
بِعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظِمْ بقومٍ بايعوا الغَفَّارا
فأعاضنا ثمنًا ألذَّ من المنى جنات عدنٍ تتحفُ الأبرارا
فلمثل هذا قم خطيبًا منشدًا يروي القريضَ وينظمُ الأشعارا
أيها الناس:
احفظوا الله – عز وجل بالرجوع إليه، والتوبة من الذنوب والمخالفات.
احفظوا الله – عز وجل – بالمحافظة على الصلوات حيث ينادى بهن، في أوقاتها، بخشوعها، وخضوعها، بأركانها، وواجباتها، وسننها.
احفظوا الله – عز وجل – بحفظ قلوبكم من النفاق والرياء، والحقد والحسد، فقد قال نبيكم صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صَلَحَتْ صَلَحَ سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، ألا وهي القلب)) [5].
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليَّ صلاة، صلَّى الله عليه بها عشرًا)) [6] ، اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يارب العالمين.
[1] أخرجه الترمذي ( 4 / 576 ) رقم ( 2516 ) وقال : حسن صحيح. وأحمد ( 1 / 293، 303، 307 ). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم ( 7957 ).
[2] تسجَّى بالثوب : أي غطى به جسده ووجهه.
[3] انظر : السيرة النبوية لابن هشام ( 2 / 137 – 140 ).
[4] أخرجه البخاري ( 8 / 38 ). ومسلم ( 3/ 1302، 1303 ) رقم ( 1676 ).
[5] أخرجه البخاري ( 1/ 19 ). ومسلم ( 3 / 1219، 1220 ) رقم ( 1599 ).
[6] أخرجه مسلم ( 1 / 288 ) رقم ( 384 ).
(1/1320)
الصحابة1
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
24/4/1417
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سلامة صدورنا على أصحاب النبي ومحبتهم. 2- ثناء القرآن على الصحابة ووعده لهم
بالجنة. 3- قول الإمام مالك بتكفير من كره الصحابة فهماً منه لبعض الآيات فيهم. 4- قول ابن
حزم بدخول جميع الصحابة الجنة فهماً منه لبعض الآيات فيهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم على أصحاب رسول الله كما وصفهم الله به في قوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم وطاعة لرسول الله في قوله: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) فهم يترضون عن الصحابة جميعاً ولا يحملون غلاً في قلوبهم لا حد منهم كما هو حال الذين في قلوبهم مرض، لا يسبون أحد منهم ويكفون عما شجر بينهم من خلاف ويعتقدون أنهم جميعاً مجتهدون، فالمصيب منهم له أجران، والمخطأ له أجر واحد، وذنبه مغفور بفضل سابقته وجهاده مع رسول الله ، فلهم من الحسنات الماحية للسيئات الشيء الكثير قال الله تعالى في فضائلهم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم أنه بهم رؤوف رحيم فصرح جل وعلا ها هنا بتوبته على جميع من شارك في جيش العسرة، وهو الذي يقول فيه كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا ولقد رأيتني وما أرى في المدينة أحداً تخلف عن رسول الله إلا منافق معلوم النفاق أو رجلاً ممن عذر الله عز وجل، فهم الذين ذهبوا مع رسول الله يوم أن قعد عنه المنافقون وخذلوا عنه قائلين لا تنفروا في الحر، وكانت غزوة تبوك في الصيف الشديد الحرارة حين طابت الثمار وبعدت شقة السفر من المدينة إلى تبوك كما قال تعالى: ولكن بعدت عليهم الشقة وقال تعالى في فضائل الصحابة: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنه قد رضي على المهاجرين والأنصار وأنه أعد لهم الجنة، ولذلك فأصل السنة والجماعة إذا ذكروا أحداً من أصحاب النبي ترضوا عليه، وقال تعالى في فضائلهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار فأثنى الله عليهم بشدتهم على الكفار وهم في ذلك يمتثلون قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة وقد أثنى الله جل وعلا على من كان هذا شأنهم بقوله فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ثم قال جل وعلا في وصف أصحاب محمد : رحماء بينه وهم بذلك يمتثلون قوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) وقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان بشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)) ثم قال جل وعلا: تراهم تركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود وهو السمت الحسن والخشوع والتواضع يبدو على وجوههم.
قال جل وعلا: ذلك مثلهم في التوراة أي ما سبق ذكره من صفاتهم هي صفاتهم المذكورة في التوراة ثم قال: ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره أخرج شطئه أي أخرج فراخه فآزره أي شده فاستغلظ أي شب وطال، فاستوى على سوقه يعجب الزراع أي فكذلك أصحاب محمد آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطؤ مع الزرع ليغيظ به الكفار أي ليغيظ الله بالصحابة الكفار، ومن هنا انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه القول بتكفير من يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال رحمة الله عليه: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر.
قال ابن كثير حمه الله ووافقه كثير من العلماء على ذلك ثم قال جل وعلا: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً فذنوبهم مغفورة وحسناتهم جزيلة مبرورة، فرحمهم الله ورضي عنهم، نصروا رسول الله وآمنوا به وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه فهم المفلحون حقا، اللهم أرض عنهم، والعن من لعنهم أو أبغضهم، اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله من الآيات العظيمات التي ذكرها ربنا جل وعلا في الثناء على أصحاب محمد قوله سبحانه: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير قال الإمام ابن حزم رحمة الله عليه وقد دلت هذه الآية على أن جميع الصحابة في الجنة لأنهم إما منفق قبل الفتح ومقاتل أو منفق بعد الفتح ومقاتل، وقد وعد الله الفريقين بالجنة بقوله سبحانه: وكلاً وعد الله الحسنى والحسنى هي الجنة.
ومن ذلكم قول الله سبحانه: لقد رضى الله على المؤمنين إذا يبايعونك تحت الشجرة وقوله سبحانه: في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ويدخل في هذه الآية دخولاً أولياء أصحاب النبي.
وقوله سبحانه: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم من قوله: ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).
والآيات في مدح والثناء على أصحاب النبي والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة تكفي من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فنسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلي أن يحشرنا في زمرتهم ويجمعنا بهم في دار كرامتهم.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1321)
الصحابة2
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثناء النبي على أصحابه عموماً. 2- حرمة سب الصحابة. 3- بعض ما جاء في فضل
بعضهم. 4- الشهادة لبعضهم بالجنة. 5- الميزان الحق في وزن الناس هو التقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: ذكرنا فيما مضى شيئا مما ورد في فضل أصحاب محمد في كتاب الله، ونورد اليوم جملا ما ورد في فضلهم على لسان نبينا محمد فمن ذلك قوله في المتفق عليه: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) وفي رواية: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)) وفي رواية: ((خيركم قرني)) فهم خير الناس وخير القرون وخير الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه ومسلم عنه قال: ((يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله فيقولون: نعم، فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله فيقولون نعم، فيفتح لهم، ثم تأتي على الناس زمانٌ فيغزوا فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله فيقولون نعم، فيفتح لهم)).
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عنه أنه قال: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) فأين يذهب من الله من يقع في أحد من أصحاب رسول الله وجبل أحد منه لا يساوي نصف مُداً من أصحاب محمد ومنها أنه قال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة بن عبيد الله في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمر وبن نفيل في الجنة)) فأين يذهبون من الله من يقعون فيمن شهد لهم بالجنة بأسمائهم.
يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان أو غيرهم من أصحاب رسول الله المرضي عنهم، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أنه كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص فتحركت الصخرة وفي رواية: فتحرك الجبل فقال اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد، فالنبي هو والصديق هو أبو بكر ، والشهداء هم عمر قتله غيلة أبو لؤلؤة المجوسي لعنه الله، وعثمان قتله الثوار فسال دمه على مصحفه ، وعلي قتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وصلحة والزبير وسعد قتلوا في المعارك، فهم جميعاً شهداء بشهادة رسول الله لهم وقد قال تعالى: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ومنها ما رواه البخاري في صحيحه أنه صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم الجبل فقال أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان، ومنها ما صح عنه أنه قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر، وأشهدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيده عامر بن الجراح، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر أشبه عيسى عليه السلام في ورعه)) فأبو بكر هو أرحم الأمة بالأمة بنص رسول الله وهو القائل حين ارتد الناس وأراده الصحابة على مهادنتهم: والله لو منعوني عناقاً وفي رواية: عقالاً كانوا يدفعونه لرسول الله لقاتلهم عليه، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي أي حتى يقتل فلما رأى منه الصحابة هذه العزمة الصادقة شرح الله صدورهم لقتال جميع المرتدين ونصرهم الله عليهم وضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب مرة أخرى، فالحزم والصلابة في الدين لا تنافي الرأفة والرحمة بالمؤمنين، فهذا أرحم الأمة بالأمة.
أما شدة عمر في أمر الله فهي أشهر من أن تذكر، ولعل الله أن ييسر لنا ذكر شيء من سيرته في خطب لاحقة، وعثمان هو الذي قال فيه : ((كيف لا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) ومن فضائلهم صح أن عبد الله بن مسعود كان صاحبي نعلي رسول الله ووسادته ومطهرته وعمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه وحذيفة بن اليمان كان صاحب سر رسول الله الذي لا يعلمه أحد غيره، وسعد بن أبي وقاص كان مجاب الدعوة.
ومنها صح عنه أنه قال: ((اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)) ومنها ما رواه البخاري ومسلم عنه قال: ((رأيتني دخلت الجنة فإذا بي بالرميصاء زوجة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت: لمن هذا فقالوا هذا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخل فانظر إليه فذكرت غيرتك فوليت مدبراً فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله)) [متفق عليه]. وفي رواية: أنه أصبح فدعا بلال فقال: ((يا بلال بم سبقتني إلى الجنة ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي فقال بلال: يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده ورأيت أن لله علي ركعتين فقال : بهما)) فهذا بلال الحبشي ينال تلك المنزلة الرفيعة بخبر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى والذي لا يخرج من لسانه إلا الحقد فليتق الله من يسيرونها جاهلية فيناضلون بين الناس على أساس عروقهم وأجناسهم وقبائلهم وليعلموا أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه سبب إلا سبب التقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ((لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)).
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: من ورد في فضائل أصحاب محمد ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر في المدينة فقالوا: ما أخذت سيوفد الله من عنق عدو الله مأخذها فقال أبو بكر أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى أبو بكر النبي فأخبره فقال له النبي : ((يا أبا بكر لعلك أغضبهم لئن كنت أغضبتهم فقد غضبت ربك)) ، فأتاهم أبو بكر فقال: يا أخوتاه أغضبتكم؟ فقالوا: لا، ثم قالوا: يغفر الله لك يا أخي.
هكذا التربية وهكذا الميزان سلمان وصهيب وبلال ما فيهم عربي، ومع ذلك إن كان أبو بكر أغضبهم بهذا الكلمة التي ما هي إلا عتاب خفيف أتقولون هذا الشيخ قريش وسيدهم، إن كان أبو بكر الذي طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين على أفضل منه، إن كان أغضبهم بهذه الكلمة فقد أغضب الله عز وجل، هكذا توزن الأمور والأشخاص والهيئات والذوات في الإسلام، وهكذا يُعرف لأهل الفضل فضلهم ولأهل السابقة سابقتهم ولأهل البلاء في الإسلام بلاؤهم وحسن ماضيهم، فأين هذا ممن يزنون الناس بألوان بشرتهم أو بأسماء قبائلهم أو بلادهم أو بثرائهم أو جاههم وقربهم ودنوهم من الذين يريدون علوا في الأرض وفساداً، ومنها ما رواه البخاري أن رجلاً جاء لابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر محاسن عمله فقال ابن عمر: للسائل لعل ذلك يسوءك قال: نعم، قال: فأرغم الله أنفك أي أهانك وأذلك وأصله من الرغام وهو التراب.
كأنه ألصق أنفه بالتراب ثم سأل الرجل ابن عمر عن علي فذكر محاسن عمله وقال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي ثم قال ابن عمر للسائل: لعل ذلك يسوءك قال السائل: أجل، قال: ((فأرغم الله أنفك انطلق فاجهد على جهدك)).
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد ، سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1322)
الصلاة على النبي
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
18/7/1417
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلاة على النبي بني الجافي والغالي. 2- الصلاة على النبي من فضائل القربات. 3- من
صلى على النبي صلت عليه الملائكة. 4- أمر النبي بالصلاة والسلام عليه. 5- عرض
صلاتنا عليه. 6- الصلاة عليه طهرة للمجالس. 7- بعض ما جاء في النصوص الصحيحة
الآمرة بالصلاة والسلام عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله كنز عظيم من كنوز الخيرات وباب واسع من أبواب المبرات طالما غفل عنه المشمرون وتهاون به الجفاة البخيلون بل ربما وصل الحال بكثير من المقتصدين بل ومن السابقين إلى التقصير فيه، حتى سبقهم فيه الظالمون أنفسهم بالمعاصي والسيئات ثم تمسك كل فريق بما يجب أن يكون عليه الآخر وبدا بينهم العداوة والبغضاء والتنابز بالألقاب والأفعال وربما وصل الحال ببعض أهل الصلاح والتقى إلى الإزراء ببعض ما عليه أهل المعاصي والتقصير من أهل الطاعة والقرب في هذه الباب، وما دروا أنه ثابت عنه ، ووصل الحال ببعض أهل التقصير والصدود إلى نبذ الصالحين بالجفاء وقسوة القلب، وما ذاك إلا بسبب نسيان كل من الفريقين حظاً مما ذكروا به فأغريت بينهم العداوة والبغضاء ولو رجع كل إلى الصحيح الثابت فعمل به وترك ما سواه لالتقى الفريقان في هذا الباب ولوضعت حربهم أوزارها وخبى من نارهم أوارها تلكم القربة يا عباد الله هي الصلاة على النبي فكم فيها من فضائل وكم عنى بشأنها السابقون الأوائل فلله درها كم صح فيها من أخبار، ولله درها كم افترى فيها على النبي المختار، وما بنا من حاجة إلى الافتراء وحسبنا ما صح عن خير الورى.
فقد صح عنه فيها من الأخبار ما هو حري بأن يحفز كل ذي قلب حي إلى المسارعة في هذا الباب ليحظى عند الله بحسن الثواب والله عنده حسن الثواب.
إذا أردت أن يصلي الله عليك عشر صلوات فصلي على النبي واحدة صح عنه قوله: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً)) [رواه مسلم]. إذا أردت أن يصلي الله عليك وملائكته سبعين صلاة فصلي على النبي عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: ((من صلى على رسول الله صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة، فليقل من ذلك أو يكثر)) [رواه أحمد]. إذا أردت أن تصلي عليك الملائكة فأدم الصلاة على النبي.
صح عنه : ((ما من عبد يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة مادام يصلي علي فليقلِ العبد من ذلك أو يكثر)). إذا أردت أن تكتب لك عشر حسنات وتمحى عنك عشر سيئات وترفع عشر درجات وأن يصلي الله عليك عشراً فصلِ على النبي صح عنه : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات)) [رواه أحمد والنسائي]. وفي رواية: ((كتب الله له بها عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورد عليه مثلها)).
إذا أردت أن يكفى همك ويغفر لك ذنبك فصلي على النبي.
صح عن أبيّ أنه قال للنبي : ((إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي قال ما شئت، قال قلت: الربع، قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير، قال قلت: الثلث، قال: ما شئت فما زدت فهو خير، قال قلت: النصف قال: ما شئت فما زدت خير لك، قال قلت: الثلثين، قال: ما شئت فما زدت خير لك، قال قلت: النصف قال: ما شئت فما زدت خير لك قال قلت: أجعل لك صلاتي كلها قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك)) [رواه الترمذي والحاكم].
الصلاة على النبي سبب لنيل شفاعته يوم القيامة صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة)).
وصحّ عنه : ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجوا أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) [رواه مسلم]. والصلاة على النبي سبب لعرض اسم المصلي على النبي صح عن النبي أنه قال: ((أكثروا من الصلاة علي، فإن الله وكل لي ملك عند قبري فإذا صلى علي رجل من أمتي قال الملك: يا محمد إن فلان ابن فلان صلى عليك الساعة)).
وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((إن لله تعالى ملكاً أعطاه سمع العباد فليس من أحد يصلي على إلا أبلغنيها وإني سألت ربي ألا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها)) وصح عنه : ((إن لله تعالى ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) [رواه أحمد والنسائي وغيرها].
والصلاة على النبي طهرة من لغو المجالس صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النبي إلا قاموا عن أنتن من جيفة)) ، وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولو يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة - والترة هي النقص والتبعة والحسرة - فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)) وفي رواية: ((ما قعد قوم مقعداً لا يذكرون الله عز وجل ويصلون على النبي إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة للثواب)).
تلكم يا عباد الله بعض ما ورد في فضل الصلاة عليه فهل من مدكر، وذلكم الفضل فاستبقوا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه ووالاه، ومذل من عصاه وخالف أمره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله سمعتم شيئا مما ورد في فضل الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه، والتزمنا أن لا نورد إلا ما ثبت نقله عن النبي واجتنبنا الضعيف والموضوع، ففي الصحيح الثابت غنية عنها، وفي هذا الباب صح عنه أنه قال: ((كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي )) لما صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصلي علي)) [رواه النسائي والترمذي والحاكم وغيرهم].
وصح عنه : ((إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصلِ علي)) وثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((من نسى الصلاة علي خطئ طريق الجنة)) أي من ترك علي الصلاة عمداً، وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((من ذكرت عنده فلم يصلي علي فقد خطئ طريق الجنة)) ذلكم يا عباد الله بعض ما ورد في فضل الصلاة على نبيكم نبي الرحمة والهدى، ولعلنا في خطب قادمة إن شاء الله نبين الصيغ الثابتة عنه ، فنبين صيغ عليه والسلام ومواطنها المشروعة التي وردت الأحاديث باستحباب الصلاة عليه فيها والأوقات المستحبة لها ثم نختم بذكر الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1323)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد في الصلاة على النبي كما ذكرها ابن القيم:
أ- موافقة الله وملائكته. ب- حصول المصلي على عشر صلوات. ج- الصلاة على النبي سبب
للشفاعة. د- الصلاة على النبي سبب لغفران الذنوب. هـ- الصلاة على النبي سبب قضاء
الحوائج. و- منافع أخرى كثر للصلاة على النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله لازلنا مع هذا الباب العظيم من أبواب الخير والبركة وهذا الميدان الواسع من ميادين الاستباق ألا وهو الصلاة على النبي ، ونريد أن نشنف أسماعكم اليوم بكلام إمام عظيم من أئمة الإسلام، ألا وهو ابن القيم رحمه الله.
ومن الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة على النبي امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، وهي من أعظم الفوائد لأن الله أمرنا بالصلاة عليه في قوله: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ومنها موافقته سبحانه في الصلاة على النبي وإن اختلفت الصلاتان لأن الله يصلي عليه حيث ذكر ذلك في قوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي ، ومنها موافقة ملائكته الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصلاة على النبي ، ومنها حصول عشر صلوات من الله على من صلى عليه مرة واحدة، ومنها أنه يرجى إجابة الدعاء إذا قدم الصلاة على النبي قبل الدعاء، فهي ترفع الدعاء عند رب العالمين، ومنها أنها أي الصلاة على النبي سبب لشفاعته إذا قرنها بسؤال الوسيلة له أو أفردها، ومنها أنها سبب لغفران الذنوب، ومنها أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمه، ومنها أنا سبب لقرب العبد من النبي يوم القيامة، ومنها أنها تقوم مقام الصدقة لذى العسرة، ومنها أنها سبب لقضاء الحوائج، ومنها أنها سبب لصلاة الله تعالى على المصلي وصلاة ملائكته عليه، ومنها أنها زكاة للمصلي تطهير له، ومنها أنها سبب لتبشير العبد بالجنة قبل موته، ومنها أنها سبب للنجاة من أهوال يوم القيامة، ومنها أنها سبب لرد النبي على المصلي، ومنها أنها سبب لتذكر العبد ما نسيه، ومنها أنها سبب لطيب المجلس وأن لا يعود حسرة على أهليه يوم القيامة، ومنها أنها سبب لنفي الفقر، ومنها أنها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكر اسمه ، ومنها أنها ترمي صاحبها على طريق الجنة وتخطئ بتاركها عن طريقها، ومنها أنها تنجي من نتن المجلس الذي لايذكر في الله ورسوله ويحمد ويثنى عليه فيه ويصلى على رسوله ، ومنها أنها سبب لتمام الكلام الذي ابتدأ بحمد الله والصلاة على رسوله، ومنها أنها سبب لوفور نور العبد على الصراط، ومنها أنها يخرج بها العبد عن الجفاء، ومنها أنها سبب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض، لأن المصلي طالب من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل، فلابد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك، ومنها أنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره وأسباب مصالحه لأن المصلي داع ربه أن يبارك عليه وعلى آله صلى الله عليه وسلم، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه، ومنها أنها سبب لنيل رحمة الله له لأن الرحمة إما بمعنى الصلاة كما قال طائفة وإما من لوازمها وموجباتها على القول الصحيح، فلابد للمصلي عليه من رحمة تناله، ومنها أنها سبب لمحبته للرسول وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لايتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضاره في قلبه واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضاره وإحضار محاسنه في قلبه نقص حبه من قلبه، ولاشيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره واستحضار محاسنه، فإذا قوي هذا في قلبه جرى على لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك، ومنها أن الصلاة عليه سبب بمحبته لهذا العبد المصلي فإنها إذا كانت سبباً لزيادة المحبة المصلي عليه فكذلك هما سبب لمحبته هو للمصلي عليه ، ومنها أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره استولت محبته على قلبه حتى لايبقى في قلبه معارض لشيء من أوامره، ولاشك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوباً مستوراً في قلبه ولازال يقرأه على تعاقب أحواله ويقتبس الهدى والصلاح وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة معرفة ازدادت صلاته عليه ، ومنها أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه وذكره عنده، ومنها أنها سبب لتثبيت القدم على الصراط والجواز عليه لحديث عبدالرحمن بن سمرة الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي وفيه: ((رأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحياناً ويتعلق أحياناً فجاءته صلاته علي فأقامته على قدميه وأنقذته)).
تلكم ياعباد الله بعض الفوائد والثمرات الحاصلة من الصلاة على النبي فلنهب بها يا عباد الله إلى هذا الفضل العظيم ولنسعَ في تحصيله فهو خير لنا عند ربنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فلا زال الكلام لابن القيم رحمة الله عليه حيث قال في الفائدة والثمرة السابعة والثلاثين ما نصه: إن الصلاة عليه أداء لأقل القليل من حقه مع أن الذي يستحقه لايحصى علماً ولاقدراً ولا إرادة ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه، ومنها أنها أي الصلاة على النبي متضمنة لذكر الله تعالى وشكره ومعرفة إنعامه على عبيده وإرساله، فالمصلي عليه قد تضمنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله كما عرفنا ربنا وأسماءه وصفاته وهدانا إلى طريقه ومرضاته وعرفنا مالنا بعد الوصول إليه والقدوم عليه، فهي متضمنة لكل الإيمان بل هي متضمنة بالإقرار بوجوب الرب المدعو وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وحياته وكلامه وإرسال رسوله وتصديقه في أخباره كلها وكمال محبته، ولا ريب أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه متضمنة لعلم العبد ذلك وتصديقه به ومحبته له، فكانت من أفضل الأعمال، ومنها أن الصلاة عليه من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله ربه نوعان أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال وإيثار ذكره ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلى عليه قد صرفه سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على مايحبه هو فقد آثر الله ومحابه على ما سواه والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره.
انتهى كلامه رحمه الله، الله آثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم صلِ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/1324)
الصلاة على النبي ومواضعها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الإيمان بالرسل, فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مواضع الصلاة على النبي. 2- الصلاة على النبي أثناء الصلاة. 3-معنى الصلاة على
النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله سبق ذكرنا طرفاً من فضائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدلتها الثابتة عنه والتي تدل على أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات وكتب له بها عشر حسنات، ومحى عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات، وأن من جعل كل دعائه صلاة على النبي كفل الله همه وغفر له ذنبه، وأن الصلاة عليه سبب لنيل شفاعته يوم القيامة وسبب لعرض اسم المصلي على رسول الله ، وأن أي قوم اجتمعوا ثم تفرقوا ولم يصلوا عليه في مجلسهم ذلك فإنهم يقومون عن أنتن من جيفه ويكون مجلسهم عليهم نقصاً وتبعة وحسرة يوم القيامة، وأن كل دعاء محجوب حتى يصلي الراعي على النبي وأن من ذكر عنده النبي فلم يصلِ عليه فهو بخيل بل هو أبخل الناس وأجفاهم، وأن من ترك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فقد خطئ طريق الجنة، كل ذلك ذكرنا أدلته الثابتة عنه ووعدنا بذكر المواطن التي تشرع فيها الصلاة عليه، وهذا أوان الوفاء بما وعدنا ومن ذلك آخر التشهد في الصلاة فقد صح أن بشير بن سعد سأله فقال: قد أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا قال: ((قولوا اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم. والسلام كما علمتم)). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة عليّ)) ولذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم وجوبها في التشهد الأول والثاني عملاً بمدلول هذين الحديثين.
ومن المواطن التي تشرع فيها الصلاة عليه بعد التكبيرة الثانية في صلاة الجنازة فقد صح ذلك عن أبي أمامة بن سهل وأبي هريرة رضي الله عنهما، ومن المواطن التي تشرع فيها الصلاة عليه الخطب كخطبة الجمعة والعيدين وغيرهما وهذا أمر مستفيض عند المسلمين صحت به السنن عنه من فعله وفعل خلفائه الراشدين من بعده وسائر العلماء والخطباء من أتباعه ومن المواطن بعد الأذان فقد صح عنه : ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا عليّ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) ومن مواطن الصلاة عليه حال الدعاء بعد أن يحمد الداعي ربه وقبل أن يسأل حاجته صح عنه : ((إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصلي على النبي ثم ليدعو بما شاء)) وصح أن ابن مسعود قال: كنت أصلي والنبي وأبو بكر وعمر معه فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم بالصلاة على النبي ثم دعوت لنفسي فقال : ((سل تعطَ سل تعطَ)).
ومن المواطن التي تشرع فيه الصلاة عليه عند دخول المسجد وعند الخروج منه صح عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((اللهم صل على محمد وسلم اللهم اغفر ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج قال مثل ذلك إلا أنه يقول أبواب فضلك.
ومن مواطن الصلاة عليه على الصفا والمروة للحاج والمعتمر صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكبر على الصفا ثلاث يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) ثم يصلي على النبي ثم يدعو ويطيل القيام والدعاء ثم يفعل على المروة مثل ذلك وهذا من توابع الدعاء.
ومن المواطن عند اجتماع قوم وقبل تفرقهم وأنهم إذا تفرقوا دون الصلاة عليه قاموا عن أنتن من جيفة وكان مجلسهم عليهم نقصاً وتبعة وحسرة يوم القيامة.
ومن المواطن عند ورود ذكره صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((من ذكرت عنده فليصلِ علي)) وصح أن جبريل قال للنبي : ((بَعُدَ من ذكرت عنده فلم يصلِ عليك)) وصح أنه قال: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلِ علي)) وصح أنه قال: ((بخيل من ذكرت عنده فلم يصلِ علي)).
ومن الأوقات التي يشرع فيها الصلاة عليه أول النهار وآخره فقد صح عنه أنه قال: ((من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة)) ومنها يوم الجمعة وليلتها فقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت (يقولون: بليت) قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء)) وصح عنه : ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، وليلة الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) وفي رواية: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه ليس أحد يصلي علي يوم الجمعة إلا عرض علي صلاته)).
وهاأنتم يا عباد الله في يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة على النبي رحمني ورحمكم الله وجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله ولي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله سمعنا طرفاً من الأحاديث النبوية التي تبين لنا المواطن والأوقات التي يشرع فيها الصلاة على النبي ، ومن تلك المواطن الهم والشدائد، وعند طلب المغفرة، وذلك لأن الصلاة على النبي سبب لكفاية الهم ومغفرة الذنوب.
كما قال صلى الله عليه وآله وسلم لمن قال له: أجعل لك صلاتي كلها قال: ((إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك)) والمعنى أن من يجعل دعاءه صلاة على النبي يكفيه الله ما أهمه من أمر دينه ودنياه.
واعلموا يا عباد الله أن الصلاة على النبي مشروعة في أي مكان، وأجرها يحصل للقاصي عن قبره كما يحصل للداني من قبره، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري يعبد، وصلوا علي فإن صلاتكم معروضة علي تبلغني حيث كنتم)) هذا وقد ورد عن السلف من الصحابة فمن بعدهم مواضع للصلاة عليه منها ما صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقف على قبر النبي فيصلي على النبي ويدعو لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا عند زيارته لقبر النبي وقبر صاحبيه ومنهما ما نقله ابن القيم عن الإمام أحمد رحمهما الله أنه قال: (إذا مر المصلي بآية فيها ذكر النبي فإن كان في صلاة نفل صلى عليه صلى الله عليه وسلم) ومنها ما ذكره ابن القيم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله جلا وعلا: إن الله وملائكته يصلون على النبي قال أي إن الله تعالى يثني على نبيكم ويغفر له، وأمر الملائكة بالاستغفار له يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه أثنوا عليه في صلاتكم وفي مساجدكم وفي كل موطن وفي خطبة النساء فلا تنسوه في تلكم المواطن وأوقات الصلاة على النبي ، فاستبقوا الخيرات وسارعوا لنيل الحسنات ومحو السيئات ورفعة الدرجات والخطوة برضى رب الأرض والسموات.
عباد الله إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم على الأربعة الخلفاء الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1325)
حوادث السيارات
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
17/8/1417
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إحصائية من حوادث السيارات في المملكة. 2- جاد سلفنا بأرواحهم ولكن في الجهاد في
سبيل الله. 3- معارك الإسلام الفاصلة في عهد النبوة لم يسقط فيها مائة شهيد في حين ندفع في
كل يوم بعشرة قتلى وآلاف الريالات. 4- حرمة دم المسلم ومسئولية الأرواح والمحافظة عليها.
5- أسباب كثرة الحوادث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: ثلاثة آلاف وسبع مائة وتسعة وثمانون قتيلاً، وواحد وثلاثون ألفا وثلاثة وثلاثون جريحا بجراح كثير منهم جراح بالغة، تلكم هي نتائج حوادث السيارات في المملكة في العام الماضي ألف وتسع مائة وخمس وتسعين للميلاد حسب الإحصائية الصادرة من الإدارة العامة للمرور، والتي نشرتها جريدة الشرق الأوسط في اليوم الثامن من شهر رجب من هذا العام وذكرت الإحصائية أن عدد حوادث السيارات مائة وثلاثة وعشرون ألف حادث وفي دارسة أخرى نشرتها الجريدة نفسه تذكر أن الحوادث المرورية في المملكة تكلف سنويا أكثر من ثمانية عشر ألف مليون ريال شملت الخاسر المادية في الممتلكات العامة والخاصة الناجمة عن الحوادث وكذلك تكاليف العلاج في المستشفيات والمدة التي يقضها المصاب في المستشفى حيث كشفت الدوائر أن ثلث أسرة المستشفيات في المملكة مشغولة بمصاب الحوادث المرورية وكذلك الخسائر الناتجة من التلف في المرافق العامة مثل الطرق والأرصفة والإشارات المرورية والسياجات المعدنية والأشجار وغيرها وكذلك المرتبات التي تصرف لأسرة المتوفي والمصاب وغير ذلك مما يشكل مجموعة أكثر من ثمانية عشر مليار ريال سنويا وبينت الدراسة أنه خلال الخمسة والعشرين عاماً الماضية وصل عدد القتلى في الحوادث المرورية ما يقارب خمسة وستين ألف قتيل ونصف مليون جريح، واعتمدت هذه الدراسة على الإحصائية الرسمية للإدارة العامة للمرور وإحصائيات المتشفيات والجهات الحكومية ذات العلاقة بموضوع الدراسة، وأضافت الإحصائية إلى أن عدد المخالفات في العام الماضي وصلت إلى مليون ونصف مليون مخالفة كان أكثرها يتعلق بتجاوز السرعة القانونية وتجاوز الإشارة الضوئية. انتهى.
فيال هول ما قرأنا ورأينا وسمعنا، إن لغة الأرقام حين تنطق تذهل السامع وتخرس المجادلين لا سيما إن كانت من قوم صادقين ولا مصلحة لهم في الكذب والتزوير قريباً من أربعة آلاف قتيل وأكثر من واحد وثلاثين ألف جريح كلهم حصاد مائة وثلاث وعشرين ألف حادث سيارة في عام واحد، خمسة وستون ألف قتيل وأكثر من نصف مليون جريح حصاد ربع مليون قرن مضت، ثمانية عشر مليار ريال التكلفة السنوية لحادث السيارات، ثلث أسرة المستشفيات يرقد عليها ضحايا حوادث السيارات يا لهول الأرقام وضخامتها، ويا ويحنا ونحن نجني مغبتها لو شئت لأقسمت باراً غير حانثاً أنه ما من أحد من الحاضرين معنا الآن إلا وله قريب أو حبيب أو صديق أو نسيب أو معرفة فذهب ضحية حوادث السيارات إما بموت أو إعاقة أو جراحة أو خسارة في نفسه أو ماله، فهلا كان ذلك باعثا لنا على التأمل والاعتبار؟ إلى هذا الحد تساهلنا بأرواحنا في هذا المضمار.
لقد جاد وأصحاب محمد بأنفسهم عن طوع واختيار لا عن كره وإضطرار ولكن في غير هذا المضمار بل في نصره العزيز الجبار حين ناداهم بقوله سبحانه: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم وبقوله سبحانه: انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فنفروا في سبيل الله مجاهدين ولشرعه ناشرين وعن دينه ذابين، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين والله يحب الصابرين، كانت الحسرة تأخذ أحدهم أن لا يكون قتل في أرض المعركة شهيداً وما ذاك إلا لأن أهدافهم واضحة وغايتهم نبيلة وسعيهم مشكور وعملهم مبرور في مجاهدة كل كفور، فكان واحدهم يجود بالنفس إن ضن البخيل بها، والجود بالنفس أغلى غاية الجود، فقاتلوا وقتلوا وصابروا وصبروا، ولولاهم ما كان في الأرض مسلموا.
جاهدوا مع نبي الله عشرة أعوام في أرض المعارك وقتل منهم في سبيل نشر الدين وإعلاء كلمة الله عدد كبير لكنهم أقل من حوادث السيارات في أعوام عشرة في بلد واحد من بلاد المسلمين اليوم، إن ضحايا غزوة بدر وأحد والخندق وهي من معارك الإسلام الفاصلة لا يتجاوزون مائة شهيد عامتهم في أحد، وهم سبعون شهيداً، فبدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان وأحد تلك المدرسة الإيمانية والعسكرية والتربوية العظية أنزل الله في شأنها تسعة وخمسين آية والخندق التي قال النبي : ((بعدها اليوم نغزوهم ولا يغزونا) ) فما جرؤا على غزوة بعدها كل أولئكم لا يتجاوز حصيلة شهدائها مائة شهيد ومثلها فتح مكة وغيرها كثير.
إن أول درس يجب أن نعيه من هذه الأرقام هو أننا أحيانا نستكثر حين نُدعى للإنفاق، نستكثر الإنفاق لنصرة الدين الإنفاق بكل معانيه إنفاق الوقت وإنفاق النفس وإنفاق الجهد وإنفاق المال ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تقولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم نستكثر الإنفاق حين نُدعى إليه ونشح ونبخل ذاهلين أن ما قدر الله ذهابه منك فهو ذاهب شئت أم أبيت فخير لنا أن نبادر بالبذل والعطاء من أموالنا وأنفسنا وجهدنا وعلمنا ومالنا وكل ما منّ الله به علينا لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته ونشره لأهل الأرض قاطبة، فهو خير لنا في دنيانا وأخرانا.
ودرس آخر ينبغي أن نعيه ونتساءل لماذا كل هذه الأرقام وكل هذه الضحايا ومن المتسبب فيها وهل المتسبب يأثم عند الله إثم قاتل النفس الوارد في قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً. وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) وفي رواية: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن من غير حق)).
وفي قوله فيما صح عنه: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله عز وجل في النار)) وهل من تسبب في قتل نفسه يلحقه الإثم الوارد في قوله : ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).
وهل من قتل في هذه الحوادث مظلوما بخطأ مروري اقترفه غيره هل يشمله قوله حين عد الشهداء من أمته وذكر منهم بقوله: ((والهدم شهيد)) وفي رواية: ((وصاحب الهدم شهيد)) ومهما يكن من شيء فإن الذي ينبغي أن نعيه ويعيه كل مسلم عاقل هو مسئوليته أمام الله عن نفسه التي بين جنبيه، إن نفسك يا عبد الله أمانة عندك لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرماً عظيماً ينال عليه في الآخرة عذاب أليماً إلا أن يتوب الله عليه، ونفس غيرك عليك حرام إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا آلا هل بلغت؟ اللهم فأشهد أي والله لقد بلغ ولكن أين من يتعظ، صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)) هذا في النفس أما المال فهو حرام صح عنه : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) فتأمل يا عبد الله كم من الأثام ستجني حين تفرط في أسباب السلامة فينتج من تفريطك قتل نفس بغير حق أو إتلاف للأملاك أو الأموال الخاصة أو العامة وكلها مما حرم الله إتلافه بغير حق وكم من الحسرة ستلاحقك طوال حياتك إن كان قلبك حي، حين تسبب في قتل عائل لإسرة كاملة ينتظره الشيخ الكبير والعجوز والطفل الصغير، فتكون سببا في هلاكهم وحرمانهم باستهتارك أو تفريطك بالأخذ في أسباب السلامة، نعم إن ما قدره لابد أن يكون ولكن حين يقع القدر، وقد عملت الأسباب يرحمك كل محب ويشفق عليك كل صديق ويعوضك الله خيراً.
ولكن حين يقع القدر وأنت مفرط بالأخذ بالأسباب تكون موضع اللوم والعتب في الآخرة والأولى، إن الله سبحانه وتعالى حين قال: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله وقال: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها حين قال ذلك قال معه: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير فلنعي هذا جيداً ولنحذر التفريط فما ندم من عمل بالأسباب نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله إن عامة أسباب الحوادث يمكن تلافيها، فمنها تسليم السيارات لأطفال السن أو أطفال العقول، وقد رأينا هذا في هذه الأيام كثيرة ويعبثون بها بالتفحيط والتطعيص وغيرها من الأسماء التي عبروا بها عن عبثهم واستهتارهم بأنفسهم وبالآخرين، فهلا حزمنا أمرنا وكنا صارمين مع من ولانا الله رعايتهم فنمنعهم من القيادة إن رأينا منهم عبثا، ونسمح لهم بها إن أنسنا منهم رشداً.
ومن أسباب الحوادث النعاس حال القيادة ثم النوم، وهو أمر ممكن تلافيه بالوقوف والنوم ثم الاستيقاظ وإكمال المسير، ولكننا كثيراً ما نتساهل في الجرم مع أنفسنا في هذا الأمر فتقع أمور شنيعة وحوادث مريعة كان في وسعنا تلافيها لو أخذنا بأسباب السلامة.
ومن أسباب الحوادث السرعة الزائدة عن حد السيطرة على المركبة، ولست أريد تحديد رقم معين للسرعة، فلكل مقام مقاس، ولكل مركبة حد، ولكل سائق قدرة، ولكنني المنبغي في كل حال أن نلتزم بالسرعة المحددة، فهي أسلم إن شاء الله.
ومنها الصيانة الدورية للمركبة وتعاهدها وتعاهد إطارتها وعامة أمورها فهو أدعى للسلامة من الحوادث.
ومنه الالتزام بالإشارات المرورية فما وضعت إلا لضبط السير وتلافي الحوادث، وأكثر الحوادث هو بسبب تجاهلها أو تجاوز السرعة المعقولة.
وأسباب السلامة كثيرة وأصحاب الاختصاص من رجال المرور وغيرهم يعرفون منها ما لا نعرف ويرشدون بما يرون أنه أدعى لإبعاد الناس على الحوادث ومن طلب أسباب السلامة وجدها، والعاقل من وعظ بغيره.
اللهم صلِ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1326)
شهور العام
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
24/11/1417
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأشهر الحرم. 2- لا فضيلة لشهر رجب. 3- التشاؤم في شهر صفر. 4- سب الدهر سب
لمقدر المقادير جل وعلا. 5- تلاعب العرب بحرمة الشهور بالنسيئة. 6- تذكر نعم الله
وشكرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله، يقول الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]، والأشهر الحرم هي هذا الشهر الذي أنتم فيه ذو القعدة وسمى بذلك لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن القتال بعد أن كان مستمراً بينهم شعبان ورمضان وشوال، فإذا هل هلال هذا الشهر قعدوا عن القتال ثلاثة أشهر هي هذا الشهر وذو الحجة والمحرم ثم عادوا للغزو والسلب والقتال حتى يحلل هلال رجب وهذه الأربعة الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد وهو شهر الله رجب الفرد، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شهر رجب والصيام فيه حديث، وقد بين الإمام ابن حجر رحمة الله عليه في رسالة تبين العجب في فضل رجب أنه لم يثبت عن النبي في فضل شهر رجب حديث، وكل ما جاء فيه فهو إما ضعيف أو موضوع، وهو منشأ المثل الشائع عند العامة اليوم حيث يقولون (لا يعجبه عجب ولا الصيام برجب) مما يوحى بشدة فضيلة ذلك وهو مما لا دليل عليه ولا أصل ثابت له.
وقد كان المشركون يتشاءمون من شهر صفر لأنهم يعودون فيه إلى السلب والنهب والغزو والقتل بعد الكف عنها في الأشهر الحرم فنفى النبي تشائمهم وحرمه بقوله: ((لا صفر)) لأن المقرر للأحداث والأشياء هو الله، ولا دخل لله هو وشهوره فيما يقع في الكون من خير وضير، فمن سب الدهر أو شيئاً منه شهراً أو يوماً أو سنة أو ساعة فكأنما أعتقد أنما هو مسبب وخالق الضر الذي حل به، ولذا نهى النبي عن سب الدهر وقال: ((لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر يقلب ليله ونهاره)) أي أنما نسبتموه إلى الدهر وإنما وقع بقضاء الله وقدره، والله خالقه، فمن سب الدهر بسبب ما وقع فيه من أقدار ضارة له فكأنما سب الله مقدر الأقدار كلها ومقلب الليل والنهار، ولذا فإذا غضبت من شخص فلا يجوز أن تلعن الساعة التي قد عرفتك به أو جمعتك به، وإذا غضبت من امرأتك فلا تلعن الساعة التي تزوجتها فيها أو غضبت من شريك لك في تجارة فلا تلعن الساعة التي قد اشتركت معه فيها ونحو ذلك، لأن هذا كله من سب الدهر.
وقد كان مشركو العرب يتلاعبون بحرمة هذه الأشهر فيؤخرون حرمة شهر الله المحرم إلى صفر إذا أرادوا فيه قتالاً ويسمونه النسيء، وقد أبطل الله نسيئهم هذا وبين أنه إمعان في الكفر وإيغال في الضلالة بقوله سبحانه: إِنَّمَا ?لنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ?لْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ [التوبة:37]، أي ليبقوا على عدد الأشهر الحرم أربعة فيرحلوا حرمة المحرم إلى صفر ويقولون شهر بشهر ويحلون المحرم عاما، ويحلونه عاما فيحلوا ما حرم الله زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَـ?لِهِمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:37]
ويا لسوء عمل من أحل ما حرم الله والله لا يهدي القوم الكافرين قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ?للَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ?للَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116].
قد بلغ تلاعب المشركين بالأشهر مبلغاً غيرها عن هيئتها الأولى يوم خلق الله السموات والأرض، ولو استمرت على تلاعبهم لما كان يقين في صوم ولا حج، ولكن الله بفضله وكرمه جعل حجة النبي في السنة العاشرة من الهجرة منطلقاً لضبط الأشهر فوقوفه بعرفة واقع موقعه في اليوم التاسع من ذي الحجة وعيده في اليوم العاشر منه، وأعلنها صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)) فأبطل بإعلانه هذا كل نسيء نسأه المشركون، وضبط التاريخ بوقوفه بعرفة وكل تقديم يوم أو تأخير يوم في شهر من الشهور يعود الهلال فيضبطه والشهر القمري إما ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوما كما صح ذلك عن النبي : ((فصومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وحجكم يوم تحجون، وأضحاكم يوم تضحون)).
والنذور والعدد وسائر الأحكام الشرعية هي بهذه الأشهر القمرية لا بغيرها يَسْئَلُونَكَ عَنِ ?لاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ?لْحَجّ [البقرة:189]، ومن تمام نعمته تعالى علينا أن ردها على هيئتها يوم خلق السموات والأرض ثم ضبطها أهل الإسلام أتباع سيد ولد آدم فلتهننا هذه الثقة بميقات حجنا وصومنا وفطرنا وأضحانا وأشهرنا الحرم، ولنشكر الله على ما هدانا وإن كنا من قبله لمن الضالين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن الذي جعل لنا من الأشهر الأربعة حرماً نهانا أن نظلم فيهن أنفسنا بقوله مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]، ولئن كان ظلم النفس محرماً في كل حين فهو في الأشهر الحرم أشد حرمة، ولئن كان المراد الأول بظلم المنهي عنه بفعل النسيء الذي كان يفعله المشركون أو ظلمها بالمقاتلة في الأشهر الحرم التي حرم الله القتال فيها إلا أن ظلم النفس أعم مدلولاً وأشمل معنى، إن ظلماً لأنفسكم يا عباد الله أن لا تسئلوا عن أحكام دينكم والله سبحانه يقول: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ويقول: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، والنبي يقول: ((هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال)) إن ظلما لأنفسكم يا عباد الله أن توردوها موارد الهلاك في الدنيا والآخرة بالإعراض عما علمتموه من دين ربكم فتعرفون الحرام وترتكبونه والواجب فلا تفعلونه.
إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن نعيش رائحين وغادين لا نحمل همّ ديننا لا ندعو به ولا ندعو إليه ولا ندعو له ولأنصاره، إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن تمر بنا مواسم والنفحات فلا نستغلها إلا في جمع الدرهم والدينار، ونحن في غفلة عن حقيقة موازين حسناتنا يوم القيامة، إن ظلماً لأنفسنا يا عباد الله أن نقابل نعم الله علينا بالنكران لا بالشكران، فنعمة البصر سخرناها في النظر إلى ما حرم الله، ونعمة السمع سخرناها في سماع ما حرم الله علينا، ونعمة النطق سخرناها في قالة السوء من غيبة ونميمه وكذب وسوء وبهتان وزور وغيرها من آفات اللسان.
تأمل معي يا عبد الله كم لله عليك من نعمه ثم انظر هل سخرت كل نعمه فيما يرضيه فكنت من الشاكرين أم أنك استعنت بنعيمه على معاصيه، والله سبحانه يقول: هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60]، ويقول: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، ويقول: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
(1/1327)
استحلال المحرمات
التوحيد
نواقض الإسلام
إسماعيل الخطيب
تطوان
10/2/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
أن الحرام قد بين فلا يجوز للمسلم المجادلة لتحليل ما حرمه الله - أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام ومن ذلك المخدرات - التناقض التناقض الواضح في تصرفات بعض الناس
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
عباد الله: القرآن الحكيم، كتاب الله أنزله الله تبياناً لكل شيء، بين الله في هذا القرآن كل علم وكل شيء.. كل حلال وكل حرام.كما اشتمل على كل علم نافع، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم، فبالقرآن الحكيم وبيان النبي الكريم يعرف المسلم ما حرم الله عليه ليجتنبه وليبتعد عنه.
ونحن اليوم في زمان انتشرت فيه المحرمات بشكل خطير، وصار بعض الناس يجادلون في أمر المحرمات، فيزعمون أن الله تعالى لم يحرم الخمر لأنه سبحانه لم يذكر كلمة التحريم بل قال: اجتنبوه. وهؤلاء يصدق عليهم قول الله تعالى: ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق فالله سبحانه وصف الخمر والميسر والأنصاب والأزلام بأنها رجس أي قذارة ووساخة يجتنبها المؤمن، والاجتناب معناه الابتعاد التام بحيث يكون المؤمن في جانب بينما الخمر والميسر في جانب آخر بحيث لا يراها ولا يقترب منها، وقد جاء في الحديث لَعَنُ كل من له صلة من قريب أو بعيد بالخمر.
وكما يجادل هؤلاء في تحريم الخمر يجادل آخرون في تحريم المخدرات فيزعمون أن القرآن لم يذكرها ولم يحرمها، فهي إذن من الطيبات، وهؤلاء إما أنهم من المعاندين، أو أنهم من الجاهلين بأحكام الدين، وبالقرآن المبين، فلقد بين الله تعالى في كتابه أنه أرسل رسوله ليحل الطيبات ويحرم الخبائث، وقد علمنا أن الخمر من أخبث الخبائث، وعلم المسلمون أن الخمر ليست عصير العنب فقط، فهذا عمر بن الخطاب يخطب على المنبر ويقول: "ألا إن الخمر قد حرمت وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل ". فالإسلام حرم الخمر بجميع أنواعها، وليست محرمة لأنها عصير لأنواع معينة من الثمار، إنها حرمت لأنها تتسبب في الإضرار بالعقول ولأنها تغطي العقل وتحبسه عن التفكير وكذلك المخدرات، فهي تتسبب في نشوة ولذة وطرب كالخمر، وقليلها يدعو إلى كثيرها والمعتاد عليها يصعب عليه التخلص منها، فهي خمر مسكرة - وأصل الخمر: ستر الشيء - وسميت الخمر بهذا الإسم لأنها تغطي العقل وتسد أمامه باب التأمل والنظر، فلا تستقيم للسكران حال فالمسكرات إذن أنواع متعددة منها الحشيش والكوكايين والبيرة والوسكي وغيرها، كلها خمر تخامر العقل أي تغطيه، فلا يبقى له أثر وحكمُ الله تعالى فيها واحد، فهي رجس من عمل الشيطان لعن الله كل من له يد من قريب أو بعيد في ترويجها، ومن استحل أي نوع منها فهو كافر مرتد.
هذه حقيقة وجب التذكير بها نظراً لأن البعض لجهله يفرق بين الخمر والمخدرات مما يشجع الضالين المفسدين على ترويجها واستعمالها وهم يرون ما تسببه المخدرات من ضرر وفساد وهلاك. ضررها - كما ترون - عظيم وخطير ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) ويقول: ((من ضار أضر الله به)). فما ثبت ضرره فهو حرام.
عباد الله: نحن نعيش في عصر المتناقضات ففي الوقت الذي تبنى فيه المساجد تفتح الخمارات، وفي الوقت الذي تلبس فيه امرأة الحجاب تجد أخرى تتعرى عرياً فاضحاً، وهكذا دواليك، ومن أعظم المتناقضات محاربة المسكرات كالحشيش والكوكايين والسماح بترويج مسكرات أخرى كالروج والبيرة مع العلم أنها كلها خبائث ومفاسد. قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((كل مسكر حرام، إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) الحديث.
فالأجدر بأمة دينها الإسلام وكتابها القرآن ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام أن تحارب كل المسكرات والمفسدات وأن تطهر أرضها من جميع الموبقات إرضاء لربها وإصلاحاً لنفسها، ففي ذلك الخير والفلاح لها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1328)
حقيقة الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
إسماعيل الخطيب
تطوان
24/2/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
غفلة كثير من الناس عن حقيقة الدنيا - تنبيه الله تعالى في القرآن إلى حقيقة الدنيا والحث على الحرص على ما ينفع - اشتغال الناس في هذا الزمن باللهو واللعب وأثر ذلك على واقعهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن واقع جل الناس اليوم يثبت أنهم غافلون لاهون عن حقيقة أمرهم، عن مبدئهم ومصيرهم بل لا يكلفون أنفسهم السؤال الذي ظلت البشرية على امتداد تاريخها تحاول الإجابة عنه، فلم تصل إلى معرفة الحقيقة إلاّ عن طريق رُسُل الله عليهم صلوات الله وسلامه.
أرسل الله الرسل فبينوا للناس أن الدنيا إنما هي متاع قليل يتمتع به الإنسان أياماً قصيرة معدودة، متاعٌ سريع الفناء لا يدوم لصاحبه، كما لا يدوم اللعب بيد الأطفال، قال تعالى: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون واللعب هو ما لا يقصد به فاعله مقصداً صحيحاً، من تحصيل منفعة أو دفع مضرة، واللهو هو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، فالذي لا يفكر في هذه الدنيا إلا في لذاتها ونعيمها والمنافسة عليها خاسر بلا شك، فمتاع الدنيا قليل لأنه سريع الفناء ولا يدوم لصاحبه، مع ما يصاب به الإنسان من الهموم والأكدار والمنغصات، وقد تعدد التنبيه في القرآن الحكيم إلى هذه الحقيقة، وهي أن هذه الحياة الدنيا لعب ولهو، في سورة الأنعام، وهي الآية التي ذكرنا، وفي سورة العنكبوت يقول تعالى: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وفي سورة محمد يقول سبحانه: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو. وفي سورة الحديد يقول تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولادِ.
وقد فصلت هذه الآية متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية، فقدم اللعب لأنه أول عمل للطفل، فالطفل الصغير يقضي جل وقته في اللعب، أما اللهو فيأتي في الفترة التالية، ثم تأتي الزينة التي هي من شأن سن الصبا، ثم يأتي التفاخر الذي هو من شأن الشباب، وبعده التكاثر في الأموال والأولاد الذي هو شأن الكهول.
فاللعب وهو العبث الذي لا تقصد به فائدة لا يليق بالإنسان العاقل، الذي من المفروض أن يقصد بكل عمل من أعماله إما دفع بعض المضار وإما تحصيل بعض المنافع، خاصة إذا تقدم به السن وبلغ الستين. قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير إنه ستون سنة، وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) والمعنى أن من عاش ستين سنة لم يبق له عذر يعتذر به، فقد أطال الله عمره، ومر بمختلف المراحل، ووعى حقيقة الحياة، ورأى النذر من شيب وعجز ومرض وموت للأقارب، فهل يليق به أن يلعب مع اللاعبين ويلهو مع اللاهين وقد دخل في معترك المنايا وسن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى.
عباد الله: لا نعتقد أنه مر بالبشرية عصر وقع فيه الاهتمام باللعب واللهو كما هو واقع في عصرنا، فها هو لعب الكرة يستحوذ على عقول الناس صغيرهم وكبيرهم، نسائهم ورجالهم، غنيهم وفقيرهم. ها هو لعب الكرة يتسبب في قلب حياة الناس، فيهجر الناس أعمالهم ومصالحهم للتفرج عليها ثم لا يقف الأمر عند ذلك بل يتعادى الناس لأجلها ويتحزبون ويتعصبون ويتقاتلون، فكم يسقط كل سنة من قتيل وجريح بسببها (وقد ذكرت الأخبار أن شاباً مات بالسكتة القلبية عند تسجيل إصابة (هدف) لأحد الفرق الرياضية فما هذا الجنون، ثم انظر إلى هذه الأموال الطائلة التي تصرف على هذه اللعبة، والتي اتخاذها وسيلة للمقامرة، كل ذلك وغيره، مما يطول ذكره، في سبيل لعبة من اللعب، جعل البعض منها وسيلة لإلهاء الشعوب عن واقعها المرير ليلعب بها اللاعبون كيفما شاءوا، وصدق ربنا: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1329)
الدعوة لمخالفة الكفار
الإيمان
الولاء والبراء
إسماعيل الخطيب
تطوان
4/1/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
حث الشارع على مخالفة الكفار فيما يمتازون به وشرع للمسلمين شرائعهم تميزهم عن غيرهم. - وقوع كثير من المسلمين اليوم في تقليد الكفار في كل شيء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بعث الله تعالى نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام في وقت كانت فيه أمم لها حضارتها وثقافتها وأديانها، فالفرس والروم كانوا على مستوى رفيع من الحضارة والمدنية، واليهود والنصارى كان لكل منهم دين يعتقد معتنقه أنه على الحق وحده، كما كانت لهذه الأمم عادات وتقاليد تمتاز بها، فماذا كان موقف رسول الله عليه الصلاة والسلام من عاداتهم وأديانهم وأمورهم بصفة عامة؟.
لقد أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة، ألا وهي مخالفة غير المسلمين في الأمور التي يمتازون بها، وذلك ليحتفظ المسلمون بشخصيتهم المتميزة:بأخلاقهم وعاداتهم الطيبة التي استمدوها من شريعة ربهم وهدي نبيهم. ذلك أن التشبه ينتج عنه شعور بالتقارب والمودة والتقدير، فيتأثر المقلد بالمقلد، وقد يتبعه فيما فيه مخالفة صريحة لدين الله، لذلك كان على المسلم أن يردد كل يوم: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. أي يا الله يا ربنا أرشدنا ووفقنا للطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، وهو طريق الذين أنعم الله عليهم من النبييين والصديقيين والشهداء والصالحين.
والنبي عليه الصلاة والسلام حذر أمته من تقليد غيرها قولاً وفعلاً، فقال: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)) وعندما اهتم كيف يجمع الناس للصلاة، اقترح عليه بعضهم النفخ في البوق، فقال:هو من أمر اليهود، ثم اقترحوا عليه ضرب الناقوس فقال:هو من فعل النصارى، كما لم يوافق على ايقاد النار، وأمر بلالاً بالأذان.
ولقد وفق الله تعالى الأمة الإسلامية إلى ما يحقق استقلالها عن غيرها، فلها عيدها الأسبوعي وهو يوم الجمعة الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام: ((هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له)) ولها عيدان في السنة :الأضحى ويوم الفطر، ولها لغتها التي هي لغة القرآن، ولها تاريخها وهو التاريخ الهجري، كما أن لها شريعتها التي تغنيها عن كل تشريع ونظام.
إذا علمنا هذا فعلينا أن ننظر في واقعنا.هل نحن اليوم عاملون بهذه القاعدة الشرعية أم وقع منا ما حذرنا منه ونهانا عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ إن الواقع يثبت أننا قلدنا غيرنا تقليداً أعمى في جل الأمور، أخذنا عنهم قوانينهم وأنظمتهم وعاداتهم وأحكامهم، ووصل بنا الأمر إلى تهميش لغة القرآن، وتهميش التاريخ الهجري، فوقعنا فيما أخبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى. قال: فمن؟)) فأخبر أنه سيكون في أمته اتباع لليهود والنصارى وليس ذلك إخباراً عن جميع الأمة فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)).
عباد الله: هناك طائفة من المسلمين زهدوا في لغة القرآن، فصاروا لا يتكلمون غالباً إلا بلغة أجنبية، هذه اللغة التي انتشرت على حساب لغة الإسلام قال عمر : "تعلموا العربية فإنها من دينكم" فباللغة العربية يُفهم القرآن، وبها تعرف الأحكام، والجاهل بالعربية جاهل بالإسلام، فأي عماء أكبر من تهميش لغة القرآن وتقديم لغة أجنبية دخيلة.
وما وقع للغة العربية وقع للتاريخ الهجري، فلقد وفق الله المسلمين إلى اتخاذ الهجرة النبوية منطلقاً للتاريخ الإسلامي، لكن التاريخ الهجري أهمل، وقدم التاريخ الميلادي النصراني وصار الناس - في تقليد أعمى - يحتلفون برأس السنة الميلادية كما يحتفل بها أهلها أو أكثر، ويوم الجمعة أيضاً لم ينج من الإهمال حيث أصبح عند الأكثرية يوماً كسائر الأيام مع العلم أن يوم الجمعة هو يوم الإسلام، هو خير يوم طلعت عليه الشمس، ولم يحرم الله تعالى العمل في يوم من الأيام إلا بعد النداء من يوم الجمعة.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فالبيع حرام وكذلك سائر المعاملات.
قال العلماء: كل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً مفسوخ ردعاً.وذلك لحظة خروج الإمام وأذان المؤذن إلى انتهاء الصلاة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1330)
اهتمام الإسلام بالمرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
إسماعيل الخطيب
تطوان
13/6/1420
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
حال المرأة في الجاهلية واهتمام الاسلام بها وحثه على الإحسان إليها. - سبب انتشار ظاهرة العنف ضد النساء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا عز وجل: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن الآية.
عباد الله، سئل النبي عن شأن النساء، وعن الغامض من أحكامهن، وعن حقوقهن، هذه الحقوق التي كان المجتمع الجاهلي قد أضاعها حتى غدت المرأة أداة في يد الرجل أباً أو أخاً أو زوجاً لا تملك لنفسها شيئاً من أمر نفسها.
وجاء الجواب الشافي الكافي في كتاب الله فها هي آيات القرآن الكريم تبين أحكام النساء وما لهن من حقوق وما عليهن من واجبات ومن ذلك وجوب المعاملة الحسنة، فالمرأة إما أن تكون أمّا، قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً والإحسان يكون بالقول هو المخاطبة باللين واللطف والتكريم، والإحسان بالفعل خدمتها وقضاء حوائجها، والإحسان بالمال بذله لها من غير منة.
وقد تكون المرأة بنتاً أو أختاً. قال رسول الله : ((لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة)) فالأخوة والبنوة تفرض الإحسان للأخوات وللبنات.
والمرأة قد تكون زوجة.قال تعالى: وعاشروهن بالمعروف وقال : ((لايفرك مؤمن مؤمنة - أي لا يبغضها إن كره منها خلقاً رضي خلقاً آخر)). [1] فالزوجية تفرض الإحسان بين الزوجين.
وقد تكون المرأة أختا في الدين وهذه أيضاً لها حقوقها. قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض أي قلوبهم متحدة في التواد والتحاب والتعاطف، فالمسلم الصادق هو الذي يحب لأخته المسلمة الخير والفلاح، فيأتمر بشرع الله الذي يمنعه من ارتكاب أي ظلم أو خيانة في حق أخته المسلمة.
عباد الله: في هذا الزمن الذي عم فيه الفساد وانتشر صرنا نسمع الكثير عن ظاهرة العنف ضد النساء، والعنف هو الغلظة والخشونة وعدم الرفق، والدول الأوربية بصفة خاصة تشتكي من هذه الظاهرة التي يجب علينا أن نعرف أسبابها ونعمل على علاجها.
إن سببها في مجتمعنا - بلا شك - هو الابتعاد عن أوامر الشريعة المطهرة ، فهناك من الرجال من نبذ وراء ظهره وصية رسول الله في حجة الوداع عندما قال: ((اتقوا الله في النساء)) أو كأنهم لم يسمعوا قول رسول الله : ((من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله)).
فمعاملة الزوجة باللطف والإحسان من علامات الإيمان، وهذا العنف قد يصدر من الزوج أو من الأخ أو من الأب أو من مختلف أفراد المجتمع، لكن الزوج في الغالب يبقى هو المصدر الأول لذلك جاءت آيات القرآن الحكيم تدعو الأزواج إلى حسن المعاشرة. قال عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
عباد الله: هناك من النساء من تُعرض نفسها للعنف، بمخالفتها لأوامر دينها.فلقد أمر الله المرأة بصيانة كرامتها وحفظ عرضها، فدعاها إلى عدم التبرج ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى والتبرج هو إظهار المحاسن - فالمرأة إذا أظهرت محاسنها ، وكشفت عورتها، شجعت الفساق على أذيتها، والمرأة إذا مارست من الأعمال ما لا يتناسب مع طبيعتها كأن تعمل في التهريب أو في الخمارات أو في المقاهي والفنادق فإنها تكون عرضة للأذى والعنف من جانب من لا خلاق لهم ولا إيمان يردعهم، وما أكثرهم في هذا الزمن. أما المرأة التي تبيع جسدها لكل من هب ودب فإنها معرضة لأقسى أنواع العنف سواء من طرف الزناة أو من قرابتها فكم من زانية قتلت من طرف قرابتها أو من المتعاملين معها.
إن الإسلام حرص أشد الحرص على حفظ كرامة المرأة بما فرض من أحكام، فإذا كان مجتمعنا اليوم قد تنبه إلى ظاهرة العنف الذي يمارس ضد النساء، فإن على المسئولين، أن يعملوا على توعية النساء بأحكام الدين، ليعلمن ما لهن من حقوق وما عليهن من واجبات، فالخير كل الخير في العمل بشرع الله.
[1] أخرجه مسلم ح(1469).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1331)
وإذا مرضت فهو يشفين
فقه
المرضى والطب
إسماعيل الخطيب
تطوان
4/1/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
دعوة إبراهيم عليه السلام قومه إلى إخلاص العبادة لله وحده لأن الأمور كلها بيده سبحانه.- أن المرض من البلاء وأن لكل مرض دواء وأن طلب الدواء لا يتنافى مع التوكل.- حث أصحاب الأموال على التبرع لمساعدة الفقراء على تكاليف العلاج.- فضل الدعاء والاعتماد على الله في طلب الشفاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى مخبراً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وهو يحاجج قومه من عباد الأصنام: فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.
عباد الله: هذا إبراهيم الخليل يدعو قومه لعبادة الواحد الأحد، وقد كانوا يعبدون الأصنام التي لا تسمع، ولا تضر ولا تنفع، وأخبرهم أنه يتبرأ ويعادي من يعبد غير الله، وأنه يوالي ويحب من عبد الله، فالله سبحانه هو الذي خلق العباد وأرشدهم إلى الدين الحق، وهو الذي يرزق العباد، وهو الذي يشفي عباده من كل الأمراض وهو الذي يميت ويحيي، وهو الذي يُرجى لمغفرة الخطايا والذنوب.
فالله سبحانه ابتلى عباده بمختلف الأمراض ليعرف الإنسان ضعفه، وأنه لا حول له ولا قوة، وليلجأ إلى ربه في كل أحواله يسأله العون والمدد، والهداية والإعانة.
ومن رحمة الله بعباده أن جعل لكل مرض شفاء، قال عليه الصلاة والسلام : ((ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له شفاءً)) وجاءت الأعراب إلى رسول الله ، فقالوا: يا رسول الله: انتداوى؟ فقال: ((نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم)).
وأن أول الدواء، التوجه إلى الله تعالى بخالص الدعاء، مع اليقين أن الله تعالى هو الشافي، فالدعاء واللجوء إلى الله تعالى يثير قوى سرية في جسم الإنسان تقوى بها مناعته، وكم من أمراض قرر الأطباء أن لا علاج لها، شفى الله منها، فهو سبحانه القادر على كل شيء لا رب سواه.
ثم إن استعمال الدواء لا يتنافى مع التوكل على الله، فحقيقة التوكل: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع الاعتماد من مباشرة الأسباب.
يُروى أن إبراهيم الخليل قال: يا رب ممن الداء، قال: مني، قال: فممن الدواء؟ قال : مني، قال: فما بال الطبيب، قال: رجل أُرسل الدواء على يديه.
ولذلك كان على الأطباء أن يستحضروا هذا الأمر، فهم رسل الرحمة، يرشدون الناس إلى رحمة الله التي جعلها في الدواء.كما عليهم أن يعلموا مقدار حاجة الناس إليهم، قال الشافعي: "صنفان لا غنى للناس عنهما: العلماء لأديانهم، والأطباء لأبدانهم"، فيجب أن يعملوا على الإحسان إلى الضعفاء، ومن لا قدرة له على ثمن العلاج، وبذلك ينالون شرف الدنيا وثواب الآخرة، فما عليه الحال اليوم من غلاء الدواء- بمختلف أشكاله – يفرض على أهل الإحسان من الأطباء والأغنياء أن يبذلوا مما أفاء الله عليهم مساعدة منهم للمرضى من الفقراء.وبذلك تتحقق الأخوة وتعم المحبة.
وإن على المؤمن أن يتوجه إلى الله تعالى سائلاً منه سبحانه أن يجنبه الأمراض والعلل وأن يدعو بدعاء نبي الرحمة: ((اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا)).
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام في صحته ومرضه إذا أوى إلى فراشه جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات.قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به.
وعن عثمان بن أبي العاص أنه شكا إلى رسول الله وجعاً يجده في جسده، فقال له رسول الله : ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله – ثلاثاً – وقل سبع مرات : أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)).
وكان النبي إذا دخل على من يعوده قال: ((لا بأس ، طهور إن شاء الله)).
فاللهم هب لنا قوة وعافية تعيننا على ذكرك، وحسن عبادتك.
اللهم هب لنا قوة لا تطغينا، وغنى لا يلهينا، ولساناً رطباً بذكرك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1332)
عيد الفطر 1417هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
إسماعيل الخطيب
تطوان
1/10/1417
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- الحكمة من مشروعية الصيام.- أهمية الصلاة والزكاة. - من وسائل محاربة الإسلام للفقر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما لاح برق وأرعد سحاب وأمطر، الله أكبر ما هلل المسلم وكبر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة ويسر، ووفَّاهم أجورهم من خزائن جوده التي لا تحصر، سبحانه له الحمد على نعمه التي تتكرر، وله الشكر على فضله وإحسانه، وحق له أن يشكر.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
نشهد أنه الله لا إله إلا هو انفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدور، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وزكى وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر. الله أكبر.
أما بعد:
هذا يوم توج الله به الصيام وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام. قال ربنا سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]. وها أنتم قد أكملتم بفضل الله صيام شهركم، وجئتم إلى مصلاكم تكبرون الله ربكم، على ما هداكم إليه من دين قويم، وصراط مستقيم وصيام وقيام، وشريعة ونظام، وقد خرجتم إلى صلاة العيد وقلوبكم قد امتلأت به فرحاً وسروراً، وألسنتكم تلهج بالذكر والدعاء، تسألون ربكم أن يتقبل عملكم، وأن يتجاوز عنكم، وأن يعيد عليكم مثل هذا اليوم، وأنتم في خير وأمن وإيمان واجتماع على الحق وابتعاد عن الباطل. الله أكبر.
معاشر المسلمين، خاطب الله المكلفين بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. فليس الصيام امتحاناً فقط ولا مشقة ليس من ورائها قصد، بل الصيام رياضة وتربية، وإصلاح وتزكية، ومدرسة خلقية، يتخرج فيها الإنسان وقد أصبح مالكاً لنفسه ولشهواته.
لقد استطعت أيها المسلم أن تُضرب عن المباحات والطيبات، تركت الماء الزلال الحلال، وتركت الطعام الطيب اللذيذ، تركت شهواتك طاعة لأمر ربك، هل يليق بمن منع نفسه من الحلال طاعة لله أن يقرب السحت الحرام، والرجس النجس من الشراب والطعام لذلك قال ربنا: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فالتقوى هي الغاية الكبيرة من الصوم، والتقوى هي العمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء رحمة الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله، والصوم أكبر تدريب على ذلك. الله أكبر.
عباد الله: لئن انقضى شهر الصيام فإن زمن العمل لا ينقضى إلا بالموت، قال تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ، فالصيام لا يزال مشروعاً في كل وقت، كما أن الله تعالى فرض فرائض من أهمها الصلاة والزكاة، فالصلاة عماد الدين، والفارق بين الكفار والمسلمين، وشرط النجاة يوم الدين، هي الفريضة الدائمة المطلقة على الغني والفقير والصحيح والمريض والمسافر والمقيم، لا تسقط عن المسلم حتى في ساحة الحرب وميدان القتال.
والزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله تعالى، فزكاة الفطر جعلها الله تعالى طهرة للصائم مما عسى أن يكون وقع فيه من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وهي قدر بسيط تُعين الفقير والمسكين في يوم العيد، وهي تدريب على البذل والعطاء، وديننا دين التكافل أحاط الفقير والعاجز بالرعاية والعناية في كل وقت، بل إن الإسلام حارب الفقر، ولا نجد في القرآن آية واحدة تمدح الفقر بل إن الله تعالى يجعل الغنى نعمة يمتن بها. قال تعالى مخاطباً رسوله: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? [الضحى:8]. وإيتاء المال قد يكون من عاجل الثواب فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]. وقال : ((نعم المال الصالح للمرء الصالح)) [1]. الله أكبر.
ولذلك دعانا الإسلام إلى العمل باعتباره السلاح الأول لمحاربة الفقر كالتجارة التي حث عليه النبي بقوله: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) [2] والزراعة التي حث عليها بقوله: ((ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طيراً أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) [3] والصناعات والحرف التي حث عليها بقوله: ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده)) [4].
لكن الإنسان قد يصبح عاجزاً عن العمل بسبب المرض أو الشيخوخة فما ذنبه.ما ذنب الأرامل واليتامى والمقعدين، أيتركون للجوع والمرض؟ إن المسؤولية الأولى تقع على أقربائهم، وهذا كتاب الله يؤكد حق ذوي القربى. قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? [النحل:90]. وقال سبحانه: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ [الإسراء:26]. فحقٌ على القريب الغني أن ينفق على قريبه العاجز.
ثم تأتي الزكاة كحل شامل لداء الفقر، فقد فرض الله في أموال الأغنياء حقاً معلوماً يغني الفقراء بكل تأكيد، وقد ضمن الله بالزكاة حقوق الفقراء والمساكين في أموال الأمة.والقرآن يقرن الصلاة بالزكاة، فالصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام، قال ابن مسعود: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له.
فتفقهوا رحمكم الله في دينكم واعلموا أن لا خير ولا فوز في الدنيا والآخرة إلا بالعمل بما جاء في الكتاب المبين والسنة المطهرة فبهما تتحقق السعادة في الدارين.
اللهم أصلحنا وأصلح أعمالنا ووفقنا لما تحبه وترضاه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (4/197) ، والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (299)، والحاكم (2/2)، وصححه ابن حبان (3210) ، وذكره الحافظ في الفتح تصحيح أبي عوانة وابن حبان (8/75)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد للبخاري رقم (229).
[2] ضعيف ، أخرجه الترمذي : كتاب البيوع – باب ما جاء في التجار... حديث (1209) ، وقال : هذا حديث حسن ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. والدارمي: كتاب البيوع – باب في التاجر الصدوق ، حديث (2539) ، والحاكم (2/6) وقال : هذا من مراسيل الحسن. قلت: وفيه أبو حمزة عبد الله بن جابر البصري ، مقبول ، كما في التقريب. وانظر : غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام للألباني رقم (167).
[3] صحيح ، أخرجه البخاري: كتاب المزارعة - باب فضل الزرع والغرس... حديث (2320) ، ومسلم : كتاب المساقاة ، باب فضل الغرس والزرع ، حديث (1552).
[4] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب البيوع – باب كسب الرجل.. حديث (2072).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام ديناً، وأمرنا أن نسأله الهداية لصراطه المستقيم، فله سبحانه وتعالى الحمد والشكر، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.
نشهد أنه الله، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته، ولا هدى إلا في الاستدلال بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قربه.
ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، بعثه بالدين القويم، والمنهج المستقيم، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه. الله أكبر.
أما بعد:
حُق للمؤمن الذي شرح الله صدره للعمل الصالح أن يفرح بما أنعم الله عليه به من توفيق قُلْ بِفَضْلِ ?للَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
فاشكروا الله تعالى على ما أنعم به عليكم من إتمام الصيام والقيام فإن ذلك من أكبر النعم، واحمد الله يا من وفقك الله لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وهداك للقيام بالطاعات واجتناب المخالفات. الله أكبر.
واعلموا - معاشر المسلمين – أن الله تعالى لم يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم، فهو سبحانه غني عن العالمين وإنما أمركم بما أمركم به لاحتياجكم إليه وقيام مصالحكم الدينية والدنيوية عليه، فاعبدوه واشكروه وحافظوا على الصلاة، فلا دين بلا صلاة، قال الله تعالى عن إبراهيم: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]. وقال عن إسماعيل: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ [مريم:55]. وقال عن عيسى: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31]. وقال الله لنبينا محمد: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ?لَّيْلِ [هود:114].
واجتنبوا المحرمات فإنه لو كان فيها خير لكم ما حرمها الله عليكم فهو الجواد الكريم.وإنما حرم عليكم ما فيه ضرركم ديناً ودنيا، رحمة بكم، فاتقوا الله وتمتعوا بما أباح لكم من الطيبات واشكروه عليها فإن الشكر سبب لدوام النعم ومزيدها (الله أكبر).
ألا وصلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين، وأمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وارض اللهم عن صحابته الذين عملوا بسنته واهتدوا بهديه.
اللهم أصلح ولاة المسلمين، وأعز من أعز الدين.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127].
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ [الحشر:10].
(1/1333)
عيد الأضحى 1416هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
إسماعيل الخطيب
تطوان
10/12/1416
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- حث الإسلام على مكارم الأخلاق.
- فضل الحياء وأنه يدفع إلى كل خير ويبعد عن كل شر.
- إثبات الإسلام للحقوق ودعوته للمحافظة عليها.
- عظمة الإسلام وبعض محاسنه.
- خطبة الوداع وبعض ما اشتملت عليه.
- فضل يوم النحر والحكمة من مشروعية- شرع الله لأعياد.
- الحث على الصدقة والإحسان وأن الخير المتعدّي خير من الخير القاصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ ويقول سبحانه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ.
عباد الله، الإسلام دين الله، دين وضحت معالمه، وكرمت مبادئه، وثبتت مصادره، وحفظه الله من كل تحريف وتبديل، دين حارب الظلم والبغي، دين دعا إلى التفكير في هذا الكون العجيب، لمعرفة قدرة الله وعظمته، دين يحقق العدل والمساواة لجميع البشر.. الله أكبر.
الإسلام – معاشر المسلمين – أخلاق، وما أحوجنا اليوم إلى التذكير بأخلاق الإسلام، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل دين خلقاً، وخُلُق الإسلام الحياء)) [رواه مالك في الموطأ] [1].
والحياء هو الذي يمنع المسلم من كل الرذائل ويدفعه إلى مكارم الأخلاق التي منها:
الصدق، قال : ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة)) [2].
والمسلم المتخلق بأخلاق الإسلام يصون لسانه عن الكذب، والزور والفحش، واللعن والسباب، قال : ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)) [3].
وقال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ فالمسلم المتخلق بأخلاق الإسلام لا يسب أحداً حتى من أشرك وكفر. الله أكبر.
معاشر المسلمين، الإسلام دين كرّم الإنسان ولا يكون الإنسان مكرماً إلا إذا أخذ حقوقه كاملة، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وفي مقدمة تلك الحقوق حق الحياة. وإن قتل النفس لمن أعظم الجرائم، سواء كان المقتول مؤمناً أم كافراً. قال تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ويقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من قتل مُعاهداً لم يرح رائحة الجنة)) [رواه البخاري] [4]. فالحقوق التي أقرها الإسلام هي واجبة للناس بقطع النظر عن ألوانهم وأديانهم، وأجناسهم.
والملكية حق للإنسان، فلا يحل لأحد أن يعتدي على مال غيره، ولذلك حَرَّم السرقة، والغصب، والربا، والغش، ونقص الكيل والميزان، والرشوة، واعتبر يد السارق عضواً مريضاً يجب أن يبتر. الله أكبر.
بل إن الإنسان إذا قُتل وهو يدافع عن ماله، مات شهيداً. قال : ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) [5].
ومن حق الإنسان أن تحفظ كرامته فلا يُحتقر، ولا يُسخر منه. قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ ومن حقه أن لا يُغتاب، قال تعالى: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً.
وأن الكلام في أعراض الناس لمن أعظم المنكر. الله أكبر.
معاشر المسلمين: الإسلام نظام وسلوك وحضارة ومدنية. علمنا النظام في كل شيء. علمنا كيف نمشي في الطريق، قال تعالى: وَ?قْصِدْ فِى مَشْيِكَ أي بالسكينة والوقار وعلمنا كيف نتكلم. قال تعالى: وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ أي لا ترفع صوتك فتؤذي السامع. علمنا كيف نأكل. قال : ((سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك)) [6].
وأمرنا بنظافة الطرقات. قال : ((إماطة الأذى عن الطريق صدقة)) [7] وهي من شعب الإيمان.
وأمرنا بالنظافة والطيب، والمسلم مأمور بالغُسل في عدة حالات منها الموت، قال : ((الطُهور شطر الإيمان)) [8] وما من خير وصلاح إلا والإسلام به أمر. الله أكبر.
عباد الله، في حجة الوداع وقف نبينا عليه الصلاة والسلام خطيباً في عرفات وفي أيام التشريق فأعلن في الناس تحريم الدماء والأموال والربا، وأمر بالإحسان إلى النساء وقال: ((اتقوا الله في النساء)) [9] وحذر من الاقتتال بين المسلمين وقال: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) [10] وأعلن الأخوة الإسلامية. وقال: إن كل مسلم أخو المسلم، ((المسلمون إخوة ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفس)) [11]. وبذلك أعلن عليه الصلاة والسلام عن حقوق المسلم وأنه محرم الدم والمال والعرض. وأعلن عن حقوق النساء وأمر بأدائها، وعن حقوق الزوج على زوجته. وأعلن حرمة التبني والانتساب لغير الأب. وحذر من الكذب وأوصى بالاعتصام بالكتاب والسنة وقال: ((تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به:كتاب الله وسنة نبيه)) [12]. وبذلك بلغ الرسالة وأدى الأمانة ودل أمته على كل خير. الله أكبر.
فتفقهوا رحمكم الله في دينكم، لتعرفوا ما فيه من خير وصلاح، وما يحققه لمن عمل به من عز وفلاح. جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وهدانا للخير بمنه وكرمه.
الله أكبر.. ما كبر المؤمن وصلى لله وصام وزكى وحج واعتمر.
الله أكبر.. ما المؤمن فاز وتقدم، والكافر خسر وتأخر.
الله أكبر.. ما انتصر الحق وظهر، واندحر الباطل وتبخر.
الله أكبر.. ما رضي المؤمن بما قدر الله وقضى ودبر.
الله أكبر.. ما اعتصم المؤمن بحبل مولاه وذكر اسم الله عند ذبح أضحيته وكبر.
عباد الله: أقسم الله تعالى بفجر هذا اليوم فقال سبحانه: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ يومكم هذا أفضل أيام العام. قال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر)) [رواه أبو داود بإسناد صحيح] [13]. وهو آخر أيام العشر التي أقسم الله بها، وهو يوم الحج الأكبر، وهو اليوم الذي أذن فيه مؤذن رسول الله : أَنَّ ?للَّهَ بَرِىء مّنَ ?لْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ.
يومكم هذا يوم عيد، والأعياد في الإسلام شرعت لتأليف القلوب وللتراحم والتكافل، لصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والأيتام. فنبينا عليه الصلاة والسلام، كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر فيبدأ بالصلاة، ثم يخطب، وقد ينبه إلى الإحسان قائلاً: تصدقوا، تصدقوا، تصدقوا [14] ، وكان أكثر من يتصدقُ النساء، فكان هذا الاجتماع مناسبة للتذكير بالإحسان إلى المحتاجين ونحن اليوم بحاجة إلى هذا التذكير، فالصدقة على الأقارب والمحتاجين أفضل من العمرة وحج التطوع. ذلك أن كثيراً من الفقراء لا يجدون ثمن العلاج والدواء، بينما إخوانهم يعتمرون أو يحجون مرات ومرات، ونحن نعلم أن التطوعات منها ما هو مقصور النفع على فاعله، كنوافل الصلاة والصيام والحج والعمرة. ومنها ما يتعدى نفعه إلى الغير، كسائر الأعمال الخيرية. والعمل الذي فيه نفع للغير هو أفضل وأنفع وأزكى وأطهر. الله أكبر.
عباد الله، الصلاة الصلاة فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
عباد الله، الزكاة الزكاة، فإنها سبب لسعة الأرزاق، ونزول الغيث من السماء.
عباد الله، الأمانة الأمانة، فإنها عنوان الديانة.
عباد الله، الإسلام دين العقل والوجدان، دين الفرد والجماعة، دين الجهاد والسلام، دينٌ ما دخل قلباً إلا أحياه، ولا أمة إلا أعزها، فصلوا وسلموا على من بعثه الله ليخرجنا به من الظلمات إلى النور، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد في الملأ الأعلى، وفي كل وقت وحين، وارفع درجته في أعلى الفردوس الذي هو أعلى عليين، واحشرنا في زمرته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وارض اللهم عن صحابته، الذين عملوا بسنته واهتدوا هديه.
اللهم أصلح ولاة المسلمين، وأعز من أعز الدين.
[1] صحيح ، موطأ مالك : كتاب الجامع ، باب : ما جاء في الحياء ، حديث (1678) ، وأخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد – باب الحياء ، حديث (4181) ، والطبراني في الصغير (13). قال البوصيري في الزوائد : هذا إسناد فيه معاوية بن يحيى الصدفي أبو رح الدمشقي وقد ضعفوه... وله شاهد من حديث ركانة رواه مالك في الموطأ (4/230) ، وحسّن أحد أسانيده ابن عبد البر في التمهيد (21/142) ، وصححه الألباني بطرقه ، السلسلة الصحيحة (940).
[2] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الأدب – باب قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله... ، حديث (6094) ، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب ، باب قبح الكذب... حديث (2607).
[3] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الإيمان – باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ، حديث (48) ، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان قول النبي : ((سباب المسلم....)) حديث (64).
[4] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجزية – باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم ، حديث (3166).
[5] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب المظالم والغصب – باب من قاتل دون ماله ، حديث (2480) ، ومسلم : كتاب الإيمان – باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره... حديث (141).
[6] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الأطعمة – باب التسمية على الطعام والأكل باليمين ، حديث (5376) ، ومسلم : كتاب الأشربة – باب آداب الطعام... حديث (2022).
[7] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الجهاد والسير – باب من أخذ بالركاب ونحوه ، حديث (2989)، ومسلم : كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع... حديث (1009).
[8] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الطهارة – باب فضل الوضوء ، حديث (223).
[9] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218).
[10] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب العلم – باب الإنصات للعلماء حديث (121) ، ومسلم : كتاب الإيمان – باب معنى قول النبي : ((لا ترجعوا بعدي كفاراً...)) حديث (65).
[11] صحيح ، أخرجه أحمد (5/113) بنحوه ، والحاكم (1/93) والبيهقي (6/100) ، قال الهيثمي في المجمع : رجال أحمد ثقات (4/171) ، وأخرجه البزار بنحوه (3717) ، وقال الهيثمي أيضاً : رواه أحمد والبزار ، ورجال الجميع رجال الصحيح. وصححه الألباني ، إرواء الغليل (1459).
[12] حسن ، أخرجه مسلم: كتاب الحج – باب حجة النبي ، حديث (1218) ، دون ذكر السُّنة ، وأخرجه تاماً : مالك في الموطأ : كتاب الجامع – باب النهي عن القول بالقدر ، حديث (1661) بلاغاً ، وأخرجه موصولاً الحاكم (1/93) وصححه ، وكذا أخرجه البيهقي في الكبرى (10/114) ، قال المنذري في الترغيب : احتج البخاري بعكرمة ، واحتج مسلم بأبي أويس ، وله أصلح في الصحيح (1/41). وحسّن الألباني إسناد الحاكم ، انظر مشكاة المصابيح بتعليق الألباني (186).
[13] صحيح ، سنن أبي داود : كتاب المناسك – باب في الهدي إذا عطب... (1765) ، وأخرجه أيضاً أحمد (4/350) والنسائي في الكبرى : كتاب الحج – باب فضل يوم النحر ، حديث (4098) ، وصححه ابن خزيمة (2866) والحاكم (4/221) ، والألباني : صحيح سنن أبي داود (1552) وإرواء الغليل (7/19) تحت الحديث رقم (1958).
[14] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الزكاة – باب الزكاة على الأقارب ، حديث (1462) ، ومسلم : كتاب صلاة العيدين – باب حدثنا يحيى بن أيوب... حديث (889) ، واللفظ له.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1334)
أهمية العلم والعمل به
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
إسماعيل الخطيب
تطوان
17/2/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- الحث على التقيد بأوامر الشرع في كل شيء. - أهمية العلم قبل العمل وأمثلة على تساهل بعض الناس في هذا وسبب هذا التساهل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم.
عباد الله: في هذه الآية الكريمة يدعو الله تعالى عباده الذين اتصفوا بالإيمان الصحيح – وهم أحق الناس بامتثال أمره – إلى أن لا يُقدموا على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب الله وسنة رسوله، فالآية تقرر أصلاً من أصول الدين، وهو أن الحكم لله وحده، وأن المؤمن بالله لا يقضي في أمر حتى يرجع فيه إلى قول الله وقول رسوله، فيكون عاملاً بالوحي المنزل، فالمؤمن لا رأي له، بل هو كالملائكة الكرام الذين شهد الله بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، فهو يتقيد في أموره كلها بكتاب الله وسنة رسوله: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
وتقوى الله التي أمر الله عباده المؤمنين بها، معناها أخذ الوقاية من سخط الله وعذابه، وذلك باتباع أمره، واجتناب نهيه، والوقوف عند الحدود التي بينها، فإذا ضعفت التقوى أو انعدمت سهل أمر المخالفة والإعراض.
وها نحن نرى كثيراً من الناس يقدمون على أعمال دون السؤال عن حكمها، بينما المطلوب من المؤمن أن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه، وبسبب ذلك تقع للناس كوارث ومصائب، فهذا شخص يعمل أولاده في أوربا، وطلبوا من أمهم أن تقيم معهم فرفضت السلطات السماح لها بالإقامة إلا إذا أثبتت أنها إما مطلقة أو مات زوجها، فذهب الزوج إلى عدل كتب شهادة طلاق، وبقى معاشراً لزوجته زاعماً إنه إنما طلب ورقة الطلاق ليدلي بها لسلطات الدولة الأوربية، بينما كان من الواجب على هذا الشخص أن لا يقدم على هذا العمل حتى يسأل العلماء، ويتحقق من الجواب الصحيح، فالزواج عهد وميثاق ورابطة متينة، بل هو عبادة بها يستكمل الإنسان نصف دينه فلا ينبغي أن يُلعب به. وكذلك الأمر في الطلاق فلا ينبغي فيه الهزل – أي التكلم من غير قصد للحقيقة – وطلاق الهازل يقع كما ذكر جمهور الفقهاء.
وهذا الجهل بأحكام الدين، والإعراض عن سؤال أهل الذكر هو الذي دفع شخصاً آخر إلى السماح لزوجته بعقد النكاح على أوربي كافر قصد الحصول على الإقامة بدولة أوربية.
وكم من المصائب والكوارث يقع فيها الناس اليوم بسبب عدم التفقه في الدين، ثم هناك من الناس يتعمد عدم السؤال عن حكم الشرع حتى يتسنى له أن يفعل ما يحلو له، ومنهم من هو على علم بحكم الشرع لكنه يتحدى حكم الله ويقدم على ممارسة العمل المحرم غير عابئ بوعيد الله تعالى كالمسلمة التي تتزوج بالكافر وكالمصر على التعامل بالربا أو المتاجرة في المحرمات، فهؤلاء يعرضون أنفسهم لسخط الله وغضبه، نسأله سبحانه أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بمنه وكرمه.
عباد الله: إن الإقدام على أي عمل دون البحث عن حكم الله فيه جرأة كبيرة على الله ودليل على ضعف خشية الله، فخشية الله هي التي تدفع المؤمن إلى التزام طاعة مولاه وعدم مخالفة أمره، قال تعالى: إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم فانذار الرسول وتخويفه إنما ينتفع به من آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من أحكام الله، فهذا هو الذي يستحق التبشير لأنه خاف مقام ربه وأطاع أمره، فخشية الله إذا دخلت في قلب تبعها العمل بما أنزل الله في كتابه والرضا بحكمه وشريعته، قال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1335)
الحذر من اتباع الهوى
الأسرة والمجتمع
المرأة
إسماعيل الخطيب
تطوان
18/1/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- الحث على اتباع الحق والحذر من الزيع عنه. - اهتمام الإسلام بالمرأة وحثها على العفة والحياء. - أثر الاحتلاط بين الجنسين ف انتشار الفاحشة وتنبه العقلاء حتى من الكفرة لخطر ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون.
عباد الله: بين الله تعالى أنه شرع لرسوله شريعة أمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وأهواؤهم هو ما يهوونه وما هم عليه من ضلال وانحراف عن دين الله، بل حذره ربه سبحانه من اتباع أهواء الذين لا يرضون إلا عن من اتبع ضلالهم، فقال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى فالهدى الحق والصحيح هو ما جاء عن الله تعالى. ثم قال سبحانه: ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير أي أنك لن تنجح ولن تُفلح إذا جاريتهم في باطلهم واتبعتهم في ضلالهم، وهذا الإنذار الشديد والوعيد والتهديد، هو موجه في الواقع للأمة، فنبي الرحمة مؤيد بالكرامة والعصمة عصمه الله من الزيغ والضلال، الذي قد تقع فيه أمته إذا هي اتبعت طريق المغضوب عليهم والضالين، لذلك حذرنا الله تعالى من تقليدهم في انحرافهم، هذا التقليد والاتباع الذي وقعنا فيه، والذي من أمثلته تقليد المسلمة للغربية في لباسها وتبرجها.
لقد بعث الله نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام في وقت انحرف فيه النساء – كالرجال – عن دين الله، فجاءت آيات القرآن تبين شكل لباس المرأة المسلمة، فقال تعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فالجلباب وهو اللباس الذي يستر الجسم كله هو شعار المرأة المسلمة يميزها عن المنحرفة والكافرة، وقد فرضه الله عليها كالصلاة والصيام، وهي مطالبة مع اللباس الذي بين الله أمره في سورتي النور [الآية:31] والأحزاب [الآية:59]. بالالتزام بآداب الإسلام وأخلاقه.
ومن أمثلة تقليد المسلمين للغربيين الاختلاط بين الذكور والإناث في المدارس، هذا الاختلاط الذي بدأ الغرب الآن يتراجع عنه بعد أن اكتوت مجتمعاته بويلاته، ففي إحصاء نشر أخيراً في بريطانيا ذكر أنه في عام 1996 سجلت أعلى نسبة لحمل الفتيات خارج إطار الزواج قبل بلوغهن سن 16 إذ بلغ عددهن تسعة آلاف فتاة، منهن خمسمائة لم يتجاوز سنهن 14 عاماً، ومصير الغالبية العظمى من حمل هؤلاء الفتيات هو الإجهاض، وقد تأكد أن الاختلاط في المدارس هو السبب الأول في هذه الكوارث التي تقع مثيلاتها في بلاد المسلمين لكنها تظل طي الكتمان، ولا تنشر عنها أية إحصائيات أو أخبار ليتنبه الناس لخطر الاختلاط وويلاته.
عباد الله: لقد تفطن بعض العقلاء في البلاد الغربية إلى ما يشكله الاختلاط من خطر على المجتمع، فدعوا إلى الفصل بين الذكور والإناث في المدارس وغيرها، وقد قررت وزارة الدفاع الأمريكية الفصل بين المجندين من الإناث والذكور بعد سلسلة من الفضائح غيرت نظرة المؤيدين للاختلاط، وكذلك قررت عدة مدارس في ولاية كاليفورنيا الأمريكية الفصل بين الجنسين سعياً لتحسين مستوى التحصيل الدراسي، فقد تبين لهم أن الاختلاط يتسبب في الشرود الذهني حيث يظل كل من الطالب والطالبة لا يفكر إلا في الآخر، ليطبق معها ما رآه في أفلام الخلاعة والمجون، التي تُقدم في السينما والتلفزيون.
ولقد نبه علماء الإسلام قديماً إلى وجوب منع التعليم المختلط والفصل بين الجنسين، فقال سحنون: "ومن حسن النظر التفريق بين الذكور والإناث وأكره خلطهم لأنه فساد" نعم.. إنه فساد نرى نتائجه الآن، فهاهن الفتيات تذهبن متزينات إلى المعاهد والجامعات، ويذهبن إلى أماكن الخلوة دون خوف من أب أو أسرة، بل إن بعض الآباء لا يجدون حرجاً في أن يكون لبناتهم أصدقاء يتبدلون بتبدل الفصول، ويعدون ذلك من مظاهر الحضارة والتقدم، ألا تباً لحضارة الفسق والفجور، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وأولادنا من تلك الطائفة المتمسكة بدينها التي قال عنها نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1336)
المسؤولية والضمير
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
إسماعيل الخطيب
تطوان
4/1/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- مسؤولية كل إنسان عن عمله أمام الله يوم القيامة وأمام الناس في الدنيا وأمام ضميره. - أن كل راع مسؤول عنوأنه كلما زادت المنزلة عند الناس زادت المسؤولية. -أن الولايات رفعة في الدنيا وحسرة وندامة في الآخرة إلا من أدى حقها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
عباد الله: كل واحد منا يتحمل مسؤولية يُسأل عنها في الدنيا والآخرة. كل فرد مسؤول عن تصرفاته وأعماله، قال تعالى: ولتُسألُن عما كنتم تعملون. مسؤول عن أقواله، قال تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد والإنسان مسؤول أمام الله تعالى الذي أمره بالعمل وأخبره أن عمله لا يخفى على الله ولا على الناس، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، قال سبحانه: يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور أي يعلم مسارقة النظر، وما تستره الضمائر، كما أن الله تعالى يُظهر عمله للناس، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كُوَّة لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان)) فكم من المؤمنين الصادقين يُخفون عملهم عن الناس كقيام الليل، والصدقة والإحسان، لكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بذلك، وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب المعاصي، فكم من صاحب معصية حاول إخفاءها خوفاً من الناس لا من الله، لكنه لم يلبث أن افتضح بها. والإنسان ليس مسؤولاً أمام الله وأمام الناس فقط، بل هو مسؤول أيضاً أمام ضميره، قال تعالى: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعملون. فضمير المؤمن يؤنبه ويلومه إن فعل فاحشة وهي الكبيرة، أو ظلم نفسه وهي الصغيرة، فيتذكر نهي الله وعقابه، وعظمته وجلاله، فيبادر إلى التوبة والاستغفار، فالقرآن يضعنا أمام سلطة ثلاثية-كأنه يقول لنا: انظروا في أنفسكم تجدوا محكمة، وانظروا حولكم تجدوا محكمة، وانظروا فوقكم تجدوا محكمة، محكمة الضمير في قلوبكم، ومحكمة البشر من حولكم، ومحكمة السماء من فوقكم، ولكل واحدة منها أمانة في أعناقكم ستحاسبون عليها.
هذه الحقيقة ينبغي أن يضعها كل راعٍ أمام عينيه، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولدها وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ومعنى الراعي الحافظ المؤتمن، وهؤلاء كلهم استووا في الاسم لكن المسؤولية اختلفت، والإنسان تكون مسؤوليته بقدر السلطة التي يتولاها، وإنك لتعجب وحق لك أن تعجب من الناس وهم يهنئون مسؤولاً على مهمة كبيرة تولاها مع العلم أن هذه الوظائف لا تُعطى لصاحبها ميزة على غيره من الناس، بل هي على العكس من ذلك تزيد من مسؤوليته أمام الله تعالى وأمام الناس.
هذا أبو ذر الغفاري يطلب من النبي أن يوليه إمارة، فيقول له: ((يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة لخزي وندامة إلا من أخذها بحقها ووفى الذي عليه فيها)) فالذي يتولى أمور الناس ينبغي أن تكون فيه قوة ليقف في وجه المفسدين الأقوياء، وليؤدي حق الضعفاء، وليعمل ما ينبغي من خدمة الصالح العام، والإسلام ينظر للإنسان أنه كلما علت منزلته في المجتمع، كلما كان ذلك سبباً في زيادة مسؤوليته وتشديد حسابه. ها هو القرآن الحكيم يذكر مسؤولية نساء النبي ويأمرهن بمداومة الطاعة وبعدم إلانة القول عند مخاطبة الرجال وبالاستقرار في بيوتهن وبعدم التبرج وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وبطاعة الله ورسوله، ويبين لهن أن الجزاء في حقهن مضاعف، قال تعالى: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً.
عباد الله: إن الإسلام بيَّن ما ينبغي أن يكون عليه حالُ من يلي أمور الناس، فالموظف في أية إدارة مسؤول كأي فرد، ومسؤول كذلك عن مدى إخلاصه في عمله وقيامه بالواجب وفي مقدمة ذلك الإحسان إلى الناس، فنبينا عليه الصلاة والسلام دعا ربه فقال: ((اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) فالمسوؤل الذي يُوقع الناس في المشقة بالإساءة إليهم ومنعهم من حقوقهم وتحميلهم ما لا يطيقون يستحق غضب الله تعالى وعقابه. وقد جاء الوعيد الشديد لذاك المسؤول الذي يمتنع من استقبال الناس، وبالتالي تضييع حقوقهم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من ولاه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره)) ، وليفكر أي مسؤول في حاله إذا عزل أو أحيل على التقاعد، وقد أشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا المصير بقوله: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة)). فالمتولي لمناصب المسؤولية ومنها الإمارة كالطفل الرضيع ينتفع بما يصل إليه من منافع وملذات، فإذا عزل أو تقاعد أو مات صار يتألم ويتحسر ويبكي كالطفل الذي يمنع من الرضاع. فالسعيد من المسؤولين من نصح وأخلص، ورفق بالناس، ويسر وبشر. فكان بذلك جديراً برحمة الله وعفوه ورضاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1337)
الرحمة العامة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
إسماعيل الخطيب
تطوان
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- من فضائل القرآن وأثر العمل به على المجتمع. - صفات المجتمع المسلم. - حقوق الحيوان في الإسلام. - حرمة دم المسلم إلا بحق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
خاطب الله رسوله بقوله: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وخاطب المؤمنين بقوله: فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة.
عباد الله: القرآن كتاب الله هدى ورحمة، هو الجواب القاطع لكل حيرة، المبين للحق في كل شيء بين الله فيه العقائد والفضائل والآداب والأحكام التي بها تصلح أمور البشر، فهو رحمة عامة للذين تنتشر فيهم هدايته، وتنفذ فيهم شريعته، فأحكام القرآن إن طُبقت سعد بها حتى غير المؤمنين، ذلك أنهم يكونون آمنين في ظلها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، عائشين في جو خالٍ من الفواحش والمنكرات. ولقد علمنا أن دين الله – الإٍسلام – حرم قتل أي نفس إلا بالحق، قال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولذلك جاء الوعيد في قتل المعاهدين، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)) والمعاهدون هم غير المسلمين الذين يعيشون مع المسلمين فلهم العهد والضمان والأمان بأن لا يُظلموا وأن تصان دماؤهم وأموالهم وأعراضهم مع ضمان حريتهم في دينهم، وبذلك يكون دين الله رحمة للناس أجمعين، هو رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، ورحمة لغيرهم في الدنيا إن طبقت فيهم أحكامه.
فالمجتمع المسلم هو الذي يعمل بشريعة الله ويطبق حكم الله، المجتمع المسلم هو الخالي من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتولد الأمراض، المجتمع المسلم هو الذي تُضمن فيه الحقوق لجميع المتساكنين، هذا هو مجتمع الرحمة الذي لا يقتل فيه إنسان إلا بالحق بل إن الحيوان لا يقتل فيه إلا بحق، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها، سأله الله عن قتله)) قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: ((أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها)) وقد نهى عن اتخاذ ما فيه الروح هدفاً للرمي، فقال: ((لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً)) ومن ذلك نصب الحيوان فيرمى إليه حتى يموت. قال ابن عمر عن النبي أنه ((نهى عن قتل كل شيء من الدواب صبراً)) ففي ذلك وحشية وهمجية كما يشاهد في مصارعة الثيران عند الأسبان حيث يعذب الحيوان لفترة طويلة تسلية سخيفة للمشاهدين، بل إن نبينا عليه الصلاة والسلام نهى عن التحريش بين البهائم، وذلك يدفعها إلى التقاتل فيما بينها، فإذا كان نبينا قد نهانا عن الإفساد والإيقاع بين الحيوان، فهل يسمح به بين الإنسان.
إن دين الرحمة والإحسان يمنع كل تحريش بين الإنسان والإنسان أو بين الإنسان والحيوان، ويدعو إلى علاقة إنسانية رفيعة أساسها الإحسان والرحمة، وهذا الإحسان ينبغي أن يظهر حتى عند ذبح الحيوان للانتفاع بلحمه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليُحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)).
وعن ابن عباس قال: مر رسول الله على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يُحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها. فقال: ((أفلا قبل هذا؟ أو تريد أن تميتها موتات)).
إنها الرحمة – أيها المسلمون – التي جاء بها نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام الذي خاطبه الله تعالى بقوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
عباد الله: بين كتاب الله أن القتل لا يكون إلا بحق. قال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق وبين رسول الله هذا الحق بقوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) فعقوبة القتل شرعت لحفظ الأعراض، والزنا نتائجه وخيمة، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذاب)) والمتزوج البالغ العاقل العالم بتحريم الزنا الغير المكره، إنسان أنعم الله عليه بنعمة الإحصان فكان الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة. فإن هو وقع في الزنا فقد تنكر لنعمة الله ولم يشكرها، فكان جديراً بعقوبة الرجم الثابتة بالسنة الصحيحة. كما شرعت عقوبة القتل للقاتل عمداً، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى والقصاص هو أن يُفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، على أن الله تعالى خفف على العباد ورحمهم فأجاز لولي الدم أن ينتقل من القصاص إلى الدية أو العفو مجاناً. وشُرعت عقوبة القتل لحفظ الدين، قال : ((من بدل دينه فاقتلوه)) فالمرتد خطره كبير بصده للناس عن دين الله، إذ هو يبث أحقاده وسمومه تحت ستار معرفته بالإسلام، فاستحق بذلك عقوبة القتل حتى لا يدخل في الإسلام من يسعى لهدمه من الداخل، فإذا حقق غرضه عاد لكفره وضلاله.
فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان والإسلام، لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله، وأنت على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1338)
عظم فضل الصلاة
فقه
الصلاة
إسماعيل الخطيب
تطوان
6/1/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- أهمية الصلاة وعظمتها حيث فرضت في السماء حين عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمة ذلك. - فرض الله الصلاة في أوقات معينة وحكمة ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لما أراد الله تعالى أن يفرض الصلاة على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، لم ينزل بأمرها ملكاً إلى الأرض، بل أنعم الله على رسوله بمعراج إلى السماء، وهناك في سدرة المنتهى فرضت الصلاة، ويحدثنا الصادق الأمين عن ما حدث له في تلك الليلة فيقول – في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري -: "فُرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا.." وهكذا أُعد النبي الكريم لمشاهدة ذاك المقام العظيم الذي قال عنه: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" أي ارتفع إلى مكان سمع فيه ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى قال سبحانه: ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى.
إنه أمر لا نستطيع – ونحن في هذه الأرض – أن ندرك كيفيته، ولا أن نعي حقيقته، فنبينا عليه الصلاة والسلام في ليلة المعراج رأي جبريل – مرة ثانية – على صورته التي خلقه الله عليها، بعد أن رآه المرة الأولى يسد الأفق بخلقه الهائل في ليلة القدر حيث أوحى إلى عبد الله ما أوحى.
وفي ليلة المعراج رآه عند سدرة المنتهى، وهي شجرة تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه: أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى شجرة إليها ينتهي علم كل عالم ملك مقرب، أو نبي مرسل، ما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله. وعندها الجنة التي هي مأوى المؤمنين.
عند سدرة المنتهى انتهت صحبة جبريل لرسول الله ، وقف جبريل وتقدم النبي درجة أخرى هي أقرب وأدنى إلى عرش الله.
هناك في السماوات العلى في ليلة المعراج التقى نبينا بالرسل الكرام: آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، وهناك فرض الله الصلاة وحق للصلاة أن تفرض في السموات وفي ليلة المعراج، فهي معراج لكل مسلم إلى ربه، بها تسمو الروح، وبها يتحقق للمؤمن أن الدعاء الذي هو مخ العبادة لا يكون إلا لله، وأن الركوع والسجود لا يستحقه إلا الخالق المدبر الحكيم، وبها يتميز المسلم من الكافر قال عليه الصلاة والسلام: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ، وبها يحقق المؤمن لنفسه الأمن والراحة، ولقد كان النبي إذا حزبه (أهمه) أمر فزع إلى الصلاة وإذا عاد منهك القوى من قتال الأعداء، قال: ((يا بلال أرحنا بالصلاة)) ، أي أذن بالصلاة لتكون الصلاة راحة لنا من معاناة الحياة ومشكلاتها.
والصلاة هي أصل أركان الإسلام، وأم القربات وأشهر شعائر الدين، وأفضل أعمال الإسلام، سئل رسول الله : أي الأعمال أفضل قال: ((الصلاة على وقتها)) نعم، قال تعالى: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا أي إن الصلاة كانت في حكم الله، ومقتضى حكمته في هداية عباده كتاباً – أي فرضاً – مؤكداً ثابتاً، يؤدى في أوقات محدودة لابد من أدائها فيها بقدر الإمكان، قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتاً كوقت الحج. والملاحظ لأهل البصائر أن الله الحكيم العليم جعل لكل أمر وقتاً فالأعمال تعرض عليه سبحانه في أوقات معينة، ورحماته تتنزل أكثر في ساعات معينة، ومن هذه الأوقات ما يدور بدوران الأسبوع كساعة الجمعة التي ترجى فيها استجابة الدعاء، ومنها ما يدور بدوران السنين كليلة القدر، وفي انتظام أوقات الصلاة تنبيه إلى وجوب اغتنام الوقت وأداء كل عمل في وقته، فالوقت هو رأس مال الإنسان إن استغله فيما ينفع ربح وفاز وإن ضيعه خاب وخسر.
عباد الله: في الحديث الصحيح، قال : ((ثم عُرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام)) ثم قال: ((ففرض الله على أمتى خمسين صلاة)) فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال: ((فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك)) فراجع نبينا عليه الصلاة والسلام ربه فخفف خمساً ثم خمساً وهكذا حتى صارت خمس صلوات، ومع ذلك قال موسى لرسول الله: راجع ربك، فقال عليه الصلاة والسلام: ((استحييت من ربي)). أي أن التخفيف لما وقع خمساً خمساً، فلو سأل التخفيف بعد أن صارت خمساً لكان سائلاً في رفعها لذلك استحيى من ربه، وهو يخاطبه بقوله: ((هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي)) فهي خمس باعتبار الفعل، وخمسون باعتبار الثواب، فالحسنة بعشر أمثالها.
هذا، والصلاة زكاة الوقت، وحق الله الراتب في كل يوم، فالمؤمن يقتطع من وقته الذي هو رأس مال الحياة فيجعله خالصاً لله، ويقتطع جزءاً من ماله فيجعله خالصاً لله، لذلك وجدنا آيات الكتاب الحكيم تقرن الصلاة والزكاة في آيات عدة، قال تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1339)
الرشوة وخطرها
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
1/6/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
- من انحرافات بني إسرائيل أكلهم للرشوة. - أهمية قيام العلماء بدورهم في الإصلاح. - ظهور خطر الرشوة في ضياع الحقوق. - تحريم الرشوة ولو سميت هدية. - حكم من اضطر إلى دفع الرشوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل الذين استحقوا اللعن والخزي بسبب إفسادهم وضلالهم: سماعون للكذب أكالون للسحت ويقول تعالى: وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون.
عباد الله: إن القرآن الكريم يقدم لنا وصفاً دقيقاً للانحراف الذي وصل إليه بنو إسرائيل تحذيراً لنا من التشبه بهم، وفي الآيات التي تلونا يذكر سبحانه من صفاتهم أنهم سماعون للكذب أي أن الحاكم منهم يسمع الكلام ممن يكذب عنده في دعواه، ومع ذلك يحكم له لأنه أخذ منه رشوة فهم بذلك أكالون للسحت وهو المال الحرام ومنه الرشوة، قال عمر : رشوة الحاكم من السحت، وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يُسحت الطاعات أي يُذهبها ويستأصلها.
هذا مع العلم أنهم لم يكونوا جميعاً على هذا الحال لذلك قال تعالى: وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت فالأقلية لم يكونوا على هذا الحال، ولكن الأكثرية فسدوا بمسارعتهم في الإثم، وهو كل ما يضر قائله أو فاعله في دينه ودنياه وفي العدوان أي الظلم الذي يضر الناس. وفي أكل السحت، وقد انتشر ذلك بينهم وفسد مجتمعهم حتى وصل الأمر بهم إلى أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقم به أحد لا العلماء ولا العباد. إذ كان الفساد قد عم الجميع.
ولاشك أن العلماء والعباد هم أئمة الأمة في التربية والإصلاح، فإذا سكتوا وقصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا النهي عن البغي والفساد، فمن للأمة يُصلحها، لذلك قال تعالى: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت قال العلماء: ما في القرآن آية أشد توبيخاً منها للعلماء، فهي حجة عليهم إذا لم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأمل في قوله تعالى توبيخاً لآكلي الرشوة ومرتكبي الإثم والعدوان: لبئس ما كانوا يعملون فالذي يفعل المعصية يندفع إليها بشهوة تدعوه إلى ارتكابها، أما العلماء الذين يتركون النهي عن المنكر، فقال فيهم لبئس ما كانوا يصنعون فتركهم للنهي صنعة يريدون بها إرضاء الناس.
إن علماء ملتنا ما قصروا – أثابهم الله – في بيان ما تتسبب فيه الرشوة من فساد وظلم: من حكم بغير الحق، أو امتناع من الحكم بالحق، أو إعطاء الباذل ما ليس من حقه، أو إعفائه مما هو واجب عليه، ولعنة الله ورسوله لا تكون إلا على أمر عظيم ومنكر كبير، وقد لعن رسول الله الراشي والمرتشي لما لهما من دور في تغيير حكم الله وتضييع حقوق عباد الله وإثبات الباطل ونفي الحق وتضييع الأمانة وإشاعة الخيانة.
إن دواعي إعطاء الرشوة كثيرة ومتنوعة، وهناك نوع من الرشوة ما يسميه الناس هدية، والإسلام يحرم الرشوة في أي صورة كانت، وبأي اسم سميت، فهذا عمر بن عبد العزيز تهدى إليه – وهو خليفة – هدية ، فلا يقبلها. فيقال له: إن رسول الله كان يقبل الهدية، فيقول: كانت له هدية وهي لنا رشوة.
لقد علم السلف الصالح أن الهدية التي تقدم للحاكم هي في الواقع رشوة مقنعة، فرفضوا أخذها وقد بلغهم أن النبي استعمل رجلاً لجمع الزكاة، فلما عاد قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي على المنبر وقال: ((ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه أو بيت أمه – يعني بدون عمل – حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه..)) الحديث.
فالهدايا التي تقدم لأصحاب المناصب إنما يراد بها التقرب منهم واستمالتهم للاحتماء بهم، وفي ذلك ظلم للمجتمع، حيث يُحابى أصحاب المال، ولا يُبالى بغيرهم.
عباد الله، قد يجد المؤمن الصادق نفسه مضطراً أشد الاضطرار لإعطاء الرشوة، عندما يُمنع من حقه، أو ينزل به ظلم لا سبيل لدفعه إلا بالرشوة. هنا يكون المؤمن أمام خيارين إما أن يصبر – وذلك أفضل – ويجرب جميع الوسائل، أو أن يدفع الرشوة اضطراراً فيكون الإثم على المرتشي وهو آخذ الرشوة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1340)
عيد الأضحى 1417هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
إسماعيل الخطيب
تطوان
10/12/1417
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الله على الإنسان بأن أسكنه الأرض وأصلحها له ونهى عن الفساد فيها. 2- محافظة الإسلام على البيئة ووسائل ذلك. 3-الحث على ذبح الأضاحي يوم النحر وبيان السنة في ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا معاشر المسلمين، يقول ربنا سبحانه وتعالى: وَ?للَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ ?لأَرْضِ نَبَاتاً (1/1341)
بيت المقدس
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
أديان, المسلمون في العالم
إسماعيل الخطيب
تطوان
11/1/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل بيت المقدس ومكانته في الإسلام. 2- استيلاء اليهود على بيت المقدس وطغيانهم
وفسادهم. 3- اليهود أهل مكر وخداع ونقض للعهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
نصف قرن مضى على وقوع أعظم كارثة للمسلمين في عصورهم الأخيرة، وأية كارثة أعظم من أن يقع مسجد المسلمين الثالث في قبضة أشد الناس عداوة للمؤمنين، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى ومسجدي هذا)) [1] ، هذه المساجد بين هذا الحديث فضيلتها ومزيتها على غيرها لأنها مساجد الأنبياء، فالمسجد الحرام قبلة الناس وإليه حجهم، والمسجد الأقصى قبلة الأمم السالفة، ومسجد رسول الله أسس على التقوى، وفيه الروضة المشرفة التي هي من رياض الجنة، وهذه المساجد هي وحدها التي تشد إليها الرحال، فيسافر إليها المؤمن بقصد الصلاة والاعتكاف والتقرب إلى الله، ومن نذر إتيان أحدها لزمه ذلك، والصلاة بها أفضل من الصلاة في غيرها، قال : ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) [2] ، وقد بارك الله تعالى في أرض بيت المقدس بما خصها به من الخيرات الدينية، فهي موطن الأنبياء والرسل ومهبط الشرائع، فلا تعرف في الأرض بقعة بعث فيها الرسل كأرض فلسطين، لذلك جعلها الله ميراثاً لأمة الإسلام بإسراء رسول الله عليه الصلاة والسلام إليها.
والقارئ لسورة الإسراء يلاحظ هذا الربط بين الحديث عن الإسراء وإفساد بني إسرائيل في الأرض مرتين، ففي هذا الربط إشارة إلى أن إفسادهم سيكون في أرض الإسراء، بعد تغلبهم وعلوهم وطغيانهم، وها نحن نرى ما أخبرنا به ربنا يقع في أرض فلسطين أرض الإسراء. فقد علوا علواً كبيراً: احتلوا فلسطين، وانتصروا على العرب في كل حرب، وصاروا يفرضون شروطهم كما يشاؤون، فرضوا ما يسمى بالسلام الذي هو في الواقع استسلام لليهود، وضعوا اقتصاد البلاد العربية تحت تصرفهم، نعم كل ذلك بدعم مباشر من الغرب وعلى رأسه أمريكا. فاليهود لا يستطيعون عمل شيء إلا بدعم من سواهم، قال تعالى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس أي لابد لهم في كل أمر من معونة غيرهم، هذه المعونة ليست أمراً خفياً، فأمريكا تبدأ ميزانيتها السنوية بتخصيص مبلغ المساعدة لدولة يهود حتى أصبح دخل الفرد اليهودي السنوي أعلى دخل في العالم كله، وما ذلك إلا بالأموال التي يبتزونها من مختلف دول العالم. ثم إن دولة يهود وهي الدولة المدللة في العالم، تمتنع من التوقيع على معاهدة منع الأسلحة النووية في الوقت الذي تمنع غيرها من الدول من امتلاكها لتبقى القوة تحت تصرفهم يهددون بها من لم يخضع لأوامرهم. واليهود كما نعلم أهل مكر وخداع استطاعوا بتخطيطاتهم الماكرة إن يخدعوا من أهل فلسطين من اعترف بدولتهم، وما كان للفلسطينيين أن يفعلوا ذلك لو أنهم تدبروا في كتاب ربهم ودرسوا بإمعان تاريخ يهود مع الإسلام.
لقد بين الله تعالى في كتابه أن اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، فقال سبحانه: أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون فلقد كانت بينهم وبين النبي عهود فنقضوها كفعل بني قريظة وبني النضير الذين قال الله فيهم: الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون وهاهم اليوم – كما كانوا دائما – ينقضون معاهدة "أوسلو" ويرجعون عن اتفاقياتهم، يشجعهم على ذلك حال المسلمين والعرب وما هم عليه من تفرق واختلاف وبعد عن دين الله، مما تسبب في ضعفهم وخذلانهم مع أنهم الأقوى بأعدادهم وأموالهم، ولكنهم بإعراضهم عن هدى ربهم صاروا أضعف الناس أمام أعدى أعدائهم الذين قال الله فيهم: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.
[1] البخاري 3:51 في التطوع.
[2] قال البزار اسناده حسن : فتح الباري 3:67.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1342)
حقيقة التقدم والحضارة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
إسماعيل الخطيب
تطوان
12/5/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن النار حق لاشك فيه ودليل ذلك. 2- مفهوم التقدم الحقيقي وأن الإسلام يدعو إليه وكيف
يتحقق ذلك. 3- حال الغرب الكافر مع التقدم وحال المسلمين معه. 4- سبب ضياع الأخلاق
عند كثير من المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا عز وجل: كلا والقمر والليل إذا أدبر والصبح إذ أسفر إنها لإحدى الكبر نذيراً للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.
عباد الله: استهزأ الكافرون وسخروا مما أخبرهم به الرسول من النار وعذابها، وسقر وخزنتها، ضلوا ضلالاً بعيداً، فنزل القرآن يردعهم بكلمة زاجرة هي "كلا" فليس الأمر كما يظنون، وليست الحقيقة ما يعتقدون، ثم أقسم على ذلك بالقمر الذي هو آية الليل الظاهرة الباهرة، وبالليل وسكونه وهدوئه ثم ذهابه وإقبال النهار، وبالصبح إذا أضاء وأنار، يقسم الله تعالى بهذه الأشياء للفت الأنظار إلى قدرته، فهذا التغيير من حال إلى حال دليل على جواز البعث والانتقال من الفناء بعد الموت إلى الحياة في دار الجزاء، يُقسم تعالى على أن النار التي أعدها الله للمكذبين هي إحدى الدواهي العظيمة، وهي نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بفعل المأمورات والطاعات، أو يتأخر بفعل الشر والمنهيات. فالتقدم يوصل صاحبه في النهاية إلى جنة الرضوان، والتأخر يوصل الضالين إلى عذاب النيران.
من هنا ينبغي لنا أن نفهم معنى التقدم والتأخر، والحضارة والرقي، فدين الله جاء يدعوا إلى التقدم والحضارة، والأوامر الشرعية في مجموعها تحقق التقدم في مختلف المجالات، ألا ترى أن النهضة الاقتصادية من عوامل التقدم، وأن النهضة الاقتصادية لا تقوم إلا إذا كان المال متحركا مشاعاً بين الناس، وليس في يد طبقة دون أخرى، لذلك جاء التوجيه في كتاب الله: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ولتحقيق ذلك فرض الله الزكاة وحرم الإحتكار، ومنع الربا، وهما الوسيلتان لجعل المال بيد الأغنياء وحدهم. فإذا طبق هذا النظام المالي الإلهي تحققت العدالة الاجتماعية، والنهضة الاقتصادية.
والتقدم لا يتحقق إلا بتعاون جميع أفراد الأمة على البناء فإذا كان في الأمة مرضى مهملين أو عاجزين منسيين، أو شباب خاملين، فكيف يمكن للأمة أن تتقدم أو تنهض، لذلك وجدنا الإسلام يدعو إلى التعاون والعمل والتكافل، قال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض فهم شركاء في تبعة الحياة لا يتخلى بعضهم عن بعض بل يساعد بعضهم بعضاً، والغربيون لم يصلوا إلى وصلوا إليه من تقدم مادي إلا بسبب تطبيقهم لبعض ما جاء به الإسلام، لكن تقدمهم انحصر في المادة، وحضارتهم انحرفت نحو اللذة والمتعة دون قيد من خلق أو دين، بل رفضوا الدين وحاربوه وهمشوه، وقطعوا الصلة ما بين السماء والأرض، ولقد حذرنا الله تعالى من اتباعهم أو السير في طريقهم فقال سبحانه: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.
عباد الله: إذا كان الإسلام هو دين التقدم والحضارة، فإن حضارة الإسلام تقوم على الأخلاق والنظافة الحسية والمعنوية، فماذا في مجتمع المسلمين اليوم من أخلاق الإسلام ونظافة الإسلام: أين الصدق؟ أين الإخلاص؟ أين الصبر؟ أين الإحسان؟ بينما نجد أن الغربيين ما زالوا مستمسكين ببعض الفضائل الخلقية، من استقامة وصدق وبعد عن الغش والنصب والاحتيال، حتى ذهب البعض إلى القول: أولئك لهم أخلاق وليس لهم دين، وهؤلاء لهم دين وليس لهم أخلاق. لكننا يجب أن نسأل: هل يبقى دين إذا ضاعت الأخلاق. إن الأخلاق الكريمة هي التي تمنع صاحبها من الوقوع في المعاصي، وهي التي تدفع صاحبها إلى القيام بالطاعات، فخلق الحياء يحجز عن ارتكاب الموبقات. قال رسول الله : ((لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء)) [1] ، ومر رسول الله على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله : ((دعه، فإن الحياء من الإيمان)).
إذا كان الحياء من الإيمان فأين الحياء عند النساء، أين الحياء عند من يأخذ الرشوة. أين الحياء عند الكذابين والمحتالين، أين الحياء عند المجاهرين بالمعاصي. لقد ضاع الحياء عند أمة اعتبر نبيها الحياء من الإيمان، لأنه به مِلاك الأمر كله من حسن معاملة الحق ومعاشرة الخلق.
لكننا - مع ما نحن فيه من انحراف – يتمثل في تركنا لفضائل الإسلام، وتركنا لما بقي عند الغرب من فضائل، وتقليدنا لهم في الرذائل فقط، مع ذلك فالخير كامن في هذه الأمة، فعندنا القرآن وعندنا السنة، عندنا الإسلام، وعلتنا هي الانحراف عن الإسلام، فإن عدنا إليه كان التقدم والصعود والحضارة والعزة، وما ذلك على الله بعزيز.
[1] الموطأ: ما جاء في الحياء : كتاب الجامع.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1343)
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
إسماعيل الخطيب
تطوان
8/3/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإرهاب أمر مطلوب وبيان معناه. 2- أمر الله تعالى بإعداد العدة لمواجهة الأعداء وبيان
كيفية هذا الإعداد. 3- معنى الجهاد وكيف يكون. 4- أهمية امتلاك المسلمين الأسلحة الحديثة
كالأسلحة النووية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم.
عباد الله: أرسل الله رسله بالهدى ودين الحق، غير أن أعداء الله وقفوا في وجه الحق، وسعوا الإطفاء نور الله، فنصر الله رسله الذين عملوا بأمر الله، وأعدوا العدة لمواجهة أعداء الله، فالحق لابد معه من قوة تحميه، وإلا تغلب الباطل بقوته، ولقد أمر الله المسلمين أن يعدوا كل ما يستطيعون إعداده من قوة حربية لإرهاب الأعداء، فالإرهاب أمر مطلوب. لكن الإرهاب في الإسلام لا يعني الاعتداء على الأبرياء. فالقول بهذا المعنى تحريف للمعنى القرآني. وأعداء الإسلام اليوم يسعون إلى تحريف المعاني الإسلامية لتشويهها وصرف المسلمين عنها وتلك مؤامرة يشارك فيها المنافقون والجهلة من المنتسبين للإسلام.
لقد أمرنا ربنا في محكم كتابه بإرهاب الأعداء بواسطة ما نعده من قوة لمواجهتهم، والإرهاب معناه إيقاع العدو في الرهبة أي في الخوف والفزع حتى لا يفكر في الظلم والاعتداء، فالقرآن يدعونا إلى إعداد كل قوة مستطاعة، ومنها – بل في مقدمتها – قوة العقيدة، فالمؤمن بالله قوي بإيمانه لأنه يعلم علم اليقين أن الأمر كله لله، وأنه عبد لله يسعى للفوز برضاه، فلا يخاف إلا الله، والتربية والأخلاق قوة بها يتماسك المجتمع ليصبح قادراً على مواجهة العدو.
وهذه القوة – قوة العقيدة والتربية والأخلاق – إنما تتحقق بقيام العلماء والدعاة بواجبهم، حتى تشيع في المجتمع المسلم العقيدة الصحيحة والأخلاق الإسلامية والتربية السليمة، فالوسائل المادية وحدها لا تكفي إذا لم تكن هناك عقيدة تربط القلوب بالله تعالى.
وهذه القوة ليست للاعتداء ولا للظلم، بل إنما تعد أساساً للإرهاب، أي للتخويف حتى لا يطمع في المسلمين طامع، فإذا وقع اعتداء وجب الجهاد، ومعنى الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، أي أن المجاهد يبذل طاقته ويتحمل المشقة في دفع العدو بكل الوسائل والتي آخرها الحرب والقتال، فليس الجهاد فقط هو القتال بل هو كل عمل يُدفع به العدو، والعدو يُدفع بالقلب وذلك بعدم الميل إليه، كما يُدفع باللسان واليد وذلك بكتابة الكتب التي تبين حقيقة الإسلام ونشرها لمختلف اللغات، وببث الإذاعات والتلفزات للدعوة إلى الإسلام، والقنوات التلفزية اليوم سلاح حدين. فهي صالحة للدعوة إلى الله وبيان حقيقة الإسلام، كما أنها معول هدم – ونحن على يقين أن قناة تلفزية باللغات الأوربية قادرة بإذن على تحقيق ما لا تقدر عليه الجيوش.
فبالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة تفتح القلوب التي لا تستطيع الجيوش فتحها، والجهاد إنما يراد به وجه الله واعلاء كلمته ودفع الباطل.
عباد الله: عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله على المنبر وهو يقول: (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) [رواه مسلم].
فالنبي يعتبر أن رمي العدو عن بعد أسلم وأفضل من مضاربته على القرب، وإطلاق الرمي في الحديث يشمل كل ما يُرمى به العدو من سهم أو رصاص أو قذيفة أو صاروخ بواسطة المدفع أو الطائرة أو غير ذلك، وتعتبر القنبلة الذرية اليوم أقوى سلاح للإرهاب، ويحرص الغرب على أن يمتلكها وحده، وأن يمتلكها اليهود ليرهبوا بها العرب والمسلمين. لذلك نوّه علماء المسلمين بالتجربة النووية الباكستانية فهي تعني على الأقل أن المسلمين لديهم الكفاءات العلمية القادرة على مواكبة التقدم العلمي، وأنهم سائرون بإذن الله نحو العمل بأمر فرضه الله، وهو امتلاك القوة التي تمنع العدو من فرض كل ما يريد، والدول الإسلامية مطالبة بالتعاون فيما بينها على امتلاك القوة النووية وتصنيع السلاح حتى لا تبقى عالة على غيرها، ولن يتحقق للمسلمين ذلك إلا إذا عادوا إلى دينهم وطبقوا شريعة ربهم، وأقاموا الحق والعدل، واعتبروا الدنيا، طريقاً إلى الآخرة، فعملوا فيها من الخير ما سيجدون ثوابه في دار الجزاء.
اللهم اختم بالأعمال الصالحة أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا.
يا من يعلم سرنا وعلانيتنا ويسمع كلامنا ويرى مكاننا ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، نحن البؤساء فأغثنا، ونحن الضعفاء فقونا، وقيض لدينك من ينصره ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والعناد، يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1344)
أحداث فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
16/7/1421
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لله سنن في الأمم والمجتمعات. 2- مكانة فلسطين وبيت المقدس عند المسلمين. 3- العهدة
العمرية عند استلام مفتاح بيت المقدس. 4- مجازر اليهود ضد إخواننا الفلسطينيين ومقدسات
المسلمين. 5- وقوف العالم الكافر مع اليهود. 6- لعل ثورة شعب فلسطين ترد الحق إلى
أصحابه. 7- يجب عرض قضية فلسطين وفق المنظور القرآني. 8- بشائر يقظة الأمة في
تفاعلها مع الانتفاضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل, فاتقوا الله رحمكم الله, فالتقوى من التوقي, ومن يتقِ الله يقه, واعلموا أن الأجل دون الأمل, فبادروا الأجل بالعمل, فإنه لا عمل بعد الأجل, والآخرة باقية والدنيا فانية, فقدموا أمر الآخرة على أمر الدنيا, ولا تأخذكم في الله لومة لائم, واحذروا فإن الحذر محله القلب.
أيها المسلمون: منذ ظهرت الحضارات الإنسانية وميزان القوى لا يستقر على حال, أمم تكون في الصدارة ثم تمسي فإذا هي في ذيل القاطبة, وأخرى لم تكن شيئًا مذكورًا فإذا هي تترقى في أوج العظمة وقمم المجد, إنها أيام الله يداولها بين الناس, هذا التداول بإذن الله وأمره يخضع لسنن من الله شتى, ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
إن حركة التاريخ في السنن والنواميس تعطي أفقًا واسعًا للنظر والتأمل والتدبر, أسباب تجتمع بإذن الله فيكون باجتماعها انتصار وقوة ثم تجتمع بطريقة أخرى ليكون بها التشرذم والانحسار والضعف, لا مفر من سنن الله العاملة في التاريخ, فهي لن تحابي أحدًا أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم.
ومن منظور هذه السنن وبتأمل هذه النواميس شاء الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس مسرى نبيه محمد , ومنطلق المعراج إلى السماء في رحلة النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ولأمر حكيم شاء سبحانه أن يجعل بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى منذ فرضت الصلاة في العهد المكي وثمانية عشر شهرًا من العهد المدني, وهو ما يزيد على نصف سني البعثة المحمدية, ثم لأمر حكيم وحكمة عظيمة تسلم العبقري الملهم الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس من دون سائر المدائن التي فتحها الله على المسلمين.
إنه التمييز الواضح والخصوصية الخاصة والإعلان الصريح لما لهذه المدينة المقدسة من منزلة كبرى في دين الإسلام وتاريخ المسلمين.
للمسجد الأقصى وقصة الإسراء خبر خاص, وسورة كاملة في قلب مصحفنا ودستورنا.
إنها سورة الإسراء سورة بني إسرائيل في آياتها ودلالاتها وكنوزها, بسم الله الرحمن الرحيم: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير , رباط قرآني محكم بين هاتين المدينتين المقدستين, واتصال ديني وثيق بين مكة المكرمة والقدس الشريف, ورباط مقدس بين أشرف بقعتين فيهما الكعبة المشرفة والمسجد الأقصى, رباط إلهي وثيق وما وصله الله لا ينقطع, بيت المقدس ربوة مباركة ذات قرار ومعين, أرض مقدسة, قبلة الأمة وبوابة السماء وميراث الأجداد, ومسئولية الأحفاد, معراج محمدي, وعهد عمري, دار الإسلام بها يجسد تراث الأمة, ويحدد مستقبلها ويثبت وجودها, إلى مسجدها تشد الرحال, ومن قبله تشد الأبدان والنفوس والأفئدة, فتحه المسلمون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام بست سنوات, وحكموه قرون طويلة ثم احتله الصليبيون تسعين عامًا فأخرجهم صلاح الدين رحمه الله, وهذه الأيام يحتله يهود, ولن يخرجوا والله إلا بصلاح الدين.
حكم المسلمون هذه المدينة المباركة هذه الأحقاب الطويلة, فما هدموا بيتًا لساكن ولا معبدًا لمتعبد, التزموا بتعالم دينهم, احترموا كل ذي عهد وعقد وذمة, وفاءً للعهد العمري, استمعوا رعاكم الله إلى هذا النص من العهد العمر, بسم الله الرحمن الرحيم: "هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان, أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم, سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم, ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم, على ما في هذا الكتاب, عهد الله وذمة رسوله, وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم" شهد على ذلك خالد بن الوليد, وعمرو بن العاص, وعبد الرحمن بن عوف, ومعاوية بن أبي سفيان, وعمر بن الخطاب سنة خمس عشرة من الهجرة, شهد على ذلك وكتب وحضر" رضي الله عنهم جميعًا وأرضاهم ورضي عن جميع صحب محمد.
لقد تضمن العهد العمري حرية المعتقد وحرية السكنى وحرية التنقل, وهو عهد منذ أكثر من ألف وأربع مائة سنة, لم يكن متأثرًا بشعارات حقوق الإنسان المنافقة في عصرنا, ولكنها كانت تطبيقًا لمنهج الإسلام في التعامل الراقي المخلص مع أهل الأديان الأخرى.
لقد أصبح القدس الشريف وسكانها من مختلف الديانات في حماية المسلمين يحافظون عليها ويدافعون عنها وعن من فيها, هذا حديث أهل الإسلام وهذا حكمهم وهذا تاريخهم هذا حديثنا وهذا حكمنا, وهذا تاريخنا.
أما اليوم فبيت المقدس يجري فيه ما لم يحدث على أيدي أي غزاة في تاريخ البشرية كلها في تاريخ المقدس, ولم يجرِ ذلك في تاريخ المقدس الممتد آلاف السنين لم يفعل غازٍ أو محتل مثلما فعله ويفعله اليهود اليوم, وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة, وليس من رأى كمن سمع على ما تشاهدون في هذه الأيام بل في هذه الساعات, احتلوا القدس الشريف منذ أكثر من ثلاثين عامًا فأحرقوا المسجد الأقصى, ونسبوا ذلك إلى معتوه مختل العقل, وكأن المجانين لا يخرجون إلا على مقدسات المسلمين!! أما أعمال الحفر والهدم والتخريب حول المسجد فهي متواصلة منذ أن وطأت أقدامهم ولا تزال, انبعث باعث منهم ليحصد المصليين من المسلمين وهم يصلون في مسجد الخليل فقتلهم وهم ركع سجود, ومنذ أيام والمسلمون في صلاة الجمعة أطلقت النار على المصليين وهم في رحاب المسجد الأقصى, ليسقط العديد من القتلى والجرحى, هدمت الأبنية والآثار الإسلامية في سعي دائم وحثيث لإزالة المعالم وتغير الهوية, وفي هذه الأيام يصدر تصرف استفزازي يوصف بأنه شاذ مع أنه مدعوم من جهتهم الرسمية تصرف أسال الدماء وفجر الحرب وأزهق الأرواح, إنه ليس تصرفًا من مختل العقل وليس تصرفًا فرديًا, ولكنه تصرف من رئيس حزب من أحزابهم, اقتحام لحرمة المقدسات محاط بحراسة آلاف الجنود مسلحين بالعتاد والحراب والقنابل , تصرفات عدوانية أسالت الدماء ورسخت الكراهية وبعثة الأحقاد وأعادت أجواء الحرب, زرع للحقد الأسود في مدينة الإيمان والسلام والأرض المباركة, اعتداءات وانتهاكات في صور فظيعة تجعل من حق المظلوم أن يستخدم كل سلاح ممكن لحماية نفسه, مظلوم احتلت أرضه يقابل جيشًا مدججًا بكل أنواع الأسلحة والآليات الفتاكة, يقاتله أطفال وشباب أحداث ليس لهم حيلة إلى العصي والحجارة والصراخ ليدافعوا عن أنفسهم ومقدساتهم وأرضهم ومنازلهم, كل يدعي التسامح وكل يزعم الديمقراطية, وكل يتشبث بحقوق الإنسان في هذا القرن, قرن التحضر وقرن المدنية, قرن المواثيق الدولية, والقرارات الأممية, ولكن العمل والواقع والأرض والتاريخ هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه, دماء تراق وحصد للأرواح من المدنيين العزل في أماكن العبادة وفي الشوارع وفي الطرقات والساحات العامة, بل صواريخ وقنابل داخل المنازل والشقق, وحرب من الأرض والبحر والسماء, يتحدثون عن السلام بألسنتهم ويباشرون الحرب في خططهم واستعدادتهم وأفعالهم, أفعال شنيعة وتجاوزات رهيبة, لا تثير لدى الجهات الدولية القائمة على رعاية المواثيق الدولية والقيمة على رعاية حقوق الإنسان وحاملة لواء الديمقراطية والمسئولة عن الأمن الدولي والاستقرار العالمي لا تثير لديها أي تحرك أو تصرف منصف.
بل إن هؤلاء اليهود الصهاينة لم يسئلوا عن جرية ارتكبوها إنهم لم يسئلوا عن جريمة ارتكبوها ولم تحجب عنهم مساعدة طلبوها, ولم يتأخر عنهم مدد سألوه, ولم يوجه إليهم لوم ولا عتاب في جرم اقترفوه.
بل لقد توافد كبار ساسة العالم من أجل أسراهم, وبعثت التعازي من أجل قتلاهم, أما إخواننا في فلسطين فلا بواكي لهم, بل لقد قال أحد هؤلاء الساسة: لن نتغابى مطلقًا عن قتل جنود اليهود مهما كانت معاناة الشعب الفلسطيني. أين العدل؟ وأين الإنصاف؟ وأين حقوق الإنسان من شعب يعيش منذ سبعين عامًا في احتلال وفي مخيمات وفي ملاجئ؟ والملايين منه يعيشون في التشريد والشتات, شعب فلسطين حياته كلها خوف وتعذيب واعتقال تهدم البيوت وتغلق المدارس بل تغلق المخازن والمتاجر لتسد عنهم أبواب الرزق القليلة, تجويع وبطالة, استيلاء على الأرض وتحكم في مصادر المياة, بل تحكم في نبرات الحياة, محتل يلاحق من يشاء ويتهم من يشاء, ويقتل من يشاء ويعتقل من يشاء, ينشئ المستوطنات ويقيم الحواجز ويبني الأسوار ويغلق المدن والطرق ثم يزعم أنه يريد السلام.
أيها المسلمون: عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم وتضيق المدائن بشعب مقهور فإن كل سلوك متوقع وكل سياسات يمكن فهمها وإن صعب تبريرها, غزارة دم يسيل, وحرارة ودم يغلي, ليسا طرفين متكافئين جيش إحتلال مسلح ضد شعب أعزل, القتلى والضحايا في طرف والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرف آخر, قاتل ومقتول, وجلاد وضحية, إن مشاهدة هذه المناظر ومتابعة الأحداث تقطع الأمل في الرغبة الجادة في السلام, إن من بدهيات الأمور وأبجديات التفكير أن السلام الذي يبنى على أساليب القهر والتعسف والإملاء والابتزاز السلام الذين يبنى على الحق والعدل والمساواة والتكافؤ والندية.
إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشىء حقًا أو تقيم سلامًا, إن العدوان لا يولد إلا العدوان, وإن مشاعر الشعوب هي معيار الضغط النفسي وهي مقياس بواعث الانفجار.
أيها المسلمون إن ما يجري في بيت المقدس وفلسطين المحتلة امتحان شديد لأمة الإسلام, أمة الإسلام أمة معطاء, تجود ولا تبخل, في تاريخها المشرق الطويل قدمت ما يشبه المعجزات وهي اليوم تعيش مفترق طرق خطير يحيط بها وبقدسها وبأجزاء محتلة من ديارها, إنها لم تعجز عن إيجاد آلية منصفة قوية متزنة تعيد الحق إلى نصابه, وترد المغتصب إلى صوابه.
أمة محمد , أمة الإسلام وأمة الجهاد, وأمة عزة, لا تعجز بإذن الله أن تجد لنفسها بتوفيق الله وعونه مخرجًا بتوفيق الله وعونه من أزمتها وعطبها الحضاري, والقدس والأرض المباركة أغلى وأثمن وأكبر من أن تترك لمفاوضات أو لمساومات.
أيها الأخوة: إن قضية بيت المقدس وقضية فلسطين لا تنفصل البتة عن قضية الإسلام كله, إنها ليست أرضًا فلسطينية أو عربية فحسب بل إنها قبل ذلك وبعده أرض المسلمين أجمعين, تفدى بالأرواح والمهج, وإذا ضعف الإسلام في نفوس الاتباع, ضعفت معه روابط الحقوق والحماس والفداء في قضاياه كلها, ويوم يترسخ الإيمان ويصفو المعتقد وتسود الشريعة وتعلو الشعائر, ستحيا كل القضايا وسيتحقق كل مطلوب.
وبعد: فيجب أن يعي المسلمون ويعلنوا أنه لا سبيل لاستخلاص الحقوق واستنقاذ المغتصبات في أي مكان وعلى أي أرض إلا حين يعتصمون بحبل الله, ويكونون جميعًا ولا يتفرقون, يصطفّون عبادًا لله إخوانًا يجمعهم نداء واحد, لا نداء غيره: يا مسلم يا عبد الله, والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد , وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته دليلاً, رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً, أحمده سبحانه وأشكره, أولانا من فضله وكرمه عطاءًا جزيلاً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ولا ند ولا شبيه ولا مثيلا, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله قام بعبادة ربه حتى تفطرت قدماه وتبتل تبتيلاً, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه حاذوا بصحبته واتباعه والجهاد معه فوزًا عظيمًا وذكرًا جميلاً, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله رحمكم الله, واعلموا أن بيت المقدس والأرض المباركة في خطر عظيم, والعمل من أجل إنقاذها وتطهيرها فريضة شرعية وواجب ديني يستنهض عزم أبناء الأمة وبذل كل الجهود والوسائل لإحقاق الحق, ونصرة القضية.
في نصوص الكتاب والسنة ربط متين صريح للأرض المقدسة والأرض المباركة بأصلها الأصيل, وهو الإسلام, فهو مستقبلها, وبه حياتها, ولن يتم لها أمر أو يعرض لها شأن إلا من خلال دين محمد , إن هذا الربط يعطي لقضية القدس والأرض المحتلة ولكل قضايا الأمة إطارًا رحبًا وعمقًا عميقًا لا يتحقق من خلال نظرة إقليمية أو دعوة قومية.
مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس هي سر القوة التي جابت خيولها العالم.
أيها المسلمون إن الذي ينظر إلى القضية بمنظار القرآن لن يخدع أبدًا, فالقرآن الكريم يقول: أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون , ويقول: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين , ومن يتزود بزاد القرآن فلن يضعف أبدًا لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى , قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم.
ومن يتعامل مع قضاياه على هدي القرآن فلن يضل أبدًا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم , ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم , ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا , ومن صدق بما في القرآن فلن يتنازل عن حق أبدًا.
فإذا جاء وعد الآخرة ليسوئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرًا.
لكن مع الأسف أيها المسلمون إذا كان الإسلام ذاته في عقول بعض المسلمين وكتاباتهم وإعلامهم لا يستحق أن يحظى منهم بتفكير باهتمام بل إذا كانت العقيدة عند بعضهم أهون من الأرض, والشريعة أرخص من التراب, فهيهات أن تنتصر القضية أو يتنزل نصر.
يا هؤلاء, لا عودة للحق قبل العودة الصحيحة للإسلام, إن من سنن الله أن العاقبة للمتقين, وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون, ولكن من سننه أيضًا إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قومًا غيرهم ويأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
أيها المسلمون: النصر قادم لا محالة, بكم أو بغيركم, هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون , ودين الله منصور بكم أو بغيركم إن لا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير , والحق سيعلو على أيديكم أو أيدي غيركم يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
والباطل سيزهق بجهودكم أو بجهود غيركم هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم , ولكن لماذا لا يطلب المسلم الخير لنفسه؟ لماذا لا يكون ولبنة في طريق النصر وسهمًا من سهام الحق وأداة لإزهاق الباطل.
أيها المسلمون: مطلوب من أمة الإسلام بقياداتها وشعوبها, وهي على أبواب قمة تجمع قادتها وقد تبين لها من الأحداث ما تبين, مطلوب فعاليات مؤثرة ترفع الذلة وتثبت العزة, وتجمع الكلمة وتعيد الحقوق, وتعرف العدو من الصديق, وتقف صفًا واحدًا في مصالح أمتها وما يحاك من مؤامرات, إن الأمة التي لا تحمي مقدساتها بأغلى ما تملك من أنفس ونفيس لن تجد ما تحميه وتدافع عنه, وستبقى مستباحة الكرامة والحقوق والديار.
أيها المسلمون: إن من البشائر مما يبعث الأمل ويقوي العزائم هذا التفاعل الذي شهده المسلمون وقرت به الأعين, هذا التفاعل من الأمة كلها في الأقطار الإسلامية كافة, شعوبًا وقادة جراء هذه الاعتداءات الآثمة, إن هذا العدو الصهيوني المحتل الغاشم والمآسي التي يتعرض لها إخواننا في فلسطين.
لقد أبدت الأمة بقاداتها وعلمائها وساستها ومثقفيها أبدوا مواقف مشرفة من الاستنكار ورفع الأصوات عالية مسموعة بالتنديد وفضح الأعداء وعدم الوقوف مكتوفي الأيدي في نداءات وكتابات وتحليلات وإعلام ومواقف سياسية, ثم ذلك التفاعل في تقديم المساعدات والإمدادات المادية والفنية والاسعافية, وتأتي بلاد أم المقدسات, بلاد الحرمين الشريفين, لتكون في مقدمة الصفوف مع أشقائها البلاد العربية والإسلامية للقيام بواجب العون والدعم, ومهما قُدم ويقدم فليس بكثير ولا مستكثر, على مقدساتنا وإخواننا, ثم قبل ذلك وبعده ما يلهجه المسلمون من الدعاء لإخوانهم والصالحون في الأمة كثير إن شاء الله.
سبحانك ربنا رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1345)
انتفاضة الأقصى حدثاً وتعليقاً
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
سلطان بن حمد العويد
الدمام
الأمير فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما يحدث على أرض فلسطين يعتصر القلب منه. 2- الغرب يقف مع اليهود في معركتهم
ضد أرض الإسلام. 3- حزب الله الذلة على اليهود إلا إذا أمدهم الناس بأسباب العز. 4- لماذا
يريد اليهود السلام مع العرب. 5- لا حل لقضية فلسطين إلا بالجهاد. 6- مستقبل الصراع مع
اليهود للمسلمين. 7- ماذا نفعل تجاه الانتفاضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى, وهو القائل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
عباد الله: أمة الإسلام: في الوقت الذي كان كثيرًا منا ينظر إلى السحب ويسمع زمجرة الرعد منتظرين نزول المطر, يسأل بعضنا بعضًا عن وقت دخول الوسم طمعًا في الخير, كان بعض الصالحين يرى الغيوم السوداء ثم يقول: اللهم سلم سلم, اللهم سلم, سلم على أمة لا تعرف شيئًا عن شئونها.
لقد تقرحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجرى في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة, إن منظر الطفل ذي الأعوام الاثني عشر وهو يلفظ روحه الطاهرة البريئة, وتسيل دماؤه التي ستبقى شاهدًا على تفرج عالم بأكمله على مأساة لا تصدق, إن هذا المنظر من الصعب أن ينسى, وإن كل نفس مؤمنة أبية حرة حق لها أن تتساءل إلى متى هذا الذل؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل نصرة لإخواننا الفلسطينيين, ومتى يأتي الوقت الذي يخلى بين المسلمين وعدوهم ليشفي الله صدور قوم مؤمنين.
نعم أيها الأخوة المؤمنون, إنه أمر مؤلم وحدث مفزع لكنه ليس الأول, ليس الأول في عصر الإهانات, ليس الأول في عصر الخيانات, ولن يكون الأخير مادامت أمة الإسلام غارقة في تبعيتها لأعدائها, إلى متى تستمر عملية التجهيل المتعمد لهذه الأمة, إلى متى تغطى سوءات الأعداء؟ من المسئول عن سيلان الدماء, من المسئول عن أنين الشهداء, من الذي سيوقف هذه المهازل, من سيضمد جراح المصابين برصاص الغدر اليهودي, من يصدق؟ من يصدق؟ فئام قليلة من إخوة القردة والخنازير يسومون أمة تزيد على الألف مليون سوء العذاب.
نعم إنه يجب أن يعلم ويقال بصراحة: إن هذه الأمة لم تمكن أصلاً من مواجهة اليهود, ولم يمكن كثير من الذين تسيل دموعهم شوقًا إلى الجهاد في سبيل الله, لم يمكنوا من إظهار حقيقة جبن اليهود وأعوانهم, لابد لأمة أن تعلم أن الهزائم المتكررة المعاصرة على يد اليهود كانت هزائم أنظمة وليست هزائم شعوب, كانت هزائم لرايات جاهلية, ولم تكن الرايات في يوم من الأيام رايات إسلامية, وإذا علم السبب بطل العجب.
أيها الأخوة المؤمنون: إن دولة اليهود تمارس اليوم أنواعًا من الاستفزاز, الاستفزاز لجميع المسلمين على مرأى ومسمع من العالم كله, وبمباركة من الصليبين الغربيين, إن دورهم وهم قلة مع هؤلاء المجرمين من إخوانهم الصليبين, إنه دور الثعلب مع النمر, يقال في الأساطير: إن الثعلب زعم أن الوحوش تهابه, كما تهاب النمر, فكذبه النمر في هذا, فقال الثعلب ويمثل اليهود اليوم: البرهان أن تسير معي في الغابة وترى بعينك كيف تفر مني كلها, فسار النمر معه وكلما مر على حيوان هرب منه, لا من الثعلب, والثعلب يقول: هل صدقت الآن وهكذا اليهود مع ما يسمى بالنظام العالمي الجديد ومع مجلس الأمن ومع هيئة الأمم ومع الشرعية الدولية.
لقد أنزل الله القرآن مفصلاً مبينًا لما جبل عليه اليهود من كفر وعناد ولؤم وخسة وغدر وخيانة للعهود والمواثيق, مما جعلهم ممقوتين ملعونين مغضوبًا عليهم, فلا تجد في كتاب الله تعالى أمة طال الحديث عنها كهذه الأمة الخبيثة, فضح الله خبايا نفوسها وخبث طواياها وعداوتها للعالمين أجمعين وحقدها خاصة على أهل الحق في كل زمان ومكان فباوا بغضب على غضب ولعنوا على لسان محمد كما لعنوا على لسان داود وعيسى عليهما السلام, ومما ذكره الله في القرآن أن اليهود ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا إذا مد إليهم حبل المساعدة بعض الخونة من أمثالهم, فقال تعالى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس , ومن المعلوم أن اليهود شرذمة قليلون لكنهم لنا لغائظون, فمن الذي مد إليهم هذا الحبل, إنهم إخوانهم النصارى الذين هم صهاينة أكثر من الصهاينة, ويهود أشد من اليهود, ومع ذلك فهم قادة النظام الدولي الجديد, وسادة العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة كما يسمونها فهم يلبسون جلود النصارى على قلوب اليهود ويجتهدون لإطفاء نور الله تبارك وتعالى وإخلاف وعده, ورفع ما خفض الله, وخفض ما رفع الله, وإعزاز من أذل الله وإذلال من أعز الله ينصرون التلمود على القرآن ويعاونون قتلة الأنبياء على ورثة الرسالات, وسار في ركابهم من المنتسبين إلى الإسلام يهود من يهود العرب أذناب عميلة وفئام ذليلة إلا من رحم الله, انسخلت من دينها وكفرت بوعد ربها وكذبت خبر رسولها واستحوذ عليها حب الدنيا, فتجدهم أحرص الناس على المصالح الدنيوية ولو تحت أقدام اليهود, نسأل الله العافية.
أيها الأخوة في الله: إن أول خطوة لرفع الذل عن أنفسنا وعن إخواننا المسلمين هو أن نكون على بينة وأن يكون عندنا الوعي المطلوب المبني على شرع الله والفهم الصحيح لا السقيم لما يراد بنا نحن أمة الإسلام.
إن ما يسمى مشروع السلام, إن ما يسمى مشروع السلام لم يأت نتيجة لتغير الظروف الدولية كما يقولون وانحسار مرحلة الحرب الباردة كما يصور ذلك الإعلام الغربي وأذنابهم من وسائل الإعلام العربية, إن ما يسمى عملية السلام إنما هي عرض من أعراض التغير الأساسي للخطة الصهيونية للسيطرة على العالم كافة والمنطقة الإسلامية خاصة, إن هذه الخطة ببساطة قد تغيرت من فكرة إقامة دولة إسرائيل الكبرى إلى فكرة أخرى, أما الفكرة القديمة فقد اضطر اليهود إلى تغييرها لأن دولة اليهود وجدت نفسها بعد خمسين سنة من قيامها عبارة عن مركب من المتناقضات وكائن غريب في محيط من العداوات, فعلى المستوى الأمني لم تنجح دولة إسرائيل في السيطرة على ما احتلته من أرض فلسطين المباركة, فكيف تسعى لمزيد من الأراضي, وإن لبنان التي هي أضعف الجيران وأبعدهم عن العدوان ظلت مصدر قلق وإزعاج حتى بعد اجتياحها المعروف, أما المشكلة السكانية فهي تشكل أعمق المشكلات وأبعدها تأثيرًا, فكثير من اليهود لم تخدعهم الوعود المعسولة ممن يعيشون خارج الأرض المباركة, لم يسل لعابهم للإغراءات البراقة للهجرة إلى أرض تعج بالمساوئ الاجتماعية من اختلال الأمن, إلى الطبقية المقيتة, إلى التناحر الحزبي وكل ذلك مصداق لقول الحق تبارك وتعالى: لا يقاتلونكم جيمعًا إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى إن تجربة إسرائيل في الخمسين سنة الماضية أظهرت أنها أعجز ما تكون عن استئصال المقاومة بنفسها, فعمدت إلى عملائها الذين تولوا سحق الفلسطينيين في أماكن عديدة معروفة لمن يفقه الأحداث ويقرأ التاريخ الذي لم يزور , إن إسرائيل تنظر إلى ما يسمى بعملية السلام على أنه خيار لابد منه, نعم إن الذي يبدو في الظاهر أن المهرولين إلى السلام هم العرب ولكن ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
إن العرب أصلاً متى كان لهم خيار حتى يقال إن السلام هو أحد الخيارين لهم, والله المستعان.
إن الفكرة الجديدة لإسرائيل هي أن تضع يدها في أيدي عملائها ولو تنازلت عن بعض مخططاتها, ثم إن إسرائيل كي تقنع الإنسان الغربي المفتون بالديمقراطية وحقوق الإنسان لا تستطيع أن تظل ثكنة عسكرية وسجنًا كبيرًا إلى الأبد, إن اليهود يريدون فتح الحدود الثقافية والاجتماعية والاقتصادية إلى أن يصبح يهود إسرائيل في الشرق الأوسط كيهود نيويورك في أمريكا, وتصبح ثروات المسلمين ركازًا لهم وجامعات المسلمين ومؤسساتهم الثقافية أوكارًا لفكر اليهود وحواجزهم تزول كلها, وتريد أيضًا أن تكون حواضر المسلمين كلها مخصصة لتسويق بضائعهم, ويصبح عامة الشعوب العربية عمالاً كادحين لخدمة أنجس الناس وهم اليهود, هذا هو هدف السلام, هذا هو هدف السلام المزعوم مهما أغفلوه ومهما قنعوه, وإن شرح هذه المسألة يطول لكن اللبيب بالإشارة يفهم.
عباد الله: إن الحديث عن الحقوق المشروعة وعن القرارات الدولية الذي استنزف ويستنزف من الإعلام العربي ما يملأ البحار لم يجد أذنًا ولا بعض أذن كتلك التي أحدثتها انتفاضة الحجارة لأنها لغة القوة ولو كانت بالحجارة, إنها لغة القوة, رايات الجهاد بهذه اللغة وحدها يسحب الكفر أذيال الهزيمة وتنحني هامات الخواجات أمام مجموعات قليلة من الصادقين وليست أمام جيوش دولية, وإن أي خطاب لليهود وأمثالهم لا يستخدم هذه اللغة هو لغو من القول وزور من العمل, إن الغرب الذي يجرد الجمهوريات الإسلامية بعد ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي, إن الغرب الذي يجرد الجمهوريات الإسلامية من سلاحها النووي ويكدسه بيد روسيا الأرثوذكسية بل يزبد ويرغي إذا اشترت دولة عربية من الصين مثلاً إنه لن يرضى بأقل من أن نصبح نحن المسلمين خدمًا بين يديه كتلك الصورة التي نشرتها الصحف الغربية.
في يوم من الأيام نشرت بعض الصحف الغربية صورة للمسلمين وهم يمسحون حذاء رئيس حكومة اليهود, هذا هو تصورهم, إن كل ما حدث يا عباد الله ويحدث هو بقدر الله الذي لا يرد, وله فيه الحكمة البالغة مهما ادلهمت الخطوب وساءت الأحوال وسالت الدماء فالشهداء والجرحى سيبقون بإذن الله رمزًا للبطولة وشاهدًا حيًا على خيانة الخائن وجبن الجبان ونفاق المنافق, وإننا معشر المؤمنين لن نغير يقيننا لحظة واحدة أن النصر للإسلام وأن كيد يهود ومن وراء يهود أنه كيد هابط, كيد خاسر بإذن الله, نحن متيقنون أن قدر الله لا شر فيه محضا, وأن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله وأنه ما من محنة أصابت الإسلام إلا وهي متضمنة لمنحة إلهية كبرى, ولو لم يكن فيما حدث ويحدث من نصرة للحق واستبانة لسبيل المجرمين إلا سقوط أقنعة الزيف والنفاق التي ظلت عقودًا تضلل الأمة وتمتص قواها وتستأصل رايات الجهاد كل ذلك باسم قضية فلسطين, لو لم يكن إلا ذلك لكفانا والله.
عباد الله: إن انتفاضة الشعب الفلسطيني تثبت أن في الأمة طاقات وإمكانات كبيرة تستطيع فعل الكثير إن شاء الله إن أحسن استغلالها وتوجيهها, وإن مدعي العجز أمام التفوق الصهيوني مخدعون وخادعون, وإن العدو لا يرضخ إلا لمنطق القوة وإن طاولة المفاوضات هي عنوان الاستسلام وتخدير الشعوب, تثبت الأحداث الأخيرة أن للجماهير الإسلامية عاطفة جياشة لكنها مع الأسف في كثير من أحوالها بلا وعي, إن الثورة عند تهديد جدران المسجد الأقصى يجب أن تكون أكبر عند تعطيل كتاب الله وتعطيل سنة رسول الله , ويجب أن تكون أكبر إذا أريق أي دم مسلم وعلى يد أي مجرم عدو للإسلام والمسلمين, إن حرمة المسلم أكبر عند الله من حرمة بيته الحرام.
أيها الناس: إن قضية فلسطين مليئة بالملفات التي لم يتيسر لكثير من المسلمين إلى الآن أن يقرؤوها بوضوح وبجلاء دون خلط ودون غش ودون تلبيس, وإن الأمة إذا استمرت في إنغماسها في ملذاتها وتجاهلها لقضاياها المصيرية فإنها لن تخرج من حفرة إلا لتقع في هاوية والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم, أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله هل ستبقى الأوضاع سائرة على وفق المخطط اليهودي في تأسيس مملكة اليهود العالمية؟ لاشك, لا شك, ولا ريب أن الجواب: لا , دون تردد, فقد بشرنا رسول الله بمعركة فاصلة بينا وبين اليهود فقال : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبأ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) متفق عليه, ولكن مادام الناس على إعراضهم عن عبادة الله بمعناها الحقيقي فسيبقون مسخرين لجميع أنواع المتحكمين فيهم من يهود أو أذنابهم, وأما في الوقت الذي تقوم فيه أمة ترفع لواء الإسلام وتعيد سيرته الأولى فإن جميع من أمامهم من يهود وأعوانهم لا يستحقون أكثر من وصف الجرذان فلا يخيف والله اليهود ولا أتباع اليهود إلا العصبة المؤمنة العابدة لربها التي تجدد مجد أمتها وتعيد تاريخها وما ذلك على الله بعزيز.
أيها الأخوة في الله: يبقى السؤال مطروحًا ماذا يمكن أن نفعله تجاه هذه الأحداث التي تتكرر دائمًا؟ فنقول وبالله التوفيق يجب علينا عدة أمور منها:
أولاً: نشر الوعي العقدي في الأمة قاطبة والعقيدة الصحيحة على كافة المستويات لاسيما عقيدة الولاء والبراء, وأن نعلنها إسلامية, نعلنها أيها الأخوة أنها معركة إسلامية, وأن نعلم أن كل ما يحصل مع ما يسمى بإسرائيل فإنه لم يمثل فيه الإسلام ولم نسمع فيه: قال الله ولا قال رسوله أو أن القدس إسلامية, نعم إن القضية إسلامية لا تخص الفلسطينيين وحدهم ولا العرب وحدهم ولا المسلمين المعاصرين فقط, بل هي قضية إسلامية تهم كل المسلمين إلى قيام الساعة.
ثانيًا: يجب توحيد صفوف أهل السنة والجماعة في جميع أنحاء العالم على منهج صحيح واضح هو منهج السلف الصالح النقي الخالي من الشوائب.
ثالثًا: التنبه الشديد لمسألة التطبيع مع اليهود وأكذوبة السلام وإحياء الآيات والأحاديث, نعم لابد أن نحيي الآيات والأحاديث التي تبين موقف المسلم من اليهود والنصارى وتبين خبث اليهود وخبث النصارى.
رابعًا: يجب أن نبعث التفاؤل في الأمة, وأن نذكرها بوعد الله تبارك وتعالى حتى لا يدب اليأس إلى قلوب الكثيرين.
خامسًا: يجب علينا أن ننشط الدعوة إلى الله في كل مكان, وأن نرصد خطط الأعداء وحركات المتآمرين.
سادسًا: الوقوف الحقيقي بكل قوة مع الشعب الفلسطيني المقهور المظلوم الذي صودرت حريته داخل أرضه, وأن نمده إمدادًا متواصلاً بالدعوة إلى الله والكتب والمال وجميع المساعدات وكل ما يحتاجه في جهاده مع اليهود, وأن نحرص على إبقائه شوكة في حلق اليهود في الأرض المحتلة , وأن نسعى في زيادة عدده, وهذا ما يفقد إسرائيل توازنها البشري والسياسي والمعنوي, إن الغرب الفجار يتبرعون لإخوانهم اليهود في إسرائيل بمئات المليارات فأين نحن عن الفلسطينين والله المستعان.
وأخيرًا: يجب علينا محاربة الترف ومحاربة الإسراف والفراغ الذي تعيشه هذه الأمة, وأن نحشد كل طاقاتنا لمواجهة هذا العدو الحقود, إن المعركة يا عباد الله ليست معركة غالب مغلوب, ولكنها معركة وجود أو عدم.
لابد أيها المسلمون من إعادة الفريضة الغائبة فريضة الجهاد في سبيل الله لابد أن نمتثل قوله تبارك وتعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم لابد من التربية الجهادية, لابد أن يعلم كل أحد ينتمي إلى الإسلام أن العزة لهذه الأمة مربوطة بالجهاد في سبيل الله, ولابد أن نحفظ أنفسنا ونساءنا وأطفالنا وشيوخنا قول النبي : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
(1/1346)
اليهود خونة العهود
أديان وفرق ومذاهب, موضوعات عامة
أديان, جرائم وحوادث
محمد بن صالح المنجد
الخبر
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص لعن اليهود كما جاءت في الكتاب والسنة. 2- صورة مما يصنعه اليهود بإخواننا
في فلسطين. 3- صور في ثبات إخواننا رغم ضعفهم. 4- الأحداث أيقظت الأمة من سباتها.
5- كيد الإعلام الغربي لقضية شعبنا المسلم. 6- مقتل الطفل محمد جمال الدرة وأثره في
اليقظة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: هذه الأمة الملعونة في كتاب الله, وعلى لسان رسول الله ورسل الله من قبل, هي الأمة التي تعتدي اليوم على مقدسات المسلمين، وعلى دمائهم وبيوتهم, وأولادهم, هي الأمة الملعونة، التي لا ترقب في مؤمن إلاّ ولا ذمة.
اليهود خونة العهود, فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ، ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، اليهود ليست لهم عهود, اليهود خونة العهود, هؤلاء هم اليهود لمن لا يعرف اليهود.
القضية قضية تاريخية, المسألة مسألة شرعية, القضية قضية عقائدية, اليهود لا يمكن مسالمتهم أبدًا وليس لهم عهد ولا ميثاق رغم أنف الذين يريدون أن يعقدوا معهم عهدًا وميثاقًا, فهم يهود مثلهم, اليهود لا يؤمن شرهم, اليهود لا يؤمن مكرهم, اليهود خلق نجس ورجس شيطاني, اليهود أعوان إبليس، اليهود سبب شقاء البشرية مع غيرهم من ألوان الكفر والشرك في الأرض, يقودهم إبليس إلى جهنم وبئس المصير, اليهود أعداؤنا كرههم في قلوبنا, جهادهم عبادتنا وقربتنا إلى الله, اليهود لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
هؤلاء الذين أظهر الله مكرهم, أظهر الله بغضهم, كشف الله سترهم وشرهم, وجعلهم باستمرار أعداءً للمسلمين, وتثبت الأحداث التي يقدرها رب العالمين استمرار عداوة اليهود للمسلمين, وكلما قارب السلم المزعوم على الانعقاد يجري الله حدثًا فيقدم هؤلاء على إطلاق النار على المصلين في المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة الماضية.
كان المسلمون في بني خزاعة, ولمّا أغارت بنو بكر المشركون عليهم استغاثوا بالله ربهم, وتوجهوا لنبيهم في المدينة يطلبون المدد ويقولون :
هم بيتونا بالوتيد هجدًا وقتلونا ركعًا وسجدًا
فجيش النبي عليه الصلاة والسلام عشرة آلاف مقاتل للانتقام لهم, وكان سبب فتح مكة, فمن ذا الذي ينصر المسلمين في المسجد الأقصى واليهود يطلقون النار على المصلين, ولا ندري ماذا سيحدث في هذه الجمعة.
أيها الأخوة,الله سبحانه وتعالى يقول: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ، ولما صار هذا التدافع بين المسلمين واليهود ظهرت أمور كثيرة, فكان قتل سبعين من المسلمين وجرح أكثر من ألف وخمسمائة مسلم بكل أنواع الأسلحة لم يوفر اليهود سلاحًا عندهم للمجابهة إلا واستخدموه, حتى الصواريخ, لقد قتل مسلم بصاروخ وكذلك تشتت لحمه, وتبعثر جسمه وتفرق دمه حتى لم يعد أهله يستطيعون أن يتعرفوا عليه، وهكذا رصاص الطائرات المروحية التي تطلق على المسلمين في أرض فلسطين, فيتساقطون ـ فيما نرجوا لهم شهادة عند الله عز وجل ـ, إنزال مظلي وفرق متخفية, وكذلك دبابات وتعزيزات, وتحصينات, وهكذا يخترق جيش اليهود أراضي المسلمين ليعلم أهل النفاق أنه ليس لليهود أمان, وأنهم لا يحترمون عهدًا ولا ميثاقًا, إن التشوهات التي أصابت أجساد المسلمين من رصاص الدمدم والقنابل الانشطارية, والأشياء التي يزعمونها محرمة دوليًا, والله عز وجل حرم الاعتداء وسفك الدماء بأي وسيلة كانت, إن ما يحدث هذا أيها الأخوة في شهر رجب الذي نعيش أيامه هذا الوقت, هذا الشهر الحرام سفكوا فيه دماءنا, هذا الشهر الحرام أحد أربعة شهور هي الأشهر الحرم, أعظم الشهور عند الله, هكذا لم يوفر شهر حرام ولا دم حرام, وهكذا حصلت الإعتداءات, لقد أظهر هذا الحدث بشهادة الجميع حتى الكفار أمورًا متعددة, لقد صرحوا بأنه فاجأ العالم بأمور كثيرة ومن ذلك أيها الأخوة:
البطولة العجيبة التي أظهرها المسلمون في أرض فلسطين, فيتصدى بالحجارة هؤلاء المسلمون لليهود المتترسين المتصفحين الذين يطلقون الرصاص الحي وغيره على المسلمين, فأي شجاعة؟ وأي جرأة تلك التي انبعثت في المسلم الذي يتصدى للرصاص بالحجارة, ولو كان يا ترى عند المسلمين سلاحٌ كيف كان الأمر, إذًا هذه الأمة قابلة للعمل وقابلة للإحياء, وقابلة للتصدي, وقابلة للجهاد, وفيها جرأة, وفي أفرادها شجاعة, تنقصهم قيادة راشدة, وخطة حكيمة, وإعداد جيد, واستعداد على منهج الآية: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة.
لم يهرب المسلمون عند أطلق اليهود الرصاص عليهم, بقوا في الشوارع يذهبون يجرون يركضون, يغيرون مواقعهم, يصعدون الأسطحة, يرشقون بالحجارة, بالمقلاع, بقذائف المولوتوف, بما تيسر, تقدم الأسر القتلى تلو القتلى, ويصعدون الأسطحة لقلع الأعلام الإسرائيلية.
لقد ظهرت أمور عجيبة, ومن ذلك شجاعة الصبيان, وهذه قضية بالتأكيد قد فاجأت اليهود أنفسهم, فلا ينسى العالم مشهد ذلك الصبي ذي الأربعة عشرة عامًا الذي صعد السطحاء لكي يقلع العلم اليهودي الإسرائيلي والطائرات المروحية تلاحقه, وزخات الرصاص تحاصره, والقناصة الإسرائليون من النوافذ يطلقون النار عليه, ويمضي وهو مصاب بعدما اقتلع العلم ليركض خمسة وأربعين دقيقة في الشارع حتى يتم إنقاذه وأخذه إلى المستشفى وهو ينزف.
لقد ظهرت أيها الأخوة, لقد ظهرت شجاعة الأطفال, فإذا كان هذا هو شأن الأطفال, فما هو شأن الرجال؟ ولو وجدت راية إسلامية وسلاح بأيديهم, ماذا كانوا فعلوا إذًا؟ لقد ظهر التلاحم بين المسلمين, ما كان اليهود ليحسبوا حساب عرب إسرائيل في حدود عام ثماني وأربعين ـ كما يسمونها ـ أن يقوموا بمثل هذا العمل, فإذا بهم يتصاعدون لمآزرة إخوانهم وراء الخط الأخضر المزعوم لإثبات أن الإسلام هو النشيج الذي يربط بين هؤلاء جميعًا, وهكذا قدموا أيضًا قتلى, وظهر أن الهوية الإسرائيلية التي منحها اليهود لعرب الثماني وأربعين لم تجد في تغيير ولائهم, بل تصاعد المد الإسلامي بينهم ليكونوا لحمة مع المسلمين في الطرف الآخر, وهكذا قام المسلمون في عدد من البلدان يتظاهرون تأييدًا لإخوانهم المسلمين في الداخل, وسمع كلامٌ ـ لم يكن يسمع من قبل ـ في قضية إعلان الجهاد, وأنه الحل الوحيد, ونبذ الاستسلام والسلام الموهوم, والعودة إلى أن الذي أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
أيها الأخوة: إن هذا التخطيط المسبق من اليهود لهذه القضية التي حصلت, وهذه الجرائم التي صارت ـ فعلاً ـ أيقظت في نفوس المسلمين الحمية, إن هذه الأمة التي جرى تنويمها بالأفلام والملاهي والألعاب وغير ذلك من ألوان الترف, والتي جرى تخديرها بالمغنيين والمغنيات, والراقصين والراقصات, والممثلين والممثلات, والسياحات والسفريات, وغير ذلك من أنواع الملهيات, إنها لتستيقظ اليوم وهي ترى هذه الدماء في أرض فلسطين حتى اضطرت بعض جهات الفسق إلى تغيير برامجها مواكبة للحدث, ومراعاة لمشاعر الجماهير كما يقولون, فأصبحت بزعمهم أكثر جدية من ذي قبل, وهذه ملاحظة مهمة أن تكون القضية فرضت نفسها بحيث أنهم اضطروا إلى أمور من تغيير البرامج مواكبة للحدث.
أيها الأخوة: إن مشاركة المسلمين لإخوانهم في المشاعر والتعبيرات التي ظهرت في الشارع الإسلامي جميعه تدل على أن مفهوم الجسد الواحد يمكن أن يعود, وكذلك فإن ارتفاع الأصوات التي تدعو إلى الجهاد تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ذلك هو الخطوة القادمة لهذه الأمة, وأنه لا مناص منها إطلاقًا, الجهاد أمر يفرض نفسه لأن هذا الاحتلال لأرض الوقف الإسلامي أرض فلسطين التي لا يجوز التنازل عن شبر منها لا يمكن إزالته إلا بالجهاد, وأن الانتقام لله من هذه الشرذمة الذين قالوا يد الله مغلولة, وليست القضية قضية قديمة حتى هذا عوخوفيا يوسف كبير حاخاماتهم يقول: إن الله ندم على خلق الفلسطينين, فسب الله مستمر من اليهود قديمًا وحديثًا, أمة واحدة ملعونة, وخط مستمر ملعون في التاريخ من أول ظهورهم هكذا كانوا يقتلون الأنبياء ويعيثون في الأرض فسادًا ويسبون الله تعالى, وضعوا السم للنبي عليه الصلاة والسلام وتآمروا عليه وعلى المسلمين, واشتركوا في المؤامرة مع كفار قريش والمنافقين, الخيانة مستمرة, والقضية مستمرة, وكما حلت بالجهاد في الماضي لا تحل إلا بالجهاد في الحاضر.
أيها الأخوة: لقد رأينا وقاحتهم وهم يطلبون من الفلسطينين الكف عن إطلاق النار وضبط النفس, ضبط نفس, أي ضبط نفس في هذا الموضوع, وكيف يملك أن يضبط نفسه من يرى أفراد أسرته يقتلون؟ ومنزله وغرف بيوته تهدم بقذائف صاروخية, ثم يقولون: ضبط النفس.
ورأينا أيها الأخوة كيف تآمر الإعلام الغربي النصراني الحاقد مع الإعلام اليهودي, وبينهما نسب كبير في قضية طمس الصورة الحقيقة وتشويه الأحداث, فالتركيز مثلاً على صور لفلسطينيين قلة وندرة يطلقون رصاصًا من مسدس أو بندقية لكي يظهروا للعالم ويوهموا الناس أن القضية قضية حرب جيشين, أي جيشين؟! ومن هو الجيش الآخر؟! معظم الناس الذين اشتركوا من المسلمين بالحجارة وبأيديهم, ولو كانت الأسلحة موجودة فعلاً بأيدي مؤمنين حقًا لتغيرت النتيجة منذ أيام وانقلبت القضية.
أيها الأخوة: إن هذه الفظائع التي حدثت كان لها أثر في النفوس, ونقول دائمًا ليس في أفعال الله شرٌ محضٌ, لابد أن يوجد فيه خير بوجه من الوجوه. يقول الناس: الخسائر ضخمة, سبعون قتيل, وألف وخمسمائة جريح ومنازل متهدمة, نقول: لكن الوعي الذي أحدثته هذه الدماء في الأمة كبير جدًا, المكسب في الوعي وإيقاظ الإيمان والنفوس المتخدرة أكبر بكثير من التكلفة التي حصلت والله غالب على أمره, والله عز وجل يحدث في الواقع من المفاجأت ما تربك اليهود, ويمكرون ويمكر الله, يخادعون الله وهو خادعهم، بالتأكيد إنهم لم ولن يكونوا قد حسبوا لهذه المسألة تلك الحسابات, ولذلك هنا يبرز أهمية الإعلام الإسلامي الحقيقي عندما يقدم صورة للناس.
تأملوا أيها الأخوة في كاميرا ذلك الفلسطيني الذي صوبها بمهارة على محمد جمال الدرة وهو يقتل بجانب والده, ووالده يتوسل لهم, لقد أقضت الصورة مضاجع العالم, لكن هذه صورة, فأين بقية الصور؟ صورة واحدة فعلت هذا الفعل في العالم, والشجب والاستنكار والغثيان والاشمئزاز من أفعال اليهود, وهنالك صبيان آخرون قد قتلوا مثله ولكن لم تدركهم الكاميرات, هذه اللقطة, أنا متأكد أن اليهود كانوا سيدفعون مبالغ طائلة جدًا جدًا لمنع انتشارها ومنع عرضها لو استطاعوا فعلت هذا الفعل, فماذا كان سيحدث إذًا صورت المناظر فإذا الباقية.
أيها الأخوة إن اليهود يراهنون على أن القضية ستكون زوبعة في فنجان, وأننا لا نلبس أن نهد وأن ننام, وأن يقوم القوم لمصافحتهم وتقبيل شواربهم, وتوقيع اتفاقية السلام, لكننا نؤمن بالله وأنه على كل شيء قدير وأن الله يقلب عليهم مخططاتهم, وأن الله قادر على ايقاظ الأمة التي يراهنون على عودتها إلى النوم من جديد.
أيها المسلمون: لقد أيقظ الحدث في نفوسنا أمرًا مهمًا جدًا, أيقظ أمرًا مهمًا في نفوس المسلمين وهو الرغبة في الانتقام, هذه القضية يخشاها اليهود جدًا جدًا, أن يوجد عند المسلمين رغبة حية متصاعدة متدافعة في الانتقام, إنهم يريدون السلام لكي لا يحصل الانتقام؛ لأن دولتهم لا يمكن أن تواجه الانتقام ولكن الانتقام رغبة متحققة متجدرة متأصلة في نفوسنا ونفوس المسلمين الذين عرفوا بالأحداث وشهدوها.
أيها الأخوة سيستغل القضية المنافقون والعلمانيون والمشركون والباطنيون والقوميون, وأصحاب البدع الكفرية سيستغلون قضية الحدث وما صار في المسجد الأقصى, فهؤلاء يجب إسكاتهم وعدم الالتفات إليهم, وإنما الالتفاف حول من يتكلم عن إسلامية القضية؛ لأن القضية لا يمكن أن توصف إلا بأنها إسلامية؛ لأن أي شعار آخر للقضية فهو كاذب, لأنك لو قلت أن القضية قضية عربية والعرب فيهم نصارى وفيهم كفار ومرتدون وزنادقة وملاحدة واشتراكيون فما علاقتهم بالمسجد الأقصى؟ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون , لقد تعالت أصوات المسلمين تدعو للعمل قائلة:
طلقوا الكلام ودعوا القرطاس فكلامهم قذائف وأقلامهم رصاص
إذًا أيها الأخوة لقد أحسسنا فعلاً بأجواء جهادية, وقد طار النوم عن كثيرين, واستيقظت مشاعر دفينة, وتأججت في النفوس مشاعر كانت مطموسة وكانت مغلق عليها بالشهوات.
وهذا الذي نريده أيها الأخوة, أن يزيل المسلمون غبار النوم عنهم, أن يتركوا الانغماس في الشهوات, ويقوموا لتربية أولادهم على الجهاد, هذه هي الفائدة الكبيرة من الموضوع, تربية الأولاد على الجهاد وكره اليهود والنصارى والكفار, تربية الأولاد على الجهاد وإحياء جذوته في نفوسهم, هذا هو المطلوب الآن والاستعداد لما سيجد في المستقبل.
اللهم إنا نسألك أن تخزي اليهود والنصارى, اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين, اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن الله ولي المؤمنين, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين.
عباد الله: إن الشعار العظيم الذي يرفعه المسلمون ويتأجج من حناجرهم:
خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود
هو الذي يرهب اليهود حقًا, إن اليهود لا يريدون إطلاقًا أن يتحول الحدث إلى عاصفة توقظ الأمة من رقادها, إنهم لا يريدون إطلاقًا أن تتعالى صيحات الجهاد, إنهم لا يريدون أبدًا أن يكون المسلمون يدًا واحدة, فقد فاجأهم الحدث حقًا في نتائجه وما يترتب عليه.
إنني أجزم أيها الأخوة أنهم لم يكونوا يحسبون حسابًا لتلك اللقطة التي حصلت لذلك الطفل الذي قتل بجانب أبيه, ولا لتلك الطفلة ذات الثماني عشرة شهرًا التي تعمد مستوطن يهودي مجرم أن يطلق عليها الرصاص, وهي في مقعد سيارة أبيها, فماذا تفعل طفلة عمرها ثماني عشرة شهرًا, طفلة رضيعة ماذا تفعل؟ وهل تملك أن تجري وأن تهرب حتى, وأن تدافع عن نفسها, ولكن هذه طبيعة اليهود أرانا الله إياها, هذه طبيعتهم, وهذا غدرهم, ثم يقولون إن المستوطنين في نتساريم غير قادرين على التجول, والخروج إلى وظائفهم, مساكين!! وأما هؤلاء الذين يُصلون نار الرصاص فلا عليهم شيء ولا بأس بزعمهم
محمدًا أي ذنب جئت تحمله حتى قتلت على عين الملايين
يا درة المجد قد فجرت في شرف شرارة الثأرفي وجه الشياطين
محمدًا أي جرح صرت في كبدي وماذا بعد هذا الخطب يبكيني
كأنما طلقات الحقد في جسدي والهم يفتك بي فتك السكاكيني
يا للأبوة والأشجان تخنقها والموت يبرق من أنياب تنيني
ماذا أثرت على الوجدان من شجن والقدس قبلك مغلول الذراعين
وخلف صوتك أصوات معذبة من ليل صبرا وذكرى دير ياسيني
وفي جفونك أحزان مسطرة للأرض والعرض والإحراق والهون
دموع عينيك تحكي ألف مجزرة من صنع جولدا ومن أيام شاروني
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء؟ وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي المياميني
ألا نفوسٌ إلى العلياء نافرة تواقة لجنان الحور والعيني
كرامة الأمة العصماء قد دبحت وغيبت تحت أطباق من الطين
لكنها سوف تحيى من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايين
نفديك بالروح يا أقصى وحي هلا بميتة في سبيل الله تحيني
تهون للقدس أرواحٌ وأفئدةٌ وكل حبة رمل من فلسطيني
لكل خطب عزاء يستطاب به لكن إذا ضاع قدسي من يعزيني
أيها الأخوة: لقد كانت حادثة قتل الطفل شرارة فعلاً وكذلك الأطفال الذين قتلوا والأرواح التي أزهقت, والدماء التي سالت والبيوت التي خربت, هكذا توقظ فعلاً أقدارُ الله التي يجريها في الواقع, توقظ القلوب الميتة, وتحي النفوس التي طالت صدؤها في مستوقع الرذائل وتقول للمسلمين: انهضوا من الشهوات, يا جماعة, يا أمة, يا ناس, يا عالم, تجرون وراء الشهوات والأقصى يحدث ما يحدث فيه من قتل المصلين, وتلتهون بالمحرمات, خمر وزنا وفضائيات عاهرة, وأفلام ومسرحيات ومسلسلات, وملاهي وهكذا يفعل بالمسلمين, فأين الخير فيكم إذًا؟!
هكذا تهتف الأحداث بنفوس المسلمين, فنسأل الله عز وجل أن يجعل من هذا الشهر العظيم شهر نصر للإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
(1/1347)
فضل الشهادة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
23/7/1421
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سمو الغاية يستلزم سمو البذل والثمن. 2- بذل النفس أعظم ثمن للجنة. 3- منزلة الشهيد
وفضل الشهادة. 4- نماذج من شهداء الصحابة. 5- وللشهادة موكب في عصرنا هذا. 6- دعوة
لنصرة إخواننا في فلسطين والتحذير من خذلانهم. 7- تضليل الإعلام الغربي وتشويهه لحقيقة
ما يصفه إخواننا في فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله خير زاد يصحب المرء في حياته الدنيا وفي سيره إلى الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون: إن بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها, ولا ريب أن سمو الأهداف وشرف المقاصد ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقي منازلها, وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى ورجاء الحظوة بالنعيم المقيم في جنات النعيم, فإن الذود عن حياض هذا لدين والذب عن حوذته والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته يتبوأ أرفع درجات هذا الرضوان, ثم إن للتضحيات ألوانًا كثيرة ودروبًا متعددة, لكن تأتي في الذروة منها التضحية بالنفس, وبذل الروح رخيصة في سبيل الله لدحر أعداء الله ونصر دين الله, وذلك هو المراد لمصطلح الشهادة والاستشهاد.
ولقد جهد رسول الله كل جهد, واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم, وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ثم في نفوس أمته من بعدهم, سالكًا في ذلك مسلكين:
أحدهما: إفصاح بين وإيضاح جلي لما يعتمد في ذات نفسه الشريفة من حب عميق للشهادة حمله على التمني أن يرزق بها مراتٍ متعددة, فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثم أغزو فأقتل, ثم أغزو فأقتل)) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, وإنها لأمنية يا لها من أمنية كيف انبعثت من هذا القلب الطهور معبرة أبلغ التعبير عن هذا الحب العميق, والشوق الغامر إلى هذا الباب العظيم من أبواب جنات النعيم.
والمسلك الثاني في ترسيخ مفهزم الشهادة وإحيائه في القلوب وبعثه في النفوس ما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السنة الشريفة من بيان محكم وإيضاح دقيق لفضل الشهادة ومنازل الشهداء في دار الكرامة عند مليك مقتدر, في الطليعة من ذلك بيان صفة حياة الشهداء عند ربهم, فعن مروان أنه قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون , فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله فقال: ((أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل)) , الحديث أخرجه مسلم في صحيحه.
ومنها أن للشهيد عند ربه ست خصال جاءت مبينة في حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دُفعة ـ والدفقة بضم الدال المهملة هي الدفعة من الدم وغيره ـ ويرى مقعده من الجنة, ويجار من عذاب القبر, ويأمن من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها, ويُزوج اثنتين وسبعين من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقاربه ـ وفي لفظ ـ من أهل بيته)) أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح.
ومنها أنه يخفف عنه مس الموت حتى إنه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مس القرصة, وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)) , ومنها أن باب الشهداء في الجنة أحسن الدور وأفضلها, فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارًا هي أحسن وأفضل لم أرَ قط أحسن منها قالا لي: أما هذه فدار الشهداء)).
ومن ألوان الكرامة أيضًا أن الملائكة تظله بأجنحتها؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "جيء بأبي إلى النبي ـ أي شهيدًا يوم أحد ـ قد مُثل به فوضع بين يديه فذهبتُ أكشف عن وجهه فنهاني قومي فسمع, أي النبي , فسمع النبي صوت صائحة فقال: ((لما تبكين؟ فلا تبكي مازالت الملائكة تظله بأجنحتها)).
ولهذا كله كان الشهيد وحده من أهل الجنة هو الذي يحب أن يرجع إلى الدنيا كما في حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا, وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة)) , وفي رواية: ((لما يرى من فضل الشهادة)) أخرجه البخاري ومسلم.
وليس عجبًا إذًا أن يجد هذا البيان النبوي الرفيع صدًا ضخمًا وأثرًا بالغًا وسلطانًا قويًا على نفوس تلك الصفوة المختارة, والصحبة التقية من الصحابة الكرام الأعلام, فتوطدت في نفوسهم أعمق معاني الشهادة, وترسخت في قلوبهم أسمى درجات الحب لها والولع بها والعمل الدؤوب لبلوغ مقامها, والتنعم برياضها.
وفي صحيح السنة من أخبار هذا الشوق الظامئ, والحب الطهور الذي أكرم الله به هذه الكوكبة المؤمنة والطليعة الراشدة, ما لا يحده حد, ولا يستوعبه بيان, فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: انطق رسول الله وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون فقال رسول الله : ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونكم)) , فدنا المشركون فقال رسول الله : ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)) , فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله إلى جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم)) , قال: بخ بخ, قال: ((ما يحملك على قول بخ بخ)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها, فقال: ((فإنك من أهلها)) , فأخرج تمرات من قرنه ـ وهو جعبة النبال ـ فجعل يأكل منهن, ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل.
فانظروا رحمكم الله كيف استبطأ رضي الله عنه الشهادة لتأخرها عنه دقائق معدودات, ولقد كانت كلمات بعضهم عند الشهادة صرخات مدوية زلزلت قلوب قاتليهم, وحملتهم على الدخول في دين الله, هذا حرام بن ملحان رضي الله عنه أحد القراء الذين بعث بهم رسول الله يدعون قومًا من المشركين إلى الإسلام, ويقرأون عليهم القرآن, فغدرت بهم رعل وذكون من قبائل العرب وقتلوهم عند بئر معونة, فهذا حرام يصيح عند الاستشهاد في وجه قاتله: فزت ورب الكعبة, وأدبر قاتله من المشركين بعد إسلامه وسأل عن معنى ذلك فقيل له إنه قصد الشهادة فكانت سببًا في إسلام هذا القاتل, أخرج هذه القصة البخاري في صحيحه.
وكان بعضهم يأتيه من روح الجنة وريحها ما لا يملك معه إلا شدة الإقبال على القتال وعلى الاستبسال فيه, فهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع, فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء, يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين, ثم تقدم, واستقبله سعد بن معارذ رضي الله عنه فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول ما صنع, قال أنس: ووجدنا به بضعًا وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح, أو رمية بسهم, وجيء به وقد مُثل به فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه أخرجه البخاري ومسلم.
ثم استمعوا رعاكم الله إلى خبر هذا الأعرابي المسلم كيف صدق الله في طلب الشهادة فصدقه الله وبلّغه ما أراد, فقد أخرج النسائي في سننه بإسناد صحيح عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك فأوصى به النبي بعض أصحابه فلما كانت غزاة غنم النبي فقسم وقسم له ـ للأعرابي ـ فأعطى أصحابه ما قسم له, وكان ـ يعني الأعرابي ـ يرعى ظهرهم يعني إبلهم, وما يركبون من دواب, فلما جاء دفعوه إليه, فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي فأخذه فجاء به إلى النبي فقال: ما هذا؟ قال: ((قسمته لك)) , قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك, ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة, فقال النبي : ((إن تصدق الله يصدقك)), فلبثوا قليلاً ثم نهضوا إلى قتال العدو فأتي به النبي يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي : أهو هو؟ قالوا: نعم, قال: ((صدق الله فصدقه)) , ثم كفنه النبي في جبته, ثم قدمه فصلى عليه, وكان مما ظهر من صلاته : ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك فقتل شهيدًا, أنا شهيد على ذلك)).
وأي شهادة يا عباد الله أرفع وأسمى وأصدق وأخلص من هذه الشهادة الكريمة العظيمة, وكم في حياة السلف أيها الأخوة من صور هذا الحب العاطر والشوق الظامئ إلى الظفر بمقام الشهادة, ياله من مقام, وهكذا مضت على بذل الشهادة المضئ كواكب متتابعة وقوافل متعاقبة من الشهداء الأبرار الذين بدمائهم الزكية أروع صحائف التضحية والبذل وأرفع أمثلة العطاء والجود, إنه الجود بالنفس, وهو أقصى غاية الجود, فهاهم شهداء المسلمين في البوسنة والهرسك, وفي كوسوفا, وفي الشيشان, ومن قبل في أفغانستان, وفي غيرها من ديار الإسلام, وها نحن اليوم نرى بأم أعيننا, نرى ويرى العالم كله معنا هذه الصور العظيمة المتجددة من صور الانتفاضة والشهادة ـ إن شاء الله ـ على أرض بيت المقدس, وعلى كل أرض فلسطين المسلمة الصابرة, إننا في حاجة يا عباد الله إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشهادة وتبعث في روحها حب الاستشهاد من جديد سيرًا على درب السلف رضوان الله عليهم, ذلك الدرب الذي سلكه من قبلهم رسول الله والأنبياء من قبله نصرًا لدين الله ودحرًا لأعداء الله.
فيا أيها المسلمون في كل أرجاء الدنيا: النصرة النصرة, انصروا إخوانكم في بلاد الأقصى؛ فإن نصرهم فرض متعين عليكم فلا تخذلوهم, واسمعوا لقول نبيكم صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول : ((ما من مسلم يخذل امرئً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته, وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)) حد ينصري أخرجه الإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه بإسناد حسن.
ويا أهل العلم, وقادة الفكر والرأي في الأمة, جردوا أقلامكم وابسطوا ألسنتكم في إحياء معنى الشهادة والاستشهاد وتعميق مفهومها في النفوس, وترسيخه في سويداء القلوب بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية, وإنما رأيناه في هذه البلاد المباركة, بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله من صور البذل السخي, والعطاء المتدفق المنبعث من مختلف المستويات, قادة وعلماء ومسئولين, رجالاً ونساءًا, شبابًا وشيوخًا وأطفال, كل ذلك مما يفرح به المؤمنون, وَيشْرَق به الكافرون الحاقدون من اليهود الطاغين, ومن شايعهم وأيدهم وناصرهم وناضل دونهم من المستكبرين المتجبرين, وهكذا ما وقع في بلاد المسلمين قاطبة من صور النصرة والمساندة لإخوانهم في فلسطين فجزى الله خيرًا كل من بذل من نفسه وأو ماله لله ولنصر إخوانه في الله, ونسأله سبحانه أن تواصل هذه المسيرة المباركة طريقها في البذل والعطاء والفداء, فإلى المزيد, إلى المزيد, فالبدار البدار إلى جنة عرضها السموات والأرض, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم , نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة رسوله , أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الشهادة بابًا من أعظم أبواب الجنة, دار السلام, أحمده سبحانه, حث الأمة على المضي في درب الشهادة في سبيل الملك العلام, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله, خير من ضرب الأمثال في حب الشهادة, وفي بذل التضحيات العظام, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأبرار الأعلام وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا عباد الله: لقد ذأبت بعض أجهزة الإعلام الأجنبية على تسمية ما يصدر من إخواننا المسلمين الصابرين في بيت المقدس, وفي كل فلسطين من تصدٍ لعدوان اليهود ـ لعنهم الله ـ ومن تحدٍ لطغيانهم وبغيهم وتجبرهم, دأبت هذه الأجهزة الإعلامية الأجنبية على تسمية هذا التحدي والإقبال والاستبسال وعلى وصفه بأنه أعمال عنف, وابتنت عليه الدعوة إلى وقف أعمال العنف وإلى الاستماتة في محاولة إيقافها, وهذا يا عباد الله من تحريف الكلم عن مواضعه, وهؤلاء اليهود المجرمون هم أصحاب هذه الصفة المقبوحة التي سجلها عليهم كتاب الله, وهو أيضًا من تسمية الأشياء بغير أسمائها خداعًا, وتضليلاً منهم ومن أشياعهم من قوى الاستكبار والطغيان, فإن ما يقوم به إخوانكم المسلمون في فلسطين لا يسمى أعمال عنف ـ كما زعموا ـ بل انتفاضة مباركة لصد العدوان وقمع الباطل ودحر الطغيان, وهذا حق مشروع في جميع الشرائع الإلهية وفي كل الأعراف والقوانين الدولية, لا يملك إنكاره ولا دفعه إلا جاهل مكابر, أو مغرض خبيث, فكيف أيها المسلمون تسمى هذه الانتفاضة المباركة أعمال عنف, وإذا سلمنا جدلاً بأنها أعمال عنف, فمن هو الذي أشعل نارها وأذكى أوارها وألهب جذوتها أول مرة؟ ألم يكن أحد زعمائهم, ألم يكن هذا المشعل المفسد هو أحد زعمائهم حين اقتحم بجنوده حرمة المسجد الأقصى المبارك, وحين أطلق جنوده النار على الركع السجود, إن الحق بيِّن, وكيف يساوى بين الجلاد والضحية, وبين الظالم والمظلوم وبين المعتدي والمعتدى عليه, إن الحق يا عباد الله بيِّن, والحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار, لكنه الخداع والتضليل, والمغالطة والمكابرة يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله فقد أُمرتم بذلك في كتاب الله حيث قال سبحانه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا , اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد, وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وعن سائر الآل والصحابة والتابعين, ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون , فاذكروا الله يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.
(1/1348)
الإخلاص
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصاً. 2- ما هو الإخلاص. 3- النية مع العادة تجعلها
عبادة. 4- تفاضل الأعمال بعمل القلوب. 5- خوف السلف الصالح من الرياء. 6- الأخفياء
بصالح العمل. 7- المسمعون بأعمالهم المرءون بها. 8- ثلاث مسائل دقيقة في الرياء
والإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: إن الإخلاص هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة المرسلين قال تعالى: ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه)) [رواه مسلم].
وقال : ((من تعلم علماً بما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة (يعني ريحها) يوم القيامة)) [رواه أبو داود]. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.
أيها الأخوة في الله: قد يقول قائلكم ما هو الإخلاص الذي يأتي في الكتاب والسنة واستعمال السلف الصالح رحمهم الله.
فأقول: لقد تنوعت تعاريف العلماء للإخلاص، ولكنها تصب في معين واحد ألا وهو أن يكون قصد الإنسان في حركاته وسكناته وعباداته الظاهرة والباطنة، خالصة لوجه الله تعالى، لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس.
قال الفضل بن زياد سألت أبا عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل عن النية في العمل، قلت كيف النية: قال يعالج نفسه، إذا أراد عملاً لا يريد به الناس.
قال أحد العلماء: نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا. أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا.
أيها المسلمون: إن شأن الإخلاص مع العبادات بل مع جميع الأعمال حتى المباحة لعجيب جداً، فبالإخلاص يعطي الله على القليل الكثير، وبالرياء وترك الإخلاص لا يعطي الله على الكثير شيئاً، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب كما في حديث البطاقة، وحديث البطاقة كما أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: أفلك عذر أو حسنة فيها؟ فيقول الرجل: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها، أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) [صححه الذهبي].
قال ابن القيم رحمه الله: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مدّ البصر تثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه. أهـ. رحمه الله.
ومن هذا أيضاً أيها الأخوة حديث الرجل الذي سقى الكلب، وفي رواية: بغي من بغايا بني إسرائيل.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب، ثم خرجه فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي قد بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفّه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر)) [متفق عليه].
وفي رواية البخاري: ((فشكر الله له فغفر له فأدخله الجنة)).
ومن هذا أيضاً ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو أيضاً عن النبي قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)) ، وفي رواية: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فأُدخل الجنة)).
قال شيخ الإسلام رحمه الله معلقاً على حديث البغي التي سقت الكلب وحديث الرجل الذي أماط الأذى عن الطريق قال رحمه الله: فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها.
فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال.
أيها الأخوة: وفي المقابل نجد أن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله، لا قيمة لها ولا ثواب فيها، بل صاحبها معرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام كالإنفاق في وجوه الخير، وقتال الكفار، وقيل: العلم الشرعي.
كما جاء في حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به، فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به يعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت؟ قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكن تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من صنوف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ألا أنفقت فيها قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) [رواه مسلم].
أيها الأخوة في الله: ولذلك فقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله أشد الناس خوفاً على أعمالهم من أن يخالطه الرياء أو تشوبها شائبة الشرك. فكانوا رحمهم الله يجاهدون أنفسهم في أعمالهم وأقوالهم، كي تكون خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لما حدث يزيد بن هارون بحديث عمر : ((إنما الأعمال بالنيات)) والإمام أحمد جالس، فقال الإمام أحمد ليزيد: يا أبا خالد هذا الخناق.
وكان سفيان الثوري يقول: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي لأنها تتقلب علي.
وقال يوسف بن أسباط، تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
وقال بعض السلف: من سره أن يكمُل له عمله، فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا أحسنت نيته حتى باللقمة.
قال سهل بن عبد الله التستري: ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني استغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.
وهذا خالد بن معدان كان رحمه الله: إذا عظمت حلقته من الطلاب قام خوف الشهرة.
وهذا محمد بن المنكدر يقول: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.
وهذا أيوب السختياني كان يقول الليل كله فإذا جاء الصباح (أي الفجر) رفع صوته كأنه قام الآن.
وكان رحمه الله إذا حدث بحديث النبي يشتد عليه البكاء (هو في حلقته) فكان يشد العمامة على عينه ويقول: ما أشد الزكام ما أشد الزكام.
وهذا عبد الواحد بن زيد يخبرنا بحدث عجيب حصل لأيوب، وقد عاهده ألا يخبر إلا أن يموت أيوب إذ لا رياء حينئذ، قال عبد الواحد كنت مع أيوب فعطشنا عطشاً شديداً حتى كادوا يهلكون، فقال أيوب: تستر عليّ؟ فقلت: نعم إلا أن تموت.
قال عبد الواحد فغمز أيوب برجله على حرّاء فنبع الماء فشربت حتى رويت وحملت معي.
*وقال أبو حازم: لا يحسن عبد فيما بينه وبين ربه إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد.
ولا يعور ما بينه وبين الله إلا أعور الله ما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها.
وهذا داود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله، كان له دكان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله.
وكان رحمهم الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ولم تعلم به زوجته، سبحان الله انظر كيف ربّوا أنفسهم على الإخلاص وحملوها على إخفاء الأعمال الصالحة، فهذا زوجته تضاجعه وينام معها ومع ذلك يقوم عشرين سنة أو أكثر ولم تعلم به، أي إخفاء للعمل كهذا، وأي إخلاص كهذا.
فأين بعض المسلمين اليوم الذي يحدث بجميع أعماله، ولربما لو قام ليلة من الدهر لعلم به الأقارب والجيران والأصدقاء، أو لو تصدق بصدقة أو أهدى هدية، أو تبرع بمال أو عقار أو غير ذلك لعلمت الأمة في شرقها وغربها، إني لأعجب من هؤلاء، أهم أكمل إيمانا وأقوى إخلاصاً من هؤلاء السلف بحيث أن السلف يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم، وهؤلاء يظهرونها لكمال الإيمان؟ عجباً ثم عجباً، فإني أوصيك أخي المسلم إذا أردت أن يحبك الله وأن تنال رضاه فما عليك إلا بصدقات مخفية لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك فضلاً أن يعلمه الناس. وما عليك إلا بركعات إمامها الخشوع وقائدها الإخلاص تركعها في ظلمات الليل بحيث لا يراك إلا الله ولا يعلم بك أحد.
إن تربية النفس على مثل هذه الأعمال لهو أبعد لها عن الرياء وأكمل لها في الإخلاص. وقد كان محمد بن سيرين رحمه الله يضحك في النهار حتى تدمع عينه، فإذا جاء الليل قطعه بالبكاء والصلاة.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، واجعلها خالصة لك، صواباً على سنة رسولك آمين، قلت: ما قد سمعتم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الأخوة في الله: اعلموا أن الإخلاص ينافيه عدةُ أمورٍ من حب الدنيا والشهرة والشرف والرياء، والسمعة والعجب.
والرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها، فهو يقصد التعظيم والمدح والرغبة أو الرهبة فيمن يرائيه.
وأما السمعة فهي العمل لأجل سماع الناس.
وأما العجب فهو قرين الرياء، والعجب أن يعجب الإنسان بعبادته ويرى نفسه بعين الإعجاب وكل هذه من مهلكات الأعمال.
وهناك أيها الأخوة مسالك دقيقة جداً من مسالك الرياء يوقع الشيطان فيها العبد المؤمن من حيث يشعر أو لا يشعر، وسأذكر لك بعضها لأن الحديث عن الرياء والعجب وغيرهما مما ينافي الإخلاص حديث طويل جداً، ولكن حسبي في هذا المقام أن أورد لك ثلاثة من تلك المسالك الدقيقة للرياء، وهذه المسالك غالباً يقع فيها الصالحون إلا من رحمه الله.
أما أولها: فما ذكره أبو حامد الغزالي حيث قال أثناء ذكره للرياء الخفي: "وأخفى من ذلك أن يختفي العامل بطاعته، بحيث لا يريد الإطلاع، ولا يسّر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدأوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، وأن يوسعوا له في المكان فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه.
ووجد لذلك استبعاداً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق من تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه. وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون".
وأما ثانيها: فهو أن يجعل الإخلاص لله وسيلة لا غاية وقصداً، فيجعل الإخلاص وسيلة لأحد المطالب الدنيوية.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على تلك الآفة الخفية فكان مما قال رحمه الله:- "حكى أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه قال: فأخلصت أربعين يوماً فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك إنما أخلصت للحكمة ولم تخلص لله تعالى".
وهذا مسلك خطير كما سمعت وقليل من يتفطن له.
والأمثلة عليه كثيرة من الواقع، فتجد بعض الناس يكثر من الأعمال الصالحة في أيام الاختبارات مثلاً كصيام النوافل وقيام الليل وكثرة الصلاة والخشوع، وقلبه منعقد على أنه إذا أكثر من العبادات سيوفق في اختباره أو سيفوز بوظيفة ما، فهذا بالحقيقة إنما أخلص للاختبارات وذلك أخلص للوظيفة.
ومن ذلك أيضاً أن بعض الناس يذهب إلى المسجد ماشياً أو يحج كل سنة أو غير ذلك من العبادات التي فيها رياضة.
ويكون قد انعقد في قلبه أنه يفعل ذلك لينشط جسمه أو يحرك الدورة الدموية كما يقولون.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكيلة. أهـ.
بل اجعل مشيك للمسجد وحجك وعبادتك خالصة لله تعالى، وهذه الأشياء تحصل حتماً دون أن تعقد عليها قلبك.
وأما ثالث هذه المسالك الدقيقة وهو ما أشار اليد الحافظ ابن رجب رحمه الله بقوله: "ههنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح.
(1/1349)
الحسن البصري
سيرة وتاريخ
تراجم
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية دراسة سير الصالحين. 2- أقوال لأهل العلم في الحسن البصري. 3- نشأة الحسن
البصري. 4- طلبه للعلم ولقياه عدداً من الصحابة. 5- شمائل الحسن البصري. 6- خشية
الحسن البصري. 7- من أقواله رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فإنها الزاد إلى الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
أيها الأخوة الأعزاء: إن النفوس البشرية يصيبها الملل والسآمة والفتور، فكلل عن العمل وفتور عن الطاعة، لكنها ما إن يحدوها الحادي ويقودها الساعي ويذكرها الذاكر سير أولئك الأفذاذ وأخبار الأتقياء وإخبات الصالحين وخشوع الناسكين إلا وتنشط. ويبدأ عملها من جديد.
فإذا الفتور يصبح حماساً، والكلل يصير عملاً، ولذلك قال أبو حنيفة النعمان بن ثابت: لسير الصالحين أحب إلينا من كثير من الفقه.
ذلك لأن الفقه وحده ودراسة العلوم وحدها دون مواعظ تلين لها القلوب أو تذكرة ترق لها الأسماع. تصبح القلوب أدعية للعلم ولا عمل، تصبح القلوب قاسية كالحجارة أو أشد قسوة فما أحوجنا أيها الأخوة وخاصة طلبة العلم لسير الصالحين وآدابهم واتباع سيرهم والاقتداء بسمتهم ودلّهم.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي.
أيها المسلمون: وسنتذاكر في هذه الخطبة المباركة سير علم من أعلام الصالحين وإماماً من أئمتهم ورجلاً من رجالتهم، ما إن يذكر اسمه إلا ويذكر الزهد – وما إن يذكر الزهد إلا ويذكر اسمه.
رجل هو الزهد، والزهد هو.
غير أنه لم يدرك النبي وإنما كان على درجة من الفطنة والزكاة، والخشية والإنابة والعقل والورع، والزهد والتقوى ما جعله يشبه الصحابة الكرام بل قال عنه علي بن زيد لو أدرك أصحاب رسول الله وله مثل أسنانهم ما تقدّموه.
قال عنه أحد العلماء: كان جائعاً عالماً عالياً رفيعاً فقيها ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً.
قال عنه أحد الصحابة: لو أنه أدرك أصحاب رسول الله لاحتاجوا إلى رأيه.
كانت أمه خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي وكان مولده قبل نهاية خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بسنتين.
وكانت أمه تخرج إلى السوق أحياناً فتدعه عند أم سلمة فيصيح جوعاً فتلقمه أم سلمة ثديها لتعلله به، إلى أن تجيء أمه – وإذا برحمة الله تنزل على الثدي فيدر لبناً فيرضع الطفل حتى يرتوي.
فإذا هو يرتوي حكمة وفصاحة وتقى، فما إن شب صاحبنا إلا وينابيع الحكمة تنبع من لسانه وجمال الأسلوب ورصانة العبارة وفصاحة اللسان تتحدر من كلامه.
إنه الحسن بن أبي الحسن يسار، الإمام شيخ الإسلام أبو سعيد البصري المشهور بالحسن البصري، يقال: مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جميل بن قطبة.
وأمه خيرة مولاة أم سلمة، نشأ إمامنا في المدينة النبوية وحفظ القرآن في خلافة عثمان. وكانت أمه وهو صغير تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، وكان في جملة من دعا له عمر بن الخطاب.
قال: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس.
فكان الحسن بعدها فقيهاً وأعطاه الله فهماً ثابتاً لكتابه وجعله محبوباً إلى الناس.
فلازم أبا هريرة وأنس بن مالك وحفظ عنهم أحاديث النبي ، فكان كلما سمع حديثاً عن المصطفى ازداد إيماناً وخوفاً من الله.
إلى أن أصبح من نساك التابعين ومن أئمتهم ومن وعاظهم ودعاتهم، وصار يرجع إليه في مشكلات المسائل وفيما اختلف فيه العلماء، فهذا أنس بن مالك ، سُئل عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن. فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال أنس بن مالك أيضاً: إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين الحسن البصري ومحمد بن سيرين.
وقال قتادة: وما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة، قال أيوب السختياني: كان الرجل يجالس الحسن ثلاث حجج (سنين) ما يسأله عن مسألة هيبة.
وكان الحسن البصري إلى الطول أقرب، قوي الجسم، حسن المنظر، جميل الطلعة مهايباً.
قال عاصم الأحول: قلت للشعبي: لك حاجة؟ قال: نعم، إذا أتيت البصرة فأقرئ الحسن مني السلام، قلت: ما أعرفه، قال: إذا دخلت البصرة فانظر إلى أجمل رجل تراه في عينيك وأهيبه في صدرك فأقرئه مني السلام، قال فما عدا أن دخل المسجد فرأى الحسن والناس حوله جلوس فأتاه وسلّم عليه.
وكان الحسن صاحب خشوع وإخبات ووجل من الله، قال إبراهيم اليشكري: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.
وقال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، فأما الحسن بن أبي الحسن البصري. فما رأينا أحداً من الناس كان أطول حزناً منه، وكان يقول أي الحسن: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا.
فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدرياً، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب.
قال مطر الوراق: الحسن كأنه رجل كان في الآخرة ثم جاء يتكلم عنها، وعن أهوالها. فهو بخبر عما رأي وعاين.
وقال حمزة الأعمى: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يوماً: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة. فإن استطعت أن تكون عمرك باكيا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك.
ثم ناد الحسن: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار.
وقال حكيم بن جعفر قال لي من رأى الحسن: لو رأيت الحسن لقلت: قد بث عليه حزن الخلائق، من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج.
قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهماً.
وعن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي. لله ما أطهر هذه القلوب، ولله ما أزكى هذه النفوس، بالله عليك قل لي: هل أرواحهم خلقت من نور أم أطلعوا على الجنة وما فيها من الحور أو عايشوا النار وما فيها من الدثور أم إنه الإيمان يكسى ويحمل فيكون كالنور نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.
سبحان الله لا إله إلا الله، ما الذي تغيّر هل لهم كتاب غير كتابنا أم أرواح غير أرواحنا أم لهم أرض غير أرضنا، لا والله لكنها القلوب تغيرت والنفوس أمنت والأجساد تنعمت، غيرتها الذنوب وقيدتها المعاصي حتى أصبحنا لا نرى هذه الصور الإيمانية ولا النفوس القرآنية وصرنا نذكرها كفقير يذكر غناه أو بئسٍ ينادي فرحة دمناه، أين إخبات الصالحين، أو خشوع المؤمنين أو دموع التائبين أو أنين الخائفين.
أين أهل الإيمان، كمدتُ ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب.
بارك إله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه.
أيها المسلمون: وكان الحسن البصري صاحب مواعظ وتذكير، ولكلامه أثر في النفوس وتحريك للقلوب.
قال الأعمش: ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها.
وكان أبو جعفر الباقي إذا ذكره يقول: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء.
ومن كلامه رحمه الله:
روى الطبراني عنه أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة.
يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
عن حميد قال: بينما الحسن في المسجد تنفس تنفساً شديداً ثم بكى حتى أرعدت منكباً ثم قال: لو أن بالقلوب حياةً، لو أن بالقلوب صلاحاً لأبكتكم من ليلةٍ صبيحتها يوم القيامة، إن ليلة تمخض عن صبيحة يوم القيامة ما سمع الخلائق بيوم قط أكثر من عورة بادية ولا عين باكية من يوم القيامة.
وجاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.
وجاءه آخر فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته.
وكان يقول: من علامات المسلم قوة دين، وجزم في العمل وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحسن في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة (جوع) وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة.
لا ترديه رغبته ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يقلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نغيته.
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء).
فقال: هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطعمتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وسُئل الحسن عن النفاق فقال: هو اختلاف السر والعلانية، والمدخل والمخرج، ما خافه إلا مؤمن (أي النفاق) ولا أمنة إلا منافق، صدق من قال: إن كلامه يشبه كلام الأنبياء.
توفي الإمام الحسن البصري وعمره 88 سنة عام عشر ومائة في رجب منها. بينه وبين محمد سيرين مائة يوم.
رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جنانه وجمعنا وإياه في دار كرامته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
(1/1350)
السحر وأضراره
التوحيد
نواقض الإسلام
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الساحرة التي دخلت على أم المؤمنين عائشة. 2- خطر السحر. 3- انتشار السحر في
بلادنا وسواها. 4- أنواع السحر وحقيقته. 5- براءة سليمان عليه السلام من السحر.
6- أساليب السحرة. 7- خطر إتيان السحرة. 8- علامات يعرف بها الساحر. 9- انتشار
السحر وضعف الإيمان. 10- حد الساحر. 11- علاج السحر. 12- الوقاية منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله بعد موته حداثة ذلك. تسأله عن أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لأرحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج فغاب عني فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما أمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: أفعلتِ؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً. فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت قد فعلت، فقالا: فما رأيت قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني، ذهب في السماء وغاب حتى ما أراه فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي، فقلت للمرأة والله ما أعلم شيئاً، وما قالا لي شيئاً فقالت: بلى لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري فبذرت وقلت: أطلعي فأطلعت وقلت: أحقلي، فأحقلت، ثم قلت أفركي، فأفركت، ثم قلت: أيبسي، فأيبست ثم قلت: أطحني فأطحنت ثم قلت: اخبزي فأخبزت، فلما رأيت إني لا أريد شيئاً إلا كان سقط في يدي، وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً ولا أفعله أبداً. رواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم وزاد بعد قولها: ولا أفعله أبداً فسألت: أصحاب رسول الله : حداثة وفاة رسول الله وهم يومئذ متوافرون فمادروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، قال هشام: إنهم كانوا من أهل الورع والخشية من الله.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.
إنه أججية الأحاجي ولغز الألغاز وسر من أكبر الأسرار، داء عضال، تفشى بين الرجال والنساء.. الفقراء، والأغنياء، الأميين، والمتعلمين المرضى، الاأصحاء البؤساء والوجهاء، العالة والرؤساء، إنه الداء الخطير الذي تفشى بين الناس عامة وخاصة إلا من رحم ربي، إنه خطر عظيم، خطر على العقيدة، خطر على الفرد، خطر على الأسرة، خطر على المجتمع، خطر على الأمة بأسرها.
إنه السحر قرين الكفر.
أيها الناس: إنه كما ينبغي على الأمة أن تعرف الأمراض التي تصيب الأبدان وتفتك بالصحة، فكذلك ينبغي لهم أن يعرفوا وأن يهتموا بالأمراض التي تمس الدين بل قد تذهبه بالكلية، ولاشك أن أمراض العقائد والقلوب أشد ضرراً من أمراض الأبدان لأن مرض الأبدان لا يعدو أن يكون أثره في الدنيا بينما مرض العقائد ومرض القلوب يكون أثره في الدنيا والآخرة.
وإن من أشد الأمراض التي قد استشرت وانتشرت مرض السحر وإتيان السحرة، ومن هنا وجب على أهل العلم وحملة العقيدة أن يدفعوا عن حمى الإسلام ويذبوا عن حياضِه، وأن يوعوا الناس في أمور دينهم ودنياهم، خاصة في هذه الأزمان التي قد تنوعت فيه أمراض العصر، ففي كل عام نصبح بلون جديد من الأمراض، وبالتالي كثر المشعوذون والسحرة والدجالون بحجة معالجة المرضى وتطبيبهم.
فانتشر السحرة والمشعوذين في كل مكان حتى في الدول التي يُدعى أنها متقدمة.
ففي فرنسا يوجد أكثر من 30.000 ساحر ومشعوذ.
وفي ألمانيا 80.000 ساحر ومشعوذ. وفي غيرها كثير.
أيها الناس: اعلموا أن السحر حقيقة موجودة، ولها تأثير في واقع الناس، ولو لم يكن موجوداً وله حقيقة لما وردت النواهي عنه في الشرع والوعيد على فاعله، والعقوبات الشرعية، على متعاطيه، فكم فرق السحرة بين زوج وزوجته، وبين صديق وصديقه، وتاجر وتجارته، وموظف ووظيفته، وكل هذا حقيقة لا مكابرة فيها.
أيها المسلمون:
لقد عرف من خلال تتبع أحوال السحرة والمسحورين أن للسحر أنواعاً كثيرة من حيث تأثيرها على المسحور.
فمنه سحر التفريق الذي قال الله فيه: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه.
ومنه سحر العطف الذي سماه رسول الله التولة حيث قال : ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) [رواه أحمد وأبو داود].
التولة: هو ما يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل، إلى امرأته، وهو ضرب من السحر.
ومن السحر أيضاً سحر التخييل كأن يرى الشيء الثابت متحركاً، والمتحرك ثابتاً كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
ومن سحر سحر الخمول بحيث يحبب إلى المسحور الوحدة والصمت الدائم والشرود الذهني وما شابه ذلك من ألوان السحر وضروبه.
أيها الأخوة في الله:
اعلموا أن السحر من نواقض الإسلام الكبرى فمن تعاطى السحر أو عمل به فهو كافر خالد مخلد في نار جهنم.
ذكر الله تعالى عن اليهود أنهم أعرضوا عن دين الرسول وذهبوا ليتعلموا السحر ويعملوا به، وكفروا.
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.
قال القرطبي رحمه الله: قال محمد بن إسحاق: لما ذكر رسول الله سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم: يزعم محمدٌ أن ابن داود كان نبياً! والله ما كان إلا ساحراً فأنزل الله عز وجل: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستئجار الطير والشياطين كان سحراً.
واعلموا أن الساحر لا يكون ساحراً حتى يكفر بالله، وقد أخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن الذي يعلم الساحر السحر إنما هم الشياطين.
ولا يتمكن الساحر من ذلك حتى يكفر بالله العظيم ويستعين بالشياطين من دون الله.
فليس الساحر بنفسه هو الذي اخترع السحر، بل إن الشياطين هم الذين علموه. وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وقد تواتر النقل بالاستقراء والتجربة والمشاهدة عمن بحث في أحوال السحر والسحرة في إثبات العلاقة والتبعية والانقياد والعبودية بين السحرة والشياطين.
فالسحرة يتقربون للشياطين بما تحبه الشياطين من كل شيء: بعقيدة فاسدة وأعمال خيالية وأكل للمحرمات، الخبائث وتقرب بالنجاسات ووقوع في الموبقات.
وبعد هذا كله إذا اجتاز الساحر امتحاناً يجربه الشيطان عليه بأكل نجاسة وصرف عبادة، ووقوع في أمر لا يجوز ولا يليق حينئذٍ يوقن الشيطان أن تلميذه من السحرة قد جاوز المرحلة، فيبدأ يسخر له من شياطين الجن من يعينه على إحداث الخلل والمرض والزلل.
أخي المسلم:
وإذا عرفت الساحر فلا يجوز لك المجيء إليه، فإن جئته لم تقبل لك صلاة أربعين يوماً.
روى مسلم في صحيح عن بعض أزواج النبي : ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)).
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
وعن عمران بن الحصين مرفوعاً: ((ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر له)).
أيها الأخوة الأكارم:
وللساحر علامات يعرف بها:
1- إذا دخلت عليه فسألك عن اسم أمك فاعلم أنه يستعين بالجن.
2- إذا أمرك ألا تذكر الله ولا تقل بسم الله عند علاجه لك فاعلم أنه ساحر.
3- إذا أخبرك بأمر غيبي كأن يخبرك عن مكان مسكنك أو عن اسمك مثلاً أو اسم أبيك.
4- يعطي ورقة ويكتب فيها بعض الآيات ككتابة آية الكرسي مثلاً وبعض أسماء الله، وفي أسفل الورقة يرسم مربعاً ويضع فيه بعض الحروف المقطعة أو أرقاماً وهذه الحروف والأرقام يخاطب بها الجن.
5- من علاماته أيضاً أنه لا يرفع صوته بما يقول حتى لو طلبت منه ذلك، وربما موه عليك فقرأ بعض الآيات بصوت عالي ثم يخفض صوته في الباقي، وفيها يطلسم بكلمات وعزائم غير مفهومة حيث يتمتم بكلام لا معنى له، أو أن يعطي المريض أوراقاً يحرقها ويتبخر بها.
6- أو يأمره أن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس ويسميها العامة (الحجبة).
7- وأحياناً يطلب الساحر من المريض ألا يمس ماءً لفترة من الزمن غالباً أربعين يوماً.
وهذا يدل على أن الشيطان الذي يخدم هذا الساحر نصراني.
أيها الأخوة في الله:
من أسباب كثرة السحرة، ضعف الإيمان وعدم التوكل على الله، ومنها كثرة الخدم والسائقين في البيوت.
وذلك أن كثيراً من الخادمات قبل أن تأتي إلى أي مكان تمرّ على الساحر ومعها اسم صاحب البيت وأين يسكن ومن ثم تطلب من الساحر أن يخبرها عن هؤلاء، فيقول الساحر هذا رجل عنده زوجة واحدة مثلاً، وعنده خمسة أبناء وذلك بواسطة الشياطين الذين في المنطقة.
فيقول لها: إذا أردت شيئاً فأرسلي لنا شيئاً من شعره أو شعر زوجته أو ولده أو شيئاً من لباسهم ونحن نعقد فيه شيئاً من السحر.
ولذلك بعض الناس فطنوا لهذا فيأمر الخادمة أو السائق ألا يقفل الرسالة إلا وقد أطلع على ما في داخلها، وإذا جاءت رسالة لابد وأن تفتح الرسالة بين عينيه حتى يرى ما فيها.
أيها الناس:
فإذا علمتم ساحراً في أي مكان أو علمتم من خلال الأوصاف التي قلتها لكم وجب عليكم إبلاغ الجهات المختصة بذلك كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يوقفوا هذا الساحر عند حده، فحد الساحر أن يضرب بالسيف.
لأنه كافر والله قد سمى الساحر كفراً وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وعن جندب مرفوعاً: ((حد الساحر ضربة بالسيف)) [رواه الترمذي]. وقال: الصحيح أنه موقوف. وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة.
وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت.
وبعد هذا أخي المسلم من خلال هذه الخطبة وهذه الآيات والأحاديث تبين لك أن السحر كفر وأن الساحر كافر، وأن من يأتي الساحر فهو على خطر عظيم وهو على شفا الكفر عياذاً بالله من ذلك.
ألا تخاف يا أخي من أن تخسر الدنيا والآخرة,
ألا تتوكل على الله ربنا خالقنا المتصرف في شئوننا الذي ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء.
وهذا الداء دواؤه العلاج الرباني وليس العلاج الشيطاني.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وننزل من القرآن ما هو شفاء رحمة للمؤمنين.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القادر على كشف السوء وبرأ السقيم، وصلاةً وسلاماً على محمد الذي وحد الله وتبرأ من كل صنم وعلى آله وصحابته والتابعين والمستعينين بالله من كل ألم.
وعنا معهم بإحسانك ولطفك يا واسع الجود والكرم.
أما بعد:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداك
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
نعم قد عرفنا السحر وأنواعه وعلامات السحرة ولكن كيف العلاج وما طرق الوقاية من الحسر والسحرة؟
1- العلاج: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يصيبك شيء إلا بإذن الله، ولن تشفى إلا بإذن الله وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له.
ومن العلاج بل هو العلاج وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين نعم هو القرآن لكن الناس قد أعرضوا عن هذا الدواء الرباني فبكثرة قراءة القرآن والنفث على المريض يفك الله السحر عن المسحور بإذنه سبحانه وتعالى.
• أما الوقاية:
أ - فبإكثار الذكر ومداومة الطاعة والاستقامة على الخير والإعراض عن المحرمات وترك الموبقات وإن تحفظ الله بفعل أوامره وترك نواهيه ليحفظك في دنياك وأخراك.
والإكثار من قراءة القرآن وقراءة الأوراد والأذكار في الصباح والمساء والمحافظة على آية الكرسي وقراءة المعوذتين وسورة الإخلاص، ففي الحديث أنه من قرأها في صباحه ومساءه ثلاث مرات كفته من كل سوء.
ومن قرأ آية الكرسي لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان يومه ذلك.
ومن حافظ على ذلك كله حفظه الله.
أيها الناس: وإذا أصيب أحد الناس بهذا المرض أعني أصيب بالسحر – هدانا الله وإياكم – فعليه بالرقية الشرعية.
فإن الإنسان إذا اعتقد اعتقاداً جازماً أن الله جعل الشفاء في كتابه وأن الله قادر على شفائه، وأنه لا يملك أحد من البشر شيئاً من ذلك فإنه يرجى له الشفاء بإذن الله.
والرقية هي قراءة الآيات والأذكار والأدعية مع النفث على المريض ولا تكون الرقية شرعية حتى تجتمع فيها ثلاثة شروط:
1- أن تكون بالقرآن والأحاديث أو بكلام نافع.
2- أن تكون باللغة العربية.
3- أن يكون قلب الشخص معلقاً بالله وأن الشفاء من عند الله.
أيها الأخوة: الرقية ليست خاصة بأناس دون غيرهم فكل شخص يستطيع أن يرقي، فأنت تستطيع أن ترقي نفسك أو أن يرقيك أخوك أو صاحبك أو زوجك، فليست الرقية حكراً على أحد، ومن هنا تعجب من بعض الناس كيف يزدحمون على فلان وفلانة وكأن الرقية لا يحسنها إلا هو.
فتجد هذا يأتي من الشمال وهذا من الجنوب وهذا من الشرق حتى يتمكنوا من الحصول على الرقية.
نعم لا شك أن لصلاح الشخص أثر في الرقية، ولكن كم من شخص تحقره ويجعل الله الشفاء في رقيته.
أما أيها الأخوة: ومن أراد النجاة من كل هذا فعليه بالاعتصام بالقرآن تلاوة وعملاً وقراءة وحفظاً وعليه بالأذكار والأوراد في الصباح والمساء وحين النوم وعند اللباس وعند رؤية المبتلي وعند دخول الخلاء والخروج منه وعند دخول المسجد والخروج منه.
ومن أنواع علاج السحر:
ما ذكره الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - في رسالة السحر والكهانة.
قال – يرحمه الله –:
1- ومن الأدعية الثابتة عنه في علاج الأمراض من السحر وغيره وكان صلى الله عليه وسلم يرقي بها أصحابه.
((اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاء لا يغادر سقماً)).
ومن ذلك الرقية التي رقى بها النبي وهي: ((باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك)) وليكرر ذلك ثلاث مرات.
* ومن علاج السحر أيضاً وهو من أنفع علاجه بذل الجهود في معرفة توضع السحر في أرض أو جبل أو غير ذلك، فإذا عرف استخرج وأتلف بطل السحر.
* ومن علاج السحر بعد وقوعه أيضاً وه علاج نافع للرجل الذي يحبس عن جماع أهله: أن يأخذ سبع ورقات من السدر الأخضر فيدقها بحجر أو نحوه ويجعلها في إناء ويصيب عليها من الماء ما يكفيه للغسل ويقرأ فيها: آية الكرسي، وسورة الكافرون، والإخلاص، والمعوذتين، وآيات السحر التي في سورة الأعراف وسورة يونس وسورة الشعراء وسورة طه وبعد قراءة ما ذكر في الماء يشرب بعضه ويغتسل في الباقي وبذلك يزول الداء - إن شاء الله –، ولا بأس من تكرار ذلك.
* وأما علاجه بسحر مثله فهذا لا يجوز، فإنه من عمل الشيطان بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك.
* ومن العلاج أيضاً علاج السحر بالحجامة.
قال رسول الله: ((خيركم ما تداويتم به الحجامة)) [رواه مسلم].
ويقول ابن القيم أن أنواع علاج السحر الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه السحر، وذلك بالحجامة (أ، هـ).
(1/1351)
كيف تواجه الشهوة؟
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, القصص
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتصار السلف على الشهوات. 2- وقوع الكثيرين في أتون الشهوات المحرمة. 3- خطر
الوقوع في محارم الله. 4- عفة يوسف عليه السلام ، وقصته مع امرأة العزيز. 5- حماية الله
لمن حفظ جوارحه عن الحرام. 6- قصة جريج الراهب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
إن في كتاب الله وسنة رسوله عبر ودروس كفيلة بأن تنشأ جيلاً صالحاً ومجتمعاً فاضلاً، لا يعرف للرذيلة طريقاً ولا للخيانة سبيلاً، ولا للفاحشة داعياً، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أخبارهم وسيرهم وما ابتلوا به وكيف صبروا عليه، وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وكذلك ما أخبر به النبي من صبر الأنبياء والصالحين.
وما أحوجنا أيها الأخوة أن نعرف سير الأنبياء والصالحين وأن نستلهم دروسها ونعقل معناها وما يعقلها إلا العالمون.
ونعرف كيف صبروا في ذات الله، وتغلبوا على أنفسهم وعلى شهواتهم، وانتصروا عليها مع وجود دواعي المعصية، لكن رددوا بلسان حالهم ومقالهم: إني أخاف الله، ما أعظمها من كلمة، وما أوقعها في النفوس.
إني أخاف الله كلمة قالها أو يقولها رجل تدعوه امرأة ذات منصب وجمال، منصب فهي تحميه من الأذى وتحفظه من الفضيحة. وجمال: فالنفوس تتطلع إلى الجمال بحكم الجبليّة التي خلق الله عليها البشر، وليس هذا فحسب بل تدعوه هي ودون كلفة منه، فيصرخ في وجهها ويعلنها كلمة الحق، فيستحق بسببها أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
فيقول لها: إني أخاف الله.
((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منه: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله..)).
فما أحوج شبابنا اليوم لهذه الكلمة، وأن يتعلموها في حياتهم، ولكنها غلبة الشهوة، وفقدان الوازع الديني، وذاهب الخوف من الله، ونسيان الآخرة.
أيها الأخوة:: كم من شاب باع دينه من أجل شهوة عابرة، وكم من شاب دنس عرض عائلته وسمعتها من أجل لذة ساعة، وكم من شاب أرخى سترة بينه وبين الناس فحارب الله بالمعاصي.. وكأن الله أهون الناظرين إليه، قال: وهب بن منبه: جاء في الكتب المتقدمة يقول الله تعالى: "إذا أرخى العبد ستره وعاقر بالله بالمعاصي ناداه الله من فوق سبع سموات: يا عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك.
لئن غابت عنك عيون الناس فلن تغيب عنك عين الله.
روى ابن ماجه بإسناد جيد عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((يأتي أناس من أمتي بحسنات بيض كجبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً قالوا: يا رسول الله: ولم؟ فقال النبي : إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
وفي رواية قال النبي عن هؤلاء: ((يأخذون من القرآن ما تأخذون ولهم حظ من الليل، ولكنهم كانوا إذا خلو بمحارم الله انتهكوها)).
وإنها الشهوة التي من حفظها وحفظ لسانه معها فله الجنة التي عرضها السموات والأرض.
قال النبي : ((من ضمن لي ما بين لحييه (أي لسانه)، وما بين فخذيه (أي فرجه) ضمنت له الجنة)).
واعلم أيها المسلم أنك إذا حفظت الله في جميع أعمالك وتركت الحرام خوفاً من الله وعملت العمل الحسن رجاء ثواب الله، فإنه لن يضيعك الله وسوف يجعل لك رقيباً من نفسك ويصرفك عن كل سوء ويثبتك إذا ضاقت بك الضوائق أو عظمت عليك ظلمات الفتن.
فهذا يوسف عليه الصلاة والسلام شاب أوتي من الجمال ما تحار الألسن عن وصفه.
وقد جاء في الأثر: أن الله لما خلق الجمال، جعل نصفه في يوسف، والنصف الثاني فرقه بين بني آدم.
شاب قوي ذكي فتي، شاب في ريعان الشباب، يمتلئ جسمه حيوية وقوة. تدعوه امرأة العزيز بعد أن أغلقت الأبواب ووضعت الحراس على الأبواب وتزينت له وتعرضت بين يديه، وهو في حال غربة وعزبة، وأسباب الفاحشة ودواعيها متهيأة له. فالمرأة الداعية، وقد تزينت بكل ما تملك، والدعوة في بيت آمن حيث منزل عزيز مصر، والأبواب مغلقة، ولكن يبقى باب السماء مفتوحاً فيتذكر يوسف من خلاله عظمة الله ويتصور رقابته فيرى برهان ربه فيقال إنه رأى أباه يعقوب عاضاً على أصبعيه، وقيل: إنه رأى صورة الملك. وقيل: رأى مكتوباً في سقف الحجرة: لا تفعل.
وهكذا يرى برهان ربه فيلوذ بحماه وينتصر على الإغراء والشهوة، ويمتنع من مقارفة الفحشاء ويستحق أن يكون من عباد الله المخلصين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولما بلغ أشده واستوى....
وهكذا يكون المتهم يوسف عليه السلام فيحكم عليه بالسجن بعد أن دعا الله فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعوني إليه وإلا تصرف عني كيدهم أصب إليهن وأكن من الجاهلين.
فسجن عليه السلام وما جريمته إلا لأنه حصن فرجه عن الحرام وحمى نفسه عن الوقوع في وحل المعصية وفي سياج الرذيلة.
فأبدل يوسف عليه السلام من رغد العيش وطراوته في مقر العزيز إلى شظف العيش وضيقه في السجن، مع ما في السجن من غربة وعزلة ووحدة، فآلام السجين تشتد حين يكون السجن ظلماً وعدواناً، ومحنة السجين تتضاعف حين يكون الطهر والعفاف جريمة وتهمة يؤاخذ بها، وتزاد الحيرة حين نعلم أن الذين سجنوا يوسف عليه السلام قد تبين لهم من الآيات والبراهين القاطعة ما يبرى ساحته ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين. فقدّ القميص من دبر، وشهادة الشاهد.
وحزّ أيدي النساء، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف كلها أدلة للبراءة.
ومع ذلك يسجن يوسف عليه السلام حتى لا تنشر فضيحة امرأة العزيز بمرادوتها يوسف عن نفسه عند عامة الناس. وهكذا حين يغيب العدل بين الناس ويسود الظلم.
أرأيتم يا أخوة اليمان: يوسف عليه الصلاة والسلام يسجن ويترك في السجن سبع سنين لأنه تعفف عن الحرام وقال: معاذ الله". فإين هؤلاء الذين يبحثون عن الفاحشة بأنفسهم أو يهيئون أسبابها ومقدماتها دون وازع من دين أو رادع من خلق.
فسفر للخارج ومعاكسات في الأسواق ومكالمات بالهاتف يغررون بذلك السذج من نساء المسلمين.
نعم سجن يوسف سبع سنين لأنه قال معاذ بالله. من الذي ثبت يوسف في ذلك الموقف الرهيب؟ إنها عناية الله. حفظ الله في الرخاء فحفظه في الشدة.
أيها الأخوة: لكن الله أعقب هذا السجن وهذا الذل الذي يلوح للناظرن لأذى وهلة، لكنها أقدار الله تسير على الناس وتحكم عليهم من حيث يشاءون ولا يشاءون.
أجل إخوة الإيمان: لقد أصبح يوسف بعد ذلك وزير المالية على بلاد مصر، سبحان الله أيها الإخوة إن المسافة هائلة بين غياهب الجب التي ألقي فيها يوسف عليه السلام وبين علو الشأن في ملك مصر.
والفرق كبير في عرف الناس بين يوسف وهو في غياهب السجن، وبين كونه من خلصاء ومستشاري عزيز مصر، وليس أقل من الفرق بين يوسف وهو بمثابة السلعة تباع وتشترى بأزهد الأثمان ويتنقل في الرق من سيد إلى سيد، وهو لا يملك من أمره شيئاً وبين يوسف عليه السلام وهو على خزائن الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. يعطي الكيل لفئة ويمنعه أخرى، ويمنع الميرة والطعام عن وفد ويهبه لآخرين.
إنها عاقبة الصبر عن معصية الله، فيا أخي المسلم هل حفظت فرجك عن الحرام؟ وهل حفظت لسانك عن الحرام؟ وهل حفظت نظرك عن الحرام؟
إنها حماية الله وعنايته بعبده يوم أن يكون العبد ملتجأ إلى الله لم يخن الله في فرجه ولا في لسانه ولا في جوارحه. ((احفظ الله يحفظك)).
نعم، احفظ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، احفظ الله فلا يراك إلا حيث يحب ولا يراك حيث يكره، واعلم أنك بقدر ما تحفظ حق الله عليك، بقدر ما يحفظ الله عليك دينك ودنياك وسمعتك ومكانتك، ولا أدل من ذلك من قصة جاءت في الصحيحين من حديث أبي هريرة :
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: ثنا جرير عن حازم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل، رجل يقال له: جريج كان يصلي فجاءته أمه فدعته فقال: أجيبها أو أصلي)) وفي رواية: ((فصادفته يصلي فوضعت يدها على حاجبها، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي)) ، وفي حديث عمران بن حصين ((أنها جاءته ثلاث مرات تناديه في كل مرة ثلاثة مرات، فقالت أي أمه: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات)) ، أي وجوه الزانيات، فتعرضت له امرأة فكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها وفي رواية: عند الإمام أحمد: ((فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج فقالت بغي منهم: إن شئتم لأفتننه قالوا: قد شئنا فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأمكنت نفسها من راع كأن يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج فولدت غلاما فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته وأنزلوه)). وفي رواية: ((فأقبلوا بفؤسهم ومساجهم إلى دير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره)). وفي رواية قال له الملك: ((ويحك يا جريج كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه، فلما أمروا به نحو بيت الزواني خرجن ينظرن فتبسم، فقال: لم يضحك حتى مر بالزواني: (وهو إنما يضحك تذكر دعوة أمه: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات).
فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا إلا من طين)).
وهكذا يكون حفظ الله لعبده فانطق الصبي الذي ما زال في المهد لتبرأة عبده وعدم فضيحته وانتشار التهمة عليه.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1352)
وقفات في سيرة عثمان
سيرة وتاريخ
تراجم
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
26/10/1419
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نسب عثمان وإسلامه. 2- إسلام عثمان. 3- شيء من فضائل عثمان. 4- إنفاق عثمان.
5- تواضع عثمان. 6- جمع المصحف. 7- حياء عثمان. 8- وصية عثمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة المؤمنون:
خطبتنا هذه الجمعة عن علم من أعلام التاريخ، ومصباحٍ من مصابيح الدجى، بحياتهم تدفع المحن، وبموتهم تتعاقب الإحن وتكثر الفتن، كنظام عقد انقطع سلكه فتتابع.
حديثنا هذه الجمعة عن شخصية فذة من سجلات التاريخ، ومن صناّع الحياة وناسجو الأحداث.
حديثنا عن رجل حكم المسلمين بالعدل والإحسان، وسار فيهم سيرة سيد الأنام وطبّق فيهم شريعة سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، فقد كان وأرضاه كصاحبيه إحساناً وتقوى، وهدىً وعلماً. حكم الأمة الإسلامية اثنا عشرة سنة، كثرت في عهده الفتوحات، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وجمع الله به ما اختلف عليه الناس، فقد جمع القرآن في عهده على حرف واحد ونشر في الأمصار، لكل مصر مصحف، وبالجملة فقد كان عادلاً رحيماً مطبقاً لشريعة الله في حياته القولية والعملية، فأحبه الناس ورضوا به، ولذلك لما كان يوم موته أرقل يوم شهادته حزن الناس عليه حزناً شديداً، وبكى كبار الصحابة من البدرين وغيرهم، وتأسفوا عليه أسفاً بالغاً. ولعمري لماذا لا يبكون ويتأسفون ويحزنون وهم يفتقدون رجلاً صالحاً وإماماًً عادلاً، إماماً نشر فيهم العلم والدين، وحكم بهم بشريعة الله، ولم يداهن أعداء الله ولم يحارب في دين الله، فكان صدقاً وعدلاً من الأشداء على الكفار الرحماء بينهم.
حديثنا أيها الأخوة المؤمنون عن صاحبي جليل القدر والمكانة، ويكفي أن أول ما شرف به هذا الصحابي أنه ولد على يد أبي بكر الصديق ، وكان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البررة وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، ومنصور من نصره إنه صاحب الهجرتين، وزوج الابنتين ذو النورين أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن عبد شمس، وأمها أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة. ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار، فكان ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
إنه عثمان الخير، إنه عثمان الحياء، إنه عثمان الصدق والإيمان، إنه عثمان البذل والتضحية بالنفس والنفيس، إنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، أبو عمرو وأبو عبد الله القرشي أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين.
أيها الأخوة المؤمنون: ولماذا سيرة هؤلاء العظماء وأخبار هؤلاء المصلحين؟ لأننا بحاجة ماسة لسيرة مثل هؤلاء الأفذاذ وأخبار هؤلاء العظماء، في زمان لمع فيه من لا خلاق له، ولا دين له.
وأبرز من لا قدر له في الإسلام، وطمست سيرة هؤلاء الأفذاذ وتناساها الناس.
نحن أيها الأخوة بحاجة ماسة لأن نربي أنفسنا وجيلنا على أن ديننا الحنيف وشريعتنا الغراء قد أخرجت لنا قادة دان لها الشرق والغرب، وأنبتت لنا علماء ما زالوا يؤتون أكلهم كل حين بإذن ربهم، وأيضاً ينبغي أن نجعل ميزاننا وميزان من نعلّم ميزانا شرعياً، فالمحبوب عندنا من أحبه الله، والمكروه والمبغوض من أبغضه الله، وهذا نعرفه من جهة الظاهر وأما السرائر فإلى الله.
لا أخرج بكم بعيداً عن سيرة هذا الصحابي الجليل الذي أسلم في السنة السادسة عام الفيل وكان أول السابقين إلى الإسلام، فما إن سمع من أبي بكر عرض الدعوة إلا وانطلق لسانه يردد الكلمة التي دان لها العرب والعجم في ذلك الزمن. لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ومن تلك الساعة انطلق عثمان لينصر دين الله في أرضه. وتحت سمائه فأخذ يشارك في غزوات النبي لا ببدنه فحسب بل حتى بماله.
كان عثمان من أجمل الرجال وجهاً، وأحسنهم شكلاً حتى من جماله كان الناس قبل نزول الحجاب على النساء يحتارون في أيهم أجمل هو أم زوجته رقية بنت رسول الله.
ولذلك يقول راجزهم:
أحس زوج رآه إنسان رقية وزوجها عثمان
قال أسامة: بعثني رسول الله إلى منزل عثمان بصحفة فيها لحم. فدخلت، فإذا رقية رضي الله عنها جالسة، فجعلت مرة انظر إلى وجه رقية، ومرة أنظر إلى وجه عثمان، فلما رجعت سألني رسول الله ، قال لي: دخلت عليهما؟ قلت: نعم، قال: فهل رأيت زوجاً أحسن منهما ؟ قلت لا يا رسول الله.
كان معتدل القامة، كبير اللحية، عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس حسن الثغر قال عبد الله بن حزم المازني قال: رأيت عثمان بن عفان، فما رأيت قط ذكراً ولا أنثى أحسن وجهاً منه.
أيها الأخوة: لقد جمع الله لعثمان من الفضائل والمكارم ما جعله بحق أن يكون في الدرجة الثالثة في الإسلام بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلقد تزوج بنت رسول الله رقية رضي الله عنها فلما توفيت زوجه رسول الله أم كلثوم، فتوفيت أيضاً في صحبته فقال رسول الله : ((لو كان عندنا أخرى لزوجناها عثمان)) ، قال الحسن البصري إنما سمي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحداً أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره.
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي في حائط من حيطان المدينة (أي بساتينها) فجاء رجل فاستفتح (أي استأذن بالدخول) فقال النبي : ( (افتح له وبشر بالجنة)) ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي : ((افتح له وبشره بالجنة)) ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: ((افتح له، وبشر بالجنة على بلوى تصيبه)) ، فإذا عثمان. فأخبرته بما قال رسول الله فحمد الله ثم قال: الله المستعان. [متفق عليه].
ولما صعد رسول الله الجبل جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف (أي الجبل) فقال: ((اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)) [رواه مسلم].
ولقد كان عثمان صاحب ثروة عظيمة وجاه في قريش، لكنه لم يسلط هذه الثروة الطائلة في احتقار الآخرين والاستعلاء على عباد الله المؤمنين.
لكنه استعمله في مرضاة الله، في الإنفاق في سبيل الله، فقد كان يبذل البذل العظيم لنصرة هذا الدين فقد أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال شهدت النبي وهو يحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على جيش العسرة مرة أخرى، فقال يا رسول الله علي مائتي بعير بإحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض رسول الله على الجيش، فقال عثمان يا رسول الله عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله وهو يقول: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وهو الذي اشترى بئر رومة حيث قال رسول الله: ((من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة)) ، قال عثمان فاشتريها من خالص مالي.
أيها الأخوة: ولم يكن عثمان سباقاً في مجالات الجهاد بالمال والنفس فحسب، بل لقد كان عابداً خاشعاً خائفاً من الله لا يمل من قراءة القرآن، فقد روي عنه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود، أيام الحج.
وقد كان هذا دأبه. ولذلك قال ابن عمر في قوله تعالى: أمّن هو قانت أناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة.
هو عثمان بن عفان، وقال ابن عباس في قوله تعالى: هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
وكان يقول هو (عثمان) لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف.
وكان رحيماً بأهله ويخدمه فقد كان إذا استيقظ من الليل لا يوقظ أحداً من أهله ليعينه على الوضوء، إلا أن يجده يقظاناً، وكان يعاتب في ذلك، فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟ فيقول: لا الليل لهم يستريحون فيه. فأين بعض الناس من ظلمهم الخدم وهم وعمالهم يكلفونهم ما لا يطيقون.
وإن أعظم منقبة سجلت لعثمان ولا ينساها التاريخ له أبداً، بل لا ينساها أهل الإسلام أبداً.
لأنه بها اجتمع شمل الأمة وذهب كيد الشيطان عنها.
ألا وهو جمعه الناس على حرف واحد، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله في آخر سنين حياته. وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان أخبره أنه لما كان في بعض الغزوات، رأى الناس يختلفون في قراءاتهم ويجهل بعضهم بعضاً في ذلك بل ويكفر بعضهم بعضاً، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى في كيدهم، وذكر له ما شاهد هناك.
فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد.
وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به.
فوافقه الصحابة، فأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب القرآن، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصراً آخر، وإلى البصرة وإلى الكوفة وإلى مكة واليمن، وأقر بالمدينة مصحفاً.
فرضي الله عن عثمان وجمعنا به في جنات النعيم.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين.
قلت ما قد سمعتموه واستغفروا الله العظيم لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه الطاهرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة في الله:
إن سيرة هذا العلم مليئة بالأحداث وما زالت فضائله مشهورة بين الناس، وأن أميز صفة تميز بها عثمان ، والتي أصبحت ملازمة لاسم عثمان، فما تذكر عثمان إلا وتذكرها ولا تذكرها إلا ذكرت عثمان، إلا وهي صفة [الحياء].
فقد كان عثمان حيّيا، كأنه العذراء في خدرها من شدة حيائه. فقد كان إذا اغتسل يغتسل جالساً لئلا يكشف شيء منه مع أنه في بيت مغلق عليه.
وتروي لنا عائشة قصة عجيبة يشهد فيها رسول الله أنه الملائكة تستحي من عثمان. فقد قالت رضي الله عنها كان رسول الله مضطجعاً في بيتي، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدّث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فيتحدث ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشّ له ولم تباله، (أي لم تغير من حالك شيء) ثم دخل عمر فلم تهتشّ له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)) [رواه مسلم].
الله أكبر، لا إله إلا الله عبجباً لك يا ابن عفان تستحي منك الملائكة لشدة حيائك وتشد عليك ثيابك حتى لا يظهر شيء منك وتغتسل وحدك فلا تقيم صلبك حياءً من الله أن ترى شيئاً من عورتك وتحدثنا عن نفسك، وتقول: إنك ما مسست فرجك بيمينك منذ بايعت رسول الله ، فكيف لو رأيت زماننا هذا الذي ظهرت فيه النساء لا أقول الرجال بل النساء ظهرن بلباس فاتن وأظهرن مفاتنهن للرجال.
بل أين أنت من رجال لا يتورعون ولا يستحون أن تبدو شيء من عوراتهم ويلبسون القصير ويجولون فيه كل سوق واجتماع دون حياء من أنفسهم أو من الناس، وإلى الله المشتكى، فرضي الله عن عثمان بن عفان، فلقد كان مثلاً رائعاً للصدق والإيمان والحياء والبذل في سبيل الله.
فلما كان يوم مقتله رأى في المنام رسول الله وأبا بكر وعمر وأنهم قالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، فلما أصبح شد عليه سراويله خشية أن تبدو عورته إذا هو مات أو قتل وقال لأهله: إني صائم.
ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه وأخذ يقرأ فيه حتى قتل من يومه، وذلك قبيل المغرب بقليل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فكان خبر مقتلة فاجعة على الأمة الإسلامية فبكته النساء وبكاه الصحابة وأكثرهم حزناً عليه علي بن أبي طالب، واغتمت المدينة تلك الليلة وأصبح الناس بين مصدق ومكذب حتى استبانوا الأمر وتيقنوا الخبر، ووجدوا في دمه قد سقط على قوله تعالى في سورة البقرة فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ، ووجدوا صندوقاً وإذا فيه ورقة مكتوب فيها.
هذه وصية عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها نحيا وعليها نموت وعليها يبعث إن شاء الله تعالى.
فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة مع حبيبنا محمد.
(1/1353)
إلا بحبل من الله وحبل من الناس
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
16/7/1421
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ فلسطين وارتباطها الوثيق بالإسلام. 2- تاريخ اليهود مع الأنبياء. 3- تحريفهم
التوراة وافتراؤهم على الله الكذب. 4- أهمية دعوة النصارى إلى الإسلام وتعرية اليهود
وفضحهم. 5- دور أقسام العقيدة بالجامعات ومراكز الدعوة والمؤسسات في دعوة النصارى.
6- سبب تسلط اليهود مع ضعفهم وقلة عددهم. 7- نحن أولى بموسى من اليهود وأولى
عيسى من النصارى. 8- أحقية المسلمين بالقدس في كل الأديان والأعراف.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ذكرنا في الخطبة الماضية تاريخ فلسطين منذ دخَلَها عمر فاتحًا إلى يوم الناس هذا, ولا نقول: منذ دخلها الإسلام؛ لإنّ الإسلام دخل فلسطين قبل هذا التاريخ بكثير، حيث وصل الخليل إبراهيم إليها وقابل ملِكَها الكنعاني العربيّ اليبوسيّ قبل ميلاد المسيح بألف وثمانمائة وخمسين عامًا, أي: قبل قرابة ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسين سنة من الآن, وإبراهيم أبو الأنبياء، وما بعث الله نبيًا بعده إلا وهو من ذريته كما قال سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد: 26], ولم يكن إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا, وإنما كان حنيفًا مسلمًا كما قال الله: وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135], وقال سبحانه: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [آل عمران: 65], وأمّة الإسلام هي أولى الأمَم بإبراهيم، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68], وإبراهيم عليه السلام ممن أخذ الله عليه الميثاق لو بعث محمد وهو حي أن يتبعه كما هو شأن سائر الأنبياء، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 81-85].
وقبل ثلاثة آلاف سنة من الآن تقريبًا كانت القدس تحت حكم نبي الله سليمان الذي أخذ عليه الميثاق كسائر الأنبياء لو بعث محمد وهو حي ما وسعه إلا أن يتبعه, وبقيت في حكمه أربعين سنة, وقد كان سليمان حنيفًا مسلمًا, فدين الأنبياء كلهم واحد، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45], وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25], وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52].
ولم تزل هذه الأمة الغاصبة أمة اليهود تخالف الأنبياء وتحيد عن أمرهم, فقالوا لموسى: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة: 22], وآذوه أذى كثيرًا وقالوا له: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا [الأعراف: 129], وقالوا: آدر أي: منتفخ الخصيتين، فبرأه الله مما قالوا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب: 69], وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5].
ولم يزل هذا دينهم مع الأنبياء حتى قتلوا منهم عددًا كبيرًا, وقالوا عليهم إفكًا كثيرًا, بل وحرفوا التوراة وقالوا على الله قولاً كبيرًا وافتروا عليه الكذب، كما قال لنا ربنا في كتابه: وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30], وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64], لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181].
إلى غير ذلك من بغيهم وظلمهم وقولهم على الله وعلى أنبيائه البهتان والزور والإفك الكبير وإفسادهم في الأرض، حتى سلط الله عليهم بختنصر قبل ألفين وستمائة سنة من الآن، وقد قضى الله في كتابه ما ذكره في القرآن: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء: 4-6].
وهم اليوم قد أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر نفيرًا, فسلاحهم كثير, ومكرهم كبير, وقد ركبوا الحمير من ساسة النصارى وأكثر متدينيهم بفعل تزويرهم وتحريفهم الكلم عن مواضعه وإغرائهم النصارى بالوعود المعسولة وتحريفهم كتاب الله الذي أنزله على أنبيائهم, فصارت إمكانيات النصارى وعَدَدهم وعِدَدهم مسخرةً في خدمة وتنفيذ مخططات اليهود الأمة الغضبية, أما هؤلاء النصارى الضالون كما سماهم الله في كتابه فهم بحاجة ماسة إلى من يهديهم من ضلالهم, ويكشف لهم أن المسلمين أولى بهم من اليهود, فمسيحنا ومسيحهم واحد وهو عيسى, أمّا مسيح اليهود فهو الدجّال, فالواجب على هؤلاء الضالين من النصارى أن يعوا ذلك جيدًا, ويتخلصوا من وعود وأوهام يهود الذين يسعون لاستغلالهم للوصول إلى مآربهم ثم يلفظونهم, فإذا بهم لقى لا قيمة لهم, إن الله يقول: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 82-84].
أين علماء المسلمين وحكماؤهم عن دعوة النصارى؟! أين بيان الحق للقسيسين والرهبان الذين لا يستكبرون؟! إن الأليق بهم أن يعلموا أن ما جاء به محمد هو الحق الذي يؤمن بموسى وعيسى وكل الأنبياء, لا ما جاءت به يهود الذين قال الله فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 155-159].
كيف تسبقنا الأمة الغضبية إلى هؤلاء الضالين كما سماهم الله؟! كيف يسوغ لأقسام العقيدة بالجامعات ومراكز الدعوة في الرابطة وغيرها من مؤسسات دعوية أن تغفل عن هذه المعاني وتشغل نفسها بزمالة الأديان وبرلمانات الأديان, ولا تعنى بدعوة خراف بني إسرائيل الضالة إلى الإسلام بالحكمة؟!
إن كثيرًا من حكماء النصارى اليوم وقسيسيهم ورهبانهم يحتاجون لمن يبين لهم دعاية الإسلام الصحيحة، ويكشف كثيرًا من شبههم، ويفضح تزييف يهود وتغريرهم، ويبين أن أمة الإسلام أولى بهم من يهود، وأنهم لا مناص لهم من الدخول في الإسلام حين يعرفون حقائقه كما هي وحين يجادلهم بها أهل العلم والبصيرة والدين والغيرة من المسلمين بالتي هي أحسن لا بالتي هي أخشن إلا من ظلم منهم وأصر وعاند بعد معرفته بالحق, أما أكثرهم فهم ضالون، وعلينا بيان الحق لهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن لنهديهم للتي هي أقوم، ممتثلين بذلك أمر الله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت: 46].
إن حجّة الله على أهل العلم والإيمان والبصيرة قائمة في كتابه, وبما سخر من وسائل الاتصال الحديثة التي لو التفت إليها جمهرة من أهل العلم والبصيرة وخاطبوا عقلاء النصارى ورهبانهم وقسيسيهم وحكماءهم لرجونا أن يجدي ذلك ويكون أنكى في يهود حين يقلّ مساندوهم, فكيف لو خسروهم جملة وتخلّى عنهم النصارى؟!
إن اليهود من أقل الديانات في العالم انتشارًا، وقد نسخ الله دينهم بالإسلام, ولو تركوا لأنفسهم دون حبل من الناس سواء كان الناس هم النصارى الذين يسندونهم ويؤازرونهم أو من المسلمين الذين ضعفت ثقتهم بدينهم وتمسكهم به فكان ذلك سببًا في تسلط يهود عليهم, فلو انقطع حبل الناس هذا عادوا إلى طبيعتهم التي ذكرها عنهم ربنا بقوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران: 112], وحينها يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، إن أمة الإسلام أولى بموسى من اليهود، قال : ((نحن أولى بموسى منكم)) , وأولى بعيسى عليه السلام، ((أنا أولى بعيسى ابن مريم)) , وكل وعد بالتمكين في التوراة والإنجيل فأمة الإسلام أولى به من يهود قتلة الأنبياء وأعداء الرسل.
فأين دعاة الحق الذي تضافر على إثباته التاريخ أكثر من خمسة آلاف عام والنصوص الدينية في كل الكتب السماوية من العهد القديم: التوراة والجديد: الإنجيل والأخير المهيمن: القرآن آخر الكتب عهدًا وناسخها والمهيمن عليها؟! وكلها تضافرت على إثبات الحق في القدس للمسلمين، ثم تضافرت عليه قوانين الأرض أيضًا من حكم الجاهلين بموجب قرار الجمعية العامة للأم المتحدة رقم 194 الذي أكدته الأمم المتحدة أكثر من 110 مرة, فأيّ حق أبلج وأوضح من هذا؟! لكن صدق عثمان: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن", وصدق الشاعر حين قال:
السيف أصدق إنباء من الكتب فِي حده الْحد بين الْجدّ واللعب
وقديمًا قيل: إذا لم تنفع الكتب تعينت الكتائب, فاللهم ابعث للدين ناصرًا, اللهم أقم علم الجهاد.
(1/1354)
وعود الله
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله لا يخلف لكنه وعد مشروط بالإيمان. 2- من هم المؤمنون حقاً؟ 3- وعد الله
المؤمنين بالنجاة والأمن بالدنيا والآخرة. 4- وعد الله المؤمنين بالتمكين في الأرض والنصر
على الأعداء. 5- وعد الله المؤمنين برغد العيش والحياة الطيبة وسعة الرزق. 6- شراء الله
من المؤمن نفسه وماله في مقابل الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله لا يخلف الميعاد , وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
لقد وعد الله عباده المؤمنين بوعود جاءت في القرآن الكريم وعلى لسان سيد المرسلين. وجعل هذه الوعود مرتبة على شروط شرعية, فمن حقق الشرط فقد استحق الوعد.
وإن الشرط الأكبر الذي رتب الله تعالى عليه جميع وعوده هو تحقيق الإيمان. الإيمان بالله تعالى كما أراد الله تعالى.
إن الذي ينظر في واقع المسلمين اليوم ليعلم أن الأمة بمجموعها بعيدة عن الإيمان الصحيح الذي كان عليه أصحاب النبي إلا قليلا من المؤمنين.
إننا لا نرى وعود الله تتحقق في واقع الأمة، وحاشا لله أن يخلف الموعد ولكن الأمة هي التي ابتعدت عن طريق الإيمان، يعد المسلمون بالملايين ولكن المؤمنين الصادقين يعدون بالمئات, ولا يستوي المسلم والمؤمن, فالله تعالى قد حكم لأناس بلإسلام وهم غير مؤمنين كما قال تعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون.
فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله. التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب. التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب، ولا تهجس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور. والذي ينبثق منه بعد ذلك العمل والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله. فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد وأن يندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب. في واقع الحياة. في دنيا الناس. يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة. ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه، والصورة الواقعية من حوله. يريد أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه، ليراها ممثلة في واقع الحياة.
وقال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.
نعم، المؤمنون حقا هم الذين يستحقون الوعود التي وعد الله تعالى بها. فما هي هذه الوعود؟
الوعد الأول: لقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالنجاة في الدنيا والآخرة.
فقال تعالى: ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه: أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب.
وقال تعالى عن نبيه يونس عليه السلام: فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين كذلك ننجي المؤمنين، كما أنجينا يونس وأخرجناه من بطن الحوت فإننا ننجي كل مؤمن ونخرجه من كل كرب.
وقال تعالى: ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انتدب الله لمن يخرج في سبيله لا يخرجه إلا الإيمان بي والجهاد في سبيلي أنه علي ضامن حتى أدخله الجنة بأيما كان بقتل أو وفاة أو أرده إلى مسكنه الذي خرج منه مع أجر أو غنيمة)).
الوعد الثاني: الأمن في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركا في عبادة. هؤلاء لهم الأمن، وهؤلاء هم المهتدون.
وقال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ونعمة الأمن في الدنيا والآخرة هي من أعظم النعم التي لا تتحقق إلا بالإيمان.
الوعد الثالث: التمكين في الأرض:
قال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
ذلك وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمة محمد أن يستخلفهم في الأرض. وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم.. ذلك وعد الله. ووعد الله حق. ووعد الله واقع. ولن يخلف الله وعده، بهذا الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله، بخواطر نفسه، وخلجات قلبه. وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس جميعا، بهذا الإيمان يتحقق التمكين في الأرض.
إن التمكين في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح، لا على الهدم والإفساد. وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة، لا على الظلم والقهر. وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري، لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان!.
هذا الاستخلاف هو الذي وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعدهم الله أن يستخلفهم في الأرض - كما استخلف المؤمنين الصالحين قبلهم - ليحققوا النهج الذي أراده الله؛ ويقرروا العدل الذي أراده الله.
الوعد الرابع: النصر على الأعداء:
قال تعالى: فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين.
وسبحان الذي أوجب على نفسه نصر المؤمنين؛ وجعله لهم حقا، فضلا وكرما. وأكده لهم في هذه الصيغة الجازمة التي لا تحتمل شكا ولا ريبا. وكيف والقائل هو الله القوي العزيز الجبار المتكبر، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. يقولها سبحانه معبرة عن إرادته التي لا ترد، وسنته التي لا تتخلف، وسلطانه الذي يحكم الوجود.
وقد يبطئ هذا النصر أحيانا - في تقدير البشر - لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله. والله هو الحكيم الخبير. يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته. وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف. ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح. ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين. فإن لم يكن النصر في الدنيا كان في الاخرة كما قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون.
والوعد واقع وكلمة الله قائمة. ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض وقام بناء الإيمان، عل الرغم من جميع العوائق، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمصلحين.
هذه بصفة عامة. وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض. في جميع العصور.
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله. يخلص فيها الجند، ويتجرد لها الدعاة. إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق، وقامت في طريقها العراقيل. ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى الحرب والمقاومة، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها. ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله. والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه. الوعد بالنصر والغلبة والتمكين.
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية. سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء. ولقد تبطئ آثارها الظاهرة ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف, ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر. ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم. لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون. وهذا لا يتحقق إلا بالإيمان.
الوعد الخامس: رغد العيش والحياة الطيبة:
قال الله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
قد ينظر بعض الناس فيرى أمماً - يقولون: إنهم مسلمون - مضيقاً عليهم في الرزق، لا يجدون إلا الجدب والمحق!. ويرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون، مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ، فيتساءل: وأين إذًا هي السنة التي لا تتخلف..وهذا لا شك وهم تخيله ظواهر الأحوال، وسوء فهم لآيات الكون.
إن أولئك الذين يقولون: إنهم مسلمون، لا يتحقق في أكثرهم أنهم مؤمنون ولا متقون!. ويوم كان أسلاف هؤلاء الذين يزعمون الإيمان مؤمنين حقاً. دانت لهم الدنيا، وفاضت عليهم بركات من السماء والأرض، وتحقق لهم وعد الله.
إن البركات الحاصلة مع الإيمان والتقوى، بركات في الأشياء، وبركات في النفوس، وبركات في المشاعر، وبركات في طيبات الحياة، بركات تنمي الحياة وترفعها في آن واحد. وليست مجرد وفرة في المال مع الشقاء والتردي والانحلال. وإنما هي الحياة الطيبة التي قال الله فيها: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
نعم وهو مؤمن فبغير هذا الشرط, وبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء. إن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة.. وليس المال إلا عنصرا واحدا يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله. فالحياة الطيبة مع الإيمان والإيمان مع الحياة الطيبة.
الوعد السادس: الرزق الكريم المغفرة والجنة:
ولو لم يكن للإيمان من ثمرة إلا هذا لكفى، فرضى الله منية نفوس المؤمنين وهدف العاملين وبغية المصلحين. والجنة هي قمة النعيم وفي سبيلها يرخص الغالي وتبذل النفوس والأموال.
قال الله تعالى: والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًا ومن أصدق من الله قيلاً.
وقال تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم.
وقال تعالى: والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي جاءت بجزاء المؤمنين ومدحهم.
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المؤمنين حقا، وأن يرزقنا جنات النعيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين..
إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
هذه حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه، حقيقة البيعة التي أعطاها المؤمن لربه طوال حياته. فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف المؤمن، وتتمثل فيه حقيقة الإيمان. وإلا فإن إيمانه دعوى تحتاج إلى دليل.
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة - أن اللّه - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا، كلا إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة. والطريق: هو الجهاد بالمال والنفس. والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد: إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون.
من بايع على هذا. من أمضى عقد الصفقة. من ارتضى الثمن ووفى. فهو المؤمن، فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا، ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال. ولكنه كرم هذا الإنسان فجعل له الخيار في هذه الصفقة.
وإنها لبيعة رهيبة.بيعة في عنق كل مؤمن قادر لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه.
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين - على عهد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم؛ ولم تكن مجرد معان يتأملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها. لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة.. هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة - رضي اللّه عنه - في بيعة العقبة الثانية عندما قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: ((أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: الجنة)). قالوا: ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل.
هكذا "ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل". لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين؛ انتهى أمرها، وأمضي عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل: "لا نقيل ولا نستقيل" فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار؛ والجنة: ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من اللّه؟ أليس اللّه هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن. وعداً قديماً في كل كتبه: وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من اللّه.
أجل! ومن أوفى بعهده من اللّه؟
إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه، إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً. ما دام في الأرض باطل. وما دامت في الأرض عبودية لغير اللّه تذل كرامة الإنسان فالجهاد في سبيل اللّه ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء. وإلا فليس بالإيمان: ((ومن مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق)).
فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً، كما وعد اللّه.. وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ واللّه ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت. سواء أنفقهما صاحبها في سبيل اللّه أم في سبيل سواه! والجنة كسب. كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة ! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك!.
ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه. ينتصر - إذا انتصر - لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.
إن هذا وحده كسب. كسب بتحقيق إنسانية الإنسان، فإذا أضيفت إلى ذلك كله الجنة، فهو بيع رابح يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها اللّه على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة اللّه الجارية منذ كان دين اللّه. جهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس والوقت والقلم واللسان والسنان.
ليست الحياة لهواً ولعباً. وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعاً. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم والذل والخضوع. إنما الحياة كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير, وانتصار لإعلاء كلمة اللّه، أو استشهاد كذلك في سبيل اللّه.ثم الجنة والرضوان.
هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون باللّه: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.
أيها المؤمن: إن الله تعالى قد وهبك النفس والمال ثم اشتراها منك ثم استخلفك عليها وجعلها أمانة عندك. فالمؤمن لا يملك نفسه ولا يملك ماله. ولا يستطيع أن يتصرف فيهما إلا بما أذن الله فيه.
والذي يتبع نفسه هواها وينفق أوقاته وأمواله فيما لا يرضي الله فهو خارج من هذه الصفقة منحل من هذه البيعة.
والكثير منا لا يعطي من نفسه لله ولا يعطي من ماله لله ولا يعطي من وقته لله ولا يعطي من لسانه لله ولا يعطي من قلمه لله ولا يعطي من علمه لله ولا يعطي من عقله لله، فكيف يستحق وعد الله وكيف يستحق جزاء الله وجنة الله، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة، على أننا نرجو للمحسن الموحد ونخاف على المسيء المفرط.
(1/1355)
التوكل
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الكبائر والمعاصي
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله كتب لكل مخلوق نصيبه من الرزق قبل أن يخلق الخلائق. 2- التوكل لا يتعارض مع
الأخذ بالأسباب. 3- الأسباب منها ما هو مشروع ومنها ما هو محرم. 4- أعلن الله الحرب
على من عادى أوليائه أو أكل الربا. 5- الربا ومحق البركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول النبي : ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا)).
انظر إلى ذلك الطائر الصغير الحقير الذي لا يملك قوة ولا عقلا ولا تدبيرا يخرج من عشه في الصباح الباكر ليبحث عن رزقه بهدوء واطمئنان, لم يقض ليله مفكرا في قوته ولم يشغل باله في أمر طعامه وإنما عرف أن الله الذي خلقه قد تكفل برزقه, فاكتفى بمجرد فعل السبب المشروع، فما هو إلا أن خرج فإذا برزقه يأتيه فيمتلأ بطنه بالطعام فيعود إلى عشه مسبحا لله عز وجل.
من الذي رزق ذلك الطائر؟ من الذي أشبعه؟ من الذي هداه إلى طريق الحبة؟ من الذي علمه طرق الكسب والسعي في الأرض؟
إنه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. إنه الذي يقول وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6].
إنه القائل: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [العنكبوت:60].
روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين أذاهم المشركون: ((اخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة)) قالوا: ليس لنا بها دار ولا عقار ولا من يطعمنا ولا من يسقينا فنزلت: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ أي ليس معها رزقها مدخرا, وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.
وأصل التوكل الوكول يقال وكلت أمري إلى فلان أي الجأته إليه واعتمدت فيه عليه, ووكل فلان فلانا استكفاه أمره ثقة بكفايته, والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية, وهي قوله تعالى: وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا. فيكون الإنسان موقنا بأن الله تعالى قد تكفل برزقه في هذه الحياة, وأنه لن يموت حتى يستوفيه.
روى ابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد بينته لكم, وإن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها وإن أبطأ عنها, فاتقوا الله وأجملوا في الطلب, ولا يحملن أحدكم استبطاء رزقه أن يخرج إلى ما حرم الله عليه فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته, خذوا ما حل ودعوا ما حرم)).
الأرزاق عند الله معلومة والآجال مكتوبة عليك أيها الإنسان قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم كتبت مرة أخرى وأنت في بطن أمك عندما نفخت فيك الروح كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)) الحديث.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا هذا اللهث وراء الدنيا. ولماذا يجمع بعض الناس المال من طرق الحرام, والله تعالى قد تكفل برزقهم من الحلال. وأين توكلنا على الله؟ وأين ثقتنا بالله، وأين عملنا بقول الله تعالى: فَ?بْتَغُواْ عِندَ ?للَّهِ ?لرّزْقَ وَ?عْبُدُوهُ وَ?شْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
فهل من ابتغاء الرزق عند الله أن نأكل ما حرم الله وهل من شكر الله أن نعصي الله في طلب المال فنجمعه مما حل ومما حرم. ونترك الاعتماد على من بيده ملكوت السموات والأرض وهو سبحانه القائل: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
وليس معنى التوكل هو ترك الأخذ بالأسباب, ولكن معناه أن تترك كل سبب محرم وليس كل ما يظنه الإنسان سببًا يكون سببًا.
وليس كل سبب مباحا في الشريعة بل قد تكون مضرته أعظم من منفعته.
وليس كل سبب مقدورا للعبد. فالعبد يؤمر بالسبب الذي أحبه الله, ويؤذن له فيما أذن الله فيه مع أمره بالتوكل على الله تعالى.
وأما ما لا قدرة له فيه فليس فيه إلا التوكل على الله والدعاء له سبحانه, فالدعاء من أعظم الأسباب التي يؤمر بها العبد.
وخلاصة ذلك أن الأسباب تنقسم إلى قسمين: أسباب مقدور عليها وأسباب غير مقدور عليها.
فغير المقدور عليه ليس فيه إلا الدعاء والتوكل.
والمقدور عليه إما أن يكون ضرره وفساده راجحا أو لا يكون, فإن كان ضرره راجحا كان من الأسباب المحرمة, وأما السبب المقدور النافع منفعة راجحة فهو الذي ينفع ويؤمر به ويندب إليه.
والذين اتخذوا التوكل سببا رئيسًا مع فعل الأسباب المباحة هم الذين حققوا التوكل وحققوا قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ، وقوله: فَ?عْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، فاستعانوا به على طاعته وشهدوا أنه إلههم الذي لا يجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله, وإنه ربهم الذي لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ [الأنعام:51]، وإنه مَّا يَفْتَحِ ?للَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ [فاطر:2]، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ [الزمر:38].
ولهذا قال بعض العلماء: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد. ومحو الأسباب نقص فى العقل. والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع".
ومن أعرض عن التوكل فهو عاص لله ورسوله بل خارج عن حقيقة الإيمان, قال الله تعالى: وَقَالَ مُوسَى? ي?قَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِ?للَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84]، وقال تعالى: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] وقال تعالى: وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وقال: قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
وجاء فى الأثر: "من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله".
وقال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان.
فعلى المسلم أن يستغني بالله تعالى عن المخلوقين ويعف نفسه عن الذل لغير الله.
حدث أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده, فقال: ((ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم, ومن يستعفف يعفه الله, ومن يستغن يغنه الله, ومن يتصبر يصبره الله, وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)).
ومعنى الاستغناء أن لا يرجو بقلبه أحدا إلا الله.
ومعنى الاستعفاف أن لا يسأل بلسانه أحدا. ولهذا لما سئل الإمام أحمد بن حنبل عن التوكل قال: قطع الاستشراف إلى الخلق أي لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشيء, فقيل له: فما الحجة في ذلك؟ فقال: قول الخليل لما قال له جبريل: هل لك من حاجة؟ فقال أما إليك فلا, وأما إلى الله فنعم.
أيها الإخوة: الإنسان المسلم مأمور بالعزة والاستعفاف, ومنهي عن إذلال نفسه أمام الناس إلا إذا كان صاحب ضرورة. هذا إذا كان يمد يده إلى أخ كريم من إخوانه المسلمين، فكيف بمن يمد يده إلى اللؤماء.
وكيف بمن يقدم عنقه إلى مصاصي الدماء من المرابين أذناب اليهود وخدامهم في بلاد المسلمين, فيأتي المسلم المسالم إلى دور الربا وبيوت المحق ومركز اللصوصية العالمية ليذل نفسه ويقدم راتبه ـ قوته وقوت أبنائه ـ رهنا عند أولئك اليهود ليخدع نفسه بالثراء الكاذب ويعيش في سراب الغنى أياما معدودات ليستيقظ بعد أيام وإذا هو ممدد على أرضية السجن أو قابع عند أبواب المحسنين وقد أضاع نفسه، وأضاع من يعول ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)).
إن القروض الربوية لا تؤدي إلا إلى الأوهام والشعور النفسي بالغنى مخالفة للواقع والبذخ الخيالي الذي لا يلبث أن يتلاشى كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ?لظَّمْانُ مَاء حَتَّى? إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ?للَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـ?هُ حِسَابَهُ [النور:39].
وإذا أردنا مثالا من الواقع القريب فلننظر إلى ما حدث للدول الآسيوية وعلى سبيل التحديد إلى تايلند التي بدأت منها الإنهيارات الإقتصادية فقد اقترضت تايلند من البنوك خمسين مليار دولار فعاشت في ترف كاذب وبلغ بها الترف أنها كانت أكبر دولة في العالم في استيراد سيارات المرسيدس الفخمة. فكانت النتيجة ما رأيتم.
إن الله سبحانه وتعالى يقول: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276].
والله سبحانه وتعالى قد أعلن الحرب على آكلي الربا. وهو عقاب لم يأت في دين الله إلا على ذنبين اثنين لا ثالث لهما.
الذنب الأول معاداة أولياء الله تعالى. فقد قال النبي فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)). وفي رواية أخرى: ((من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة)). ومعاداة أولياء الله تعالى ليس معناها معاداة أصحاب القبور كما يظن بعض الناس ولكنها معاداة كل حي أو ميت ممن تنطبق عليه صفة الولاية التي ذكرها الله تعالى في قوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، فكل من كان مؤمنا متقيا فلا يجوز الاعتداء عليه بقتل أو ضرب أو سجن أو تشريد إلا بمسوغ شرعي, ومن فعل ذلك بلا عذر فهو محارب لله ورسوله.
أما الذنب الثاني الذي توعد الله عليه بالحرب فهو أكل الربا, وطالما سمعنا مرارا وتكرارا قول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279].
والله سبحانه لا يحارب بسيف ولا يضرب بعصا, ولكنه تعالى يسلط جنوده على من يشاء, ولله جنود السموات والأرض, فقد عذب سبحانه وتعالى أقواما بالريح وعذب آخرين بالقحط والسنين ونقص الثمرات، وعذب آخرين بالجراد والضفادع وأنواع الحشرات التافهة الحقيرة حتى عذب طاغية ببعوضة سبحانه وتعالى فالريح من جنوده, والدواب من جنوده, والقحط من جنوده, وغلاء الأسعار وقلة المطر وارتفاع الضرائب وقلة البركة والكوارث والمصائب في الأبدان والأولاد والأموال.
كم من الناس قد اغتصب مالا من غير حله, فعاقبه الله بالمرض حتى لم يعد يجد في المال متعة. وكم ممن أصبح ولا يستطيع أن يمتع نفسه بأكلة واحدة. وكم من الناس من أخذ الربا ليشتري سيارة فكانت نهايته أو نهاية أحد أبنائه في تلك السيارة المشؤومة, ذهبت السيارة وذهب الولد وبقيت الأقساط الربوية.
كم من الناس يقع في الربا فيمحق الله بركة ماله, فيفتح له من المصاريف وأنواع الإنفاق ما لم يكن في حسبانه وما لم يدخل في حساباته القاصرة.
وكم من الناس يقع في الربا فيبتليه الله تعالى بالأمراض والعاهات أو يصيبه بالآفات والنوازل وهو لا يعلم أن الله تعالى قد جعل ذلك عقوبة له وكانت من جنود الله الذين سلطهم الله عليه بسبب حربه لله تعالى بأكل الربا.
إن ذلك كله وغيره مما يخفى علينا هو محق البركة الذي جعله الله سنة وقانونا يصيب أكلة الربا. ولو لم يكن في الربا إلا أن الإنسان المرابي يضل يترقب مصيبة تصيبه في ماله أو نفسه أو أولاده لكفى بذلك عذابا.
وفرق بينه وبين المؤمن المتقي الذي يترقب الفرج واليسر والسعة والتيسير بحسب قانون الله وسنته التي تقول وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، والتي تقول: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا سَيَجْعَلُ ?للَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق:7].
فرق شاسع بين من ينتظر المحق والمصيبة وبين من ينتظر الرزق والتيسير من الله تعالى.
فرق بين من يحارب الله ـ ومحارب الله لا ينتصر ـ وبين الذي يكون مع الله تعالى فيكون الله معه ينصره ويؤازره ويجعل له من أمره يسرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1356)
الخمر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدرج تحريم الخمر. 2- استجابة الصحابة الفورية لتحريمها. 3- تحريم الخمر بيعاً وتداوياً
وتخليلاً وسائر ما قد يستفاد منها. 4- حكم مجالسة من يشربها حال شربه. 5- ما جاء في
النصوص في شارب الخمر ومدمنها. 6- الخمر وذهاب العقل بشربها. 7- المخدرات بأنواعها
ملحقة بالخمر لأن العلة فيها واحدة. 8- تجربة الغرب الفاشلة في محاربة الخمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد جاءت هذه الشريعة الإسلامية بالخير والتقوى والطهر والعفاف وأحلت للناس كل طيب وحرمت كل خبيث, وإن مما حرمت تحريما قاطعا أم الخبائث وأم الفواحش ووسيلة الشيطان لإيقاع العداوة الخمر وما يتبعها من كل مسكر ومغير للعقل.
وكان الناس يسلمون ويبقون على أمر جاهليتهم حتى يؤمروا أو ينهوا، فكانوا يشربون الخمر أوّل الإسلام حتى نزل قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ فقال بعضهم: لا نشربها ما دام فيها الإثم وقال البعض: نشربها للمنفعة لا للإثم؛ قال علي بن أبي طالب: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قُلْ يا أيهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ونحن نعبد ما تعبدون. قال: فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ.
فقال بعضهم: والله لا نشرب شيئا يمنعنا من الصلاة فامتنعوا عنها وبقي البعض يشربها من بعد صلاة العشاء, وكان منادي رسول الله ينادي وقت الصلاة: ألا لا يقربن الصلاة سكران. فقال عمر: اللهم أنزل علينا في الخمر بياناً شافياً؛ فنزلت: يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ والْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ.
فقال عمر وغيره من الصحابة: انتهينا. انتهينا.
وأمر النبيّ مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألاَ إنّ الخمر قد حُرّمت؛ فكسرت الدِّنان، وأُريقت الخمر حتى جرت في سِكك المدينة. فما كان الصحابة بعد ذلك يرون أشد منها تحريما.
قال أنس: «كنتُ ساقِيَ القومِ في منزلِ أبي طلحةَ، فنزل تحريم الخمر، فأمرَ مُنادياً فنادَى، فقال أبو طلحةَ: اخرُج فانظرْ ما هذا الصوتُ، قال: فخرجتُ فقلتُ: هذا مُنادٍ ينادِي: ألا إن الخمرَ قد حُرِّمَت. فقال: لي: اذهَبْ فأهرِقْها. ووالله ما راجعوا فيها قال: فجَرَتْ في سِكَكِ المدينة.
فقال بعض القوم: قُتلَ قومٌ وهي في بُطونهم، قال: فأنزَل اللَّهُ ليسَ على الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ جُناحٌ فيما طَعِموا.
ثم قوله تعالى: وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، أي احذروا ثم احذروا من مخالفة الأمر.
هكذا كان تحريمها, وهكذا كانت استجابتهم رضي الله عنهم. ولم يقل أحدهم إني مدمن لا أستطيع تركها ولم يقل أحدهم اتركها بالتدريج, بل كانت استجابة فورية: انتهينا انتهينا, قم يا أنس فاكسر الدنان وأهرقها, ولم يزيدوا جرعة واحدة.
يقول أنس في رواية أخرى: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة, وأنا أسقيهم حتى كاد الشراب أن يأخذ فيهم, فأتى آت من المسلمين فقال: أوما شعرتم أن الخمر قد حرمت، فما قالوا حتى ننظر ونسأل بل قالوا: يا أنس اكف ما بقي في إنائك, قال: فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر، وهي خمرهم يومئذٍ. وكفأ الناس آنيتهم بما فيها, حتى كادت السكك أن تمتنع من ريحها قال: فجاء رجل إلى النبي فقال: إنه كان عندي مال يتيم فاشتريت به خمراً أفتأذن لي أن أبيعه فأرد على اليتيم ماله؟ فقال النبي : ((قاتَلَ الله اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الثُّرُوبُ فَبَاعُوها، وَأَكَلُوا أثْمانَها)) ولم يأذن لهم النبي في بيع الخمر.
لم يأذن النبي في بيعها حتى ولو كانت مال يتيم مع أن الله تعالى قد شدد في حفظ مال اليتيم, بل لم يأذن صلى الله عليه وسلم في أن تحول خلا, فقد جاء أبو طلحة إلى النبي فقال: إن في حجري يتامى وقد ابتعت لهم خمراً أفلا أجعله خلاً قال: ((لا)) قال: فأهرقه.
وعن فيروز الديلمي قال: قدمت على رسول الله فقلت: يا رسول الله إنا أصحاب أعناب وكرم, وقد نزل تحريم الخمر فما نصنع بها؟ قال: ((تتخذونه زبيباً))، قال: فنصنع بالزبيب ماذا؟ قال: ((تنقعونه على غدائكم، وتشربونه على عشائكم وتنقعونه على عشائكم وتشربونه على غدائكم)) قال: قلت: يا رسول الله نحن من قد علمت ونحن نزول بين ظهراني من قد علمت فمن ولينا؟ قال: ((الله ورسوله))، قال: قلت: حسبي يا رسول الله.
بل لم يأذن النبي أن تتخذ دواء فقد جاء رجل يقال له سويد بن طارق يسأل النبيّ عن الخمر؟ فنهاه عنها، فقال: إني أصنعها للدواء؟ فقال النبيّ : ((إنها داء وليست بدواء)). وليس في الخمر منفعة جائزة أبدًا, فقد روى مسلم عن ابن عباس: أن رجلاً أهدى لرسول الله رَاوِية خمر، فقال له رسول الله : ((هل علمت أن الله حرّمها؟)) قال: لا، قال: فسَارَّ رجلاً فقال له رسول الله: ((بِم سَارَرْتَه؟)) قال؛ أمرته ببيعها؛ فقال: ((إن الذي حَرّم شربها حَرّم بيعها)) قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها؛ فلو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبيّنها رسول الله.
ولم يأذن النبي حتى في الجلوس مع من يشربها، فقال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر)).
وقال عبدُ اللّه بن عمرٍو رضي الله عنهما: لاتسلِّموا على شَرَبةِ الخمر.
فكيف يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعاطى الخمر أو ما شابهها من المسكرات والمفترات والمخدرات الخبيثة التي لا شك في تحريمها.
كيف وقد جاء من الوعيد على شاربها على لسان الرسول ما تقشعر له الأبدان وتنفر منه الطباع ويتعظ به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
استمع إلى المصطفى وهو يقول: ((مَنْ شَربَ مُسْكِراً بخُسَتْ صَلاَتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ كَانَ حَقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيهُ مِنْ طِينَةِ الْخبَالِ، قِيلَ: وَمَا طِينَةُ الْخبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيراً لاَ يعْرِفُ حَلاَلَهُ مِنْ حَرَامِهِ كَانَ حَقَاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ)).
فالذي يظن أنه يتمتع بالخمر والمخدر فليتذكر كلما شربها أنه سيدخل النار ويشرب من صديد وعرق أهل النار إلا أن يتوب الله عليه.
فكيف يرضى المسلم أن يكون مصيره إلى النار,
كيف يرضى المسلم أن يكون كعباد الأصنام فقد قال رسول الله : ((مدمن الخمر كعابد وثن)).
كيف يتعاطاها مسلم يعلم أن الله لعنها من عشرة أوجه فقد قال رسول الله : ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، إن الله عز وجل لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومستقيها)).
وجاء في حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: ((ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يُقرُّ في أهله الخبث)).
كيف يرضى مسلم أن يحرم من خمر الجنة وهو يسمع قول رسول الله : ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)).
كيف يرضى مسلم أن يكون منزوع الإيمان ولو للحظة واحدة, فعن أبي هريرة يرفعه إلى النبي قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)).
ليعلم المسلم الذي يتعاطى هذا الداء أنه ما دام على حالته تلك فإن الإيمان يخرج من قلبه وهو معرض لأشد الخطر, فكيف به لو قبض ومات على تلك الحال والإنسان يبعث على ما مات عليه, فمن منا يريد أن يبعث وهو منزوع الإيمان, وما مصير ذلك الذي يأتي يوم القيامة بقلب خال من الإيمان. نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية.
((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).
وقال عُثْمَان رضي الله عنه: اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإنَّهُ وَاللَّهِ لاَ يَجْتَمِعُ وَالإيمَانُ وإدمان الخمر أَبِدا إلاَّ يُوشِكَ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ.
لو لم يكن في الخمر إلا أنها تذهب العقل لكانت حرية بتركها, والله تعالى قد فضل الإنسان على الحيوان بالعقل, فمن ذلك الإنسان الذي يريد أن يكون مثل الحيوان فيفعل ما لا يليق ويقول ما لا يعقل, وربما ارتكب الكفر أو الجرائم الموبقة وجلب على نفسه وعلى غيره المصائب.
وانظر إلى هذه القصة التي أوردها البخاري عن حمزة رضي الله عنه قبل تحريم الخمر.فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أصبت شارفاً ـ بعيرا ـ مع رسول الله في المغنم يوم بدرٍ، وأعطاني رسول الله شارفاً أخرى، فأنختهما يوماً عند باب رجل من الأنصار وأنا أريد أن أحمل عليهما أذخراً لأبيعه، ومعي صائغ من بني قينقاع لأستعين به على وليمة فاطمة. وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت، فثار إليهما حمزة بالسيف فَجَبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما ثم أخذ من أكبادهما. قال: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت نبي الله وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر, فخرج ومعه زيد، فانطلق معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه، فرجع حمزة بصره، فقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ فرجع رسول الله يقهقر حتى خرج عنهم، وذلك قبل تحريم الخمر.
فانظر إلى ذلك الرجل الجليل الذي أذهبت الخمر عقله وسلبته لبه حتى قال كلمة كفرية. قال بعض العلماء: والخمر أمّ الفواحش أي التي تجمع كل خبيث ومن أكبر الكبائر, من شربها وقع على أمه وخالته وعمته, ومن ثم جعلها الله مفتاح كل إثم كما جعل الغناء مفتاح الزنا. وإطلاق النظر في الصور مفتاح العشق. والكسل والراحة مفتاح الخيبة والحرمان. والمعاصي مفتاح الكفر. والكذب مفتاح النفاق, والحرص مفتاح البخل. والخمر تصدع وتكثر اللغو على من شربها بل لا يطيب شرابها إلا باللغو, وهي كريهة المذاق ورجس ومن عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة, وتستر العقل الذي هو نور الهدى وآلة الرشد.
ألا ترى إلى حمزة رضي الله عنه لما زال عقله بها قال للمصطفى: هل أنتم إلا عبيد أبي أو آبائي, فجعله عبداً لكافر قال ابن العربي: وهذا قول إدّ وحديث إلى الكفر ممتد, وعذره المصطفى فيه لزوال عقله بما كان مباحاً حينئذ, ولو كان زواله بمحرم ما عذره. ومن قبائحها وفضائحها أنها تذهب الغيرة وتورث الخزي والفضيحة والندامة وتلحق شاربها بأحقر أنواع الإنسان, وهم المجانين وتسلبه أحسن الأسماء والصفات وتسهل قتل النفس ومؤاخاة الشياطين وهتك الأستار وإظهار الأسرار وتدل على العورات وتهون ارتكاب القبائح والجرائم وكم أهاجت من حرب, وأفقرت من غني, وأذلت من عزيز, ووضعت من شريف, وسلبت من نعمة, وجلبت ممن نقمة, وفرقت بين رجل وزوجه فذهبت بقلبه وراحت بلبه, وكم أورثت من حسرة وأجرت من عبرة, وأوقعت في بلية, وعجلت من منية, وكم وكم, ولو لم يكن من فواحشها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف واحد لكفى, وآفاتها لا تحصى وفضائحها لا تستقصي.
لقد تنوعت الخمور في هذه الأيام وأصبحت تسمى بأسماء مختلفة, وظهر في هذا الزمن الصنف الذين أخبر النبي عنهم بقوله : ((لاَ تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ حَتَّى تَشْرَبُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا)) ، ولكن الشريعة الغراء التي أنزلها الله لكل زمان ومكان سدت الطريق على أولئك فعرفت الخمر بتعربف جامع يحرم جميع أنواع المسكرات, طبيعية كانت أو صناعية، قليلة كانت أم كثيرة فقد قال النبي : ((كلٌّ مسكر خمرٌ، وكل مسكرِ حرامٌ)), وقال: ((كل مسكر حرام, وما أسكر منه الفرق, فملء الكف منه حرام)).
وقال: ((أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره)).
وقال: ((مَا أَسْكَرَ كثيرهُ فقليله حرامٌ)).
قال الشوكاني رحمه الله: ويحرم ما أسكر من أي شيء وإن لم يكن مشروباً كالحشيش وسائر أنواع المخدرات, ومن قال إنها لا تسكر وإنما تخدّر فهي مكابرة فإنها تحدث ما تحدث الخمر من الطرب والنشوة.
قال: وإذا سُلّم عدم الإسكار فهي مفترة, وقد أخرج أبو داود أنه "نهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر".
وحكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة وأن من استحلها كفر. قال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار, وهي من أعظم المنكرات، وهي شر من الخمر من بعض الوجوه لأنها تورث نشوة ولذة وطرباً كالخمر، وقد أخطأ القائل:
حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام
قال ابن تيمية: إن الحد في الحشيشة واجب، قال ابن البيطار: إن الحشيشة مسكرة جداً إذا تناول الإنسان منها. خصالها كثيرة, وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية، وقبائح خصالها موجودة في الأفيون وفيه زيادة مضار.
نسأل الله تعالى أن يجنبنا وإياكم الخبائث والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
يجب علينا أن نشكر النعمة التي أنعم الله بها علينا من تحريم الخمر وتحليل الطيبات, فهذه الأمم الكافرة قد حاولت مرارا أن تحرم الخمر فلم تستطع أن تمنعه رغم الإمكانيات الهائلة.
لقد بذلت بريطانيا أيام كانت الدولة العظمى جهودا جبارة بعد عام 1750م للحد من استخدام الخمر خاصة في المستعمرات الأمريكية حتى قال لويد جورج رئيس الوزراء آنذاك: "إننا نحارب ألمانيا والنمسا والخمر, وأستطيع القول بأن أعدى هؤلاء الأعداء هي الخمر" لكن المحاولات باءت بالفشل فلم يأت العام 1920م حتى كان الفرد الواحد يستهلك 27 لترا في السنة. وكذلك حاولت السويد ونورواي وفنلاندا, واستطاعت كندا فقط أصضوزن تجفف بلادها من الخمر بحلول عام 1919م.
لكن التجربة الكبرى والعظيمة هي التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية فقد عملت الجمعيات العائلية والكنائس الإنجيلكانية بالتعاون مع المؤسسات التشريعية في الحكومة على منع الخمر تجارة وشربا في جميع أنحاء أمريكا، واستمرت هذه المحاولات لمدة قرن كامل من الزمن حتى استطاعت أمريكا أن تصدر قرار تحريم الخمر في عام 1920م.
فماذا كانت النتيجة بعد ذلك.
على رغم كل الدعايات التي تحذر من مضار الخمر والتي طبع منها أكثر من ألفي مليون ورقة, وعلى الرغم من دعايات التلفاز والسينما والمسرح, وعلى الرغم من ملاحقة السلطات لكل المخالفين فبلغ عدد الذين أعدموا 300 شخص وبلغ عدد الذين اعتقلوا نصف مليون شخص, وعدد الذين غرموا ملايين الأشخاص وقدرت الخسائر بمليارات الدولارات, وكانت النتيجة عجز الحكومة الأمريكية الدولة العظمى عن تنفيذ القرار, فاضطرت لإلغائه بعد ثلاثة عشر عاما. كان من أهم نتائجها تكون عصابات التهريب العالمية وتكون أسر المافيا في أمريكا حتى أن رجلا واحدا من ذوى النفوذ خرج من العملية بعشرين مليون دولار.
وهذه نعمة يجب أن نشكرها لله تعالى حيث عافانا من ذلك البلاء. فالعجب بعد ذلك لمن يترك الطريق المستقيم ويقصد طريق النار نسأل الله العافية.
(1/1357)
الشيشان
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تدرج مشروعية الجهاد. 2- صور من الاعتداء الروسي المتكرر على المسلمين.
3- وقوف الغرب مع روسيا في حربها للشيشان. 4- وصف للحالة العسكرية والوضع في
بدايات معركة الشيشان الثانية. 5- دعوة للجهاد بالمال في هذا الجهاد المبارك.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد كتب الله الجهاد على هذه الأمة وجعله طريق عزتها وأساس قوتها ومصدر رزقها كما قال النبي : ((بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجعل رزقي تحت ظل رمحي, وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري, ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
لقد كفّ الله المسلمين عن القتال في مكة؛ لما كان فيه المسلمون من الضعف ولأن الدعوة لم تكن بحاجة إلى الجهاد في ذلك الوقت، وقيل للمسلمين: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. ثم أذن لهم في الجهاد، فقيل لهم: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة. وقيل لهم: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - "محرماً، ثم مأذوناً به، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأموراً به لجميع المشركين".
إن كثرة النصوص القرآنية الواردة في الجهاد؛ وكثرة الأحاديث النبوية التي تحض عليه؛ وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام، وعلى مدى طويل من تاريخه، إن هذه الجدية الواضحة والنصوص الكثيرة لتمنع ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الغربي الماكر على الجهاد الإسلامي! فيقولون بأن الجهاد للدفاع فقط.
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي؛ ثم يظنه يقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود؟!
بل إن الجهاد فرض على هذه الأمة إذا أوصدت الأبواب في وجه الدعوة. وهو فريضة على المسلمين حتى لو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم. وأنهم منصورون بعون الله على أعدائهم، وإن الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء، وكفء لاثنين في أضعف الحالات, وفريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم؛ فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوة، وأن يثقوا بالله، وأن يثبتوا في المعركة، ويصبروا عليها؛ والبقية على الله. ذلك أنهم يملكون قوة أخرى غير القوى المادية الظاهرة، إنهم يملكون قوله تعالى: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. فليس عليهم إلا تحقيق هذا الشرط فيتحقق المشروط.
أيها المسلمون: لا يخفى على أحد منكم ما يحدث هذه الأيام لإخواننا في الشيشان وداغستان على أيدي التحالف الأرثوذكسي الشيوعي في روسيا.
لقد عانى مسلمو القوقاز أشد المعاناة في سبيل الإبقاء على دينهم وهويتهم الإسلامية فمنذ مائة سنة وأهل الإسلام يلاقون أعنف وأبشع حملات القتل والتشريد هناك، لا لذنب اقترفوه إلا أنهم يدينون بدين الإسلام ويريدون أن يعبدوا الله كما يحب ويرضى وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فقد توالت عليهم مسلسلات القتل الصامتة التي تمارسها الحكومات الروسية، من عهد القياصرة قبل ثورة البلاشفة الشيوعية وحتى اليوم، وقد راح ضحية ذلك الاضطهاد أكثر من تسعة ملايين نسمة من مسلمي القوقاز وآسيا الوسطى، فقد استخدمهم الروس دروعاً بشريةً في الحربين العالميتين، ثم هجرهم ستالين إلى جليد سيبيريا حفاةً عراةً في فصل الشتاء فهلك منهم من هلك, ورجع الباقون منهم بعد مدة من العناء.
وقبل حوالي خمس سنوات أراد المسلمون في الشيشان أن يستقلوا بهويتهم عن روسيا كما استقلت الدول النصرانية, فأعلن المسلمون هناك رغبتهم في الاستقلال، فما كان من الحكومة الروسية إلا أن بادرت بكل بشاعة إلى قصف المدن الشيشانية قصفاً وحشياً، وإنزال القوات بها والتي مارست بها أحدث طرق الإبادة الجماعية، على مرأى ومسمع من العالم والذي كان يبارك مثل هذه العمليات الوحشية، ويقول: هذا شأن روسيا الداخلي.
وبعد سنة من التنكيل والعذاب أعلن الروس انسحابهم وأعلنت الشيشان استقلالها من جانب واحد، وكان حصاد ذلك الحقد آنذاك قتل أكثر من مائة ألف مسلم غير الجرحى والمشردين.
ولكن الروس منذ خروجهم من الشيشان وحتى الآن وهم يحاولون جاهدين قمع كل صوت ينادي بالحرية الإسلامية في القوقاز رغم أن الغالبية فيه من المسلمين، فكانت داغستان ذات المليوني نسمة من الجمهوريات الاستراتيجية بالنسبة لهم، فحاولوا تغييب أهلها عن الإسلام وقمع الحركات الإسلامية هناك ما عدا الحركات الصوفية التي تُسبّح بحمد الروس، بينما الحركات التي كانت تنادي بالإسلام الخالص، على المنهج القويم نالها ما نالها من القمع والقتل والتشريد، خاصةً العلماء والدعاة والأئمة منهم، فهدموا مساجدهم ومدارسهم وأغلقوا مراكزهم الإسلامية، وأرهبوهم بكل أنواع الإرهاب، فاستغاثوا بإخوانهم في العالم الإسلامي ليدفعوا عنهم هذا العدو المتوحش، الذي تعدى على الدين والأنفس والأموال والأعراض وسامهم سوء العذاب، فلم يجبهم أحد من الناس إلا إخوانهم الشيشانيون وبعض المجاهدين العرب الذين نصروهم ودافعوا عنهم بأنفسهم وأموالهم، فانتفض الروس عندما وجدوا مقاومة من المسلمين، فهم على عادتهم يريدون أن يمارسوا تشريد المسلمين وقتلهم واغتصاب أعراضهم، من غير معترض عليهم ولا مدافع، فلما وجدوا رجالاً دافعوا عن دينهم وأعراضهم وأنفسهم وأموالهم، قالوا: إرهابيون مدعمون من بعض الدول الإسلامية، ليقطعوا بذلك الطريق على من يريد نصرتهم من غير الشيشانيين، وشوّهوا سمعتهم فقالوا: إنهم تجار مخدرات وقطاع طرق ومرتزقة لصوص وغيرها من التهم والتي روجت لها كل وسائل الإعلام، بينما هم في الحقيقة شباب أرادوا إيقاف العنجهية الروسية عند حدها، والدفاع عن دينهم ضد العدو الصائل، وأي جرم يرمى به من يدافع عن دينه ونفسه؟
فبدأ الروس في الخامس والعشرين من شهر ربيع الثاني لهذا العام بالقصف الوحشي على كل القرى الداغستانية، التي أبى أهلها أن يخضعوا للإلحاد الروسي، وحاصروها حصاراً شديداً وخاصةً إقليم (كرماخي)، فقتلوا على إثر ذلك أكثر من عشرة آلاف مسلم، وأضعاف هذا العدد من المشردين.
كانت روسيا تستنكر على قوات حلف شمال الأطلسي قصف يوغسلافيا، بحجة الدفاع عن المدنيين العزل فما بالها الآن تتناسى حقوق المدنيين, فتقتل الآلاف منهم وتشرد عشرات الآلاف خلال أقل من شهرين، وتمارس أضعاف ما مارسته قوات الأطلسي؟
وفي نفس الوقت لماذا لم تستنكر القوات الأطلسية على الروس ما استنكروه عليها من قتل المدنيين وتشريدهم؟
والجواب سهل جدًا: لأن الضحايا من المسلمين أصحاب الدماء الرخيصة.
فوقفت الدول الغربية المحبة للسلام تتفرج على ذبح المسلمين.
ليس ذلك فقط بل إنها قد ضربت بمبادئها المزيفة عرض الحائط وتدخلت في الحرب ووقفت مع الجيش الروسي المنهار لدعم المجازر التي ترتكبها القوات الروسية في داغستان والشيشان ضد المدنيين.
والكفر ملة واحدة. وبعضهم أولياء بعض.
أعلنت حكومة إسرائيل أنها كلفت جهاز الموساد بمساعدة القوات الروسية في القضاء على التمرد الإسلامي في داغستان.
و أعلن كذلك رئيس مكتب التحقيقات الأمريكي عندما زار موسكو بعد الانفجار الذي وقع بها، أنه سوف يقف بكل ما يملك وجهازه الإستخباراتي بجانب القوات الروسية في القضاء على (الإرهابيين).
وهذا ما أكده وزير الدفاع الأمريكي الذي زار موسكو لتنسيق المشاركة معهم، وبعدها بأيام أكد الرئيس الأمريكي عندما التقى رئيس الوزراء الروسي، أنه سوف يدعم المساعي الروسية لإحلال الأمن في روسيا وفي داغستان بكل الوسائل ورافق هذا الإعلان استعداد الاستخبارات البريطانية تقديم المساعدة للروس للقضاء على الإسلاميين.
أما رئيس الوزراء الكندي فقد قال نحن نؤيد الحكومة الروسية في استخدامها للقوة لوقف التمرد. قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.
ونحن لا نستغرب هذا العداء الموحّد من الكافرين ضد المسلمين فهذا بيّنه الله تعالى بقوله: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وقوله: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وبيّنه الرسول بقوله: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها)).
ولكن الذي نستغربه هو أن المسلمين صدّقوا ما تنقله وسائل الإعلام الغربية أن القوات الروسية تدافع عن نفسها من اعتداءات المسلمين الذين بدءوا بالهجوم على القوات الروسية البريئة!!. وبادرت الدول الإسلامية بإعلان برائتها من تقديم أي مساعدة للمجاهدين.
وعندما رأى الروس أن الذين نصروا المستغيثين من داغستان هم أهل الشيشان قاموا في الثالث عشر من جمادة الثاني، بإنزال قواتهم على الحدود الشيشانية من جميع الجهات، وذلك بدعم المادي من الدول الغربية التي دعمت الروس بالأموال حتى رفعوا راتب الضابط الروسي إلى 1400دولار والجندي إلى 1000دولار، في الوقت الذي يتقاضى فيه نائب رئيس مجلس الدوما الروسي مرتباً قدره 250دولاراً، كل ذلك لوقف إقامة دولة مستقلة للمسلمين هناك.
ولكن رواتب الجنود المغرية لم تمنعهم من الفرار عند مقابلة طلاب الموت في سبيل الله فتراجعت القوات الروسية عشرات الكيلومترات مما اضطر وزارة الدفاع الروسية إلى قصف مؤخرة جيشها بالطائرات حتى تمنعهم من الهرب. فروسيا هي الدولة الوحيدة التي تقتل جنودها. وصدق الله تعالى فيهم وفي أمثالهم من اليهود عندما قال: لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من ورآء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
ونحن بحمد الله واثقون من نصر الله تعالى إذا قام المسلمون هناك بأداء ما عليهم. والشيء المهم أن تكون نية الحرب هي إعلاء كلمة الله وتطبيق شرع الله على عباد الله في أرض الله.
وقد سمعنا بحمد الله تعالى من المجاهدين هناك ما يدل على صدق هذه النية:
فهذا أحد قادة الحرب في المنطقة وهو شامل باساييف يقول: إن ما يحدث هو الجهاد لإخراج الكفار من الأراضي الإسلامية التي ظلت إسلامية على مدار ثلاثة عشر قرنا، ونحن نسعى لضم الشيشان وداغستان وإنغوشيا في دولة مسلمة واحدة.
أيها الإخوة: لقد تمركز المجاهدون في المرتفعات التي لم تستطع القوات الروسية الوصول إليها. ووضع المجاهدين من الناحية الميدانية والقتالية جيد إلا أنه ينقصهم المال لشراء الأسلحة والذخائر, وهذه فرصتكم للجهاد بالمال.
أما القرى الشيشانية التى اجتاحتها قوات الروس فهي تعيش تحت مستوى الفقر بالإضافة
إلى المشردين في العراء الذين يقدرون بعشرات الآلاف لا يمنعهم من الروس إلا رب السماء.
إن القوات الروسية تقصف القرى والمدن بصواريخ سكود وأراغون المحرمة دوليا.
وقد خرج المجاهدون من جميع منطقة القوقاز يجاهدون بجانب إخوانهم الشيشان، حيث نفر المجاهدون من داغستان وقرتشاي وكابردين بلغار وأنغوشيا.
حاولت القوات الروسية التقدم لاحتلال إحدى المرتفعات المطلة على العاصمة غروزني، وقد تصدى المجاهدون لهذا الهجوم، حيث قُتل أكثر من عشرة من الروس ودُمرت دبابة وفُجرت شاحنة ذخيرة.
تقدمت القوات الروسية من جهة الغرب إلى الشرق خمسة كيلو، وقد قُتل من جراء هذا التقدم خمسون من الروس ودُمرت ثلاث آليات، وأُسقطت طائرة مروحية.
لا يزال القتال مستمراً في منطقة باموت على الحدود الشيشانية الأنغوشية، وقد قُتل في هذه المنطقة منذ بداية القتال مائتان من الروس، ودُمرت اثنا عشر آلية. وأسقط المجاهدون عددا من الطائرات.
قصف المجاهدون بقذائف الهاون القوات الروسية التي تحاول احتلال المرتفعات المطلة على العاصمة، وقد قُتل وجرح من الروس ما لا يقل عن خمسين.
تستخدم القوات الروسية في إبادتها للمدنيين صواريخ تحمل قذائف عنقودية تنفجر في الهواء وتؤدي إلى إبادة جماعية، وقد أعلنت الحكومة الروسية أن الروس يستخدمون الصواريخ العنقودية التي تؤدي إلى إبادة جماعية, وأكثر القتلى بسبب هذه الصواريخ من النساء والأطفال
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
_________
الخطبة الثانية
_________
والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال. ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال، ومركب القتال، وزاد القتال، لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند. إنما تطوع بالنفس وتطوع بالمال.
لقد كثرت التوجيهات القرآنية والنبوية إلى الإنفاق في سبيل الله. الإنفاق لتجهيز الغزاة وصاحبت الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع.. بل جعل الله عدم الإنفاق تهلكة ينهى عنها المسلمون كما في قوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
والإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح، وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف.
ويدعو الله المؤمنين الواثقين الموقنين بقوله: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون.
إنه الدعوة بالصفة الحبيبة إلى نفوس المؤمنين، والتي تربطهم بمن يدعوهم، والذي هم به مؤمنون: يا أيها الذين آمنوا.
هي الدعوة إلى الإنفاق من رزقه الذي أعطاهم إياه. فهو الذي أعطى، وهو الذي يدعو إلى الإنفاق مما أعطى: أنفقوا مما رزقناكم.
وهي الدعوة إلى الفرصة التي إن أفلتت منهم فلن تعود من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة. يوم لا ينفع فيه دينار ولا درهم.
فهي الفرصة التي ليس بعدها بيع تربح فيه الأموال وتنمو. وليس بعده صداقة أو شفاعة ترد عنهم عاقبة النكول والتقصير. إنه يدعوهم إلى الإنفاق من أجل إعلاء كلمة الله. فهو الإنفاق للجهاد. لدفع الكفر. ودفع الظلم المتمثل في قوله: والكافرون هم الظالمون.
مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم.
إنه صورة من صور الحياة: صورة الزرع. هبة الأرض أو هبة الله. الزرع الذي يعطي أضعاف ما يأخذه، ويهب غلاته مضاعفة بالقياس إلى بذوره. يعرض القرآن هذه الصورة العجيبة مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله... إن الله يضاعف لمن يشاء. يضاعف بلا عدة ولا حساب. يضاعف من رزقه الذي لا يعلم أحد حدوده؛ ومن رحمته التي لا يعرف أحد مداها: والله واسع عليم ، واسع لا يضيق عطاؤه ولا يكف ولا ينضب. عليم ، يعلم بالنوايا ويثيب عليها، ولا تخفى عليه خافية.
فأنفقوا أيها الأخوة ولا تطيعوا الشيطان الذي يصدكم عن الإنفاق:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.
الشيطان يخوفكم الفقر، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب على الدنيا ولكن المؤمن أقوى من الشيطان إذا سمع موعود الله، حتى كان أصحاب النبي ينفق أحدهم نصف ماله وثلث ماله بل ويخرج بعضهم عن ماله كله في سبيل الله ويتصدق بأحب شيء إليه عندما يسمع قول الله تعالى. لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
أيها الأخوة: ومعنا اليوم إخوانكم من مؤسسة الحرمين الخيرية التي من الله عليها بفتح مكتب في الشيشان يقدمون الدعم من خلاله. وهم يحتاجون لمساعدتكم. فأنفقوا بارك الله فيكم ولا تبخلوا على إخوانكم. وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء.
(1/1358)
العين
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنكار بعض الماديين لقوى الروح والنفس. 2- الحسد والسحر.. كلها لا تقع إلا بقدر الله.
3- ثبوت العين كما جاء في النصوص الشرعية. 4- يجب على العائن أن يراقب الله ويشرع
في علاج نفسه. 5- كيفية الوقاية من العين. 6- أذكار نبوية تقي من العين.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن مما يتحدث عنه الناس كثيرًا في هذه الأيام تلك السهام القاتلة التي انطلقت من قوس الحسد والشر فطالت كثيرا من الناس ممن تهاون بأمر الوقاية منها.
تلك هي الإصابة بالعين، وهي التي انقسم الناس فيها بين مكذب شاك في الوقوع، وبين غال يرجع كل حدث ومصيبة إلى عين عائن.
والتوسط بين هذا وهذا هو الحق الذي جاء به القرآن والسنة.
وقد ساهمت وسائل الإعلام المخادعة في التشويش على المسلمين في هذه القضية، فمنهم من يعرض قضية الإصابة بالعين على أنها خرافة لا يصدقها العقلاء، وهذا يأتي ضمن الحملة الماكرة التي يقوم بها هؤلاء في سبيل هدم المسلمات عند المسلمين فيعرضون القضايا الثابتة بالكتاب والسنة على التافهين والتافهات والساقطين والساقطات ليقولوا فيها رأيهم.
وأي رأي يقبل بعد قول الله وقول رسوله.
ومنهم من يعرض هذا الأمر على أنه مناسبة للتندر، وإظهار العائن في موقف المفتخر وعلى أنه صاحب خارقة وصاحب ميزة، مع أنه في الحقيقة صاحب نفس شريرة وخصلة ذميمة وصاحب سوأة من سوءات النفس وعورة من عورات الضمير, يجب عليه التخلص منها أوكتمها والاستحياء منها. والمسلم الحق يعرف أن ما جاء في الكتاب والسنة هو الحق الذي تحرم مخالفته بأي حال من الأحوال..
إن الله تعالى قد خلق عالم الأبدان وعالم الأرواح وجعل لكل منهما خصائصه وتأثيراته، وكما أن الأجسام يؤثر بعضها في بعض، فإن النفوس كذلك يؤثر بعضها في بعض بإذن الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: "وتأثيرات النفوس بعضها في بعض أمر لا ينكره ذو حس سليم ولا عقل مستقيم, فإن تأثيرها في العالم يقوي جدا تأثيرا يعجز عنه البدن، وأعراضه أن تنظر إلى حجر عظيم فتشقه أو حيوان كبير فتتلفه أو إلى نعمة فتزيلها, وهذا أمر قد شاهدته الأمم على اختلاف أجناسها وأديانها وهو الذي يسمى (إصابة العين) فيضيفون الأثر إلى العين وليس لها في الحقيقة, وإنما هو النفس المتكيفة بكيفية ردية سمية وقد تكون بواسطة نظر العين وقد لا تكون بل يوصف له الشيء من بعيد فتتكيف عليه نفسه بتلك الكيفية فتفسده، وأنت ترى تأثير النفس في الأجسام صفرة وحمرة وارتعاشا.ولم تزل الأمم تشهد تأثير النفوس وتستعين بها وتحذر أثرها".
ولنا أيها الإخوة في هذا الموضوع وقفات للذكرى:
الوقفة الأولى : أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن ما يحدث في هذا الكون لا يحدث إلا بتقدير الله الحكيم وقضائه النافذ، وأنه لا يجوز نسبة شئ من الحوادث في هذا الكون إلى مخلوق أبدا إلا على سبيل السبب.
فنحن أهل السنة لا ننفي أن الله جعل لكل شئ سببا، لكننا ننفي أن يقع شئ إلا بعد أن يقدر الله وقوعه على النحو الذي أراد.
وأنه ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن.
فما شاء كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم يشأ لم يكن
والله تعالى يقول في السحر: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.
ويقول: وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا.
ويقول: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير.
فالله تعالى هو القدير الحكيم, وهو المدبر المصرف وهو المالك المتصرف.
فإذا علمنا هذا حق العلم، وأدركناه حق الإدراك، حقيقة لا مجرد لفظ، فإننا نكون قد قطعنا نصف المسافة أو أكثر في علاج هذا الموضوع.
الوقفة الثانية : أن الإصابة بالعين حق كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وكما أشار إليه القرآن في مواضع.
يقول الله تعالى لنبيه الكريم: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون.
فهذه النظرات الحاقدة الحاسدة من الكفار تكاد تؤثر في أقدام الرسول فتجعلها تزل وتنزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها! وهو تعبير عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة، وحمى وسم، وقد قال غير واحد من المفسرين في هذه الآية: "إنه الإصابة بالعين" فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجته.
وقال بعض المفسرين: "كان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها ثم يقول لخادمه خذ المكتل والدرهم وآتنا بشيء من لحمها فما تبرح حتى تقع فتنحر". ثم قال: "كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به كفعله في غيره, فعصم الله تعالى نبيه وحفظه وأنزل عليه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم.
وأشار القرآن كذلك إلى تأثير العين على لسان نبي من أنبياء الله وهو يعقوب عليه السلام عندما خاف على أبنائه وقال لهم: وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة. قال ابن عباس وغيره: "خشي عليهم العين, وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة, ومنظر وبهاء, فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم, فإن العين حق".
ومع ذلك، ومع شدة العاطفية الأبوية الخائفة على الأبناء، لا ينسى يعقوب عليه السلام أن هذا التدبير لا يغني عنهم من الله شيئا، وأن الحكم النافذ هو حكم الله وحده؛ وإنما هي حاجة في النفس لا تغني من الله وقدره، فاستدرك قائلا: وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون.
أخذ بالسبب ثم أوكل الأمر لله بعد ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا)).
اغتسل سهل بن حنيف رضي الله عنه بالخرار فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه. وكان سهل رجلا أبيضا حسن الجلد، فقال له عامر بن ربيعة: "ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء". فوعك سهل مكانه واشتد وعكة. فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامر: ((علام يقتل أحدكم أخاه, ألا بركت, إن العين حق, توضأ له)) فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن قتلى العين من هذه الأمة كثير...قال صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره بالأنفس)) يعني بالعين.
فإذا كان هذا هو عدد الموتى فما بالك بعدد المرضى والمصابين في حوادث وكوارث.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا فيتردى منه)). أي يدفع به تأثير العين حتى يصعد جبلا فيسقط منه.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: رخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم في رقية الحية, وقال لأسماء بنت عميس ((مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة تصيبهم الحاجة؟)) قالت: لا, ولكن العين تسرع إليه, قال: ((أرقيهم)) قالت: فعرضت عليه فقال: ((أرقيهم)).
فهذه النصوص كلها تدل على هذا التأثير الخفي الذي تحدثه هذه النفوس التي تنزع إلى الحسد والشر. وهذا يكفي عند المسلم في الإثبات حتى ولو خالفه الأطباء والماديون. فكلام الله وكلام رسوله أولى بالإتباع.
وقد جرب الناس من تأثير الأرواح بعضها في بعض عجائب تفوت الحصر فعالم الأرواح عالم آخر أعظم من عالم الأبدان وأحكامه وآثاره.
الوقفة الثالثة : أنه ينبغي على كل من عرف في نفسه هذه الخصلة القبيحة أن يتقي الله في إخوانه المسلمين, فإنه سوف يحاسب عن كل ضرر ألحقه بمسلم. وعليه أن يعالج نفسه بالعلاج النبوي ومن ذلك:
1-أن يعلم أن الله تعالى هو الذي يقسم الرزق بين الناس لحكمة بالغة.فلا يعترض على حكم الله ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فإن الحسد صفة إبليس التي أخرجته من الجنة.
2-أن يعلم أنه مؤاخذ بنتيجة فعله حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذا الفعل قتلا فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه".
3-أن يدعو بالبركة لأخيه المسلم إذا رأى منه شيئا يعجبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل: ((ألا بركت)).أي قلت: اللهم بارك عليه, وعليه أن يداوم على ذكر الله تعالى وقراءة القرآن على كل أحواله.
4-أن يكف عن مخالطة الناس ويلزم بيته إلا لحاجة. حتى قال كثير من العلماء: إن من عرف بذلك حبسه الإمام, وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت.
5-على هذا الرجل-بل على كل واحد من المسلمين- أن لا يتكبر ولا تأخذه العزة بالإثم إذا طلب منه أن يغتسل. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين)) , وقال صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استغسلتم فاغسلوا)).
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل العائن مغابنه ومواضع القذر منه ويتوضأ ثم يصب ذلك الماء على المعين فإنه يزيل عنه تأثير نفسه فيه.
فلا يمتنع المسلم عن الغسل لأخيه, فإن في ذلك عدة فوائد، منها طلب الأجر بامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم, ومنها إبراء الذمة إذ قد تصيب العين من غير قصد, ومنها تطييب نفس أخيك المسلم, ومنها الشعور برباط المجتمع الواحد.
الوقفة الرابعة :
أن العائن له صفات ينبغي على كل مسلم أن يتجنبها.
ومن ذلك:
أن العائن دائم التسخط على أقدار الله تعالى، ينسى قول الله تعالى: أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريًا , فتجده دائم الشكوى، يرى النعمة عليه نقمة، لا يرضيه شئ.. يقول معاوية رضي الله عنه: "كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسدا على نعمة فلا يرضيه إلا زوالها".
والعائن يتصف بالبخل والشح, فكيف يعطي من ماله ما يزيده حسرة وهو الذي لو استطاع أن يمنع دون الناس قطر السماء ونبت الأرض لفعل لما في قلبه من الحسد، وقد قيل: البخيل يبخل بماله, والشحيح يبخل بمال غيره, والحسود يبخل بنعم الله على عباده.
ومن صفات العائن اللؤم والخسة وبذاءة اللسان, ومن صفات العائن أنه يجيد عبارات الوصف وكلمات التشبيه ولذا تجد على لسانه دائما: "هذا كأنه كذا", "وهذا كأنه كذا", "وهذا أحسن من كذا", "وهذا أفضل من كذا".
الوقفة الخامسة : الوقاية من هذه الشرور تكون بعدة أمور منها:
1-ملازمة ذكر الله تعالى في كل الأوقات كما شرع الله لنا ذلك وبخاصة أذكار الصباح والمساء.
2-حسن التوكل على الله تعالى، وذلك بصدق إعتماد القلب على الله في دفع المضار وجاب المنافع، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي إلا الله ولا يمنع إلا الله ولا يضر ولا ينفع سواه. ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
3-ستر المحاسن التي يخشى عليها الإصابة من العين خاصة من النساء والأطفال. وقد رأى عثمان رضي الله عنه صبيا مليحا فقال لأهله :"دسموا نونته لا تصيبه العين" أي اجعلوا على ذقنه شيئا من السواد حتى لا تستحسنه العيون.
4-إذا فعل الإنسان الأسباب السابقة فإن عليه بعد ذلك أن ينسى هذا الموضوع ولا يعيره اهتماما ولا يفكر فيه وليفرغ قلبه من هذا الأمر نهائيا فلا يجعل ذلك همه ولا يلتفت إلى وساوس الشيطان فإن نسيان هذا الأمر وعدم ملء القلب به هو من أقوى الأسباب على دفع شر العين, ودفع مرض الوسواس.
وليعلم المسلم أن أكبر الأسباب لدفع هذا الشر هو الالتجاء إلى مسبب الأسباب العزيز الحكيم الذي يقول: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله.
أسأل الله العظيم أن يجنبنا وإياكم الفتن والشرور.
_________
الخطبة الثانية
_________
الوقفة السادسة : لنعلم أن الله تعالى قد قدر الأقدار وسبب المسببات, وأنه ربما أراد أناسا بامتحان وبلاء وأراد آخرين بتمحيص الذنب أو رفع المنزلة في الجنة فقدر عليهم بعض هذه الأمراض، فعليهم أن يصبروا ولا يجزعوا، ويعلموا أنه خير أراده الله تعالى بهم إن كانوا مؤمنين.
ويعلم المسلم أن الله تعالى ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، وأنه تعالى لم يجعل شفاء الناس فيما حرم عليهم.
وإن مما حرم الله تعالى أشد التحريم إتيان السحرة والمشعوذين والدجالين الذين يرجمون بالغيب، وجعل ذلك نوعا من أنواع الكفر بالله تعالى.
وقد جعل الله هذا القرآن المعجزة شفاء للمؤمنين من أدواء القلب والبدن.
ولم يشترط الله سبحانه واسطة بينه وبين خلقه بل قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان.
فلا تذهب لفلان وفلان من الذين يرقون، ولا تتعلق بأحد دون الله تعالى وعليك فقط أن تحفظ بعض الآيات وبعض الأدعية المأثورة ثم تتجه إلى الله تعالى بقلب مؤمن مضطر يعلم أن الشافي هو الله ثم تدعو الله الذي إذا علم صدقك فلن يخيبك أبدا.
فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين وفاتحة الكتاب وآية الكرسي ومنها التعوذات النبوية
نحو: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) , ونحو ((أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة, ومن كل عين لامة)), ونحو ((أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ, ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج, فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض, ومن شر ما يخرج منها, ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن)).
ومنها: ((أعوذ بكلمات الله التامة من غضبة وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)).
ومنها: ((اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته, اللهم إنه لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك سبحانك وبحمدك)).
ومنها: ((ربي الله لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم, ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن, لا حول ولا قوة إلا بالله, أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما, وأحصى كل شيء عددا, اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه, ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم)).
وإن شاء قال: ((تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء واعتصمت بربي ورب كل شيء, وتوكلت على الحي الذي لا يموت واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله, حسبي الله ونعم الوكيل, حسبي الرب من العباد, حسبي الخالق من المخلوق, حسبي الرازق من المرزوق, حسبي الذي هو حسبي, حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه, حسبي الله وكفى, سمع الله لمن دعا, ليس وراء الله مرمى, حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)).
ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: ((باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك, من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك)).
قال ابن القيم رحمه الله: "ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها وشدة الحاجة إليها, وهي تمنع وصول أثر العائن وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها وقوة نفسه واستعداده وقوة توكله وثبات قلبه فإنها سلاح, والسلاح بضاربه".
(1/1359)
الولاء والبراء
الإيمان
الولاء والبراء
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الولاء والبراء من أساسات الإيمان. 2- عداوة الكفار لنا أبدية. 3- المنافقون يميلون إلى
الكفار ويستعزون بهم. 4- تحذير القرآن في الميل للكافرين أو مهادنتهم أو مداهنتهم.
5- التحذير من دعوة تقارب الأديان.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد حذرنا الله سبحانه وتعالى أشد التحذير من أن نتخذ الكفار أولياء في آيات كثيرة لا تدع مجالا للشك في أن هذا الأمر من أساسات الإيمان.
استمع إلى قول الله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير.
إن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله، فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟
إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد ويحذركم الله نفسه ، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو والى أعداء الله، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصر أعداء الله، أو باستنصار أعداء الله أو بالمحبة أو بالميل أو بالمشاركة في الأفراح والأتراح.
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء.
هكذا ليس من الله في شيء. لا في صلة ولا نسب، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية، فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما.
الله تعالى قد قسم الناس إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق مطيع لله وفريق عاص لله، فريق يعمل فيما يرضي الله وفريق يسعى فيما يغضب الله.
فريقان على طرفي نقيض لا يمكن أن يلتقيان أبدا. هؤلاء في جانب, وهؤلاء في جانب آخر. جبهتان متقابلتان وصراع دائم لا ينتهي.
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا.
ينقسم الناس إلى فريقين اثنين؛ تحت رايتين متميزتين: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت.
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ؛ لإعلاء كلمة الله، لتحقيق منهج الله، لإقرار شريعة الله، لنصرة دين الله ولإقامة العدل بين الناس باسم الله. لا يقاتلون لأي شيء آخر. اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم وهو المطاع.
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله!
يقف الذين آمنوا مستندين إلى ولاية الله وحمايته ورعايته ونصره.
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم.. فكلهم أولياء الشيطان.
فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا.
هكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد. مقتنعين بأنهم يخوضون المعركة لله، ليس لأنفسهم، ولا لذواتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم، إنما هي لله وحده، ولدينه وشريعته.
هذا هو الموقف بين المؤمن والكافر، لا معاونة ولا مناصرة ولا مداهنة ولا مجاملة، ولا تعاون ولا تمازج ولا تميع ولا تطبيع ولا صداقة ولا تداخل ولا شراكة ولا حتى مشابهة.
وإنما هي ثلاثة خيارات لا رابع لهما، إما أن يسلموا فيكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يكونوا تحت حكم المسلمين ويدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون مقابل حماية المسلمين لهم، وإما الحرب الطاحنة والصراع المرير الذي جعله الله تعالى سنة الحياة بين الحق والباطل حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
لا بد أن تكون هذه هي العلاقة رضينا أم أبينا، فإن العداوة للمسلمين والكيد للمسلمين والغدر بالمسلمين والخداع للمسلمين هي صفات لازمة للكفار مهما كانوا وأين وجدوا.
ولا ينبئك مثل خبير، فهذا العليم الخبير ينبئك بصفاتهم وسلوكهم تجاهك أيها المسلم: ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم.
إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون.
ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم.
لقد حسدوكم على كل شيء.
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا.
ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة.
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ، كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم ، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون.
هؤلاء هم الكفار وهذه هي صفاتهم سواء علينا صادقناهم وطلبنا ودهم أم عاديناهم, فالنتيجة واحدة والصفات متأصلة داخل نفوسهم.
عداوة وحقد وبغضاء وحسد وكيد.
فما هو موقفك أيها المسلم؟
ما هو موقفك تجاه من يكرهك؟ ما هو موقفك تجاه من يعاديك ويحقد عليك؟ ما هو موقفك أيها المسلم تجاه من يضمر لك الكيد ويحمل لك الحسد؟
بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرون أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعًا.
سبب هذا العذاب الأليم هو ولايتهم للكافرين دون المؤمنين؛ وسوء ظنهم بالله؛ وسوء تصورهم لمصدر العزة والقوة.
لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله - عز وجل - بالعزة؛ فلا يجدها إلا من يتولاه؛ ويطلبها عنده؛ ويرتكن إلى حماه.
إن العزة لله وحده؛ فهي تطلب من عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند غيره!
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال، ولمن شاء أن يختار.
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله. وما أحوج ناسا ممن يدَّعون الإسلام؛ ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن.. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين، وإلا فإن الله غني عن العالمين!.
ثم يقول جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا.
ويحذر سبحانه وتعالى كل مؤمن بقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس - بعد رسالة محمد ـ, وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه، منهج متفرد؛ لا نظير له بين سائر المناهج؛ ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر؛ ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر؛ ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا الدين وحده دون سواه؛ ولا يعفيه الله ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا الدين بكل جوانبه: الاعتقادية والاجتماعية؛ لم يأل في ذلك جهدا، ولم يقبل من منهجه بديلا, ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي، ولا في نظام اجتماعي، ولا في أحكام تشريعية، ولا في أحكام نظرية.
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو الذي يدفعه للعمل والنهوض لتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس؛ في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان. وإلا فما قيمة الإيمان إذًا؟
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح. فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله. والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي، إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام، وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام, ولا يقبل دونه بديلا؛ ولا يقبل فيه تعديلا إن الدين عند الله الإسلام , ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه , واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك , اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين , ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1360)
مع قصة الذبيح
سيرة وتاريخ
القصص
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة هجرة إبراهيم وزوجه هاجر إلى أرض الحجاز. 2- قصة ذبح إسماعيل وموقف
النبيين الكريمين من أمر الله. 3- بناء الكعبة وآذان إبراهيم بالحج. 4- فضل أيام العشر من
ذي الحجة. 5- أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
سار إبراهيم الخليل عليه السلام بزوجه هاجر وابنه الرضيع إسماعيل من بلاد الشام حتى وصل بهما إلى الأرض المباركة إلى جبال فاران بمكة ووضعهما في ذلك الوادي الموحش وتركهما هناك.
تتعلق هاجر بثيابه وهو يهم بالرجوع وتقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها.
لم يجبها الخليل لأنه لا يعلم إلا أن الله أمره بوضعهما في ذلك الوادي المقفر, ولا بد من الطاعة والامتثال له.
قالت هاجر: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: فاذهب إذا فإن الله لن يضيعنا.
إيمان عميق، وثقة بالله عجيبة.
امرأة وطفل رضيع في مكان ليس به أنيس ولا حسيس، في مكان ليس به طعام ولا ماء، ومع ذلك تذعن لأمر الله وتثق بوعد الله ورحمته. فيأتيها الفرج.
وكم كانت منزلتها عظيمة، وكم كانت بركتها على الناس كثيرة.
وما هي إلا سويعات تمضي قبل أن ينفذ الماء من السقاء، ويتلوى إسماعيل الصغير من العطش.
ولم يكن أمام تلك المرأة الضعيفة من حل سوى أن تقوم باستطلاع المكان، فتصعد جبل الصفا لتنظر هل في الأفق من أحد.
وهي تدعو وتستغيث بالله تعالى. ولم تر أحدا.
تنزل من الصفا إلى الوادي الذي بينه وبين المروة حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود وكأنها تريد أن تسابق الزمن لترقى إلى المروة فلما وصلت أعلى ذلك الجبل نظرت فإذا بها لا ترى أحدا من تلك الجهة. فتنزل مرة أخرى إلى الصفا.
فعلت ذلك سبع مرات تصعد الصفا وتنظر وتدعو وتنزل ثم تصعد المروة وتدعو ثم تنزل، قال النبي : ((فلذلك سعى الناس بينهما)).
قطعت هاجر الأمل من الخلق ولم يبق إلا أملها ورجاؤها في الخالق الذي توجهت إليه بالدعاء. وإذا بها تسمع صوتا. قالت: قد أسمعت إن كان عندك غوث. فإذا هي بالملك عند قدم الرضيع, وقد بحث بعقبه حتى ظهر الماء المبارك. فأخذت تزم الماء وتحيطه بحوض من الرمل وتملأ سقائها.
قال النبي : ((إن جبريل لما ركض زمزم بعقبه جعلت أم إسماعيل تجمع البطحاء. ثم قال: رحم الله هاجر لو تركتها كانت عينا معينا)).
كان إبراهيم عليه السلام قد دعا الله تعالى قائلا: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
فأتى الله بقبيلة من اليمن فحلوا في ذلك الوادي فأنست بهم هاجر وابنها إسماعيل. فكانت هاجر وابنها نواة لهذا البلد المبارك.
وهذه هي عاقبة الصبر واليقين. التي ينبغي أن تكون في شعور كل مسلم.
وما إن ينتهي ذلك الابتلاء لإبراهيم وهاجر وابنهما -بالنجاح والفوز برضا الله تعالى- حتى يبدأ امتحان جديد أقوى من الأول.
فلم يكد إسماعيل يشب ويبلغ مبلغ الرجال حتى يأتي الأمر لإبراهيم بذبحه.
ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم بابنه الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام، الذي يصفه ربه بأنه حليم.
ثم ننظر إلى الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم.
قال تعالى: فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
سبحان الله! ما هذا الإيمان وما هذه الطاعة وما هذا التسليم؟.
هذا إبراهيم الشيخ الكبير. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاماً حليمًا عليمًا.
وها هو ذا ما يكاد يأنس به، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، لا يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ورؤيا الأنبياء حق. فهو الأمر من ربه بالتضحية. فماذا؟
إما طاعة الله وإما محبة الولد.
إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم.
إن الأمر جاء مناما، وهذا يكفي، هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!
كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء.
قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى.
والأمر شاق، فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو ذبحه بيده.
يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه!
يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فربه يريد. فليكن ما يريد.
وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً، لا قهراً واضطراراً. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم!.
إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يرى أنه أبقى من الحياة.
فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى المنزلة التي ارتقى إليها أبوه.
قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
إنه يتلقى الأمر في طاعة واستسلام ورضى ويقين.
ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة. ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
لم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه مكانة ولا وزناً، إنما أرجع الفضل كله لله إذا هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يريد به.
ويخطوان إلى التنفيذ: فيقتاد إبراهيم ابنه إلى منى لينفذ حكم الله تعالى. ويستشيط إبليس غضبا ويتغيظ من هذه الطاعة والاستسلام لأمر الله..وهو الذي أمر بسجدة واحدة فعصى.
فيقرر الشيطان أن يعترض لإبراهيم ويصده عن أمر الله، فعندما وصل إبراهيم إلى جمرة العقبة عرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى ثم الصغرى وفي كل ذلك وإبراهيم يرجمه حتى ذهب. فلما أسلما وتله للجبين.
يمضي إبراهيم فيكب ابنه على جبينه استعداداً. والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعاً.
وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا. كان قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقياً إلا أن يذبح إسماعيل، ويسيل دمه، وتزهق روحه، وهذا أمر لا يعني شيئاً في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما.
كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. ومتى أخلصوا له واستعدوا للأداء وعلم الله ذلك منهم فقد أدوا وحققوا التكليف، وجازوا الامتحان بنجاح.
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا.
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد امتثلا للأمر وصدقا: وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم.
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة. وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت. جدت بكل شيء. وبأعز شيء. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم ! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأطاعت. يفديها بذبح عظيم. قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأً بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل!.
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يجسد حقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته. والذي تنعم ببركة دعوته إلى يوم القيامة.
ولتدرك هذه الأمة أن الإسلام هو أن تستسلم لأمر الله طائعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتردد في تحقيق إرادته. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!.
ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية ممتثلة مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتألى عليه، فإذا عرف منها الصدق أعفاها من التضحيات والآلام. واحتسبه لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها.
وتمر الأيام ويأتي إبراهيم إلى ابنه فيقول له: يا بني إن الله تعالى أمرني أن أرفع قواعد بيته الذي كان في هذا الوادي.
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود.
فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة. عرَّف الله مكانه لإبراهيم - عليه السلام - وملكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: ألا تشرك بي شيئًا فهو بيت الله وحده دون سواه. وليطهره للطائفين والقائمين والركع السجود من الحجيج، والقائمين فيه للصلاة, فهؤلاء هم الذين أنشئ البيت لهم، لا لمن يشركون بالله، ويتوجهون بالعبادة إلى غيره.
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا.
وكأننا نتخيل نبيين كريمين وهما يبنيان البيت ويدعوان الله، ونكاد نسمع صوتيهما يبتهلان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم.
إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو ذلك الشعور الذي يريد القرآن أن تحس به هذه الأمة وهي وارثة الأنبياء. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
إن طلب القبول هو غايتنا من العمل، فلا يجوز العمل إلا خالصا لله. متجها به في قنوت وخشوع إلى الله رجاء الرضى والقبول.
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
إنه طلب العون من الله في الهداية إلى الإسلام، والتثبيت عليه والشعور بأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الهدى هدى الله، وأنه لا حول ولا قوة ولا فلاح إلا بالله. والله المستعان.
وشعور إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما نعمة الإيمان، تدفعهما إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ربهما ألا يحرم ذريتهما هذا الإنعام الذي لا يكافئه إنعام، لقد دعوا الله ربهما أن يرزق ذريتهما من الثمرات ولم ينسيا أن يدعواه ليرزقهم من الإيمان؛ وأن يريهم جميعا مناسكهم، ويبين لهم عباداتهم، وأن يتوب عليهم. بما أنه هو التواب الرحيم.
ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.
وكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل هي بعثة هذا الرسول الكريم بعد قرون وقرون. بعثة رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل، يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويطهرهم من الأرجاس والأدناس والأفكار العفنة.
إن الدعوة المخلصة تستجاب، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته. غير أن الناس يستعجلون ويملون ويقنطون.
قال المفسرون: "لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت أمره الله أن ينادي فقال: وأذن في الناس بالحج فصعد على جبل أبي قبيس فنادى: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تحجوا بيته.
قال فوقرت في قلب كل مؤمن, فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة: لبيك لبيك, فأجابوه بالتلبية: لبيك اللهم لبيك, وأتاه من أتاه.
أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعا لعزة من تعنو الوجوه وتسلم
يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلم
دعاهم فلبوه رضاً ومحبة فلما دعوه كان أقرب منهم
_________
الخطبة الثانية
_________
وبقي هذا البيت مهوىً للأفئدة، ومقصدا للناس منذ أن نادى الخليل عليه السلام وإلى يومنا هذا.
ثم استجاب الله للخليل وابنه عليهما السلام، وأرسل من أهل هذا البيت المبارك محمد بن عبد الله، وحقق على يديه الأمة المسلمة القائمة بأمر الله. الوارثة لدين الله إلى يوم القيامة.
رحمك الله أيها الخليل, وجزاك عنا خير الجزاء, ورفع منزلتك في النبيين، فما زلنا ننعم ببركة دعوتك. دعوت بالرزق, ودعوت بالبركة, ودعوت بالنبي, ودعوت بالتزكية والحكمة.
أيها الحاج إلى البيت: احمد الله تعالى أن وفقك لهذه العبادة العظيمة التي جعل الله جزائها الجنة, واقصد بحجك وجه الله بعيدا عن الرياء والسمعة.
إليك قصديَ لا للبيت والأثر ولا طواف بأركان ولا حجر
صفاء دمعي الصفا لي حين أعبره وزمزم دمعة تنساب من بصري
وفيك سعيي وتعميري ومزدلفي والهدي روحي التي تغني عن الجزر
عرفانه عرفاتي إذ مناي منى وموقفي وقفة في الخوف والحذر
زادي رجائي له والشوق راحلتي والماء من عبراتي والهوى سفري
قال عمر رضي الله عنه وهو يقبل الحجر الأسود: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك".
واغتنم الفرصة في التوبة والدعاء والتضرع والخشوع والخضوع لله وسؤاله التوفيق والمغفرة. ولا تنس إخوانك المسلمين من الدعاء، وخاصة أولئك الذين يقفون في جبهات الجهاد يضطهدهم أعداء الله ويسومونهم سوء العذاب.
وتذكر في المشاعر أنك تسير في طريق الأنبياء وتترسم خطى الصالحين الذين صدقوا مع الله, فكان الله معهم.
فالمشاعر شعور بأنك على الطريق الذي سار عليه الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. فلا يكن ذلك التتبع والتشبه بهما في المكان والزمان فقط، ولكن اجعلهما قدوتك في الصدق والوفاء والصبر والعمل والخلق... لا تجعلهما قائداك وهادياك في المناسك فقط، ولكن اجعلهما هادياك وقائداك إلى الجنة، فليكن حجك مبروراً.
أما الإخوة الذين لم يكتب لهم الحج فليعلموا أن الله تعالى قد شرع لهم أعمالا عظيمة في هذه الأيام المباركة.
ومن ذلك الصوم في هذه الأيام، ويتأكد استحبابه في يوم عرفة فقد قال : ((صيام يوم عرفة إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)).
ومن ذلك التكبير والتهليل والدعاء والصدقة والبذل,فإن الحسنات تضاعف في الزمن الفاضل، حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد إلا رجلا قدم نفسه وماله في سبيل الله.
وكذلك شرع الله لنا التشبه بالحجاج في الإحرام, فقد قال النبي : ((إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا)).
ومن نسي في بداية العشر فقص شعرا أو ظفرا, فليبدأ من الآن ولا يضره ما سبق فليمسك حتى يذبح أضحيته.
وذبح الأضاحي من الأعمال العظيمة المشروعة في هذه الأيام، فعلى كل من يجد سعة أن يضحي عن نفسه وأهل بيته بقدر ما يستطيع، فالتقرب إلى الله بالذبح من أعظم القربات، وقد ضحى النبي بكبشين أملحين. قال أنس: "فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده".
واعلموا أن الله تعالى يقول: والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين.
(1/1361)
وسائل طلب الرزق
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طلب الرزق شغل الناس وأطغاهم وألهاهم. 2- لطلب الرزق وسائل حسية وأخرى معنوية.
3- التوبة والاستغفار من أسباب استجلاب الرزق. 4- التقوى سبب لاستجلاب الرزق.
5- التوكل سبب لاستجلاب الرزق. 6- التفرغ لعبادة الله والحج والعمرة من أسباب الرزق.
7- صلة الأرحام والإنفاق في سبيل الله من أسباب الرزق. 8- الهجرة والإحسان إلى الضعفاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن طلب الرزق والسعي وراء المادة هو أكثر ما يشغل بال كثير من المسلمين ويستنفذ أوقاتهم وطاقاتهم. وإن طلب الرزق من الحلال أمر محمود لا ينكره عاقل، ولكن الملاحظ في زماننا هذا أن الأمر قد أعطي أكبر من حجمه الطبيعي وطغى حب المال وحب الماديات على كثير من المسلمين مما أثر بشكل كبير على الجوانب المعنوية في حياتهم, وهي الجوانب المهمة في حياة الإنسان كإنسان أولا ثم كمسلم له ثروة روحية كبيرة.
فأثر حب الدنيا والمال على عبادة الناس وعلى أخلاقهم وعلى معاملتهم, وأثر على مبدأ البر والإحسان والتراحم والتكافل والمعاملة الحسنة والإيثار ومحبة الخير للناس، وأصبحت الأمور تقاس بالمادة, وأصبح الناس يقولون: "إذا عندك ريال فإنك تساوي ريال, وإذا لك عشرة تساوي عشرة". فأصبح الناس يقاسون بهذا المبدأ المادي الرأسمالي الذي وفد إلينا من زبالة الحضارة الغربية التي تعامل البشر بحسب أرصدتهم في البنوك.
ولا شك أنكم تعلمون أن هذا المنطق ليس منطق المسلم بل حتى ليس منطق العربي الذي كان يقيم الإنسان بما عنده من الصفات المحمودة من كرم وعفة وشهامة ورجولة وشجاعة وغيرها.
بل لقد بلغ الأمر ببعض الناس الماديين بأن يعتقد أن التمسك بالدين يقلل من أرزاقهم, وأن المظهر الإسلامي يقلل من الفرص الوظيفية، فإذا قيل لموظف أو طالب وظيفة أو طالب ترقية بأن الرئيس الفلاني أو المدير الفلاني أو المؤسسة الفلانية لا يحبون المتدين بادر ذلك الضعيف إلى ترك الفرائض وتخلى عن مبادئه وانسلخ من مظهره الإسلامي وتزيا بزي الكفار وقال هذه ضرورة!! وهذا أكل عيش!! وهذه مداراة !! وهذه حكمة!! ولا بد من التغاضي عن بعض الأحكام الإسلامية في سبيل طلب الرزق ثم تعذر بشتى الأعذار، وكأنه لا يعلم بأن الله هو الرزاق.
وكأنه لا يعلم بأن الله قد كتب له رزقه وأجله قبل أن يخلق السموات والأرض ثم جدد كتابته وهو في بطن أمه وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. ولا شك بأن هذا ضعف في التوكل وضعف في اليقين وقدح في الإيمان.
والله سبحانه وتعالى عندما كتب مقادير الرزق، كتب أيضا وبين الوسائل التي يطلب بها الرزق، وقسم سبحانه وتعالى هذه الوسائل إلى وسائل حسية ووسائل معنوية.
فأما الوسائل المحسوسة في طلب الرزق فإن الناس لا يجهلونها وهي الوسائل المشروعة المباحة التي ليس فيه ضرر على النفس ولا على الآخرين.
وأما الوسائل المعنوية في طلب الرزق والتي لا يلقي لها بالا كثير من الناس فقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز، وهي الأمور المهمة التي يستجلب بها الرزق وتستمطر بها السماء ويطلب بها الكريم سبحانه, وهي عشرة أمور نذكرها هنا لنذكر بها كل من طغت عليه الماديات وحسب الأمور بالمحسوسات ونسي تدبير خالق الأرض والسماوات والمتكفل برزق البريات، خالق الخلق ومدبر المعاش ورازق الحيتان في البحر وممسك الطير في جو السماء.
أما السبب الأول : من أسباب استجلاب الرزق فهو الاستغفار والتوبة من الذنوب، الاستغفار الحقيقي والتوبة الحقيقية. وهو الأمر المهم الذي حرص الأنبياء عليهم السلام على تذكير قومهم به.
فهذا نوح عليه السلام يذكر قومه فيقول: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا.
قال القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار".
وقد فهم ذلك أصحاب النبي فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يخرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت يا أمير المؤمنين فقال: ((بلى والله لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر)) ثم قرأ قوله تعالى: استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا.
وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا.
وهذا الحسن البصري رحمه الله يدل كل من جاء إليه في حاجة على الاستغفار. شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله, وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله, وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا فقال له: استغفر الله, وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله, فقالوا له: أتاك رجال يشكون أنواعا من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار!. فقال: ما قلت من عندي شيئا, إن الله تعالى يقول في سورة نوح: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.
وهذا هود عليه السلام يذكر قومه فيقول: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
ويقول الله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، قال القرطبي رحمه الله: "هذه ثمرة الاستغفار والتوبة أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم".
وهذا النبي المصطفى يذكرنا بذلك فيقول: من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا, ورزقه من حيث لا يحتسب.
السبب الثاني : من أسباب طلب الرزق: التقوى.
استمع إلى قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
قال ابن كثير رحمه الله: "أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجًا, ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله".
وقال تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
وقال تعالى عن أهل الكتاب: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
وقال تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً.
وقال: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
السبب الثالث : من أسباب الرزق: التوكل على الله تعالى.
يقول عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)).
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب بل فيه ما يدل على طلب الرزق لأن الطير إذا غدت فإنما تغدو لطلب الرزق, وإنما معناه - والله تعالى أعلم- لو توكلوا على الله تعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم ورأوا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا, لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون, وهذا خلاف التوكل.
السبب الرابع : من أسباب طلب الرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك)).
وفي رواية أخرى صحيحة قال صلى الله عليه وسلم: ((قال ربكم: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى, وأملأ يديك رزقا, ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا)).
وليس معنى هذا الحديث أنك لا تطلب الرزق ولا تتكسب ولكن معناه أن يكون العبد حاضر القلب حال عبادته غير ذاكر لأمر من أمور الدنيا بل متوجها إلى الله تعالى بكل قلبه.
ويقول الله جل وعلا : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى.
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: لا نسألك رزقا نحن نرزقك يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. وقال الثوري لا نسألك رزقًا أي لا نكلفك الطلب.
السبب الخامس : من أسباب طلب الرزق: الحج والعمرة.
فال النبي : ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
وهذه من النعم العظيمة فإن الحج والعمرة مع تكفيرهما للخطايا فإنهما يعودان على الإنسان بالبركة في رزقه فلا يصيبه الفقر, وهذا مثل زيادة الصدقة للمال فإن الطاعات تزيد في الرزق والبركة ونفي الحوادث والكوارث والمصائب عن هذا الإنسان المعرض لكل نكبة ولكل آفة ومرض.
بهذه المناسبة فإني أذكر نفسي وإياكم بوجوب المبادرة إلى الحج لمن لم يقض الفريضة في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
السبب السادس : من أسباب طلب الرزق: صلة الأرحام.
والمراد بالأرحام الأقارب الذين بينك وبينهم نسب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في العمر)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمة)).
وصلة الأرحام تكون بالزيارة, وتكون بالمكالمة, وتكون بالصدقة, وتكون بالهدية وبالكلمة الحسنة والمودة, وتكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السبب السابع : من أسباب استجلاب الرزق: الإنفاق في سبيل الله.
يقول الله تعالى: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
قال ابن كثير: "أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث: ((يقول الله تعالى أنفق أنفق عليك)). وفي الحديث: ((أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكا تلفا, ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
ويقول الله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.
والفضل هنا هو الرزق. فالرزق يطلب ويستجلب بالإنفاق عند الذين يوقنون بوعد الله تعالى ويعتبرون إنفاقهم مكسبا ومغنما، بعكس المنافقين الذين يعتبرون ما ينفقونه خسارة عليهم ونقصا في أموالهم كما أخبرنا الله تعالى بالصنفين في قوله تعالى : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم.
السبب الثامن : من أسباب استجلاب الرزق: الإنفاق على طالب العلم.
والمقصود بالعلم هنا العلم الشرعي الذي يوصل إلى الله.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف فشكى المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: ((لعلك ترزق به)).
قال شارح هذا الحديث: قوله لعلك ترزق به أي أرجو أنك مرزوق ببركته لا أنه مرزوق بحرفتك فلا تمنن عليه بصنعتك.
السبب التاسع : من أسباب استجلاب الرزق: الإحسان إلى الضعفاء.
عن مصعب بن سعد قال رأى سعد أي ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) [رواه البخاري والنسائي]. وعند النسائي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)).
فمن أراد أن ينصره الله ويرزقه فليحسن إلى الضعفاء وليكرمهم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن رضائه عليه الصلاة والسلام يطلب بالإحسان إلى الفقراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغوني في ضعفائكم, فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)).
قال شارحه: "أبغوني في ضعفائكم أي اطلبوا رضاي بالإحسان إلى الضعفاء".
السبب العاشر : من أسباب استجلاب الرزق: الهجرة في سبيل الله.
يقول الله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورًا رحيمًا.
والسعة في الآية معناها الرزق كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الرازي في تفسير هذه الآية: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا : من يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته التي خرج منها, وذلك لأن من فارق بلده لسوء معاملة أهلها إلى بلدة أجنبية فرزقه الله واستقام أمره فيها ووصل الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم.
فالهجرة سبب للرزق، ولكن هذه الهجرة لا بد أن تكون في سبيل الله. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. فمن هاجر في سبيل الله وجد في الأرض فسحة ومنطلقًا, فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة.
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
هذه أيها الإخوة هي الأسباب الحقيقية لاستجلاب رحمة الله ورزقه وفضله.
أما الأشياء المادية فإنما هي أسباب رتب الله عليها الوقوع, والله تعالى إذا قدر الرزق هيأ له السبب المادي سواء رضيت أم لم ترض وسواء سعيت أم لم تسع, فدورك أيها المسلم ليس في السعي الحثيث في أمور مادية لكن دورك الحقيقي هو في السعي لإرضاء الخالق الذي بيده الرزق وبيده العطاء والمنع. قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نلهث وراء المال؟ ولماذا نترك الأهم في سبيل المهم بل ربما في سبيل التافه؟
والأدهى من ذلك لماذا نطلب المال من الحرام؟ وبعض الناس همه جمع المال ولا يبالي أخذ الريال من حلال أم من حرام.
لماذا نسرق ونختلس ونغش ونكذب؟ لماذا نتعامل بالربا والبيوع المحرمة؟ لماذا نذل للكفار وقد حذرنا الله منهم ثم قال : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء.
لماذا الحسد؟ لماذا النجش؟ لماذا الظلم؟ لماذا البغي؟ لماذا الخداع؟
أفلا تعلم أن الله هو الرزاق، فتطلب الرزق من عنده.
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقًا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
أما بعد:
فإن طلب الرزق والسعي وراء المادة هو أكثر ما يشغل بال كثير من المسلمين ويستنفذ أوقاتهم وطاقاتهم. وإن طلب الرزق من الحلال أمر محمود لا ينكره عاقل، ولكن الملاحظ في زماننا هذا أن الأمر قد أعطي أكبر من حجمه الطبيعي وطغى حب المال وحب الماديات على كثير من المسلمين مما أثر بشكل كبير على الجوانب المعنوية في حياتهم, وهي الجوانب المهمة في حياة الإنسان كإنسان أولا ثم كمسلم له ثروة روحية كبيرة.
فأثر حب الدنيا والمال على عبادة الناس وعلى أخلاقهم وعلى معاملتهم, وأثر على مبدأ البر والإحسان والتراحم والتكافل والمعاملة الحسنة والإيثار ومحبة الخير للناس، وأصبحت الأمور تقاس بالمادة, وأصبح الناس يقولون: "إذا عندك ريال فإنك تساوي ريال, وإذا لك عشرة تساوي عشرة". فأصبح الناس يقاسون بهذا المبدأ المادي الرأسمالي الذي وفد إلينا من زبالة الحضارة الغربية التي تعامل البشر بحسب أرصدتهم في البنوك.
ولا شك أنكم تعلمون أن هذا المنطق ليس منطق المسلم بل حتى ليس منطق العربي الذي كان يقيم الإنسان بما عنده من الصفات المحمودة من كرم وعفة وشهامة ورجولة وشجاعة وغيرها.
بل لقد بلغ الأمر ببعض الناس الماديين بأن يعتقد أن التمسك بالدين يقلل من أرزاقهم, وأن المظهر الإسلامي يقلل من الفرص الوظيفية، فإذا قيل لموظف أو طالب وظيفة أو طالب ترقية بأن الرئيس الفلاني أو المدير الفلاني أو المؤسسة الفلانية لا يحبون المتدين بادر ذلك الضعيف إلى ترك الفرائض وتخلى عن مبادئه وانسلخ من مظهره الإسلامي وتزيا بزي الكفار وقال هذه ضرورة!! وهذا أكل عيش!! وهذه مداراة !! وهذه حكمة!! ولا بد من التغاضي عن بعض الأحكام الإسلامية في سبيل طلب الرزق ثم تعذر بشتى الأعذار، وكأنه لا يعلم بأن الله هو الرزاق.
وكأنه لا يعلم بأن الله قد كتب له رزقه وأجله قبل أن يخلق السموات والأرض ثم جدد كتابته وهو في بطن أمه وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها. ولا شك بأن هذا ضعف في التوكل وضعف في اليقين وقدح في الإيمان.
والله سبحانه وتعالى عندما كتب مقادير الرزق، كتب أيضا وبين الوسائل التي يطلب بها الرزق، وقسم سبحانه وتعالى هذه الوسائل إلى وسائل حسية ووسائل معنوية.
فأما الوسائل المحسوسة في طلب الرزق فإن الناس لا يجهلونها وهي الوسائل المشروعة المباحة التي ليس فيه ضرر على النفس ولا على الآخرين.
وأما الوسائل المعنوية في طلب الرزق والتي لا يلقي لها بالا كثير من الناس فقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز، وهي الأمور المهمة التي يستجلب بها الرزق وتستمطر بها السماء ويطلب بها الكريم سبحانه, وهي عشرة أمور نذكرها هنا لنذكر بها كل من طغت عليه الماديات وحسب الأمور بالمحسوسات ونسي تدبير خالق الأرض والسماوات والمتكفل برزق البريات، خالق الخلق ومدبر المعاش ورازق الحيتان في البحر وممسك الطير في جو السماء.
أما السبب الأول : من أسباب استجلاب الرزق فهو الاستغفار والتوبة من الذنوب، الاستغفار الحقيقي والتوبة الحقيقية. وهو الأمر المهم الذي حرص الأنبياء عليهم السلام على تذكير قومهم به.
فهذا نوح عليه السلام يذكر قومه فيقول: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا.
قال القرطبي رحمه الله: "في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار".
وقد فهم ذلك أصحاب النبي فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يخرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت يا أمير المؤمنين فقال: ((بلى والله لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر)) ثم قرأ قوله تعالى: استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا.
وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: ما على المحسنين من سبيل وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا.
وهذا الحسن البصري رحمه الله يدل كل من جاء إليه في حاجة على الاستغفار. شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله, وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله, وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا فقال له: استغفر الله, وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله, فقالوا له: أتاك رجال يشكون أنواعا من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار!. فقال: ما قلت من عندي شيئا, إن الله تعالى يقول في سورة نوح: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.
وهذا هود عليه السلام يذكر قومه فيقول: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
ويقول الله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، قال القرطبي رحمه الله: "هذه ثمرة الاستغفار والتوبة أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم".
وهذا النبي المصطفى يذكرنا بذلك فيقول: من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا, ورزقه من حيث لا يحتسب.
السبب الثاني : من أسباب طلب الرزق: التقوى.
استمع إلى قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
قال ابن كثير رحمه الله: "أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجًا, ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله".
وقال تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
وقال تعالى عن أهل الكتاب: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.
وقال تعالى: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً.
وقال: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
السبب الثالث : من أسباب الرزق: التوكل على الله تعالى.
يقول عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا)).
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب بل فيه ما يدل على طلب الرزق لأن الطير إذا غدت فإنما تغدو لطلب الرزق, وإنما معناه - والله تعالى أعلم- لو توكلوا على الله تعالى في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم ورأوا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا, لكنهم يعتمدون على قوتهم وجلدهم ويغشون ويكذبون ولا ينصحون, وهذا خلاف التوكل.
السبب الرابع : من أسباب طلب الرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك)).
وفي رواية أخرى صحيحة قال صلى الله عليه وسلم: ((قال ربكم: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى, وأملأ يديك رزقا, ابن آدم لا تباعد مني أملأ قلبك فقرا وأملأ يديك شغلا)).
وليس معنى هذا الحديث أنك لا تطلب الرزق ولا تتكسب ولكن معناه أن يكون العبد حاضر القلب حال عبادته غير ذاكر لأمر من أمور الدنيا بل متوجها إلى الله تعالى بكل قلبه.
ويقول الله جل وعلا : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى.
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: لا نسألك رزقا نحن نرزقك يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب كما قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب. وقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. وقال الثوري لا نسألك رزقًا أي لا نكلفك الطلب.
السبب الخامس : من أسباب طلب الرزق: الحج والعمرة.
فال النبي : ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
وهذه من النعم العظيمة فإن الحج والعمرة مع تكفيرهما للخطايا فإنهما يعودان على الإنسان بالبركة في رزقه فلا يصيبه الفقر, وهذا مثل زيادة الصدقة للمال فإن الطاعات تزيد في الرزق والبركة ونفي الحوادث والكوارث والمصائب عن هذا الإنسان المعرض لكل نكبة ولكل آفة ومرض.
بهذه المناسبة فإني أذكر نفسي وإياكم بوجوب المبادرة إلى الحج لمن لم يقض الفريضة في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
السبب السادس : من أسباب طلب الرزق: صلة الأرحام.
والمراد بالأرحام الأقارب الذين بينك وبينهم نسب.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في العمر)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمة)).
وصلة الأرحام تكون بالزيارة, وتكون بالمكالمة, وتكون بالصدقة, وتكون بالهدية وبالكلمة الحسنة والمودة, وتكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السبب السابع : من أسباب استجلاب الرزق: الإنفاق في سبيل الله.
يقول الله تعالى: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
قال ابن كثير: "أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث: ((يقول الله تعالى أنفق أنفق عليك)). وفي الحديث: ((أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكا تلفا, ويقول الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا)) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)).
ويقول الله تعالى: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم.
والفضل هنا هو الرزق. فالرزق يطلب ويستجلب بالإنفاق عند الذين يوقنون بوعد الله تعالى ويعتبرون إنفاقهم مكسبا ومغنما، بعكس المنافقين الذين يعتبرون ما ينفقونه خسارة عليهم ونقصا في أموالهم كما أخبرنا الله تعالى بالصنفين في قوله تعالى : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم.
السبب الثامن : من أسباب استجلاب الرزق: الإنفاق على طالب العلم.
والمقصود بالعلم هنا العلم الشرعي الذي يوصل إلى الله.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر يحترف فشكى المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: ((لعلك ترزق به)).
قال شارح هذا الحديث: قوله لعلك ترزق به أي أرجو أنك مرزوق ببركته لا أنه مرزوق بحرفتك فلا تمنن عليه بصنعتك.
السبب التاسع : من أسباب استجلاب الرزق: الإحسان إلى الضعفاء.
عن مصعب بن سعد قال رأى سعد أي ابن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) [رواه البخاري والنسائي]. وعند النسائي قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)).
فمن أراد أن ينصره الله ويرزقه فليحسن إلى الضعفاء وليكرمهم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن رضائه عليه الصلاة والسلام يطلب بالإحسان إلى الفقراء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغوني في ضعفائكم, فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)).
قال شارحه: "أبغوني في ضعفائكم أي اطلبوا رضاي بالإحسان إلى الضعفاء".
السبب العاشر : من أسباب استجلاب الرزق: الهجرة في سبيل الله.
يقول الله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورًا رحيمًا.
والسعة في الآية معناها الرزق كما قال ذلك ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الرازي في تفسير هذه الآية: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا : من يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سببا لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته التي خرج منها, وذلك لأن من فارق بلده لسوء معاملة أهلها إلى بلدة أجنبية فرزقه الله واستقام أمره فيها ووصل الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم.
فالهجرة سبب للرزق، ولكن هذه الهجرة لا بد أن تكون في سبيل الله. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام. فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة. فمن هاجر في سبيل الله وجد في الأرض فسحة ومنطلقًا, فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة والوسيلة. للنجاة وللرزق والحياة.
وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها؛ يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق، مرهونة بأرض، ومقيدة بظروف، ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا.
هذه أيها الإخوة هي الأسباب الحقيقية لاستجلاب رحمة الله ورزقه وفضله.
أما الأشياء المادية فإنما هي أسباب رتب الله عليها الوقوع, والله تعالى إذا قدر الرزق هيأ له السبب المادي سواء رضيت أم لم ترض وسواء سعيت أم لم تسع, فدورك أيها المسلم ليس في السعي الحثيث في أمور مادية لكن دورك الحقيقي هو في السعي لإرضاء الخالق الذي بيده الرزق وبيده العطاء والمنع. قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نلهث وراء المال؟ ولماذا نترك الأهم في سبيل المهم بل ربما في سبيل التافه؟
والأدهى من ذلك لماذا نطلب المال من الحرام؟ وبعض الناس همه جمع المال ولا يبالي أخذ الريال من حلال أم من حرام.
لماذا نسرق ونختلس ونغش ونكذب؟ لماذا نتعامل بالربا والبيوع المحرمة؟ لماذا نذل للكفار وقد حذرنا الله منهم ثم قال : وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء.
لماذا الحسد؟ لماذا النجش؟ لماذا الظلم؟ لماذا البغي؟ لماذا الخداع؟
أفلا تعلم أن الله هو الرزاق، فتطلب الرزق من عنده.
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقًا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1362)
دروس من عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
9/1/1421
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مزية الأشهر الحرم. 2- صيام يوم عاشوراء وفضله. 3- تكفير صيام عاشوراء للسيئات
خاص بالصغائر. 4- وحدة الدين الذي أنزله الله على أنبيائه. 5- التحذير من فكرة التقارب بين
الأديان ووحدتها. 6- نصر الله قادم لا محالة. 7- بدع الشيعة الروافض في عاشوراء. 8-
الثناء على الصحابة في القرآن الكريم. 9- مقتل الحسين رضي الله عنه. 10- التشبه بالكافرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها : إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُم: ثلاثة متواليات ذو القعدةِ وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان)). والمحرم سمي بذلك تأكيداً لتحريمه.
وقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي: في هذه الأشهر المحرمة لأنها آ كد وأبلغ في الإثم من غيرها. قال ابن عباس: فَلا تَظْلِمُوا فِيْهِنَّ أَنْفُسَكُمْ في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراماً وعظّم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة في قوله: الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء.
قال رسول الله : ((أفضل الصّيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم)).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحقُّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه)).
وفي رواية مسلم قال: ((هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً لله تعالى فنحن نصومه)). ورواه الإمام أحمد وزاد فيه: ((وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً)).
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه فقال لأصحابه: ((أنتم أحق بموسى منهم فصوموا)).
وصيام عاشوراء كان معروفاً حتى على أيام الجاهلية قبل البعثة النبويّة، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه". قال القرطبي: لعل قريشاً كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم عليه السّلام. وقد ثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به فسألهم عن السبب فأجابوه كما تقدم في الحديث، وأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيداً كما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى صيام يوم فضله على غيره إلاَّ هذا اليوم يومَ عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)). قال: فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الأحاديث مجتمعة، ومن هذه المناسبة المباركة نستخلص عددا من الدروس والعبر التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها:
الدرس الأول : أن نعرف فضل الله تعالى علينا في أن جعل لنا مواسم نتوب فيها ونرجع إلى الله فيكفر عنا الخطايا، ولكن مع ذلك لا بد أن نعلم أن الخطايا التي تكفر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات ويتركون الفرائض وينتهكون الحرمات، ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم، وينسون أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع. قال الإمام النووي رحمه الله: يكفر كل الذنوب الصغائر، وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر. ثم قال رحمه الله: صوم يوم عرفة كفّارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفَّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات، ورفعت له به درجات، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وتكفير الطّهارة، والصّلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصّغائر فقط.
وقال ابن القيم: لم يدرِ هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفّر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر.
ومن المغرورين من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه، لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته، ولا يتفقد ذنوبه، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرّة، ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم، ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره، فهذا أبداً يتأمّل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذّابين والنمّامين، إلى غير ذلك من آفات اللّسان، وذلك هو الغرور.
الدرس الثاني : نأخذ من قول النبي : ((نحن أحق بموسى منكم)) أن هذه الأمة المباركة هي امتداد للأنبياء والصالحين، وأن كل نبي وكل صالح من الأمم السابقة فإنما هو تابع لهذه الأمة.ونحن أحق بكل نبي من قومه الذين كذبوه وعصوه...وأن الأنبياء عليهم السلام امتداد لتاريخنا. وقد قال الله تعالى بعد أن ذكر قصص الأنبياء إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. هذه أمتكم. أمة الأنبياء. أمة واحدة. تدين بعقيدة واحدة. وتتجه اتجاها واحدا. هو الاتجاه إلى الله وحده دون سواه. أمة واحدة وفق سنة واحدة، تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء.أمة واحدة في الأرض، ورب واحد في السماء. لا إله غيره ولا معبود إلا إياه.
قال رسولُ الله : ((أنا أولى الناس بعيسى ابنِ مريمَ في الدُّنيا والآخرة، والأنبياء إِخْوة لعَلاّتٍ أمَّهاتُهم شَتّى ودِينهم واحد)).
وللأسف أيها الإخوة: فإن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى قد علموا هذه الحقيقة، وعرفوا كيف أن المسلمين يحترمون الأنبياء السابقين، فأرادوا بمكر منهم وخبث ودهاء أن يستغلوا هذه الحقيقة لتمييع المسلمين وكسر تميزهم ومحاولة تحطيم اعتزازهم بهذا الدين.
وهذا الأمر هو الحدث المهم الذي يجري الآن على الساحة دون أن يتفطن له كثير من المسلمين، فالمنظرين في الغرب يعملون الآن بجد بالتعاون مع اليهود لهدم التميز الإسلامي من خلال عقد المؤتمرات لبحث وحدة الأديان. والمحاولات الجادة لتقريب وجهات النظر بين أصحاب الأديان الثلاثة وإغراء عدد من علماء السوء وكثير ممن يسمونهم بالمفكرين الإسلاميين بتقديم تنازلات في العقيدة لدمج الأديان الثلاثة. حتى ظهرت الدعوة الجديدة التي تدعو إلى العودة إلى دين إبراهيم.
وأصبحت هناك منتديات مشتركة يحترم كل واحد فيها عقيدة الآخر. ويقر فيها المسلم بعقائد الشرك وطقوس الوثنية، والأدهى من ذلك أن يؤخذ طلبة المدارس الإسلامية لزيارة الكنائس والمعابد والمشاركة في الصلوات الشركية.
وهذا الأمر أمر خطير جدا ينبغي على كل مسلم الحذر من مكائد ما يبثه أولئك الماكرين والكافرين. ولنحذر من الكافرين مرة، ولنحذر من المنافقين ألف مرة.
الدرس الثالث : أن نعلم أن دين الأنبياء واحد ولكن شرائعهم متعددة. فالله تعالى أرسل الرسل كلهم بالتوحيد الخالص وقال: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون. ولكنه مع ذلك جعل لكل نبي شريعة مختلفة بحسب ما تحتاجه أمته، حتى جاء هذا النبي المصطفى فأكمل له الشرع الحنيف وألغى كل شريعة قبله ولم يقبل من الدين إلا ما جاء عن طريقه، وحذر من اتباع أي شرع سوى هذا الشرع المطهر. قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
فلا يجوز لأي مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أن غير دين الإسلام يمكن أن يكون صحيحا.
الدرس الرابع : نأخذ من هذا اليوم عبرة عظيمة حيث نصر الله تعالى فيه موسى على الطاغية فرعون. فإن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، والمسلم يعلم أن النصر قادم وأنه ليس عليه إلا أن يستعين بالله ويفعل ما أمر به ثم يصبر لحكم الله تعالى: قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون.
إنها رؤية النبي لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه. رؤية النبي لحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه. ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون.
إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد، وهو الملاذ الحصين الأمين، وليس لهم إلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين. وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه. وألا يعجلوا، فهم لا يطلعون الغيب، ولا يعلمون الخير، وإن الأرض لله. وما الفراعنة وطواغيت الأرض إلا نزلاء فيها. والله يورثها من يشاء من عباده - وفق سنته وحكمته - فلا ينظر الدعاة إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها!.
وإن العاقبة للمتقين، طال الزمن أم قصر، فلا يخالج قلوب الدعاة قلق على المصير. ولا يخيل لهم تقلب الذين كفروا في البلاد، فيحسبونهم باقين.
الدرس الخامس : يجب علينا أن نحمد الله سبحانه بأن جعلنا من أتباع السنة المطهرة وأن نجانا من اتباع طريق أهل البدع الذين اتخذوا ضرب أنفسهم وتسويد وجوههم دينا يدينون الله تعالى به، وجعلوا اللعن وسب أصحاب النبي قربة يتقربون بها إلى الله، وهي في الحقيقة تقربهم إلى جهنم وبئس المصير. لأن الله تعالى قد أثنى على صحابة الرسول في آيات كثيرة الله.
فهاهو الله تعالى يعلن رضاه عنهم فيتفضل عليهم برضوانه وبشرياته وامتنانه وتثبيته. ويبلغهم أنه عنهم راض، وأنه كان حاضرهم وهم يبايعون في مكان بعينه: تحت الشجرة وأنه اطلع على ما في نفوسهم. وأنه رضيهم ورضي عنهم، وأنه كتب لهم النصر في المستقبل والغنائم والفتوح. لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً.
أفهؤلاء الذين رضي الله عنهم يتطاول عليهم حثالة البشر وبقية عباد النار.
واستمع إلى قول الله تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً.
قال الإمام مالك رحمه الله: "من غاظه أصحاب محمد فقد أصابته هذه الآية" يعني قوله تعالى: ليغيظ بهم الكفار فالذي يغيظه أصحاب النبي إنما هم الكفار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر مقتل الحسين رضي الله عنه وماذا فعل الناس بسبب ذلك فقال:
"فصارت طائفة جاهلة ظالمة: إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، تظهر موالاته وموالاة أهل بيته، تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهليّة من لطم الخدود، وشق الجيوب، والتَّعزي بعزاء الجاهلية، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصّدق فيها ليس فيه إلاّ تجديد الحزن، والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتّوسل بذلك إلى سبِّ السَّابقين الأولين، وشرُّ هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرّجل الفصيح في الكلام.
فعارض هؤلاء قوم إمّا من النّواصب المتعصّبين على الحسين وأهل بيته، وإما من الجُهّال الّذين قابلوا الفاسد بالفاسد، والكذب بالكذب، والشَّرَّ بالشَّرِّ، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب، وتوسيع النفقات على العيال، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة، ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح، وأولئك يتخذونه مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأفراح، وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة" انتهى.
أهل السنة لا يفرحون بمقتل الحسين ولا بمقتل أي رجل من المسلمين، ولكن ذلك لا يخرجهم إلى حد الغلو والابتداع في الدين، ولو جاز لهم فعل شيء من ذلك لكانت وفاة رسول الله أعظم مصيبة من قتل الحسين رضي الله عنه.
ولو أن هؤلاء المبتدعة يحبون الحسين حقا لاتبعوه واهتدوا بهديه في هذا اليوم ولكانوا صياما كما كان صائما رضي الله عنه.
ولا يفوتني هنا أن أذكر إخواني بأهمية صيام هذا اليوم فالذي لم يصم هذا اليوم فلا يفرط في صيام الغد فهو يوم عاشوراء فقد سمعتم ما فيه من الأجر وتكفير الذنوب.
الدرس السادس : نأخذه من أمر النبي بمخالفة اليهود..والأحاديث التي جاءت في النهي عن التشبه بالكفار في كل شيء كثيرة جدا ومنها قوله في عاشوراء: ((لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع)).
يقول هذا عليه الصلاة والسلام مع أن صيام اليهود كان صياما صحيحا على شرع موسى عليه السلام. ولكنه التأكيد على المخالفة التي طالما أظهر تأكيدها النبي حتى قال اليهود: مَا يُرِيدُ هذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئاً إِلاَّ خَالَفَنَا فِيه.
لقد كان الرسول يريد لنا الرفعة عن مشابهة الكفار، ويريد لنا العزة، ويريد لنا التميز، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟.
النبي يريد لنا الرفعة فلماذا نرضى الخضوع؟
النبي يريد لنا العزة فلماذا نرضى بالذل والخنوع؟
النبي يريد لنا التميز فلماذا نرضى بالتميع؟
نحن أمة مرفوعة فلم نكون خاضعين؟ نحن أمة متبوعة فلم نكون تابعين؟ نحن أمة الجهاد فلم نخاف الأذلة الصاغرين الذين غضب الله عليهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة؟
عجبا لكم أيها المسلمون: يا من دانت لكم الدنيا وأنتم جياع, كيف استعبدتكم وأنتم شباع قد حزتم أموال الدنيا وتربعتم على أسباب الحياة. يا من قصمتم القياصرة, وكسرتم الأكاسرة، وحطمتم الجبابرة، كيف جبنتم عن ملاقاة ثلة ضائعة حائرة من أحفاد القردة والخنازير.
عجبا أيها المسلمون: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، كيف رضيتم بالدنيا وتركتم الجهاد، وقد سمى الله ترك الجهاد وموالاة اليهود والنصارى ردة فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
نعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون.
وإذا لم يكن من الموتُ بدٌ فمن العار أن تموت جبانا.
فإذا لم تتيسر أسباب الجهاد فليس هناك أقل من أن تبغض الكفار وتتجنب طريقهم وتحذر مكائدهم. ونحذر منهم أهلينا ومن لنا ولاية عليه. مع العلم بأن الجهاد يكون بالسنان وباللسان. ويكون بالنفس وبالمال. ويكون بكل وسيلة مشروعة. ويكون للكفار والمنافقين، والله تعالى يحرض نبيه فيقول: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل سنة نبيه الكريم، وأن يحيينا على الإسلام ويميتنا على الإيمان، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1363)
مفهوم السياحة
موضوعات عامة
السياحة والسفر
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
22/2/1421
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعمال كلمات شرعية في معاني مخالفة. 2- معاني كلمة السياحة وفق المنظور الشرعي.
3- السياحة وفق المفهوم الغربي. 4- صائفة السلف هي الخروج للجهاد. 5- همومنا الدنيئة
في قضاء الإجازة. 6- نقد فكرة السياحة الغربية وبيان بعض أثرها في بلاد المسلمين. 7-
السياحة في مناطق عذاب الأمم السابقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إننا لفي زمن قد تغيرت فيه كثير من المفاهيم الإسلامية، وانتشرت فيه المصطلحات الغريبة من شرقية وغربية، وابتعد الناس فيه عن معاني القر آن والسنة وقواعد اللغة العربية.
لقد حرص المستعمرون على أن يطمسوا كثيرا من الكلمات والمصطلحات الإسلامية التي تتعارض مع مبادئهم وإلحادهم. وذلك بإدخال كلمات ومصطلحات جديدة، أو تجريد بعض الكلمات الإسلامية من معانيها الحقيقية وصرفها إلى معاني أخرى تتوافق مع مصالحهم.
والأمثلة على ذلك كثيرة. وواقع المسلمين اليوم يدل على وجود خلل في فهم الكلمات العربية، ويدل على بعد عن إدراك كثير مما ورد في الكتاب والسنة من مصطلحات وكلمات.
وإننا في هذا اليوم سنورد مثالا واحدا على بعد الناس عن المعاني الشرعية وانصرافهم عن التفسير الإسلامي إلى التفسير الغربي لبعض المصطلحات.
وهذا المثال هو تغير مدلول كلمة السياحة في أذهان الناس.
لقد تحول الناس عن العمل بمدلول السياحة في الحضارة الإسلامية إلى العمل بمدلولها في الحضارة الغربية.
لقد وردت كلمة السياحة في عدة مواضع من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وليس فيها موضع فسرت فيه على ما تدل عليه في أذهان الناس اليوم.
وردت السياحة في القرآن صفة من صفات أهل الجنة من المؤمنين حيث قال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين.
إن السياحة هنا صفة حميدة لأولئك الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة التي هي أربح صفقة في تاريخ البشرية.
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقوم بايعوا الغفارا
فأعاضنا ثمنا ألذّ من المنى جنات عدن تتحف الأبرارا
فلمثل هذا قم خطيبا منشدا يروي القريض وينظم الأشعارا
ثم وردت كلمة السياحة مرة أخرى في وصف أفضل النساء اللاتي ينبغي أن يكن أزواجا للنبي. قال الله تعالى: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا.
فما هو معنى السياحة في هذه الآيات؟
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وفسرت السياحة بالصيام، وفسرت بالسفر في طلب العلم، وفسرت بالجهاد، وفسرت بدوام الطاعة.
والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه، ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال ولذلك وصف الله سبحانه نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي لو طلق أزواجه بدله بهن، بأنهن سائحات، وليست سياحتهن جهادا ولا سفرا في طلب علم ولا إدامة صيام وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله تعالى وخشيته والإنابة إليه وذكره.
وتأمل كيف جعل الله الحمد والسياحة قرينتين هذا الثناء عليه بأوصاف كماله وسياحة اللسان في أفضل ذكره وهذه سياحة القلب في حبه وذكره وإجلاله كما جعل سبحانه العبادة والسياحة قرينتين في صفة الأزواج، فهذه عبادة البدن وهذه عبادة القلب".
لقد كانت السياحة قبل الإسلام تعني الرهبانية فقد كان الرهبان يسمون سياحا لأنهم يتركون الدنيا ويخرجون إلى الفلوات ليعيشوا مع الوحوش.
وعندما جاء الإسلام ذمهم على ذلك وقال الله فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم.
وعندما أراد بعض المسلمين الترهب والسياحة منعهم رسول الله وبين لهم أن ذلك المعنى ليس موجودا في دين الإسلام ثم بين لهم المعنى الصحيح للسياحة.
جاء ذلك في ما رواه أبو داود رحمه الله عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)).
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته سياحتهم الجهاد في سبيل الله.
وبهذا فقد أبطل الرسول ذلك المفهوم وأصبحت السياحة لفظة شرعية تعني الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى، ومضى على ذلك المسلمون في عصور الإزدهار والعزة حتى كانوا لا يرون أن هناك سفرا إلا للغزو في سبيل الله أو الحج أو طلب العلم وكل ذلك من الجهاد.
وعندما جاءت هذه العصور المتأخرة وأصاب المسلمين الذلة والهوان وتركوا الجهاد وركنوا إلى الدنيا وأعجبوا بالحضيرة الغربية، نسوا هذا المفهوم الإيماني وأخذوا بالمفهوم الغربي المنحرف وأصبحت كلمة السياحة عندهم مرادفة للعبث واللهو والفسق والفجور والسير في الأرض بلا هدف، وإضاعة للأوقات، بل قل وإضاعة للحياء والدين والأخلاق والتنصل من الفضيلة والوقوع في الرذيلة.
لقد كان المسلمون في العصور العزيزة وفي القرون المفضلة وما بعدها إذا اقترب فصل الصيف بدأوا بالإعداد للسياحة وقاموا بحملات التنشيط السياحي والدعاية الإعلامية السياحية.
لكن ليس التنشيط الذي تعرفون ولا الدعاية التي تعايشون.
لقد كان التنشيط السياحي في ذلك الوقت ينطلق من المساجد والدعاية السياحية تطلقها منابر الجمعة.
لم تكن تعلن عن المغنين والمغنيات ولا عن الساقطين والساقطات ولا عن القمار والميسر والربا ولا الأسواق والتخفيضات، وإنما كانت تعلن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
لم يكن التنشيط السياحي إعدادا للمسارح والمراقص والملاهي وأدوات الميسر، ولكنه كان إعدادا للسلاح وإسراجا للخيول وتعبئة للجند وحثاً على جنة عرضها السماوات والأرض.
كان التنشيط السياحي إعدادا للرجال وتدريبا للشباب وإرهابا للأعداء وقمعا للمنافقين وتمييزا للخبيث من الطيب. كان عملا ينبثق من قول الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على بيان الحق في أنواع من القلوب التي لا تستيقظ ولا تتبين الحق إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير الإنسان.
كانت السياحة في ذلك الوقت تعني الجهاد، والجهاد يعني السياحة.
ولم يكن المسلمون يعلمون من لفظة السياحة إلا أنها الخروج في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى، فأين نحن من أولئك حين حرفنا هذه الكلمة.
إن سياحة هذه الأمة هي الجهاد في سبيل الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة، ولهذا قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين".
ولا يكاد الصيف أن يأتي من كل عام إلا والمسلمون مستعدون "للصائفة".
والصائفة هي الغزوة السنوية التي كان يعقد ألويتها خليفة المسلمين ويؤمر عليها أشهر القادة، ويبعث بها إلى ثغر من الثغور لتقوم بواجب الجهاد في تلك السنة، وهي الحد الأدنى المطلوب من الجهاد في كل عام.
فكان المسلمون يخرجون في كل صيف غزوة إلى بلاد الكفار ويسمونها "الصائفة" وربما كان هناك صائفتين أو أكثر تخرج لملاقاة الكفار ودعوتهم وإدخالهم في دين الله أو إرغامهم على الدخول تحت حكم الإسلام ودفع الجزية أو قتالهم وكسر شوكتهم..كل ذلك عملا بقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين. وقوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فكان المسلمون يخرجون لهذه السياحة العظيمة فيعودون وقد أدخلوا أناسا في الإسلام وغنموا بلادا وأموالا، وكبتوا الكافرين، وأرهبوا الأعداء المتربصين، وقد علمنا التاريخ أن المسلمين لم يتركوا الجهاد إلا ويسلط الله عليهم الأعداء من كل جانب، وما أقاموا الجهاد في جبهة إلا وكبت الله أعداءهم على كل الجبهات، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذه هي سياحة الأمة المسلمة، وتلك هي برامج التنشيط السياحي لهذه الأمة..برامج مكثفة ليس فيها عبث ولا لهو ولا بطالة ولا عطالة ولا عطلة ولا تضييع للأوقات ولا تهميش للصلوات ولا ارتكاب للمحرمات ولا تسكع على الأرصفة للمعاكسات وإيذاء المارين والمارات، ولا تهافت على الأسواق، ولكن قوة ونشاط وعبادة وعزة ورفعة وتعال على حطام الدنيا وإقبال على عمارة الآخرة وحفظ للوقت وحفظ للدين وحفظ لكرامة الأمة.
أما سياحتنا في هذه الأيام فليس فيها ذكر للجهاد ولا للعبادة، بل هي تنصل من الجهاد والعبادة.
سياحة المسلمين في هذه الأزمنة هي السياحة على المفهوم الغربي الشهواني.
فالغربي يعمل طوال العام ويجمع المال في حرص وشح حتى إذا جاء وقت الإجازة عطل عقله وعطل تفكيره وعطل أخلاقه إن كان له بقية أخلاق ثم أصبح بهيمة من البهائم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
وما هو إلا أن تحل الإجازة الصيفية حتى يركب الأب همٌ عظيم، لأنه لا بد له حسب المفهوم الحديث من السفر، فالإجازة تعني عند الأهل والأبناء السفر والخروج من البيت.
هذا المفهوم الخاطئ الذي ساهم بعض المدرسين في ترسيخه لدى الطلاب. فآخر سؤال يتلقاه الطالب من أستاذه قبل الإجازة هو: إلى أين ستسافر؟
وأول سؤال بعد الإجازة هو: إلى أين سافرتم؟ وكأن السفر في الإجازة ركن من الأركان الخمسة. حتى أن بعض الطلاب الذين لم يتسن لهم السفر يضطر أن يكذب تخلصا من الموقف المحرج أمام زملائه.
ويكون الأب المسكين تحت هذا الضغط فيضطر إلى السفر.ولكن إلى أين؟
يبحث في الدعايات السياحية، فيجد هذا يدعو إلى حفلة موسيقية، وهذا يدعو إلى مسرحية عبثية، وهذا يدعو إلى فساد.
وهذا يدعو إلى قمار، وهذا يدعو إلى ميسر، وهذا يدعو إلى متعة جنسية.
فإن ذهب إلى الخارج فالدمار والفساد والكفر المباح.
وإن ذهب إلى الداخل فضياع الأوقات وضياع الأخلاق وأكل أموال الناس بالباطل والإختلاط ومهرجانات التسويق والترويج التي تُظل تحتها الفساد المبطن والرذيلة المغلفة.
أسفا لبلاد الحرمين.
أراد الله تعالى أن تكون طاهرة، ويريد دعاة الشر أن تكون مدنسة.
إن من حق الحرمين علينا أن نصونهما ونصون سمعتهما عن أي أذى.
إن من حق الحرمين علينا أن لا نبرز بجانبهما أي معلم للهو والفساد.
لقد جعل الله البيت الحرام في واد غير ذي زرع حتى يكون قصده خالصا لوجه الله، فلا مصالح ولا ملاهي ولا شرك في النية، وإنما تهوي إليه أفئدة الناس لعظمته عند الله.
أما اليوم فإن كثيرا من الناس يقصد للعمرة، ولكن بعد قضاء وطره من اللهو واللعب والسياحة في الأرض والتسوق، ولسان حال يقول لبيك اللهم سياحة متمتعا بها إلى العمرة.
اهتماماتنا للأسف لم تعد تتعدى الرفاهية والمتعة والكماليات.
إن بلاد الحرمين يجب أن تتميز عن غيرها..والسياحة بالمعنى الدارج خطر على البلاد والعباد.
هذه البلاد المباركة لا ينبغي أن يقدم فيها اللهو على الجد.
هذه البلاد المباركة لا يجوز أن تقام فيها الحفلات الغنائية المحرمة.
هذه البلاد المباركة لا يصح أن تعتز بقوم مكذبين مثل قوم صالح أو أصحاب الأخدود أو بقايا الأحقاف أو أي قوم عذبهم الله تعالى في الدنيا، وإنما تعتز هذه البلاد بكونها موطن الدعوة ومهبط الوحي ومأرز الإسلام.
والرسول أمرنا أن لا ندخل على القوم المعذبين.. أمرنا ألا ندخل مدائن ثمود إلا ونحن باكين حتى لا يصيبنا ما أصابهم من العذاب.
وحين مر بالحجر قال: ((لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضؤوا منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له)) ففعل الناس إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيىء فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألم أنهكم أن لا يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه)) ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي وأما الآخر فأهدته طيىء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
هذا حصل لمن عصى أمر الرسول مع أنه صاحب حاجة فكيف بمن يقيم الفنادق والملاهي بتلك المنطقة المعذبة.
أيها الأخ المسلم، إذا كان لا بد من السفر فليكن سفرك سفر طاعة..وسفر صلة رحم.. وسفر تدبر وتفكر في مخلوقات الله تعالى.
ولا يكن ضغط الأولاد داعيا لك إلى المعصية، فأنت الراعي وأنت المسئول عن الرعية.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
تلك هي حال الأوائل وتلك سياحتهم وعزتهم، وهذه هي حالنا وهذه سياحتنا وخيبتنا.
فماهو الذي تغير وأين هو الخلل:
أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله
أما الإسلام فلا يزال ناصعا كما هو، وأما المسلمين فحالهم يشكى إلى الواحد الأحد.
وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا؟.
ولا نملك من إجابة على هذا السؤال إلا أن نذكر الدهر بأمجادنا التي أقمناها في هذا العصر عصر الانحطاط.
سؤال الدهر عن قومي جحود وإجحاف بحق المسلمينا
أما سجلت يا دهر افتخارا ومجدا بالملاهي قد بنينا
ألم تسمع أغان صاخبات بعزف العود صغناها لحونا
لنا في كل يوم ألف نجم ونجم صاعد في الصاعدينا
ألم ترنا غزونا كل ناد ألم تر كم نساء قد سبينا
ألم تسأل نساء الشرق عنا ومن صولاتنا ماذا لقين
إذا ما كنت في شك وريب فسائل عن بطولتنا الصحونا
فصحن الرز نملأ جانبيه ونجعل فوقه كبشا سمينا
فمنا من يجاذبه شمالا ومنا من ينازعه يمينا
ونبلي فيه تمزيقا وطعنا ونفتح بطنه فتحا مبينا
كذلك من يحاول ظلم قومي سيصبح عبرة للعالمينا
سنمطره بإنكار وشجب فعند الحق نأبى أن نلينا
فدباباتهم في بيت لحم ومنتجعاتنا في طور سينا
فمنتصرون لكن للأعادي ومنتقمون لكن من أخينا
أيها الإخوة المسلمون، لطالما كان الأعداء يحلمون بفتح بلادكم أمام حملاتهم السياحية، ولطالما كانوا يحلمون بإخراج فتياتكم للعمل في المتنزهات والمرافق الترفيهية، ولطالما كانوا يحلمون بنشر الفاحشة والإباحية بينكم أيها المسلمون.
وإن من أبناء المسلمين أيضا من يسعى إلى هذا الهدف بقصد أو بغير قصد.
فاحذر يا أخي المسلم أن تكون منهم لأن الله تعالى قد توعدهم بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، فقال جل وعلا: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ثم احذر أن تكون ممن يعاون على ذلك البلاء أو يطمئن إليه أو يشارك في هذه المهرجانات التي يعصى فيها الله. فإن الله تعالى قد توعد بالنار كل من كان عونا للظلمة فقال جل وعلا: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.
إن من واجبك أيها المسلم أن تفشل البرامج والمهرجانات التي فيها مخالفات شرعية وذلك بعدم المشاركة فيها وعدم الدخول عليها وعدم دعمها ولو بريال واحد، وذلك ليعلم الكفار والمنافقون بأنهم وإن وجدوا طريقا إلى بلاد المسلمين فإنهم لن يجدوا طريقا إلى قلوب المسلمين ولا إلى عقولهم.
فالمسلم عقله أثمن من أن يمنحه هدية لأعداء الإسلام. وقلبه أغلى من أن يفسده بالشهوة البهيمية.
(1/1364)
منزلة المال
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن درويش الغامدي
الجبيل
8/2/1421
طلحة بن عبيد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيام مصالح الناس بالمال. 2- أكل المال بالباطل. 3- تحذير النبي من فتن المال.
4- كيف تعامل الصحابة مع المال. 5- حفظ المال أحد مقاصد الشريعة. 6- مقاصد الشريعة
الضرورية تجعل المال آخرا. 7- ذم النظرية الرأسمالية في تقديس المال.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله تعالى قد شرع هذا الدين العظيم، وبين فيه كل شيء، وأعطى فيه كل ذي حق حقه وجعل لكل شيء قدراً.
وإن من الأمور التي أولاها هذا الدين رعاية واهتماما: أمر المال وحفظه وما يجب له وما يجب فيه.
لقد جعل الله تعالى المال قياما لأمور الناس ومصالحهم فقال عز وجل: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً فالسفهاء الذين يخشى من اتلافهم للمال، لا يعطى لهم المال، لأنه في حقيقته مال الأمة، وللأمة فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه.
ويقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل. وأكل الأموال بالباطل يشمل كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها، ومن ذلك الغش والرشوة والقمار والاحتكار، وجميع البيوع المحرمة وفي مقدمتها الربا.
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً.
هكذا عقب بقوله: ولا تقتلوا أنفسكم حتى يشير إلى الآثار المدمرة التي ينشئها أكل الأموال بالباطل في حياة المجتمع، فهي عملية قتل متعمد، يريد الله أن يرحم منها المؤمنين، وإنها فعلا لوسيلة لقتل الأمة. فما انتشرت وسائل أكل الأموال بالباطل:
بالربا، والغش، والقمار، والاحتكار، والتدليس، والاختلاس، والاحتيال، والرشوة، والسرقة، وبيع العرض، وبيع الذمة، وبيع الضمير، والخلق، والدين. ما انتشرت هذه الوسائل في أمة إلا وقد كتب عليها أن تقتل نفسها، وتتردى في هاوية الدمار.
والله يريد أن يرحم الذين آمنوا من هذه المقتلة المدمرة للحياة، المهلكة للنفوس، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً.
لقد شرع الإسلام تشريعات عديدة لحفظ أموال المسلمين. ونظم عملية التعامل بين المسلمين في الأمور المالية، وحرم كل عملية من شأنها الإضرار بمصالح الناس ومعاشهم. وحدّ حدودا رادعة لقمع كل من يتعدى على أموال الناس ويأكلها بغير حق،.وهذا كله يبين أهمية المال في حياة الناس.
ومع أن المال يكتسب هذه الأهمية في الحياة، إلا أن الإسلام يجعل المال وسيلة لا غاية، فالمال في الإسلام هو وسيلة لعبادة الله تعالى وإقامة شرعه المطهر ووسيلة للصلاح والإصلاح، ووسيلة للبر والصلة والتكافل بين المسلمين، ووسيلة لدعم قضايا المسلمين، فلا يجوز للمسلم أن يرفعه فوق منزلته، ولا أن يتخذه إلهاً يعبد، ولا أن يكون هو الغاية في حياة المسلم.فالمال وسيلة إذا استخدمت في الصلاح كانت نعمة،كما قال : ((نعم المال الصالح للعبد الصالح)) وإذا استخدمت في الفساد كانت وبالاً.
وشقاء وتعاسة كما قال : ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم)).
إن الفقر خير من مال يجلب التعاسة، وقلة ذات اليد خير من غنىً يجلب الطغيان...والرسول لم يكن يخاف علينا من الفقر بل كان يخاف علينا من الغنى. فهاهو يحلف ويقول: ((والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)).
إن الناس إذا كان تنافسهم في الدنيا وفي الأموال فإن الهلاك والدمار هو مصيرهم.
هذه عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد بطرت معيشتها وتبجح أهلها حتى قالوا: من أشد منا قوة؟ فدمرهم الله تعالى ورد عليهم بقوله: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون.
وهذا قارون فرح بما عنده من المال وقال إنما أوتيته على علم عندي. قال الله تعالى فيه: أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ثم قال: فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين.
فالاعتزاز بالمال والدنيا هو من أعظم أسباب الدمار والهلاك. وإنفاق المال في سبيل الدين والعرض ومكارم الأخلاق، هو من أعظم أسباب البقاء والتمكين في الأرض.
لقد كان أعراب الجاهلية يفخرون بإنفاق أموالهم في الخصال الحميدة كإكرام الضيف والإصلاح بين الناس. كما كانوا يتعايبون من كنز الأموال حتى قال قائلهم:
إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ظلت إلى طرق الخيرات تستبق
لا يعرف الدرهم المضروب صرتنا لكن يمر عليها وهو منطلق
حتى يصير إلى نذل يخلده يكاد من صره إياه يمزق
وكان أحدهم ينفق ماله كله من أجل إكرام ضيف نزل به، أو من أجل أن يصلح بين متخاصمين، فجاء الإسلام فزاد ذلك قوة فجعل لذلك الذي أصلح وتحمل حمالة الصلح نصيبا في الزكاة.
وكان الرسول وأصحابه يعتبرون المال وسيلة لا غاية، فهذا المصطفى يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يأتيه مال إلا قسمه في المحتاجين حتى يمسي وليس عنده منه شيء لأنه القائل : ((الغنى غنى النفس)). فالغنى الحقيقي هو أن تكون غنيا عن المال، لا غنيا بالمال.
وهؤلاء أصحابه رضي الله عنهم تصدق كثير منهم بثلث ماله، وتصدق عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وتصدق الصديق أبوبكر بماله كله في سبيل الله، وعندما قيل له: ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا مما يشاء ولسنا نحن نرتزق
وفي غزوة حنين عاتب الرسول الأنصار فقال لهم: ((ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله؟)) فقالوا بلسان واحد:
رضينا برسول الله حظا ونصيبا.
خذوا الشياه والجمال والبقر فقد أخذنا عنكم خير البشر
لقد كان هؤلاء الرجال يعلمون أن تقديم المال على الجهاد والدعوة هو الهلاك الحقيقي.
قال أبو عمران التجيبي رحمه الله: "كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فكانت التهلكة إقامتنا على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم.
جاء رجل إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين أعطني فوالله لئن أعطيتني لا أحمدك، ولئن منعتني لا أذمك. قال: ولم ذاك؟ قال: لأن الله جل ثناؤه هو المعطي وهو المانع، قال عمر: أدخلوه بيت المال فليأخذ ما شاء، فأدخلوه قال فجعل يرى صفراء وبيضاء، فقال: ما هذا ليس لي فيما ها هنا حاجة، إنما أردت زادا وراحلة ، فأمر له عمر بزاد وراحلة، فرحل له، فلما ركب راحلته رفع يده، فحمد الله وأثنى عليه، وجعل عمر يمشي خلفه ويتمنى أن يدعو له قال: اللهم واجز عمر خيرا. فكانت هذه الدعوة أحب إلى عمر من كل ما في بيت المال.
كان المسلمون يفتتحون الممالك العظيمة ويغنمون الكنوز فلا تؤثر فيهم ولا تغيرهم فهم يعلمون أنها حطام الدنيا وهم يستشعرون قول الله تعالى: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين. نعم يعلمون أن ذلك متاع زائل.
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزا وصاغ الحلي والدينارا
فتح المسلمون البيت الأبيض مقر الرئاسة الكسروية فوجدوا فيه سجادة عظيمة سبعين ذراعا في سبعين ذراعا، منسوجة بالجوهر والياقوت والأحجار الكريمة، فما كان منهم إلا أن قطعوها وحملوها على الجمال وأرسلوها إلى عمر ليقسمها في فقراء المدينة، وأرسلوا معها سيف كسرى ومنطقته وزبرجدته لم ينقص منها جوهرة واحدة ولم يسقط منها ياقوتة واحدة. فلما رءآه عمر رضي الله عنه أخذ يبكي ويقول: لو كان هذا خيرا ما زوي عن رسول الله وعن أبي بكر. ثم التفت إلى علي فقال :إن قوما
أدوا هذا لأمناء. قال علي رضي الله عنه: عففت فعفّوا يا أمير المؤمنين.
فكان علي بعد ذلك في خلافته كلما وجد في بيت المال شيئا قسمه على محتاجيه ثم أمر بكنس بيت المال ثم نضحه بالماء ثم صلى فيه رجاء أن يشهدله أنه لم يحبس فيه المال عن المسلمين.
هكذا كانت منزلة المال عند أولئك الرجال، كان المال وسيلة لا غاية.
كانوا يعلمون أن حفظ الأموال لا يأتي في الأهمية في الدرجة الأولى ولا في الدرجة الثانية ولا في الثالثة ولا الرابعة.
نعم.. إن حفظ الأموال مقصد شرعي جاءت به الشريعة الغراء.. ولكنه لا يأتي إلا في المرتبة الخامسة بعد أن قدمت عليه أربعة أمور هي أولى منه بالحفظ والرعاية.
لقد كان من المقاصد الشرعية في دين الإسلام -بل في كل شريعة سماوية- حفظ أمور خمسة هي أساس بناء واستقرار المجتمع.
أما الأمر الأول والمقصد الأول والهدف الأول من الأحكام الشرعية فهو حفظ الدين الذي هو الأساس عند المسلم. وهو الأمر الجوهري الذي ينبغي أن يحافظ عليه كل مسلم ويتمسك به ويسعى إلى تحقيقه مهما بلغ الثمن.. وحتى لو ضحى من أجله بالنفس والعرض والمال.
وكل مصيبة تقع للمسلم فإنها هينة إذا كانت دون الدين، ولذلك كان الرسول يدعو فيقول: ((اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا)).
ولا يجوز لمسلم أن يقدم على شيء يكون فيه فساد لدينه أو دين غيره من المسلمين، ولذلك كان الصد عن سبيل الله من أعظم الذنوب وأكبرها عند الله ولهذا يقول الله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل.
فأمر حفظ الدين هو أعلى المقامات وأعلى المراتب وأشرف المقاصد. تهدر في سبيل تحقيقه النفوس والأعراض والأموال.
أما المقصد الثاني فهو حفظ النفس:
فقد جاءت الشريعة الإسلامية لتؤكد ضرورة حفظ النفوس من التلف، فقد حرم الله تعالى على المسلم أن يقتل نفسه أو نفس غيره أو أن يعمل على ما يضرها ويفسدها، ومن أجل ذلك أحل الله أكل الطيبات وحرم الخبائث، ومن أجل ذلك حرم الله أن يُقتل الإنسان إلا بحق، وحدّ لذلك حدودا، وشرع لذلك تشريعات كثيرة ليس هذا مكان تفصيلها.
ومن أجل هذا المقصد العظيم تهدر الأموال.
أما المقصد الثالث فهو حفظ العرض، فأعراض المسلمين وشرفهم من الأمور التي عملت الشريعة الإسلامية على تحقيقها، لأن المسلم عزيز بإيمانه، معتز يشرفه وعفته، مترفع عن الرذائل والمعائب وما يخدش الحياء فلا يجوز لأحد أن يدنس عرضه ولا عرض أخيه المسلم حتى ولو كان ذلك بكلمة واحدة. والأخلاق الفاضلة تدخل كلها تحت هذا المقصد، وفي سبيل العرض يدفع المسلم الغالي والنفيس.
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال.
المقصد الرابع من مقاصد الشريعة هو حفظ العقل، فالعقل الصحيح هو الذي يوجه الإنسان إلى خالقه ويدله على طريق الحق. والشرع المطهر جاء بحماية هذا العقل من كل ما يفسده. فقد حرم الإسلام المسكر والمفتر. وحرم الإصغاء إلى دسائس الكفار والمنافقين. وجعل الذي لا يعقل الحق في منزلة الحيوان في الحيرة الضلال، بل هم أضل سبيلا.
فمن أجل حفظ العقل يهدر المال ويصرف.
أما المرتبة الخامسة في مقاصد التشريع الإسلامي فيأتي فيها حفظ المال. لا لأنه مقصد في حد ذاته.. ولكن لأنه وسيلة فعالة لتحقيق المقاصد الأربعة السابقة.
هذا هو ترتيب الأولويات في الإسلام:
الدين، النفس، العرض، العقل، المال.
وهذا الترتيب هو الذي كان يعمل به المسلمون في أيام عزتهم ودولتهم، وهو الذي سادوا به الدنيا وحازوا به الفخر والقوة والريادة. وحطموا به أصنام الوثنية وشعار الجاهلية. وأدخلوا به الناس في دين الله أفواجا.
بالمحافظة على الدين، ثم النفس، ثم العرض، ثم العقل، ثم المال. تحقق قول الله جل وعلا: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
أما في غياب هذه النظرة الصحيحة، فإن العزة تتبدل ذلة، وتتبدل القوة ضعفا، ويتبدل النور ظلاما، وتتحول الفضيلة إلى رذيلة، ويصبح المعروف منكرا، والمنكر معروفا.
لقد تُودع من المسلمين منذ أن تبنوا المناهج الوضعية في الاقتصاد فقسم شيوعي يهدر قيمة الإنسان ويجعله في مرتبة الحيوان.
وقسم رأسمالي يقدس المال ويهدر من أجله الدين والقيم والأخلاق والفضائل، ليجعل المال هو المطلب الأسمى والمعبود الأول.
لقد دخلت الرأسمالية إلى بلاد المسلمين وتغلغلت في عقولهم حتى أصبح أكثرهم يعبد المال ويضحي من أجله بكل شيء، حتى لو كان دينه.
لم يعد المسلمون فقط يقدسون المال ويقدمونه على الدين والنفس والعرض والعقل، بل أصبحوا يستعملونه في هدم الدين وقتل النفس وتدنيس العرض وإفساد العقل والتفكير.
لقد جاء الوقت الذي قال فيه الرسول : ((يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل)).
_________
الخطبة الثانية
_________
بعد أن عرفنا قيمة المال في ميزان المسلم الحق، وبعد أن عرفنا بُعد المسلمين اليوم عن هذا الميزان، فإننا لا نستغرب الحالة المتردية التي يقبع فيها المسلمون في كل المجالات ومنها المجال الإقتصادي.
إن الوضع القادم - أيها الإخوة - ليحتاج منا جميعا أن نعي هذه الحقيقة وهو أن ديننا وأنفسنا وأعراضنا وعقولنا وأخلاقنا أهم عندنا من المال، هذا إذا كنا سنجني مالا.
ومهما جنينا من الأرباح فإن الأصل عندنا هو الدين، فمن حفظ دينه فقد ربح، ومن خسر الدين في مقابل لعاعة من الدنيا فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
نحن هنا لا نفصل القول عن الرأسمالية الغربية وكيف دمرت الأخلاق والقيم في البلاد التي طبقت فيها فهذا له موضع آخر.
ونحن لا نتحدث هنا عن الشركات المتعددة الجنسيات وكيفية سيطرتها على الأمم وخنقها للشعوب وتكديسها لأموال العالم في أيدي بضعة ألوف من المليونيرات مع تجويع ملايين الناس، فهذا مجال المتخصصين في ذلك، ولا نتكلم عن تأثير الإستثمار الأجنبي على البلاد الإسلامية وعلى الفقراء فيها وعلى القضايا الإسلامية، فهذا مجال المسؤولين ولا نظن بهم إلا أنهم قد درسوه.
ولا نتكلم عن تجارب الأمم الأخرى في العولمة والانفتاح على الثقافات الأخرى فهذا مشاهد لكم جميعا. والكل يشتكي.
ولن نتكلم في خطر مشاركة بعض المسلمين لشركات تعلن دعمها لإسرائيل، فكل واحد مسؤول عند الله تعالى عن مال من أين اكتسبه وأين أنفقه.
هذا كله لا أقصده في هذه الخطبة ولكني أقصد هنا توجيه الكلام إلى الناس العاديين أمثالي إلى التنبه ومراعاة الأولويات في التعامل التجاري ولنعلم جميعا أن المعاملات الإسلامية مبنية على التسامح والبر والصلة والتقارب والأخلاق، فلا يجوز أن يخرج بنا حب المال وشهوة الدنيا عن مبادئنا التي ندين الله تعالى بها.
ولنتذكر ثانية قول الرسول : ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)).
وليعمل كل مسلم على أن يكسب المال من حله ويصرفه في حله، ولا يكن ممن يثمر أمواله على على حساب دينه أو دين المسلمين.
وليعلم أن من ترك شيئا لله عوضه الله تعالى خيرا منه والله تعالى خير الرازقين.
(1/1365)
أسباب ذلة المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب هزيمة أحد كما ذكرها القرآن. 2- الهزيمة سببها الذنب والضعف. 3- تعليق بعض
المسلمين هزائمنا وذلنا على مشاجب العدو الخارجي. 4- أهمية القلب ودوره في توجيه
الجوارح. 5- الحسد أحد أمراض قلوبنا. 6- ذكر بعض منكرات بيوتنا وتفريطنا فيها. 7- ذكر
بعض منكرات المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا... اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا... اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم من أن نغتال من تحتنا.
اللهم أحينا مسلمين وأمتنا على الإسلام يا رب العالمين... اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير ضالين ولا مضلين.
أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون.
هذه الآيات من سورة آل عمران في الحديث عن غزوة أحد التي خاضها الصحابة مع النبي ضد المشركين, هذه المعركة تحدث الله عنها في هذه السورة كثيرًا, في ثمانين آية من هذه السورة يتكلم الله تعالى عن هذه الغزوة ـ عن غزوة أحد الغزوة الثانية في الإسلام ـ هذه الغزوة كان فيها خير البشر الرسول قائدًا, وكان فيها الصحابة الكرام خير من اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه كانوا فيها جنودًا أوفياء, مع ذلك كله أصابهم القرح, هزموا فيها بعد أن كانوا قد انتصروا في بدايتها, فلما حدثت الهزيمة في نهايتها تساءل بعض الناس وقالوا: أنّى هذا فأنزل الله تعالى تلك الآية وهو قوله تعالى: أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا أي كيف وقع هذا؟ كيف يكون هذا حالنا وفينا رسول الله ؟ وفينا خاتم الأنبياء والمرسلين؟ كيف يكون هذا حالنا وفينا الصديقون "أنى هذا" فجاء الجواب من الله:
أولاً: قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير.
ثانيًا: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين.
ثالثًا: وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالو قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا.
وأركز في هذه الخطبة وربما في خطب تالية أيضًا عن السبب الأول من أسباب الهزيمة, وهي قوله تعالى: قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم ما المراد بهذه الآية؟
قال بعض المفسرين ـ استنادًا إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ: أن المسلمين لمّا أخذوا الفداء في غزوة بدر أصابهم الله تعالى في غزوة أحد بهذا المصاب, فكان جزاء ذلك في غزوة أحد أن ذهب سبعون من المسلمين قتلوا في مقابل السبعين الذين افتدوا في غزوة بدر, والله تعالى قال: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة أي: كان المفروض من المسلمين في أول وقعة في الإسلام أن يُعمِلِوا السيف في رقاب المشركين الذين في أيديهم وألا يفتدوا, ليعلم الكفار أن لا هوادة في قلوب المسلمين عليهم ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة هذا قول.
القول الآخر في الآية ـ وهو ما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله تعالى, ومن قبله الربيع ابن أنس وغيرهما ـ: أن المراد من قوله تعالى: قل هو من عند أنفسكم أي بسبب عصيانكم للرسول لما أمركم أن لا تبرحوا من أماكنكم التي أمركم بها, فأبيتم إلا أن تنزلوا عن مواطنكم فبسبب عصيانكم لرسول الله أصابكم هذا. وما القصة في هذا؟
القصة أن الرسول لمّا قدم إلى أرض أحد جعل الرماة ومعهم النبل على الجبل, هذا الجبل هو عن ميمنة المسلمين حتى لا يقترب المشركون منهم فتكون ظهورهم محمية بجبل أحد وتكون ميمنتهم محمية بهؤلاء الرماة, وقال لهم الرسول : لا تنزلوا ولو رأيتمونا انتصرنا وغنمنا فلا تشركونا, ولو رأيتمونا دخلنا المدينة فلا تنزلوا, فكان هذا أمرًا صارمًا من رسول الله لا ينبغي أن يعصى, فلما احتدم القتال ودارت رحى المعركة انتصر المسلمون في البداية وفر المشركون على أدبارهم, فأخذ بعض المسلمين يلتفون حول الغنائم, فلما رأى الرماة ذلك قالوا: لنشترك مع إخواننا في المغنم, فأرادوا النزول فنصحهم البعض فأبوا إلا أن ينزلوا, فلما نزلوا جاء المشركون فأخذوا مواقع الرماة من المسلمين فدخل المسلمون بعضهم في بعض وقتل بعضهم بعضًا وشج النبي وأدمي وكُسرت رباعيته, وهو خير الخلق عليه الصلاة والسلام, فقال المسلمون: "أنى هذا" كيف حصل هذا؟ فوضع الله أيديهم على السبب, على العلة التي من أجلها هزموا, هذه العلة هي من عند أنفسكم, ويفسر هذه الآية قوله تعالى أيضًا في سورة الشورى في الآية الثلاثين: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير , وبينهما كذلك قوله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم يقول الحافظ ابن كثير: يبين الله تعالى في هذه الآية عدله في حكمته بأنه " لا يغير نعمة" فيزيلها عنهم ويحولها إلى غيرهم إلا بعد أن يغيروا ما بأنفسهم, نريد أن نقف عند هذه الجزء من الآية, لأنها هي السبب في مصاب المسلمين وهذا الموضوع له خطورته الكبيرة, فينبغي للمسلمين فرادى وجماعات أن يضعوا أيديهم على هذا السبب؛ لأنه ما من مصيبة تحدث إلا بسبب أنفسنا, وهذه الآية أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم يبين لنا بأن أولى الأسباب للهزيمة في المعارك هو ضعف النفس, نعم هناك أسباب خارجية, هناك مكائد, والمسلمون كثيرًا ما يلقون بأخطائهم وعثراتهم على أعدائهم والأسباب الخارجية, وينسون الأسباب الداخلية التي تؤدي إلى هزيمتهم وقهرهم في المعارك وفي غيرها.. نعم لاشك أن للأسباب الخارجية دورًا كبيرًا في هزيمة المسلمين كالغزو الفكري وكتدبير اليهود والنصارى كمكر الليل والنهار الذي يراد منه أن يكون المسلمون أذلة, نعم لاشك أن لهذا كله دورًا كبيرًا في الهزيمة, ولكنها في الحقيقة لا تؤثر وتُدفع بإذن الله تعالى إذا كانت الأسباب الداخلية منتفية, قال الله سبحانه وتعالى: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا فالله تعالى هنا أثبت أن للكفار كيدًا وللأعداء مكرًا, ومن ثم طمئننا فقال: لا تخافوا لن يضركم كيدهم شيئًا ما دمتم على التقوى, ما دمتم على الخير وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا لأن الله عز وجل بما يعملون محيط؛ لأن الله سبحانه وتعالى يمكر بهم حين يمكرون قال عز وجل: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
لنقف عند هذه الآية, ولننظر إلى الآفات التي نعاني منها, ومن هنا يكون العلاج بعد تلمس الداء فمن الخطورة أن يحس الإنسان بألم المرض ولا يفطن إلى موضع الداء, نعم الإحساس بألم المصيبة كبير, نعم أن يحس الإنسان بألم الداء مصيبة عظمى, ولكن أعظم منها هو عدم الشعور بمكان الداء فإذا علم البلاء يسهل بعد ذلك العلاج.. واذكر في هذا المجال أمثلة فقط ولا أريد هنا الحصر, لا أريد أن أحصر الأسباب التي هي من أنفسنا.
وأبدًا أولاً بمساوئ القلوب: فإن هذه المضغة, فإن هذا العضو هو العنصر الفعال في الفرد وإذا صلح الفرد صلحت الجماعة, والرسول يقول: ((إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)), ماذا في القلب؟ القلب إذا صلح صلح البصر فأصبح لا ينظر إلا إلى خير, القلب إذا صلح يصلح السمع فلا يسمع إلا خيرًا, القلب إذا صلح يصلح اليد فلا يأخذ إلا خيرًا, ولا يبطش إلا بحق ولا يكتب إلا حقًا, والقلب إذا صلح يصلح الرجل فلا يمشي إلا إلى خير ولا يمشي إلى شر أبدًا, القلب إذا صلح يصلح البطن فيأبى أن يأكل حرامًا, القلب إذا صلح يصلح اللسان يأبى أن يتكلم باطلاً, يأبى أن يغتاب أو ينم, القلب إذا صلح صلح الجسد كله كما قال.
ويدلنا على خطورة ما في النفس, يدلنا على خطورة القلب وعلى مساوئه قوله عند مسلم عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث أنه قال: ((فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)).
هذا الحديث قال الشراح فيه: وسبب هذا القلب وما فيه, فلما كان هذا الذي يعمل صالحًا يعمل بعمل أهل الجنة وقلبه على غير ما يظهر عاقبه الله في نهاية الأمر, وأبدى الله عز وجل مساوءه وفضحه فعمل بعمل أهل النار فدخلها, فإذن الدسيسة التي في القلب هي التي تظهر عند الممات فإما أن يختم للإنسان بالخير وإما أن يختم له بالشر, ولذلك قال : ((إنما الأعمال بالخواتيم)) وأوضحه حديث: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار, ويعمل بعمل أهل النار وهو من أهل الجنة, والله تعالى ليس بظلام للعبيد)).
ونذكر من أمراض القلب ـ مثلاً ـ الحسد, الذي نستعيذ به فنقول ومن شر حاسد إذا حسد ألا يوجد فينا من يتمنى زوال نعمة أخيه المسلم, ألا يوجد فينا من يكره أن يعطى أخاه المسلم خيرًا أو ينال فضلاً؟ هذا هو الحسد, قال تعالى عن اليهود وهم من أكثر الناس حسدًا: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا , ويقول عن أهل الكتاب: ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم هذا الحسد الذي يضرم في قلوب كثير منا, هذا الحسد الذي هو تمني زوال نعمة الغير, الحسد الذي هو أن يكره الإنسان لأخيه خيرًا تحصل عليه, سواء كان من خير الدنيا أو خير الآخرة, هذا الحسد من أمراض القلوب الفتاكة الذي إذا سيطر على القلب أصبح الإنسان مريضًا مرضًا شديدًا, بل قد يموت في نهاية الأمر قلبه, والقلب إذا مات قسى وإذا قسى لم ينفع فيه ذكر, قال سبحانه وتعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينبذ عنّا الحسد وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل, وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, دعا عباده إلى دار السلام حجةً منه عليهم وعدلاً, وخص بالهداية والتوفيق منهم من شاءه منهم مَنّة عليهم وفضلاً, فهذا عدله وحكمته فهو العزيز الحكيم, وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
كذلك من الأشياء التي في أنفسنا والتي بها نهزم, والتي بها يسلط علينا الأعداء المنكرات التي في بيوتنا, وكما قدمت فإنني أذكر هنا أمثلة فقط ولا أريد الحصر في هذا المقام.
المنكرات التي في بيوتنا هي التي والله تؤدي إلى هزيمتنا, هي والله تؤدي إلى أن نكون في الأرذلين, فليست المشكلة في قرار وليست المشكلة في وجهة نظر, إنما المشكلة في المنكرات التي نحن قائمون عليها, المنكرات التي في بيوتنا, وقد يقول إنسان: وهل في بيوتنا منكرات؟ نعم, يا إخوان في بيوتنا منكرات, نحن مسلمون أي نعم, ولكن المعاصي إذا كثرت بيننا سلط الله علينا أعداءنا, المنكرات التي في بيوتنا أكثر من أن تحصر, أذكر مثلاً على ذلك في بيوتنا الخدم الذين يغدون ويروحون على محارمنا, على أزواجنا على فتياتنا, على أمهاتنا.
الخلوة التي تحدث في بيوتنا, النظر إلى الحرام الذي يحدث في بيوتنا ـ سواءًا كان منا أو من أزواجنا, أو من أبنائنا ـ سماع الحرام, سماع الأغاني والفحش.
انزل إلى أسواقنا وانظر هل كَفّ الناس عن شراء الأفلام, أفلام الفيديو التي أقل ما فيها ـ كما ذكرت قبل ذلك كثيرًا ـ أن تجد فيها كلمة فاحشة أو قبلة أو نظرة شيطانية, النظرة إلى المرأة الأجنبية لا تجوز من غير أن تتكلم وهي لا تنكسر في مشيتها, فكيف بالنظر إلى الممثلات والممثلين الذين نراهم بأم أعيننا يلقون بالفاحشة من القول والفاحش من النظرات, بالتكسر في المشية, أليس هذا من المنكر؟!
بهاذا نعاقب, بهاذا يتسرب الخوف إلى قلوبنا, الأمن يزول؛ لأن الناس يعملون المعاصي, من المنكرات في بيوتنا أن يدخل الحمو البيت في غياب الزوج, أن يحدث التصافح بين الرجال والنساء اللواتي لسن بمحارم, كل هذا من المنكرات, أيضًا من المنكرات أكل الحرام من الربا من الرشوة, هذه من المنكرات التي تتأجج نارًا وإن لم نعاقب في الدنيا فسنعاقب عليها ـ إن لم يغفر لنا ربنا ـ في الدار الآخرة.
أذكر أيضًا من الأشياء التي في أنفسنا والتي نعاقب عليها عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إذا أزيل هذا الأمر من بيننا وأصبحنا نلقي بتبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد معينين على جهة مختصة محدودة فلم لا يصيبنا البلاء؟ لماذا لا يتسرب إلينا الخوف, نعم لو كنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر لما حدث كل هذا الذي نراه, فهذا يا إخواني مثل بسيط من الأشياء التي في أنفسنا وهي كما سبق وقلت أكثر من أن تحصى.
فعليكم أن تضعوا أيديكم عليها حتى تصلوا إلى العلاج والله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, والله لو تكلمنا كثيرًا في هذا الموضوع لما أعطيناه حقه وما استوفيناه قدره, فينبغي على كل إنسان أن يلتفت إلى نفسه وأن يلتفت إلى من حوله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
(1/1366)
أشراط الساعة
الإيمان
أشراط الساعة
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أشراط الساعة من الغيوب التي أطلعنا الله عليها. 2- العلامات منها علامات كبرى وأخرى
صغرى. 3- ذكر بعض علامات الساعة التي تحققت بعد وفاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم [محمد: 18] ينعى الله سبحانه وتعالى على المعرضين عدم استجابتهم للإيمان فيقول عز وجل: "ماذا ينتظر هؤلاء؟ هل ينتظرون أن تقع عليهم الساعة فجأة وعندها لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا, وقد جاء أشراطها, وقد حلت علاماتها, وقد رأوا أماراتها فما بالهم لا يؤمنون بها, ما لهم لا يعملون لها, وقد بدت أماراتها أشراطها.
هذه العلامات وهذه الأشراط هي من علم الغيب الذي أخبرنا به ربنا جلا وعلا في القرآن, ورسولنا في سنته, وهذا الغيب من الأمور التي ينبغي للمؤمن أن يصدق بها؛ فإن من أعظم صفات المؤمنين الصادقين أنهم يؤمنون بالغيب كما قال تعالى: ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ـ من هم ـ الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون [البقرة: 1 ـ 3].
الاطلاع على هذه الغيوب والتصديق بها من صميم الدين الذي جاء به الرسول , أخبر بها القرآن وجاءت بها السنة وتعلمها الصحابة رضوان الله عليهم واهتموا بها اهتمامًا كبيرًا, نعم صحيح أن كثيرًا من المسلمين شُغلوا وشَغلوا أنفسهم بالأخبار الغيبية التي لم يكن عليها دليل صحيح من الكتاب والسنة, نلوم أولئك الذين أقعدهم العمل بهذا الدين والجهاد في سبيله انتظار لحدوث الخوارق وانتظار حدوث تلك الأمارات من خروج المهدي وغيره.
ومن الناس من ذهب مذهبًا بعيدًا فأنكر على الناس الاشتغال بهذه الأمارات والاتعاظ بهذه الأشراط حتى يوقن بوقوع الساعة, ويقال لهؤلاء الذين أنكروا الاشتغال بهذه الأمور: ما بالكم لا تنكرون على الذين يشتغلون بالبحث عن المجهول؟ أما نرى في البشرية في هذا الزمان سعيًا إلى كشف الغطاء عن كثير من الأمور التي غابت عنهم في الماضي أو في الحاضر, فهم يجوبون الفضاء ويجوبون كذلك فجاج الأرض, يجوبوها لكي يكشفوا المجهول.
وإن في النصوص الواردة عن نبينا معلومات جميلة والله عن ماضينا وعن حاضرنا وعن مستقبلنا, فجدير بالمسلمين أن يركنوا إلى هذه المعلومات وأن يصدقوا بها, وجدير بهم أيضًا أن يوقنوا بتبعاتها وبمؤدى هذه الأشراط, وهي الساعة العظمى التي حذرنا الله سبحانه وتعالى منها وإذا تكلمنا على الساعة وعلى أشراطها فينبغي علينا أن نفهم أو نعي تمامًا بأن الساعة علاماتها مختلفة, فهناك علامات صغرى وهناك علامات كبرى عظمى.
العلامات الصغرى علامات وقعت وانتهت, وهناك علامات وقعت ومستمرة, وهناك علامات لم تقع وإذا وقعت فهي إيذان بقرب العلامات الكبرى, ونذكر من العلامات التي وقعت وإن في ذكرها زيادة إيمان بالله سبحانه وتعالى وباليوم الآخر, وكذلك فيه استعداد للعلامات الأخرى التي لم تقع.
أولاً: بعثة المختار ووفاته عليه الصلاة والسلام:
كانت بعثته أول آية من آيات الساعة وكانت وفاته ارهاصة من ارهاصات قدوم الساعة, ففي الحديث عند البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي قال: رأيت رسول الله قال بأصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ـ وفي رواية مدهما عليه الصلاة والسلام وقال ـ: ((بعثت أنا والساعة كهاتين, بعثت أنا والساعة كهاتين)). وعند الإمام أحمد بسند صحيح عنه : ((بعثت في نسم الساعة)) , قال ابن الأثير: نسم الريح هو بدايته, فالرسول بعثته من أول أشراط الساعة, وعند البخاري عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي في غزوة تبوك وهو في خيمة: ((أعدد ستًا بين يدي الساعة, موتي ـ أي وموته هو ـ ثم فتح بيت المقدس, ثم موتان يأخذ فيكم كعقاص الغنم, ثم استفاضة المال حتى إن الرجل يعطي مائة دينار فيظل ساخطًا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانية غاية تحت كل غاية اثنى عشر ألفًا)) , فهذا الشاهد فيه قوله : "موتي" فهو علامة من علامات الساعة.
ثانيًا: من العلامات التي وقعت انشقاق القمر, وقد اتفق العلماء على أن القمر قد انشق في عهد النبي , جاء بذلك القرآن فقال الله عز وجل: اقتربت الساعة وانشق القمر , اقتربت الساعة وعلامة على اقترابها انشقاق القمر, وقد جاء في الأحاديث عن نبينا صلى الله عليه بذلك وساقها مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه منها حديث أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين, وفي رواية بينما نحن مع رسول الله بمنى إذا انفلق القمر فلقتين فلقة وارء الجبل وفلقة دونه, فقال لنا رسول الله : ((اشهدوا اشهدوا)) فهذه علامة من علامات الساعة قد وقعت.
العلامة الثالثة من علامات الساعة التي قد وقعت نار الحجاز وما أدراك ما نار الحجاز, نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل بالبصرى, ثبت ذلك في الصحيح عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من الحجاز تضيء أعناق الإبل بالبصرى)) , وهذه الآية العظيمة قد وقعت على الصورة التي أخبر بها رسول الله , نار تأجج من أرض الحجاز أضاءت منها أعناق الإبل بالبصرى, وبصرى كما قال الإمام النووي مدينة ببلاد الشام, وهي مدينة حوران بينها وبين دمشق مراحل قليلة.
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه البداية والنهاية: أن هذه النار كان خروجها في سنة ستمائة وأربع وخمسين من الهجرة النبوية, قال العلامة ابن كثير في أحداث سنة ستمائة وأربع وخمسين: وهذه النار قد خرجت في أرض الحجاز عند مدينة رسول الله فأحرقت الحرات الشرقية منها وحصل قبلها زلزال شديد دام سبعة أيام فارعوني الناس إلى ربهم ودخلوا المسجد, دخلوا الحرم واستغفروا الله جماعات وذهبوا إلى أمير المدينة وبالأخص قاضيهم, فوعظوه فرد المظالم وأعتق عبيده واستمرت النار إلى رجب أو أكثر من ذلك وقد أفرغ المؤرخون لهذه الحادثة وأثبتوا أنها من علامات الساعة التي أخبر بها الرسول ويخبر كثير منهم ومنهم العلامة أبو شامة في بعض كتبه عن هذه الحادثة وقال بعضهم في بيات وهو يصف هذه النار, حتى إن طلبة العلم في ذلك الزمان كانوا يكبتون بنور هذه النار التي أضاءت مدينة رسولنا , وقد حدث الأعراب أنهم مكثوا ليالي لا يوقدون سراجًا وإنما يمشون على هذه النار التي أوقدت في أرض الحجاز وقد نظم بعضهم فقال:
يا كاشف الضر صفحًا عن جرائمنا لقد أحاطت بها يارب بأساء
نشكوا إليك خطوبًا لا نطيق لها حملاً ونحن بها حقًا أحقاء
زلازل تخشع الصم الصلاب لها وكيف تقوى على الزلازل شماء
أقام سيفًا يرج الأرض فانصدعت عن منظر فيه عين الشمس عشواء
بحر من النار تجري فوقه سفن من الهضاب لها في الأرض أرساء
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت رعبًا وترعد مثل السعف أضواء
فيا لها آية من معجزات رسول الله يعقلها القوم الألباء.
فهذه آية من آيات وقوع الساعة الصغرى وقعت.
رابعًا: من العلامات التي وقعت أيضًا توقف الجزية والخراج عن المسلمين, كانت الجزية التي يدفعها أهل الذمة في الدولة الإسلامية والخراج الذي يدفعه الذين يستغلون الأراضي التي فتحت في الدولة الإسلامية كسواقي العراق والشام, كانت كل هذه الأموال تصب في بيت مال المسلمين وقد أخبر الرسول أن هذه الأموال ستنقطع عن المسلمين, ففي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((منعت العراق درهمها وقفيزها, ومنعت الشام مدها ودينارها, ومنعت مصر إردبها ودينارها وعدتم من حيث بدأتم, وعدتم من حيث بدأتم)) قال أبو هريرة: شهد على ذلك لحم أبو هريرة ودمه, وقال في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما سئلوا: لما؟ قالوا: لأن الأعاجم أخذوها, وهذا يدل يا إخوان على صدق نبوة رسولنا.
وهناك علامات وقعت وهي مستمرة أو وقعت مرة وممكن أن تتكرر وسنذكرها إن شاء الله تعالى من ذلك الفتوحات والحروب أخبرنا الرسول أن هناك فتوحات للمسلمين من ذلك قوله : ((تغزون فارس فيفتحها الله لكم, وتغزون الروم فيفتحها الله لكم, تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله لكم, وتغزون الدجال فيفتحه الله لكم)) , وأخبرنا أن المسلمين سيزيلون ملك كسرى وملك قيصر, وأن أموالهما ستنفق في سبيل الله, ثبت ذلك في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسولنا أنه قال: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده, وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده, والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله تعالى)),
وأخبر أن المسلمين سيغزون الهند, قال : ((عصابتان من أمتي أحرزهم الله من النار عصابة تغزو الهند وعصابة تكون مع عيسى بن مريم عليه السلام)) , وبشرنا بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية, كذلك أخبرنا بفتح روما مقر الفاتيكان ثبت ذلك عن نبينا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله سُئل أي المدينتين تفتح أولاً أرومية أم قسطنطنية؟ فقال النبي : ((مدينة هرقل تفتح أولاً)).
وقد وقع بعض ما ذكر النبي وفتح المسلمون فارس وفتح المسلمون الروم وزال ملك كسرى وقيصر وأنفقت كنوزهما في سبيل الله تعالى, ففتحت بكنوز كسرى وقيصر ما والهما من البلاد التي حولها والتي كانت تحتهم وغزا المسلمون الهند وفتحها الله لهم حتى وصلوا إلى حدود الصين, وفتح المسلمون القسطنطنية مقر النصرانية الشرقية, وسيكون للمسلمين في مقتبل الزمان ملك عظيم ينتشر فيه الإسلام وتفتح روما قال : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت وبر ولا مدر إلا دخله هذا الدين, بعز عزيز أو بذل ذليل, عزًا يعز الله به الإسلام, وذلاً يُذل به الكفر)) رواه ابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما سمعنا وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى, والصلاة والسلام على الرحمة المهداة محمد صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك من العلامات التي أخبر بها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى رسولنا والتي وقع بعضها خروج الدجالين أدعياء النبوة فقد أخبر بأنه سيكون هناك كذابون وسيكون هناك دجالون يدَّعون النبوة وسيقرب عددهم من ثلاثين وفي بعض الروايات أنهم سبع وعشرون, قال في الحديث الصحيح: ((وبين يدي الساعة كذابون دجالون يدعون النبوة يقربون من ثلاثين وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) , وفي رواية قال : ((يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربعة نساء وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)) , وقد وقع بعض ما أخبر النبي فخرج مسيلمة الكذاب في عهد الصحابة وكذلك الأسود الغنسي, وفي عهد التابعين خرج المختار الثقفي فادعى النبوة وخرج كذلك في زماننا الحسين مرزا الذي ظهر في طهران والتف الناس حوله وسيكتمل العدد الذي أخبر به رسولنا.
قال العلماء: والمراد بهؤلاء الكذابين أدعياء النبوة أولئك الذين يلتف الناس حولهم, وإلا فإن أدعياء النبوة كثير.
ومن الأشياء التي أخبر بها الرسول ووقع بعضها الفتن التي تعصف بالمسلمين, حدثنا رسول الله كثيرًا عن الفتن وأخبرنا بأنه سيكون هناك هرج وسيكون هناك قتل, من تلك الفتن التي أشار بها علينا قوله لعثمان بن عفان رضي الله عنه مبشرًا إياه بالجنة على بلوى تصيبه, وقوله لعمار بن ياسر ((تقتلك الفئة الباغية)) وقوله مثلاً ((يكثر الهرج)), ووقع من ذلك مقتل عمر بن الخطاب الباب الذي كسر, ووقع من ذلك مقتل عثمان بن عفان ومقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم, ووقع من ذلك أشياء كثيرة والفتن لازالت.
وأخبرنا أن بؤرة هذه الفتن تكون في بلاد العراق ثبت ذلك عن نبينا في صحيح البخاري حينما وقف على حرة المدينة وأشار إلى جهة المشرق وقال : ((من هاهنا تكون الفتن)) , وقال : ((اللهم بارك في شامنا, اللهم بارك في يمننا)) , فقال رجل: في نجدنا, قال : ((ذاك قرن الشيطان تكون منه الفتن)).
قال الخطابي: نجد المدينة وهو العراق وما يليه من النجود وهي الأراضي المرتفعة.
وقد حدث ما قاله فالفتن خرجت من أرض العراق ففتنة الرافضة وفتنة الخوارج الحرورية الذين التفوا حول الكوفة وقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وفتنة الزنج التي عصفت بالدولة الإسلامية, فتنة القرامطة فتنة التتار كل ذلك ظهر من تلك المنطقة, وأخبرنا بأن الدجال سيكون من قبلها, وإن الخراسانيين من اليهود يأتون من قبل أرض العراق فليتفون حول الدجال ويكونون عضدًا له, كل ذلك أخبر به رسول الله ووقع بعضه وسيقع كله كما شاء الله تعالى.
كذلك مما أخبر به من العلامات التي وقعت وستقع إسناد الأمر إلى غير أهله, جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله, متى الساعة؟ فأخبره بعد إذ أتم الحديث قال ((إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة فقال الرجل: كيف إضاعتها؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)) , ومما وقع في الأمة الإسلامية أنه وُسد الأمر في بعض حقب الأمة الإسلامية إلى غير أهله فعصفت بالأمة الإسلامية موجات من الفتن, هذه بعض ما ذكر النبي مما وقع.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يعمل للساعة وممن يصدق بها وبأماراتها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك الهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
(1/1367)
استغلال الوقت
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الإعلام, السياحة والسفر
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإقسام بالزمان لشرفه وأهميته. 2-يوم القيامة يوم عدل يسأل الله كلاً عما صنع في عمره.
3- فضل الله بعض الأوقات وندب فيها إلى فريد عبادة. 4- أعمال صالحة نستطيع فعلها في
الإجازة (الذكر – صلة الرحم – المطالعة – حلق العلم). 5-كيفية شغل الناس إجازاتهم السنوية.
6- فتوى الشيخ ابن عثيمين عن صحون القنوات الفضائية. 7-كيف نحمي أبنائنا من خطر
التلفاز.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: يقول الله عز وجل في كتاب العزيز: وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفَةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا ، وأقسم الله عز وجل بالزمن فقال: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
هذا الوقت إما أن يكون الإنسان خاسرًا فيه, إما أن يُكتب عند الله من الخاسرين, وإمّا أن يكتب عند الله تعالى من الفائزين وذلك بحسب استغلاله لهذا العصر, بحسب استغلاله لعمره, ولذلك أقسم الله سبحانه وتعالى بأول النهار وبآخر النهار, قال الله عز وجل: والضحى والليل إذا سجى ، وقال عز وجل: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، أقسم الله تعالى بالفجر فقال: والفجر وليال عشر ، لماذا يقسم الله تعالى؟.
يقسم ربنا بهذه الأوقات حتى نعلم قيمتها وحتى نصونها ونحفظها ولا نعمل فيها إلا خيرًا, فهذا العمر الذي تعيشه أيها العبد هو المزرعة التي تجنى ثمارها في الدار الآخرة, فإن زرعته بخير وعملٍ صالح جنيت السعادة والفلاح وكنت من الذين يُنادى عليهم في الدار الآخرة كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية ، وإن ضيعّته بالغفلات وزرعته بالمعاصي والمخالفات, ندمت يوم لا تنفعك الندامة وتمنيت الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة فيقال لك: أو لم نعمركم ، ـ أي ألم نجعل لكم عمرًا ـ ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير.
أيها المسلمون: صَحّ عن الرسول أنه قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عُمُرِه فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه, وعن علمه ماذا عمل به))، فهذا العمر وهو أعَزُّ شيء لديكم فلا تضيّعوه ولا تفرطوا فيه, فإن الله عز وجل جعل في كل يوم وظائف لعباده من وظائف طاعته منها ما هو فرض كالصلوات الخمس, ومنها ما هو نافلة كنوافل الصلوات والذكر وغير ذلك, وجعل الله سبحانه وتعالى للشهور وظائف كالصيام والزكاة والحج, ومن هذه العبادات ما هو فرض وما هو نافلة, وجعل الله سبحانه وتعالى لبعض الأوقات فضلاً على بعض في مضاعفة الحسنات وإجابة الدعوات كالأشهر الحُرم وشهر رمضان قال الله عز وجل عن الأشهر الحرم: منها أربعة حُرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، وكان الرسول يُعظم تلك الأشهر الحرم, ومن هذه الأشهر هذا الشهر المحرم الذي نحن فيه والذي كان الرسول يصومه وكذلك شهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم عرفة ويوم الجمعة.
وما من موسم من تلك المواسم إلا ولله نفحات يصيب به من يشاء برحمته, إن الله عز وجل قد أمرنا بشغل الأوقات بذكره وطاعته فقال: واذكر ربك كثيرًا وسبح بالعشي والإبكار ، كما تكون في أول النهار كذلك تكون ذاكرًا في آخر النهار. قال عز وجل: واذكر ربك في نفسك تضرّعًا وخيفة ، إذا مللت من ذكر ربك جهارًا فلا تَمَلّن من ذكره في نفسك تضرعًا وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين.
وما حجر الله عز وجل علينا شيئًا في الذكر, ما خَصّ الشارع لنا شيئًا معينًا من الذكر أو طريقة معينة من الذكر بل فتح الباب فقال عز وجل: الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً ، فعلى الفراش تستطيع أن تذكر الله وأنت سائر إلى عملك تستطيع أن تذكر الله, وأنت منتظر أحدًا تستطيع أن تذكر الله, فلذلك قال الله سبحانه: فسبحان الله حين تُمسون وحين تُصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيًا وحين تظهرون.
فحياتك بين التسبيح لله عز وجل وبين حمده, فإذا عرفنا هذا ونحن على أبواب الإجازة الصيفية فماذا نحن عاملون وعلى أي شيء نحن مقدمون من الأعمال, أمّا فكرنا في ذلك, أما فكر الشباب كيف سيقضون أوقاتهم أم أنهم يقضون أوقاتهم كيفما اتفق وحسبما حَلا لهم, وحسبما وجدوا من الفرصة في ارتكاب ما نهى الله عز وجل عنه, إن الناس في استغلال هذه الأوقات الآتية على أصناف, وكل الناس يغدو كما قال : ((فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها )).
فمن الناس من يستغل هذه الأوقات في الاستزادة من الخير والاطلاع والعلم فيقتنون الكتب المفيدة ويذهبون إلى المحاضرات القيّمة يستمعون الذكر وأحاديث الرسول , وربما رحلوا إلى العلماء ليلتقوا بهم ويجلسوا في حلقهم فيستفيدوا فائدة عظيمة.
ومن الناس من يسافر لصلة أرحامه, فأرحامه في أشتات البلاد فمن رحم في الشمال ومن رحم في الجنوب ومن رحم في الغرب, ومن ثم فهو يرحل إلى أرحامه فيصلهم ويجلس معهم ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى فيكون إن شاء الله من الذين ينسأ الله لهم في أعمارهم فيزيد في أعمارهم ويبارك الله عز وجل لهم في أوقاتهم.
ومن الناس من يسافر بعائلته فيما أباح الله من ملكوت السموات والأرض في هذه البلاد التي إذا قورنت بغيرها من البلاد لوجدت فيها خيرًا كثيرًا, فلا تجد الإباحية المعلنة التي توجد في البلاد الخارجية حتى البلاد الإسلامية, فيخرج بعائلته إلى ما أباح الله من المناظر الطيبة فيذكرهم بخلق الله عز وجل في أرضه وسمائه, فهذا على خير إن شاء الله تعالى, ومن أراد أن يفعل هذا فعليه بالصحبة الطيبة, من أراد أن يأخذ عائلة أخرى معه فعليه أن يبحث عن العائلة المحافظة, عن العائلة التي تقيم الصلاة, عن العائلة التي إذا سمعت الله أكبر تركت اللهو واللعب واتجهت إلى ذكر الله سبحانه وتعالى.
ومن الناس من يشغل وقته بتوجيه النصح للمسلمين, فمن منّ الله عليهم بالعلم فيخرج إلى قريته أو إلى القرى المجاورة لمدينته فيعلم الناس التوحيد ويعلم الناس الصلاة والحلال والحرام, فهذا من أحسن منه قولاً ومن أحسن منه فعلاً كما قال الله سبحانه وتعالى: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين.
وصنف آخر من الناس أسأل الله تعالى أن لا نكون منهم, هذا الصنف شغل وقته بالحرام, فهو في ليله على أشرطة الفيديو أو على قنوات التلفاز الذي لا يبث إلا الحرام, والذي لا يبُث إلا ما يدمر الفضيلة والأخلاق فهو ينتقل من شريط إلى شريط, إذا انتهى من فيلم ما انتقل إلى فيلم آخر, وهكذا حتى يقضي وقته, ربما فات الفجر عليه, ربما نام عن صلاة الفجر فإذا أصبح هام مع أصحابه ربما إلى ما حرم الله عز وجل, ربما إلى النظر إلى المحرمات واللعب بالورق والشيشة والدخان وغير ذلك والغيبة والنميمة, فيصبح كما قال رسول الله ـ ونعوذ بالله أن نكون من هذا الصنف ـ: (( إن الله يبغض كل جُغظري جواظ صَخّاب في الأسواق, جيفة بالليل حمار بالنهار)) لا شغل له كما قال رسول الله إلا ملذاته ولا ينتقي الحلال وإنما الحلال عنده ما حَلّ في يده والحرام عنده ما عجز عنه, ولو استطاع أن يسافر إلى بلاد الغرب لسافر لو كان يملك مالاً, فليس عنده حرام وإنما الحرام عنده ما حُرم منه وما عجز عنه.
وصنف آخر يسافرون بعائلاتهم, يحزمون في مثل هذه الأوقات أمتعتهم ويقطعون التذاكر بالأموال التي أنعمها الله تعالى عليهم إلى بلاد الكفر, إلى البلاد التي تستباح فيها المحرمات, إلى البلاد التي فيها ما فيها من معاقرة الخمور والزنا, فيأخذ نفسه أو يأخذ حتى عائلته ليصيبهم شيء من ذلك الشقاء والبلاء ويسيح بهم وينتقل بهم من مسرح إلى مرقص, ومن مكان إلى مكان فيه ما حرم الله عز وجل, ويستحي الإنسان أن يقول ما في تلك الأمكنة فيرجع وقد انقضت الإجازة, انقضت العطلة وليس في حياة المسلم عطلة إنما المسلم حياته كلها مشغولة, مشغولة بما ذكرنا من طاعة الله سبحانه وتعالى, فيرجع بعائلته وقد ندم إن كان في قلبه ضمير يُحسّ بتضييع تلك الأوقات وقد ندم على ما شاهد من الحرام, وقد ندم على ما ضيّع من الأوقات, وقد يعود وقد حظي غيره بأجزاء من كتاب الله سبحانه وتعالى حفظها, وقد يحظى غيره بصلة الرحم, وقد يحظى غيره بتوجيه الناس والاهتداء إلى أمر الله سبحانه وتعالى, فيكون هو قد خسر وفاز غيره وفلح.
إخوة الإيمان: هذه الأوقات التي بين أيدينا يجب أن نتقي الله سبحانه وتعالى فيها, إن الله عز وجل سائلنا عن هذا العمر الذي نضيعه, سائلنا الله عز وجل عن كل دقيقة تمر بحياتنا, فكيف بالساعات الطوال؟ فكيف بالأيام الخالية, فكيف بالأشهر الماضية في اللهو واللعب, إن الله عز وجل سائلنا عن هذا العمر كما ذكر : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسئل عن أربع)) ـ ومن هذه الأربع ـ ((عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه)).
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
هذه فتوى لسماحة الشيخ /محمد بن صالح العثيمين ـ حفظه الله ـ عن هذه الهوائيات التي ترونها في بعض بيوت المسلمين, عن هذه الهوائيات التي ربما يتسابق بعض المسلمين لشراؤها واقتنائها أة استئجارها.
والسؤال هنا هو: انتشرت في الآونة الأخيرة ما يسمى "بالدش" أو الصحن الهوائي حيث ينقل القنوات الخارجية الكافرة وغيرها, حيث تعرض أفلام خليعة يظهر فيها التقبيل واضحًا والرقص الشبه العاري والكلام الساقط والبرامج التي تدعو إلى التنصير, فهل يجوز اقتناء هذه الأجهزة والدعاية لها والتجارة فيها وتأجير المحلات لهم؟ علمًا بأن البعض يدعي بأنه يشتريها لغرض مشاهدة الأخبار العالمية.
الجواب:
"بسم الله الرحمن الرحيم, قد كثر السؤال عن هذه الآلة التي تلتقط موجات محطات التليفزيون الخارجي وتسمى "الدش", ولاشك أن الدول الكافرة لا تألوا جهدًا في إلحاق الضرر بالمسلمين عقيدة وعبادة وخُلقًا وآدابًا وأمنًا, وإذا كان كذلك فلا يبعد أن تبث من هذه المحطات ما يحقق لها مرادها, وإذا كانت قد تدس في ضمن ذلك ما يكون مفيدًا من أجل التدليس والترويج لأن النفوس لا تقبله بمقتضى الفطرة ما كان ضررًا محضًا, ولكن المؤمن حازمٌ فطنٌ عَلّمه الله تعالى كيف يقارن بين المصالح والمفاسد بين المنافع والمضار, وعنده من القوة والشجاعة ما يستطيع من خلاله التخلص من أوضار هذه المفاسد والمضار وإذا كان أمر هذه الدشوش ما ذكر في السؤال فإنه لا يجوز إقتناؤها ولا الدعاية لها ولا بيعها وشراؤها؛ لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه بقوله تعالى: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم, وأن يجنبينا صراط أصحاب الجحيم من المغضوب عليهم والضالين"
كتبه: محمد صالح العثيمين.
وقد تكلمت في الخطبة الماضية عن خطر الدش ذلك الصحن الهوائي, وليس عن خطر الدش فحسب ولكن عن خطر التلفاز أيضًا, فإن هذا الجهاز مُدمّر كما ذكرت في الخطبة الماضية وذلك من خلال ما يعرض فيه من المسلسلات والأفلام الخليعة حتى برامج الأطفال التي فيها ما فيها من الدعوة إلى التنصير ومن الطعن في العقيدة ومن الاستهانة بالأخلاق.
ولقائل أن يقول: ما هو السبيل لإخراج هذا الجهاز والتخلص منه, ذكرت لنا وجوب إخراج هذا الجهاز من البيوت المسلمة وأنه لا علاج ولا حل حقيقي إلا بإخراج هذه الجهاز من البيوت, لأن هذا الجهاز لا خير فيه, وكل عاقل يشعر بهذا فما هو السبيل العملي لكي يخرج الإنسان هذا الجهاز, ما هو البديل لأبنائنا وما هو البديل لزوجاتنا؟ هل البديل هو أن أخرج هذا الجهاز وأكون غائبًا عنهم ـ غافلاً عنهم أم البديل شيء آخر مما يفرح النفوس, ومما يجعل القلوب تقبل, إن الأطفال أمانةً في أعناقنا والطفل ينشأ على ما عوده أبوه:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عَوَدّهُ أبوه
وما دان الفتى بحجىً ولكن يعوده التدين أقربوه
إن الطفل أمانة في عنق الوالدين ينشأ على ما يُنشأ عليه, ويرى فيهم المُثُل والقدوة, ولما كان الطفل هو رجُل الغد وحامل طبائع نشأت معه كان لزامًا على المربين من الآباء والأمهات أن يصونوا الأمانة ويحفظونها من الضيام ويوجهوا أطفال المسلمين الوجهة السليمة, وثقوا تمامًا أنه لن يضيع الأبناء إلا بإهمال آبائهم ((وكل مولود يولد على الفطرة, فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه))، ومن الرعاية للأبناء والأجيال القادمة الاهتمام الجِدّي بإخراج الوسائل المدمرة للأطفال من التفاز والفيديو والمجلات الخليعة والتعامل معها بحزم لا هوادة فيه وبالأسلوب التربوي الحكيم الذي لا ينقلب إلى ضده, وهذه بعض الوسائل التي بدت ليّ لعل الله عز وجل أن ينفع بها:
في البداية: لابد من تعويد الأطفال قيمة الوقت فلا يتاح لهم قتل الساعات الطوال في اللهو واللعب بلا تقدير لقيمة الساعات التي تمضي والوقت يُهدر بلا عمل مثمر, وفي المقابل لابد أن تكون قدوة لهم, لابد أن تحفظ أوقاتك فلا تبدد عمرك في متابعة كل خواءٍ, فإن كنت تنصح ابنك باستغلال وقته فلابد أن تكون قبل ذلك مستغلاً لوقتك.
ثانيًا: تعويد الأطفال منذ الصغر على النوم مبكرًا ليلاً فإن الله عز وجل جعل الليل سُباتًا والنهار معاشًا, فلا يجوز السهر الطويل في الليل, والنوم في النهار.
ثالثًا: تعريف الأبناء بأن الواجبات الدينية هي أقدس ما يحرص عليه ويزرع في قلوبهم حب التعبد لله عز وجل, فلا يشغلهم أمرٌ عن الصلاة في وقتها المحدود, ولتثبيت هذا الأمر فخذ أبناءك إلى المسجد, ايتِ بهم إلى المسجد وعرفهم على كيفية الصلاة وكن جالسًا معهم في حِلق الذكر والنصيحة والتوجيه حتى يتعود الأولاد الاستماع إلى نصيحة الوعاظ وحتى يتعودوا الإتيان إلى مساجد الله سبحانه وتعالى.
رابعًا: تعليم الأبناء منذ صغرهم بالحلال والحرام, كثير من الآباء هداهم الله يهمل أبنائه فلا يعلمهم الحلال والحرام, وإنما يعلمهم الطعام والشراب وكيفية اللهو واللعب, لا يعلمهم الحلال والحرام, وأن من اقترف الحرام فإنه يُعذب, ومن أدى الواجب وترك الحرام فإن الله عز وجل أعَدّ له جنة عظيمة عرضها السموات والأرض, فينبغي للآباء أن يعلموا أبناءهم الحلال والحرام والخير والشر, حتى يستطيعوا أن يميزوا ما يعرض عليهم ويزنوه بميزان شرع الله عز وجل.
خامسًا: يعود الآباء أبنائهم على نبذ الأغاني الرخيصة للرجال والنساء, نبذ أصوات المعازف واللهو المتدني, وذلك منذ الصغر, إذا كان في حوزة أبنائك من هذه الأغاني ومن هذه الموسيقى فاستبدل هذه الأشرطة بأشرطة القرآن وأشرطة القصص للأطفال التي قد توفرت ولله الحمد في الأسواق.. والحريص يُربي فيهم الحِسّ المرهف بحيث تكره آذانهم سماع الموسيقى, فإذا سمع أغاني أو سمع موسيقى سارع بإغلاق الجهاز الذي ينبعث منه أو يذم ذلك المغني.
سادسًا: يعرف الأبناء أن أكثر برامج التلفاز وأن المسلسلات والأفلام التي تعرض مصدرها الدول الأجنبية الكافرة المعادية للإسلام والمسلمين والتي لا شيء أحب إليها من إفساد المسلمين وصرفهم عن دينهم وخلقهم وتراثهم الخيّر. حتى ينعموا دائمًا بالسيطرة على المسلمين مع إعلام الأبناء أن اليهودية العالمية هي التي تسيطر على جميع وسائل الإعلام والوكالات في العالم, فلا تقدم لنا إلا الشر في ثوب برّاق خدّاع, ولك أن تأخذ شريط من الأشرطة التي تتكلم عن أعداء الإسلام, وتلخص هذا الشريط وتقرأه على أبنائك أو أن تسمع أبناءك ذلك الشريط أو أن تقتني كذلك تلك الكتيبات التي فيها التحذير من أعداء الإسلام, فتقرأ على أبنائك ما يرد في هذه الكتيبات من التحذير منهم.
سابعًا: لابد من تقديم البدائل وتوفيرها وذلك بتنمية الهوايات المثمرة بحيث يقضي معها الأبناء أوقات فراغهم, ومن ذلك المطالعة المفيدة فتقتني الكتب المفيدة التي تتناسب مع أعمار أولادك من القصص المفيدة والتي يبعد فيها الصور ويبعد فيها الكلمات النابية, كذلك الاستعاضة عن التلفاز بأجهزة أخرى ذات آثار تربويه ومن أمثلة ذلك أن توفر لهم جهاز تسجيل مع أشرطة ليستمعو بحرية إلى جهاز التسجيل, ولا بأس أن تسمع لهم بأن يمسحو شريطًا وأن يُفرغوا شريطًا وأن يملؤه مع تهذيب التصرفات الشاذة التي قد تصدر منهم.
وكذلك الدخول معهم إلى عصر الكمبيوتر على أن يكون باتزان وروية وتوجيه واعتدال, فتُنمي فيهم كيفية استغلال هذا الشريط في الخير كذلك الأشغال اليدوية للأبناء والبنات مثل النجارة والخياطة والزخرفة وأن تُنمي فيهم الهوايات الخيّرة مثل الخط وغير ذلك وأن تلحقهم بالمراكز الصيفية التي فيها التربية وفيها التعلم وفيها التوجيه, وهي ولله الحمد متوفرة وعلى اختلاف المراحل بين ابتدائية ومتوسطة وثانوية , وكذلك هناك مراكز لتحفيظ القرآن الكريم, فألحق أبناءك بهذه المراكز التي هي لتحفيظ القرآن الكريم والتي هي خير ما تدخل أبناءك وتسجلهم فيها, وكذلك لا بأس أن تخرج بأهلك وعائلتك إلى الأماكن الخالية من التبرج ومن معصية الله تبارك وتعالى والخالية من الموسيقى والأغاني, فتروح عنهم وتعقد جلسة في تلك الأماكن لهم فتوجههم وتذكرهم بالله تعالى وتستغل المناظر لتذكر بعظمة الله عز وجل كما قال تعالى عن المؤمنين: سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً.
والرسول كان يستغل المواقف ليذكّر برحمة الله عز وجل وعظمته, ففي سبي هوازن وثقيف جاءت امرأة من السبي تبحث عن ولدها فوجدت ولدًا فألزقته وأرضعته, فيستغل النبي هذا الموقف ويقول: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقولون: لا, فيقول النبي : الله أرحم بعباده من هذه بولدها)).
فتنظر إلى الجبل العظيم وتنظر إلى الأشجار المورقة الجميلة فتقول لهم من خلق هذا؟ الجنة فيها أعظم من هذا, وهكذا تذكرهم وتنبههم على عظمة الله عز وجل, ولا بأس أن تخرج بهم من حين وآخر لكي تتعرف على أحوال إخوانك المسلمين المحتاجين, لا بأس أن تأخذ أبناءك إلى العائلات الفقيرة التي تحتاج إلى العون, إلى اليتامى الذين يحتاجون إلى المساعدة, فتعودّ أبناءك العطف على المساكين وعلى الفقراء وتعودهم الإنفاق في سبيل الله ومساعدة والديهم في قضاء حوائجهم من ملابس وأشياء أخرى مادية أو عينية أو غير ذلك.
هذه بعض الخطوات العملية التي لك أن تسلكها حتى تخرج هذا الجهاز المدمر من البيت فليس الحل كما أسلفت هو أن تخرج الجهاز ثم تنشغل عن أبنائك بالدنيا وتنشغل عن زوجتك بالدنيا ولكن مع إخراج هذا الجهاز لابد من البديل ولابد من التربية الحكيمة, فهؤلاء الأبناء هم رجال الغد وهم الذين نأمل أن يخرجوا الأمة من نكستها ومما هي فيه من الأزمات, ولا يكون ذلك بترك الحبل على الغارب ولا يكون ذلك بالتلفاز والفيديو ولا يكون ذلك بالمجلات الخليعة.., إنما يكون ذلك بالتربية الإسلامية.
(1/1368)
البأساء والضراء
الإيمان
حقيقة الإيمان
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء يكون بالخير وبالشر. 2- الابتلاء بالضراء يكشف حقيقة القلب ومقدار قسوته. 3-
الابتلاء بالضراء أهون منه في السراء. 4- قصة صحبي الجنتين. 5- أصناف الناس عند حلول
البلاء بين راضٍ وساخط ، منتفع ومتشاؤم.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض, وملء ما بينهما, وملء ما شئت من شيء بعد ـ أهل الثناء والمجد ـ أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ, لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد, يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً وإن الله تعالى كما يبتلي عباده بالسراء كذلك يبتليهم بالضراء, وإن الإبتلاء بالسراء والنعم أشد والله على النفس من الابتلاء بالضراء والنقم, فالله سبحانه وتعالى كما سمى الموت فتنة وعذاب القبر فتنة كذلك سمى المال فتنة ـ والمال نعمة ـ, وسمى الولد فتنة, وسمى الحياة فتنة, قال سبحانه وتعالى: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم [الأنفال: 28] , فالله عز وجل إذا ابتلى العباد إبتلاهم بالأدنى ثم بالأعلى, فالله عز وجل لا يبتلي العباد بالنعماء أولاً وإنما يبتليهم بالضراء أولاً, فإن ابتلاهم بالأدنى ولم ينتبهوا ابتلاهم بعد بالأعلى, كما قال سبحانه وتعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [الأنعام: 42، 43].
البأساء والضراء كفيلان بالكشف عن نوعية القلب الذي يحمله ذلك المبتلى, البأساء والضراء كفيلان ببيان هذا المبتلى أمام عدوه الأكبر الشيطان الرجيم, إن قسوة القلب لا تظهر بالابتلاء بالنعم, وإنما تظهر بالابتلاء بالنقم, كذلك أدنى درجات تسلط الشيطان على الإنسان إنما يكون عند قلة النعم, ويبلغ هذا التسلط ذروته عند فتح أبواب كل شيء, فمن أغواه الشيطان عند حلول البأساء بأن زين له سوء عمله فهو من التخلص عند النعمة أبعد, ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى ينزل البأساء والضراء لكي يكشف عن حقيقة القلب, ومن ثم كذلك لكي يكشف عن صلابة ذلك المبتلى أمام الشيطان.
وهذا هو التسلسل الصحيح فإنه لو كان هناك ابتلاء بالنعم لا يظهر من قلبه لين ومن قلبه قاسٍ ولا يظهر كذلك من كان الشيطان متسلطًا عليه تسلطًا كاملاً ومن كان الشيطان متسلطًا عليه تسلطًا قليلاً والله سبحانه وتعالى أخبرنا أيضًا عن خطورة الابتلاء بالسراء فقال عز وجل: وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونئا بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض , إذا أنعمنا عليه أعرض وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض, أي لله سبحانه وتعالى فإذا كان الرجوع مؤملاً فيه فإنه سيرجع عند البأساء ولن يرجع عند النعماء, إذا لم يرجع عند البأساء والله سبحانه وتعالى قد صور لنا ذلك في سورة الكهف في قصة صاحب الجنتين فقال عز وجل:
واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعًا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا وفجرنا خلالهما نهرًا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرًا [الكهف: 32 ، 34].
انظر لما منحه الله جنتين كفر بالله تعالى وتكبر على المؤمن قائلاً: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرًا , وقال أيضًا: وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً لكنّا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدًا كفر بالنعمة فقال له صاحبه: ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترنِ أنا أقل منك مالاً وولدًا فعسى ربي أن يؤتيني خيرًا من جنتك ويرسل عليها حسبانًا من السماء فتصبح صعيدًا زلقًا [الكهف: 39، 40] , وصار ما قاله ذلك المؤمن: فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدًا [الكهف: 42].
وإذا نظرنا في أصناف الناس عند البلاء لوجدنا أنهم يتنوعون أنواعًا, فهم رغم أن البلاء الذي حَلّ بهم واحد إلا أن أصنافهم مختلفة, متباينة, فليس كلهم يستقبل البأساء والضراء بصورة واحدة بل بصور شتى, إذا تأملنا في أصناف الناس لوجدنا هذه الفرق الآتية:
الفريق الأول: هو صنف ينتفع بالهزات, ينتفع بالمصائب لا يرجع المصائب إلى الظواهر الخارجية, إلى الأسباب الخارجية, بل يرجع المصائب إلى أسبابها الحقيقية فيعرف مكان الداء ومن ثمّ يكون عليه العلاج, مثال هذا الصنف الحي ما قاله الله عز وجل ـ في سورة القلم ـ: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون [القلم: 17، 18] , جنة كان لها صاحب صالح إذا حان وقت الجذاذ وقت القرّ, وقت القطف ترك المساكين يأخذون حقهم من هذه الجنة فخلفه أبناء لم يقيموا وزنًا للمساكين بل قبضوا على أيديهم فماذا قالوا, قال هؤلاء الذين ابتلاهم الله عز وجل: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصّرمنها مصبحين ولا يستثنون تقاسموا بينهم, حلف كل واحد منهم أن يذهبوا مبكرين إلى الجنة فيصرمونها ويأخذون قطفها قبل أن يأتي المساكين فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون [القلم: 19] بينما هم في المنام نزلت آفة من السماء فأصبحت الجنة الخضراء بقعة سوداء, وعندما قاموا من نومهم قاموا مسرعين إلى جنتهم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون [القلم: 21 ـ 23] ـ يتخافتون فيما بينهم والله تعالى يعلم السر وأخفى ـ أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلما رأوها ـ أي فلما رأوا الجنة على تلك الصورة السوداء ـ قالوا إنا لضالون ـ قد أخطأنا الطريق إلى جنتنا ـ بل نحن محرومون.
لما استبانوا الطريق مرة أخرى وعرفوا أنها الجنة التي هي لهم, قالوا ليس الأمر كذلك, لم نضل عن جنتنا بل نحن محرومون من ثمر هذه الجنة, وعندها ـ وهذا هو الشاهد على الصنف الذي ينتفع بالمصائب ـ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون [القلم: 28] , قال أخيرهم, قال أعدلهم, قال أكثرهم إيمانًا: ألم أقل لكم لولا تسبحون , قال المفسرون: ألم أقل لكم لولا تشكرون نعمة الله عليكم فتعطون المساكين حقهم في هذه الجنة.
ألم أقل لكم ولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ـ أخذ يلوم بعضهم بعضًا على التقصير في حق الله عز وجل ـ قالوا يا ويلينا إنا كنا طاغين عرفوا خطيئتهم فقالوا لقد طغينا وبغينا ولذلك حرمنا الله عز وجل هذه الجنة إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرًا منها إنا إلى ربنا راغبون احتسبوا كل ذلك عند الله في الآخرة وذكروا أنهم راغبون في الله تعالى, قال عز وجل: كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [القلم: 33] , وهذا الصنف إذا نزلت البأساء والضراء لا ينقص إيمانه بل يزداد، ما قال الله تعالى عن المؤمنين في سورة الأحزاب: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا [الأحزاب: 22] , لما رأوا البأساء ـ الجنود التي أتت من كل حدب وصوب, لمّا زلزلت القلوب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وذكر القرآن أن إيمانهم ما نقص بل وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا.
هذا الصنف المبارك, هذا الصنف الخيِّر هو الذي ينتفع بالمصائب فيرجع إلى الله تعالى ويقلب صفحات أعماله فينظر فيها فإذا كان فيها الشر استغفر الله تعالى, وإذا كان فيها الخير استزاد إن هذا هو الذي ينتفع.
الصنف الثاني: الصنف الثاني شيء عجيب, هذا الصنف صنف متشائم عند نزول العذاب, يتشاءم من الصالحين يتشاءم من الذين يبغون الصلاح في الأرض, فهو لا يرد المصائب إلى سيئاته بل يرد البأساء والضراء إلى حسنات الصالحين, وهذا متثمل في قول فرعون كما ذكر تعالى في سورة الأعراف: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون [الأعراف: 130] , أخذهم الله تعالى بالجوع ونقص الزروع بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون لعلهم أن يتذكروا ما هم فيه من الباطل, فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه , وهذا هو الشاهد: هذا بسبب أعمالنا وبسبب تصرفاتنا وحُسن تفكيرنا قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه يتشاءموا من موسى سبحان الله! يتشاءمون من المصلح, قال تعالى: ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون [الأعراف: 131].
وهذا أيضًا متمثل في قصة أصحاب أنطاكية الذين ذكرهم الله تعالى في سورة (يس) لما أرسل الله تعالى إليهم المرسلين الثلاثة: قالوا إنا تطيرنا بكم [يس: 18] تشاءمنا بكم, نزل علينا الضر, حلت بنا المجاعة وكل ذلك بسببكم, قال المرسلون: قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم [يس: 19] كما قال الله تعالى أيضًا عن قوم صالح: بل أنتم قوم تفتنون [النمل: 47].
هذا الصنف المتشائم الذي لا يضع الأمور في مواضعها, بدل من أن يتشاءم من ذنوبه يتشاءم من حسنات غيره, هذا الصنف لا ينتفع بالبأساء والضراء, وربما كان هذا الصنف صنفًا مراوغًا في نهاية الأمر, فهو إن نزلت البأساء أبرم العهود والعهود ووعد الناس أن يرجع إلى الله تعالى, وعدهم خيرًا, فإذا ذهبت البأساء والضراء عاد إلى ما كان عليه, نكث العهود والوعد, وهذا متمثل في قوم فرعون كما قال تعالى عنهم: وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد ـ على محاصيلهم ـ والقُّمل ـ في ثيابهم ورؤسهم ـ والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عنك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ـ أبرموا العهد والوعد ـ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون [الأعراف: 132 ـ 135].
ماذا قال الله تعالى عن هذا الصنف, قال تعالى: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [يونس: 22]هذا متاع, أتغترون بهذه الحياة الدنيا, هذا البغي, هذه المراوغة التي تسلكونها إنما هي على أنفسكم, تجرون الويلات عليكم أنتم إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا.
ولذلك فإن موسى عليه السلام جأر إلى ربه تعالى منهم فقال: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [يونس: 88] , فأجابه الله تعالى قائلا: قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون [يونس: 89] فهذا موسى عليه السلام طلب أن لا يبتليهم بعد ذلك بالحسنات؛ لأن ابتلاءهم بالحسنات لا يزيدهم إلا غيًا إلى غيهم فلذلك أهلكهم الله, قال عز وجل: فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين [الأعراف: 136].
فأسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من الغافلين, وأن ينفعنا بالقرآن العظيم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين لنعمه وآلائه, وأصلي وأسلم على خير خلق الله الرحمة المهداة محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
فريق ثالث: صنف ثالث أيضًا لا ينتفع بالبأساء والضراء, هذا الصنف هم المنافقون هؤلاء يستوي عندهم الفتنة وعدمها كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانًا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون , فقال سبحانه وتعالى عن موقفهم من المصائب والبلايا: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون يفتنون كل عام ولا ينتفعون في المصائب والبلايا كما أنهم لا ينتفعون في السراء كما أخبر سبحانه وتعالى عمن طلب المال من المنافقين ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون.
هذه الأصناف من الناس هي التي تظهر حين حلول البأساء والضراء, فإذا أردنا أن نكون من الموفقين من الذين يمدحهم الله تعالى في كتابه ويمدحهم الرسول في سنته لنكن من الصنف الأول, الصنف الذي إذا أنزلت به البأساء والضراء قلبّوا صحائف أعمالهم وعرفوا بأنه ما نزلت مصيبة إلا بذنب ولا رفعت إلا بتوبة.
وعلينا أن نعلم يا إخواني بأن كشف الضراء والبأساء ليس دليلاً على الرضا, وليس دليلاً على القبول, وإنما العبرة في ذلك بما عليه الناس من الأعمال, فإن كانوا على الخير فإن الابتلاء بالضراء يزيدهم خيرًا إلى خير وإن حلول النعماء يزيدهم خيرًا إلى خير, وأما إذا كانت الأعمال كما هي فإن الله سبحانه يقول: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين , وهذا مسطر في سنة النبي وفي سيرته عندما يرى عليه الصلاة والسلام النعمة, لما دخل عليه الصلاة والسلام مكة منتصرًا فاتحًا طأطأ عليه الصلاة والسلام رأسه حتى كادت لحيته تصيب وسط راحلته, دخل متواضعًا, مخبتًا, خاشعًا, فهو يحمد الله تعالى يقول: ((لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده )) سبحانه وتعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا , فهو يشكر الله تعالى بأن يتواضع له, يشكر الله بأن يعمل الصالحات. هؤلاء هم الذين حُق لهم أن يكونوا من العباد الذين يرثون الأرض بعد أهلها.
(1/1369)
التوبة ورمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, التوبة
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعة رحمة الله وأمره عباده بالتوبة. 2- قصة قاتل المائة نفس. 3- ضرورة تفسير البيئة
لتحسن التوبة وتستقيم. 4- المبادرة إلى التوبة وترك التسويف. 5- محبة الله للتائبين وقبوله
توبتهم. 6- توبة الأثرياء. 7- فرح الله بتوبة العبد. 8- موعظة في المبادرة إلى التوبة وهجر
الدنيا. 9- استغلال شهر رمضان في الإنابة إلى الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
يقول سبحانه وتعالى ـ مناديًا عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي ـ: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم , ويعلنها ربنا محبة للتائبيين والمنيبين والمستغفرين فيقول عز وجل: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
ويذكر لنا الرسول قصة حدثت في غابر الأزمان عن رجل بلغ في الإجرام مبلغًا عظيمًا عظيمًا قتل تسعة وتسعين نفسًا فتُعرض عليه التوبة ويحنّ إلى الله عز وجل فيبحث عن الذي يدله على طريق الله, يبحث عن الذي يقول له هذا هو الدرب إلى الله, وكثير من الناس يحن إلى التوبة فيخطى الطريق, فيقع بين يدي رجل لا علم له ولا فقه, إمّا أن يقنّطه من رحمة الله فيقفل باب التوبة أمام عينيه, وإمّا أن يسّوف له في التوبة ويرجئ له حتى لا يتوب فيقعون فيمن لا علم لهم ولا بصيرة بالله, وها هو ذا الرجل المسكين دُلّ على راهب لا حظ له من العلم فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فسأله هل لي من توبة؟ فقال: لا, فقتله فكمّل به مائة, وهكذا وبعد تكميل المائة إذا بهذا الرجل المجرم يعاوده الحنين إلى كنف الله الرحيم, فيسأل مرة أخرى نفس السؤال عن أعلم أهل الأرض, ولكنه هذه المرة يصيب الهدف فيأتي إلى عالم رباني , إلى عالم رباني يعامل المذنبين الراجعين إلى ربهم معاملة الطبيب الماهر للمرضى الملهوفين, فدُل على رجل عالم, فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال له العالم: نعم, ومن يحول بينك وبين التوبة, وهذا العالم الرباني ما قال نعم هكذا من تلقاء نفسه بل لعلمه بسعة غفران ربه.
ولكنه لا يكفي لمثل هذا الذي تأصلت الجريمة في كيانه أن يقول تُبت دون أن يتحرك أو يعمل, فلابد من الحركة بعد التوبة كما قال عز وجل: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا , ولابد لمن أراد التوبة أن يبتعد عن الوسط الفاسد الذي يُذكي نار المعصية في النفس, لابد أن يكون, لابد أن تكون هناك عملية تبديل جذرية لحياة التائب إلى الله عز وجل, فأصحاب السوء يستبدلهم بأصحاب التُقى والخير, بأصحاب القرآن وأحاديث النبي , ومجالس الغيبة والنميمة يستبدلها بمجالس الذكر والكلمة الطيبة والنصيحة, ولهذا لم يكتفِ العالم الربانّي بقول: نعم, بل قال: انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أُناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم, ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء, فانطلق, فانطلق, والفاء هنا في قوله: "انطلق" يدل على سرعة الإجابة على تلبية النداء والصدق في التوبة, فالرجل ما وقف مترددًا بالإجابة مقدمًا لرِجل ومؤخرًا لأخرى ولا قال في نفسه: لا, غدًا أتوب أو بعد أن استمتع فترة أخرى من الزمان أو من بعد أن أتزوج واستقر أو بعد أن يصير لي حظٌ طيب من المال فأترك الربا, أو أتوب وأبقى مع رفاقي الأولين فإنهم هم الذُخر, هُم السند, لا, وإنما حصل عنده رِدةُ فعل عجيبة تُذكرنا بقوة الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه عندما أسلم مباشرة فخرج يجمع المسلمين ليجهروا بإسلامهم, فخرج يجمع المسلمين ليجهروا بإسلامهم أمام المشركين فانطلق الرجل, انطلق الرجل إلى أرض المؤمنين, إلى مجالس الصالحين, حتى إذا نَصَفَ الطريق آتاه الموت فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون فناء بصدره نحوها ـ ناء بصدره توجه بصدره نحو البلدة الطيبة ـ فاختصمت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه على الله.
وتفكر أخي المسلم في حجة ملائكة الرحمة حجتهم أن هذا جاء منطلقًا, تائبًا, إنهم يعتبرون تلك الانطلاقة المباركة لهذا الرجل من بلده وتركه لرفقاء السوء يرون ذلك كفيلاً بأن يجعله من أهل الجنان, وأن إقباله على أرض الطاعة وتوجهه بصدره نحو البلدة الطيبة والمؤمنين يعد إقبالاً منه بقلبه على الله ـ, وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط, فأتاهم مَلك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال الحكم ـ المَلك الذي في صورة آدمي ـ: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له, فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد, فقبضته ملائكة الرحمة, وفي رواية: "فأوحى الله إلى هذه أن تقرّبي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي, وقال: قيسوا ما بينهما فوُجد إلى هذه أقرب بشبر فغُفر له.
انظروا إلى الكلاءة الربانية بالراجعين وإلى العناية الرحمانية بالتائبين, إنه تاب ولذلك وحيٌ خاص إلى الأرض من أجل عبد من عبيده ما فعل خيرًا سوى أنه تاب, وإنقلاب كوني هائلٌ بامتداد أرض وتقلص أخرى من أجل رجل هجر المعاصي وأهلها وقصد المؤمنين وبلدتهم فأما من تاب وآمن وعمل صالحًا فعسى أن يكون من المفلحين , إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا.
كل الذنوب فإن الله يغفرها إن شيَّع المرء إخلاصُ وإيمانُ
وكل كسر فإن الله يجبُره وما لكسر قناة الدين جُبرانُ
فيا عجبًا! بعد هذا من الذين لا يتوبون إلى الله عز وجل, من الذين يتركون طريق التوبة والتي هي طريقها قديم, قديمٌ قدم الأولين والآخرين فيقسمون فيها إلى قسمين: إلى تائب أوظالم ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون , تاب الله عز وجل على الفجّار كما تاب الله عز وجل على الأبرار, أما تاب آدم عليه السلام أبو البشر, أبو الأنبياء والمرسلين؟ أما تاب فتاب الله عز وجل عليه حين أكل من الشجرة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تكلما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدوٌ مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
وقال عز وجل عنه أيضًا: وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى , وأمر الله عز وجل نبيه بالتوبة, أمره عز وجل بالتوبة فقال سبحانه وتعالى: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم , وأمر صحابة نبيه فقال: وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون , وهم الصابرون, وهم المجاهدون, تاب موسى عليه السلام فما بالنا لا نتوب, تاب موسى عليه السلام حين ضرب ذلك القبطي فوكزه وقضى عليه, فقال موسى عليه السلام: إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم , وأعلنها توبة حين عاين رحمة الله وعظمته فقال: إني تُبت إليك وأنا أول المؤمنين.
وتاب سليمان عليه السلام قال عز وجل عنه: ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدًا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فغفرنا له غفر الله عز وجل له وغفر من قبل ذلك لأبيه داود حين فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب , وغفر الله عز وجل للمهاجرين والأنصار حين تلبسوا بالطاعة وخرجوا في جيش العسرة فقال الله عز وجل: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم.
والله عز وجل يفرح بتوبتك أيها العبد يفرح فرحًا عظيمًا ـ تخيل نفسك أعرابيًا بدويًا تسير في صحراء قاحلة لا شجر ولا ماء وبين يديك معقل الأمل في الحياة بعد الله عز وجل راحلة عليها طعام, شراب, فضجرت هذه الناقة وانقلبت وانفلتت فأخذت تجري وراءها وتمش ذات اليمين وذات الشمال تسير وتسير وتسير حتى أخذ منك الجوع والعطش مأخذًا عظيمًا, حتى أيست وقنطت من وجود الراحلة التي عليها الطعام والشراب ولاح لك من على بعد شجرة لها ظل فذهبت إلى الشجرة وانطرحت تحتها لتنام النومة الأخيرة التي ليس بعدها استيقاظ, لتنام النومة التي ليس بعدها استيقاظ لأن الممات قاب قوسين أو أدنى منك فبينما أنت نائم متوقع الممات إذا بالراحلة بين يديك يسوقها الله عز وجل إليك فتأخذ بخطامها وتفرح فرحًا عظيمًا, وإذا كنت لا تستطيع أن تتخيل الحياة البدوية فتخيل رجلاً متقدم إلى عملية جراحية نسبة الفشل فيها أكبر من نسبة النجاح فدخل العملية وخرج ناجحًا, وخرج صحيحًا سليمًا؛ كم يفرح هذا المرء! وكم يفرح أهله به.
فرح الرجل فرحًا عظيمًا وأخذ بخطام الناقة وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح يقول : ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته عليها طعامه وشرابه فانفلتت منه فآيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد آيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا بها قائمة عنده عليها طعامه وشرابه فأخذ بخطامها وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك, أخطأ من شدة الفرح)) أخرجه مسلم عن أنس.
وفي رواية عند أحمد والبخاري وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ((فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال: ارجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده عليها زادة وشرابه, فالله عز وجل أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) , فأنت إذا أحدثت توبة فرح الله عز وجل أكثر من فرحك بالحياة بعد استيقانك بالوفاة والممات, يفرح الله عز وجل ولذلك يحب الصالحين التائبين المنيبين ويرضى عنهم فهل من توبة قبل الممات؟ وهل من إجابة لما دعا إليه رب الأرض والسموات يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير, الحمد لله على نعمائه الجزيلة والشكر له على إحسانه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته صلى الله عليه وآله وسلم يقول الرحمن جل في علاه: ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ويقول سبحانه وتعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا.
فيا أخي المسلم: تب إلى الله توبة نصوحًا, وحدثني بالله عليك متى التوبة إن لم تكن في هذه الأيام ومتى دفع المهور للحور العين في الجنان إذا لم تكن في هذه الأيام, أما تشتاق إلى جنة عرضها السموات والأرض؟ ألا تحب أن تمتلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!.
إن أبواب الجنة قد فتحت لك أيها التائب الصائم المطيع فلماذا هذا الجفاء لمن يقابلك بالإحسان؟ لماذا هذا الإعراض لمن يقابلك بالغفران؟ ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم؟ لماذا هذا الإصرار على متاع الدنيا الزائل في ظل المعاصي؟! فاترك عنك الأماني الكاذبة وأخلص إلى ربك التوبة؛ فإن الأجل قصيرٌ قصير مهما اغتررت بطول الأمل ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يُجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا.
ورمضان كالغرة المحجلة في شهور السنة فوا آسفا عليك إن خرجت من رمضان وأنت أنت لم تتغير ولم ينقلب منك شيء ولم يرفع منك توبة إلى الله عز وجل: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين , ولكن متى الفرار إلى الله إن لم يكن في هذه الأيام, إن لم يكن في هذا الشهر؟!
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
ولا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
فيا أيها السامع لما أقول دع عنك الغفلة والغرور, واجعل من شهر الصوم هذا بداية لحياة مليئة بالطاعة مفعمة بالخير اجعل من هذا اليوم نقطة البداية للحفاظ على الصلاة في بيوت الله, اعزم من الآن على أن لا تترك صلاةً واحدة تفوتك, انس من اليوم أنك ذلك الشخص الذي لا يستطيع أن يستيقظ لصلاة الفجر في جماعة, زكِ قلبك بالقرآن, اسكب الدموع والعبرات على ما جنت يداك في الأيام الماضية فعسى الله أن يبدل سيئاتك حسنات ولا مقارنة بين ما ارتكبت من المعاصي وسعة رحمه الله عز وجل, فرحمته وسعت كل شيء, وأقلع عن الذنوب ولا تخشى في تركها لومة لائم ولا تهديد مهدد, ولا تقل: هذا الذنب صغير, اترك حلق اللحية واترك الدخان واترك المسكرات.
أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
واشدد يديك بحبل الله معتصمًا فإنه الركن إن خانتك أركانُ
من يتق الله يُحمد في عواقبه ويكفه شر من عزّوا ومن هانوا
إن كنت ممن يشرب الخمر فاهجرها واتركها, فإنها حرام, وعشرة ملعونون في الخمر, وإن كنت ممن يأكل الربا فذرها, إن كنت ممن يأخذ الرشوة فاتركها واكتف بالحلال فإنه خير لك وأبر لك من وراءك بأولادك, ونقِ مالك من الحرام ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً فإنه سيعوضك خيرًا منها: الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز , وإن كنت منّاعًا للخير صادًا عن سبيل الله فتب إلى الله عز وجل من الصد عن سبيله, فلا يكن أحدنا شيطانًا يصرف الناس عن الخير وعن السير في ركب المستقيم بعد أن صفدّت مردة الشياطين وروض نفسك في هذا الشهر على المسابقة إلى الخيرات, فما أجمل أن تتصف بصفات الأنبياء الذين قال الله عز وجل فيهم: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين.
ولا تلتفت أخي الحبيب المسلم إلى الذين يحبونك أن تبقى أبدًا على غير هدى من الله فإن أكلة الربا ممن لم يمن الله عليهم بالتوبة يحبون أن يأكل الناس جميعًا الربا, وإن الزناة يحبون من الناس أن يزنوا جميعًا, فانتبه أن يحجبوك عن التوبة, وانتبه أن يمنعوك عن الخير فإن الله يحب أن تتوب ويحب الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا.
فريق من الناس يريدون منّا أن نكون أعوانًا لهم في الشر والصد عن سبيل الله, استمع ماذا يقول الله عز وجل عنهم: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا , وصدق من قال:
من كان للخير منّاعًا فليس له على الحقيقة إخوان وأخدان
من استعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
ويا أيها الشاب الذي أنت مغتر بشبابك رفقًا ثم رفقًا بنفسك وصونًا لدينك وعرضك, أخي الشاب كفاك إضاعة لعمرك في غير طاعة لخالقك ومولاك, أما تفكرت في سؤال الله لك يوم القيامة عن شبابك فيما أبليته لماذا هذا التخلف والرجعية عن أن تكون ممن يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله, لماذا هذا التقهقر عن التأسي برسولك وأصحابه الذين كانوا شبابًا سريعة إلى الخير أنفسهم, بطيئة عن الباطل أرجلهم, فهذه نصيحة مِنّي أهديها إليك أرجو أن تكون لها من المنفذين فإن كنت أخي من المتهاونين عن الصلاة فعاهد ربك أن لا تفرط فيها بعد اليوم وتربى على المساجد, ربّي نفسك على أن تكون حمامة المسجد فإن الفلاح كل الفلاح والمستقبل الباهر كل المستقبل هو هناك, هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر في جنات ونهر حيث الحور العين المقصورات في الخيام يخطبن ودّك ولا يعصينك أبدًا, لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه فلا تنظرن إلى ما حرم الله في التلفاز والأسواق وغيرها إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً , وإن كنت ممن تعق والديك فابدأ معهما من اليوم صفحة جديدة شعارك فيه التودد إليهما والحب والدعاء لهما وتنفيذ أمرهما في غير معصية الله.
لا تغتر بشباب رائق خضرٍ فكم تقدم قبل الشيب شبانُ
لا تحسبن سرورُ دائمُ أبدًا من سره زمن ساءته أزمانُ
وأنت أيتها الأخت المسلمة عليك بطاعة الله ورسوله ثم عليك بطاعة زوجك في غير معصية الله وافتحي صفحة جديدة مع ربك الرحمن, كوني عونًا لزوجك على الطاعة وإياك أن تكوني عونًا له على المعصية, واعلمي بأن توبتك في الحقيقة هو الحجاب الحجاب فتمسكي بالحجاب وعضي عليه بالنواجذ, وإياك والتبرج في الأسواق والشوراع ولا تصافحي أو تلمسي رجلاً غير محارمك.
(1/1370)
العفة والاستعفاف 1
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجنة محفوفة بالمكاره. 2- نصوص تدعوا للعفة وأسبابها. 3- أنواع النفس الإنسانية.
4- العفة من صفات النفس اللوامة والمطمئنة. 5- من مظاهر النفس الأمارة بالسوء العشق
والحب. 6- وسائل الإعلام وأثرها في إبراز المفاتن. 7- قصة في سوء الخاتمة. 8- حكم
الاستمناء. 9- أجر العفة والاستعفاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب.
أخرج الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال: انظر إليها قال: فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها.. فحُفت بالمكاره قال: ارجع فانظر إليها. قال فرجع فقال: وعزتك لقد خفت ألا يدخلها أحد. ثم قال: اذهب إلى النار فانظر إليها. فرجع فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فحُفت بالشهوات قال: ارجع فانظر إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد)).
الجنة سلعة الله الغالية لا تُنال إلا بأن تتجاوز المكاره التي حفها الله عز وجل بها, وإذا أردنا النصر من الله رب العالمين ينبغي أن تكون النفوس طاهرة, ولن تكون النفوس طاهرة إلا بالاستقامة ولن تكون هناك استقامة وثبات على الاستقامة إلا بالمجاهدة, إلا بمجاهدة النفس.
فإلى الذين يريدون النجاة من النار والفوز بالجنة عليهم أن يرجعوا إلى أنفسهم فيزكوها, وإلى قلوبهم فيحيوها, أي ينظروا إلى أبدانهم فيشغلوها بطاعة الله, وإلى عقولهم فيخضعوها لعبودية الله رب العالمين, عندها ينال العزة في الدنيا والجوار.. جوار النبيين والصحابة والصديقين رضوان الله عليهم أجمعين في جنات النعيم.
وإن مما ينبغي للشباب أن يجاهدوا فيه ويصرفوا عقولهم عنه مصارعة شهوة الفجرة التي قال عنها : ((من ضمن لي ما بين لحييه وفخذيه ضمنت له الجنة)) هذه الشهوة تحتاج إلى مجاهدة وتحتاج إلى عفة وتحتاج إلى استعفاف, وما أشرفها من خصلة وما أكرمه من خلق, خلق العفة التي قال الله عز وجل عنها: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله ليستعفف: ليطلب العفة كل من كان غير قادر على الزواج إما لقصور نفقة وإما لأي سبب آخر, والعفة كما هي مطلوبة من غير المتزوج فهي في حق المتزوج آكد لذلك كانت العقوبة أشد على المتزوج, يقول رسول الله : ((لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني, والنفس بالنفس, والتارك لدينه المفارق للجماعة)), ويقول : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ـ ذكر منهم عليه الصلاة والسلام ـ أشيمط زان)), وفي رواية: ((شيخ زان)).
لماذا خص هذا بالعذاب الأليم وبعدم النظر إليه يوم الدين؟ لأنه غير مستعفف, وقد بلغ من الكبر عتيا.
والعفاف هذه الخصلة إذا كان الإنسان متمتعًا بها فإنه إذا دخل حياة الزوجية فإنه يدخلها في سعادة وتستمر حياته في كرامة وفي طمأنينة, أمّا من دنس حياته بالرذيلة وارتكب الفواحش والموبقات فإنه قد لا يدخل هذه الحياة أبدًا, وهذه نعمة قد حرمها من دخلها وقد تلوث بهذه الموبقات فإنه يدخلها وهو يعاني فيها ما يعاني.
والله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا النفس والهوى ومنبع الركون إلى شهوة الفرج الحرام إنما هو عن طريق الهوى وعن طريق النفس التي قال الله عنها: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها , ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "النفس منها ما يدعوك إلى الطاعة, ومنها ما يدعوك إلى المعصية, والقلب بين ذلك, تارة يكون إلى هذا, وتارة يكون إلى ذلك, سيد الأعضاء ملك الأعضاء تارة يكون إلى النفس المطمئنة, وتارة يكون إلى النفس الآمارة بالسوء.
والله عز وجل وصف نفس الإنسان الواحدة بثلاثة صفات في القرآن الكريم:
وصفها بأنها نفس مطمئنة: وهذه النفس المطمئنة هي التي ينادى صاحبها عند الوفاة, قال الله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي يناديها ملك الموت نداء تشريف وتكريم.
والأنفس الأخرى: هي النفس الأمارة بالسوء وهي ضد النفس المطمئنة, تلك أي المطمئنة سكنت واستقرت بذكر الله وطاعته, أما الأمارة فهي التي تأمر صاحبها بمعصية الله وتأمره بترك الطاعات, والقرآن ما سمّاها آمرة وإنما سمّاها أمّارة فهي لا تكتفي بأمر أو أمرين في معصية الله بل هي مداومة على الأمر بالمعصية, قال سبحانه وتعالى ـ حكاية عن امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه ـ: وما أبري نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن النفس لأمارة بالسوء, أي تأمر بالسوء والفحشاء, إلا ما رحم ربي, إلا من عصم الله عز وجل.
والنفس الثالثة: هي النفس التي أقسم الله بها في سورة القيامة فقال: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة اختلف فيها, فقيل: هي المترددة بين المعصية والطاعة, وقيل: هي التي تلوم صاحبها, وهذا هو الأرجح, وفي هذا يقول ابن عباس: " ما من نفس إلا وتلوم نفسها يوم القيامة؛ فإن كانت طائعة فإنها تلوم نفسها على قلة الطاعة, وإن كانت عاصية فإنها تلوم نفسها على المعصية".
ويقول الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ "ما يزال المؤمن بخير مادام له واعظ من قلبه", المؤمن مازال بخير مادام هناك واعظ في قلبه يعظه إذا كان قد فعل طاعة استقصر هذه الطاعة وذكر التفريط فيها, وإن فعل معصية حدثته هذه النفس أنه قد أذنب فينبغي عليه أن يتوب إلى الله رب العالمين.
العفة.. العفة تكون في النفس المطمئنة ويثبتها النفس اللوامة.., النفس اللوامة هي التي تثبتك على العفة وعلى الاستعفاف.
وإن من مظاهر التلوث في مجتمعاتنا والانهزام أما النفس الآمارة بالسوء من هذه المظاهر بين مجتمعات المسلمين ـ للأسف الشديد ـ مظهران أقتصر عليها:
الأول: مظهر العشق: مظهر الحب, هذا المظهر استشرى في مجتمعنا فترى الشباب الذين ليسوا متمسكين بالدين أو نقول وفق تعبيرنا: ليسوا بملتزمين نرى حديثهم ما هو؟ عن الحب, أنت من تحب؟ والفتاة تقول أيضًا لصاحبتها أنتِ من تحبين؟ من هو حبيبك؟ من تراسلين؟ الحب والخنا العشق من أين جاء هذا؟ جاء من وسائل الإعلام المدمّرة التي قلّ أن تكون هناك مسلسلة أو تمثيلية إلا وفيها دور للعشق والحب, كانت الأسرة في الماضي لا تعرف الغزل وأيضًا كان الأبوان لا يحبان أن ينظر أولادهما إلى غزل أو أن يتلفظا بكلمات حب أو عشق وأصبحت ترى الأسرة بكاملها بينهما الأب والأم والفتاة والفتى يجلسون على شاشة التلفاز وأمامهم تمثيلية أو مسلسلة, وفي هذه التمثيلية أو المسلسلة رجل يقول لفتاة: أحبك, وفتاة تقول لرجل: أحبك, واسمع إلى تلك الكلمات التي تخرج منهما, والأب والأم ينظران والفتى والفتاة ينظران فأصبح المنكر معتادًا بسبب ماذا؟
بسبب أن القلوب استشربت هذه المناظر فأصبحت النظرة إلى الحرام غير منكرة, تمر على بعض الأسواق وتمر على بعض البضاعات فترى صورًا للنساء المتبرجات فتقول لصاحب المحل ما هذا؟ أزل هذه المنكرات., فيقول: وأي منكر في هذا! هذه دعاية تجارية, هذه دعاية حتى يأتي الزبون إليها.
أصبح النظر إلى الحرام من وسائل التجارة, من وسائل ترويج البضاعات والله سبحانه يقول: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم لن يكون هناك حفظ للفروج إلا بعد غض الأبصار, هل سيكون هناك حفظ للفروج والأبصار تتطلع إلى الحرام؟ وكذلك الغناء حدث عنه ولا حرج, كلمات الهوى, كم تسمع من كلمات تتداول بين الشباب في الأغاني من كلمات الهوى, الهوى ذمه الله في القرآن فقال: أرأيت من اتخذ إلهه هواه هؤلاء يمدحون الهوى ويمدحون الليل الذي تكون فيه المعصية.
إذن الأغاني والمسلسلات والروايات الساقطة التي فيها كذلك العشق والغرام أدى كل هذا إلى أن تخترم العفة, وإلى أن تكون العفة في كثير من الأسر نادرة, فأصبح الإنسان الذي يريد أن يتزوج من أسرة ما يتخوف من أن تكون هذه الفتاة تراسل رجلاً ويراسلها, أو تحدث رجلاً في التليفون, أصبح الرجل يخاف بسبب ماذا؟ بسبب ندرة العفة والاستعفاف, هذا مظهر من مظاهر الانهزام لمجتمعاتنا أمام النفس الآمارة بالسوء.
مظهر العشق والهوى والغرام, وإن الذي يقع في هذه الحفرة ـ حفرة الحب والغرام ـ لا يكاد يرى دينًا, وكذلك لا يكاد يصلح دينًا, فإن الرسول أخبرنا أن الإنسان لا يحصل على حلاوة الإيمان إلا إذا حصل على ثلاثة شروط, الأول: أن يكون الله والرسول أحب إليه مما سواه, الثاني أن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار.
ويقول الله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله إي والله, من الناس من يعشق فتاةً فيصل به الحب والغرام أن يسجد لها أو أن يتوسل بها وسمعت من ثقة عن فتى مسلم ذهب إلى بلاد الغربة وكان في غرفته فجاءت إليه عشيقته فطرقت عليه الباب فوجدها في كامل الزينة والجمال فما تمالك نفسه إلا وأن سجد لها. ويا سبحان الله كان هذا وقت أجله لقد أخذه الله عز وجل فإذا هو صريع ميت, نعوذ بالله من سوء الخاتمة, ماذا كانت خاتمته؟ خاتمته أنه كان ساجدًا, لمن؟ لفتاة. ما السبب في ذلك؟ السبب في ذلك هو العشق والغرام.
أسأل الله تعالى أن يقينا الزلات وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم , والصلاة والسلام على خير خلق الله إمام المتقين, وقائد الغر المحجلين الذي كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أسألك التقى والعفاف والغنى)), والذي كان يسأل ربه أن يزكي نفسه فكان يقول: ((اللهم أت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها)).
أذكر مظهرًا آخر من مظاهر خرم العفة والاستعفاف, هذا المظهر يظهر بين بعض الشباب ألا وهو ما يسمى: "بالعادة السرية", أو ما يسمى: "بالاستمناء" وهذه عادة رذيلة ذكرها العلماء كثيرًا وذكروا الأدلة على حرمتها, وما ذلك إلا لأسباب من هذه الأسباب: الصور التي تعرض للشباب صباح مساء والتي فيها ما ذكرت, وكذلك الغناء والموسيقى الذي يؤدي إلى استفزاز النفس وإلى أن تخضع للشيطان كما قال تعالى عن الشيطان: واستفزز من استطعت منهم بصوتك أي بالغناء.
وكذلك بسبب معوقات الزواج والتي هي كثيرة ـ وليس المقام هنا لتعدادها إنما المقام هنا لذكرها كسبب من أسباب خرم العفة والاستعفاف ـ, فمن أسباب هذه العادة الرديئة والتي لها مضار صحية, والتي فيها إثم, والتي فيها حرمان من الوصف الذي ذكره الله عز وجل للعباد الخاشعين حين قال سبحانه وتعالى ـ في سورة المؤمنون ـ: قد أفلح المؤمنون من هم؟ الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.
قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: يستدل بهذه الآية على تحريم الإستمناء؛ لأن الله تعالى عَممّ فقال: والذين هم لفروجهم حافظون أي يحفظون فروجهم عن كل شيء, ثم استثنى من ذلك فقال: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ؛ ولذلك قال الفقهاء: الأصل في الفروج الحرمة والشارع هو الذي يذكر لنا النواحي التي تباح فيها, ولذلك أباح الله عز وجل لنا الزواج وما ملكت أيماننا, واستدل العلماء كذلك على تحريم هذه العادة السيئة بقول الله تعالى: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله الذين لا يستطيعون الزواج يقول الله لهم إذا لم تستطيعوا الزواج فاستعفوا فاطلبوا العفة احفظوا فروجكم عن الحرام, فلو كان هناك بديل للزواج لذكر الله عز وجل هذه العادة.
واستدل العلماء كذلك على تحريمها بقول النبي : ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) , فالرسول هنا ذكر البديل لمن لم يستطع الزواج, ألا وهو الصوم ولو كانت هذه العادة السيئة مرخصة لرخصها النبي ولذكرها؛ لأنها أسهل من الصوم, ولكنه عليه الصلاة والسلام ما ذكرها بل ذكر الصوم فدل ذلك على أنها داخلة في عموم الآية: والذين هم لفروجهم حافظون فدل ذلك على حرمتها.
وكذلك هناك قاعدة "أن ما أدّى إلى الضرر فهو حرام" وهذه العادة ثبت بالطب إلى أنها تؤدي إلى أمراض شتى وإلى معوقات للزواج, وهذا يؤكد على حرمتها ويؤكد على عدم حليتها, فإلى الذين يتهاونون في هذه العادة السيئة نصيحتي أن يتقوا الله تعالى.
وإن العفة والاستعفاف تحتاجان إلى طاعة وإلى إخلاص لله رب العالمين, فإن بعض الناس لربما يتورع عن الولوج في المعاصي والفواحش من أجل صحته, هؤلاء لا ينالون الأجر الذي يناله الذي يستعف ويعف نفسه من أجل الله رب العالمين, ولهذا أخبرنا عن ثلاثة نفر آواهم المبيت إلى غار فانطبقت عليهم الصخرة ففرج الله عز وجل عنهم هذه الصخرة بصالح أعمالهم, وكان من بين هؤلاء رجل كان يحب ابنة عم له كأحب ما يحب الرجال النساء, فلما تمكن منها وجلس بين فخذيها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فتركها ـ وهو قادر على الفاحشة ـ لله رب العالمين, فإذا بالصخرة انفرجت بنصيبه هذا من الإخلاص.
وكذلك انظروا إلى سلفنا الصالح الذين كانوا كما قال ابن عباس رضي الله عنه : "التقي هو الذي إذا خلا بالحسناء خاف الله عز وجل وحصن فرجه".
أكتفي بهذين المظهرين وأتحدث في خطب قادمة عن الأسباب التي تؤدي إلى خرم الاستعفاف والعفة.
(1/1371)
العفة والاستعفاف 2
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عفة يوسف عليه السلام. 2- الاعتصام بالله والحذر من الغرور. 3- جرأة المسلمين على
حدود الله سبب لكثير من مشاكلنا. 4- الاختلاط مع الخدم والأجانب. 5- عفة عثمان بن طلحة
قبل إسلامه. 6- التربية الإيمانية تهذب وتمنع خائنة الأمين. 7- الإيمان بصفات الله ودوره في
التهذيب. 8- التربية الأخلاقية. 9- تجنب المثيرات الجنسية. 10- صحبة الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا, اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا, اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا, ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا, اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه لا إله إلا أنت نعوذ بك من شر أنفسنا ونعوذ بك من شر الشيطان وشركه أما بعد:
تحدثنا في الخطبة الماضية عن العفة والاستعفاف وذكرنا فضلهما وما ذكر الله عز وجل فيهما من الآيات في كتابه الكريم وما ذكر النبي من الأحاديث الشريفة في الاستعفاف والعفة, ونتكلم في هذه الخطبة عن النماذج الرائعة التي وجدت في القرآن أو في سيرة سلفنا الصلاح والذين تمثلت فيهم العفة واقترن بهم الاستعفاف.
أولى هذه النماذج: نموذج رائع في القرآن الكريم عن شاب امتلأ شبابًا وفتوة ويعمل خادمًا لعزيز مصر, هذا الشاب غلقت الأبواب دونه وجاءت امرأة جميلة ذات منصب تغريه وتطلب منه أن يقع في الفاحشة, هذا النموذج مُسطّر في سورة يوسف, يقول الله عز وجل: وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك ـ وعلى قراءة قالت هئت لك , أي تهيأت لك ـ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين هذا النموذج الرائع يضربه الله تعالى لنا حتى نتعظ ونعتبر وحتى يعلم الناس أجمعين أن العفة لا تكون هكذا بمجرد الخاطرة وإنما لابد لها من همة وإرادة, هذه القصة التي يضربها الله عز وجل في سورة يوسف نقف فيها وقفات:
الوقفة الأولى: أن الاستعانة بالله واللجوء إليه والاستعاذة به والفرار إليه هو من أقوى الأسباب التي تنال بها العفة؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء من الذي يحفظك من الفتنة؟ من الذي يحفظك من الزنا؟ من الذي يغض بصرك حقٌا؟ من الذي يجعلك تغض بصرك؟ هو الله عز وجل رب العالمين, ولذلك فلا يغتر إنسان بنفسه, لا يغتر إنسان بثقته بل ينبغي عليه أن يتهم نفسه دومًا بقلة الهمة وبضعف الإرادة وأن يستعين بالله عز وجل لكي يصرفه عن السوء والفحشاء.
فهذا النبي الكريم يوسف عليه السلام لما طلبت منه امرأة العزيز وهمت به وهم بها إلتجأ إلى من؟ ما قال: قال معاذ الله أي استعيذ بالله منكِ ومن شرك, قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
وربي هنا إما هو العزيز الذي أحسن إليه, وإما هو الله عز وجل وهذا هو الراجح؛ لأنه قال: معاذ الله فذكر نعمة الله عليه بعده فقال: إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
والوقفة الثانية: عدم الاغترار بالنفس والركون إليها وأن الإنسان لا يعتمد على الثقة الزائدة بها, لما جاءت النسوة إلى امرأة العزيز ولُمنها على فعلتها قالت: ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ماذا فعل يوسف عليه السلام؟ التجأ إلى الله رب العالمين قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه أن أسجن وأن أحبس أن تقيد حريتي هذا أحب إلي من أن أقع في الفاحشة رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين إذا لم تصرف ربي أنت عني كيدهن سأصغي إليهن وستذهب قوتي وستخور عزيمتي وسأستمع إلى ما تقول فأسألك ربي أن تصرف عني كيدهن, فماذا كان الجواب؟ فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وهكذا فإن الإنسان إذا ألمّت به فتنة ينبغي أن يلجأ إلى الله عز وجل, ولا ينبغي أن يخوض هذه الفتنة بغير استعانة بالله.
انظر ماذا يقول ربنا في الذين اتقوا إذا جاءهم الشيطان وسول لهم سوء الأعمال, قال سبحانه وتعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الذين اتقوا إذا مرّ عليهم طيف أو خاطرة من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون, وكيف يكون التذكر؟ يكون بالاستعاذة من الشيطان وبالإستعانة بالله عز وجل.
الموقف الرابع: أن التساهل من المسلمين في دخول الرجال والخدم في البيوت من أكثر أسباب وقوع الكثير من الحوادث التي تسببت في انتهاك الأعراض, قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ وهو يذكر لنا هذا العزيز الذي كان بالفعل ديوثًا, يقول الحافظ ابن كثير: كان زوجها ـ أي العزيز ـ لين العريكة وكان سهلاً أو أنه عذرها لأنها رأت أنها لا صبر له عنها, ولذلك تجرأت المرأة على أن تطلب هذا الطلب علانية بين النساء , تطلب من يوسف عليه السلام أن يفعل فيها الفاحشة, ولذلك فإن الإنسان ينبغي عليه ألا يدخل الخدم على النساء, ليتقي الله عز وجل هذا الذي يركب ابنته مع السائق فيوصل السائق ابنته إلى الجامعة أو إلى المدرسة, ما هذا؟ أين الغيرة؟ أما تغار على عرضك أيها المسلم, لا ينبغي للمسلم أن يفعل هذا, لا ينبغي للرجل أن يترك خادمه يباشر النساء أو أن يدخل عليهن, يقول : ((إياكم والدخول على النساء)) قال رجل: يا رسول الله, أرأيت الحمو؟ ـ أي قريب الزوج أيدخل على المرأة ـ قال: ((الحمو الموت)), أي: إذا أدخلت الحمو إلى بيتك كأنك أدخلت الموت على أهلك.
الموقف الخامس: في هذه القصة أن الصحبة السيئة من أسباب الوقوع في الفواحش, ألا ترى أن امرأة العزيز لما انتشرت هذه الفضيحة بين النساء ماذا فعلت النساء اللاتي كن حولها؟ شجعنها على ذلك وذهبن إلى يوسف يطلبن منه أن يرضخ لكلامها فقال يوسف عليه السلام: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين وقال يوسف: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أي في اشتراكهن في هذه الجريمة.
هذا نموذج في القرآن للعفة والاستعفاف.
نموذج آخر في سيرة سلفنا الصالح: هذه القصة لرجل صالح عفيف يهاجر مع امرأة أيامًا متتالية لا أحد معهما ويضرب مثالاً عاليًا للعفة والاستعفاف, تلك هي أم سلمة رضي الله تعالى عنها تقول:
لمّا فرق قومي بيني وبين ابني, وهاجر زوجي إلى المدينة مكثت أيامًا أبكي أخرج إلى خارج داري ثم أعود إليه, فقام رجل من بني المغيرة رآني على حالي فرق لي, وقام إلى قومي وقال: ألا تخرجوا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها, قالت: فتركوني أهاجر إلى المدينة وأعطتني بنو أسد ـ قوم زوجها ـ ابني, فأخذت ابني فوضعته على حجري وركبت بعيري وسرت وليس معي أحد إلا الله, حتى إذا أتيت إلى التنعيم ـ موضع قريب من مكة تجاه المدينة ـ لقيني عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار, فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟ فقلت: أريد المدينة, فقال: أو ما معك أحد؟ فقلت: لا, قال: مالك من مترك؟ مالك من مترك ـ أي كيف أتركك تسافرين وحدك ـ فأخذ بخطام بعيرها فسار معها, قالت أم سلمة: فما رأيت قط رجل أكرم في العرب من عثمان بن طلحة, كان إذا جئت إلى مستراح أوقف بعيري وتأخر عني فإذا نزلت عن بعيري أخذ ببعيري وتأخر بالبعير فربطه في الشجرة واضطجع تحت الشجرة, فإذا حان موعد الرحيل جاءني بالبعير فترك البعير وتأخر عنّي, فإذا ركبت البعير جاء وأخذ البعير وسار بي على ذلك أيامًا متتالية حتى قرب من المدينة فرأى قرية عمرو بن أبي عوف فقال: يا ابنة أبي أمية, زوجك في هذه القرية, فقالت: فدخلت القرية فوجدت أبا سلمة, قالت أم سلمة ـ تحفظ الجميل لهذا الرجل ـ: فما رأيت رجلاً أكرم من عثمان بن طلحة قط في العرب.
هذا نموذج رائع في سلفنا الصالح في العفة والاستعفاف, الرجل لا ينظر إلى المرأة, ولا يبالغ في الحديث معها, بل يكلمها على قدر الحاجة, اركبي, انزلي, جاء البعير... على هذا النحو لا يبالغ معها في الحديث, هذه هي الرجولة حقًا, هذه هي العفة حقًا, لا أن تخضع المرأة بالحديث للرجل وأن يتكسر الرجل كذلك في الحديث مع المرأة. أهذه من العفة؟ لا, ليست هذه من العفة, وإن لكم فيهم لعبرة, وإن لكم فيهم لعظة.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كل حال, الحمد لله الذي كفانا وآوانا وهدانا , فكم ممن لا كافي لهم ولا مئوي, الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
هناك بعض الأسس التي لابد أن ينتبه المرء إليها إذا أراد أن يكون عفيفًا, وليست العفة كما قدمت للرجل للذي لم يتزوج بل العفة كذلك للمتزوج, المتزوج العفة في حقه أبلغ, وينبغي عليه أن يكون أعف من غير المتزوج, هذه الأسس وهذه القواعد التي ألقيها عليكم لابد لها من شرط هام, هذا الشرط هو العزيمة والإرادة على التنفيذ؛ لأن هذه الأسس بغير عزيمة وبغير إرادة على التنفيذ تصبح وبالاً علينا ويسألنا الله عز وجل عنها:
الأساس الأول: التربية الإيمانية: أن تربي نفسك تربية إيمانية, أن تقوي صلتك بالله رب العالمين, أن تعلم أن الله تعالى يراك في السر وفي العلن, يقول تعالى: وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ويقول تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور قال ابن عباس في قوله تعالى: يعلم خائنة الأعين قال: "هو الرجل يكون بين الرجال فتمر المرأة فيتظاهر بأنه يغض بصره, فإذا وجد فرصة نظر إلى المرأة والله إنه ليحب أن ينظر إلى عورتها" يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وقال تعالى: يعلم السر وأخفى وقال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ولذلك شرع الله لنا هذه العبادات حتى نقوي صلتنا به, وحتى نقوي التقوى, قال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وهناك بعض الوسائل التي تقوي الإيمان والتي تحد من الشهوة:
أولى هذه الوسائل: الصيام, قال : ((فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)).
ثانيًا: أن يحول معتقده الإسلامي في ذات الله وأسمائه وصفاته وكذلك في وجود الجنة والنار إلى معاني محسوسة في نفسه, أن يعلم أن معنى السميع أن الله تعالى يسمع كلماته, أن يعلم أن البصير هو أن الله عز وجل يُبصر حركاته, أن يعلم أن الله شديد العقاب بأنه يعاقب على المعصية, فهذه الأسماء والصفات لكي تتربى بها.
يقول الربيع بين خثيم ـ وهو من التابعين ـ: "إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك, وإذا هممت فاذكر علم الله بك, وإذا نظرت فاذكر نظره إليك, وإذا تفكرت فانظر إطلاعه عليك, فإن الله يقول: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً.
وكذلك من الوسائل التي تقوي الإيمان الاكثار من ذكر الله, ليحصل لك الوجل من الله قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم يحصل لك الاطمئنان, قال تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
كذلك الأساس الثاني: لابد أن نهتم بالتربية الأخلاقية, يقول : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا, وخياركم خياركم لنسائكم)) أخرجه الترمذي بإسناد صحيح.
وإذا نظرنا في العفة وجدنا كتلة من الأخلاق الرفيعة العالية, فتجد فيها الصبر, ألا يصبر الإنسان على حر الشهوة؟ يقول الله عز وجل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ألا ترى فيه الخوف من العقوبة, جلس بين يدي المرأة
القاعدة السادسة: تجنب المثيرات الجنسية: أن يتجنب الإنسان المثيرات, لا ينبغي للإنسان أن يوقع نفسه في أوساط المثيرات الجنسية وهذا يتأتى كما أسلفت بغض البصر والابتعاد عن مواطن كثرة النساء, واختلاط الرجال بهن كالأسواق مثلاً, لا ينبغي عليك أخي الشاب في هذه الأيام أن تذهب للأسواق لمجرد بضاعة لا خير فيها أو منفعتها زهيدة بل ينبغي عليك أن تتورع عن أن تكون في هذه الأسواق؛ لأنها والله موئل للشيطان وما أكثر الفساد فيها فإن الفساد تراه بأم عينك ولا تستطيع ـ للأسف الشديد ـ أن تغيّره, فينبغي عليك أن تبتعد عن هذه المواطن, الأسواق, ومواطن اللهو التي فيها الاختلاط, فيتجنب المثيرات؟؟؟؟
الوقاية السابعة: الصحبة الصالحة, فإن الصحبة الصالحة تعينه على أن يحفظ بصره وعلى أن يحفظ فرجه وإن لم يستحي من الله فإنه سيستحي من الصحبة الصالحة الذين هم حوله والذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا ذكر.
هذه هي الوقايات التي يجب أن نلتفت إليها.
(1/1372)
العلم والدعوة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم نعم الله أن يخلق في أحدنا استعدادات لحمل الدين. 2- الدعوة أفضل قول وعمل
يمارسه الإنسان. 3- وقفات مع قوله: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة...4- الحكمة
في اختيار طريق الدعوة بحسب المدعوين. 5- الحكمة والمداهنة في الدعوة. 6- الحكمة في
دعوة موسى لفرعون.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أعظم منن الله تعالى على عبده أن يهيأ له الأسباب ليكون من حملة هذا الدين, وممن يبذلون الغالي والنفيس لإقامة حكم الله في الأرض ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السلفى, تلك المنزلة العالية السامقة الرفيعة هي أسمى المنازل وأعلى المقامات, منزل المرسلين وسبيلهم عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم, فإن الداعية إلى الله تعالى من أعظم الناس قُربًا عند الله رب العالمين ويتفق المسلمون على أهمية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ويتحدث كثيرون عن وجوبها على المسلمين, وكلنا مع هؤلاء في وجوب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الفضيلة ومحابة الرذيلة وتثقيف الناس ووعظم ونصحهم, وإنه واجب على جميع المسلمين على اختلاف مستوياتهم, ولكن هذا الواجب يتفاوت بتفاوت المسلمين علمًا وفطنةً وأسلوبًا ومركزًا وعملاً ووقتًا, وهذا الوجوب مستفاد من آيات كثيرة صريحة في القرآن العظيم من ذلك قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , وكقوله عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقوله: قل هذه سبيل أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله , وقوله سبحانه: ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك.
فما من شك أن الداعية إلى الله تبارك وتعالى هو صفوة الله وخيرته من خلقه, أحب لله فأحبه الله وأجاب الله عز وجل في نفسه وأجاب غيره في الله فأحبه الله تبارك وتعالى, فلذلك قال الله تبارك وتعالى في أوجز عبارة وأصدق بيان: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين.
روى عبد الرزاق الصنعاني بسنده إلى الحسن البصري ـ رحمه الله ـ بعد تلاوته للآية: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين قال: هذا حبيب الله, هذا ولي الله, هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحب أهل الأرض إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال إنني من المسلمين.
ولأن هذه المنزلة بهذا السمو وهذه الرفعة فإنه لابد لكل داعية مسلم يريد وجه الله والدار الآخرة أن تتضح له أمور حتى يكون الطريق واضحًا بينًا لا غبن فيه, وحتى يكون العمل معذقًا مثمرًا ومن هذه الأمور:
أولاً: سلامة القصد والغاية: فمقصود الداعية وغايته إعلاء كلمة الله وتحكيم شريعته في الأرض, الداعية لا يدعو لشخصه ولا لقومه ولا لجنسه أو عشيرته أو قبيلته أو لجماعة بعينها لا حظ في ذلك ولا نصيب, وإنما الأمر لله والعمل من أجل الله, ولذلك نلحظ التركيز على هذا الأمر قل هذه سبيلي أدعو إلى الله , وقال أيضًا: ادع إلى سبيل ربك , فالدعوة إلى سبيل الله والدعوة إلى الله لا إلى أحد من خلقه.
ثانيًا: سلامة الوصول والطريق الموصل إلى الغاية: وطريقة الداعية إلى الله تعالى هي طريقة النبي والرسول أول داعية في الإسلام, فما من خير إلا ودعانا إليه عليه الصلاة والسلام, وما من شر إلا وقد حذرنا منه , ولا يظنن ظانُ بأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرر من تلقاء نفسه, بل كان هذا بإذن ربه وأمره, قال تعالى: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا , فالدعوة كما يجب أن تكون إلى الله كذلك فلابد أن تكون بإذن الله, ومن الذي يبين لنا إذن الله؟, إنه الرسول.
ثالثًا: البصيرة في الدعوة, قال عز وجل: قل هذه سبيلي ـ طريقي ـ أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين على بصيرة, لابد لكل من أراد أن يدعو إلى الله أن يكون على بصيرة بأمر الدعوة إلى الله عز وجل, فمن الناس من يخوض غمار الدعوة إلى الله من غير بصيرة ومن غير نظر في كتاب الله وسنة رسوله , وما البصيرة التي عناها الله وعنتها الآية؟ البصيرة كما قال العلماء: هي العلم بالله والعلم بسنة رسول الله , قال بعض العلماء: البصيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ البصيرة بما يدعو إليه (أي البصيرة بالدعوة).
2 ـ البصيرة بحال المدعو.
3 ـ البصيرة بكيفية الدعوة.
فهذه ثلاثة أقسام للبصيرة, عِلمٌ بالدعوة وعلم بحال المدعو وعلم بكيفية الدعوة وطريقتها.
فالبصيرة بالدعوة: أن يكون الداعية عالمًا بالحكم الشرعي الذي يدعو إليه, فربما دعا إلى شيء ظن أنه واجب وهو ليس بواجب, فيلزم الناس ما لم يلزمه الله عز وجل وربما دعا إلى شيء ظنه أنه حرام وهو ليس بحرام, فيحرم على الناس أمرًا أباحه الله عز وجل لهم, والعكس بالعكس فربما دعا إلى شيء ظنه أنه مستحب وهو حرام عليه اقترافه.
فالعلم بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه الإنسان من أهم البصيرة وهو المعني به في مواطن كثيرة من القرآن العظيم.
ثانيًا: البصيرة بحال المدعو: أن يعرف الداعية حال المخاطبين, والدليل على أهمية معرفة الداعية بحال المدعويين حديث معاذ في الصحيح أن النبي لمّا أرسله إلى اليمن قال له عليه الصلاة والسلام: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...)) الحديث, فقال في بداية الحديث: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب)) قال له ذلك ليعرف معاذ حال المدعويين ويستعد لهم, ويتعرف على حالهم وما الشيء الذي يحتاجون إليه, فمن الخطأ بمكان أن يدعو الإنسان شخصًا لا يعرف حاله, لا يعرف جدله, لا يعرف مقدار الباطل الذي هو عليه, فربما كان باطله الذي عليه له حجة لا يستطيعه ذلك المناظر ولا يستطيعه ذلك المقدم عليه فيقحم في المجادلة فيكون سببًا في تقهقر الحق, وفي ظن ذلك الذي على الباطل أنه على الحق, فلابد أن يعرف مقدار باطله, ومقدار الحق الذي هو عليه حتى يستطيع أن يأخذه إلى الحق, فالبصيرة بحال المدعو من أهم المهمات حتى يستطيع الإنسان أن يصل إلى الخير في دعوته.
ثالثًا: من أنواع البصيرة البصيرة بكيفية الدعوة وطريقتها, والله سبحانه وتعالى ما ترك لنا الاجتهاد في كيفية الدعوة بل دلنا الله تبارك وتعالى إلى الطريقة المثلى, ودلنا كذلك إلى الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وترتيب الأولويات, والدليل من القرآن على كيفية الدعوة قوله سبحانه وتعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن , المدعوون إلى طريق الله منهم من هو خالِ الذهن, طيب في حقيقته إذا عرف الحق تمسّك به ودعا لك بالخير, متعطش إليه بمجرد عرضه عليه يكون من السابقين إليه, فهذا يُدعى بالحكمة, ومن الناس من هو مشتغلٌ بالباطل عالم بأنه مُبعد عن الحق, فهذا يحتاج إلى موعظة حسنة في ألفاظها ومعانيها حتى يقبل إلى الله.
ومن الناس من لا ينفع معه إلا الجدال بالتي هي أحسن, وإلا انتقل معه بعد ذلك إلى الجلاد كما قال العلماء في قوله تعالى: ادع إلى ربك.... قال: ذكر سبحانه وتعالى مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه إما أن يكون طالبًا للحق محبًا له مؤثرًا له إذا عرفه فهذا يُدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال, وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق ولكنه إذا عرفه اتبعه فهذا يحتاج إلى موعظة بالترغيب والترهيب وإما أن يكون هذا المدعو معاندًا معارضًا فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع وإلا انتُقِل معه إلى الجلاد إن أمكن.
فهذا مراتب الدعوة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى, فنسأل الله تعالى أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين إنه على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليُّ الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم ما من دابة في الأرض إلى على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌ في كتاب مبين , يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز , والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغّرّ الميامين محمد.
وقال في حديث معاذ: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) ليس من الحكمة في شيء أن تدعو كافرًا إلى الصلاة, ليس من العدل في شيء أن تدعو ملحدًا في الدين إلى أن يتحلى بمكارم الأخلاق, فمن الواجب أن يقدم الإنسان الأهم ثم المهم؛ فالرسول يقول في هذا الحديث: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) أن يبدأ المرء بالتوحيد والعقيدة فإن صلحت العقيدة صلح الأمر كله وهان الأمر كله بعد ذلك, فإن من أقرّ بوحدانية الله فإنه من السهولة بمكان أن يخضع لأوامر الله فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحج البيت الحرام ويدع الحرام, وأما من لم يقر بالتوحيد, وأما من لم يُذْعن بشهادة أن لا إله إلا الله فإن هذا من الصعوبة بمكان أن يُقِّر بأوامر الله تبارك وتعالى.
ومن الناس من يخطأ في فهم قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فترى بعض الذين نصبوا أنفسهم موجهين للدعاة في سبيل الله عز وجل يبالغون في ذكر هذه الآية ويضعونها في غير موضعها ويسمون الذين يسلكون المسلك الصحيح فيها أنه مُجانب للحكمة مبتعد عنها, وفي حقيقة الأمر هو مخطأ في الاستدلال بالآية لأنه لم يفهم معناها, ولو فهم معناها لما قال تلك المقالة, فمن الناس من يُعدّ الذي يقوم من مجلس فيه منكر أو يعظ الناس في مكان قد اجتمعوا فيه, فيعظهم ويرشدهم ـ يظن بعضهم أن الحكمة ليست بالإرشاد وليست بالكلام وقد أخطأوا بعد ـ بل يسم بعضهم من يقوم من المجلس الذي يُدار فيه المنكر وهو قد أدّى الذي عليه من البلاغ يسِمُه بعضهم بأنه مجانب للحكمة.
فما هو الفهم الصحيح للحكمة؟ الفهم الصحيح هو كما بيّنه ابن القيم رحمه الله تعالى.
الحكمة وضع الشيء في موضعه, فربما احتجت إلى أن تكون مبعدًا معرضًا عمن هو واقع في المنكر, وربما احتجت إلى أن تجلس معه حتى ترشده إلى الأحسن, والله عز وجل ضرب لنا نماذج من الرسل يبينون لنا الطرق الثلاثة التي نسلكها في الدعوة إلى الله, إما الحكمة أو الموعظة الحسنة أو الجدال بالتي هي أحسن.
خير واعظ لنا بالمثال هو إبراهيم عليه السلام: فقد ذكره الله قبل هذه الآية فقال: إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه ـ إلى أن قال عنه ـ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفًا , وقال عز وجل بعدها: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فكان إبراهيم عليه السلام قد جمع هذه الثلاثة فكان من الذين دعوّا بالحكمة في محلها, وكان من الذين دعوا بالموعظة الحسنة في محلها, وكان من الذين دعوا بالجدال بالتي هي أحسن في محله, فذلك مذكور في كتاب ربنا سبحانه وتعالى.
ومن الناس من يخلط في الحكمة بين أسلوب الدعوة وطريقة التقديم وبين مضمون الدعوة وحقيقتها, فالمضمون والحقائق لا تتغير, فالله سبحانه وتعالى واحد, والحق حقٌ والباطل باطلٌ أشياءٌ لا تتغير, الأسلوب هو الذي يتغير, طريقة الدعوة هي التي تتغير.
فمن الناس من يفرّغ الدعوة من مضامينها وحقائقها بدعوى أنها لا تناسب الحكمة, فيتنازل عن الحقائق التي ضبطها الله عز وجل وأمر بها الدعاة إلى الله عز وجل على حساب الأسلوب وعلى حساب كيفية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى, ولو نظرنا إلى سيرة النبي لوجدناه يفرق بين الأسلوب وكيفية الدعوة والمضمون, فلم يتنازل قط عن مضمون الدعوة وحقيقتها مع أنه كان يقدم الدعوة بالتي هي أحسن بالمثال بالمواعظ الحسنة, ولذلك حزن المشركون أشد الحزن وودّوا أن لو يُدهِنُ في الحقائق فقال عز وجل عنهم: ودوّا لو تُدهن فيدهنون فقالوا للنبي : "تعال نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة" فأنزل الله عز وجل: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم وكل الآيات التي فيها "قُل" مأمورٌ النبي فيها بالبلاغ فحسب يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته , فالرسول لا يتنازل عن حقائق الدعوة وفي الوقت نفسه يقدم الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن.
ومن قبله موسى عليه السلام كان إمامًا ورحمة للعالمين في زمانه قدم الدعوة بالتي هي أحسن ولم يتنازل عن حقيقتها ومضامينها قال الله عز وجل عنه: اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى بهذا اللطف وهذا التحديث والتحضيض هل لك إلى أن تزكى أن تتطهّر وأهديك إلى ربك فتخشى , وقال الله عز وجل عنه وعن أخيه في موطن آخر: اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى , هذا في الأسلوب في طريقة تقديم الدعوة, ما المضامين التي قدمها موسى عليه السلام, ما الحقائق التي قدمها موسى عليه السلام, قال الله عز وجل عنه في الحقائق: قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آباءكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون.
هكذا موسى عليه السلام رغم أنه قدم الدعوة بالتي هي أحسن باللين والرفق, إلا أنه ما تنازل عن الحقائق التي أمره الله عز وجل بها.
وفي موطن آخر لقد رمى فرعون موسى عليه السلام بالسحر, هل سلك موسى الرفق واللين في كلامه؟ لا, بل انتقل إلى القوة في الرَدّ, وذلك مذكور في الآية في سورة الإسراء, قال الله عز وجل ـ حاكيًا عن فرعون وهو يتكلم مع موسى عليه السلام ـ: إنّي لأظنك يا موسى مسحورًا بماذا أجابه موسى عليه السلام؟ قال موسى: لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا إني لأظنك يا فرعون هالكًا, فهنا موسى عليه السلام هل سلك معه المسلك الأول؟ لا, بل ردّ عليه بقوة, وهذا من الحكمة... فلابد للداعيين إلى الله عز وجل أن يفرّقوا بين الحقائق والمضامين وبين طريقة الدعوة, فعلى الداعية إلى الله أن يختار الأسلوب الأمثل, الأقوم, الذي أمر الله عز وجل به, وكان عليه المرسلون على ألا يتنازل عما أمر الله تعالى به, فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا دعاة مهتدين على طريقة سيد المرسلين.
ومن الناس من يهمل أمر الدعوة في أهله وبيته فينشغل بغيرهم على حسابهم, وليس هذا من الحكمة في شيء, فعلى المسلم أن يكون داعية إلى الله في بيته, قال الحق تبارك وتعالى آمرًا رسوله : وأنذر عشيرتك الأقربين فيبدأ الإنسان بمن يعول من أهل بيته, من جيرانه فيدعوهم إلى الله عز وجل, فيبين لهم الحلال ويبين لهم الحرام ليجتنبوه, فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا كذلك ممن قال الله سبحانه فيهم: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون على المنكر إنه على كل شيء قدير.
(1/1373)
الغرور
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب الغرور. 2- أصناف المغرورين. 3- صور للغرور. 4- قيام ليلة القدر إيماناً
واحتساباً. 5- العمل الصالح في رمضان. 6- زكاة الفطر طهرة لما وقع به الصائم من الآثام.
7- أحكام زكاة الفطر ومستحقوها ووقت إخراجها. 8- التكبير يوم العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإيمان: ما هي إلا أيام قلائل وليالي معدودة ويلفظ هذا الشهر أنفاسه, ما هي إلا أيام قلائل ويمضي رمضان, يخرج رمضان وقد قَدّم فيه من قَدّم, وقصّر فيه من قصّر, يخرج الصيام شاهدًا لنا أو علينا, فمنا من صام وصامت جوارحه, صام عن الطعام وصام لسانه عن الغيبة والنميمة, صام عن أكل الحرام وتناوله, صام سمعه عن سماع الأغاني والمجون, صامت عيناه عن النظر إلى المحرمات في الأسواق والتلفاز, صام قلبه إذ تفرغ لله رب العالمين, صام قلبه خاشعًا خائفًا من الله تعالى, صامت جوارحه كما صام عن الطعام والشراب.
وقام لله احتسابًا وإيمانًا, قام يصلي لله التراويح, قرأ القرآن كثيرًا في هذه الشهر, فيالها من غنيمة عظيمة, ويالها من بشرى لهذا الرجل, وأرى نفسي مضطرًا للكلام عن مرض خطير ينتاب الناس في رمضان وفي غير رمضان, هذا المرض هو مرض الغرور, وما أدراك ما مرض الغرور الذي حذرنا الله عز وجل بقول: يا أيها الإنسان ما غرك برك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك.
الغرور هذا المرض الفتّاك, هذا المرض الخطير الذي يقع فيه الناس وهم صُوّام, وهم قوّام بل ربما وهم متصدقون.
يكشف لنا القرآن الكريم عن أسبابه, فيقول الله تعالى عن السبب الأول من مصادر الغرور: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور عباد الله, وكيف لا يغتر الإنسان بالحياة الدنيا؟ كيف لا يغتر بزينة الأرض؟ كيف لا يغتر بالأولاد؟ كيف لا يغتر بالأموال؟ كيف لا يغتر بالضِياع؟ كيف لا يغتر بالزوجة؟ فالدنيا تغر العباد لذلك يحذر الله عز وجل: فلا تغرنكم الحياة الدنيا هذا هو المصدر الأول من مصادر الغرور.
المصدر الثاني: ولا يغرنكم بالله الغَرور والغرور بفتح الغين هو الشيطان اللعين, وكيف يُغّر الشيطان العباد؟ يغرهم بأن يُلبّس عليهم, بأن يهون لهم من المعاصي التي يقترفونها.
المصدر الثالث من مصادر الغرور: الأمانيّ, قال الله عز وجل: وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور وتأمل كيف أن الشيطان المصدر الثاني للغرور يتكرر مع الأماني, ويتكرر مع الدنيا فكأن الشيطان يُذكي الأسباب الأخرى للغرور فيُغري بالدنيا ويُغري بالأماني, وغرتكم الأماني يتمنى أن يكون له قصر في الجنة, يتمنى أن يكون صالحًا, يتمنى أن يكون مستقيمًا ملتزمًا طائعًا لأوامر الله عز وجل, هذا هو رأس ماله "يتمنى" كما يتمنى في الدنيا أن يكون رئيسًا, أن يكون ثريًا كذلك يتمنى مجرد تمن للآخرة, وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور.
كذلك الابتداع في الدين, الافتراء في الدين يحمله على الغرور, تراه مبتدعًا في دين الله أورادًا وأذكارًا ما أنزل الله بها من سلطان, ألف كذا وألف كذا وألف كذا من الأذكار, فتراه ينطق بها ويلهج بها لسانه صباح مساء, والرسول يقول: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدّ)) ينفق الأموال الطائلة على الموالد والمآتم وغير ذلك مما ابتدعوه في دين الله رجاء الأجر والثواب العظيم عند الله عز وجل, هذا من قوله عز وجل: وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون افتروا في دين الله عز وجل أشياء ما أنزل الله بها من سلطان, ما سألوا عن الدليل وما استوثقوا من هذا الأمر وما جاء فيه عن النبي الذي أمرنا باتباعه والاقتداء به, نسي أنه إذا نزل في القبر لم يسأل عن الشيخ الفلاني أو الفلاني, لم يُسأل عن الطريقة الفلانية والعلانية, وإنما سيُسأل عن النبي الذي بعث فيهم, فإن كان متبعًا للرسول أقر به وصدق ونطق بأنه رسول الله, وإن كان متبعًا لغيره ومقدمًا غيره بين يديه وراميا بحديثه عُرض الحائط, فهذا يغفل عن رسولنا ولا يهتدي إليه يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
أربعة مصادر هي مصادر الغرور: الدنيا, والشيطان, والأماني, والافتراء, وكما أن أسباب الغرور متنوعة فكذلك المغرورون أصناف وألوان.
أول المغرورين هو الكافر الجاحد فيغتر بكل هذه الأسباب فتراه مغترًا بالدنيا, فينظر إلى النعم التي يتقلب فيها فينطق أنه ما أوتي هذه النعم إلا لأنه صالح ولأنه مستحق يقول الله عز وجل عن الكافرين: أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدّا.
ويقول الله عز وجل عن ذلك الكافر في سورة الكهف: ولئن رُددت إلى ربي لأجدن خيرًا منها منقلبًا ويقول عن مثيله في سورة فصلت: ولئن رُجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وينظر إلى تأخر العذاب عنه ويطغيه ما أعطي في الدنيا, المال في ازدياد والأولاد كما هم في نمو وإزدياد, وهو مقيم على المعاصي, فإذا نظر الأمر كذلك العذاب لا يُحَل, الأموال لا تنقص فإنه يغتر بحاله وينسى أن الله عز وجل يستدرجه من حيث لا يعلم, فيغتر بالحالة التي هو عليها ويقول الله عز وجل عن الكافرين: وقالوا لولا يعذبنا الله بما نقول , فأسقط علينا كسفًا من السماء إن كنت من الصادقين.
اغتروا, إذا رأوا المسلمين الصالحين, المؤمنين المستقيمين على نهج الله رب العالمين فإنهم ينظرون إليهم من عَلي؛ لأنهم فقراء, لأنهم ليسوا بأغنياء ولا أثرياء فكذلك يقولون: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا , وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم.
وقع بعض المسلمين فيما وقع فيه الكافرون, فاغتروا بالنعم التي تترى عليهم, واغتر بعضهم بعدم حضور المصائب واغتر بعضهم بأنه غني, وأن المتبع لدين الله عز وجل فقير, ومن الغرور الذي يقع فيه بعض الناس ـ وهو غرور خطير ـ غرور الرجاء, وهل في الرجاء غرور؟ أي نعم, من الرجاء ما هو غرور.
العبد بين الخوف والرجاء في الدنيا يرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورًا أمن هو قائم آناء الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه متقلب بين الأمرين يقدم الصلاة ويقدم الصيام ويقدم الصدقة ويخاف ألا تقبل منه, والذين يؤتون ما آتوا ـ أي من الصيام والصلاة والصدقة ـ وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون , فيغر فلا يعرف من دين الإسلام إلا أنه ربه غفور رحيم, إلا أن رحمته سبقت غضبه, فيتكل على رحمة الله كما زعم, وهؤلاء كما قال الحسن البصري: "يقولون نحسن الظن بالله فخرجوا من الدنيا ولم يفعلوا خير فسُقِط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا", يقولون نحسن الظن بالله وما عملوا صالحًا وهل يكون رجاء بلا عمل؟ هل يكون رجاء في رحمة الله بلا توبة, وبلا استغفار وبلا صدقة وبلا صلاة, وبلا غير ذلك من الصالحات؟ لا.
استمع ماذا يقول ربك عن الذين يرجون رحمته حقًا: يقول الله عز وجل: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله ـ أعمال صالحة ـ أولئك يرجون رحمت الله والله غفور أي من آمن ومن جاهد في سبيل الله ومن هاجر, هجر المعاصي, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وترك أرض المعصية وانطلق إلى أرض الطاعة هذا الذي يرجوا رحمة الله؛ لذلك فإن الله عز وجل يغفر له ذنبه, ومن الناس من يغتر ببعض الأعمال الصالحة وينسى مضمونها, فمن الناس من يغتر بقراءة القرآن فيفرح بجمال صوته يتغنى بالقرآن وينطق بأنه تالٍ للقرآن وينسى ما فيه من وعد ووعيد وحلال وحرام, فيمر على الختمة, يختم القرآن مرارًا لكنه لا يتدبر, يغتاب ويفعل المعاصي بل ربما ارتكب الموبقات من أكل الربا وقذف المحصنات الغافلات والزنا وغير ذلك, وهو يظن أنه تالٍ للقرآن, وهذا من الغرور؛ لأن الله عز وجل يقول عن التالين لكتابه حقًا: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية يرجون تجارة لن تبور وذكر الله عز وجل صنفًا من الناس يؤمن بهذا الكتاب ويعمل به فقال الله سبحانه وتعالى عنهم: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون.
ومنهم من يغتر بالصيام, فتراه ممتنعًا عن الطعام والشراب لكنه يظلم العباد, يقتطع الأموال ظلمًا وعدوانًا, يأكل أموال اليتامى لا يفتر لسانه عن القيل والقال في عباد الله عن الغيبة والنميمة, لا تفتر عيناه عن النظر إلى ما حرم الله, لا تفتر يده عن البطش, لا يفتر سمعه عن سماع ما حرم الله من الأغاني والمجون وغير ذلك والله تعالى يقول عن الأغاني: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا ويقسم الصحابي على ذلك فيقول: والله الذي لا إله إلا هو الغناء, فسمعه لا يفتر عن الغناء وعما حرم الله, فهذا من الغرور؛ يقول : ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)).
ومنهم من يتصدق ولكنه يُمن على من يتصدق عليه ويظن أنه يفعل خيرًا, ويُشهر اسمه في كل مكان بأنه قدم وأنفق والله عز وجل يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذي كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر.
ومن الغرور الذي هو شائع بين كثير من الناس أنهم إذا سمعوا المواعظ المبكية المؤثرة من الجنة والنار ومن الحشر ومن المعاد وعذاب القبر يكتفي أحدهم بأن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله إنا لله وإنا إليه راجعون, ويهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال, وكأنه عمل بهذه الموعظة ويخرج من باب المسجد ويرجع إلى ما كان عليه من المعاصي, هل هذا من الاتعاظ؟ هذا من الغرور, لا يكفي أن يهز أحدنا رأسه يمينًا وشمالاً أو أن تدمع عيناه ثم يعود بعد ذلك إلى ما كان عليه, إنما المواعظ والخطب للعمل, إنما هذا العلم الذي نتلقاه كل جمعة إنما هو للعمل وأنت موقوف أمام الله عز وجل ومحاسب على علمك ما عملت به, عن هذا العلم الذي تتلقاه في كل جمعه أنفذته أم ألقيته وراء ظهرك.
احذروا عباد الله تعالى من الغرور وعليكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية, واعلموا بأنكم موقوفون أمام الله تعالى ومحاسبون على الصغيرة والكبيرة, ونحن في عشر كان رسولنا يخصه من القيام ومن الذكر ومن العبادة ما لا يخص به العشرون المنصرفة, كان إذا دخل العشر شد مئزره وأيقظأ أهله, ما أخذ أهله إلى الأسواق أيامًا متتالية يلعبون ويمرحون, وإنما أيقظ أهله للصلاة ولتلاوة القرآن, أيقظ أهله وأحيا ليله , وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وفي هذه العشر ليلة هي خير من ألف شهر, هذه الليلة من حُرم خيرها فقد حُرم الخير كله, ومن أصاب خيرها فقد أصاب الخير كله, هذه الليلة هي ليلة القدر, ومن أحيا الأوتار من هذه العشر فهو على خير في إصابة هذه الليلة إن شاء الله, ومن أحيا هذه العشر فهو من الذين ينالون هذه الليلة إن شاء الله يقول : ((من صلى مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة)) من انتظر مع الإمام حتى ينصرف من صلاته صابرًا محتسبًا طول القيام فإنه يكون من الذين قاموا الليل كله, هكذا قال رسول الله.
وهناك آداب يفعلها المرء إذا أراد القيام إذا قام من منامه يذكر الله تعالى ليطرد عنه الشيطان ولئلا يكسل عن القيام ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)) ويستاك كما كان الرسول يستاك ويتوضأ وضوءه للصلاة, ويأتي إلى المسجد, ولو استطاع أن يقرأ: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب إلى نهاية السورة لكان خيرًا, ثم يدخل مع الإمام وينصت للتلاوة ويتدبر آيات الجنة وآيات النار فهو من المخاطبين بهذه الآيات, ولا يكن ساهيًا لاهيًا, لا يكن بجسده في المسجد وقلبه في السوق وفي البيت, يتدبر كتاب الله ويتأمل فيه ويبكي ويبتاكى ويتذكر الموت الذي هو لاحق به ويتذكر رحمة الله به إذ أمهله حتى بلّغه مقام التوبة, يتذكر ذنوبه ولطف الله عز وجل به إذ لم يحاسبه ولم يعاقبه حينما كان مرتكبًا لتلك الآثام, ويركع ويعظم الرب في الركوع ويقول: ((سبوح قدوس رب الملائكة والروح)) فإذا رفع قال: ربنا لك الحمد, وإذا كان في السجود أكثر من الدعاء؛ فهذا هو موطن السجود.
وبعض الناس لا يعرف الخشوع والبكاء إلا في دعاء القنوت, ويترك آيات الله التي فيها الجنة والنار, وهذا من الغرور, وهذا من الجهل وقلة التدبر في آيات الله عز وجل, فإذا انتهى من الصلاة فإنه يقول: سبحان الملك القدوس, سبحان الملك القدوس, سبحان الملك القدوس (ثلاثًا) يمد صوته ويمد أكثر في الثالثة, يفعل هذه الأمور في القيام, ثم يقرأ القرآن إن كان هناك متسع بعد ذلك في الوقت يفعل ذلك.
ويخص الليالي التي أخبر الرسول فيها بميعاد ليلة القدر ظنًا أكيدًا, ومن هذه الليالي التي قالها أكثر العلماء وجاءت الأحاديث بها كثيرة ليلة السابع والعشرين, هذه الليلة جاء عن النبي في بعض الحاديث أنها ليلة القدر, ماذا نفعل في هذه الليلة؟ نقوم هذه الليلة لأن الرسول قال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) وبعض الناس يخص هذه الليلة بالعمرة بل أعرف بعضهم يأخذ العمرة في ليلة السابع والعشرين ويطوف بالبيت ويعتمر والناس يصلون القيام, ولو ذهب مستريحًا مجمعًا لقواه حتى يكون هناك في بيت الله في الحرم لكان خيرًا له؛ الرسول ما خص ليلة السابع والعشرين بعمرة وإنما قال: ((عمرة في رمضان تعدل حجة معي)) تأتي بالعمرة أي وقت من الأوقات وتفرغ في العشر الأواخر للقيام الذي ندب الرسول إليه فنكثر من تلاوة القرآن ومن قول: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
وإنما الأعمال بالخواتيم بعض الناس تراه مقبلاً نشيطًا في أوائل رمضان ثم تراه يفتر في الأيام الآخيرة ينشغل بتجارته ويكسل وينام في البيت, وهذا من عدم التوفيق للعبادة لأن الأعمال بالخواتيم كما قال , فأروا الله من أنفسكم خيرًا في خواتيم هذا الشهر لعل الله عز وجل أن يصفح عنا إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغُرّ المحجلين محمد صلوات الله وسلامه عليه, أما بعد:
اعلموا إخوة الإيمان بأن الله عز وجل قد فرض لنا عبادات في نهاية هذا الشهر, هي عبادات جليلة عظيمة يختم الإنسان بها هذا الشهر الذي ربما فرط فيه وخَلّط, ومن رحمته عز وجل لعلمه سبحانه وتعالى بضعف عباده فإنه قد شرع لنا زكاة الفطر(صدقة الفطر) حتى نتخلص ونتطهر بها من الآثام والمعاصي التي خلطناها بالصيام, هي طهرة للصائم من اللغو والرفث من بعض الكلمات التي لا يلقى لها حسابًا ربما خرجت منه وكتبت عليه, فإذا أخرج هذه الصدقة وأراد بها وجه الله عز وجل فإن الله يكفر بها عنه الآثام والخطايا التي اقترفها من غير شعور.
هذه عبادة جليلة وأكدها النبي فيجب على كل إنسان منّا إخراجها عن نفسه, وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب, وإذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم, فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً, ولا تجب إلا عمن وجدها فاضلة زائدة عما يحتاجه من نفقة يوم العيد وليلته, فإن لم يجد إلا أقل من صاع أخرجه لقوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم وقول النبي : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)), وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين, فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود وابن ماجه.
وما هي الشيء الذي يخرجه في صدقة الفطر يخرج من جنس الواجب في الفطرة فهو طعام الآدميين يخرج طعامًا من تمر أو بُر أو زبيب أو أقِط أو غيرهما من طعام الآدميين ففي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: "فرض زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير" وكان الشعير يوم ذاك من طعامهم كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: "كنا نخرج في يوم الفطر في عهد النبي صاعًا من طعام وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقِطّ والتمر" رواه البخاري.
على هذا لا يجوز للإنسان أن يُخرج من الثياب ومن الفُرش والأواني والأمتعة وغير ذلك مما سوى طعام الآدميين؛ لأن النبي فرضها من الطعام فلا تتعدى ما عينه الرسول ولا يجزأ إخراج قيمة الطعام يعني المال ـ يعني الفلوس ـ لأن ذلك خلاف ما أمر به الرسول , وقد ثبت عنه أنه قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد)), ولأن إخراج القيمة مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم حيث كانوا يخرجونها صاعًا من طعام وكان بين أيديهم الدراهم والذهب وكانت هذه المعادن لها قيمة عندهم, ومع ذلك ما أخرجوها نقودًا, ولأن النبي عينها من أجناس مختلفة وأقيامها مختلفة غالبًا, فلو كانت القيمة معتبرة لكان الواجب صاعًا من جنس وما يقابل قيمته من الأجناس, ولأن إخراج القيمة يخرج الفطرة عن كونها شعيرة ظاهرة إلى كونها صدقة خفية, ويجب أن يخرج مقدارها, ومقدار الفطرة صاع بصاع النبي الذي يبلغ وزنه بالمثاقيل 480 مثقالاً من البُر الجيد, وبالغرامات الكيلو يساوي كيلوين وخمس عشر كيلو من البُر الجيد لأن وزنه بالمثقال أربعة جرامات وربع, فيكون مبلغ أربع مائة وثمانين مثقالاً ألفي جرام وأربعين غرامًا, فيخرج كيلوين وأربعين غرامًا, ولو زاد على ذلك فلا بأس فليزن كيلوين وأربعين غرامًا من البر ويضعها في إناء بمقدارها بحيث يملأه ثم يكيل به.
متى يخرج زكاة الفطر؟ يجب إخراج الفطرة وقت خروج رمضان, وهو غروب الشمس ليلة العيد فمن كان من أهل الوجوب حينذاك وجبت عليه وإلا فلا, وعلى هذا إذا مات قبل الغروب ولو بدقائق لم يجب الفطرة, وإن مات بعدها ولو بدقائق وجبت عليه, ولو ولد شخص بعد الغروب ولو بدقائق لم تجب فطرته لكن يُسن إخراجها عنه, ويجب إخراجها عن المسلم وعمن تلزمه مؤونته, وأما الإخراج عن الجنين فلم يرد فيه شيء عن النبي.
والواجب أن تصل الزكاة لمن يستحقها, وبعض الناس يفرط فيشتري من هنا ويعطي من هنا من غير أن يتحرى حاجة الآخذ, والواجب عليه أن يبحث عن الفقراء والمساكين الذين يحتاجون هذه الصدقة فإن لم يجد يذهب إلى الذين يعرفون الفقراء من أئمة المساجد ومن الإخوة الفضلاء, فيعطيهم هذه الصدقة, وهذه وكالة في الصدقة, تجوز, ولا بأس أن يوكل من أول الشهر أو من أول العشر, يجوز أن يوكل قبل الوقت ويجب على الوكيل أن يخرجها في وقتها قبل الصلاة فإن نواها الشخص ولم يصادف ولا وكيله وقت الإخراج فإنه يدفعها إلى مستحق آخر ولا يؤخرها عن وقتها, لو قال لوكيله: اعط هذه الصدقة لآل فلان للبيت الفُلاني فذهب وفي وقت الإخراج فلم يجد أحدًا في البيت فإنه يعطيها لغير هؤلاء ولا يؤخرها عن وقتها ولا يلقيها عند الباب هكذا, بل يبحث عمن يحتاجها من غير هؤلاء, وأما مكان الدفع تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج سواءًا كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين لو كان هو من أهل مصر وهو هنا في هذه البلاد يخرج زكاة الفطر في هذه البلاد, لو كان من أهل السودان وهو هنا في جده فإنه يعطي زكاة الفطر لفقراء أهل جده, وهكذا فإنه يعطي زكاة الفطر لفقراء البلد الذي هو فيه, فإذا لم يعرف الفقراء الذين في البلد الذي هو فيه فإنه يدفعها إلى من يعرف الفقراء في بلد آخر.
والمستحقون لزكاة الفطر هم: الفقراء ومن عليهم ديون لا يستطيعون وفائها, فيعطون منها بقدر حاجتهم, ويجوز توزيع الفطرة على أكثر من فقير ويجوز دفع عدد من الفِطّر إلى مسكين واحد, وذلك أن تدفع نصيب أهل بيتك لمسكين واحد, هذا جائز ومثله أن توزع نصيبك على أكثر من واحد, هذا جائز لأن النبي قَدَّر الواجب ولم يُقَدر من تدفع إليه, وعلى هذا فلو جمع جماعة فطرهم في وعاء واحد بعد كيلها فصاروا يدفعون منه بلا كيل ثانٍ أجزأهم ذلك, ولا أنسى أن أنبه في نهاية هذه الخطبة إلى مسألة العيد, إلى صلاة العيد, فبعض الناس يقصر في هذه الصلاة التي هي واجبة أوجبها الرسول لا على الرجال فحسب وإنما حتى على النساء, وإنما حتى على الحُيّض والعواتق, وهن النساء الكبيرات في السن الللاتي جلسن في بيوتهن, وكان من هديه أن يصلي هذه الصلاة في المصلى, ما كان هديه أن يصليها في المسجد كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ـ يعني صلاة العيد لا يصلي تحية المسجد ـ رواه البخاري.
وفي الصحيحين: أمرنا رسول الله أن نخرجهن ـ يعني النساء ـ في الفطر والأضحى والعواتق والحُيّض وذوات الخدور, فأما الحُيّض فيعتزلن الصلاة ـ الحائض تجلس في المصلى ولا تصلي, تعتزل المصلى (مكان صلاة النساء) ويشهدن الخير ودعوة المسلمين, قلت: يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب, ما يكون لها ما تستر به نفسها حين الخروج قال : ((لتُلبسها أختها في جلبابها)).
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وفيه الخروج إلى المصلى, ولا يكون في المسجد إلا عند الضرورة" عندما يكون المطر شديدًا وعندما تكون البلد جبال, ولا مكان فيه ولا ساحة في البلد ـ كمكة مثلاً لمشقة الخروج إلى الساحات خارج مكة ـ يجوز الصلاة في المسجد, أما في الأماكن التي فيها ساحات ـ البلاد التي فيها ساحات, فيجب الصلاة في المصلى وحتى لا يحرم الحيض دعوة المسلمين, فكيف تدخل الحائض المسجد؛ لذلك شرع لنا لحكم جليلة أن نصلي صلاة العيد في المصلى.
والتكبير إنما يكون بعد صلاة الفجر, يخرج المرء منا من بيته مكبرًا بعد أن يأكل تمرات ويجعلها وترًا, هذه هي السنة ويخرج من بيته مكبرًا وهو وأولاده وأهل بيته ـ والنساء لا يرفعن أصواتهن ـ حتى يأتوا المصلى فلا يكبروا على صوت واحد جماعة, وإنما التكبير فُرادى, فليس هناك ذكر جماعي لا في العمرة في التلبية ولا في تكبيرة العيد, كلٌ يكبر لوحده فإذا جاءوا المصلى جلسوا وكبروا حتى يأتي الإمام ويصلون مع الإمام, ويستحب لهم أن يحضروا خطبة الإمام ليستفيدوا من العلم والموعظة.
(1/1374)
الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأغاني مصيدة من مصايد الشيطان. 2- اهتمام شبابنا بأخبار المغنين ومتابعتهم لأغانيهم
وفسقهم. 3- نصوص تحريم الغناء. 4- تغير الأسماء لا يغير الأحكام. 5- إباحة الدف للنساء
في الأعراس والأعياد. 6- أقوال العلماء في الغناء والمغنيين. 7- الغناء رقية الزنا. 8-
منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول سبحانه وتعالى عن إبليس اللعين في سورة الأعراف: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين , وقال أيضًا: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين , فمن مكائد عدو الله ومصايده التي كاد بها الذين وصفوا بقلة العقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين المبطلين الإستئناس إلى سماع الأغاني والموسيقى التي تصد القلوب عن القرآن وتجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان حتى وصل الحال بهذه الأمة في هذه الأزمان إلى ترويج بضاعة من ليس لهم خلاق عند الله سبحانه وتعالى إلا بتبجيل أصحاب الغناء والموسيقى, إلى رفعة شأنهم..,إلى إظهار صورهم وأغانهم في كل مكان.., حتى أصبح الشباب والشابات يملأون أوقاتهم بهذه الأغاني الفاجرة, ولازلت تجد في أجواء بيوت كثيرة وفي أرجاء منازل عدة أصوات هؤلاء المغنيين والمغنيات, فترى الشاب على علم بهؤلاء وأسمائهم وصورهم, على علم بأوقات أغنياتهم التي تُبث في إذاعاتنا.. ومن وراء ذلك الصحف والمجلات الفاجرة التي تُشيد بهؤلاء المطربين فتذكر أسمائهم ومنجزاتهم في الأغنيات والموسيقى حتى يتربى الشباب على هؤلاء, ولو سألت بعض شبابنا عن بعض فرائض دينه أو عن الثلة الأولى من صحابة رسول الله الذين نشر الإسلام على أيديهم لقال لك: "هاه, هاه. لا أدري", بل لو سألت أحدهم عن مواقيت الصلاة لقال لك: لا أدري, وكيف يدري؟! ومن أين له أن يدري وهو يعكف على هذه الأغاني آناء الليل والنهار؟. من أين له أن يدري ووسائل الإعلام تعلمه أغنية فلان وفلانة. أنَّى له أن يدري عن هؤلاء الأبطال وسيرهم.. أنَّى له أن يدرى عن سيرة رسول الله وعن شمائله وعن طريقة منامه واستيقاظه عن طريقة أكله, حُق له أن يدري عن المغنية فلانة كيفية أكلها, حق له أن يدري عن شراب المغني فلان, حُق له أن يدري عن سيارة المغني فلان والمغنية فلانة.. حُق له أن يبعد عن صفات الرعيل الأول.
أيها المسلمون من كان في قلبه شك من تحريم هذه الآفة فليُزِل الشك باليقين يستمع إلى كلام رب العالمين وأحاديث سيد المرسلين في تحريمها وبيان أضرارها من النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة, والمؤمن يحتاج فقط إلى آية واحدة من كتاب رب العالمين أو إلى حديث واحد من صحيح سنة المصطفى ليستمسك بأمر الله وليترك هذه الآفة, قال سبحانه وتعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا.
والنصوص من القرآن الكريم على تحريم الغناء والموسيقى عديدة استمع أيها الأخ الحبيب إلى كلام ربك عز وجل في سورة لقمان في تحريم الغناء يقول سبحانه وتعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرًا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا فبشره بعذاب أليم أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث في الآية الغناء؛ لأنه يلهو عن ذكر الله لأنه من أكبر الملاهي عن ذكر الله.
وورد النص في ذلك عن الصحابة الكرام, فهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: "هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلاً ونهارًا, وسُأل أبو الصهباء عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عن الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله فحلف, أقسم بالله تعالى قال: والله الذي لا إله غيره الغناء قالها ثلاث مرات.
صدقت ياابن مسعوذ وإن لم تقسم بربك.. والله الذي لا إله غيره الغناء...
وإن أردت أن تعرف بأن الغناء من شهادة الزور وإن عباد الرحمن لا يشهدون الزور اذهب إلى قول المفسرين في آخر سورة الفرقان لتجد قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كرامًا لتجد قول محمد بن الحنفية يقول: الزور هو الغناء؛ لأنه يميل بك عن ذكر الله, والذين لا يشهدون الزور. قال المفسرون: "لم يقل الله تعالى والذين لا يشهدون بالزور" وإنما قال: "الزور" حتى يكون المراد: أي لا يحضرون الزور أي الغناء.
وإذا أردت أن تعرف بأن الغناء والموسيقى من قرآن الشيطان وأن المزامير صوته اذهب إلى سورة الإسراء لتجد قول الله تعالى للشيطان وحزبه: واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال عكرمة عن ابن عباس في قوله: واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال كل داع إلى معصية ولذلك قال مجاهد رحمه الله تعالى: صوت الشيطان المزامير, وإذا أردت يا عبد الله أن تعرف بأن الغناء يصد عن القرآن فاستمع إلى قوله تعالى في سورة النجم: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون قال ابن عباس: السمود في لغة حِميّر يعني الغناء, يقال: اسمُدي لنا يا جاره أي غني لنا؛ ولذلك قال أبو عبيدة: المسمود هو الذي يُغني له.
وإذا كانت الآيات قد دلّت على ذلك فأحاديث رسول الله صريحة في الدلالة على تحريم الغناء, استمع إلى المصطفى فيما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث هشام بن عمار عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن المصطفى قال: ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحِرَّ والحرير والخمر والمعازف يسمونها بغير اسمها.. وليَنزلن أقوام إلى جنب علم فيروح عليهم سارحتهم فيأتيهم لحاجة فيقول ارجع إلينا غدًا فيبهتهم الله ويضع العلم ـ أي ويضع الجبل ـ ويمسخ الآخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)) قال العلامة ابن القيم: ولم يصب شيئًا من قدح في صحة الحديث كابن حزم نصرةً لمذهبه في إباحة الملاهي, ومن كان له عناية بإسناد حديث رسولنا فليرجع إلى كلام الحافظ ابن حجر في فتح الباري في المجلد العاشر في الصفحة الحادية والأربعين منه, إلى أقوال العلماء في صحة هذا الحديث الوارد عن نبينا في حرمة الغناء.
وقوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون)) أي محرمة هذه الأشياء التي تؤتى, يستحلون والاستحلال لا يكون إلا بعد تحريم.. يستحلون الحِر: يعني الفجور والزنا عياذًا بالله والخمر والمعازف يسمونها بغير اسمها فيسمون الخمر مشروبات روحية ويسمون الزنا علاقة شخصية ويسمون الغناء والمعازف فنًا يسمونها بغير اسمها؛ ظنًا أن الأشياء إذا سُمِّيت بغير اسمها تغيرت أحكامها وبطل ظنهم؛ فالله سبحانه وتعالى أنزل الحلال وأنزل الحرام فهو حلال إلى يوم القيامة وهو حرام إلى يوم القيامة مهما تبدلت الأسماء والألقاب.
وتوعد الذين يعكفون على المعازف ـ الذين يعكفون على الموسيقى ـ بالمسخ والقذف, ففي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال : ((يكون في أمتي خسفٌ وقذفٌ ومسخ)) قيل: يا رسول الله, متى؟ قال: ((إذا ظهرت القينات والمعازف واستحلت الخمر)) وفي رواية: ((إذا ظهرت القيان وشُربت الخمور)) , أي إذا ظهر ذلك حدث في أمتي خسف (أن يُخسف بهم وأن يمسخوا قردةً وخنازير وأن تنزل حجارةً من السماء فتصيبهم بسوء أعمالهم).
وذلك صريح في روايات أخرى من ذلك قوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر ويعزف على رءوسهم بالقيان يمسخهم الله تعالى قردة وخنازير)) قال بعض أهل العلم: إن الإنسان إذا امتلىء قلبه بالفسق والخداع والغش فإنه يشابه بعض الحيوانات.. فأنت ترى في وجوه بعض الناس مشابهة لبعض الحيوانات التي تتصف بالصفات الذميمة, فما تزال تلك الصفات تستشري في نفسه حتى ترى ذلك على وجهه, فما يزال يتقوى حتى يقلب الله عز وجل صورته الظاهرية لتوافق صورته الباطنية.
قال ابن القيم: "فمن كان ختالاً خدّاعًا رأيت مسحة القرد على وجهه, ومن كان رافضيًا رأيت مسحة الخنزير على وجهه, ومن كان نهاشًا رأيت الصورة الكلبية على وجهه فصورة وجهه صورة كلب؛ ولهذا قال في الذي يرفع رأسه قبل الإمام: (( أما يخشى أن يحول الله صورته صورة حمارًا أو وجهه وجه حمار)) وذلك لبلادته وعدم فطنته, فهو يرفع رأسه قبل الإمام في الركوع وفي السجود مع أنه سيسلم مع الإمام فيفسد على نفسه صلاته؛ ولهذا قال في الحديث: ((يمسخهم الله تعالى قردة وخنازير)) وأخرج الإمام أحمد في مسنده وكذلك أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسولنا أنه قال: ((إن الله حَرّم على أمتي الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام)) والكوبة كما قال سفيان هو الطبل. والغبيراء نوع من الشراب المسكر يتخذ من الذرة الحبشية, قال : ((إن الله قد حرم)) , وما دام قد حَرَّم فمن يستطيع أن يُحل ما حرم الله.
وجاء رجل إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أرأيت الغناء أحلال هو أم حرام؟ رجل يسأل عن غناء الأعراب الذي ليس فيه معازف وليس فيه تشبيب بالنساء فيسأله أهو حلال أم حرام. قال ابن عباس: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب الله. قال: أحلال هو؟ قال: ولا أقول ذلك. ثم قال ابن عباس رضي الله عنهما, أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ قال الرجل: يكون مع الباطل. قال ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.
فالإنسان الذي على الفطرة السوية يعلم بأن الغناء باطل, وأن الباطل يدحضه الله عز وجل بالحق, وأن الباطل ليس من الحق في شيء, ولذلك سماه أبي بكر الصديق رضي الله عنه مزمار الشيطان.. إذًا الشيطان يُزمّر فإذا زمَّر جمع أهل الهوى.
قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله وعندي جاريتان تغنيان في يوم بعاث فأدار وجهه, فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني فقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله , فأقبل رسول الله بوجهه فقال: ((دعها)) فلما سكن غمزتهما فخرجتا, وفي رواية قال : ((يا أبا بكر إن لك قوم عيدًا وهذا عيدنا)).
فسمى أبو بكر رضي الله تعالى عنه الغناء بمزمار الشيطان... وبعض الذين يتبعون الهوى يستدلون بهذا الحديث على حِليّة الغناء والموسيقى, وليس الأمر كما ذهبوا إليه فإن ذلك مما رخّص فيه النبي , فالرسول عليه الصلاة والسلام أباح الغناء بالدف للنساء في أوقات الزواج وكذلك في الأعياد وحث على ذلك , بل ذلك من السنة وذلك في صحيح البخاري "أن عائشة رضي الله عنها لما رجعت من نكاح قال لها : ((أما كان معكم لهو؟)) فقالت: لا يا رسول الله, فقال: ((هَلاّ ضربتم بالدف وقلتم
أتيناكم أتيناكم فحيانا وحيّاكم
ولولا الحنطة الحمراء لما سمنت عذاريكم))
إلى آخر كلامه , فهذا يدل على أن الدف الذي يسمى بالطار مباح للنساء في وقت الأعياد والنكاح ـ كما قال العلماء ـ توسعة للعيال في وقت الأعياد. وليس فيه إباحة الغناء بالجمع بين الأدلة كما تقدم معنا. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه... الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا , والصلاة والسلام على رسولنا الذي أبان الرسالة وأوضحها أوضح بيان فصلى الله عليه وعلى الصحابة أجمعين.
ومن كلام الأئمة الأعلام الذين يرشدون الناس إلى الهدى ويبعدوهم عن الردى, من كلام الذين يبينون لنا الحلال ويبعدوننا عن الحرام ما قاله الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في الغناء إذ حرمه تحريمًا شديدًا, وقال: "إن الرجل إذا اشترى جارية فرآها مغنية كان له أن يردّها بالعيب". فقد جعل الغناء في الجارية عيبًا, وسأله رجل عما يباح عند أهل المدينة من الغناء فقال: "ما يفعله عندنا إلا الفساق".
وسُئل عبد الله ابن الإمام ـ الإمام بن حنبل ـ عن الغناء فقال: "الغناء ينبت النفاق في القلب ولا يعجبني", والشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ قال مثل هذا وأغلظ في القول هو وأصحابه من القدامى وكذلك العارفون بمذهبه كما أوضح ذلك الأئمة الأعلام, وأبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ كذلك من أشدّ الأئمة كذلك في تحريم الغناء, ويرى أن فاعله من الفساق ويرى الذين يمكثون عليه ممن ترد شهادتهم.
فهل بعد هذه الأقوال من قول في إباحة هذه الآفة.. هل بعد هذه الأقوال من رجل يقول لنا الغناء قسمان قسم فيه فجور وخنا وهو حرام وقسم يباح إذا لم يكن فيه ذلك.
هل نستمع إلى هذا الكلام بعد كلام ربنا وبعد كلام رسولنا فنتحدث في مجالسنا عن الأغنية الفلانية وعن المغني الفلاني.. نتحدث عن هؤلاء الذين ينبغي لنا أن نذمهم.
لو نظرنا في سيرة سلفنا الصالح لوجدناهم يبغضون الغناء حتى الفجار منهم حتى الشعراء منهم الذين سلطهم الله على الخلق كانوا يكرهون الغناء ويعدونه من الفجور.
فهذا الحُطيئة سليط اللسان تهاب العرب لسانه وتكره هجاءه قال أبو عبيدة معمر بن المثنى وجاور الحطيئة قومًا من بني كلب فمشى ذو الدين منهم بعضهم إلى بعض وقال: يا قومنا لقد أتاكم داهية.. هذا رجل شاعر, والشاعر إذا ظن حقق ولا يستأني فيتثبت, وإذا أعطى فلا يعفو فجاءوا إليه وهو في فناء خبائه فقالوا يا أبا مُليكة إنه قد عظم حقك علينا بتخطيك القذى إلينا فمُرنا بما تحبه فنأتيه ومرنا بما تكرهه فننزجر عنه, فماذا قال هذا الشاعر الهجّاء؟ قال: لا تأتوني كثيرًا فتُمِلوني, ولا تسمعوني أغاني شبيباتكم فإن الغناء رقية الزنا.
فإذا كان ذلك الشاعر المفتون اللسان الذي تهابه العرب يخاف عاقبة الغناء ويخشى من أن تسير هذه الرقية إلى قلوب حرمته فما الظن بغيره, ولا ريب أن الرجل الذي يجنب أهله سماع الغناء كما يجنبهم أسباب الريب لاشك أنه رجل فطن, الذي يخشى على شرفه والذي يقيم وزنًا لكرامته يمنع أهله ـ يمنع أمه وزوجه من الاستماع إلى مغنٍ فاجر, ويمنع أخته وبنته من الاستماع إلى مقطوعة من موسيقار لا يرقب في الله إلاً ولا ذمة, يفسد قلب هذه البُنية الطاهرة الصغيرة العفيفة, لا ريب أن الغيور يكره أن يستمع أهله وأزواجه وبناته إلى المغنيين والمغنيات إلى هؤلاء الفجار الذين يفسدون علينا ولا يصلحون.
ولقد قال كثير من الأقوام: إذا استعصت المرأة على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء فإن سمعت المرأة صوت الغناء لانت وهانت عليها الفاحشة.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا, وكم من حُر صار به عبدًا للصبيان أو الصبايا, وكم من غيور احتمل إثمًا بين البرايا هو من القبيح. وكم من إنسان معافًا لما سمع الغناء أصبح وقد حلّت به البلايا. وهذا الذي يأخذ على الغناء المال والله الذي لا إله إلا هو إنما هو الوبال, أي نعم إنه هو الوبال ماذا سيقول لربه عندما يوقفه بين يديه فيقول: عبدي من أين اكتسبت هذا المال؟ يستأجر المغنية أو يستأجر لمغني في ليلة بآلاف الريالات, ماذا سيقول لربه حين يسأله: عبدي أنعمت عليك بالمال فأين أنفقت المال في يوم كذا وكذا؟ ماذا سيجيب ربه! أيقول له أنفقت على المغنية الفلانية اثنى عشر ألفًا وضعت هذا المبلغ في جيبها! وضعت هذا المبلغ في جيب المغني الفلاني! والمسلمون في ذلك الوقت يذبحون وهم في أشدّ الحاجة لهذا المال! ماذا سيقول له؟!!
فوالله الذي لا إله إلا هو إنها لغصة في الخلق وإنها مزيلة للنعمة جالبة للنقمة وذلك من عطية واحدة من العطايا. فكم خبأت لأهل ذلك المغني, أو لأهل ذلك الذي يشتري المغنيات, كم خبأت لأهله من الآلام المنتظرة؟ وكم خبأت من الهُموم المتوقعة ومن الغموم المستقبلة..
فسل ذا خبرة يُنبئك عنهم لتعلم كم خبايا في الزوايا
اسألوا الناس لتعلموا كم خبايا في الزوايا, فهم يطلبون المساعدة.. يطلبون المال لجائحة أتت عليهم ويصبح المرء حرًا عفيف الفرج, فيُمسي ـ عياذًا بالله ـ محبًا للصبيان والصبايا, واقعًا في الفحش والخنا.
وصدق ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ حين قال: "برئنا من معشر بهم مرض من الغنا ـ أي بهم مرض بسبب الغناء والمعازف ـ وتكرار ذا النصح منا لهم لنُعذر إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا" ماتوا على المعازف والموسيقى, وبعد أن ماتوا ما اتعظ الآخرون بغيرهم بل حملوا صورهم وأبانوا للناس أنهم فعلوا ما لم يفعله العظماء وأنهم كانوا ذخرًا للأمة ليقتدي بهم الشباب وبئس ما فعلوا وبئس ما سطروا, وليُسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون.
(1/1375)
الكلمة الطيبة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تشبيه الكلمة الطيبة بالنخلة. 2- إرضاء الناس غاية لا تدرك. 3- قصد رضا الله وحده.
4- اطمئنان النفس وتكونها في امتثال أوامر الله. 5- استسلام إبراهيم وإسماعيل لأمر الله.
6- صورة من سعادة المسلم واستقراره وطمأنينته بطاعة الله. 7- الآجال والأرزاق أقدار
مكتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
أتعرفون ما هاتان الشجرتان؟ هاتان الشجرتان ليستا من الأشجار التي نعهدها في الدنيا, الشجرة الأولى هي شجرة الإيمان التي قال الله عنها: ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها إنه الإيمان الذي إذا حَلّ في العبد المؤمن تفتق فيه كل الخيرات وأصبح إلى طاعة ربه من السابقين, هذه الشجرة التي تشبه العبد المؤمن قال عنها النبي أنها النخلة, فالنخلة أصلها ثابت, جذورها في أعماق التربة وتؤتي ثمارها كل حين على مدار السنة.
وفي مقابل ذلك يضرب الله تعالى المثل للكفر بالشجرة الخبيثة بشجرة الحنظلة التي لا أصل لها وإن كان لها أصل, فأصلها ليس بالثابت, فهذه الشجرة الخبيثة مثل يضربه الله تعالى للكفر وما فيه الكافر من عدم إتزان ومن عدم قرار ومن عدم سوية في الأمر, وما أحوجنا أن نقف عند حياة المؤمن لنعرف كيف ينبغي على المسلم أن يكون.
إن الإنسان خلق ليعرف ربه ويعبده, إنه لنبأ عظيم حقًا أن يكون الإنسان لم يخلق لنفسه, وإنما خلق لعبادة ربه, لم يخلق لهذه الدنيا الصغيرة الفانية, إن المؤمن يعيش لربه الأعلى ولحياته الأخروية أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق تعالى الله أن يخلقنا عبثًا, تعالى الله أن يخلق السموات والأرض لاعبًا.
نريد أن نقف على باب حياة المؤمن الصادق وقفات, وأن نعرف كيف هو؟ نجد أولاً في حياة المؤمن الصادق وضوح الغاية والطريق, المؤمن حياته واضحة لا غبن فيها ولا ريب, والطريق كذلك واضح المعالم, غير المؤمن يعيش في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة وتتنازعه غايات شتى, هذه تميل به ذات اليمين وهذه تميل به ذات الشمال, لا يدري أيها يرضى حائر حتى في ارضاء المجتمع أي الأصناف يرضيهم ويسارع في هواهم, فإنه إن أرضى أناسًا لا يرضي عنه آخرون, فإن رضى الناس غاية لا تدرك.
إذا رضيت عليّ كرام عشيرتي فما زال غضبانٌ عليّ لئامها
والعكس بالعكس طبعًا, إذا رضي اللئام غضب الكرام, وتذكرون الحكاية المشهورة وهي حكاية الشيخ وابنه وحماره.
ركب الشيخ ومشي الولد وراءه, فتعرض الرجل للوم النساء, فركب الولد ومشى الرجل فتعرض الولد للوم الرجال, وركبا معًا فتعرضا لدعاة الرفق بالحيوان, ومشيًا معًا والحمار أمامهما فتعرضا لطرف أولاد البلد فقال الولد لوالده: دعنا نمشي ونترك الحمار فقال الوالد: يا بني فإن الناس لا يرضون, وسيقولون: مجنون مجنون.
وفي هذا قال:
ومن في الناس يرضي كل نفسٍ وبين هوى النفوس مدى بعيدُ
المؤمن حقًا قد استراح من هذا كله وحصر الغايات كلها في غاية واحدة, عليها يحرص وإليها يسعى, وهو رضوان الله تعالى, لا يبالي بعد ذلك رضي الناس أو سخطوا عليه, شعاره في ذلك كما قال الشاعر:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرُ وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب ترابُ
المؤمن جعل الهموم همًا واحدًا, وهو سلوك الطريق الموصل لله تعالى, وهو الذي يسأل الله تعالى في كل صلاة عدة مرات اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم , هو طريق واحد لا عوج فيه ولا التواء وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به , وما أعظم الفرق بين رجلين أحدهما عرف الغاية وعرف الطريق إليها فاستراح, وآخر ضال يخبط في عماية ويمشي في غير غاية, لا يدري إلى ما يسير ولا أين المصير أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أم من يمشي سويًا على صراط مستقيم استهان المسلم في سبيل هذه الغاية, في سبيل إرضاء ربه كل صعب, واستعذب كل عذاب, واسترخص كل تضحية بل قدمها راضيًا مستبشرًا ألا ترى إلى ذلك المجاهد الحبيب إلى "خُبيب" حيث أحاط به المشركون وصلبوه, أحاطوا به يظهرون الشماتة فيه يحسبون أنه ستنهار أعصابه أو تذل نفسه لكنه نظر إليهم بيقين ورفع رأسه وهو ينشد هذه الأبيات:
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أن جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ألا ترى إلى ذلك الرجل من الصحابة ومن تبعهم بإحسان من التابعين كيف كان أحدهم يخوض عُباب المعارك, والموت يبرق ويرعد وهو يقول: عجلت إليك ربي لترضى, متمثلاً في ذلك النبي الكريم موسى عليه السلام وعجلت إليك ربي لترضى ألا تسمع لأحدهم وهو قد نفذ الرمح في صدره حتى وصل إلى ظهره فما كان منه إلا أن قال وهو يرى هذا المنظر: "فزت ورب الكعبة ".
في غزوة الأحزاب وقد ابتلي المؤمنون ابتلاءًا شديدًا زاغت الأبصار, بلغت القلوب الحناجر, ماذا قال المؤمنون؟ قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله في هذا الجو المليء بالصعوبات في موقف المعركة تجد موقف السكِينة والطمأنينة تتنزل عليهم, سجل الله تعالى ذلك في سورة الأحزاب فقال عز وجل: ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا ما الذي وهب هؤلاء السكِينة في أثناء القتال؟ من الذي منحهم ذلك وقد عرفوا الموت, إن الإيمان وحده هو الذي دخل في قلوبهم وصدق الله حين قال: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم , قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
بهذا الصراط المستقيم كان المؤمن في أخلاقه, في سلوكه مطمئنًا غير قلق, ثابتًا غير متقلب, واضحًا غير متردد, مستقيمًا غير معوجّ, بسيطًا غير معقد, لا يحيره تناقض الاتجاهات ولا يعذبه تنازع الرغبات, ولا يحطم شخصيته الصراع الداخلي في نفسه أيفعل أم يترك؟ أيفعل هذا أم ذاك؟ إن للمؤمن مبادئ واضحة ومعايير ثابته يرجع إليه في كل عمر, فتعطيه الإشارة وتفتح له الطريق, فيقدم على هذا الطريق بوضوح أو تضيئ له النور الأحمر فيحجم وحسبه كتاب ربه عز وجل هاديًا ورسوله معلمًا قال تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي الله به من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.
المؤمن يستشعر في حياته بأنه ممتثل لأمر ربه, لذلك لا تعجب عندما نجد في القرآن العظيم قصصًا فيها الثبات, فيها كذلك الإيضاح التام لأمر الله تعالى, هاكم هذه القصة العجيبة بين أب وابنه المؤمن, أب تمنى أن يكون له ولد حليم, فأوتي هذا الولد على كبر في سنه فأعطاه ما يعطي الوالد ولده من العطف والحنان, رزقه الله تعالى بولد حليم, وجاء أمر الله تعالى إليه بأن يدع هذا الولد وزوجه كذلك في واد غير ذي زرع فامتثل لأمر ربه لا ماء ولا شجر, امتثل لأمر الله تعالى ولما شب الغلام أمره الله تعالى بأن يضع السكين على رقبة هذا الولد الذي تمناه سنينًا طويلة, فماذا كان موقف هذا الأب؟ وماذا كان موقف هذا الابن؟ أسلم الوالد ولده وأسلم الولد عنقه امتثالاً لأمر الله تعالى, سطّر القرآن ذلك عن إبراهيم عليه السلام وكذلك عن إسماعيل فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا هو البلاء المبين , ابتلاه الله سبحانه وتعالى ولما أشار إلى ابنه قائلاً: فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين , ما سر هذا الثبات؟ سر هذا الثبات هو الإيمان واليقين بالله تعالى.
وفي خاتمة القصة: إنه من عبادنا المؤمنين , سر هذا الثبات أن هذا العبد كان من عباد الله المؤمنين, وإذا كنا مؤمنين حقًا فإنا سنثبت في الشدائد ولن نجزع ولن نخاف ولن تأخذنا الأمواج يمنةً ويسرة, فإن الله عز وجل يثبت المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أسأل الله تعالى أن يثبتنا بالإيمان وأن يرسخنا باليقين, أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضى من عباده باليسير من العمل وأفاض عليهم النعمة, وكتب على نفسه الرحمة, وضمَّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, دعا عباده إلى دار السلام حجةً منه عليهم وعدلاً, وخصّ بالهداية والتوفيق منهم من شاءه منّة وفضلاً, فهذا عدله وحكمته فهو العزيز الحكيم, وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغُر المحجلين سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
إذا نظرنا كذلك إلى حياة المؤمن نجد استقرار النفس فيه لقوله سبحانه وتعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون , الأمن هو الذي نراه في حياة المؤمن, الأمن على رزقه, يأمن عليه أن يفوت؛ لأنه يعلم أن الأرزاق في ضمان, فالله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده ولا يضيع عبده, والله خلق الأرض مهادًا وفراشًا وبساطًا, وقدر فيها أقواتها وهو القائل عن نفسه سبحانه وتعالى: الرزاق ذو القوة المتين , ولقد كان المؤمن يذهب إلى ميدان الجهاد حاملاً رأسه على كتفه متمنيًا الموت في سبيل عقيدته, ومن خلفه ذرية ضعاف وأفراخ زُغب الحواصل, لا ماء ولا شجر, ولكنه كان يوقن أنه يتركهم في رعاية رب كريم هو أبرّ بهم, وأحَنّ عليهم منه, وتقول له الزوجة المؤمنة وهو يحمل رمحه في سبيل الله: "اذهب على بركة الله", وتقول لقريناتها ـ وهو ذاهب في سبيل الله ـ: " إنني ما عرفته إلا أكالاً, وما عرفته رزاقًا, ولئن ذهب الأكال لقد بقي الرزاق", نعم إذا ذهب الأكال زوجها بقي الرّزاق ربها, يرزقها صباح مساء.
وفي الحديث عن نبينا : ((إن الرزق ليبحث عن الإنسان كما يبحث عنه أجله)).
المؤمن آمن كذلك على أجله يعلم أن الله تعالى كتب الآجال, ويعلم أن الأجل إذا حل فلا يستقدم ساعة ولا يتأخر؛ لذلك فهو يخوض غمار الحروب, يخوض فيما أمره الله تعالى من غير خوف؛ لأنه يعلم أن الله تعالى كتب أجله وإنه في أي مكان أتى فلا محالة ميت أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة , إذا عرفنا أن حياة المسلم كذلك ينبغي علينا أن نعيش هذه الحياة لنطرق باب الإيمان, ولندخل هذا البيت الآمن, فإذا أدخلناه أمِنا على أرزاقنا وأمِنا على آجالنا, والله عز وجل يقول: وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلمًا ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا.
(1/1376)
المعاصي وأثرها على المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المؤمنون هم السعداء يوم القيامة. 2- الأشقياء بسبب معاصيهم يوم القيامة. 3- أثر
المعصية على المؤمن في الدنيا. 4- تعلق القلوب بغير الله سبب لكثير من الخطايا والبلاء.
5- إلف القلوب لعظيم خلق الله ينسينا روعتها. 6- عندما يغطي الران القلوب لا تشعر بآثار
المعصية وعقوبتها. 7- خوف السلف وورعهم ووجلهم من ذنوبهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس "عليه السلام": للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون الحسنى: أي الجنة, وزيادة: أي النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة لأنهم عملوا الحسنات فلذلك لا يصابون بالذلة يوم القيامة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون فإذا كان هؤلاء السعداء... فمن هم الأشقياء؟.
قال الله سبحانه وتعالى: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وهذا من فضله ومنّه وكرمه ومع ذلك.. مع أن الله يكتبها سيئة واحدة والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون من أكبر صفات أهل النار أنهم عياذًا بالله يقترفون السيئات والمعاصي فتبدو وجوههم يوم القيامة قطعًا من الليل مظلمًا من سوادها وظلمتها كأنها قطع من الليل مظلم يجعلها الله عز وجل كذلك آية ليعرف الفائز من الخاسر... يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياءًا في الوجه ونورًا في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق" إن للحسنة ضياءًا في الوجه ونورًا في القلب يتنور القلب بالحسنة ويبدو ذلك في الوجه, فيتقوى القلب بالطاعة, وقوة في البدن وسعة في الرزق فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكذبون.
وسعةً في الرزق ومحبةً في قلوب الخلق ـ فإن الله إذا أحب عبدًا أحبه عباده ـ ثم يقول ابن عباس رضي الله عنهما في المقابل: "وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب ووهنًا في البدن ـ أي ضعفًا في البدن ـ ونقصًا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق", إن السيئة حسبما تبدو لكثير من الناس أمر فيه لذة ينعم الإنسان به, لكن الذنب في الحقيقة ظلمة في نفس صاحبه ـ ظلمة ولا يشعر بها مع الزمن, هذه الظلمة تظهر على وجهه فيصبح مبغوضًا عند من يحبهم الله عز وجل من الخلق, عند الصالحين, هذه الظلمة تبدو في تصرفاته وتبدو في أفكاره وتبدو في اقتراحاته فلا يهتدي إلى الحق ولا يجد إلى ما يرضي ربه سبيلاً.
وهذه الآثار التي ذكرها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إنما هو على سبيل المثال وليس هو على الحصر, أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها" فهذه من آثار الذنوب والمعاصي, أن الإنسان ينسى الحق الذي أخذه في يوم من الأيام.
وإن للمعاصي والذنوب أصولاً ذكرها الله تعالى. يقول الإمام ابن القيم في كتابه القيم " الفوائد": إن أصول المعاصي كلها صغارها وكبارها ثلاثة: تعلق القلب بغير الله, وطاعة القوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي الشرك والظلم والفواحش.. ثم يفصل فيقول: فغاية التعلق بغير الله الشرك وأن يدعي مع الله إله آخر, وغاية طاعة القوة الغضبية القتل, وغاية طاعة القوة الشهوانية الزنا... ولذلك جمع الله سبحانه وتعالى بين هذه الثلاثة فقال في كتابه: والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون , فذكر الله تعالى نتيجة التعلق بغير الله ألا وهو الشرك, وذكر الله نتيجة طاعة القوة الغضبية, ألا وهو القتل, وذكر الله عز وجل غاية طاعة القوة الشهوانية ألا وهو الزنا.. وكثير من الناس قد يغفل عن أصول هذه المعاصي وأن لها فروعًا فما يعود يحس بهذه الذنوب بل كثير من الناس قد يغفل حتى عن أصول هذه المعاصي.. عن تعلق القلب بغير الله عن القتل عن الزنا فيقع فيها فلا يشعر بشيء من ذلك البتة تلك القلوب التي غطاها الران فما باتت تحس بشيء ومات عندها الشعور فأصبحت لا تشعر بألم الذنب الذي هو والله أشد من ألم الجروح وذلك عند المؤمنين الطائعين.
والسبب الرئيسي إخوة الإيمان في عدم إحساسنا بذنوبنًا ومعاصينا هو إلفة الذنوب والمعاصي لكثرة إقترافها تمامًا كإلفتنا لمخلوقات الله العظيمة.. كالسماء وما فيها والأرض وما عليها مما ذرأ الله من مخلوقاته العظيمة, وتعجب الناس جميعًا حين سمعوا عن نزول أول إنسان على سطح القمر وما زلنا نتعجب من كل إختراع جديد يخرج على أيدي الناس, وننسى ما هو أدق وأبدع في الخلقة من تلك المخترعات البشرية.. ننسى مخلوقات الله تعالى التي ذرأها والتي أمرنا أن نتفكر فيها إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم كذلك الذنوب تمامًا حينما يألفها القلب فإنه لا يعود يشعر بها..
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن الرسول أنه قال: ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا, فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء, وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء, حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه... وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض )) وهذا ما كان يخيف سلفنا الصالح أن يتعودوا على المنكرات والمعاصي فتألف قلوبهم وبذلك لا يحسون بها, فهذا أبو الحسن الزيات يقول: والله لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ فإن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس, وإذا أنست القلوب بشيء قلّ أن تتأثر به, لو نظر الناس في السابق إلى امرأة متبرجة ترقص لأنكروا ذلك ولوسموها بأقبح الصفات ولرجموها وأبعدوها, لكن حينما ألف الناس الصور العارية ـ حينما ألف الناس النساء المتبرجات في الصحف والمجلات وعلى شاشة التلفاز, حينما ألف الناس هذا أصبحوا لا يحسون بهذا المنكر لأن نفوسهم ترى هذه المنكرات ـ لأن عيونهم تراها ليل نهار وتباشرها فتأنس بها النفوس فيجلس الإنسان مع أهله أمام شاشة التلفاز ويعرض عليها ما يغضب الله تعالى ولا يرضي الرسول وتأنس القلوب بذلك, ويدعي المدعي بأن فيها حلاً للمشكلات الإجتماعية وبأن فيها خيرًا, والله ليس فيها إلا الشر, وأي مشكلات إجتماعية هذه التي تحل بهذا الأسلوب, تحل بالنساء الكاسيات العاريات أي مشكلات إجتماعية التي تحل على لسان الساقطات والساقطين من الممثلين والممثلات, مشكلاتنا الإجتماعية حلولها معروفة عندنا في الكتاب والسنة وبرجوعنا إلى ديننا..
أقول: هذا ما كان يخيف سلفنا الصالح, أن يألف المنكرات فتأنس القلوب بها.. وإن أشد من إلفة المنكر أن يألف الإنسان المنكرات والبدع, أن يألف الإنسان العقوبة على هذه المنكرات, فيصل إلى درجة لا يشعر أن الحال الذي هو عليه عقوبة لذنب قد اقترفه.. لا يشعر حين ينزل الله عز وجل مصيبة عليه.. أن هذه المصيبة لذنب قد اقترفه, فتراه يأكل الربا عياذًا بالله, يترك الصلاة, يقترف الزنا, فإذا أصابه الله عز وجل بجائحة في نفسه أو ماله فينقل إلى مستشفى أو يفقد شيئًا من بدنه أو يفقد شيئًا من ماله لا يرجع إلى الذنوب التي كان قد اقترفها وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير فينسى أن هذه العقوبة هي لذنب قد اقترفه..
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: واعلم أن من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب.. فإن العقوبة تتأخر, وإن من أعظم العقوبة ألا يُحس الإنسان بها, وأن تكون في سلب الدين ـ يتأخر قليلاً قليلاً عن الطاعة ـ وطمس القلوب وسوء الاختيار للنفس, فيكون من آثارها سلامة البدن وبلوغ الأغراض ـ كما قال عز وجل: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين فيبلغ أغراضه رغم أنه مقيم على معاصيه وذنوبه, فهذا من قوله: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين.. هذا في مسألة عدم الإحساس بالعقوبة.
ومن أمثلة ذلك عدم توفيق البعض لصلاة الفجر زمنًا طويلاً, فينام عن الصلاة أو قد يصليها بعد وقتها كما حذر النبي من ذلك, فلا يعود مع الزمن يشعر بألم الذنب الذي هو فيه... بينما كان سلفنا الصالح يعود بعضهم الآخر إذا فاته صلاة جماعة عَلّه أن يكون مريضًا.. علّه أن يكون منشغلاً فيعودوه ظنًا منهم أنه كذلك. ولا يزال العبد يقترف هذه الذنوب ويباشرها ويستأنس بها حتى تكون سببًا إلى هلاكه.. إذ ربما تكون هذه الذنوب سببًا في سقوطه ورجوعه إلى طريق الضلال الذي يطلق عليه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: القتل وهل هناك أشد قتلاً من أن ينحرف الإنسان من طريق الهداية إلى طريق الضلالة والاعوجاج. أفمن يمشي مكبًا على وجهه أهدى أمن يمشي سويًا على صراط مستقيم... يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: الذنوب جراحات ورب جرح وقع في مقتل, رب جرح يقود إلى القتل, وكذلك رب ذنب يقيم عليه الإنسان ويصر عليه يكون سببًا في هلاكه ورجوعه إلى طريق الضلال. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا من الزلل وأن يرزقنا الطاعة دائمًا أبدًا إنه هو ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل.. وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمَّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين.. إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد.
ويتجاوز خوف أصحاب النبي من ذنوبهم إلى درجة قلّ أن يصل فيها أحد منّا, وصل خوفهم إلى درجة الإحساس بعدم قبول حسناتهم. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: لقد لقيت أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم. يقول ذلك للتابعين.. إذا كنتم تتورعون عن المحرمات فإني لقيت أصحاب النبي يتورعون عن كثير من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام.. لقيت أقوامًا كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولقد لقيت أقوامًا كانوا من حسناتهم أشفق ألاَّ تقبل منهم من سيئاتكم.
هذا الكلام للتابعين أيضًا.. يقول إذا كنتم تخافون من سيئاتكم أن يعاقبكم الله عز وجل بها فإني لقيت أصحاب النبي لا يخافون على سيئاتهم ولكن يخافون على حسناتهم ألا ترفع إلى الله عز وجل مصداقًا لقول الله سبحانه وتعالى: الذين يؤتون ما آتوا ـ أي من الحسنات والطاعات ـ وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون كما قال النبي : ((هم الذين يصومون ويتصدقون ويصلون ويخافون ألا تقبل منهم)), أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون... بل كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم يربطون الحرمان من الطاعة باقتراف ذنب من الذنوب.
قال أبو داود: "دخلت على رجل ـ يسمى كرز ـ في بيته فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: إن بابي لمغلق لا يطرقه أحد من السائلين ـ من السائلين للعلم أو المال ـ إن بابي لمغلق وإن ستري لمسبل ومُنِعْت جزيء أن أقرئه في البارحة ـ أي منعت من قيام الليل في البارحة أن أقرأ وردي ـ وما ذلك إلا لذنب قد اقترفته. فانظر كيف ربط الحرمان من الطاعة باقترافهم الذنوب.
ولهذا لما قيل لسعيد بن جبير ـ رحمه الله تعالى ـ من أعبد الناس؟ قال: أعبد الناس رجل ارتكب الذنوب فكلما عمل طاعة تذكر ذلك الذنب فاحتقر عمله. هؤلاء هم أعبد الناس في نظر سعيد بن جبير قوم عملوا الذنوب ويتوبون فيها فإذا عملوا طاعة لم يغتروا بطاعاتهم تلك. بل نظروا إلى ذنوبهم تلك, فيحتقرون أعمالهم. حتى يصلوا إلى المسارعة في الخيرات مصداقًا لما سبق من قوله تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.
فإذا كان الذنب ظلمة في القلب وسوادًا في الوجه فعلى الإنسان أن يطفىء هذه الظلمة وأن يذهب هذه المذلة التي قال عنها الحسن البصري: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين لابد أن تجد ذل المعصية على وجوههم أبى الله إلى أن يذل من عصاه"... لكي يذهب المذنب هذه الظلمة ويبددها وينقلب إلى عزة بعد مذلة ينبغي عليه أن يأخذ بسراج التقوى والتوبة... التوبة ذلك السراج الذي يطفأ الإنسان به ظلمة هذه الذنوب, فالله سبحانه وتعالى يقول: وتوبُوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون , والرسول يقول: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) وفي رواية: ((أكثر من مائة مرة)).
فإذا كان سيد البشر عليه الصلاة والسلام يستغفر الله, وإذا كان المؤمنون مطالبون من قبل الله بالتوبة, فما أجدر أصحاب الذنوب أن يسارعوا إلى تبديد ظلمهم وظلماتهم التي يعيشون فيها بهذا السراج الذي إذا حمله العبد أضاء له الطريق.
وإن هذا السراج يحتاج منا إلى وقود حتى يبقى مشتعلاً, ووقوده كما قال العلماء: العلم والصبر... فإن الذي لا يقف على الداء لا يقف على الدواء, وإن سبب العصيان هو الغفلة والشهوة ومن جهة أخرى الشبهة، فيزيل الإنسان الغفلة والشهوة بالصبر على الطاعة وترك المعاصي والسيئات, ويزيل الإنسان وحشة الشبهة بالعلم؛ ولهذا يقول علاَّمة الشام محمد جمال الدين القاسمي: "لا تكون التوبة إلا بمعجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر".
التوبة هي السراج لا يدوم هكذا مشتعلاً إلا بأن تمده بالعلم وأن تمده كذلك بالصبر حتى تبقى على وتيرة واحدة في الطاعة.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر أنفسنا, وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، اللهم إنا نعوذ بك من شر الشيطان وشركه, اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته ولا همّاً إلا فرجته ولا دينًا إلا قضيته ولا ضالاً إلا هديته.
(1/1377)
حب المال
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, المسلمون في العالم
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحاديث تحذر من فتن الدنيا والمال. 2- الأخذ في المال بقدر ما يصلح به المرء حياته وإلا
كان سبباً لموته. 3- أخذ المال من حله ووضعه في حقه. 4- طمع الإنسان لا حدود له. 5-
تذكير ببعض ما حصل للمسلمين في البوسنة على يد الصرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسولنا أنه قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض, قيل: وما بركات الأرض. قال: زهرة الدنيا, فقال رجل: أيأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي حتى ظننت أنه سينزل عليه ثم مسح النبي جبينه وقال: أين السائل؟ فقال الرجل: ها أنا يا رسول الله, فقال عليه الصلاة والسلام: لا يأتي الخير بالشر, لا يأتي الخير بالشر, وإن هذا المال خضرةٌ حلوة وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه إلا آكلة الخضر حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت فثلطت ثم بالت ثم أكلت, وإن هذا المال خضرة حلوه فمن أخذه بحقه وضعه في حقه فنعم المعونة هو, ومن أخذه من غير حقه فهو كالذي يأكل ولا يشبع)).
هذا مثل يضربه الرسول لزهرة الحياة الدنيا, يضربه للمال الذي نتهافت عليه ونقتتل عليه ونقطع الأرحام من أجله, ونتدابر من أجله, ونتقاطع من أجله, هذا المال الذي هو خير لكنه ليس خيرًا مطلقًا؛ إذ يقول الله عز وجل عن الإنسان الكفور الجحود: وإنه لحب الخير لشديد , ويقول الله سبحانه وتعالى عن نبي الله سليمان: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب , فالمال خير لكنه قد يقتل, لكنه قد يؤخر عن الدار الآخرة, ولكنه قد يقهقرك عن جنة عدن, والرسول يقول لأصحابه: ((ما الفقر أخشى عليكم)) الرسول لا يخاف علينا من الفقر والمسكنة وتواضع البيوت وقلة الأموال وعدم الرفاهية, قال: ((ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح الدنيا عليكم كما فتحت على من كان قبلكم, فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)) وفي رواية قال : ((كيف أنتم؟ إذا فتحت خزائن الروم والفرس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله, نقول بالحق والذي أُنزل, فقال رسول الله : أو غير ذلك, تنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم)).
فيحذر النبي في هذا الحديث العظيم من خطورة التهافت على المال ومن خطورة البخل والشح فيه فيقول : ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)) بركات تخرج من باطن الأرض فيستفسر الرجل ويستفهم "يا رسول الله, وما بركات الأرض" فقال : ((زهرة الحياة الدنيا)), ولا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهللك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى.
فقال : زهرة الدنيا, أي بركة الأرض هي زهرة الدنيا, قال الرجل: يا رسول الله, أيأتي الخير بالشر؟ أتأتي البركة بالشر, فصمت وكانت هذه عادته إذا سئل سؤالاً لأنه ينتظر الوحي من الله فهو لا ينطق عن الهوى, وهو لا يستحضر الأجوبة العقلية وإنما يستحضر الأجوبة السماوية التي تنزل عليه فيصمت ويصيبه الرحضاء ثم يمسح عن جبينه ويقول : أين السائل؟ فيقول الرجل: ها أنا يا رسول الله فقال : لا يأتي الخير إلا بالخير, لا يأتي الخير إلا بالخير, لا يأتي الخير إلا بالخير, وإن هذا المال خضرة حلوة, هذا المال كالعسل في المذاق, إذا تذوقت منه شيئًا قليلاً زادت شهيتك لكي تأكل المزيد والمزيد, فهذا المال خضرة حلوة, فإذا حصلت على شيء قليل تحب أن تحصل على المزيد ثم يضرب النبي مثلاً للشراهة والتكالب على هذا المال وأخذه من كل مكان من غير مراعاة حرمات الله يقول : ((وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه)).. الحيوانات التي ترعى في المراعي إذا كانت في الربيع وأنبتت الأرض بالخضرة والأعشاب بالحشائش, فإن بعض الحيوانات ـ بل أكثرها ـ تنكب على هذه الحشائش وعلى هذه الأعشاب فتأكل من غير مقدار وتلتهم من غير إلتفات فتأكل وتأكل وتأكل فتنتفخ خواصرها فيقول : ((يقتل حبطًا)) يمتلأ بطونها بالأعشاب التي أكلت, فمن شدة الأكل ومن كثرته تموت هذه الدواب, وإذا لم تمت هذه الدواب فإنه يلُمُ بها مرضُ يقربها من الموت, وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه أي يلم بمرض فتاك, وهكذا المال إذا أقبل عليه الإنسان فإنه يأكل ويأكل وفي نهاية الأمر ربما مات بماله, أما سمعتم عن أُناس مترفين ماتوا بين أفخاذ الغواني, أما سمعتم عن أُناس ماتوا في بلاد الكفرة وهم يشربون الخمور وهم يلعبون بأموالهم ويضعونها في أيدي الصبايا ويبخلون بها على المسلمين الذين يحترقون, أما سمعتم عن أُناس ماتوا بأموالهم وكانت شؤمًا عليهم وعارًا.
تفنى اللذائذ من مغبتها من الحرام ويبقى الذلُ والعارُ
تبقى عواقب من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النارُ
ولذلك النبي يأمُرنا بأن ننظر إلى من هو دوننا لا أن ننظر إلى من هو فوقنا وذلك في أمر الدنيا, يأمرنا بذلك حتى لا نزدري نعمة الله علينا فنتكالب على الدنيا ونتنافس لأن من نظر إلى أصحاب الملايين وهو من أصحاب الألوف المؤلفة رأى نفسه فقيرًا وازدرى نعمة الله عليه, وإذا نظر إلى من هو دونه ممن لا يجد إلا قوت يومه فإنه يشكر نعمة الله عليه ويظن بأنه من أنعم عباد الله فيكون من الشاكرين الذاكرين, ثم النبي يضرب لنا مثلاً لمن يأخذ المال على قدر حاجته لذلك الذي يتحرى الحلال في أمواله ((وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطًا أو يُلمه إلا آكلة الخضر)) إلا دويبة الأرض, هذه الدويبة تأكل على قدر حاجتها تأكل حتى إذا امتلئت خاصرتاها استقبلت الشمس لتهضم الطعام, لتهضم ذلك العشب الذي في بطنها, استقبلت الشمس فاجترت ـ تخرج شيئًا من بطنها تجتر فتهضم وتكثر في الهضم حتى يكون مفيدًا ـ اجترت وثلطت وبالت ثم إذا جاءت بعد أن أخرجت فضلات هذا الطعام أكلت بعد ذلك فتأخذ الطعام على قدر حاجتها, وهذه دويبة ذكية, دويبة خلقها الله عز وجل وجعل لها مقدارًا في الأكل فلذلك هي تحيا, وهي تسمن أكثر مما تحيا وتسمن تلك الدواب الأخرى, فكذلك الذي يأخذ المال على قدر حاجته فإنه ينال حياة طيبة في الحياة الدنيا, وينال أجرًا عظيمًا مما ينفق في الأخرى لهذا قال بعد هذا: ((وإن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو)) من أخذ المال بحقه فلا يرتشي ولا يُرابي ولا يقتطع أموال الناس ظلمًا وعدوانًا, ولا يأكل أمواله بين العباد بالباطل, فمن أخذه بحقه ووضعه في حقه أخرج حق الله منه وأخرج حق عياله منه, أخرج حق الله وحق المسلمين, أخذه بحقه ووضعه في حقه لم يضعه في أيدي الصبايا الغواني؛ لم يضعه في الكرة واللهو واللعب, وإنما وضعه فيما يُرضى الله سبحانه وتعالى, فنعم المعونة هو, نعم المعونة في الدنيا, ونعم المعونة يوم القيامة, يجد المال الذي أنفقه كالجبل ينتظره, ربَّاه الله عز وجل لما وضع في كف الرحمن, ربّاه الله عز وجل فيحتاج إلى تلك الحسنات ويتعلق قلبه بتلك الطيبات التي أنفقها, فنعم المعونة له في الدنيا والآخرة.
من لم يأخذ بحقها, من أخذ من هنا وهناك, لم يراقب حرمة الله عز وجل, ما إن يسمع عن أسهم تنزلها البنوك الربوية إلا ويكون من المسارعين إلا ويكون ممن يقذفون بأنفسهم في الجحيم يسارعون بوضع أموالهم في تلك البنوك, ما إن يرى رجلاً يأتي إليه لأخذ حقه في معاملة إلا ويشير إليه إما إيماءً أو تصريحًا.
الرشوة فيأخذ من هذا وذالك, ويجمع الملايين ويأكل ويأكل, فيقتله الله بما له, فترى الأمراض قد توالت عليه فلا يخرج من مرض إلا ويرى نفسه في مرض, وما يعالج نفسه بألف من مرض إلا ويعالج نفسه بالملايين من مرض آخر, فيهلكه الله عز وجل بماله يقول : ((ومن لم يأخذه بحقه فإنه كالذي يأكل ولا يشبع)), يقول ـ والحديث عند مسلم وغيره ـ لما جاءه حكيم بن حزام أعطاه النبي ثم سأل فأعطاه ثم سأله فأعطاه فقال: ((يا حكيم إن هذا المال حلوة خضرة, فمن أخذه بحقه بورك فيه, ومن لم يأخذه بحقه أو باستشراف نفس ـ أي بإقبال وبسيلان لعاب ـ فإنه لا يبارك له فيه)) فما سأل حكيم بن حزام بعدها أحدًا أبدًا, بل كان الخليفة يرسل إليه بعطيته فيرفضها, والرسول يخبرنا عن شرّة بن آدم للمال, يؤيد هذا قوله تعالى: وإنه لحب الخير لشديد , يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو كان لابن آدم واديان من ذهب ابتغى لهما ثالثًا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب)) لو كان لابن آدم واديان من ذهب ممتلئان بصنوف الجواهر والحلي لابتغي لهما ثالثًا.. لو كان له مليوني ريال ابتغى ثلاثًا, ولو كان له ثلاثًا لابتغى أربعًا, لو كانت له عمارة لابتغى عمارتين, ولو كان له ثلاثًا ابتغى أربعًا, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب.
يحتاج ابن آدم إلى أن يتوب إلى الله عز وجل من الانهماك في الدنيا ومن الشرّة في الأموال والتوبة بالفعل كما هي بالقول, فيخرج حق الله عز وجل ويتوب بأن يرجع المظالم إلى أهلها, والله لو تفكر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع, ولو تذكر جائع في فضول مآلها لشبع, لو تفكر العاقل في عاقبة الدنيا وفي سكرات الموت لكان من القانعين, ولو تذكر الجائع ما يؤول إليه الطعام اللذيذ, الطعام الذي يوضع بأبهى الأشكال والألوان ما يؤول إليه من الرائحة والنتن والله لشبع.
هب أنك قد ملكت الأرض طرا ودان لك العبادُ فكان ماذا
أليس إذن مصيرك جوف قبر ويحثي التُرب هذا ثم هذا
لهذا يقول الله سبحانه وتعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرًا , حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون.
قال ميمون بن مهران وكان عنده جلساؤه: "ما رأيكم بالنبات إذا ابيض؟ فقالوا: هو الحصاد.
فالتفت إلى الشباب وقال: وربما أدركت الخضرة آفة فتهلكها قبل الفساد", إذا شاب الشيخ فإن هذا هو أوان فواته من الدنيا كالحامل التي بلغت تسعة أشهر فإنها تظن الولادة بين فترة وأخرى, وكذلك الشاب ربما أصابه جائحة, ربما أصابه الله بمرض فتاك فيهلكه الله قبل أن يبلغ ما يبلغ, فتوبوا عباد الله, وإياكم والانهماك في الدنيا, اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا, إنك أنت الله المسؤول إنك على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين خالق الخلق أجمعين ورازقهم, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على البشير النذير سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
أما بعد:
عباد الله فلعلكم قرأتم وسمعتم ما نشرت الصحف ولعلكم لمستم شيئًا مما قلناه في الخطبة الماضية من العذاب الذي يعانيه إخوانكم في البوسنة والهرسك من القوات الصربية, والمرء وهو يقرأ, وهو يرى تلك الدماء التي تسيل كالأنهار, وهو يشاهد تلك الأشلاء, وهو يري النساء والأطفال ويسمع عن هتك الأعراض, والله ليتذكر ما كان يقرأه عن الأندلس وعن دواوين التفتيش وعن ألوان العذاب, العذاب الذي كان يسيل سيلاً على المسلمين دواوين التفتيش التي كانت عبارة عن أقبية تحت الأرض في الأندلس, فيؤتى بالمسلمين وغيرهم ممن يخالفون النصارى في دينهم فيسامون سوء العذاب, يصنع لهم توابيت وصناديق وتفرز فيها خناجر حادة ويوضع فيها المسلم وتنطبق عليه الصناديق فتسيل دماؤه, يؤتى بخوذة تشبه الرأس فتوضع على رأسه ويفتح منها قدر قطرة ماء وتنزل القطرة الباردة في ظلمة القبوبين فترة وفترة حتى يجن الرجل إذ لا يرى إلا الظلام ولا يُحس إلا بقطرات الماء الباردة تتنزل على رأسه, واقفٌ لا يقعد فيهلك من شدة هذه العذاب, ألوان وألوان من العذاب..تقطعة لأثداء النساء, تقطعة لذكور الرجال حتى تسيل دمًا ثم يموتون, رسم الصليب على ظهورهم وصدورهم وجنوبهم.
كنا نقرأ وكنا نسمع ما يقوله الوعاظ عن الأندلس فنراه ماثلاً فيما يكون اليوم وفيما ينقل إلينا, ولعكم قرأتم التحقيق الذي نشرته جريدة (المسلمون) بعنوان "جثث المسلمين تملأ الشوارع والأنهار في البوسنة, الصرب يذبحون قرية كاملة برجالها ونسائها وأطفالها", وجزى الله ذلك المحقق خيرًا, وليت الصحفيين من بني جلدتنا يفعلون شيئًا من هذا بدلاً من أن يلبوا كل صيحة من كرة أو دورة من دورات الألعاب, فيذهبون هناك ويقفون في الشمس يرصدون الكرة التي تدخل في الشباك ويرصدون تلك الركلات بدلاً من ذلك أين هؤلاء من مثل هذا.
بدلاً من أن نتلقى أخبارنا عن وكالات الأنباء الكاذبة التي تخفي حقيقة الأمر, ألسنا بحاجة إلى أبناء المسلمين الذين يذهبون إلى هناك ويأتون لنا بالحقائق يقول هذا المحقق: "لم يكن مضى على ذلك الوقت ـ أي وقت وصوله إلى تلك القرية ـ أكثر من أربع وعشرين ساعة عندما دخلت عصابة الشتينك وهي قوات الميليشات الصربية لتوجه نيران مدفعيتها الثقيلة أولاً إلى المسجد, يبدأون بالمساجد أولاً, وهذا يدل على أن الحرب ليست بحرب أهلية, وإنما هي حرب دين, بدأوا أولاً بالمسجد حيث كانت تقام الصلاة وكانت المأذنة منذ قليل ترفع نداء الله أكبر, وفي ثوان حصدوا كل المصلين ثم انهمكوا في التنكيل والتمثيل بجثثهم يسكبون عليها زجاجات الخمر التي كانت في أيديهم ويرسمون بالسكاكين على الأجساد الطاهرة صلبانهم, ومن المسجد توجهوا إلى المدرسة التي تضم أطفالاً لا تتجاوز أعمارهم العاشرة وصوبوا عليهم الرصاص أيضًا دون أن يعبأوا بصرخاتهم البريئة, وخلال ساعة واحدة أصبحت القرية المسلمة كتلاً مشتعلة من النار, لم يبق بيت إلا وقد ذبحوا كل من فيه بالسكاكين, لم يرحموا طفلاً حديث الولادة أو امرأة تستغيث, وليس لها مغيث إلا الله أو رجلاً مسنًا يعد أيامه الباقية, ها أنا ذا وسط المدينة بعد ساعات فقط من المذبحة سكانها إما لبسوا أكفان الموتى وإما جثثهم لم تزل ملقاة في أماكنها لأنه ليس هناك أكفان كافية لهم.
(1/1378)
عاشوراء
سيرة وتاريخ
القصص
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قتل فرعون لأطفال بني إسرائيل وولادة موسى عليه السلام. 2- نجاة موسى ونبوته
ودعوته. 3- هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل. 4- نحن أحق بموسى من اليهود. 5- فضل
موسى على أمة محمد في تخفيف عدد الصلوات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه ويقول الله عز وجل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين إن إهلاك الظالمين نعمة من نعم الله تبارك وتعالى ينبغي لعباده المؤمنين أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة, ونحن مقبلون على يوم من هذا الشهر الحرام يوم عظيم نجى الله فيه فريقًا من المؤمنين وأنجاهم من الظالمين, فبدأ المؤمنون يشكرون الله عز وجل من ذلك الزمان على هذه النعمة التي أنعمها الله عز وجل على الثلة المؤمنة, وذلك أن فرعون لما بغى في الأرض وعلا وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يستضعف بني إسرائيل وهم الشعب الذين هم من سلالة يعقوب بن إسحاق بن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام, جعل أهلها شيعًا يستضعفهم في الأرض, فأذلهم وسخرهم لمهن رخيصة, ولمّا رأى رؤيا ـ كما قال المفسرون ـ رأى رؤيا أنه من بني إسرائيل سيخرج رجل ويورثه الله عز وجل مكان فرعون, أخذ يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم كما قال الله جل وعلا: جعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم فكان في ذلك مسرفًا.
فبعث الله عز وجل موسى عليه السلام, وضعته الأم فأشفقت عليه, فأوحى الله عز وجل إليها أن اجعليه في التابوت ثم ألقيه في اليم, فذهب به اليم إلى قصر فرعون فألقى الله محبته في قلب امرأة فرعون فأحبته حبًا شديدًا فقالت: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا.
وسخر الله عز وجل له ذلك الظالم لكي يتبناه فرُبيّ في بيته, فكان يركب ما يركب فرعون ويلبس مما يلبس, بعد أن بلغ أشده واستوى آتاه الله ـ وهو في طريقه إلى مصر من مدين ـ النبوة فأوحى الله عز وجل إليه بالرسالة وأمره أن يذهب إلى فرعون لكي يذكره لعله يتذكر أو يخشى, يتذكر فيحذر من عقاب الله تعالى, فيخشى: فيورثه خشية وطاعة وإخباتًا لله عز وجل, فقال له الله عز وجل: فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى.
فأتاه موسى عليه السلام وأخوه هارون فقالا له قولاً لينًا, فأبى واستكبر وعاند, ووسم موسى عليه السلام بالسحر والشعوذة, وأمر السحرة أن يلتقوا معه في يوم الزينة فنصر الله عز وجل موسى عليه السلام وسجد السحرة لرب هارون وموسى, وأنزل الله عز وجل على يد موسى الآيات البينات وحذر موسى فرعون من مغبة ما هو فيه وقومه, فقال فيهم الله عز وجل وعنهم: فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين.
بعد ذلك أوحى الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام بأن يخرج بني إسرائيل من أرض مصر في ليلة كما قال الله عز وجل ـ في سورة الشعراء ـ: وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون وفرعون علم بخروج بني إسرائيل خلسة فأرسل في المدائن حاشرين, أرسل في مدائن مملكته حاشرين للناس والجنود ولماذا يحشرون عددًا كبيرًا وفيهم رجل يزعم بأنه إله؟ إذ قال أنا ربكم الأعلى, فقال معللاً: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون قالها معللاً: أي ما حشدنا هذا العدد وما جمعنا هذا الجمع إلا لأنهم قد أبلغونا مبلغًا كبيرًا من الغيظ وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميعٌ حاذرون أي كنا على حذر مما يفعلون, فأخرجهم الله عز وجل مما كانوا فيه, فخرجوا في وقت الإشراق.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ـ في تفسيره لسعيد بن جبير في قوله تعالى: وفتناك فتونًا ـ في قصة الفتون ـ القصة موقوفة عليه رضي الله عنه كما قال ذلك ابن كثير ونقله عن أبي الحجاج المزي رحمهما الله تعالى ـ قال ابن عباس: فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن يخرج بقومه ليلاً, فلما أصبح فرعون أرسل في المدائن حاشرين, فجمع الجنود فخرجوا إلى موسى وقومه, فجاء موسى عليه السلام والبحر من أمامه فأدركه فرعون بجنوده فلما رأى قوم موسى هذا قالوا: إنا لمدركون, قالوا: يا موسى إنّا لمدركون؛ البحر من أمامهم وفرعون من خلفهم, إنا لمدركون أي سيدركنا فرعون وذلك بعد أن تراءى الجمعان كما قال الله عز وجل: فلما تراءى الجمعان جمع موسى وجمع فرعون وجنوده, فلما تراءى الجمعان , أي رأى بعضهما بعضًا قال أصحاب موسى إنا لمدركون فقال موسى عليه السلام: كلا بكل توكيد وثقة "كلا" لسنا بمدركين, "كلا" لسنا بمفتنين, "كلا" لسنا بمن سيكون في أيدي هؤلاء الظالمين.
ولماذا قال: كلا بهذه الثقة وبهذه الطمأنينة؟ إن العلة في ذلك إن معي ربي سيهدين فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه: فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم إن السنة التي أجراها الله عز وجل للماء لكي تسير على اليابسة في لحظة من اللحظات, بقدرته تعالى يتحول هذا الماء ليصبح كالجبل الشامخ, وتصبح الأرض التي كان فيها الماء طريقًا يبسًا وكأن الماء ما مسته يومًا وفي قوله تعالى: فأوحينا إلى موسى فيه أن هذا الأمر كان عند لقائه بفرعون.
وفي حديث الفتون, قال ابن عباس رضي الله عنهما: "وكان الله عز وجل قد أوحى إلى موسى عليه السلام ـ أي قبل أن يخرج ببني إسرائيل ـ أن اضرب بعصاك البحر وقال للبحر إذا ضربك عبدي موسى فانفلق فرقتين, فلما قدم موسى إلى البحر نسي أن يضرب بعصاه البحر فقال له أصحابه: إن الله عز وجل لم يكذب ولم تكذب, فقال موسى: إن الله وعدني أني إذا أتيت البحر انفلق فرقتين ثم تذكر عليه السلام أمر الله عز وجل إياه بضرب البحر بالعصا, فضربه فانفلق فرقتين" هذا ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه.
ولما رأى فرعون ذلك الأمر دخل بجنوده في الطريق اليبس بعد أن دخل موسى وقومه, فلما اجتازوا البحر وأصبح قوم فرعون في سواء الطريق اليبس أطبق الله تعالى عليهم البحر وأعاد سنة الماء في ذلك للماء فأغرقهم الله تعالى في ذلك المكان, فقال الله عز وجل عنه ـ أي عن موسى ـ: ثم أزلفنا الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين إن في هذا الحدث الذي حدث لآية على مر القرون وإن قوم موسى طلبوا من موسى أن يريهم فرعون فأخرجه الله عز وجل فقال سبحانه وتعالى: فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون , ففي هذا الحدث آية على مر القرون ولكن أكثرهم لا يعلمون؛ ولهذا الله عز وجل قال: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الحكيم وكانت هي آخر خرجة من خرجات هذا الظالم من بلده, قال سبحانه وتعالى: فأخرجناهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل , وقال في سورة الدخان: فأخرجناهم من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين , وقال تعالى ممتنًا على بني إسرائيل: ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليًا من المسرفين ولقد اخترناهم على علم على العالمين.
فماذا كان موقف كليم الله موسى بن عمران من هذه النعمة؟ صام موسى عليه السلام هذا اليوم شكرًا لله تعالى في العاشر من محرم, صامه شكرًا لله سبحانه وتعالى فيأتي الرسول حين يقدم المدينة كما ورد ذلك في الصحيحين في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لمّا قدم المدينة وجد يهودًا تصوم عاشوراء فقال رسول الله : ((ما هذا؟)) فقالوا: هو يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل وأغرق فيه فرعون وقومه, فقال النبي : ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصيامه, وذلك قبل فرض رمضان, فلما فرض رمضان قال عليه الصلاة والسلام: ((من شاء صامه, ومن شاء تركه)).
وفي قوله : ((نحن أحق بموسى منكم)) كلام صائب صحيح؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أقرب إلى موسى من هؤلاء اليهود الذين كفروا برسالة محمد وكذبوا رسولهم كذلك موسى, فالرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: ((نحن أحق بموسى منكم)) صدق؛ إذ هو عليه الصلاة والسلام رسول الله وكليمه كما أن موسى عليه السلام رسول الله عز وجل كليمه كذلك فهو عليه الصلاة والسلام يفرح لفرح موسى وصدق الله عز وجل: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين أي ينبغي أن يُحمد الله تعالى عند إهلاكه للظالمين فهي نعمة من نعمه تعالى.
فأسأل الله عز وجل أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين إنه هو القادر على ذلك, وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على البشير النذير المبعوث رحمة للعالمين من بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن لموسى عليه السلام فضيلة على أمة محمد عليه الصلاة والسلام, ولذلك لا تعجب أيضًا عند قوله : ((نحن أحق بموسى منكم)) فثبت في صحيح البخاري في كتاب الصلاة في قصة الإسراء الطويلة من حديث أبي بكر بن حزم, وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن الرسول قال في قصة الإسراء: ((ففرض الله عز وجل على أمتي خمسين صلاة فنزلت على موسى عليه السلام فقال: ما فرض الله تعالى عليك؟ فقلت: خمسون صلاة, فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف, فإن أمتك لا تطيق, قال: فرجعت إلى ربي فسألته فأنزل شطرها فرجعت إلى موسى فقال: ما فعل؟ قال: أنزل شطرها ـ أي أنزل الله شطرها فجعلها خمسًا وعشرين صلاة ـ فقال له موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ـ رأفةً على أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه جَرّب بني إسرائيل ووجد بأنهم لم يتحملوا ما أوجب الله عليهم من التكاليف ـ فقال : ارجع, فرجع النبي فأنزل الله عز وجل شطرها, فرجع إلى موسى, فقال: ارجع فإن أمتك لا تطيق, فرجع مرة أخرى, فقال الله عز وجل: خمس وهي خمسون ـ أي جعلتها خمسًا, وفي أجرها بخمسين صلاة ـ لا يبدل القول لدي, فرجع النبي إلى موسى بن عمران فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف, فقال النبي : ((استحييت من ربي )).
هكذا فإن الله سبحانه وتعالى قد خفف على أمة محمد عدد الصلوات وجعل موسى عليه السلام سببًا في ذلك, فله أيضًا فضل على أمة النبي عليه الصلاة والسلام, فصدق النبي عليه الصلاة والسلام إذ قال: ((نحق أحق بموسى منكم)) وهكذا المسلمون كالجسد الواحد ينظر بعضهم إلى آلام بعض, إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, فالرسول يفرح لفرح موسى فيصوم يوم عاشوراء.
ومن قبيل هذا قوله والحديث عند البخاري في صحيحه وكذاك مسلم من حديث سعيد بن المسيب عن أم شريك رضي الله عنها أن الرسول أمر بقتل الوزغ وقال : ((إنه كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام)) , وفي رواية للإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها, أن النبي قال: ((اقتلوا الأوزاغ ـ جمع وزغ ـ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام)), وفي رواية ثالثة: أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها فوجدت عندها حربة فقالت: ما هذا؟ قالت عائشة رضي الله عنها: نقتل به الأوزاغ فإن النبي قال : ((إنه كان ينفخ على إبراهيم عليه السلام النار)).
هكذا يا سبحان الله, يا سبحان الله, الرسول عدو لمن عادى إبراهيم عليه السلام.
(1/1379)
وقفة مع آخر العام
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حدث جلل انقضت سنة في أعمارنا بما فيها من حسنات وسيئات. 2- هجرة النبي إلى
المدينة. 3- نصر الله نبيه في مواطن الشدة. 4- صحبة الصديق للنبي في الهجرة. 5-
بعض أحداث رحلة الهجرة. 6- وصول النبي إلى المدينة. 7- صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا إله إلا الله, لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله أعز جنده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب.
أما بعد:
وانقضت سنة من أعمارنا, وانقضت سنة من أعمارنا بالأمس إذ لفظت السنة أنفاسها الأخيرة وطوت هذه السنة أعمارنا فيها فما عُمل فيه من خير فقد دون ما عُمل فيه من شر فقد سُطِّر في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة, سُطرت الشهور, سُطرت الأيام, سُطرت كذلك الساعات بل الدقائق والثواني, نسخت الأعمال, نسخ الخير والشر, فهو في كتاب عند ربنا تعالى سيعرض علينا يوم الدين, وسننظر إلى السنة الماضية كأنها سنة حاضرة, ولن نكون كحالنا الآن ناسين السنة الماضية غير متذكرين إلا القليل القليل, غير ناظرين إلا إلى أعمال قليلة, لن يكون حالنا يوم القيامة كذلك, بل سنتذكر السنة المنصرمة وكأنها ساعة جلسنا فيها بل كأنها سويعةٌ جلسنا فيها, قال تعالى: فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى وقال تعالى أيضًا: ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم.
إي والله, إي والله, كأنها ساعة, هذا هو العمر كله, فكيف بسنة قد انصرمت, وكيف بسنة قد ذهبت, إن هذه السنة حين تنصرم من أعمارنا تذكرنا بحدث جلل حدث لرسولنا عليه الصلاة والسلام, يذكرنا به اسم هذه السنة, اسم هذه الأعوام التي تتوالى علينا هي أعوام هجرية نسبة إلى الهجرة, نسبةً إلى الكفاح, نسبةً إلى النصر الذي حققه الرسول , العام حين ينصرم نتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام كيف وقد خرج من مكة خرج فائزًا منتصرًا والظاهر أنه خرج عليه الصلاة والسلام فارًا بدينه, لا والله ليس هذا الفرار بالدين من الذلة والصغار, ليس هذا الفرار بالدين من المهانة, إنما هو من العزة والرفعة لهذا قال الله عز وجل: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذا هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فسمّاه الله عز وجل نصرًا, حين يبدو في الأنظار خروجًا وفرارًا قال تعالى: إلا تنصروه أي: إن أحجمتم عن نصرة هذه الدين وانشغلتم بالدنيا ولم تقدموا على الجهاد ولم يكن الدين في حياتكم له وزنًا, إلا تنصروه, إلا تنصروا محمد حيًا وميتًا فنصره عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم الدين, فإن موته عليه الصلاة والسلام لا يعني توقف نصره, إلا تنصروه أي: لو تخادلتم جميعًا عن نصرته فقد نصره الله, متى؟ متى كان نصر الله للنبي؟ لا يقول الله تعالى يوم بدر, لا يقول الله تعالى يوم فتح مكة, إنما يقول الله تعالى: إذ هما في الغار حين كان النبي عليه الصلاة والسلام في الغار في غار ثور إذ يقول صاحبه لا تحزن إن الله معنا ورد في الصحيح عنه لمّا دخلا في الغار وجاءت صناديد قريش تنظر إلى الغار: قال أبو بكر: "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال : ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) إنها الثقة بالله تعالى, ماذا تظن اثنين الله ثالثهما, رب العباد معهما, إن الأمير أو السلطان في الدنيا لو مال بكنفه على أحد من الناس لهاب الناس ذلك الذي مِيل إليه, لأقام الناس وزنًا لهذا الذي مِيل إليه, فكيف برب العباد؟ فكيف بالحيي الذي لا يموت إذا رضي بعبد من عبيده لذا كان معه معية نصر ومؤازرة ومعاونة ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)), إذ يقول لصاحبه لا تحزن تثبيتًا لصاحبه يقول للصديق: إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه , أنزل الله الطمأنينة في قلبهما وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا يا سبحان الله وكأن العمر قد انقضى وكأن الأيام قد تداولت, فترى أنفسنا أمام نصر مؤزر, فترى أنفسنا وكأن كلمة الذين كفروا السفلى ونرى أنفسنا وكأننا في يوم فتح مكة يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة خافظًا رأسه متواضعًا بالنصر الذي أكرمه الله تعالى به, يدخل فترى رأي العين كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا, مقدمة هذا النصر كان هناك في غار ثور في طريق هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام, وأبو بكر فزعٌ خائف والرسول يقول له: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
تقول عائشة رضي الله عنها ـ والحديث مسطر في صحيح البخاري ـ: "لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين إلا وهما يدينان بالإسلام, ولم يمر عليّنا يوم إلا يأتينا فيه الرسول طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المؤمنون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أسيح بأرض الله, قال: أسيح في الأرض أعبد ربي, فقال له ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج, فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق, فأنا لك جار, ارجع واعبد ربك ببلدك, فرجع فطاف ابن الدغنة على قريش عشية فقال: إن أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج, فإنه يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكَل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق, فلم تكذبه قريش في جواره وقالوا له: مُرّ أبا بكر فليصلي بداره وليقرأ ما شاء في داره ولا يظهرن ذلك فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فأمره ابن الدغنة بذلك فكان أبو بكر الصديق في بداية الأمر يصلي في داره ويقرأ القرآن ثم بدا له أن يبني مسجدًا خارج داره فكان يقف ويقرأ القرآن قالت عائشة: وكان أبا بكر رجلاً بكاءًا إذا مر على القرآن بكى فتلتف النساء والصبيان حوله (فتقف النساء والصبيان حوله) فيستمعون إلى قراءته فلما سمعت قريش بذلك جاءت إلى ابن الدغنة وقالت: إنا كرهنا أن نخرج عليك جوارك فمر أبا بكر أن يكون في داره أو ليرد عليك ذمتك, فرجع ابن الدغنة إلى أبي بكر الصديق فأخبره بالخبر فقال: أرد عليك جوارك فإني في جوار الله عز وجل فمكث أبو بكر الصديق على ذلك يقاسي ما يقاسي من أذى قريش حتى جاء الفرج من الله تعالى فأمر رسول الله بالهجرة إلى المدينة فقال: كأني أنظر إلى مهاجركم في نخل بين حرتين قالت: الصحابة: كنا نظن أنها هَجَر أو اليمامة فإذا هي المدينة فخرجت الصحابة رضوان الله عليهم واستعد أبو بكر للهجرة فقال له : أمسك, فقال: لمَ يا رسول الله؟ فقال: إني أرجو أن يأذن لي ربي بإذن فقال: الهجرة؟ قال: نعم, فقال له أبو بكر: الصحابة.. الصحابة يا رسول الله, أي الصحبة الصحبة يا رسول الله, فقال له الرسول : نعم. فأخذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه راحلتين فعلفهما بورق التمر (بالخبط) مدة أربعة أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس عند أبي بكر الصديق جاءنا رسول الله في ساعة ما كان يأتينا فيه فقال القائل هذا رسول الله قد قدم فقال أبو بكر الصديق: بأبي هو وأمي والله ما قدم الساعة إلا في أمر فقال له رسول الله وكان متقنعًا اخرج إليّ, فقال: يا رسول الله, إنما أهلي أهلك فقال : ((إني أُمرت بالخروج)) قال: الصحبة يا رسول الله, فقال: نعم, قال: خذ أحد هذين البعيرين فقال : بالثمن, أي أنقدك الثمن, فهذه رحلة مباركة والتقديم فيها بالمال خير, فقال: بالثمن, قال: نعم, فأعطاه الراحلة.
قالت عائشة رضي الله عنها: فجهزناهما أحسن جهاز, ووضعنا لهما سفرةً في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب, فبذلك سميت ذات النطاق, قالت: ثم لحق رسول الله بغار في جبل ثور فمكث فيه ثلاث ليال, يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن, فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت, فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه, لا يسمع عبد الله في مكة أمرًا يكتادان به (أي الرسول وأبي بكر) إلا أخبرهما إذا ذهب إليهما في المساء, إلا وعاه حتى يأتيهما حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيذهب عليها حتى تذهب ساعة من العشاء أي يطمس آثارهما, فيبيتان في رسل وهو لبن مِنْحِتَهِما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر فهيرة حين تذهب ساعة من العشاء حين يغلس, يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
فاستأجر رسول الله وأبي بكر الصديق رجلاً من بني الديل هاديًا خريتًا ـ والخريّت الماهر بالهداية ـ وهو على دين الكفار فأمناه فدفعا إليه راحلتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال (صبح ثلاث) وانطلق معهما عامر بن فهيرة فأخذ معهم طريق الساحل ـ أي الطريق الذي لا تفطن إليه قريش ـ ولمّا غدا رسول الله في ذلك الطريق مَرّ على بني مدلج وفيهم سراقة بن مالك بن جعشم فجاء إليه رجل فقال: فكأني بمحمد وأصحابه قد مَرّوا بكم قال سراقة بن مالك بن جعشم وكلامه في صحيح البخاري قال: إنما هما فلان وفلان رأيناهما بأعيينا فذهب فلبث هنيهةً ثم أمر جاريته بأن تُعد له فرسه فركب فرسه وانطلق في أثارهما فرأى النبي وصاحبه على مد البصر, فإذا فرسه تخر في الأرض قال: فاستخرجت الأزلام فاستقسمت بها ـ أخرج أزلامه كما كانت تفعل قريش ـ فأقسم بها فخرج الذي أكره فخالفتها ـ أي خالف الأزلام التي خرجت بما يكره, فذهبتُ في إثرهما فخارت فرسي في الأرض أكثر من الأول فعلمت أنه سيظهر أمره ـ أي علمت بأن الرسول عليه الصلاة والسلام سيظهر أمره, وفي الرواية التي في البخاري أنه لما قرب منهما في الثانية كان رسول الله يقرأ وكان أبو بكر الصديق يلتفت لماذا؟ خوفًا على نفسه؟ لا والله, خوفًا على الرسول عليه الصلاة والسلام, إنما هو رجل إذا هلك لم يهلك الدين, أما الرسول إذا مات خسرت البشرية كثيرًا فكان يلتفت رضي الله عنه يمنة ويسرة خوفًا على الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال سراقة بن مالك: فناديت فيهما بالأمان, فقربت منهما وقلت لهما: إن قريشًا قد أعدت مائة من الإبل في إثركما, وأعطيتهما الزاد فلم يسألاني وقالا: غَمِّم علينا ـ أي أخف عنا ـ أي إذا ذهبت إلى قومك فلا تخبر بآثارنا, وإنما عليك أن تصرف آثارهم عَنّا, قال أهل السير: فكان سراقة بن مالك يدل الناس على غير طريقه عليه الصلاة والسلام, فكان في أول النهار طالبًا لهما وفي آخر النهار حارسًا عليهما, وهكذا الله سبحانه وتعالى يحمي عباده تعالى إنه على كل شيء قدير.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بهديه عليه الصلاة والسلام في أمره كله إنه هو القادر على ذلك وهو العليم الخبير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رزقنا وكفانا وآوانا, الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام, نعمًا ظاهرة وباطنة فله الشكر وله الحمد ليل نهار, والصلاة والسلام على من أرسله تعالى رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركنا على المحجة البيضاء فصلى الله عليه كما عرفنا به ودعا إليه. أما بعد:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ـ وذلك في حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري ـ فنزلنا عند شجرة لها ظل, أي في طريق هجرته عليه الصلاة والسلام فقال للنبي امكث حتى آتيك وكان يحرسه فذهب إلى راعي غنم يرعى غنمات له فقال: لمن هي؟ فقال لرجل من أهل مكة أو المدينة, فطلب منه اللبن, فحلب له فوضعه في إداوة وأتى به النبي فوجده نائمًا فكره أن يوقظه, فلما استيقظ قال أبو بكر: فصببت عليه الماء حتى برد من أسفله فأعطيته النبي حتى رأيت أنه قد شرب من اللبن, فقال الرسول : متى الرحيل؟ فقلت: الآن يا رسول الله, وكان أبو بكر الصديق ـ كما هو في صحيح البخاري ـ كان الصديق أكبر من النبي سنًا فكان إذا رآهما الرائي أقبل على أبي بكر فقال: من هذا الذي بين يديك فكان الصديق رضي الله عنه يقول: هادٍ يهديني الطريق فيظن أنه الطريق وإنما هو بسبيل الخير أي يوري على الناس فيقول هذا هادٍ يهديني الطريق, وهو الطريق لكنه طريق الجنة, أي هو سبيل الخير كان على ذلك رضي الله تعالى عنه حتى قدم النبي المدينة المنورة وكانت الأنصار من الأوس والخزرج من بني عمرو بن عوف يخرجون إلى النبي في كل يوم حتى وقت الظهيرة فإذا اشتد الحر عادوا, حتى كان يوم هجرته فرآهما رجل من اليهود فلم يتمالك نفسه أن صرخ في بني عمرو بن عوف: أيها العرب هذا جدكم, فأقبلوا على النبي وكانوا لا يعرفونه فظنوا أنه أبو بكر الصديق فكانوا يقبلون على أبي بكر يصافحونه ظنًا منهم أنه الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أتت الشمس على النبي فوضع الصديق رداءه عليه فعرفوا بأنه عليه الصلاة والسلام فأقبلوا عليه يسلمون عليه ويقبلونه.
هذا هو طريق النصر الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام, وينبغي ونحن نستقبل مثل هذا العام أن نذكر هذا الكفاح الذي كافحه وأن ننصر دينه وإلا كما قال تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله , يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فنسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله وأن يجعلنا من الناصرين لدينه, وعلينا أيضًا إخوة الإيمان أن نستقبل هذه السنة بالأعمال الصالحة إذا كان يستقبل هذا الشهر شهر الله الحرام بالصيام, كان يستقبله بطاعة الأعمال كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة, وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان فقال : ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل, وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)). والحديث عند مسلم وأبي داود.
فكان يستقبل سَنته الجديدة بطاعة الله تعالى آكد الآيام في الصيام في هذا الشهر الذي نستقبله هو يوم التاسوعاء والعاشوراء؛ فقد صامه الرسول كما ثبت ذلك عنه في الصحيح لما قدم المدينة فوجد يهودًا تصوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا: يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم وأغرق فيه فرعون وقومه, فصامه موسى شكرًا لله, فقال رسول الله : ((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه, أي صام عاشوراء, وأمر بصيامه وذلك في ابتداء الأمر ثم كان بعد ذلك من شاء صام ومن شاء تركه. فقال : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن تاسوعاء)), فأكمل الصفات لصيامه أن يصوم الإنسان التاسع والعاشر وإلا اقتصر على العاشر, والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1/1380)
بداية الوحي وحديث البخاري
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمود بن عمر مشوح
الميادين
18/7/1975
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية دراسة سيرة النبي. 2- حديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري في
بدء الوحي. 3- وقفات مع هذا الحديث. 4- ما كان عليه رسول الله من الأخلاق والصفات قبل
البعثة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون,إن الحديث عن سيرة النبي ليس أمرًا هينًا, فنحن نملك في موضوع السيرة أقدم نص وأوثق نص هو النص الذي جاءنا عن طريق ابن هشام, والمعروف بسيرة ابن هشام, وسيرة ابن هشام هذه هي تلخيص لمغازي ابن اسحق ـ رحمة الله عليه ـ وهذه المغازي ضاعت فيما ضاع أثناء النكبات التي حلت بالمسلمين على مدى تاريخهم الطويل.
ثم هناك ما هو أوثق من هذا ولكنه أضيق مدى وأقل شمولاً وهو ما يتناثر من وقائع السيرة في ثنايا مجاميع الحديث النبوي الشريف.
ثم بدأ الناس يكتبون في سيرة النبي واختلفت درجات الغلو في هذه الكتابة, ويكفيك أن تنظر في كتب المتأخرين لترى كم ترك الخيال الشعبي من آثار على هذه السيرة الإنسانية العالية وكم ألحق في السيرة النبوية من خرافات وأباطيل مع أن النبي صلوات الله عليه وآله كان يحصر باستمرار وفي كل مناسبة على تأكيد بشريته ونفي أي صفة زائدة على هذه البشرية.
وفي منهجنا الذي نأخذ به أنفسنا إن شاء الله سوف نعني عناية خاصة بتجديد حياة صلى الله عليه وآله مما ينبغي أن لا يضاف إليها من الخرافات والأضاليل والأباطيل فحسبنا منه عليه الصلاة والسلام أنه البشر الكامل المكمل قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي.
اعرف تمامًا أن كثيرًا من العوام وأشباه العوام سيضيقون ذرعًا بهذا لأنهم يرون عن جهل أن أي مساس بجملة الأباطيل التي يروج لها ويسمعونها شيء لا يطاق, ولكننا نحترم العلم ونحترم الحقيقة ونحترم الحقيقة البشرية المتمثلة في محمد , هذه ملاحظة.
وملاحظة أخرى: إن الميدان الذي نرده الآن ميدان بكر أو شبه بكر, أنا لا أهتم بالخير من حيث هو خير, لا أهتم له من حيث هو واقعة تاريخية, فالتاريخ معلومات لكني أهتم بالسيرة برمتها من حيث هي حركة, من حيث هي تحرير للإرادة البشرية, من حيث هي إغناء للمسيرة الإنسانية, من حيث هي رفع لسوية الإنسان, يهمني أن أعرف وأن تعرفوا كيف كان النبي صلوات الله عليه وآله وسلم يدعو ويتصرف, وتحت أية قوانين وقواعد كان يسير في هذه الدعوة؛ لأن اجتهادات المجتهدين في عمل المسلمين اختلفت ضرورة , لاختلافهم في فهم هذه القواعد, فالسيرة تهمنا من حيث هي صورة لتيار حركي استهدف تغيير الواقع البشري بالدعوة وبالقول وبالعمل ثم هو لم يكن عملاً عشوائيًا غير مبني على قواعد ولا خاضع لقوانين ولا هو غير مقيد بمناهج, وإنما هو بالفعل كان يخضع لقوانين صارمة ودقيقة للغاية.
وواجب المسلمين أن يتعرفوا على هذه القوانين ليقيموا حركتهم وفقًا لها, لماذا؟ لأن الله جل وعلا اختصر لنبيه الطريقة التي توصل إلى الهدف المقصود من أقرب طريق, وبأقل التضحيات الممكنة على الإطلاق.
فنحن إذن سوف ندرس السيرة في هذا الإطار وسوف نعاملها تبعًا لضعف أو قوة المصادر التي بين أيدينا على ضوء القرآن, لأن القرآن هو الوثيقة الأولى التي لا يمكن الطعن فيها وهو الوثيقة الوحيدة التي تحوي هذه الحركة بكل زخرفها وبكل اشعاعاتها, هذه ملاحظة ثانية.
نعود إلى ما كنا فيه منذ أسبوعين, رويت لكم الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمة الله عليه في أوائل كتابه الجامع الصحيح وفي باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله , واقتصرت من الحديث على ما دعت الحاجة إليه آنذاك, الآن سأروي لكم الحديث بتمامه إن شاء الله وأرجو أن نمرن أنفسنا على قراءة ما بين السطور.
قال الإمام البخاري ـ رحمة الله عليه ـ: حدثنا محمد بن بكير قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "أول ما بُدِءَ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء أي العزلة, وكان يخلو في غار حراء ويتحنث ـ وهو التعبد الليالي ـ ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ـ يعني يرجع ـ ويتزود لذلك, يعني: ينقطع أيامًا يأخذ أثناءها ما يلزمه من زاد ثم يعود إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثل ذلك أي أن تحنثه, كان يستمر على فترات كلما فني زاده وانتهت نفقته عاد إلى بيته فتزود ثم رجع إلى الغار يتحنث هناك.
قالت: جاءه المَلك وهو في حراء فقال له: اقرأ, فقال: ما أنا بقارئ, قال ـ يعني رسول الله ـ فأخذني فغطني أي اعتصرني حتى بلغ مني الجهد أي أتعبني جدًا ثم أرسلني وقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ, قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ بسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم , قالت: فرجع بها ـ يعني بهؤلاء الآيات ـ رسول الله يرجف فؤاده أي داخله شيء كثير من الرعب, والتجربة جديدة على الإنسان تدخل الرعب إلى نفسه حقًا فجاء إلى خديجة فقال: زملوني. فزملوه فلما ذهب عنه الروع أي زايله الخوف قال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي خشي أن يكون قد تلبسه شيطان أن يكون قد أصابه مس قالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا, إنك لتصل الرحم, وتقري الضيف, وتحمل الكل, وتعين على نوائب الحق, ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل بن عبد العزى وكان ابن عم خديجة رضي الله عنها وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية أي دخل دين النصرانية وقرأ الكتاب العبراني وكان يكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب فقالت له: يا بن عم اسمع من ابن أخيك قال ورقة: يا ابن أخي ـ يعني للنبي ـ ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخبر ما رأى فقال: لئن كنت صدقتني إنه الناموس الذي نزل الله على موسى وإنك لنبي هذه الأمة, وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. قال له قبل ذلك: يا ليتني أكون حيًا إذا يخرجك قومك فدهش النبي قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قومه بمثل ما جئت به إلا عودي, وإن يدركني يوم أنصرك نصرًا مؤزرًا.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي قال ابن شهاب وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال وهو يحدث عن فترة الوحي قال رسول الله بينما أنا في حراء إذ سمعت صوتًا فرفعت رأسي فإذا المَلك الذي جاءني في حراء جالس على كرسي بين الأرض والسماء فرعدت فرقًا ـ خوفًا ـ فرجعت فقلت: دثروني فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر ـ إلى قوله تعالى ـ والرجز فاهجر ثم حميّ الوحي وتتابع, هذا نص حديث الإمام البخاري رضي الله عنه رويت لكم جانبًا منه منذ اسبوعين ورويت لكم نصوصًا أخرى في الموضوع.
قال ابن هشام قال ابن إسحق في السيرة ابتدأ رسول الله بالتنزيل في شهر رمضان أي أن بداية الوحي كانت في شهر رمضان, قال الله تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان , وقال الله تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر وقال الله تعالى ـ بسم الله الرحمن الرحيم ـ: حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين , وقال الله تعالى: إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان , وذلك ملتقى رسول الله والمشركين ببدر.
قال ابن إسحق وأخبرني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التقى هو والمشركون في بدر صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فالمقطوع به أن التنزيل وأن الدعوة بُدأت في شهر رمضان المبارك.
نحاول الآن وأرجو أن تعيروني أسماعكم أن نتنبه إلى الحديث سآخذ منه موضوعات:
أولاً: الوقت الذي وصفت به خديجة رضوان الله عليها رسول الله.
ثانيًا: الإنذار الذي أنذر به ورقة رسول الله أنه سيعادى وسيؤذى وسيطارد وسيخرج وعلل ذلك أن رجلاً لم يأت قومه بشيء مثل الذي أتى به محمد إلا كان نصيبه العداء من الناس.
ثالثًا: الدهشة الغريبة والاستغراب الذي قابل به رسول الله هذا الانذار أوَ مخرجيَّ هم.
سنبدأ بما تيسر لنا:
خديجة رضي الله عنها حينما جاءها رسول الله يحمل أوائل الوحي هذه الآيات القصار اقرأ باسم ربك الذي خلق وأخبرها خبر ما رأى وخبر ما سمع, ماذا قالت له؟ قالت له: والله لا يخزيك الله أبدًا, النبي أوجس في نفسه خيفة خشي أن يكون أصابه شيءٌ من المس تجربة غير عادية كلام يسمعه الإنسان يخالط منه اللحم والعظم من مخلوق لا عهد له به ولا عهد للناس به يأمره وينهاه ويعتصره ويرسله ويكلفه بأن يحمل للناس رسالة الله شيء يروع القلب ويدخل الرعب إلى النفس جاء خائفًا لها الزوجة الوفية فقالت له بدون تلكأ وبدون تساؤل: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا, لماذا؟ هل هي ثقة الزوجة بالزوج؟ هل هي محبة الزوجة لزوجها وحسب؟
أحسب أن الأمر على خلاف ذلك إن خديجة رضوان الله عليها عللت هذا الموقف بماذا؟ عللته بما اشتهر عن رسول الله من خلالٍ فضيلة وخصائل الاستقامة والشرف: إنك لتحمل الكل, وتقري الضيف, وتصل الرحم, وتعين على نوائب الحق. خلال غالية, وفضائلُ عظمى لا تجتمع إلا في نفس عظيم من العظماء, أو في نفس أعظم العظماء.
هذه الشهادة التي جاءت عفو الخاطر لم تأت في معرض أمر من ورائه مطامع ولا مكاسب جاءت في مواجهة أي شيء, في مواجهة تأكيد من قبل رجل مارس الكتب وقرأها وعلم أخبار الأولين واطلع على سيّر كثير من المرسلين, فأنذر هذا المتوجس , هذا المرتعش الخائف من التجربة التي شهدها ومر بها أنه سَيُؤذى, وأنه سيعادى, وأنه سيطارد, وأنه سيخرج من بلده.
أية زوجة من الزوجات العاديات لو سمعت هذا من زوجها في مواجهة هذه النُذر والمخاطر لكانت عاملاً في تثبيط همة الزوج, لكانت عاملاً يدعو زوجها إلى القععود ونفض اليد من هذه المهمة القاسية, المهمة الغير مأمونة النتائج.
ولكن خديجة رضي الله عنها بالفطرة السليمة, بالخُلق الفاضل, بالطبع الكامل رأت أن امرأ مثل محمد صلوات الله عليه وآله لا يمكن أن يصاب من قبل رب العزة بالخذلان, طالما أن الله جمله وكمله بهذه الفضائل وزانه بهذه الأخلاق الرفيعة فلم يك ذلك قطعًا لكي يهدر ويضيع هذه المعاني السامية المتمثلة في شخص محمد , ولكن الله سيحفظ بحفظه رسوله ولن يعرضه للخزي والخذلان, ولهذا آمنت خديجة رضي الله عنها لأول ما أخبرها رسول الله أن الله ابتعثه للعالمين بشيرًا ونذيرًا.
علامَ يدلنا هذا؟ ما هو الدرس الأول البدهي الذي يمكن أن نستخلصه من هذه الشهادة, من هذه الواقعة الجزئية؟ وتعودوا معنا يا اخوة على قراءة ما بين السطور.
هذا يدل على أن شخصية الداعي ـ وهنا موضع الأهمية ـ لها الأثر الحاسم والنهائي في نجاح الدعوة أو فشلها, لو أن الرسول كان على غير ما هو عليه, ماذا يكون الحال؟! إن محمدًا ولد في مكة وعاش في مكة, واختلف فيما يختلف فيه الناس واضطرب فيما يضطرب فيه الناس من شئون الحياة أخذ وأعطى وتزوج, وأقصى وأكل وشرب ورآه الناس لم تكن حياته الشريفة صفحة مطوية, وإنما كانت شيئًا ظاهرًا يعلمه الناس ويرونه بأم أعينهم, ويسمعونه بآذانهم ويلمسون آثاره بأيديهم فما تعلقوا عليه بريبة قط, عاش العمر الطويل بينهم أربعون سنة مرت والنبي لا يلفت أنظار من حوله من الناس بشيء خارق للعادة, كل ما هناك أنه كان بشرًا كاملاً, وكان إنسانًا رفيعًا, وكانت طباعه سليمة, وكانت فطرته مستقيمة, أما أنه كان هناك شيء خارق للعادة قبل أن يفجأه الملك بما فجأه به في غار حراء , فلا.
هذه الحياة التي مرت ـ أربعون عامًا ـ بلغ فيها النبي وآله أشده واستوى وأخذ فيما يأخذ الناس فيه لم يجربوا عليه كذبًا قط, ثم أعلن لهم بأنه مرسل إليهم من قبل الله جل وعلا, فلم يتهمونه بالكذب؟ أبعد أن جلل الشيب فوديه يكذب على الله, وهو الذي لم يجز لنفسه أن يكذب على أحد, هذا شيء غير مقبولٍ في بديهة العقل الإنساني كان عليه الصلاة والسلام منذ الطفولة وبواكير الصبا مثالاً للإنسان المهذب المستقيم, قال عليه الصلاة والسلام: ((ما هممت بشيء من أمر الجاهلية إلا مرتين كنت أرعى غنمًا لأهلي فسمعت صوت غناء فسألت صاحبي ـ كان معه شخص آخر يرعى الغنم ـ ما هذا الغناء؟ قال: عرس لآل فلان, قلت له: احفظ عليّ حيثما أذهب لأسمع فلما جئت جلست خارج الدار لأسمع الغناء فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس, فلم أسمع شيئًا, فلما كانت الليلة المقبلة صنعت مثل الذي قبلها ـ طلب إلى صاحبه أن يحفظ عليه غنمه ليسير ويلهو كما يلهو صبيان مكة ـ قال: فجئت فجلست قريبًا من الدار فضرب الله على أذني فنمت فما استيقظت إلا مع الصباح)).
هاتان الحادثتان فقط هما اللتان همّ بهما ـ مجرد إرادة رغبة لم يصنعها ـ من أمر الجاهلية, وأما ما كان يتقرب به قومه إلى الله من عبادة للأوثان ففي حديث بحيرا الراهب أن بحيرا أراد أن يستخبر خبر النبي فاستدعاه واستدناه وقال له: أنشدك باللات والعزى قال: لا تنشدني باللات والعزى, فوالله ما أبغضت شيئًا كما أبغضت اللات والعزى, كان قومه يتقربون إلى اللات والعزى ويرونها تشفع لهم عند الله, وكان عليه الصلاة والسلام يرى أن هذا سخفًا لا يليق بعاقل.
وأمانته ماذا عنها؟ عمل بالتجارة فكان مثال التاجر الصدوق الأمين, اتجر لخديجة رضي الله عنها, فلما رأت ما رأت من صدقه وأمانته ووفائه طلبت منه أن يتزوجها وهي التي رغب أشراف قريش لو ينالون شرف الزواج منها لما تتمتع به من كمال ومنزلة بين نساء قريش فرفضتهم وردتهم برغم ما بذلوا لها من الأموال وقطعوا لها من الوعود, واختارت عليهم هذا اليتيم المقل محمد.
ثم ماذا؟ اشُتهر بالصدق الذي لا صدق بعده أبدًا, اختلفت قريش وكانت قريش تثق به ثقة العمياء لأمانته ولصدقه ولعفافه, اختلفت قريش حين هدمت الكعبة لتجديدها في رفع الحجر الأسود وحمي الأمر وأنذر الشر وتداعوا للقتال, فقام رجل مسن منهم وقال لهم: رويدكم يا قوم اجعلوا الأمر حكمًا في يد أول داخل من باب الصفا فرضوا فلما كان من الغد كان محمد أول داخل فلما رأوه فرحوا واطمأنوا واستبشروا, قالوا جميعًا: هذا محمد, هذا الأمين, رضينا به وبحكمه فسألهم فأخبروه فقال: هلم إليّ ثوبًا فجاؤوه بالثوب, فحمل الحجر بيديه الشريفتين ووضعه في الثوب ثم دعا رؤوساء القبائل وأمرهم أن يحمل رئيس كل قبيلة طرفًا من أطراف الثوب, حتى إذا ساوى الحجر المكان الذي يوضع فيه حمله بيديه الشريفتين فوضعه في المكان الذي هو فيه الآن, لو أن أي رجل من سادات قريش وزعمائها جاء ليكون في مكان محمد لأثار نزاعًا ولأثار لغطًا شديدًا؛ لأنه ما من رجل منهم إلا وله هناتٌ وهناتُ وله سقطات وسقطات, ولكن محمدًا ماذا يقولون فيه؟ بأي شيء يتعلقون عليه؟ لهذا من غير تردد وبلا مجادلة وبلا نقاش قبلوا به وبحكمه, أكثر من ذلك لما جاءت الدعوة وأنذر وبشر ودعا إلى الله واشتد الأمر بينه وبين قريش وتدابرت قريش فيما بينهما فوصلت الأمور إلى حد التآمر على قتله ؟ هل فكر أحد من القرشيين أن يسترد ما كان عند محمد من أمانات؟ لا, حين أراد الهجرة في وقت المؤامرة وفي ساعة التنفيذ ـ زعموا ـ خلف رسول الله عليًا رضي الله عنه في مكانه لكي يرد الأمانات إلى أصحابها.
يا سيدي يا رسول الله, أية أمانة, أية ثقة هذه التي كنت تتمتع بها من خصومك, من الذين يطلبون دمك, من الذين يسعون ليقتلوك, أو يثبتوك أو يخرجوك, ما فكروا بأن أموالهم في خطر عند محمد في أشد الأوقات وفي أحرجها كانوا يثقون بمحمد , هذه الثقة العمياء التي لا تتقبل المناقشة ولا الجدال.
ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى يعزي نبيه حين ووجه بالصد وأُعلن تكذيبه, ورفضت قريش سماع ما يقول, يقول له الله: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون , حينما تكون شخصية الداعي بهذه المثابة من الطهارة والاستقامة, والثقة, والأمانة, تكون دعوته بمنجاة من كل الركام الذي يلحق الدعوات التي يقوم بها أناس عليهم بعض الشوائب وبعض المآخذ, ولهذا نجد أن الأمور يسرت لمحمد كان طريقه إلى قلوب الناس مفتوحًا ومعبدًا ومذللاً, فهو الموصوف في الجاهلية وفي الإسلام بالوفاء والصدق والأمانة, هو الموصوف بالوفاء.
لما وضع أهل الحديبية وأثناء المفاوضات جاء أبو بصير رضي الله عنه فرفض سهيل أن يسمح لرسول الله بقبوله وقال: لجت القضية بيني وبينك يا محمد, أي تم العقد, قال: صدقت يا أبا بصير ارجع مع القوم, قال: أرد إلى قريش, إلى الكفار يعذبوني ويفتنوني عن ديني.
يا معشر المسلمين قال: يا أبا بصير إنا أعطينا القوم عهودًا وإنه لا يصلح في ديننا الغدر. الغدر وسيء الأخلاق وردئ الطباع قد يوفر لك مكسبًا عاجلاً رخيصًا, لكن ثق أنك ستخسر الجولة الأخيرة.
الاستقامة,الوفاء, الطهر العفاف, صدق الحديث قد يعرضك للمتاعب لكن ثق أنك ستكسب الجولة الأخيرة, ما معنى هذا؟ معنى هذا أنني أطلب إلى كل داعٍ إلى الإسلام أن يكون بصدق محمد وبوفاء محمد وبطهارة محمد, ذلك شيء لا سبيل إليه لكني أطلب واشترط في كل متصدٍ للدعوة إلى الله جل وعلا أن يكون صادقًا مع الله, صادقًا مع نفسه, صادقًا مع الناس بمجرد أن يتوفر هذا يكون طريقه سهلاً, لابد من المتاعب, ذلك ثمن يجب أن يدفعه كل متصد ومتقدم لتغيير الأوضاع المهترئة الفاسدة, ولكن العواقب مضمونة بإذن الله تعالى, قد يحرض الإنسان في موطئة يقال له كنت كيت وكان منك كذا وكذا, وهذا حصل ولابد أن يحصل لكني أريد أن أبشر يا أحبابنا أن مدار الأمر على الصدق مع الله تعالى, فالانسان مهما يكن ملوث الماضي, مهما تكن عليه من سقطات وشواغر يجب أن يعلم أن الصدق مع الله والتزامه بحدود الشريعة ووفاءه لهذه الدعوة والتحاقه بجمهور المسلمين من أجلهم ولخدمتهم يهون عليه متاعب الطريق.
إن الله جل وعلا تكفل وهو الصادق الذي لا يأتي كلامه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لهؤلاء الناس الذين يصدقون معه أن يبدل الله سيئاتهم حسنات بل أكثر من ذلك إن الله جل وعلا أخبر على لسان المصطفى أن الرجل الصادق مع الله , المتلزم بأوامر الله جل وعلا وينسى الله جل وعلا الحفظة ذنوبه ويمحو عن أذهان الناس سيئاته بلى ويسنى الأرض التي عصى عليها معصيته, إن الله جل وعلا لم يطلب منك أيها المسلم إلا أن تكون صادقًا معه فإن صدقت معه فالبقية على الله.
أيها الأخوة أيها الراغبون في سيادة كلمة الله, أيها الداعون إلى الله أبشركم بهذا الحديث: ((إن الله إذا أحب عبدًا قال: يا جبريل فأحبه فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه ثم ينزل له القبول في الأرض, وإذا أبغض الله عبدًا نادى جبريل فقال لجبريل إني قد أبغض فلانًا فأبغضه فينادي جبريل في أهل السماء إن الله قد أبغض فلانًا فأبغضوه ثم ينزل له البغضاء في الأض)), فمدار الأمر كما ترون على الصدق وعلى الوفاء لنهج النبوة وتعهد هذا الدين فإذا كنت صادقًا فثق أن الله جل وعلا بيده كل شيء وبيده مفتاح كل شيء.
إن الله كلف إبراهيم عليه السلام فقال له: وأذن في الناس بالحج, فقال يا رب, وماذا تبلغ دعوتي من الناس, أقف في منى وأقول: إن الله كتب عليكم الحج من الذي يسمعني قال الله جل وعلا: أذن في الناس وعلينا البلاغ, فأذن إبراهيم عليه السلام, وسمعت الدنيا أسلافًا وأخلافًا دعوة إبراهيم عليه السلام في الحج إلى بيت الله الحرام.
لماذا تعجبك أيها المسلم إن النبي حج حجة الوداع وحج معه من أصحابه مئة ألف وعشرة آلاف عدا الأعراب ومن جاء مما لا يبلغه الاحصاء ولا يتناوله العد, وكان النبي والمسلمون منتشرين في منى وخطب النبي ببلاغه العرب بوصاتة الأخيرة بخطبة الوداع, لم تكن هناك مكبرات للصوت ولا كانت هناك وسائل تبلغ الكلام إلى الناس وكان النبي عليه السلام يتكلم وكان الصوت يبلغ المسلمين وهم في خيمهم بقدرة الله جل وعلا وبإرادة الله جل وعلا, فإذا كان الأمر كذلك فإياك أيها المسلم أن يردك أو أن يجعلك في تردد ما تشعر به من ماضيك, اصدق مع الله فأنت تنسى ماضيك, وينسى الناس كلهم ماضيك, وتنسى الحفظة ماضيك, وتنسى الأرض التي عصيت عليها هذا الماضي.
شخصية الداعي إذاً لها الأثر الحاسم في إنجاح الدعوة, فليحذر كل إنسان يدعو إلى الله جل وعلا متمثلاً بالنبي آخذًا الدرس والعبرة من هذه الشهادة التي رويناها لكم والتي هي كلمات قلائل ولكنها تترجم عن حياة النبي , هذه الحياة الطاهرة النقية التي فتحت أمام محمد عليه السلام مغاليق القلوب والأسماع والأبصار, فأبلغ دعوة الله إلى الناس قاطبة.
يا أحبابنا استعينوا بالله واعلموا أنكم في زمن يطلب من كل واحد منكم أن يجند نفسه لخدمة هذا الإسلام, هذا الإسلام أهمل طويلاً والمؤامرات عليه, وهذا الإسلام تكسرت عليه النصال فوق النصال, وآن لكل مسلمٍ أن يعرف واجبه وأن يعرف أنه موقوف بين يدي رب لا تخفى عليه خافية, فمسئول عن كل كلمة وعن كل, وعن كل تصرف, بلى وعن كل همٍ ونية وإرادة تحركت في خلجات الضمير, فاتصلوا بالله واعتصموا به هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.
هذه يا أحبابي فكرة واحدة احفظوها وعوها, وفي المستقبل سوف نحاول أن نعاج بقية الأفكار لا نخرج من المسجد إلا بشيء حقيقي قد تعلمناه.
شيء أخير أريد أن أقوله لكم, هذا الكلام الذي أقوله لكم ليس كلامًا من قبل اجتهادي خير ما عندي, وأنا أكره ما أكره موقف الأستاذ موقف الموجه, أنا واحد منكم, قد أكون أقلكم عزمًا وحولاً وقوة, فأنا أطلب من كل واحد منكم أن يعينني بالرأي وأن يناقش, وأن يفكر, أنتم هنا لتسمعوا ولتفكروا, وأنا هنا لأقول ولأسمع أراءكم, والقضية قضية تعاون نحن نقول رأيًا قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً, وأنا لست من هؤلاء الذين يتأذون من رد الرأي ثقوا أنني أفرح من أعمق أعماق قلبي حينما أرى ولدي الصغير يصحح لي خطئي, نحن جميعًا إذًا باحثون عن الحقيقة نبحث عنها, البحث عنها يقتضي الجد في النظر والتفكير والمناقشة, وخطبة الجمعة تعليم وتعاون بين المسلمين فلا تكونوا سلبيين, من رأى رأيًا لا يعجبه, ولا ينطبق على ما نفكر فيه فليقل لي لا يستح أنا ربما أغفل, وربما أنسى, ومن الراجح أنني أخطىء, وأنا محتاج إلى رأي كل واحد منكم لنعاونه على التعرف على الحق فلا خير في حياة لا يسود فيها الحق.
أسأل الله جل وعلا أن يعيننا وإياكم والمسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1381)
بداية الوحي وسبيل الداعية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
محمود بن عمر مشوح
الميادين
25/7/1975
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفات مع حديث عائشة في بدء الوحي. 2- وقفه مع قول رسول الله : ((أو مخرجيهم؟)).
3- صبر النبي في أداء الدعوة وإيذاء قومه له.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة المؤمنون فلقد كنا قد وقفنا في الأسبوع الماضي عند شهادة خديجة رضي الله عنها لمحاسن خصال النبي , وذلك في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, وتبينا من خلال التتبع لكثير من الوقائع أن هذه الصفات العالية هونت على رسول الله متاعب الطريق ووعدنا أن نأتي بالحديث على بقية الوقفات التي أردنا ابرازها في الحديث الشريف.
وأولى الوقفات التي تحدثنا عنها كانت قول خديجة رضي الله عنها للنبي عليه الصلاة والسلام في معرض التثبيت والتطمين: كلا, والله ما يخزيك الله أبدًا, إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
وثانية الوقفات التي لم ينفتح لنا مجال القول فيها, والتي نأمل أن نأتي عليها اليوم بعون الله وتوفيقه تلك الدهشة التي أبداها رسول الله حينما سمع كلام ورقة بن نوفل, فمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أخبر خديجة رضي الله عنها بخبر ما رأى وما سمع من بدايات الوحي أخذه الروع, فذهبت به إلى ورقة, وورقة هذا كان رجلاً قد تنصر في الجاهلية وأخذ علمًا من علم أهل الكتاب, ويبدو والله أعلم أن خديجة رضوان الله عليها التمست عند ورقة قطع اليقين فيما أحسته في نفسها من أن هذا الإنسان الذي هو زوجها له شأن عظيم, وبعد أن بشر ورقة رسول الله صلوات الله عليه تمنى أمنية, قال: يا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك, فدهش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال أوَ مخرجيَّ هم؟ قال: نعم, لم يأت أحد قومه بمثل ما جئتهم به إلا عودي, وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
ربما يكون الوقوف عند مظهر الدهشة هذا أمرًا غريبًا على كثير من الإخوة, وسنحاول ـ بإذن الله ونحن في معرض التقصي لخصائص النبي الخاتم محمد عليه السلام ـ أن نستكشف أسباب هذه الدهشة وآثارها, آثارها في النفس, وآثارها في الآخرين, وما ينبغي أن يكون عليه الدعاة إلى الله من احتذاء لهذا المثل الرائع المتمثل في رسول الله.
من غير تحليلات طويلة أحب أن أضرب لكم مثلاً يقرب الأمر إلى الأذهان, تصور أنك أمام عشرة أشخاص ثم تكلم أمامهم بكلام فاحش, ولاحظ تعابير الوجوه من هؤلاء من يتلون وجهه وتتأذى نفسه وتصدم أحاسيسه, ويرى أن هذا القول لا يليق, ليس هذا وحسب, وإنما هو لا يتصور أن يخرج هذا الكلام الفاحش البذئ من انسان يحترم معنى الإنسانية في نفسه, لاحظوا الآخرين تجد بعضًا منهم لا يهتزون من كلمةٍ عوراء, ولا من قولٍ فاحش, فالأمر عندهم طبيعي للغاية علاّم يدل هذا؟ هذا يدل على اختلاف طبائع الناس وعلى تباين فطر الناس وعلى تباين استعدادات الناس, ما كل إنسان يرى أن الحق أمر معقول, واجب وأن الأخذ به لا محيد عنه, وأن الأعراض عنه سفه في النفس وخسةٌ في العقل, ما كل إنسان يتصور هذا التصور, هذا الشيء يحتاج إلى ناسٍ على مستوى عالٍ من الطهارة والكمال, أصحاب الطهارة ومن سلمت فطرهم واستقامت طبائعهم يرون أن الأمر طبيعي هو أن يكون الشيء المعقول هو السائد وأن اللامعقول شذوذ, ينبغي أن لا يحدث, وإن حدث فينبغي أن يطارد في المجتمع حتى يُجلى عن المكان الذي هو فيه.
حينما أخبر ورقة رسول الله بأن قومه سوف يخرجونه وسوف يؤذونه استغرب أوَ مخرجيّ هم؟ لو كان غير محمد لكان استغرابه بغير معنى, لاشك أن الإنسان الذي ينادي الناس إلى غير ما عرفوا وإلى غير ما ألفوا سوف يطارد وسوف يعادى, وسوف يخرج, وسوف تبذل الجهود من أجل إثباته أو قتله, لكن محمدًا صلوات الله عليه سمة أخرى, الإنسان المستقيم بيننا وفي عرفنا يعرف هذا الشيء, يعرف أن حامل الحق لابد أن يلقى البلاء, ولكن أحاسيسه وتصوراته لا تعدو هذا التصور, أما محمد عليه الصلاة والسلام فكان من مستوى آخر, محمد صلوات الله عليه حينما دهش لهذا الكلام الذي قاله له ورقة, فتش في أطواء نفسه, ما يدعو إليه الناس صحيح, ما جاءه من عند الله ليس من عند نفسه, وإنما هو من فاطر الأكوان, هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟ لا, فتش في أطواء نفسه, هل له في هذا الذي يدعو إليه طمع, منفعة, غرض شخصي, غاية ذاتية, شفاء غلٍ وحقد, طلب منصب ووجاهة, جمع مال وحطام, لاشك أن كل هذه النوازع البشرية والأحاسيس الذاتية غريبة عن تصور محمد وعن فكره.
وإذا كان الأمر كذلك أمر قضية موحىً بها من السماء لا شيء فيها من عند الإنسان الداعي, وهي أيضًا أمر قضية لا يرجو صاحبها من ورائها جاهاً ولا مغنمًا, ولا أجرًا, إن أجري إلا على الله ما سألتكم من أجر فهو لكم , إذا كان الأمر كذلك فلم يقف الناس في وجه هذا الشيء؟ لا الداعي في ذاته ما يدعو إلى التنفير, وبالتالي إلحاق الأذى بشخصه, ولا الدعوة فيها ما يدعو إلى الرد والطعن, فلماذا يقف الناس ضدها؟! ولماذا يواجهونها بالعداء؟!.
وحشة النبي إذًا كان مبعثها أن رسول الله من طينة ـ لا أقول خاصة ـ فهي من طينة البشر قل إنما أنا بشر مثلكم ولكنه عليه السلام كان يتمتع بالفطرة الصافية المشعة, فالله جل وعلا لن يختار لحمل رسالته وأداءها إلى الناس إنسانًا من ذوي الطبائع الملتوية أبدًا, وإنما يختار أصحاب الفطر السليمة والطبائع المستقيمة, والله جل وعلا يخبرنا عن موسى عليه السلام فيقول مخاطبًا إياه: واصطنعتك لنفسي ويقول: ولتصنع على عيني , فمن رشح للنبوة فهو بعين الله جل وعلا قبل النبوة وبعد النبوة, هو مجبول على أن لا تعلق به شوائب الدنيا, وعلى أن لا تهبط به نوازع النفس الخاصة المفعمة بالشهوات لهذا فالنبي حين كان على هذا الشكل كان يستغرب أن يأتي قومه بدعوة الحق من عند الله فيقابل عليها بالأذى والصد, هذا تقرير المسألة من حيث المبدأ من غير شروح وتحليلات زائدة عن الحد, وإن كان المجال واسعًا للقول فيها إلى غير نهاية, لكني أريد أن أتتبع معكم آثار هذه الفطرة لأخلص إلى نتيجة أقررها سلفًا أنه في مجال الدعوة إلى الله لا يصلح لحمل هذه الأمانة الثقيلة والرسالة العظمى إلا إنسان حصّل أمرين, أولهما: ضغط هائل على النفس يخدعها عن شهواتها وأغراضها ويلزمها بالتمسك بمنهاج الشريعة, منهاج الحق, وثانيهما: شعور صادق يستغرق النفس ويخالط اللحم والعظم والعصب بأنه يحمل إلى الناس الدواء, ومهما لقي منهم من عنة وإرهاق, ومن صد وتكذيب, فلا ينبغي أن يلفته ذلك عن الغاية التي ندب لها نفسه ولا ينبغي له هو أيضًا أن يلتفت إلى صغار النفوس لكي يسمح لها أن تحول بينه وبين مواصلة الطريق.
نأتي إلى الأمثلة, نأتي إلى الوقائع من واقع السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما بدأ عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الله كانت المواجهة في مبدأ الأمر مواجهة الريبة والتوجس والترقب من أجل استكشاف هذا الشيء الذي يدعو إليه محمد , وحينما واجه رسول الله عليه الصلاة والسلام قومه بتسفيه أحلامهم وعيبهم وعيب آبائهم وشتمهم وشتم أصنامهم وشجب قواعد الحياة الاجتماعية التي يعيشونها, ثارت ثائرتهم وَرَأوا أن الأمر أعظم من أن يطاق, أو أن يمكن الصبر عليه بحال فبادروه بالعداء, فماذا كان موقف النبي ؟, لو كان رجلاً من الناس كسائر الرجال لثار لكرامته ولثأر لنفسه, ولكنه عليه الصلاة والسلام كان يتحمل ما يلقى من قومه بصدر رحب كان شأنه كشأن الطبيب الذي يسمع من المريض قارص القول, ولكنه يحمل له في أعماق قلبه كل الشفقة وكل الحب وكل الرجاء في أن يشفى من هذا الداء العضال الذي يعاني منه, لم تتحرك نفس النبي للانتقام لنفسه قط, وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما انتقم لنفسه قط برغم كل ما رأى وكل ما سمع, ولكنه إذا انتهكت حرمات الله كان لا يقوم لغضبه شيء.
فبهذه النفس الطيبة والفطرة الخيرة, كان يقابل مساءات قومه, كان يعفو ويصفح ويغفر, يدعوهم إلى الله فيشتمونه ويضربونه ويتربصون به حتى يسجد لله جل وعلا فيلقون على رأسه وعلى ظهره سلا الجزور والأوساخ والأقذار, فإذا فرغ من صلاته قال: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
ذهب ذات يوم بعد أن يئس أو كاد من قومه قريش ذهب إلى الطائف يلتمس للدعوة منفسًا بين رجالات ثقيف فرُدَّ أقبح الرد, فرجع مفوضًا إلى الله أمره, يقول: ((إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي)) , حين كان في الطريق جاءه ملك الجبال فقال: يا محمد, إن ربك أرسلني إليك يقول لك: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين, ـ والأخشبان جبلا مكة ـ قال: ((لا, إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى)).
لو فرضنا أن هذا الجيل لا فائدة منه فالرجاء معقود بالأجيال القادمة, ولهذا فنبي الله عليه السلام لم تنازعه نفسه بدعوة كدعوة نوح التي قال فيها: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا , وإنما دائمًا وأبدًا ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
أيضًا أُخرج من بلده بلد الصبا والطفولة والشباب, أرض الذكريات الحلوة والتصورات العذبة أرض الآباء والأجداد, والإخوة والأخوات, والأعمام والعمّات, أخرج كرهًا, وذهب وكانت له مع قريش صدامات وكانت موقعة أحد بلاءًا ابتلى الله به المسلمين, وتمحيصًا محص الله بواسطته قلوب المؤمنين, وانجلت المعركة عن خسارة فادحة في صف المؤمنين, سبعون من خيار المسلمين, ممن شهدوا بواكير الدعوة, ممن عاشوا أيام العذاب والبلاء والآلام مع محمد , سبعون لو وزنوا بأهل الأرض لوزنوهم جميعًا, سبعون لو قلنا إنهم وزنوا بمن يدرج على الأرض إلى يوم القيامة لرجحوهم, سبعون يجندلون على الأرض قتلى في سبيل الله, بينهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي ممثلاً به مجدوع الأذنين, مجدوع الأنف, مشقوق البطن, مستخرج الكبد, حالته لا يطاق النظر إليها, فنظر النبي إليه, أي بشر لا يهتز لهذا المنظر الشنيع الذي يدل على فساد في الفطر والطبائع, تمتعت به قريش وجنت ثماره حصادًا مُرًا وعاقبة وخيمة وأليمة تَغَيّظَ النبي وقال: ((ما وقفت موقفًا أغيظ عليّ من هذا الموقف, والله لئن أمكنني الله من قريش يومًا من الدهر لأمثلن بهم مثلة ما سمعت العرب بمثلها قط)) , ذلك الموقف الرهيب موقف الخسارة الفادحة, الموقف الذي يحتاج إلى العزاء ويحتاج إلى مداراة النفوس, أترون النبي تُرك لينساق وراء هذه العاطفة الجارفة التي تجر إلى انحراف في الدعوة؟ لا, في ذلك الموقف تنزل قول الله جل وعلا: ليس لك من الأمر شيء , أي ما عليك إلا البلاغ, وأما ما يحدث فبعين الله, وبعلم الله تبارك وتعالى, ولغاية وحكمة يريدها الرب جل وعلا, ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون , وأنتم يا إخوة تلاحظون جفاف اللهجة التي خُوطب بها النبي في بدر حينما اختلف المسلمون في الغنائم عاتبهم الله جل وعلا عتابًا رقيقًا في مواقع أخرى قال الله لنبيه عفا الله عنك لم أذنت لهم , في هذا الموقف لا مجال للمهادنة ولا مجال للاغضاء عن أي انحراف؛ لأن طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى لا يتحمل أي انسياق وراء النازع البشري, وإنما هو ارتباط مطلق بحقائق الشريعة وبأخلاقيات الدعوة وقوانينها الثابتة في الحركة, ولهذا خاطبه الله تعالى بجفاف ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون.
ومضت الأحداث, مضت الأحداث ليتجهز النبي لفتح مكة, وبدأت ثمار هذه الأخلاق العالية تؤتي أكلها في نفوس المشركين العقلاء من قريش, وأقبل في الطريق عمرو بن العاص, وخالد بن الوليد رضي الله عنهما حتى دخلا على النبي مسجده في المدينة المنورة, ماذا يكون الموقف؟ تصوروا لو أن إنسانًا فعل الأفاعيل وارتكب المآسي ثم جاء مقبلاً واضعًا يده بين يدي دولة من الدول في هذه الأيام, ماذا يكون الوضع؟ ألقو به في السجن, دعوه سنة وسنتين حتى نرى وحتى ننظر, لكن مسلك النبوة غير مسلك الناس, استقبلهما النبي باسمًا ضاحكًا مرحبًا, ماذا قال لخالد بطل مأساة أحد, الرجل الذي قتل الرماة في أحد, وكسر المسلمين شر كسرة, وجندلهم قتلى على الأرض؟ ماذا قال لخالد؟ هل فكر في النقمة منه؟ لا, وإنما التفت إليه وقال يا خالد, لقد ظننت أن لك عقلاً سيجيء بك إلى الإسلام, قال خالد رضي الله عنه: فوالله ما عدل بي رسول الله أحدًا من الناس منذ أسلمت فكأنه ما صار به قط لمجرد أن جاء مسلمًا مذعنًا, منحه النبي عليه السلام كل ثقته, وبمجرد أن جاء ولاه جانبًا من الجيش الذي قاده لفتح مكة, بالأمس أسلم, من يثق بإنسان جاءه فقط بالأمس وهو قبل ذلك خصم لدود وعدو شديد العداوة مستحكم العداوة, من يثق بإنسان من هذا النوع إلا النبي الذي يعامل الناس بمقتضى قوانين الإله لا بمقتضى نوازع النفوس, وكذلك فعل مع عمرو بن العاص سفير قريش الذي ذهب إلى الحبشة لكي يعيد المسلمين من هناك حتى يضعهم فرائس هينة بين يدي الطغاة من قريش.
أيضًا يا إخوة بعث النبي متوجهًا إلى مكة لفتحها, مكة مكة التي أخرجته, مكة التي طاردته, مكة التي لفظته كما يلفظ الضعيف المهين عليها, ذهب فدخلها فاتحًا منتصرًا كيف دخلها؟ بالطبل والزمر, بالمهرجانات, بإطلاق المدفعية؟ لا, دخلها راكبًا على ناقته خاضعًا خاشعًا لله مطأطأً رأسه حتى إن لحيته الشريفة لتمس عنق راحلته من شدة تواضعه لله تبارك وتعالى, دخل كما يدخل العبد الطائع لله الذليل بين يديه العالم بأن النصر من عنده لا بحوله ولا بقوته, وجاء فوقف وقف إلى الكعبة آخذًا بعضادتي الباب والتفت إلى قريش ـ بتلك النظرة كانت تحمل الذكريات الأليمة, ذكريات العشرين سنة من العذاب والإرهاق من المطاردة التي لا تعرف كلاً ولا مللاً ـ وقريش على منازلها تنظر إلى هذا الذي أخرجته بالأمس ويجيل الفكر, بماذا يفكر محمد؟ ما الذي سينزل بهم محمد من العقاب؟ تالله لو صلبهم على جذوع النخل كان ذلك عقابًا حقًا لا يلومه عليه أي مؤرخ منصف من المؤرخين.
التفت إلى الناس وقال: ((يا معشر قريش, ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم قال: أقول كما قال يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )) , أين النقمة؟ ألم يكن في مكنة رسول الله أن ينتقم من خصومه وأعدائه؟ بلى, كان ذلك ممكنًا, ولكن صاحب الدعوة لا يفهم هذا المنطق, تعالوا إلى القرآن نستنطق القرآن حقائق الطريق في هذه الزاوية التي نتحدث عنها, نحن نقرأ في سورة غافر أو سورة المؤمن موقفين متقابلين يكشفان عن تنافر الفطر لدى المعسكرين المتقابلين وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب.
لاحظوا اللهجة الرقيقة الطاهرة السامية العالية, ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أنا ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأنا مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد , بهذه الروح الطيبة, بهذه الطبيعة الخيرة يتجه الداعون إلى الله إلى الناس, فماذا يكون جواب المشركين والمعاندين عن أمر الله في نفس السورة, نقرأ قول الله جل اسمه: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد , لاحظتم الفرق بين الموقفين, فريق يدعو إلى الله على هدى وبصيرة وبينة في منتهى الحب, بمنتهى الشفقة, لا يريد أجرًا ولا شكورًا, ولا مغنمًا من الناس إن أجري إلا على الله , وفريق آخر بما يقابل الدعوة؟ بالتي هي أحسن؟ بم يقابل الفطرة السلمية؟ بم يقابل الحق الذي لا يتزعزع؟ بهذه اللهجة الرعناء, بهذا التعالي, بالقهر والسلطان, اقتلوهم اصلوبهم اسحلوهم اشنقوهم, ذلك هو منطق الفاسدين, ذلك هو منطق العاجزين عن التصدي لدعوة الله بتارك وتعالى.
أين يا إخوة؟ رأيتم في تاريخ الإسلام لحظة لم تكن منعمة بالحب؟ كانت طلائع الإسلام توجه إلى الناس دعوة الله تبارك وتعالى بلا مَنْ, وبلا استعلاء, بمنتهى الحب؟ بمنتهى الشفقة, بمنتهى نكران الذات, وكانت تقابل دائمًا من أعداء الله, ومن الذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس, كانت تقابل بهذه اللهجة العنيفة القاسية: اقتل, اصلب, اشنق, اسحل, وما شاكل ذلك.
طبيعتان متغايرتان, طبيعة المؤمن التي لا تعرف الثأر, ولا تعرف الانتقام, وإنما هو حب مطلق, ورغبة في الخير مطلقة, وطبيعة الفاجرين والمعاندين والظالمين, تلك التي لا تعرف إلا البغي والعدوان, لا جرم أن هاتين الطبيعتين تنتجان آثارًا متباينة, وقد كان ومازال النبي يلقى الأذى من قومه حتى أذعنت له نفوسهم, ودخل معارك, نعم دخل معارك, وكانت فيها قتلى؟ نعم كان فيها قتلى, ولكن نحن بين يدينا احصاءات, بين يدينا احصاءات كاملة عن عدد الذين قتلوا في معارك الإسلام طيلة حياة النبي من الفريقين من المؤمنين ومن المشركين.
ثقوا يا أحبابي أن عدد الذين قتلوا في كل معارك الإسلام في حياة النبي لا يتجاوز عدد قتلى يحصدهم رشاش واحد في مظاهرة يقوم بها بعض الناس, معارك اليوم من أين تنتج؟ تنتج من الطبائع الملتوية والفطر الوسخة, ولذلك فهي تدميرٌ كلها, وهي عبث وفساد في الأرض, ومعارك الإسلام على غير هذا الطراز.
ماذا أريد من ذلك باختصار ـ ولكي لا أطيل عليكم ـ؟ أريد أن أقول كلمتين لكل إنسان تحدثه نفسه بخدمة هذا الإسلام: يا إخوة, حينما نصف أقدامنا على الطريق إلى الله ينبغي أن نميت نوازع الذات في نفوسنا, لا ينبغي لأحد أن يفكر في مطمع ولا في مغنم, ولا في جاه ومنصب, ولا محمدٍ بين الناس, عليه أن يتجه إلى الله, فالله عنده خزائن كل شيء, وبيده إثابة الطائعين العاملين.
ترى عن سفاسف الأخلاق الذي يقابلك به الناس, واعلم أن هذا المظهر الذي تراه مظهر لا يمكن أن يستمر بهذا الشكل, فطاقة الإنسان على العناد والمكابرة طاقة محدودة, ولابد أن يأتي اليوم وتأتي اللحظة التي يذعن فيها أشد المعاندين لله ولرسوله وللداعين إلى شريعة الإسلام, لكن بشرط أن تتجرد! بمجرد أن يتحرك في قلبك النازع الذاتي, بمجرد أن تنساق بعامل بشريتك اعلم أنك قد أفسدت كل شيء.
عليك أن تكون رابط الجأش في وجه الزعامة, عليك أن تكون ثابت الجنان في وجه التهديدات, عليك أن تكون واثقًا أنك بعين الله تبارك وتعالى, عليك أن تكون واثقًا بأنك تحمل رسالة على كفيك لم تصنعها أنت, وبالتالي فلست أنت المسؤول عنها, وإنما أنت مسئول عن نفسك أن تعصرها على الحق الذي أراده الله جل وعلا, أما متى يأذن الله بالنصر؟ متى يأذن؟ فهذا ليس دورك وليس في اختصاصك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1382)
تفسير سورة العلق 1
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
محمود بن عمر مشوح
الميادين
1/8/1395
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث دعاة الإسلام على مراجعة خط الدعوة وعرضه على الأنموذج الأمثل كما عرضه
القرآن والسنة الصحيحة. 2- ملامح المنهج الدعوة للمرحلة المكية كما عرضته السور الأولى
في القرآن. 3- تفسير سورة العلق من أولها إلى قوله: أن رآه استغنى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون, فاليوم نقف إن شاء الله تعالى مع أوائل الوحي مستنطقين ومستلهمين, ولقد أوجزت لكم في الجمعة الماضية ما أرنو إليه من هذه الخطة الوعرة التي ألزمت بها نفسي, فقد ينبغي أن أكرر دون ملل أن هذه الأمة التي تتوزع في شتى أقطار المعمورة أضاعت صوابها منذ زمن بعيد, وضلت طريقها منذ زمن بعيد, ومن المؤسف أنه بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة من أجل التعرف على بدايات الطريق تعرفًا عقلانيًا صحيحًا, غير متأثر العواطف ولا خاضع للاندفاعات.
أقول: إنه من الأسف ما تزال أمتنا في شتى أقطارها بحاجة إلى إعادة نظر, ولقد يجب أن يكون معلومًا أن الإنسان من حيث هو إنسان يعقل ويدرك مطالب بإعادة النظرة في شأنه الخاص والشأن العام؛ لأن بحث الخطى والتعرف على ما مضى هو وحده الكفيل باعادة التوازن إلى مسيرة الأمة, وتعلمون دون ريب أن الله جل وعلا اختار محمد على عينه واصطنعه لنفسه, واختصه بأعظم رسالة, وطوقه أشرف مهمة, ثم اختار له خير الكلام, قرآن الله المنزل على قلب رسوله , وكما فصلته منذ البداية عناية الاصطفاء والاختيار, فإن ربنا تبارك وتعالى قد اختار له من منهاج العمل أقلها تكلفة, وأيسرها زمنًا, وأعودها فائدة بإذن الله القدير, وأحسب أن الأمة يمكن أن تستقيم خطواتها على الطريق السليم إذا استلهمت تلك الخطى المباركة التي خطاها رسول الله , ومن أجل سلامة المسير, ولكي يكون الكلام كلامًا علميًا متسمًا بالرصانة والاتزان رأينا أن نعود من البداية, ولقد كانت بين أيدينا أحداث السيرة, وآن أن أقول لكم كلامًا حول هذه القضية.
أوثق النوص التي بين أيدينا سيرة ابن هشام, وهي تلخيص لمغازي ابن إسحق, والمغازي ضاعت في جملة ما ضاع من تراث هذه الأمة, وما بقي بين أيدينا من حوادث السيرة يشكل أربعة مجلدات هي أوثق النصوص لو جرت غربلتها على طريقة المحدثين, ونقلة الأخبار لما بقي بين أيدينا مما يمكن الركون إليه والثقة به إلا القليل, ولكنا مع ذلك نملك النص الذي لا أوثق منه, ولا أصح: كتاب الله, حياة استمرت على الأرض تحمل أعباء الدعوة وتكاليف أوثق الجهاد في سبيل الله ثلاثًا وعشرين سنة, لا يعقل أن تكون تصرفاتها محصورة بين هذه القدر القليل من الأخبار التي تحصلت بين أيدينا لكنا على ضوء القرآن نستطيع أن نتتبع الوقائع ونستطيع أن نتعرف على الحركة التي كانت موجودة في ذلك الحين.
من أجل ذلك طلبت إليكم أن تقرأوا أوائل سورة العلق وسورة القلم وسورة المزمل وسورة المدثر, وإنما وقفت عند سورة المدثر لغرض؛ لأن سورة المدثر تشكل بداية البلاغ العام وظهور الدعوة بمظهرها المعروف عندنا الآن, والله جل وعلا يخاطب نبيه فيقول: يا أيها المدثر قم فأنذر , إننا نريد أن نتعرف من خلال آيات هذه السور على نوعية المهمات والمصائب الذاتية والخارجية التي كلف بها المسلمون من جهة, وكلف المجتمع الجاهلي بها من جهة أخرى, وإننا نريد من وراء ذلك أن نقيس حجم رد الفعل الذي حدث في المجتمع الجاهلي, وأن نتعرف أيضًا في ضوء القرآن على بواعث رد الفعل هذا.
فلنبدأ الآن:
أول سورة نزلت على رسول الله بإجماع يكاد يكون تامًا هي صدر سورة العلق, وقد مر معنا في حديث عائشة الذي ذكرناه منذ عدة جمع قولها: إن جبريل جاء النبي بصدر هذه السورة اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم , صدر السورة إلى هنا يكاد الإجماع ينعقد على أنه أول كلام إلهي صافح آذان البشرية حين تنزل على رسول الله , ثم ذهبت السورة تحكي أمورًا أخرى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب.
آيات قليلة بناؤها واضح, ولكنه معجز, القضايا التي أثارتها, المهمات التي طرحتها ما هي؟ هل فكرتم بها؟ تعالو نشترك بالتفكير, افتتاح السورة بقول الله جل اسمه خطابًا للنبي الكريم عليه السلام " اقرأ " مع أن النبي صلى الله عليه وآله أمي, لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب, شيء يلفت النظر, ما معنى أن تقول للأمي اقرأ؟ ألست تكلفه محالاً, وتكليف المحال عبث لا يليق بالعقلاء, ما معنى تكليفك لأمي بالقراءة, ولو اجتهد مجهوده كله ما أطاق ذلك؟ لكن في الأمر لطيفة, قول الله للنبي اقرأ لا يعني فقط أن الإنسان يجب أن يقرأ من الكتاب؛ لأن القراءة لا تتوقف على الكتاب فقط, ما معنى القراءة؟ القراءة مأخوذة من الفعل قرأ, القاف والراء والهمزة ـ في لغة العرب التي نزل بها القرآن وخوطبت بها الأمة ـ هذا البناء, هذه الحروف الثلاثة تدل على الجمع والاحتواء, نقول: قرأ الماء في الحوض إذا اجتمع, فمعنى القراءة جمع المعلومات كأنك إذا قرأت من كتاب جملة وجملتين وأكثر تختزن وتجمع وتحوي هذه المعلومات في ذهنك وحافظتك وذاكرتك, عملية الجمع هذه لا تتوقف على القدرة على القراءة المعتادة, إنما يمكن أن تتحصل بالتلقين, والجاهل الذي لا يعرف القراءة والكتابة يستطيع أن يستوعب, ويستطيع أن يحفظ في ذهنه الكلام الذي يقال له أو معظم الكلام الذي يقال له, ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أن الإنسان إذا كان لا يحسن أن يقرأ ويكتب فهذا لا يعفيه من عملية المتابعة وجمع المعلومات مشافهة, والنبي مع أنه لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ولم يخط بيمينه كتابًا كما أخبر الله في القرآن فقد استطاع بعون الله وعنايته أن يجمع في صدره الشريف الوحي المكرم بسماعه وبحروفه, والصحابة رضي الله عنهم الذين تلى عليهم رسول الله هذا القرآن كانت غالبيتهم العظمى الساحقة لا تقرأ كتابًا, ولا تخط بيمينها شيئًا, ومع ذلك كان النبي عليه السلام يخبر بالآي من كتاب الله فيجمعه الصحابة رضي الله عنهم في صدورهم, وبذلك كانوا قارئين.
اقرأ باسم ربك الذي خلق ماذا يعني هذا القول؟ نحن نستمع في المحافل وفي المراسيم والقرارات: باسم الشعب الفلاني, باسم الأمة, نحن رئيس الجمهورية, أو نحن القاضي فلان, أو نحن الوزير الفلاني, نقر ما هو آت, فالتقرير ليس باسم شخص معين, وإنما هو باسم الأمة, وفقًا أو اعتبارًا بأن الأمة هي مصدر السلطان على النحو المفهوم والمرفوض في العصر الحاضر.
أريد أن أقول لكم إن هذا الكلام ليس جديدًا, فمنذ دولة المدينة في اليونان, ومنذ المفكرين الأوائل في الفقه السياسي كان هذا المفهوم معروفًا ومقررًا, جاء الإسلام وهذا المفهوم موجود يعرفه العرب من طريق اتصالاتهم بدولة الروم في الشام, ويعرف مثله عن طريق اتصالاتهم بدولة فارس في العراق وما والاها ويعرفونه في الحبشة وغيرها من البلاد, لكن مفهومًا آخر كان أضيق من هذا سابقًا كان سائدًا مفهوم القبيلة, ومفهوم العشيرة, ومفهوم شيخ القبيلة والزعيم كانت فراسته هي المعبرة عن القانون والتي يشكل رفضها وخرقها وعدم الانصياع لها جرمًا كبيرًا قد يستوجب ـ في كثير من الأحيان ـ النفي والطرد والخلع من القبيلة, ودارسو الأخبار والمطلعون على الأدب يعرفون أن ظاهرة الخلعاء في قبائل العرب ظاهرة معروفة جاء الإسلام وهي موجودة, فقول الله جل وعلا اقرأ باسم ربك الذي خلق يشكل مفترقًا للطريق بين الإسلام وبين ركام الجاهلية وغثائها الذي كان معروفًا زمن النبي عليه السلام, والذي سيظل معروفًا مادامت الدنيا دنيا, وما دام الناس في شرورهم, هذا الذي نرى, القراءة والعلم, الحركة والانتباه, القيام والقعود, أي تصرف من التصرفات لا ينبغي أن يكون باسم فرد, ولا ينبغي أن يكون باسم أمة, وإنما ينبغي أن يكون باسم الله, الله جل وعلا هو المالك, وهو المتصف, وهو الخالق, وهو الرازق, فالاشتراك معه في الأمر والتقرير, والتقدير والنهي محاولة للاعتداء على سلطان الله جل وعلا في كونه, كل ما يفعله الإنسان ينبغي أن يكون باسم الله على وفق منهاج شرعه وعلى وصف خطى نبيه , والأفراد والأمم والشعوب لا حق لها في أن تأمر وفي أن تنهى, وتأتي بقية لهذا بعد قليل.
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق العلق: العلقة في كلام العرب نقطة الدم اللزجة المتجمعة, حينما يشير القرآن ـ من أوليات الوحي ـ إلى هذه الحقيقة, يترك للذهن أن يشرح, يلاحظ هذه القطرة من الدم التي وقعت في الرحم, كيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف تخلقت جنينًا في البطن؟ ثم كيف خرجت إلى عالم الدنيا طفلاً لا يكاد يستقل بنفسه, ولا يحصل لنفسه على نفع ولا يدفع عنها أذى, ثم مازالت عناية الله تحف بهذا المخلوق العاجز حتى كان طفلاً يدرج ثم شابًا, ثم كهلاً, ثم شيخًا, وإذا هو بشر سوي, هذا الإنسان الذي يتحرك ويأتي بالمعجزات, ويقدم المنجزات ويفتح في العلم فتوحًا تذهل العقول, وتستأسر الألباب, هذا بدايته نقطة دم علقة, فحين يناديك ربك بالعلم والقراءة وأنت لا تعلم ولا تقرأ لا تغفل أيها الإنسان عن أن وقوف الشيء ووقوف المخلوق عند مرحلة واحدة أمر محال, فكل شيء إلى تطور, وكل شيء إلى ترقي, وكل شيء إلى اندفاع نحو الأحسن, ونحو الأفضل وكما تخلقت هذه العلقة فكان منها الإنسان المدرك المحس الفعال المريد, المفكر المقدر, كذلك أنت لا تستقِل نفسك ولا تسهن بها, أنت اليوم لا تعلم لكنك لو حاولت أن تقرأ وأن تجمع علمًا إلى علم وكلامًا إلى كلام وقضية إلى قضية, فلن يمضي كبير زمن حتى تكون عالمًا مع العاملين فإذا قعدت عاجزًا لا تقرأ ولا تتكلم ولا تغشى مجالس العلم ولا تسأل, فحتى متى؟ متى تكون عالمًا ودينك دين العلم؟ متى تكون عالمًا وفي الإسلام لا مكان للجهلاء؟ متى تكون عالمًا وأنت اليوم تعيش في عصر ينبذ الجهلاء والجاهلين, كذلك يجب عليك أن تكون من العالمين اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
هذه الأداة التي هي القلم لا يكلف شراؤها إلا مبلغًا زهيدًا, لكن قيمتها الذاتية لا تقدر بثمن, بهذا القلم عرفنا أخبار الأولين واطلعنا على تجارب الماضي, ونقلت إلينا حقائق العلوم, وكل ما تتنعم به الإنسانية من تراث حضاري, فالفضل فيه يعود إلى القلم, الماضون كتبوا وقرأنا وتعلمنا, ونحن نكتب ونضيف إلى هذا التراث ما أعاننا الله عليه, وأولادنا يفعلون ذلك؟ بم كل هذا الشيء؟ بهذه الأداة التي لا يكاد أحدًا يلقي إليها بالاً, هي القلم, من الذي علمك أيها الإنسان أن تكتب بالقلم؟ الله, الله الذي لا إله إلا هو علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم, هذا الكون الذي تعيش فيه أيها الإنسان, أأنت الوحيد فيه؟ أم هذا الكون يعج بعوالم لا تقع تحت حصر ولا عد؟ من الذي أخذ لك ضمانًا أنك وحدك الذي تطيق التعلم وغيرك من الكائنات لا تطيق ذلك؟ ما الذي يحول دون قدرة الله أن تخلق في هذا الجماد قدرة على الكلام والقراءة والكتابة؟ ما الذي يحول دون ذلك؟ لا شيء, وإنه محض التفضل من الله, اختار هذا الإنسان فعلمه ما لم يكن يعلم, وقبل أن يختصه الله بهذا الفضل العظيم, كان شيئًا كسائر الأشياء المبثوثة في كون الله العريض, وحين حل عليه فضل الله اصطفي بتعليمه ما لم يعلم, اسمعوا ماذا تقول مطالع سورة البقرة: وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ثم وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
الله جل وعلا اختص أبانا آدم بهذه الكرامة وسحب الكرامة على أبنائه جميعًا لغاية أرادها الله وهو أعلم بها وهي غاية الخلافة في الأرض والقوامة على كلمات الله والحراسة لشريعة الله تبارك وتعالى علم الإنسان ما لم يعلم كلا هذه السورة ترددت فيها "كلا" ثلاث مرات كلا, وأنت تقرأ السورة تشعر أنك حين تقول كلا كأنما أنت تقود سيارتك في الطريق وإذا بك فجأة أمام النور الأحمر, فتجد نفسك مضطرًا إلى الوقوف لأنك لو تجاوزت لعرضت نفسك لخطر محقق, لا تتجاوز كلا, بعد كلا, كلام عظيم ينبغي عليك أن تدركه وأن تفكر فيه طويلاً كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى مفتاح القضية كلها في هاتين الكلمتين إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ما الذي يحول بين الإنسان وبين الاهتداء لكلمات الله, ما الذي يحول بين الإنسان وبين قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق.
حقيقة واحدة, نظر واحد نبهت عليه هذه السورة إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ما معنى الطغيان تقول: ملأت الكأس ماء فطغى الماء يعني أن الماء تجاوز حافة الكأس والإنسان حين يتجاوز حده نقول عنه طغى فلان, فالطغيان مجاوزة الحد المقدور للإنسان, ما أنت أيها الإنسان؟ عبد لم تكن إلهًا ولن تكون, وما ينبغي لك أن تنازع الله خصيصة الألوهية, أنت عبد حين تحاول أن تتعدى طورك وتجاوز مقدارك فأنت طاغ, والطغيان مجاوزة الحد كلا إن الإنسان ليطغى ليصرف عن الحد ويعرض عن الهدى, ويضرب بكلمات الله عرض الحائط بسبب طغيانه, بسبب نسيانه لنفسه, نسيانه لحقيقة ذاته, ما سبب ذلك أيضًا؟ أن رآه استغنى , أن هذا تفسير المراد سبب ذلك أن الإنسان يشعر بأنه قد استغنى عن أية قوة خارج ذاته, فمن أجل ذلك هو يطغى ويتجاوز حده, ومن أجل ذلك ينسى حقيقة العبودية التي ينبغي ألاّ ينساها ومن أجل ذلك ينصرف ويعرض عن الحق.
ما معنى استغناء الإنسان؟ شعوره بأنه غير محتاج إلى غيره, تعززه بالولد, تعززه بالمال, تعززه بالجاه والسلطان, تلك هي الأدواء, استغناء الإنسان يسبب نسيانه لحقيقة بقائه في هذه الدنيا, سبب واضح من أسباب الإنصراف عن الحق, ولكن الإنسان حينما يضع نصب عينيه أنه أبدًا ودائمًا عبد الله جل وعلا, ليس ربًا ولا قريبًا من الرب فإنه حينئذ يسمع كلمات الله حين تتلى عليه بأذن صاغية وقلب متفتح, بماذا ينسى هذا الإنسان؟ بسيطرة هذه العوامل عليه, صاحب الأولاد يرى أنه عزيز بأولاده, وراءه جيش لجب من الأولاد وأولاد الأولاد, فهو بغير حاجة إلى سند يأتيه من خارج ذاته, والله جل وعلا قد شرح ذلك, ألم تقرأوا ما قال ربكم تبارك وتعالى في سورة مريم: أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدًا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا.
ويلك يا مخلوق, ويلك يا تائه, من أنت حتى تستكثر بأولادك وأولاد أولادك, وترى أنك في غنىً عن العزيز الجبار يوم تقف بين يدي المنتقم القاهر لمن يكون بين يديك؟ لا ولد, ولا عبيد, ويأتينا فردًا, كذلك الإنسان يشعر أنه حين يملك المال في غنىً عن الناس, وفي غنى عن رب الناس, لم تحف به العناية حتى وصفت بين المال والنسب محنة واختبارًا, وإنما يرى أنه بجهده حصل على هذا المال, ليس هذا فقط, ولكن شعورًا خبيثًا آثمًا مجرمًا فيحكم في الإنسان حين يملك المال والثراء, أنا أستطيع أن أشتري اللذات فأمرح ما شاء لي المرح, أنا أستطيع أن أشتري الأعوان والأتباع من الإمعات والتافهين فيسيرون من خلفي وتصطفق النعال, أستطيع كذا وأستطيع كذا, ويحك, ما الذي يعلمك أن هذا المال سيبقى بين يديك؟ لا شيء, ألم تقرأ ما قال الله جل وعلا في سورة القصص: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة المفاتيح لا تحملها إلاعصبة أولوُ قوة, ومع ذلك فبعض التافهين من الأغنياء الذين يملكون نسبًا قليلاً يظنون أن الدنيا دانت لهم, وأنهم يستطيعون أن يتخذوا الآخرين خولاً وعبيدًا لا إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال ـ اسمعوا ما قال هذا المفتري ـ إنما أوتيته على علم عندي أي بفهمي وبإرادتي وببصري وخبرتي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته ـ لاحظوا الفتنة ـ قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ـ فماذا قال الذين يريدون ثواب الله؟ ـ وقال الذين آتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فلم يكن له من فئة ينصرونه من دون الله ـ أين المال, أين الأعوان, أين النسب, أين الغرور؟ حق الحق وذهب الباطل ـ وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا وكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين.
يا صاحب السلطان: مالك أيها الإنسان, أنت اليوم في دفة الحكم, وغدًا إنسان طريد لا تعرف أين تأوي, تسير خائفًا تترقب, فعلاّم الغرور بالسلطان, أبين يديك من الله صك أنك لا تنزل عن هذا الكرسي؟! لئن لم تنزلك قوى الناس لتنزلنك قوة الله التي لا تغلب ولا تغالب, حينما أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه, وكلفه بالرسالة إليهم قال موسى رب إني قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا فأرسله معي ردءًا ـ أي معينًا ـ يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال فرعون ـ انتبهوا إلى قولة الفراعين دائمًا وأبدًا ـ أيها الملأ ـ يعني يا أيها الأشراف ـ ما علمت لكم من إله غيري , أترون قولة الآلهة الجدد جديدة على سمع الدنيا, لقد قالها فرعون من قبل يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى وإنه لأظنه من الكاذبين واستكبر وهو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.
هذا الغرور, هذا الاستعلاء الذي يأتي من تخمين الإنسان الغافل عن الدنيا من مال وأولاد وجاه ونسب ونقد, هذه الأشياء هي التي تصرف الإنسان عن الهدى, هذه الأشياء هي التي تضع بين أيدينا مفتاح السرور الذي يسر به الناس ولقد قص الله علينا نبأ هذا الإنسان فقال في سورة النور حينما ذكر أنه إذا مس الإنسان ضر دعا ربه فإذا كشف عنه الضر قال لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين, فلما أنجاه الله إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا.
هذا الداء الذي وضعه الله تحت ناظري محمد من بداية الطريق ليعرف الرسول اللبيب الكريم أن مكامن الداء, وماذا يجب أن يعمل؟ وكيف ينبغي أن يترقى بأنفس الناس إلى حقيقة كرم الله ونعمته السابغة, بهذه الرسالة يترقى, وتعليمه إياهم الوسائل التي تهذبهم وترقيهم وتسري لهم عن مكامن الأدواء التي تحول بينهم وبين الإصغاء إلى كلمات الله حتى يستدركوا أنفسهم ويستشعروا دائمًا مقام العبودية, هذا القرآن لا ينتفع به جبار عنيد, هذا القرآن لا ينتفع به العشائر, وأشباه العشائريين, هذا القرآن دواء نافع للإنسان الذي لا يطغى, للإنسان الذي يعرف أنه لله عبد, فإذا عرف ذلك وعرف مقام الألوهية, وأن له وحده حق الأمر والنهي أصغى بأذنيه وأصاغ بقلبه, وفتح جوارحه جميعًا للفهم عن الله والعمل بمقتضى ما أراد الله تعالى.
أريد أن أقف عند هذا الحد؛ لأتابع من بعد الكلام على هذه الآيات.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1383)
تفسير سورة العلق 2
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا دعوية
محمود بن عمر مشوح
الميادين
8/8/1395
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطغيان يصد الناس عن حقيقة الدين. 2- الرجعى يوم القيامة والحساب. 3- أبو جهل
ينهى الرسول عن الصلاة ويؤذيه. 4- تساوي البشر في العبودية لله. 5- ما جاء في القرآن من
تهديد لأبي جهل. 6- المؤمن يخوض معاركه بقوة الله القوي. 7- قوة الله يوم بدر. 8- حال
المسلمين وذلتهم على كثرة عددهم وقلة عدوهم. 9- اقتراب النصر لا يكون إلا مع عبودية الله
وكثرة السجود بين يديه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله جل وعلا: إن إلى ربك الرجعى , هذه الآية جاءت بعد إشارة بليغة عما يصد الناس عادة عن الهدى, ويردهم عن سبيل التقوى, كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى , الإنسان يتجاوز حده وينسى مقداره ويظن في نفسه غير الحق حين يشعر بنازع الاستغناء عن أية معونة خارج ذاته تسنده وتعينه وتسدده, ونسيان الإنسان لقدره مصيبة من المصائب الكبيرة, فلقد كان الشاعر يقول:
وإذا النفوس تجاوزت أقدارها حد البعوض تغيرت سجراؤها
لمجرد أن يجاوز الإنسان قدره, ولو جناح بعوضة تتغير السجراء يعني تتغير الطبيعة, فالإنسان الذي يطغى ويبغي ما هو حصيلة ذلك؟ شعوره بأنه غير صائر إلى يوم يحاسب فيه عما قدمت يداه, لو أن الإنسان علم أن بعد هذه الدار دارًا يقف فيها الإنسان بين يدي حكم عدل وبين يديه كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, وأنه مسؤول ومشدد عليه في المسألة لبقيت حقيقة البشرية ماثلة أمام عينيه, فالآية: إن إلى ربك الرجعى مجرد تذكر لهذه الحقيقة الضخمة التي يراها الإنسان دائمًا وأبدًا, حين يودع الأب والأخ والولد والصديق والقريب والبعيد, يودعهم إلى دار لا عودة منها إلى هذه الدنيا, ولكن الإنسان ربما يشعر وهو يسير خلف جنازة بهذا الشعور الذي يستولي على الإنسان في أوقات الشدائد شعور النقلة والرحلة من هذه الدار, لكنه ينسى هذا لمجرد أن يهال التراب على الميت, كلا إن إلى ربك الرجعى , مهما طال الأمد فالموقف غدًا بين يدي الله تبارك وتعالى واعتقاد بعض الناس من الملاحدة والكفار أنه لا مرجع ولا مآل ولا آخرة ولا قيامة ولا حشر ولا نشر ولا حساب لوثة تصيب العقل الإنساني فتخرجه عن حد السلامة والاستقامة, لكن الإنسان الذي يستقيم طبعه يدرك دون ريب من مجرى الحوادث الدنيوية, من سياق الأحداث اليومية أن بعد هذه الدار دارًا, وعنك من كل هذا, وخذ المسألة مسألة حساب:
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بنادم أو صح قولي فالخسار عليكما
احسب المسألة حسبة مادية, إن قلت ليس بعد هذه الدار دارًا ثم كان بعد ذلك دار, وكان حساب, وكان ثواب وعقاب فمن الخاسر؟ ويحك ألست أنت الذي أنكرت بغير سند من حجة ولا برهان, وبغير سند من قضية العقل السليم, وإن قلتُ بعد هذه الدار دار, وثمة حساب وثواب وعقاب ثم لم يكن شيء بعد ذلك, فأية خسارة تكون عليك, الأمر لديك سواء مخرج القضية عند الشاعر مخرج الطرفة والنكتة, لكن دلالتها عميقة, هذه الآية تنزلت على رسول الله ليخاطب بها قومًا ضل معظهم عن هذه الدار, وطغت أكثريتهم الساحقة وتجاوزت أقدارها فقال لهم بهذا الجزم والحسم والقطع إن إلى ربك الرجعى , صيغة إخبار مؤكد غاية التأكيد؛ لأنها قضية لا تحتمل نقاشًا ولا أخذًا ولا ردًا, ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى.
تلاحظون أن هذه الآيات صياغتها معجزة في البساطة, أرأيت الذي ينهى يخبر الله جل وعلا عن واقعة, روت بعض كتب الحديث وكتب السيرة اجمالاً أن أبا جهل ـ فرعون هذه الأمة لعنه الله ـ لقي النبي ذات يوم وهو يصلي فانتهره ونهاه عن الصلاة فأغلظ له النبي في المقال, فقال أبو جهل للنبي عليه السلام: يا محمد, لم تتوعدني وأنا أكثر أهل هذا الوادي ناديًا, فأنزل الله جل وعلا هؤلاء الآيات, هؤلاء الآيات معانيها عميقة بالرغم من بساطة التعبير, ولبساطة التعبير تشترك حتى الصياغة, حتى أسلوب الأداء يشترك في تأدية المعنى المراد لاحظوا, افتحوا أذهانكم واقرؤوا أرأيت الذين ينهى هنا انتهت الآية وجاءت الآية الأخرى عبدًا إذا صلى , ماذا نستنتج من قطع الكلام بقوله ينهى, انتهى الكلام عند ينهى, انتهت الآية هنا, ثم جاءت الآية الأخرى عبدًا إذا صلى لاحظوا أننا ندرك جميعًا حينما نقول نهى فلان فلانًا عن أي شيء يكون النهي, النهي يكون عادة عن الفعل المنكر والقبيح, أما عن المعروف من الأفعال, عن الخير, عن البر, عن التقوى, ففي العادة لا يكون ثمة نهي, وقفت الآية عند قوله "ينهى" ليأخذ الفكر استراحة, يسحب فيها النفس ثم يهجم بعد ذلك, ما هو هذا الشيء المنهي عنه, ينهى عبدًا إذا صلى يا سبحان الله! هل إذا قام انسانٌ ببر وبمعروف وخير يستحق أن ينهى وأن يقرع وأن يرد, لا ما هكذا عهد البشر ولا هكذا يتصرف العقلاء, فصياغة الآية بهذا الشكل ماذا أدت؟ أدت تشنيع الصورة وتغليظ الأمر الذي قام به أبو جهل, ويقوم به من هم على شاكلة أبي جهل, حين يكون ثمة نهي, فمن المعقول أن يكون النهي عن المنكر وعن القبيح, أما عن الطيب من الأفعال, وعن البر والتقوى, فالنهي هنا شيء يدعو إلى الدهشة, ويدعو إلى الاستغراب, بل يدعو إلى الإنكار أيضًا, الصياغة تؤدي معنى آخر, الله جل وعلا يقول: أرأيت الذين ينهى عبدًا , لماذا لم يقل ينهى رسولاً أو ينهى محمدًا, ثمة لطيفة, هذه اللطيفة هي أن الناهي عبد والمنهي عبد وفكرة الإسلام الأساسية تحرير الإرادة الإنسانية؛ بحيث يشعر كل مخلوق من بني البشر أنه مساو لكل مخلوق من بني البشر لا سادة ولا عبيد, ومن هنا حسرت الأوامر والنواهي, بالآمر الناهي وهو الله جل وعلا, والعبد مهما يكن شأنه, ومهما يعلو مقامه, فليس له أن يأمر وليس له أن ينهى, إلا أن يكون أمره ونهيه تبعًا لأمر الله جل وعلا, ونهيه حتى النبي عليه الصلاة والسلام إنما يطاع لأن الله جل وعلا أمر بطاعة رسوله , فالطاعة ليست لشخص النبي , ولكنها امتثال لأمر الله جل وعلا, وإلا ففي الحقيقة أن العباد كلهم متساوون, والنبي يقول: ((أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة)) , ومن مقتضيات الاخوة بين العباد عدم استعلاء بعضهم على بعض, لماذا يفعل الإسلام هذا, ويأتي بقضية يطرحها في المجتمع الإنساني, قبل ألف وأربعمائه سنة يوم كانت الدنيا تعرف الآلهة من الفراعين, وتعرف السادة من المتحكمين في رقاب العباد, وتعرف وتعرف من التفرقات التي ما أنزل الله بها من سلطان قال ذلك ربنا, وجاءت هذه القضية لهذا الحسم, وبهذا التشديد لكي يبقى الناس شاعرين بمعاني الاخوة والمساواة فيما بينهم؛ لأن الاخوة والمساواة هما الدعامة التي لا سبيل إلى انهاض أية دعوة وأية رسالة بدونها تصوروا مجتمعًا ينقسم إلى فئات, وينقسم إلى طوائف وينقسم إلى طبقات, وينقسم إلى سادة وعبيد, هل يمكن أن تشيع الاخوة والمحبة والتضامن بين أفراد هذا المجتمع؟ لا.
إن هذا المجتمع بالصورة التي قلنا عنها الآن مجتمع متعادٍ, متنافر, متخالف, يفتقر إلى أقل المقومات التي ترشحه لأداء رسالة كبرى في هذا الوجود, الإسلام حريص على أن يشعر الجميع أن لهم ربًا واحدًا, وأنهم تحت هذه الربوبية عبيد يتكافئون لا ريب, أما حين تنتكس الأحوال, ويتعبد الناس بعضهم بعضًا, فثمة شذوذ ينبغي أن يصحح في الحال.
الإسلام في الحقيقة حريص على هذه الناحية, غاية الحرص حتى الرسول بما له من جلال وكمال وبما يحتل في قلوب المسلمين من منزلة, لم يكن يسمح لأحد من أصحابه أن يذيب شخصيته في شخصيته مع بعد الفارق بين المستويين, تصوروا إنسانًا مثل محمد بمكانه من الله, ومكانه من عباد الله, يرفض أن يسير أحد خلفه, كان يفضل أن يسير بين أصحابه, ويفضل أن يسير في الساقة خلف الأصحاب, هو في مقام يرفض أن يقوم له أحد من الناس ويقول: ((من أحب أن يمثل له الرجال قيامًا فليتبوأ مقعده من النار)) , كان يحرص على تنمية الشخصية الإنسانية لأن الشخصية الإنسانية النامية هي عماد الحركة الإسلامية لا غير, أما الإمعات والتافهون والأذناب فهم عبء على الإنسانية وعبء على هذا الإسلام, لاحظوا مدى الحرص, شهد الفضل بن الربيع وزير الخليفة هارون الرشيد في عز الأمة فعاتبه الخليفة هارون الرشيد قال له يا أبا يوسف لم رددت شهادة الوزير؟, قال: يا أمير المؤمنين, سمعته يقول لك: أنا عبدك, فإن كان صادقًا في هذا الكلام فلا شهادة للعبد, وإن كان كاذبًا فلا شهادة للكاذب, ورد شهادة الوزير.
هذا التصرف مبني على ماذا؟ مبني على حرص أبي يوسف ومن على شاكلة أبي يوسف بالحفاظ على معالم الشخصية الإنسانية أن لا تزول, هنا حينما نقرأ أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى يعظم الله جل وعلا من شأن هذه الواقعة, كيف يجيز عبد لنفسه أن ينهى عبدًا مثله, أليس في هذا اعتداء على اختصاصات الرب جل وعلا, الله فقط هو الذي يأمر, وهو الذي ينهى, أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى يكون هذا الخطاب حينما يفرض إلى أبي جهل صاحب الواقعة ويكون تأويل الكلام: أرأيت أيها الكافر وأنت تنهى هذا العبد عن طاعة الله أرأيت إن كان هذا العبد على هدى وعلى تقوى, أرأيت لو كان هذا العبد يأمر بطاعة الله والصلاح والإصلاح, أنت بعدُ مصرٌ على أن تظل تنهاه, هنا تعظيم المسألة, وفيها أيضًا لفت نظر إلى أن الإنسان حين يأمر وينهى عليه أن يتذكر شيئًا شديد اللصوق بإنسانيته حينما ننهى عن الشيء لمجرد أن نريد ذلك دون أن نفقه ودون أن نتبين ودون أن نعرف فذلك عدوان, أنا لا أستطيع أن أتهجم عليك وأنهاك دون أن أعرف الأمور على حقيقتها, فأبو جهل يهجم على النبي بالنهي عن العبادة, وعن البر والتقوى دون أن يعرف حقيقة الدعوى التي يدعو إليها هذا النبي الكريم, فكف نفسك وانظر في جملة ما جاء به رسول الله , إن رأيت منكرًا فانهاه عنه, وإن رأيت معروفًا فخذ به, ويحك فذلك هو كمال الإنسانية من هذا الباب, تهجم كثير من الصعاليك والذين لا يعقلون والجهلة والسخفاء والمغرورون على هذا الإسلام دون أن يقرؤوه, دون أن يعرفوه, دون أن يكلفوا أنفسهم, مشقة النظر فيه, نحن نسمع من أبنائنا الذين تربوا في حجورنا والذين يحملون أسماء إسلامية عداءً مريرًا لهذه الإسلام وصدًا عنيفًا عن سبيل هذا الدين, ولو سألت أحدهم هل يحسن أن يقيم الصلاة لوقف حائرًا مبهوتًا, ويحك انظر في هذا الدين, تعرف على مناهجه, تعرف على شرائعه فإن رأيت أمرًا منكرًا فانهى عنه, وإلا فما شأنك؟ ألست بهذا تحطم إنسانيتك وتسيئ إلى معنى البشرية فيك أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى.
الله الذي خلق هذا الخلق ناظر ومطلع على طاعة الطائع ومعصية العاصي, وأمر الآمر بالمعروف, وأمر الآمر بالشر والمنكر, مطلع على كل هذا ومحصيه, وسوف يجازى كل إنسان وفقًا لناموس العدل الذي لا يحيد عنه شعرة ثم يقول الله جل وعلا: كلا لئن لم ينته ـ يعني أبو جهل عن عناده واستكباره ـ لنسفعًا بالناصية ,الناصية مقدم شعر الرأس, وكلمة سفع في لغة العرب تدل على معنيين, تدل على اللفح البسيط بالنار الذي يترك شيئًا من السواد, كما تدل على الجذب والشد بقوة, وكلا المعنين مراد في هذه الآية, كلا لئن لم ينته, كلا لئن لم ينته أبو جهل عن مراغمته للنبي عليه السلام لنجرنه من ناصيته, والجر من الناصية يرمز إلى منتهى الإذلال؛ لأن أعلى ما في الإنسان ناصيته, فحين يجر من أعلاه ليمرغ بالتراب يذل غاية الإذلال فإن كان الأمر أمر جرٍ وجذب وتمريغ بالتراب فقد ذاق أبو جهل ذلك في بدر حينما جندل بسيوف المؤمنين وسحب برجله وألقي في القليب, قليب بدر, وإن كان المراد بالسفع بالنار فذلك ملاقيه لا محالة؛ لأن أبا جهل وأمثاله مصيرهم إلى النار, كلا لئن لم ينته عن عتوه واستكباره لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة فيما تقول وتدعي, خاطئة فيما تأتي من العمل.
هنا عندنا فرق بين قول القائل خاطئ ومخطئ, المخطىء لا عقاب عليه, قال عليه الصلاة والسلام: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) ولكن الخاطئ يقال للذي يتعمد الخطيئة وهو مسؤول ومحاسب عن عمله ومن هنا جاء البناء في الآية ناصية كاذبة خاطئة أي أنها خاضت الباطل خوضًا, ووصلت إلى هذا الخطأ الذي ستحاسب عليه وتعذب من جرائه.
كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه , قلنا لكم قبل قليل: إن أبا جهل قال لرسول الله : بم تهددني يا محمد, وأنا أكثر أهل هذا الوادي ناديًا فليدع ناديه سندع الزبانية النادي هو منتدى القوم, المكان الذي يجتمعون فيه, ولا يسمى المكان ناديًا إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه, أما إذا كان خاليًا من البشر فلا يسمى ناديًا فالنادي هو مجتمع القوم.
كلا لا تطعه واسجد واقترب سنقول كلمتين حول هؤلاء الآيات, الله جل وعلا يحرض أبا جهل, فليدع ناديه سندع الزبانية هذا تهديد لأبي جهل لكن بالنسبة لنا نحن المسلمين ماذا يعني؟ يعني أمرًا في غاية الخطورة, يعني أن علينا نحن معاشر المسلمين أن لا ننسى لحظة واحدة أن المعارك التي نخوضها مع أعداء الله لا نخوضها بجهدنا وحولنا وقوتنا, هنالك الله, هنالك قوة الله التي لا تغالب, والتي رمز الله إليها هنا في كلمة الزبانية, وهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين يدعُّون المشركين دعًا عنيفًا إلى نار جهنم, حينما نتصور أنا نلقى أعداء الله بالجهد البشري وحده نلغي تجربة الإسلام بالكامل, ماذا كان قوام جيش المسلمين في بدر, ثلاث مئة, كم كان عدد المشركين؟ ألف أو يزيد, ماذا كان سلاح المسلمين في بدر؟ سيوف ملفوفة بالخرق, ماذا كان ركوبهم؟ فرسان؟ كانوا حفاة, وكانوا عراة, وكانت أجسامهم فرائس لسوء التغذية, كان تسلحهم أهزل ما يتصور الإنسان, ولقوا جيشًا معدًا, مدربًا سمينًا دهنيًا, ومع ذلك لم تدم المعركة إلا ضحوة من نهار, فإذا المشركون يعطون أقفيتهم للمسلمين, وإذا المسلمون يقتلون المشركين كيف يشاؤون بقوة, بقوة الساعد أم بقوة السيف الملفوف بالخرق؟ لا, بقوة الله العلي القدير, الله جل وعلا حين عرف منك أيها المسلم استقامة مطلقة على الطريق وصدقًا كاملاً للرغبة فيما عنده والتوجه إليه فأنت تضرب بيد الله وتمشي برجل الله, والله جل وعلا يقول: وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى , النبي ـ ليقل من قال إنها خرافة ـ حين اشتد القتال في بدر حمل كفًا من الحصى واستقبل به المشركين وحصبهم في وجوهم وقالت: ((شاهت الوجوه)) فما بقيت عين مشرك إلا ودخل فيها من هذا التراب.
الله جل وعلا أنزل رعبه على المشركين, وأمر ملائكته بتثبيت المؤمنين, وكان ما كان من نصر مؤزر, كل معارك الإسلام كانت بهذا الشكل اقرأوا إن شئتم فتوح العراق تجدون أن جيش المسلمين كان يساوي واحدًا إلى عشرة بالنسبة إلى جيوش الكافرين, ثلاثون ألفًا, أو سبع وعشرون ألفًا فقط هم الذين دوخوا العراق, ودخوا فارس, وشردوا كسرى, وأنهوا كل هذه الخرافة وحققوا قول النبي : ((إن مات كسرى فلا كسرى بعده)) بأي وقوة كان ذلك؟ بقوتهم؟ لا, ولهذا كان عمر رضي الله عنه يكتب دائمًا إلى قادة الجيوش كلامًا يردده باستمرار يحذرهم فيها من الذنوب ويأمرهم بالطاعة, ويقول لهم ـ بصريح العبارة ـ: "إننا لا نقاتل الناس بقوتنا نحن, ولكنا نقاتل الناس بهذا الدين, فمهما استمسكنا بعرى هذه الدين أعزنا الله, وإذا نحن تخلينا عن هذا الدين أذلنا الله".
أقول هذا الكلام وأنا أشعر بحلقي بغصة, وأشعر أن قلبي يكاد يعتصر بين جنبي, أقول هذا الكلام وبين عيني أمتي وقومي وعشيرتي تعد ثمانمائة مليون من المسلمين, تدمرهم وتحطهم شراذم اليهود, فلا يجدون مفرًا في هذه الأيام الصعاب, أيام الذل, وأيام الخضوع إلا أن يدعوا إلى السلام, أي سلام يا مجرمون, سلام يقوم بينا وبين اليهود! كيف يكون ذلك؟ كيف يستقيم أن يجتمع الماء والنار؟! أيها المنكح الثريا سهيلاً ويحك كيف يلتقيان؟ هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل بيماني.
أي سلام, أي سلام يكون بيننا وبين هؤلاء القوم وقد انتهكوا المحرمات وداسوا المقدسات ودمروا مساجد المسلمين ولم يخفوا في يوم من الأيام أجماعهم أمن أجل أن تحفظوا مراكزكم؟ أمن أجل أن تبقوا على كراسي مهتز مهترئ قد نخرها دود العفن, تفعلون هذا يا مسلمون؟ لا, أمن قلة؟ لا والله اليهود مليونان ونصف مليون, وأنتم ثمانمائة مليون, ولكنكم فشلتم وتنازعتم وغرتكم الأماني, وضللتم الطريق, كنتم ذات يوم تريدون من الشرق أن ينصركم على إسرائيل, وكنتم قبلها تطرقون أبواب الغرب, وتبين لكم أن السم الزعاف في الشرق والغرب على حد سواء, وقلتم نحن عرب, والقضية عربية, وتذرعتم بعالم عربي مستطيل مستعرض يعد اليوم مئة وأربعين مليونًا من البشر, فذهبت الخلافات بكل هذه القوة ولكنكم لو أدركتم لقلتم ولعلمتم أن قضية العدوان على ديارنا قضية الإسلام, وقضية المسلمين, وأن المعركة فيها ينبغي أن تخاض تحت راية الله, وأن أية راية أخرى فستقود إلى الدمار وستقود إلى الهزيمة, ومن يعش يرى.
ثم يقول الله جل وعلا: كلا لا تطعه واسجد واقترب , هذا الخطاب لمن؟ لمحمد حينما تكون داعيًا إلى الإسلام وتجد في وجهك الصد والعناد والحرب والشراسة في العدوان فماذا تفعل؟ هل تستخذى؟ هل تذل؟ هل تحاول أن تجد لقاءً بينك وبين أعداء الله؟ هل تمد الجسور بينك وبين هؤلاء الخصوم؟ لا, هنا قضية قاطعة كلا يعني ما ينبغي لك يا محمد أن تطيع أبا جهل, ومن على شاكلته, ولكن اسجد واقترب, اثبت في المواقع التي وضعك الله فيها, أدم طاعة الله, نفذ ما طلبه الله منك, تقترب من الله وتقترب من نصره.
في قوله جل وعلا: اسجد واقترب دلالتان الأولى هذه الدلالة التي قلناها قبل قليل, وهي أن الخطة المثلى للنصر الكامل على أعداء الله هي المزيد من التمسك بأوامر الله جل وعلا وعدم المهادنة مع أعداء الله تبارك وتعالى.
والدلالة الأخرى: أن وسيلة القرب من الله جل وعلا هي إدامة الصلاة وإطالة السجود بين يدي المولى جل وعلا.
جاء أحد الأصحاب إلى النبي ذات يوم فقال يا رسول الله, ادعو الله أن يجعلني رفيقك في الجنة, تعجب النبي رفيق الرسول عليه السلام يا رجل, أين أنت وأين هذه المنزلة؟ قال له النبي : ((أوَ غير ذلك)) يعني هل تريد أن أدعو لك بغير هذه الدعوة قال: لا شيء غير ذلك, ادعو الله أن يجعلني رفيقك في الجنة قال له لابد؟ قال: لابد قال: (( أعني على نفسك بكثرة السجود)) المنزلة عالية, منزلة النبيين والمرسلين منزلة خير البشر محمد , رجل من الأصحاب يطلب نفس المنزلة أن يكون رفيق الرسول عليه السلام في هذه المنزلة ما هي الوسيلة؟ كثرة التقرب إلى الله تبارك وتعالى بإدامة السجود, هذه الدلالة عسى أن تنفعنا جميعًا في إكثارنا من الصلوات والعبادات لاسيما أيها الأخوة وقد أظلتنا شهور مباركة نحن الآن في شعبان وعما قليل يأتي رمضان, مواسم رحمة وخير وبركة, الشقي فيها والمحروم من حرم الخير في هذه الأيام.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1384)
صورة للمواجهة بين الكفر والإيمان
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, قضايا دعوية
محمود بن عمر مشوح
الميادين
17/12/1975
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نيل الأعداء من الدعوة بألسنتهم ينبغي أن لا يفت في ضد الرعاة. 2- معنى الهجر الجميل.
3- الله يتولى الدفاع عن دينه ويرد أعداءه ويخذلهم. 4- وعيد الله لأعداء دينهم ولو بعد حين.
5- صور من عذاب الكفار يوم القيامة 6- عيب الطواغيت أنبياءهم بالفقر ورقة الحال.
7- صور المشابهة بين فرعون وأبي جهل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: كنا في الأسبوع الفائت نتحدث إليكم عن بعض ما يوحيه قول الله تبارك وتعالى خطابًا لنبيه عليه الصلاة والسلام إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأقوم قيلاً واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً.
يقول الله تعالى بعد خطابًا لنبيه عليه الصلاة والسلام: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذًا وبيلاً فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الولدان شيبًا السماء منفطر به كان وعده مفعولاً إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً.
ذرونا ننظر بما ينبغي من الأناة في هؤلاء الآيات, يقول الله تعالى موجهًا رسوله إلى الطريقة المثلى التي يجب أن يعامل بها المخالفين واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً , الصبر على ما يقول المخالفون واجب لمظاهر يعرفها الخاص والعام, وهي أنك في كل الأحوال لا تستطيع أن تضع قفلاً على أفواه الناس, فالناس إذا لم يكن لهم عصام من التقوى, فهم يتكلمون بما شاؤوا بالحق وبالباطل, هذا شأن.
وشأن آخر يتعلق بالنبي والمؤمنين, وبالدعاة عمومًا, إن كلام المخالفين يجب أن لا يشكل عقبة تحول دون اطراد السير, فالصبر عليه هنا واجب, إن لم يكن واجبًا في شريعة الأخلاق فهو واجب وفقًا لقوانين الحركة والسير, والله جل وعلا في مواطن عدة من كتابه المنزل على نبيه صلى الله عليه وآله ينبه إلى ما سيكون من عقبات في مواجهة الدعوة, يقول الله تعالى: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور , أي أن عزائم الرجال ينبغي أن لا تحول دون مضيها أقاويل المخالفين, فالمخالف من شأنه أن يتحدث كيف شاء, وفي الوقت الذي يشاء, دعه فالكلام لا يزال يشكل تشميتًا, ويشكل أذى, هذا أمر واقع.
ومن الممكن أن يستمر, هذا التشميت وقتًا طويلاً؛ لأنه ليس من شأن بسطاء الناس وعامة الناس أن تعرض كل ما تسمع على قضية العقل, فهي تأخذ غالبًا بهذا الذي تسمع بقطع النظر عن امكان معقوليته وعدم امكانيتها, وبقطع النظر عن نوعية القائل, أهو إنسان يوثق بما يقول؟ أو هو إنسان لا يبالي بما يقول؟ بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق؟.
من هنا لا يجوز أن نهون من قيمة الشائعات, ولكن عدم التهوين من هذه القيمة ليس بالتقوقع وليس بإيلاء هذا الأمر أكثر مما يستحق, الزيف يتحقق بمجرد عرض الحقيقة, حينما نعرض الحقيقة عارية من أي لبوس فإن الزيف يبدو هناك زيفًا لا يقوم على ساق صحيحة, ولا على ساق عرجاء, فالواجب إزاء هذا الاستمرار والسير أبدًا, مع الصبر على ما يقوله المخالفون.
واصبر على ما يقولون ثم ليس فقط واصبر على ما يقولون, وإنما واهجرهم هجرًا جميلاً , هذه النقطة يجب أن ننتبه لها, ماذا يعني الهجر؟ في لغة العرب هو الترك, هذا شيء يعرفه الخاص والعام, والجميل هو الأنيق المحبَّ غير المؤذي, الأنيق المحبب غير المؤذي, واضح أن الجملة واهجرهم هجرًا جميلاً حوت معنيين يكادان في الظاهر أن يتناثرا وأن يتدافعا, فكيف يكون الترك جميلاً ومحببًا إلى الأنفس وغير مؤذ؟ كيف يكون؟ هنا موضع الاعجاز في في الكلام الإلهي لهذا اللفظ الوجيز, أوجز الله جل وعلا أرفع نماذج السلوك التي تحقق الانسجام والتأثير مع المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان في الوقت الذي يستنقذ فيه قضية الحقيقة دون أن تتلوث بأشواء هذا المجتمع.
الغفلة عن هذه المسألة سبب أحد أمرين في واقع السلوك الإسلامي:
الأمر الأول: هم الذين أخذوا الهجر بمعناه العام والأولي والبسيط, وعندهم أنه لمجرد أن تسلم لله وجهك وتسير معه في الطريق الذي اختطه لك فعليك أن تقطع العلائق بينك وبين الآخرين ضربة لا زب.
والأمر الثاني: الذي تبلور في السلوك, الغفلة عن كل شيء والاندماج المطلق في المجتمع وقبوله على ما فيه من خير ومن شر.
وكلا السلوكين خطأ؛ الهجر الجميل يعني أن لاتلابس من حولك في ما يغضب الله تبارك وتعالى, وأن لا تعين من حولك على ما يغضب الله تبارك وتعالى, وأن لا تساعد هذا المجتمع في شيء يتنافى مع أهدافك, مع قضايا دعوتك التي تحملها, ولكن مع الحفاظ على الرابطة الإنسانية التي تشد الناس جميعًا بعضهم إلى بعض, مسلمهم وكافرهم على سواء.
لأية غاية؟ هل لغاية المداراة والمجاملة والمصانعة؟, لا, سلوك المسلم أبعد ما يكون عن هذه الرجرجة الموقوته, ولكن لإبقاء النافذة الوحيدة التي يمكن أن تنفذ منها إلى قلوب الناس, وإلى عقول الناس, وإلى مشاعر الناس, أي الإبقاء على الوسيلة التي لا غيرها, والتي يمكن أن تكون في مجتمعك بواسطتها عنصرًا فعالاً ومؤثرًا.
الهجر الجميل هو أن لا تعين غيرك ممن يخالفك في المتجه والمعتقد في شيء مما يغضب الله, ولكن مع الإبقاء على علائق المودة وعلائق المحبة وعلائق التضامن القائم بين أعضاء المجتمع, أن لا تلق الناس بهذه النفسية المظلمة العابسة, ولا تلقاهم بهذا القلب الأسود الذي يستشري حقدًا, ويأكله هذا الحقد من جميع جوانبه بل تتقدم الإصلاح هذا المجتمع بالقلب المغمور بالمودة والمحبة والرغبة في إيصال الخير إلى الناس وتحفظ كل العلائق التي أمكن حفظها دون مساس بجوهر رسالتك وأسس عقيدتك.
أن تكون مسلمًا, هذا لا يعني بتاتًا أن تكون سيء الطبع شرس الخلق, هذا شيء, وذاك شيء آخر, وهجرك للمخالفين مع إبداءهم للتسويف المستمر وأخذهم بهذا النهج غير الأخلاقي لا يعني كذلك تقطيع العلائق بينك وبينهم.
أرأيتم كيف كان سلوك النبي مع المخالفين, جهر بالدعوة دون مداراة ودون جلجة, ودون خوف, وعلنًا وتحت وهج الشمس وأبقى على كل العلاقات التي أمكن أن تبقى, كان يغشى مجالس الناس, وكان يزور الناس, وكان يلقاهم بالبشر, وكان يلقاهم بالمودة, ذات يوم مر النبي طائفًا بالكعبة, وهذا في أوليات الدعوة, فلما مر تغامز القوم وسخروا من رسول الله وأسمعوه قارص القول, فأعرض فطاف فسمع مثل ذلك عددًا من المرات ثم التفت إليهم وقال ((يا معشر قريش: تسمعون والله لقد جئتكم بالذبح)) وأشار إلى حلقه, فكان أشد الناس عداوة له يحاول أن يرفأه بأحس ما يجد من القول, قاموا إليه يهدؤنه ويقولون له: يا محمد والله ما كنت جهولاً, كلمة واحدة ((لقد جئتكم بالذبح)) , ذلك أقصى ما قاله النبي فكانت غريبة غريبة هذه اللفظة القوية من إنسان عرف في كل حياته بأنه على غاية, ما يمكن أن يكون الإنسان من السماحة والطيب فالنبي عليه الصلاة والسلام عنوان الهاجرين للمجتمع, ولكن بالهجر الجميل, والهجر الجميل هو أن تبديّ ما عندك وأن تدعو إلى هذا الشيء الذي أنت مكلف بالدعوة إليه دون أن تحطم كل علاقة بينك وبين الناس.
انظر إليها في ضوء القانون الأخلاقي, تجد بأن العنف والشراسة وبذاءة القول وسوء الطوية شيء يتنافى مع أوليات القانون الأخلاقي, والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لعائشة رضي الله عنها إثر كلام سمعه من بعض الناس يقول لها: ((يا عائشة, لو كان العنف رجلاً لكان رجل سوء)), فالنبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين, وما وقف في مفترق طريقين إلا اختار أيسرهما وأرفقهما ما لم يكن فيه إثم أو مغضبة لله تبارك وتعالى, فإن يكن ذلك كان أبعد الناس منه, هذا هو معنى الهجر الجميل.
الهجر الجميل أن لا تلابس المبطلين في باطلهم, ولكن هذا لا يمنع من أن يبقى بينك وبينهم حبل الود موصولاً, فلو أنك وضعت الأمر تحت قانون الحركة والسير لوجدت أن العنف والعنفوان يعطلان الحركة ويقضيان على السير من أول الطريق, فالرجل الذي تلقاه وأنت غاضب وأنت مشمئز, وأنت تحمل في صدرك الضغينة التي لا تنتهي لا يمكن أن تتفتح لك مغاليق قلبه بحال من الأحوال, فحين نسمع الله جل وعلا يوجه نبيه هذا التوجيه الحكيم واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً نلحظ أمرًا:
نلحظ أن الله جل وعلا يقيم نبيه عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه على القاعدة الأخلاقية المثلى ويوجههم نحو الطريقة التي تضمن انفتاح الأسماع والأبصار والعقول والقلوب لهذه الدعوة, فهي توجيه حكيم واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً.
لكن الكلام هنا في عمومه يبقى ناقصًا إن نحن حذفنا النظر فيما يأتي من الآية الأخرى يقول: ذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً , تصوروا لو تصورنا أن الله تعالى قال: وذرني والمكذبين, ماذا يكون الأمر, نكون قد وقعنا في شيء من الخلف في الكلام, التناقض في القول وعدم انسجام أجزاء الحقيقة التي نعرضها؛ هناك قلنا: إننا لا نلابس المجتمع المبطل الجاهلي في باطله, وفي جاهلياته, ولكنا نحمل للناس من حيث هم ناس المودة والمحبة ونرغب في أن نشترك وإياهم في حمل أعباء الدعوة, ونحرص أن تبقى قلوبهم معنا, وهنا يقول الله وذرني والمكذبين , لو وقفنا عند هذا الحد, المكذبون كما تعلمون كانوا عامة قريش, بل عامة العرب, بل عامة الدنيا, فحين يقول الله وذرني والمكذبين أي اتركني وهؤلاء المكذبين أنا أدبر شؤونهم, وأنا أنتقم منهم, وأنا أذيقهم العذاب والأنكال, فأين ذهب جمال الخُلق, وأين ذهبت هذه العلاقة التي ركزنا على ضرورة المحافظة عليها؟ ينحل الإشكال حين نلحظ القلب الذي جاء في الكلام, المكذبون في الكلام كذبوا لأنهم أولو النعمة وأولوا النعمة هم المتنعمون.
هنا انسحبوا من ذلك الجو التاريخي البعيد, وتعالوا إلى أي جو معاصر وانظروا في المجتمع المعاصر, وفي كل مجتمع, المكذبون أولاً ليسوا بسطاء الناس, وليسوا حتى أوساطهم, وإنما هم القمة في المجتمع, هم المنعمون, هم المترفون, هم كبار أصحاب الامتيازات التي تهدد الدعوة مراكزهم وامتيازاتهم, هؤلاء دائمًا قلة في المجتمعات, هؤلاء لا يمكن أن ينقادوا إلى الحق, ولا يمكن أن ينصاعوا للحجة إلا بعد أن تفلس كل امتيازاتهم, وتذهب أدراج الرياح, نحن لا نستطيع بالنسبة لمسار الدعوة الإسلامية, وليكن هذا مفهومًا وواضحًا, لا نستطيع وفقًا لقوانين الدعوة أبدًا أن نحفظ للجاهلين امتيازاتهم, هذا غير معقول, فالدعوة الإسلامية بما هي دعوة عامة وشاملة تنسجم مع كل الحياة البشرية لتؤثر فيها وتغيرها, لا يمكن أن تبقي على الأوضاع على النحو الذي هي عليه, سوف تنظم المجتمعات البشرية في ضوء قوانينها, وفي ضوء شرائعها وتوجيهاتها وآدابها, ومن المعقول بل من الحق في مجتمع كهذا أن يكون العالي نازلاً, والنازل عاليًا, أي أن تغيرًا جوهريًا لابد أن يدخل في المجتمع من جراء تطبيق شرائع الإسلام.
هؤلاء الناس الذين لهم امتيازات سابقة نشأت في ظل مجتمعات جاهلية وأوضاع جاهلية ينبغي أن يكون مقررًا أن الإسلام لا يدغدغ غرائزهم ولا يشتري ولائهم بالحفاظ على امتيازات تصطدم مبدئيًا وأساسًا مع قوانين المجتمع المسلم, هؤلاء إذًا سيظلوا مكذبين لو جئتم بالحجج صباح مساء, فسوف يردون عليك حججك كائنة ما كانت, وصدق الله العظيم ولو أتيت الذي أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير.
إذا فالقلة التي تعيش على مأساة البشرية فقط, هي التي يتهددها الله جل وعلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً , دع الدعوة تسير بإذن الله جل وعلا, وانتظر ماذا سيحل بهم, وبالفعل مضت الدعوة في طريقها غير آبية بهذه الكلاب التي كانت تنبح من حواليها, حتى إذا كان يوم بدر ألقي أولو النعمة مجرورين بأرجلهم في القليب, قليب بدر, ووقعت الواقعة في صف المشركين وتساءل المتسائلون أفلان وفلان يقتلون ويلقون في القليب؟, شيء يفوق التصديق, ولكن الله جل وعلا حقق لنبيه عليه الصلاة والسلام موعده, فألقى هؤلاء في القليب وفقًا لمصارعهم التي صرعوا عليها بتكذيبهم وبعنادهم وبتأليبهم على دعوة الحق النازلة من عند الله تعالى.
هذا كان في الدنيا وذلك قانون محفوظ كما تشرق الشمس من المشرق لتسقط في المغرب, كذلك فإن الباطل مصيره إلى التدمير؛ لأنه في نسيجه يحمل جراثيم الفناء والموت, كذلك فالله جل وعلا موقع هذا بالمبطلين بلا ريب. أما في الآخرة فالله جل وعلا يقول: إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا , في الآخرة الأنكال جمع نِكلّ وهو ما يربط به الإنسان قيدًا أو ما يشبه القيد, والجحيم هي النار الجاحمة الشديدة التلهب والوهج والحرقة وطعامًا ذا غصة, الطعام هو عصارة أهل النار وما يشبه ذلك وذو الغصة هو الذي يعلق في أصل الحلق لا يتزحزح, لا يخرج فيريح, ولا يتبلع فيريح وعذابًا أليمًا, ذلك في الآخرة وعد غير مكذوب ينال المجرمين من الله تبارك وتعالى متى يكون ذلك يقول الله : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلا , هذا يكون يوم ترجف الأرض والجبال, وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً, انظر إلى هذا الحائط, انظر إلى الجبل الصم, انظر إلى الصخر الأصم, ألست تجده قاسيًا شديد القساوة, بلى, ماذا يكون شأنه يوم القيامة كثيب مهيل, والكثيب هو الصخر الذي فتت حتى أصبح كذرات الرمل وأزيل بعضه على بعض, هذه الأعلام الشوامخ, هذه الجبال المنصوبة إذا جاء وعد ربك جعلها الله تعالى كرمال, كالرمال تتفتت وتصبح ككثبان الرمال في ذلك الوقت ينال المكذبين ما ينالهم, يقول الله: إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذًا وبيلاً.
لاحظوا أيها الأخوة وأنتم تقرأون القرآن, جاء في القرآن من قصص الماضين الشيء الكثير, قصص الأنبياء, قصص الأمم التي كذبت الأنبياء, العبرة المستقاة والمستفادة من سياقة هذه القصص جاء الشيء الكثير.
لكن الناظر في القرآن يلاحظ أن قصة موسى وفرعون ترددت في القرآن عددًا أكبر من المرات, لابد من سبب ومن علة, لماذا يقول الله باستمرار ما حصل من فرعون تجاه موسى؟ لاحظوا مواقف فرعون مع موسى, تجدونها تتشابه إلى حد بعيد مع مواقف المشركين, بل زعماء المشركين مع رسول الله , إن فرعون أعرض ونأى بجانبه, جاءته الدعوة فمنَّ على موسى ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت , منه على موسى عليه السلام بأن ربي في بيت فرعون وكذلك مُنّ على رسول الله وعيّر بأنه اليتيم الذي آوته قريش, وأطعمته قريش, وكذلك فرعون يتأبى ويرى أنه خير من موسى أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين , كذلك فأبوجهل وأضراب أبي جهل من عتات قريش ومن صناديد المشركين كانوا يرون أنفسهم خيرًا من محمد , بل يصرحون بهذا بلا تحرج, وبلا حياء, وكذلك فرعون يرى أن موسى لا مجال لأن يسمع له أليس هو أي فرعون الحاكم والمتصرف والذي يملك كل الخيرات, والذي يملك أن يعطي ويمنع وأن يقيد يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون كذلك قالت قريش, رأت محمدًا عليه الصلاة والسلام رجلاً فقيرًا قليل ذات اليد وهم الذين يملكون الثروة ويجوبون أطراف البلاد بالتجارة ويسوقون العير على كل مكان, ومحمد لا يملك من هذا نقير.
وكذلك الغيرة ففرعون كان يغار من موسى, كيف يختصه الله جل وعلا بهذا الخير الذي منح له من الله, ويترك فرعون وذلك ما كان يقال لرسول الله قالوا ألم يجد الله رجلاً يرسله غيرك, وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك , هم كانوا يتصورون أن يتنزل القرآن على زعيم من زعماء مكة, أو على زعيم من زعماء الطائف ناسين أن القيمة للمعنى الإنساني أولاً, وللاختصاص الإلهي أولاً وأخيرًا, والغيرة ذاتها هي التي دفعت أبا جهل إلى أن يستمسك بهذا الموقف العنيد الذي أورده مورد الهلاك ذات يوم جاءه رجل من خلصائه قال له يا أبا الحكم ـ وكذلك كان اسمه قبل أن يسميه رسول الله أبا جهل ثم تلبس هذه التسمية إلى آخر الدهر ـ ألا يا أبا الحكم ألا تسمع ما يقول محمد إنه والله لقول جميل, وطريقة مستقيمة ثم هو ابن عمك, عزه عزك وشرفه شرفك, فلماذا هذه الخصومة؟ ماذا تتصورون كان جواب الرجل الأرعن؟ قال: إنا تزاحمنا نحن وبني هاشم فأطعموا وأطعمنا, وسقوا وسقونا, وحملوا وحملنا حتى قالوا: منا نبي يوحى إليه من السماء فمن أين نأتي بمثل ذلك؟
الغيرة إذًا هي التي كانت تحمل أبا جهل وكثيرًا من المعاندين من العرب على أن يقفوا المواقف السيئة من رسول الله , هذا التشابه الملحوظ والذي لا تخطئه عين الدارس للقرآن الكريم بين موقف المشركين من محمد وموقف فرعون وقومه من موسى عليه السلام هو الذي سوغ أن تردد قصة موسى مع فرعون على أسماع العرب, ماذا كانت عاقبة فرعون بعد كل العناد مع ما هو عليه من العظمة والجبروت, والملك والثروة؟ نبذه الله جل وعلا في اليمّ فأغرقه وجعله نكال الآخرة والأولى, ماذا كانت عاقبة أبي جهل؟ نبذه الله تبارك وتعالى في القليب قليب بدر, وجعله الله جل وعلا نكال الآخرة والأولى.
هناك قانون واحد في مجال الدعوات يتحكم في مسارها في القديم وفي الحديث على سواء, إن الله جل وعلا لا يجامل المكذبين ولا يحابيهم ثم هم أولاً وآخرًا بعض خلق الله جل وعلا, وخلق الله يتفاضلون عنده بالتقوى وبالعافية, ثرواتهم أموالهم أولادهم لا تغني عنهم شيئًا وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن فالإيمان هو الذي يحدد مجال النجاة فقط, أما الذين يصرون على العناد ويركبون رؤوسهم في طريق الخطأ ومعاندة الحقيقة فمصيرهم في القديم وفي زمن النبي عليه الصلاة والسلام وإلى أن تقوم الساعة مقرر ومحتوم: سوف يدمرون لكن تحت شرط, ينبغي أن يفعل لكي يدمَرَ الباطل, لابد أن تكون جبهة الحق سليمة, فإذا كانت جبهة الحق سليمة فمصير الباطل محتوم, أما حين تكون جبهة الحق غائبة الرؤيا مشوشة الأهداف, سقيمة الانضباط في السلوك, فلا يمكن للباطل أن يدمر إلا على المدى البعيد, وبعد أن يوجد الله جل وعلا جبهة للحق هي خير وأهدى سبيلاً من هؤلاء المتخاذلين الذين يدعون ذلك زورًا وبهتانًا, وإذًا فالباطل مصيره مقرر وفقًا لقوانين الله التي لا تتخلف, لكن ذلك مرتبط بمدى استقامة المؤمنين على الجادة التي وضعهم عليها ربهم تبارك وتعالى.
هذا ما يوحيه قول الله إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما , وهنا أداة المشابهة كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً , فما كان من فرعون فعصى فرعون الرسول ما كان من الله فأخذناه أخذا وبيلاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1385)
نظرات في سورة القلم
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, القرآن والتفسير
محمود بن عمر مشوح
الميادين
15/8/1395
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحروف المقطعة تنبيه إلى إعجاز القرآن. 2- حديث عن معجزة القرآن وأثره في النفس
البشرية. 3- الربط بين سورتي العلق والقلم. 4- استخدام القلم بالخير والشر فهل تدخل الأقلام
الشريرة وآثارها في قسم الله. 5- معرفة العرب الوافرة بالشعر والكهانة. 6- الرد على قريش
الجنون إلى النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون, فلقد قضينا الجمعتين السالفتين في الحديث عن سورة العلق.
نحن اليوم نستقبل سورة القلم بعد أن أنجزنا الحديث عن سورة العلق, فماذا في هذه السورة مما كلف به النبي والمؤمنون, يقول الله تبارك وتقدس: ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرًا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين , هؤلاء الآيات هي فاتحة السورة الكريمة فلننظر فيها على سبيل الإجمال والاختصار.
أما قوله تعالى: ن هذا الحرف المفرد أحد الحروف المقطعة التي جاءت في بعض أوائل السور, إنما هي إشارات تنبيه لجذب انتباه السامع كما تقول: ألا, في فاتحة كلامك ليستجمع المستمع إليك شوارد ذهنه وعقله ويتهيأ لمعرفة ما سوف يلقي إليه من القول, هذه واحدة.
ثم هي تنبيه لكن من زاوية أخرى, فهي تنبيه ولفت نظر إلى اعجاز هذا الكتاب الكريم الذي بهتت العرب وهم يسمعون محمدًا صلوات الله عليه وآله يتلوه عليهم, كأن الله جلت قدرته يشير بهذه الحروف المقطعة إلى أن هذا القرآن الذي خلب ألبابهم وحير عقولهم مؤلف من ذات الحروف التي يتألف منها كلامهم ومنطقهم, الحروف التي تستعملها في ترتيب الكلمات التي نتفاهم بها في خطابنا فيما بيننا هي نفس الحروف التي استخدمت ونفس الأدوات التي استعملت لتأليف هذا القرآن الكريم.
ومع ذلك, مع أن المادة الأولية في الكلام الإلهي وفي الكلام البشري واحدة, فالفرق واسع جدًا بين طبقة الكلام الإلهي وبين طبقة كلام الناس, الفرق يشبه أن يكون كالفرق بين الخالق والمخلوق.
ومنذ أن نزل هذا الكتاب على رسول الله صلوات الله عليه وألقي في وجود العرب فرسان وأرباب اللسن والفصاحة بالتحدي أن يأتوا بمثله, أبو بسورة من مثله, وهذا التحدي قائم لم ينقطع والطاقة البشرية تقر على نفسها في كل جيل بالعجز عن الاتيان بمثل هذا الكلام, وكفى بذلك دليلاً على تنزه المصدر الذي نزل منه هذا الكتاب الكريم, ولا عجب فإن معجزة محمد صلى الله عليه وآله هي هذا الكتاب الذي عمل في زمنه بأبي هو وأمي, ومازال يعمل على توالي الأحقاب والأجيال لم ينقطع تأثيره ولن ينقطع تأثيره بحال من الأحوال, والرسول عليه السلام يقول في هذه الناحية: ((ما من نبي أرسله الله قبلي إلا وآوتي من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أويته وحيًا يتلى, فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) , معجزات الأنبياء من قبل, من فلق البحر وقلب العصا حية, وإبراء الأكمه والأبرص, وإحياء الموتى معجزات محكومة بظروفها وبشرائطها التاريخية لا تتكرر, ثم إن تأثيرها مقصور على الذين شهدوها في لحظة زمانية معينة وفي مكان معين لا تتعداهم إلى سواهم, لكن هذا القرآن يفعل في الناس فعل السحر, يقرأه العربي فينتفع, ويقرأه الأعجمي فينتفع, فيقرأه ابن القرن الأول فينتفع, ويقرأه ابن القرن الرابع عشر فينتفع, ويقرأه الناس إلى ما لا يعلمه إلا الله فلا يزيد الإنسانية إلا هداية وتقى.
وترون أنتم أن كل أمم الأرض التي كانت لها في الماضي دويّ وكانت لها مبادئ وأهداف تثور ثورة ويكون لها مد وتنتشر بين الناس ضمن شرائط محددة ثم يدركها جنوح حكمي نحو الانحلال, فتتقلص وتتراجع.
سوى هذا الإسلام منذ جهر به رسول الله يشهد مدًا متصاعدًا وتقدمًا مستمرًا, لا يعرف نكوصًا ولا تراجعًا.
منذ سنوات كان المسلمون في حدود خمس مئة مليون وهم اليوم يكادون يقربون من المليار, وكل يوم تطلع فيه الشمس على الدنيا يشهد هذا العالم أناسًا يدخلون دين الله وحدانًا وجماعات, بفضل القوة التي أُودعت هذا القرآن الكريم, هذه الفاعلية الخارقة مسحة ربانية وليس صناعة ألفاظ, ولو كانت صناعة ألفاظ لكان كلامي وكلامك مؤثرًا كتأثير الكلام الإلهي, ولكن الكلام الإلهي يفعل, وكلام الناس لا يفعل, هذا إعجاز محمد.
معجزته العظمى, وآياته الكبرى, هذا القرآن.
ن إشارة لحرف إلى أن ما تلفظون به من قول فمؤلف من هذه الحروف, ومع ذلك فأنتم عاجزون عجزًا مطلقًا عن أن تأتوا بمثل هذا القرآن, أو بقريب من هذا القرآن.
ثم قال: والقلم وما يسطرون , وتعرفون أن الله جل وعلا استجاش الهمم والدواعي نحو العلم في فاتحة سورة العلق اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
في السورة الأولى إشادة بهذه النعمة السابغة هي تعليم الإنسان بالقلم, وتعليمه ما لم يعلم, وفي السورة الثانية من القرآن ـ في سورة القلم ـ إشادة بالقلم وبآثاره, إشادة بالقلم وبالمعرفة.
لكن ههنا دقيقة يجب أن نتفطن لها, لا يجوز أن يغفل عنها قارئ؛ لأنها تتعلق بالكشف عن بعض أسرار الكتاب الكريم صياغة الآية والقلم والقلم وما يسطرون , الواو واو القسم, وما بعد الواو فقسم به, والقسم واقع على شيئين على القلم, وعلى آثار القلم, على السطر, على الكتابة, كأن الله جل وعلا يقول: والقلم وما يكتبون بالقلم.
القسم بماذا يكون عادة, لماذا يأتي القسم؟ يأتي القسم ليشد من عزيمة الإنسان على الفعل, أو على الترك, إن أردت أن أفعل شيئًا فأنا أقسم على فعله لأزيد موقفي في الفعل ثباتًا ورسوخًا, وإن أردت أن أترك ولا أفعل أقسم أن لا أفعل لكي أكف نفسي بزيادة عن الفعل, فالقسم من أجل الفعل, ومن أجل الترك يشد عزيمة الفاعل أو التارك.
وبماذا يقسم الإنسان؟ هل يقسم الإنسان بكل ما هب ودب من حقير وجليل؟ لا, القسم لا يكون إلا بما له مكانة وبما له منزلة وقداسة, ولذلك فنحن نقسم بالله, والله أكبر شيء وأجلّ شيء وأعظم شيء.
فحينما نلحظ أن الله يقسم بالقلم ويقسم بالكتابة نستدل بداهة على أن للقلم ولآثار القلم منزلة عالية وقدرًا رفيعًا, عند هذه النقطة نتمهل لنرى إذا كنا نقرر أن القسم لا يكون إلا بالأشياء العظيمة, الأشياء ذات الآثار القيمة الظاهرة في السموات والأرض, إن أقسمنا بالله فلما يغدونا به من نعمه, وإن أقسمنا بالكواكب والشمس والنجوم وقد ورد الإقسام بها في القرآن فلما تدل عليه من آثار رحمة الله جل وعلا بهذا الخلق وتسخير الكون لمصلحة الإنسان.
حينما يقسم ربنا جل وعلا بالقلم وبالكتابة فنحن نعلم أن القلم أداة ككل أداة في هذه الدنيا, يستخدمها العاقل البر الخير فتكون أداة رحمة وبر, ويستخدمها الفاجر الشقي فتكون أداة تدمير وتخريب, كل أداة يمكن أن تستعمل في الخير فتنتج خيرًا وبركة, ويمكن أن تستعمل في الشر فتنتج شرًا وفسادًا ودمارًا, فإذا كان الله يقسم بالقلم وما يسطر أي يُكتب بالقلم, فالقلم يكتب به كتاب الله وتكتب به أحاديث رسول الله , وتكتب به الدعوة إلى الخير والبر والرحمة كما تكتب به سائر السفاسف والموبقات والأشياء الضارة والدعوات الفاسدة, وما يحدث التخريب الهائل الخطير في المجتمعات البشرية.
فهل يتناول قسم الله جل وعلا آثار هذا القلم حتى وإن كانت فاسدة وشريرة؟ لا؛ لأننا قررنا أن القسم لا يكون إلا بما له منزلة عالية, والباطل الذي يكتب بالأقلام كسائر ما تسود به الصحف وما تقيؤه المطابع وتقيؤه الإذاعات وتقيؤه الجرائد على رؤوس الناس دمارًا وتخريبًا فباطل لا يجوز أن يتناوله القسم؛ لأنه في موضع المهانة والحقارة, يُجَل قسم ربنا جل وعلا عن أن يقع عليه وأن يتناوله بحال من الأحوال بعد ذلك نقول تأويل الآية لمن يريد أن يدرك كيف يقرأ ن والقلم وما يسطرون أي يكتبون به من خير وبر ومرحمة بين الناس, لا ما سوى ذلك مما يحدث الشقاق والبغضاء والفتنة والدمار بين الناس, هكذا ينبغي أن يتناول كلام الله جل وعلا لكي تستخلص منه زبدة ما أراد الله جل وعلا للإنسان أن يفهمه منه, ثم نتابع الآيات.
ما أنت والخطاب لمحمد ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرًا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين , ارجعوا بذاكرتكم إلى بواكير الدعوة أوائل الوحي حينما بدأ النبي يبادئ قومه من العرب بما أنزله الله إليه من كتاب وبما عمله إياه من أكلاف ومهمات, كان يتلو عليهم هذا القرآن فيسمعون كلامًا لا عهد لهم بمثله.
لاشك أن الأمة العربية في إبان البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم بلغت من نصاعة اللغة وقوة البيان بأساليب الأداء الذروة التي ليس بعدها شيء, والعرب كانت تفخر بأنسابها وتفخر بما تقوم به من مكرمات من قرى للضيف وفكاك للأسرى وعتق للرقاب وحمالات للديون وما أشبه ذلك, ولكنها ما فخرت أبدًا بشيء كفخرها باللسان, بالفصاحة وقوة الحجة.
فخر الأمة العربية, حينما تنزل الكتاب الكريم كان يتركز في الحقيقة بهذا اللسان, حينما ينبغ في القبيلة شاعر أو خطيب يستمع, كانت تقام الحفلات والولائم وتقام الزينات وتشعر القبيلة أنها حازت فخارًا ما بعده فخار بلى حتى لقد تحول هذا الفخار مع الزمن إلى وسيلة للذم والهجاء, ولقد قال شاعرهم يذم بني تغلب بعد أن غالوا بشاعرهم عمرو بن كلثوم:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة.
مع أن العرب تفخر أكبر فخرها باللسان, فلقد بهتت وهي تسمع القرآن, عرفت الشعر بكل أجناسه وبكل بحوره, وعرفت أقاويل الخطباء, ووعت في ذاكرتها الجبارة الشيء الكثير مما تاه به خطباؤهم في المناسبات, وعرفت ما يسجع به الكهان, فما انطق هذا القرآن على لون من أفانين القول التي كان العرب يعرفونها تحيروا فيها هذا واحد.
والشيء الثاني أن محمدًا قام يدعوهم إلى أمور صغيرها وكبيرها يخالف المألوف عند العرب ابتداءً من العوائد اليومية, وانتهاء في العقيدة في الألوهية جاء محمد عليه الصلاة والسلام ليقول لهم يا قوم أنتم لستم على شيء, أنتم على باطل مستحكم, وفي ضلال عريض, وطلب إليهم أن يغيروا تغييرًا جذريًا وحاسمًا كل الأشياء التي درجوا عليها وألفوها وتلقوها منحدرة إليهم من طريق أسلافهم, فماذا كان موقف العرب؟ أمن المعقول أن يقوم إنسان فرد ليست له عشيرة بذلك المكان التي ترد البغي والعدوان على أحد أفرادها, وليس من المال بالكثرة التي يشتري فيها الأعوان والأنصار من الإمعات والمهازيل, وليس صاحب ملك وسلطان يستخدم ملكه وسلطانه ليغير من مجرى الحياة الإنسانية, لم يكن على شيء من ذلك أبدًا, ومع ذلك كان يقول لهم بملء الفم: لابد أن تغيروا ما أنتم عليه, وستغيرون وستدخلون في هذا الدين طائعين أو كارهين من قبل منكم فبقبول الله قبل, ومن لم يقبل فسيدخل الإسلام داخرًا ذليلاً مكرهًا على ذلك؛ لأنه سيجد أنه لا سبيل أمامه سوى الإسلام, أية ثقة بالنفس هذه, أيقول هذا الكلام عاقل؟.
من هنا كانوا يتهمون الرسول بأنه مجنون, كانوا يرددون هذا الكلام ويلصقون به تهمة الجنون, هل كانت العرب أو القرشيون الذين نشأ بينهم محمد يعتقدون بجدية ما يقولون؟ بالتأكيد لا, الدعوة جاءته عليه السلام وهو في الأربعين من العمر, مضى زمن طويل: الصبا والشباب والكهولة حتى إذا شارف الشيخوخة جاء للناس بهذا النداء الإلهي, كل الوقت الذي مضى كان محمد عليه السلام مهوى أفئدة الشباب ومحط إعجاب الشيوخ, يكبرون فيه الخلق النبيل, ويكبرون فيه الاستقامة الرائعة, ويكبرون فيه العفة المتناهية, ويكبرون فيه من الأخلاق ما لا يجتمع في أحد من خلق الله جل وعلا, لم يكن عليه مغمز, ولا سبيل إلى أن يلحقه مطعن, إجماع من أهل مكة جميعًا أنه الصادق, وأنه الأمين, وأنه المرضي في جميع أخلاقه, ذلك رأي العرب, رأي خصوم محمد بمحمد.
فأية قيمة لتهمة سخيفة كهذه التهمة يلقيها العرب في أذن رسول الله مع ذلك, فلابد للاستكمال الصورة في أن نفكر قليلاً, ومن أن نرجع أيضًا رجعة بسيطة إلى الوراء.
تجربة الوحي ليست من التجارب العادية, بلى هي شيء خارق للعادة قلما يتعرض الناس إلا الآحاد في الأزمان بعد الأزمان لهذه التجربة, تجربة الاتصال بالملأ الأعلى وسماع الخطاب الإلهي وتحمل الرسالة التي تأتي من بارئ الكون, هذه التجربة في وقتها الثقيل الشديد على النفس خيلت لمحمد أن هذه الغرابة في الحالة وراءها شيء, حينما فجأه الوحي في حراء, جاء مرتعد الفؤاد عليه السلام إلى زوجه خديجة وقال لها: ((يا خديجة لقد خشيت على نفسي)) ظن عليه السلام أنه خالطه شيء من الجنون.
وحين فتر الوحي جاء في بعض الروايات أن النبي كان كثيرًا ما يذهب يحاول أن يتردى من شاهق, يريد أن يرمي نفسه من جبل من هذه الجبال ليتخلص من هذه الحيرة التي تثقل على ضميره وعلى قلبه وعلى عقله, لماذا؟ لأن الهاجس الذي وقع في نفسه أول أمر تنامى وتزايد حينما انقطع عنه الوحي رجح لديه عليه الصلاة والسلام أن ما رآه وما سمعه فليس من الملك, وإنما هو قد يكون من الشيطان, فالنبي عليه الصلاة والسلام إذًا كان في وضع شعوري ونفسي وعقلي يحتاج معه إلى أن يشد من عزمه وأن يثبت على أن هذا الذي جاءه لا طريق له إلا الله, ولم تحمله إليه إلا ملائكة الرحمن, وأنك يا محمد بالفطرة التي فطرت عليها, بالاستقامة التي نشأت عليها أبعد ما تكون عن الجنون, فقوله جل وعلا: ما أنت بنعمة ربك ـ يعني بحمد ربك وتوفيقه إياك بمجنون.
تحمل أولا هذه الآية الرد التثبيت لشخص النبي بغية طرد الوساوس التي يمكن أن تنتاب النبي وهو في هذه الحالة التي يشعر معها بأن شيئًا ما غريبًا عما اعتاده الناس قد جاء, وهذه التهم التي تنهال عليه من قومه قريش, فتشكل ما يشبه ضغط الرأي العام, تقول له باستمرار أنت مجنون, أنت مجنون, أنت مجنون, فإذًا أول غرض لقول الله جل وعلا: ما أنت بنعمة ربك , ونعمته هي هذه الرسالة, ويستحيل عقلاً وعادة أن يكلف المجانين بحمل الرسالات الإلهية, بل يستحيل عقلاً ومنطقًا وعادة أن يكلف المجنون بحمل كلام عادي ليوصله إلى أحد من الناس ما أنت بنعمة ربك بمجنون , ولكن هذا الكلام له مرجع آخر يعود على قومه المشركين, ما هو الجنون؟ اسألوا أنفسكم ما معنى أن يكون الإنسان مجنونًا؟ الجنون ـ بكل بساطة ـ انفلات زمام العقل, حينما يفلت من يدك زمام عقلك فأنت مجنون, وإذا دخلت في هذه الحالة فما هي الآثار التي تترتب على الجنون؟ غيبوبة في العقل تؤدي إلى تصرفات لا واعية. ولا محسوبة, كذلك يكون الجنون.
التفتوا إلى العرب هؤلاء الذين يتهمون محمدًا عليه السلام بالجنون إذا كانت العبرة للآثار, فأي الناس أولى بوصف الجنون النبي الذي يدعو إلى صحوة لا صحوة بعدها, وإلى محاسبة دائمة ومرهقة, وإلى أن يزن الإنسان كل قول, وإلى أن يزن الإنسان كل تصرف, وإلى أن يحسب حساب النتائج, ما أطاقت القدرة البشرية هذا الحساب, أم هؤلاء السابون الغافلون الذين تدفع بهم أمواج الحياة إلى حيث لا يدرون, أي فرق بين الجنون الذي لا يفكر في عاقبة قول ولا فعل, وبين أمة أطبقت على الجنون لا تفكر في غدها, ولا تفكر في واقعها, ولا تفكر بتصرفاتها, وإنما هي تسير مدفوعة بقوة العادة والاستمرار, لو نظرنا إلى الآثار والنتائج لوجدنا أصحاب محمدًا يمثلون قمة الصحوة الإنسانية, قمة الوعي البشري, قمة الحساب الدقيق لكل ما يصدر عن الإنسان من قول ومن عمل, ومن نية وإرادة ودافع, والأمة العربية التي أصرت على عنادها واستكبارها وتأبيها على الحق هي أولى بأن توصف بأنها مجنونة, المجنون الذي يسفه نفسه فلا يحسب حساب واقعها ويومها وغدها, وحسابها.
وكذلك كانت هذه الأمة كما تتقاذف موجات الرياح كثبان الرمال في هذه الجزيرة العربية, تنقل الكثيب من هنا إلى هناك, ومن هناك إلى هنالك, كذلك كانت موجة الزمن ودوامة الحياة تدفع هؤلاء العرب إلى حيث لا يفكرون ولا يقدرون, فهؤلاء هم أولى بأن يكونوا هم المجانين.
ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرًا غير ممنون الأجر الممنون هو المقطوع, أو الضعيف, نقول: حبل متين أو ممنون, إذا كان حبلاً ضعيفًا يكاد يتقطع, فمراد الله جل وعلا أن لك يا محمد جزاء ما حملت من أمانة وجزاء ما كلفت من رسالة أجر من الله جل وعلا دائم لا ينقطع, كثير لا يدركه ضعف.
وهذا الوعد من الله جل وعلا لنبيه عليه السلام بالأجر المتابع الكثير على حمل الرسالة وعد قائم لكل من نهج نهج محمد وسار على طريق محمد , دعوة الخير التي هي الإسلام, ولا شيء غيرها, ولا شيء غيرها, أجرها دائم لا ينقطع؛ لأن خيرها مستمر ما دامت السموات والأرض, الكلمة الخيرة تفعل فعلها إلى آخر الدنيا وإلى آخر الزمان, قد لا تحس آثارها ولكنه واقع تقع مسؤولية عدم احساسها بآثارها على ضعف الوسائل التي ندرك بها هذه الآثار.
وإنك لعلى خلق عظيم سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت للسائل: "ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى, قالت: فإن رسول الله كان خلقه القرآن, انظر إلى محامد الصفات, إلى كامل الخلال التي وردت في القرآن, يتصف بها الكائن الأسمى, تجدها في رسول الله.
ولا أريد أن أقف عند هذه الناحية؛ لأن أحاديثنا المقبلة سوف تتضمن بإذن الله نماذج كثيرة من هذا الخلق العالي الذي مهد طريق محمد نحو قلوب الناس وعقول الناس فستبصر يا محمد ويبصرون هؤلاء المعاندون من قومك بأييكم المفتون , والمفتون هو المجنون, سوف ترى في أي الفريقين أنت, أم هم الجنون والمجانين, وفعلاً لقد أبصر رسول الله وأبصر المشركون أيضًا حين فتح مكة أن محمدًا عليه السلام كان في منتهى العقل, وأنهم هم كانوا في منتهى السخافة والجنون إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
سبيل الله عند من؟ عند رسول الله, وسبيل الشيطان عند من؟ عند أعداء الله من المكذبين والزائفين, فاثبت يا رسول الله على المنهج الذي وضعك الله عليه, ولا تلتفت إلى ما يقوله من حولك قومك وما يرومونك به من تهم باطلة وأكاذيب لا معنى لها.
وفقنا الله وإياكم والمسلمين لما يحبه ويرضاه, وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1386)
نظرات في سورة المزمل
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الشمائل, القرآن والتفسير
محمود بن عمر مشوح
الميادين
14/9/1395
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لم سمي رسول الله بالمزمل. 2- القرآن يدعو الرسول لتحمل أعباء الدعوة. 3-تحمل أعباء
الدعوة وقيام الليل. 4- ترثيل القرآن ونزول الوحي عليه. 5- عبادة النبي امتثالاً للأمر
الإلهي. 6- المناهج الأرضية تغفل دور الإنسان في التفسير. 7- فشل الفكر الشيوعي بأنواعه
المختلفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: فما زلنا بعيدين نوعًا ما عن المرحلة الحاسمة في تاريخ الدعوة, مازال الوقت مبكرًا بعض الشيء عن مواجهة مستلزمات قول الله تعالى لنبيه صلوات الله عليه وسلامه يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر , نحن الآن في مواجهة مرحلة مبكرة, لكن الأمر الذي يلفت النظر في هذه المرحلة أنها تكاد تعني عناية خاصة بشؤون الدعوة والدعاة فقط دون التفات يذكر إلى ردود الأفعال التي أحدثتها الدعوة في صفوف الجاهلين, نحن نواجه الآن سورة المزمل ثالثة السور المكية في ترتيب النزول على رسول الله , وهذه السورة العجيبة تبدأ هكذا: بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً.
وهي بداية تستوقف النظر وتستدعي التأمل يا أيها المزمل فاتحة عجيبة حاول بعض المفسرين حين النظر إلى هذه الفاتحة أن يفر من مواجهة مدلولها لما تخيّل من أن المعنى المتبادر إلى الذهن أول البديهة معنىً لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه, قول الله تعالى خطابًا للنبي عليه السلام: يا أيها المزمل , المزمل هو المتزيل في ثيابه, والمتزمل في ثيابه هو المتدثر بها؛ لأن أصل الكلمة من مادة زمل الزاي والميم واللام, وهي تدل على الثقل والحمل وعلى التغطية أيضًا ويحمل الكلام على أن المراد به خطاب النبي عليه الصلاة والسلام, وهو في حالة تهيئ للصلاة, أي أن الكلام خاطب النبي وهو في حالة والتزام مع أرقى مستويات الدعوة, مع أن الأمر على خلاف ذلك يا أيها المزمل , تزمل في ثيابه حين ينام, وحين يتخفف من متاعب الدنيا وأوصابها, والنبي ـ وهذا هو موطن العجب ـ لم يكن مضى عليه طويل زمن, ولا كبير وقت وهو يتلقى وحي الله تعالى, سورتان فقط مرتا, سورة العلق بنبراتها الحاسمة وفواصلها القصيرة وجرسها الشديد الوقع, وسورة القلم بهذا التمهل, والترسل, وبما عرض له من مواقف بعض المشركين وبما خطّ للنبي صلى الله عليه وآله والمؤمنين معه من سبل المواجهة والوقوف في وجه المشركين, سورتان فقط نزلتا يتلقى النبي بعدهما هذا التعريض المر, ماذا تفعل يا محمد؟ وقد جاءت الروايات بأن النبي صلوات الله عليه حين نزلت عليه هذه السورة أو أوائلها على الأقل كان متكئًا إلى فخذ خديجة رضي الله عنها, حالة تخفف من العبء, حالة ركون إلى أحلى ما في الحياة الإنسانية وأمتع ما فيها, حالة الاضافة إلى الزوجة التي تمثل عنصر الأمان والاستقرار والانصراف عما وراء عتبة باب الدار, فالله جل وعلا لم يمهل نبيه صلى الله عليه وآله لكي يركن إلى هذا اللون من الحياة الوادعة الآمنة المطمئنة, وإنما جاءه النداء الرباني يعرض بحالته هذه مشعرًا إياه بأن حالة الدعاة يجب أن تكون شيئًا غير هذا يا أيها المزمل ,يا أيها المفضي إلى زوجتك تلتمس عندها الراحة والهدوء, يا أيها النائم في بيتك المتدثر في ثيابك وفي فراشك تلتمس التخفف والدعة والهدوء والاطمئنان, يا أيها الذي يفعل هذا فقط بعد سورتين من القرآن قم الليل إلا قليلاً تكليف يأتي بعد تعريض, نعم في التعريض قسوة, ولكنها القسوة اللازمة لايقاظ النفس النائمة عن ما تقتضيه الدعوة من جد ونشاط, وبالفعل تنبه النبي عليه السلام إلى ما يراد منه وإلى ما أراد الله به من كرامة حمل الدعوة, وكان بعدُ حينما تناديه زوجه مريدة إياه إلى شيء من الراحة, وتريد أن يريح هذا الجسد المتعب المكدور وأن يأخذ لنفسه بعض قسطها من الراحة والنوم, يقول لها مضى عهد النوم يا خديجة, لقد وعى الدرس بتمامه بكل ما فيه من قسوة في الخطاب, لكن مع كل الآفاق والأبعاد التي خطها أمامه الخطاب الإلهي المكرم.
يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً وذكر الليل هنا ثم استثناء بعضه يطبع في الذهن حقيقة المهمة بضخامتها وبصعوبة أكلافها, قم الليل, لا تنم, ثم يأتي الاستثناء من بعد يجر جرًا خفيفًا ويسحب سحبًا واهنا, هذا القليل الذي استثنى الله تبارك وتعالى من القيام, ومن التهجد, ومن العبادة, ماذا طلب من النبي إذاً عليه السلام هل طلب منه أن يخرج شاهرًا سيفه لكي يجالد المشركين, أم طلب منه أن يخرج إلى طرقات مكة وأزقتها ليحدث فيها شغبًا مستطيلاً ومستعرضًا؟ هل طلب منه أن يمد عينيه إلى ما تموج به الحياة من حوله من مفاسد وشرور ويطلب إليه أن يقتلها ويجتثها من الجذور, كل ذلك لم يكن ولا شيء منه, طلب محدد لكن ذاتي, طلب يعود على الذات, قم الليل إلا قليلاً ظني أن عقول أبناء هذا الزمان لا تطيق استيعاب مثل هذا الأسلوب, إذا كانت الحياة من حولنا تصطرع بالتيارات الجاهلية وإذا كانت الشرور والمفاسد من حولنا تتنزى بها جوانب الحياة فتجرح الفضيلة وتسيء إلى الحق, وتهين كل معاني العدالة والإنسانية, فما معنى أن يطلب إلى الإنسان أن يقوم الليل إلا قليلاً؟
لكن سنمضي أولاً, سنمضي في استعراض صورة الموقف المطلوب, وبعد أن نستعرض صورة هذا الموقف سَنُكرُ بالحديث على هذه النقطة التي أثرناها وذكرناها يقول لله الله جل وعلا قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً , فالمطلوب من القيام نصف الليل أو أن ينقص منه صلوات الله عليه قليلاً أو أن يزيد عليه قليلاً وما هو أقل من النصف درجة فهو الثلث, وما هو أكثر من النصف درجة فهو الثلثان, فطلب القيام في الليل يترد بين الثلث وبين الثلثين: أن يقوم المسلم مع النبي عليه الصلاة والسلام فترة من الليل لا تقل عن الثلث, ولا تتعدى الثلثين لكن مع ماذا مع ترتيل القرآن ومع قراءة القرآن بإمعان وبتمهل ما معنى الترتيل؟ الترتيل مصدر مادة رتل, والراء والتاء واللام في لغة العرب جذر لغوي يدل على التنسيق والترتيب, وعلى حسن الأداء وإذا حمل على الكلام؛ لأن الأصل حين أطلقته العرب قالت: ثغرٌ رَتَلَ أي ثغر مفلج الأسنان منتظمها بينه, يعني بين كل سن وسن فواصل دقيقة, لكن ملحوظة على نسق ونظام مرتبين, فهذا هو الأصل في الوضع اللغوي ومنه استعيرت بقية الصورة في الكلام, ما معنى الترتيل أو ما يعطيه معنى الترتيل حين يحمل على الكلام وينظر إليه من هذه الباب التمهل في أداء القول عدم الإسراع والهزّ في الكلام ثم أن يأخذ كل حرف من الكلمة حقه من مخرجه من الجهاز الصوتي الإنساني, فالترتيل يحمل معنى التنسيق, ولكن يحمل أيضًا معنى الوضوح والبيان فالمتكلم الذي يأخذ بعض الحروف فلا يكاد يبين لا يسمى مرتلاً, والقارئ الذي يهز آيات القرآن هزًا, ويسرع في تلاوتها إسراعًا لا يسمى مرتلاً.
أقف عند هذا المعنى لأسوق واقعة كبيرة من وقائع العصر النبوي الكريم تدلكم على مبلغ ما تأدب به النبي بتأديب الله إياه يوم قال له الله ورتل القرآن ترتيلاً من طبيعة الأمور أن نقرر أن النبي كان معروفًا وقبل النبوة أنه كان من الصحاء والبلغاء في العرب, فهذا شيء مشهود به للنبي , ولكن حينما كانت تتنزل عليه بعض الآي من كتاب الله كان لحرصه البالغ على أن يسجل في ذهنه ويطبع في ذاكرته كلام الله جل وعلا, كان يسابق جبريل في الكلام إرادة أن يعيّ, وإرادة أن يحفظ, ومخافة أن يتفلت من ذهنه ومن ذاكرته كلام ربنا جل وعلا, فالله جل وعلا علم هذا منه وقال له ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه , فالنبي أحيانًا يدفعه الحرص على جمع الآيات الموصى بها على التعجل في التلاوة, لكنه بعد هذا الذي وجهّ إليه ولفت نظره نحوه أصبح يرتل القرآن ترتيلاً بل أصبح كل كلامه ترتيلاً, بل أصبح إذا قال القولة يريد للناس أن يسمعوه وأن يدركوه يعيده عليهم ثلاثًا مبينًا مرتلاً قالت أم سلمة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتكلم بتمهل حتى إن العادّ لو شاء أن يعدّ كلماته صلوات الله عليه وآله لعدّها عدًا, علامّ يدل هذا؟ يدل على فرط الأناة والقدرة البالغة على ملك قدرات النفس جميعًا وأنه إذ يؤدي ما يؤدي سواء من كلام الله أو من توجيهاته الخاصة فبنفسية وبعقلية وبإمكانية الإنسان المتمكن القادر على أن يؤدي ما يريد بكل ثقة وأناة وتمهل, هذا الطبع من النبي عليه الصلاة والسلام أعطى قراءته لونها الخاص بها ونكهتها المقصورة عليها, وفي الأحاديث المستفيضة المشتهرة أن النبي كان ينهى عن قراءة القرآن بتعجل وحين يقرأ القرآن أمامه على هذا النمط يقول ((أهزًا كهز الشعر)) كناية على أن الذي يسرع في القراءة فقلّ ما يعي, وقلّ ما يستوعب ويدرك معاني ما يقرأ, وفي وصف قراءته عليه السلام أنه كان يقطع الآي وكنت تستطيع أن تعد كلمات الآية وهو يقرؤها صلوات الله عليه, ومن هنا سهل على الأصحاب أن يحفظوا من فم النبي آيات الله تبارك وتعالى, وسهل على كتبة الوحي رضي الله عنهم أن يقيدوا عن لسان النبي عليه الصلاة والسلام كلما تلى عليهم من كلام ربه تبارك وتعالى.
هذا الطبع أدى إلى ماذا؟ أو ماذا ينتج عنه؟ ينتج عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي على نحو لا نعرفه أو لا نطيقه كان يصلي الصلاة يطيل وقوفها ويطيل قرأتها, ويطيل ركوعها, ويطيل سجودها, ويكثر ويكثف خشوعها قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه دخلت المسجد فإذا النبي يصلي فقلت لأصلى مع رسول الله وكذلك كان يفعل الأصحاب رضوان الله عليهم رجاء البركة لصلاتهم خلف النبي , قال فافتتح في الركعة الأولى فقرأ الفاتحة ثم افتتح سورة البقرة وذهب يقرأ عليه الصلاة والسلام بهذه الأناة, وبهذه الترتيل والترتيب المنقطع النظير يقول ابن مسعود: قلت: يركع على رأس نصف السورة, قال: فوصل نصفها ثم مضى يقرأ, قلت: يركع على ختام السورة, قال: فاختتم سورة البقرة وافتتح آل عمران كل ذلك في الركعة الأولى بتمهل وبتمعن وتدبر وترتيل, قلت: لا بأس يركع على نصف سورة آل عمران, فوصل النصف ثم مضى قلت: إذاً يركع في ختام السورة, قال: واختتم سورة آل عمران وافتتح سورة النساء, ولقد والله ـ هذا كلام ابن مسعود ـ هممت بأمر سوء, قالوا: بم هممت يا عبد الله؟ قال: هممت أن أتركه وأمضي, ـ الرجل أصبح في حالة لم تعد ساقاه تحملانه معها ـ قال: ومضى يقرأ سورة النساء حتى بلغ آخرها فركع, ثلاث ساعات على الأقل لتقرأها فكيف حين تقرأ بهذه الأناة المعروفة والمشهورة عن قراءة النبي ؟ ليس هذا فحسب في وصف صلاة النبي قالوا حزرنا قراءته وركوعه وسجوده فإذا ركوعه وسجوده نحو من قراءته يعني إذا كانت القراءة تأخذ من وقته الشريف نصف ساعة, فالركوع والسجود يأخذان أيضًا نصف ساعة, فصلاة النبي عليه الصلاة والسلام في النفل بعد هذا التوجيه الذي وجهه الله إليه مصحوبًا باللوم كانت على هذا النحو كذلك طلب الله جل وعلا منه أن يفعل.
أيها الأخوة: لا تضيقوا ذرعًا دعونا ننتهي من رسم الصورة لنعرف كيف كان يفعل النبي صلى الله عليه وآله؟ وكيف كان يفعل أصحابه؟ ثم نتساءل بعد عن الحكمة في هذا؟ لماذا لماذا كل هذا الرهَقْ؟ قال الإمام أحمد رحمة الله عليه في مسنده: حدثنا يحيى قال: حدثنا سعيد هو بن عروضة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام أنه طلق امرأته وانحدر مرتحلاً إلى المدينة ليبع عقارًا له بها ثم يجعله في الكراع والسلاح يعني يضعه عدة الجيش ثم يجاهد الروم حتى يموت رجل من المسلمين أراد بتفكيره الخاص أن يتخلى من الدنيا ويتقطع عنها نهائيًا ذو زوجة وذو مال, أما الزوجة فطلقها وأما العقار وهو الأرض فانحدر ليبيعه في المدينة وليأخذ الثمن ويضعه في عدة الجيش ثم يذهب مقاتلاً الروم حتى يموت مجاهدًا في سبيل الله تعالى, لماذا؟ يبتغي الأجر من العلي القدير, قال: فلقيه أثناء ارتحاله رهط من قومه فسألوه فأخبرهم فقالوا له: إن رهطًا من قومك ستة أرادوا ذلك على عهد النبي فقال لهم: ((أما لكم فيّ أسوة حسنة)) ونهاهم عن ذلك قال: فأشهدهم ـ يعني أشهد القوم الذين لقوه على رجعة امرأته ثم رجع إلينا وقال: إنه لقي عبد الله بن عباس فسأله عن وتر رسول الله , الوتر هي الصلاة المفردة, التي تصلى بعد العشاء أو هي بمعنى ما قيام الليل, قال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله قال: قال: فأتي عائشة فسلها عن وتر رسول الله ثم ارجع إليّ فأخبرني بجوابها إياك, قال: فانطلقت فلقيت حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها ـ يعني طلبت منه أن يذهب معي فقال: ما أنا بقاربها, لا أذهب إليها, إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا فأبت فيهما إلا مضيًا.
كان ثمة نزاع بين قتلة عثمان وبين أولياء عثمان, وكانت ثمة نزاعات بين أهل الجمل وبين جماعة ابن الزبير بداية الحركات التي عرفت بالتاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى وكان لعائشة رضي الله عنها في ذلك كلام وكان لبعض المسلمين ممن أراد لزوج النبي الكرامة وعدم الدخول في هذه النزاعات كان لهم رأي وكلام مع أم المؤمنين أن لا تتدخل في ذلك شيئًا, وحكيم بن أفلح رجل نهى عائشة رضي الله عنها فلم تنته.
قال ـ أي سعد ـ: فأقسمت عليه فذهب معي فدخلنا عليها قالت: من هذا؟ فلان, وعرفته قال: نعم, قالت: من معك؟ قال سعد بن هشام, قالت: هشام من ؟ قال: هشام بن عامر, قالت: رحم الله عامرًا وأثنت عليه خيرًا, وقالت: نعم الرجل كان, قالت: قلت ـ يعني سعد بن هشام ـ: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله, قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى, قالت: فإن خلق رسول الله كان القرآن, أينما وجدت مدحًا لخليقة حسنة فثق أنها خلق محمد , حيثما عثرت على تنفير وذم لخصيلة سيئة رديئة فثق أن نقيضتها عند محمد , وأنه هو أبعد الناس عن هذه الخليقة المرذولة, قال: فهممتُ أن أقوم ثم بدا لي قيام النبي هذا قال, قلت: يا أم المؤمنين: أنبئيني عن قيام رسول الله قالت: يا بني أو ما تقرأ سورة المزمل يا أيها المزمل قال: قلت: بلى, قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله وأصحابه حولاً كاملاً, سنة حتى انتفخت أقدامهم وسيقانهم وأمسك الله خاتمتها في السماء ـ يعني خاتمة السورة, نهاية السورة ـ إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك إلى آخر الآية التي جاءت بالتخفيف, قالت: وأمسك الله خاتمتها في السماء اثنى عشر شهرًا ثم أنزل الله التخفيف فكان قيام الليل أو فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة.
قال: فأردت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله فقلت: يا أم المؤمنين أخبريني عن وتر رسول الله ؟ قالت: نعم, كنا نعد له سواكه وطهوره, الطهور بفتح الطاء هو الماء الذي يتطهر به ويتوضأ به المتوضأ أو يغتسل به الجنب.
قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله جل وعلا لما شاء أن يبعثه من الليل فيقوم فيتسوك ثم يتوضأ فيصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة, فإذا كان في الثامنة جلس, فدعا وتشهد ثم قام ولم يسلم فيصلي التاسعة ويجلس فيدعو الله وحده ويتشهد ثم يسلم تسليمًا يسمعنا ثم يصلي ركعتين بعد ذلك وهو جالس, فتلك يا بني احدى عشر ركعة.
قالت: فلما أسنّ رسول الله ـ ارتفع سنه وعلا ـ وأخذ اللحم يعني بَدُنَ صلى الله عليه وسلم وبانت عليه الجسامة صلى سبع ركعات ثم صلى ركعتين جالسًا فتلك تسع ركعات يا بني فكان رسول الله إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها فإذا شغله عن قيام الليل مرض أو وجع أو نوم صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ركعة حتى أصبح ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم صام شهرًا كاملاً غير مضان قال فرجعت إلى ابن عباس فأخبرته بما قالت لي فقال صدقت ولو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني به مشافهة هذا الحديث رواه الإمام أحمد كما رواه مسلم في الصحيح من حديث قتادة بنحو ألفاظه ومعناه.
أظن أن الصورة الآن أصبحت في أذهانكم واضحة كيف كان يفعل نبي الله بعد هذا النداء, كانت حياته خلال الحول الاثنى عشر شهرًا الذي داوم فيه على قيام الليل بهذا الشكل حياة نصب لكن نصب وتعب لله تبارك وتعالى, يقوم الليل حتى تقرحت أقدامه وانتفخت سيقانه وسيقان أصحابه وخرجوا إلى حد المرض ثم أنزل الله التخفيف بعد حول كامل لكن النبي مضى على النحو الذي اعتاده, إذا اعتاد شيئًا ثبت عليه, كان إذا عمل عملاً أثبته على نفسه وأمضاه عليها حتى كأنما هو فريضة, ومن هنا ذهب كثير من علماء المسلمين من السلف إلى أن قيام الليل بقي على النبي فريضة إلى آخر حياته, وإن كان أصبح تطوعًا بالنسبة إلى الأمة لكنه بالنسبة إليه عليه السلام ظل فريضة طول عمره, كذلك كانوا يفعلون ويقومون الليل لا على نحو قيامكم هذا وتراويحكم هذه التي تقرؤنها تعرفون كانوا يقومون من الليل بعد العشاء بعد صلاة العشاء فلا يفرغون من قيام الليل إلا قبيل الفجر والسحور, يكاد الفجر يدركهم وهم قائمون لله ركعًا سجدًا كذلك كان القيام.
هنا بعد اتضحت الصورة آن أن نسأل ما سر هذا العناء؟ لماذا كل هذا الرهق؟ لماذا كل هذا الرهق في متاعب قد يخيل إلى بعض الذين لا يعلمون أن لا جدوى ولا فائدة منها ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن قلناه قبل عدد من الأسابيع, قلت لكم بيننا نحن المسلمون في قانون الحركة وبين كل عباد الله الذين يتخذون لأنفسهم مبادئ ومناهج وخططًا وأهدافًا فارق جوهري, فارق إن غاب عنا نحن المسلمون فشلنا في كل خطوة نخطوها لأنا سنبدأ البناء من البداية الخطأ, والخطأ يقود إلى الخطأ ويكرر الخطأ, ونتيجة ذلك متاعب تدمر العامل تدميرًا لأنها تسحب من نفسه كل حوافز الفاعلية والحركة والدأب والمثابرة, ولهذا فلابد من تحرير نقطة البداية والانطلاق تحريرًا يعلو على اللبس والإبهام ويمتنع على الشك والريبة ويحل في نفس العامل محل البداهة التي لا تناقش.
تحرير البداية ضرورة, إن كان ضروة بالنسبة لأي عامل يريد أن يأتي عمله متقنًا وكاملاً فهو بالنسبة إلينا نحن المسلمين العاملين أشد ضرورة وأعظم وجوبًا, فارق جوهري كما قلنا بيننا وبين الآخرين غيرنا يأتيك فيحدثك عن مناهج العمل, يحدثك عن البؤرة الثورية ويحدثك عن الطليعة القائدة ويحدثك عن النضال ويحدثك عن الصراع ويحدثك عن العنف الثوري لكن فكر في كل ما يعرض عليك من مناهج وآراء ومذاهب ونظريات سواء في النظرية أو في التطبيق, سواء في الاستراتيجية أو في التكتيك فسوف تجد أن هذا المتحدث يسقط عمدًا العامل لأهم والعامل الأول في كل تحرك إنساني ألا وهو هذا الإنسان.
ضع بين يدي القذر أنظف المناهج فهو كفيل بأن يوسخها, ضع بين يدي الجائر أعدل النظم فهو كفيل بأن يخرجها من العدل إلى الجور, العامل الحاسم, العنصر الجوهري في كل تحرك بشري هو هذا الإنسان حينما نسقط الإنسان من حسابنا نسمح للفشل أن يدخل إلى التحرك من أوسع الأبواب خذ حركات اليوم خذ قطاعًا واحدًا, خذ مذهبًا واحدًا, خذ منهجًا واحدًا هو المنهج الماركسي, لا نطلب منه أن يلتفت إلى النفس ليهذبها ويرقيها فليس من باب المذمة والهجاء أن أقول بكل صدق وبكل نزاهة وأمانة علميين أن الماركسية بكل ما تفرغ عنها من مذاهب ونظريات ومناهج لا يمكن أن تزهو وتزدهر إلا في ضلال الفوضى الخلقية والانفلات الإنساني المطلب من كل قيد ومن كل حد, ليس هذا من باب المذمة لكنه من باب تقرير الواقع, هذا غير مهم, مهم عندنا أن نعلم أن الماركسية تعتمد في التحرك الإنسان تغيير الشرط الاقتصادي في الحياة الاجتماعية تعتمد على هذا الشرط لا غير, وترى أن كل تغيير في واقع الحياة الاجتماعية وفي واقع النفس البشرية خاضع وتابع للتغير في الشرط الاقتصادي على اعتبار أن المستويات العليا من الحياة الإنسانية, المستويات الفكرية والخلقية والتصورات الدينية والأدبية والفنية إنما هي انعكاس لهذا الشرط الاقتصادي لا غير, حالة محددة, منهج يضع نفسه بين حادين حاسمين يقتضي أن لا يختلف أربابه على شيء ما ولكن انظر الآن وعنك من كل التفاصيل, انظر إلى التطبيق ضع اللوحة أمامك تجد أن الماركسين في روسيا يختلفون عنهم في الصين, دع كل مظاهر الايديولوجية التي يتذرع بها كلا المعسكرين تجد أن ثمة خلافًا في وسيلة الأداء, الماركسية في روسيا تقول إن عماد الثورة عماد الحركة بعد اعتماد الشرط الاقتصادي أساسًا في كل تغيير هم العمال القادحون أي البروليتاريا الذين لا يجدون في الحياة الاجتماعية ما يبيعونه إلا قوة عملهم فقط والذين أوصلهم الضغط الرأسمالي إلى الحد الذي وضعهم على حافة الكفاف أي أن مدخور قوة العمل في العامل الفرد يساوي فقط ما يحفظ عليه القوة لمواصلة العمل في اليوم الثاني, وهكذا دون زيادة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1387)
وقفات في المرحلة المكية
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الشمائل, قضايا دعوية
محمود بن عمر مشوح
الميادين
24/7/1395
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فطرة النبي وطبيعته الصافية. 2- لا مخرج لأمراض البشرية إلا بالعودة إلى تلك
الطبيعة والفطرة. 3- تهذيب الفطرة ضرورة للداعية ليؤدي مهمته في الإقناع. 4- العنف
والثورة وسيلة المفلسين في الإقناع. 5- رحمة النبي ورفعته في قوه خلال دعوته لهم.
6- الأصل في البشرية التوحيد والخير ، والذي يصرف عن هذا الأصل الشيطان. 7- أسباب
فشل بعض الدعوات الإسلامية. 8- ضوابط للعمل المسلح عند الدعوات الإسلامية. 9- صور من رفق النبي ورحمته وتحمله لأعباء الدعوة ومشاقها. 10- التضحية سمة الدعوة الإسلامية في صدرها الأول.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الدعوة إلى الله ليست أمرًا هينًا كما قد يتبادر إلى البعض, إنها صراع مع الذات بالدرجة الأولى, وصراع مع ما هو خارج الذات, وإنها نمط في معاملة الأحياء لا يطيقه ولا يقدر عليه إلا الذين وطنوا أنفسهم على احتمال المكاره والمشقات, ومرنوا أنفسهم على العطف والإشفاق على صفاء الإنسان, وعلى سفه الإنسان, إن سياسة المجتمعات البشرية لا تكون بالعنف ولا بالقسوة؛ لأن المجتمعات الإنسانية حصيلة أفراد, وهؤلاء الأفراد جهاز إنساني عجيب لا يطيق أن يُسار نحو الغايات المرسومة فوق الإنعام, وإنما هو يأخذ سبيله إليها بعد الاقتناع بها, وبعد الإقرار بصحتها وبصوابها, وهذه القضية تفترق حقًا عن القاعدة التي أشرنا إليها في الجمعة الفائته, فبالحب, والحب وحده وبالتعالي عن الصغائر, وبالتغاضي عن السيئات, وبإسقاط خظوظ النفس, بهذا فقط يمكن أن تقاد المجتمعات.
فالعنف سلاح رهيب يحطم صاحبه, قبل أن يحطم الآخرين, العنف سياسة فاشلة؛ لأنها دليل على إفلاس الحجة وسقوط في العقل؛ لإن الإنسان لو ملك الحجة ما كان محتاجًا أبدًا إلى العنف, ولهذا فنحن في منطق الإسلام نرفض ما يسمى بالعنف الثوري, ونرى أن هذا الأسلوب يدمر الحياة الإنسانية ولا يبنيها, ونرى إن شاء الله تعالى أن الحب الغامر, والإشفاق العظيم والرغبة الأكيدة في إيصال الخير إلى الناس وإدخال القناعات إلى نفوسهم, هو وهو وحده الذي يكفل السير السليم والعاقبة السليمة بإذن الله.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم بسهولة وبوضوح ذلك السلوك العجيب الذي كان يسلكه رسول الله مع هؤلاء الذين يدعوهم إلى النجاة ويرفضون إلا تعلقًا بالوثنية وأوهامها وخرافاتها.
ومن هنا نستطيع أن نفهم سر التربية العالية التي اكتسبها الأصحاب رضوان الله عليهم من قائدهم ومعلهم رسول الله , فكانوا نماذج تحتذي هذا المعلم وتنهج على منواله.
يا أخوة: خلاصة ما انتهينا إليه في الجمعة الفائتة أن الله تعالى فطر نبيه على طبيعة خيرة مستقيمة, وأنه بأثر من هذه الطبيعة النادرة واجه قومه بأسلوب حطم مقاومتهم وأنه حين ظهر عليهم وألقوا أزمّة أمورهم بين يديه لم يعاملهم معاملة بشرية وإنما عاملهم معاملة ربانية, لم يثربهم ولم يَلُمْهم ولم يعنفهم, ولم يوقع بهم العقاب, ولو فعل لكان له في ذلك واسع العذر, ولكنه كان يتصرف بمقتضى قانون القدوة التي ضربها الله للناس إلى أن تقوم الساعة حتى يجد فيها العاملون متعلقًا سليمًا يثبون إليه عند اختلاط الأراء والنظريات. هذا الأسلوب كما قلنا نتيجة طبيعة, وأريد دون تعقيدات أن أشرح لكم جوانب بسيطة من نظرة الإسلام إلى هذه الواقعة.
الإسلام يرى أن الأصل في الإنسان أنه خير وأنه طيب ليس شريرًا بالطبع ولا فاسدًا بالطبع وإنما الشر والفساد جاءا من معاملته مع المحيط الفاسد, لكن إذا كنا نطلق هذه النظرية إطلاقًا فثمة مخاطر. إذا قلنا أننا نعطي للمحيط كل هذه القدرة على الإفساد والتشويه والتخريب فنحن نسقط مبرر الدعوات جميعًا؛ لأنه إذا كان المحيط يملك القدرة على كل هذا التخريب فمعنى ذلك أنه لا فائدة من العمل ما دمنا نعيش في محطيات فاسدة, لكن الأمر على خلاف ذلك, على خلاف ما يظهر للنظرة المستعجلة.
قلت: إن الأصل أن الإنسان خير, وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: ((إني خلقت عبادي كلهم حنفاء)) , أي على فطرة الإسلام مائلين عن الشر والفساد ثم اجتالتهم الشياطين, والشياطين اسم يمكن أن يجمع كل عوامل الشر والانحراف التي توجد في المجتمعات الإنسانية لأنها أحابيله ووسائله, مع ذلك فنحن نلخص أن طبائع الناس منها طبائع قوية ومنها طبائع ضعيفة, الطبائع القوية تستطيع أن تحافظ على نقائها, وعلى طهرها, وعلى استقامتها, وعلى شرفها في ظل أسوأ الظروف سئل النبي عن الناس فقال: ((الناس معادن, كمعادن الذهب والفضة, فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)) , الطبيعة الخيرة, الفطرة القوية لمجرد أن ترى شعاع الحق تحنوا إليه وتلتف من حوله, وتأخذ بأسبابه, الفطرة المنهارة الضعيفة الهابطة الملوثة لا تستطيع أن تنفك من أغلال هذه القيود التي يفرضها المجتمع في كل مجتمع إنساني يكون للمجتمع سلطان, ولكن على من؟ على أصحاب الفطرة التي لا تكاد تتماسك على الضعفاء على الذين يلوون إرادتهم ويعطلون عقولهم, لكن باستمرار هناك دائمًا فئة من الناس تتمتع بهذه القدرة الغريبة على خرق ستار هذا الوهم الكبير الذي يسمونه المجتمع, على عاتق هؤلاء الناس تقع مهمة التغيير, على أكتاف هؤلاء الناس تقع مسؤولية الإصلاح, عليهم أن يجدوا الركب لكي يفيئوا إلى الحقيقة, وذلك لن يكون باستعمال العنف, لن يكون إلا بضرب القدوة والمثل على الصبر والتحمل, ورفض استعمال العنف وإبداء المحبة والشفقة على خلق الله.
ما يأتي زمان كبير حتى تجد أرباب العنف, أصحاب الأنوف التي شمخت بالأمس استقاموا وألقت أسلحتها ووضعت ركابها بين دعاة الحق, الشيء الذي يربك بكل صراحة.
أيها الأخوة الشيء الذي يربك أن الذين دعوا إلى الله فلم تنجح دعواتهم, لم يسلكوا الطريق الصحيح مئة بالمئة, ما ينفكون حتى يستحسروا وحتى يملوا وحتى ينساقوا مع النازع الإنساني, وهنا بداية الفشل.
مادام الداعي إلى الله متمسكًا برغبته العارمة في إيصال الخير إلى الناس, محمولة على وعاء من الحب الصافي, دافعة أن تحتكم إلى نوازع النفس واندفاعاتها, فالعاقبة لها دون ريب, والمسألة ليست سوى مسألة زمن وبعد ذلك كل شيء سينتهي إلى قراره الصحيح.
وهكذا فعل محمد , عندما تبدو بين أصحابه رضوان الله عليهم ظواهر الألم والمرارة, تبدو عليهم ظواهر فقد الضبط إلى متى نحن نعذب في الله, إلى متى ونحن نتلقى اللطمات ولا نرد هذه اللطمات؟ إلى متى لا نستعمل قوة الساعد والعصي والسيف, وكان النبي يكفكف من غربتهم ويرد هذه النفوس التي تكاد أن تقع في مزالق خطرة, يردها إلى القاعدة الإيمانية الصحيحة جاءوه يومًا وهو مسند ظهره الشريف إلى جدار الكعبة فقالوا: يا رسول الله, ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعوا الله لنا, ونظر النبي الكريم إلى هذه الوجوه الطافحة بالألم التي تفيض مرارة لما لقيت من أعداء الله, نظر إليها نظرة العطوف المشفق الودود, وقال: ((إن من كان قبلكم كان يؤتى به فيربط إلى شجرة ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على مفرقه فيشق نصفين, وكان يمشط ما دون عظمه ولحمه بأمشاط من حديد ما يرده ذلك عن دين الله, والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراعي من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون)) كان يستعمل الحكمة الإلهية في وقف هذه النفوس عن الاندفاع مع النزوات, الأمر ليس أمرًا شخصيًا لكي أسمح للنازع الشخصي أن يتصرف, فالأمر أمر دعوة لم أضعها أنا, وإنما جاءت من قبل الحكيم الخبير, هو يضع قوانينها وقواعدها, وهو يبين شرائعها ليس لي أن أتصرف في هذه القواعد, والأمر ليس أمر مجتمع محصور وإنما هو أمر إنسانية طويلة عريضة, والأمر بعد وقبل ليس أمر لحظة زمنية محدودة وإنما هو أمر الإنسانية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وهو خير الوارثين, فالمسئولية حين تصور أمام الداعية على هذا النحو ليست مسؤولية هينة, لا يجوز له قط أن يسمح لنفسه بالاندفاع أكثر مما ينبغي, هنالك حدود حينما تبلغ دعوة الدعاة إلى الله بالجهد بالمصابرة بالتضحية عبر الآلام والدماء مرحلة النضج والاكتمال, فسوف يكون بمقدورهم أن يتحكموا بمصائر الأجيال أما قبل ذلك, لا.
ما يروج له في هذه الأيام في معسكرات الشيوعية والمتأثرين بها. من استعمال منهاج العنف الثوري وسيلة إلى التغيير خطأ لا ريب فيه, ودمار محقق لا يوصل إلا إلى البغضاء والشحناء, وتدمير الإنسانية رأسًا على عقب.
منهجنا غير ذلك لكن حينما نصل بالأمور إلى هذا الحد فيجب أن نفرق بين أمرين يجب أن نفرق بين وضعية الداعي ضمن مجتمع جاهلي, وبين وضعية المجتمع الكامل السائر على منهاج الله, الداعي في مجتمع جاهلي لا يسوغ له بتاتًا أن يتورط بالعنف, وإنما سبيله الحب والمودة وعدم هزِّ المجتمع أكثر مما ينبغي, والداعي ضمن مجتمع قائم على قاعدة الإيمان وضعه يختلف أنت في مركز المسئولية عليك وجائب غير الوجائب التي عليك وأنت لا مسؤولية أمامك, حينما تكون في مركز المسئولية يتوجب عليك أن تحمل من ورائك, كذلك فعل النبي , ما رفع يدًا ببطش على مخلوق طيلة الفترة المكية ثلاثة عشر عامًا, مرت بالحرمان, بالجوع, بالعطش, بالمعاركة, بالآلام التي لا حدود لها آلام فوق التصور, ومع ذلك لم يسمح لنفسه عليه السلام أن يرفع يدًا ببطش إلى مخلوق حتى إذا هاجر إلى المدينة, ووجد المجتمع المسلم كانت له أيضًا مهمة واضحة ومحددة هنالك الأمانة العظمى, التي يجب أن تبقى أبدًا أمام نظر الدعاة, أمام نظر المجتمع المسلم, نحن لا غرض لنا بموت الناس, وليس حبيبًا إلينا أن نريق دماء الناس, وليس هينًا علينا أن نمس بالسياط ظهور الناس, كل ذلك لا نريده لكن حينما يراد الكيان كله بالأذى, وحينما تتعرض الأمة كلها بالعدوان في دينها فلا سبيل إلا أن يرد العدوان بمثله حينما تكون هنالك مجتمعات مسلمة كاملة الإسلام, فإن لها مطلق الحق في أن تدفع الأذى عن نفسها.
إلا أن الأمر حينما يكون أمر أفراد ضمن مجتمع جاهلي, فالأمر مختلف دون أدنى ريب, هذه الطبائع القوية التي حدثتكم عنها في الجمعة الفائتة هي الكفيلة فقط بإيصال الإنسانية إلى بر السلام, هي الأمينة على سياسة الشعوب؛ لأنها هي الأيدي النظيفة فقط, هذه الطبائع القوية لم يكن فيها ما نشهده اليوم في الساحة الدولية من تخريب ودمار وإنما كانت تعامل الناس بالحسنى, وكانت تفهم ضعف البشرية, ومن ثم تعقب على هذا الضعف, ولا تريد أن تدمر الإنسان.
شخص الداعي محمد في حياته الخاصة, وفي حياته العامة كان مثالاً على هذا الذي نقول, أغضبته ذات يوم جارية في بيته عليه السلام فأعتقها, هل ضربها؟ هل انتهرها؟ هل شتمها؟ لا, وإنما قال لها وهو يستاك بالسواك: ((لولا أنني أخاف الله لأوجعتك بهذا السواك)).
شخصه الكريم جاءه من يطلب منه دينًا فاستمهله واعتذر بعدم وجود شيء فجذبه من ردائه, وكان يلبس رداءً من الصوف حتى احمر موضع الرقبة من الرداء, فقال له: أعطني حقي يا محمد, فإنكم قوم مطل يا آل عبد المطلب, وتكاثر الأصحاب يريدون أن يفتكوا بهذا المتطاول على مقام النبوة, ولكنه ردهم, وقال: ((دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً)).
في الحياة العامة ماذا كان يفعل؟ كان دائمًا يرد على آذان أصحابه: ((لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئًا فإن أحب أن ألقاهم وأنا سليم الصدر)) كان يكره التشفي, وتتبع عورات الناس ونقل الكلام الفاسد, ويريد للمجتمع أن يكون مبناه على الصدق, أي مجتمع إنساني خلا من الفساد! أي مجتمع إنساني خلا من التخريب في بعض الجوانب! أليس أمامنا إلا أن نرفع النقاب وأن نكثر الألسن, أليس من الممكن أن هذا الإنسان التبست عليه الأمور, وفهم الأمور على نحو غريب؟ أليس من حقه علينا أيها الأخوة أن نلفته إلى جادة الصواب؟ بلى ذلك شأن النبي ؟ ولهذا كان من توجيهاته إلى الحاسمة أن الحاكم إذا ارتضى الغيبة في الناس أفسدهم, إن الحاكم إذا تجسس على المواطنين أدخل الفساد إلى المجتمع؛ لأن القانون الذي سيتعامل به الناس بعد ذلك قانون الشك والارتياب, وسوء الظن لا غير, وهذا يجر إلى فساد عريض, من هنا قلت لكم: إن الطباع القوية هي فقط موطن الإنسانية, هي التي تستطيع أن تقود الإنسانية إلى بر السلامة؛ لأنها تملك أولاً الطبيعة الخيرة التي لا تعمل من أجلها, وإنما من أجل خير البشرية, وتملك أيضًا النظام المتكامل المتوازن توازنًا, رقيقًا يعني تملك المجتمع الذي يملك قوة ضاغطة نحو الخير لا نحو الشر والفساد, إن الإسلام حينما وضع موضع التطبيق كان دعامة لهذه الطباع أن تأخذ سبيلها نحو الخير والبر والمعروف, ولم تكن تلك الشرائع تسمح بأي حال من الأحوال, بأي نازع إنساني أن يتسرب إلى جسم المجتمع بالفساد وبالفوضى.
شيئان يجب أن لا يغيبا عن البال متكاملان متعاونان على أداء الرسالة, طباع مستقيمة وفطر سليمة وتشريع وقانون اجتماعي يهيئ الجو الملائم لتفتح عوامل الخير في النفس الإنسانية, هذا الشيء الذي عرفناه حتى الآن هل هو أمر هين؟ لا.
صور لنفسك أيها الأخ أبسط الأشياء, في عبادتك والعبادة جانب من جوانب هذه الدعوة, لو أنك حاولت أن تعبد الله حق العبادة, أية آلام؟ أية متاعب سوف تقاسي؟ أنت حينما تريد إرضاء الله مطالب بأن تؤدي الصلوات لأول أوقاتها, وأن تؤديها في المسجد في الجماعة, أية مشقة تلك التي تتعرض لها من أجل التردد خمس مرات في اليوم والليلة على المسجد؟, أنت مطالب مع الفريضة بسنن ومطالب بأذكار, أية مشقات هذه التي يتقاضاك إياها قيامك بهذا العمل؟ أنت في تعاملك مطالب بالصدق, مطالب بالاستقامة, كم من الجهود يجب أن تبذل من أجل أن تستقيم, من أجل أن تتغلب على نوازع الطمع والشر في نفسك أنت كداع إلى الله مطالب بأن تقول الحق لا تخاف في الله لومة لائم, كم يكلفك ذلك من مشقات ومجهودات, ضع أمام ناظريك قائمة بوجائب الإسلام في الحياة الخاصة فقط, وتصور كم فيها من مشقات, هذه الدعوة, هذا الإسلام ليس سلوى, ليس تسلية, وإنما هو عملية ممارسة تغيير في ذات الإنسان, وفي واقع المجتمع, تتطلب اليقظة الكاملة من الإنسان, والنظر المحيط الشامل الذي يظم تحته كل العوامل المؤثرة في سير الإنسانية, كم يكلفك هذا وأنت تدعو إلى الله تبارك وتعالى, هل تتصور أن مجرد تغيير الشرط الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى تغيير المجتمع.
ألا أيها الأخوة إن التجربة السوفيتية فقط أكلت عشرين مليونًا من الناس قضوا قطعًا للرقاب أو قتلاً في ثلوج سيبريا وما أشبه ذلك من وسائل الإفناء والتدمير, عشرون مليونًا, الحرب الكونية الثانية لم تأكل مثل هذا الرقم, إن تغيرًا واصلاحًا يكلف إجهاض مثل هذا العدد المخيف تغيير واصلاح لا خير فيه, إن تغيير الشرط الاقتصادي لا يفعل شيئًا مع إغفال بقية الشروط, نحن أمام إنسان وإن قال الشيوعيون: إن الإنسانية تزحف على معدنها يعني أنها تفكر بوحي الحاجة المادية, وتعمل بوحي الحاجة المادية, هذا كذب, وهذا تضخيم للأمور لا يجوز أن يستمر؛ لأن في استمراره دمار البشرية كلها, الإنسان له عقل, وله غرائز وله حاجات وله علائق لا يمكن أن تقع تحت حصر, والنظام الناجح هو النظام الذي يأخذ بالاعتبار كل هذه الأمور ويبني سياسته على أساس من هذه الحسابات, بظني أنه لا سبيل لمجهود بشري مهما كانت العقول القائمة على تنفيذه وتقريره كبيرة أن تحيط بكل هذه الأشياء, باعتقادي أنه لا ينجح إلا نظام الرفاهية, ومن هنا نضيف إلى مبررات أخذ الإنسان بالأسباب التي سبق أن قلناها في الماضي هذا المبرر الواضح, وهو الشعور بأن الإنسانية كلها محتاجة إلى هذا الإسلام, فإذا شعرنا بهذا الشعور واجهنا مسؤلياتنا.
ومن مواجهة المسؤوليات ننفذ إلى حكمتين نريد أن نقولهما عن سالفة الملاحظات التي ذكرناها من قبل حينما قال ورقة بن نوفل للنبي : "يا ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك, قال: ((أومخرجي هم)) قال: نعم؛ لم يأتي أحد قومه بمثل ما جئتهم به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا".
هذا الكلام يكشف عن هذه الحقيقة التي قلناها, لابد من ثمن يدفع من أجل نجاح الدعوة, لابد من متاعب, لابد من آلام, لا أريد أن أشرح هذا الأمر؛ لأن حديثي عن المرحلة المكية كلها سيكون إلقاء أضواء على هذه الحقيقة الكبيرة ولكني أكتفي بأن أقول: إن بداهة العرب حين ووجهوا بالدعوة فأخذوا بها هدتهم إلى هذه الحقيقة, هدتم إلى أن الأخذ بمنهاج الله يعني تضحيات, يعني إلامًا, يعني متاعب, قال ابن اسحق في السيرة وهو يتحدث عن بدايات الوحي, وما كان من موقف النبي صلوات الله عليه, تجاه هذا الوحي ثم تكامل الوحي إلى رسول الله , وهو مؤمن بالله مصدق بما جاء من عنده قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم قال: والنبوة ـ ونضيف نحن وكذلك الدعوة إلى الله ـ والنبوة أثقال لا يقدر عليها ولا يستطيع لها إلا أصحاب القوة والعزيمة من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه قال ابن اسحاق: ثم قضى رسول الله على أمر الله على ما يلقى من قومه من الأذى والسلاح.
هذه الحقيقة إذا مدركة في أقدم وثائق الدعوة عندنا على الإطلاق, حقيقة مدركة يحاول بعض الذين يدعون خدمة الإسلام أن يفروا من مواجتها؛ لأن في مواجهتها تكاليف ومتاعب لا يطيقونها أو لا يريدون أن يدربوا أنفسهم على إطاقتها وتحملها, العرب الأولون قلت لكم اهتدوا إلى هذا, اسمعوا, يقول ابن إسحق: "إن القوم ـ الأنصار ـ حين اجتمعوا لبيعة رسول الله قام العباس بن عبادة بن فضلة أخو بني سهل بن عوف فقال: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم, قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأبيض والأسود من الناس, فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن, فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال ومصيبة الأشراف فخذوه, فهو والله خير الدنيا والآخرة قالوا: بل نأخذه على مصيبة الأموال وعلى قتل الأشراف ثم التفتوا إلى النبي قائلين: فما لنا بدا لك يا رسول الله إن نحن وفينا البيعة؟ قال: الجنة, قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.
الأصحاب الذين جاءوا مبايعين دخل الإسلام إليهم حديثًا وجاءوا يبايعون رسول الله ويستخرجونه من بين أظهر المشركين, هل تصوروا أن هذا الإسلام تمر يأكلونه أو شربة ماء عذبة يجرعونها؟ أبدًا تصورا أنهم بمجرد التزامهم بالإسلام أهدفوا نحورهم للناس جميعًا وأعلنوا الحرب على كل الفاسدين والمفسدين في كل مكان على وجه الأرض, ومع ذلك أخذوه أخذوه من أجل ماذا؟ هل سألوه: هل ستحقق لنا الرخاء الاقتصادي؟ هل سألوه: ماذا لنا من الغنائم؟ أو ما شابه ذلك؟ لا, إنما سألوه ماذا لنا؟ قال: الجنة, لا ثواب على الأرض؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يعد بثواب على هذه الأرض, الثواب على الأرض عند الله متى أراده الله كان, وإن شاء أن يدفعه عن عبد من عباده لم يكن, وإنما يستطيع الداعي أن يعد بشيء واحد الجنة, رضوان الله, إشباع هذه النفس الخيّرة, ربطها بأسمى ما في النفس الإنسانية من نوازع, الخدمة العامة بلا من, وبلا استعلاء, وبلا طلب أجر, وبلا طلب المثوبة من الناس, طلب الجنة والأجر من الله تبارك وتعالى, وإذًا فبهذا تستطيع أن نعلم علمًا واضحًا أن الإسلام هو متاعب وآلام ومشقات وتعريض الرقبة للقطع والتعليق على المشانق وجلد بالسياط وركض وراء الإنسان, عبث به, تشويه لسمعته, كل هذه النوازع السافلة التي تحرك الإنسانية اليوم ستهيج مثل الزنابير على الذين يدعون إلى الله تبارك وتعالى, هذا خير, هذا هو ما نملكه, وبغير مدارة وبغير مجاملة, وبغير وعود مكذوبة ليس عندنا ما نقدمه للناس إلا الآلام, ليس عندنا ما نعد به النفس إلا الدم, ليس عندنا ما نعطيه للناس إلا التضحية بغير حدود, بهذا فقط يمكن للداعي إلى الله أن يتعرض للدعوة وأن يتفوق في هذه المهمة الكبيرة, لا يمكن إلا من طريق الآلام أن تنجح الدعوة, إن الله جل وعلا بين ذلك في محكم الكتاب بيانًا شافيًا, لم يترك لإنسان أن يتصور غير هذا, لا شيء إلا الألم, ولا شيء إلا المتاعب, لكن النتائج دائمًا وأبدًا مضمونة بإذن الله تبارك وتعالى أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.
أيها الأخوة هذه كما قلت من قبل مقدمات, مقدمات وضعتنا في الصورة الصحيحة لخصائص الداعين إلى الله جل وعلا على ضوء سلوك النبي , هذه مقدمات وضعت بين أيدينا أيضًا خصائص الدعوة بالذات.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1388)
ماذا فعلنا للأقصى
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نجدة المعتصم ونفيره نجدة لمسلم في المشرق. 2- ضياع قضية فلسطين بين المطاولات
وزحمة المدرجات الرياضية وأنواع أخرى من صور الضياع. 3- تذكير الدعاة والعلماء
بدورهم في المحنة. 4- التشنيع على دور وسائل الإعلام في صرف الاهتمام إلى قضايا تافهة.
5- معركة اليهود في فلسطين معركة عقائدية يحركهم فيها التوراة والتلمود. 6- النصر على
اليهود مرهون بعودتنا إلى ديننا وإيماننا وفريضة الجهاد الغائبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله جعل قوة هذه الأمة في إيمانها,وعزها في إسلامها, والتمكين لها في صدق عبادتها, أحمدُه سبحانه وأشكره, وأتوب إليه وأستغفره, وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله, دعا إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم, صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه, كانوا في هذه الأمة قدوتها ومصابيحها, والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون إن كنتم مؤمنين.
طغى الجنود وقادتهم وأحرقوا البلاد ودنسوا المساجد وتجبروا في بلاد المسلمين وثغورها وهاجموا إحدى بلدان المسلمين فانتهكوا الأعراض وسبوا الديار, ودنسوا المقدسات وشردوا الأهل, لكن امرأة واحدة ـ نعم امرأة واحدة ـ رأت بارقة أمل في أحد قادة المسلمين فصرخت: وامعتصماه, فلبى صرختها خليفة المسلمين حينذاك المعتصم لبيك أختاه, وحين حاول أصحابه المنجمون والمثقفون والسياسيون أن يثنوه عن عزمه ضرب بكلامهم عرض الحائط فذهب بنفسه إلى تلك البلاد وحرَّرها وأنقذ أهلها, ثم حارب الروم حتى وصل إلى عمورية فأحرقها ونصر المسلمين, فسطر التاريخ نُصرتَه تلك بمداد لا تنسى,وذهبت القوافي تتبارى في تذكر ذلك النصر وحاجة المسلمين إليه فكان قول أبي تمام ردًا مفحمًا للمخذلين:
السيفُ أصدقُ إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجدِّ واللعب
أين الرواية بل أين النجومُ وما صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب
وخوَّفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكبُ الغربي ذو الذيب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلةٌ ما دارَ في فلكٍ منها وفي قطب
فتجاوب الشعر مع ذاك الحدث حتى يومنا هذا, وتثور قرائح الشعراء بعد أن نرى خذلان أمة الإسلام عن نصرة بعضها البعض, وكثير من النساء تصرخ ولا مجيب, الأعراض انتهكت, والديار أحرقت, والمقدسات دنست.
أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمْسك المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عاتبًا ببقايا كبرياءِ الألمِ
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظلِّ الحرمِ
كيف أغضيت على الذلِّ ولم تنفضي عنك غبار التهم
أو ما كنت إذا البغيُ اعتدى موجة من لَهَبٍ أو من دميِ
اسمعي نوحَ الحزانا واطرَبي وانظريِ دمع اليتامى وابسمي
رُبَّ وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليتم
لا مست أسماعهم لكنها لم تُلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحملُ طهر الصنم
لا يلامُ الذئبُ في عدوانه إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم
أيها الأخوة المؤمنون: كثيرةٌ هي التساؤلات ونحنُ نرى النكبات التي تتقلب فيها الأمة العربية المسلمة خلال خمسين سنة سيَّما مع اليهود في فلسطين. فلسطين التي يَدْمَى جرُحهَا كلَّ يوم فماذا فعلنا لها؟ فماذا قدّمنا من تضحيات؟ وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! هل بحثنا في أسباب هذه الهزائم والخسائر الفادحة؟ هل أذكاها عَوجٌ خلقي؟ أو خللٌ سياسي أو غش ثقافي؟ أو انحرافٌ عقدي؟ إن من المحتم على كل أصحاب الألسن وحملة الأقلام ألا يقترفوا خيانات قاتلة بتجاهل هذه القضية, هذا التجاهل الذي يُؤخُر يومَ النصر.
وإن قضية فلسطين وغيرها من قضايا المسلمين الدامية يختلطُ فيها الشجو بالرضا, والتهنئة بالتعزية, رضا وتهنئة حينما يستحضر الإنسان مرأى أولئك الأبطال الذين وقفوا في وجه الصهيونية الحاقدة, فسارعوا إلى ملاقاة ربهم, ودماؤهم على ثيابهم وأبدانهم لم تُرفع لتَبْقى وسامًا فوق صدورهم.
وشجوٌ وتعزيةٌ حينما يقعُ ما يقع على مرْأى من أهل القبلة ومسمعٍ فلا يحيرون جوابًا ولا يحركون ساكنًا إلا من رحم الله, تقع أمامهم الحوادث وتدلهم الخطوب فلا يأنون لمتألم, ولا يتوجعون لمستصرخ, ولا يحنُون لبائس.
أين أقل النصرة الواجب لإخواننا المسلمين؟ ليست فقط في فلسطين التي تشتد جراحُها هذه الأيام, بل في سائر بقاع المسلمين, الشيشان وكشمير والفلبين.
ليس من معنى لأمةٍ ترى شعوبها تُنتهكُ حرماتها وتُدنَّسُ مقدساتها وتنهبُ باسم السلام والشرعية الدولية ثم ترى كثيرًا من أفرادِ هذه الأمة وهو عاكفٌ على اللهو والعبث, فهذه كرةٌ يتابعونها باسم كأس آسيا,وهذه حفلاتٌ غنائية يقيمونها,وسهوٌ وغفلةٌ وكأنَّ ما يحدث لا يمسُّ أرضهم ولا يقتلُ إخوانهم ولا يؤذي جيرانهم.
إلى الله المشتكى فكيف يستطيع أن يهنأ صاحبُ الترفه بطعامه وشرابهِ, بل كيف يُدلِّل صبيانه ويمازحُ أهله وهو يرى في فلسطين صبيةً مثل عيالهِ برءاءُ ما جنوا ذنبًا, أطهارٌ ما كسَبت أيديهم إثمًا, يبكون من الحيف ويتلمضون من الجوع, ويواجهون مدرعات وجنود صهيون بصدورهم وأحجارهم, يقتلون في حجر آبائهم, أفلا يكون للمسلم السهمُ الراجح في العطف عليهم كفكفة دموعهم ودمعهم بما يستطيع ليواجُهوا هؤلاء الأعداء بدلاً منه, كيف أصبح إخواننا في فلسطين تحت سيطرة يهودٍ الحاقدين وهم يلجئون إلى مكبرات أصوات المساجد يستغيثون بالمسلمين وقد سالت عليهم حِممُ القنابل وأريقت دماؤهم, وإلى المساجد وقد هُدمت, وإلى الحرمات وقد انتهكت, فماذا فعلنا للأقصى؟!
تُرى أين دورُ المثقفين والكُتاب في وصف القضية وتحليلها, والخروج بالدروس والعبر منها, والكتابة عن دور السلام المزعوم أمام قومٍ وصفهم الله بأنهم ينقضون كل عهد وميثاق, أم أنهم أكثرهم سخروا الأقلام لتقويض دعائم الحياة الفاضلة والأخلاق الفاضلة, وأورثوا فوضى فكرية لا معروف فيها ولا منكر, وإنما هي انتهازية وإقليمية وباتوا مرتزقة يستجدون الساسة والأثرياء بكتاباتهم.
أليس الدور المطلوب منهم الآن توضيح أبعاد القضية والمكر الخفي, وألاّ يكونَ كثيرٌ منهم أمعاتٍ يُردِّدون ما يُقال بلا توضيح للحقائق.
ترى هل يكون روبرت فيسك الكاتبُ البريطاني أكثرُ مصداقية من كثير من كتابنا حين يصف اليهود بالخونة وما يُسمى السلام زائفًا والإعتداء من جهة إسرائيل ؟!
أين دورُ العلماءِ والفقهاء وهم قادة الناس ومُوجهيهم, ويَنتظر منهم المسلمون النصرة لإخوانهم فإن العلماء الذين سطر التاريخُ أمجادهم كان الناسُ يلجأون إليهم بعد الله عندما تدلهم المصائب وتكثرُ الأزماتُ ليجدُوا عندهم الحلَّ والتوجيه وقيادة الركب, فلا معنى لعالمٍ أو طالب علم يكون في وادٍ أو برج عاجي وأمته وقضاياها في وادٍ آخر.
حينما دخل التتارُ إلى بغداد ودمشق وعاثوا فيهما فسادًا كان الفقهاء حينذاك كما يروي التاريخ يناقشون قضايا فقهية ليس ذاك وقتها, فهل عرفنا التاريخ بأسمائهم, لقد حفظ لنا التاريخ أسماء بارزة من أمثال ابن حنبلٍ ومالك وابن تيمية الذي جاهد التتار وتقدَّم الجيوش فأصبح رجل الناس المحبب إليهم, يصدرون عن رأيه ويرجعون إليه, ويفقدونه إذا غاب أو غُيِّب, إنه ليس من معنى أن ترى بعض المبتدعة أو الرافضة من العلماء وهم في مواقفهم أشدُ قوة وأكثرُ وضوحًا من علماء المنهج الصحيح الذين انشغلوا عن القضية بنقاشات وفلسفات بعيدة عن مُصاب الأمة.
ثم إننا نتساءل عن دور التجار وأصحاب الأموال في دعمهم لقضية فلسطين وكثيرٌ منهم قد تجمعت أموالهم وتراكمت من خلال الأسهم والبنوك, وإخوانهم في أشد حاجة إليها, فأصبح المال الإسلامي طاقة مهدرة تُحركها بنوكُ الغرب ومصارفه, وتجدُ أن أحدهم يضع العراقيل أمام تبرعه إن بذله.
العجب لحال أهل الإسلام حين يرضى بالقعود أولو الطول والمقدرة ممن يملكون وسائل الجهاد والبذل, ولا يذودون عن حرمةٍ, ولا ينتصرون لكرامةٍ, وإن من وراء حب الدعة وإيثار السلامة سقوط الهمة وذلة النفس وانحناء الهمة والتنكصُ عن المواجهة بالمال والنفس, فأين استخدام سلاح الاقتصاد والنفط في مقاطعة أعداء الإسلام وبضائعهم ومن عاونهم وترك الشراء منهم وإبرام الصفقات معهم.
ترى أن دور قنواتنا الإعلامية العربية التي ملأت فضاءنا؟ هل برامجها المعروضة تدلُّ على مصاب الأمة في أبنائها وفاجعتها في مقدساتها, وفي ذات الوقت التي تعبث فيه مروحيات اليهود وطائراتهم في سماء فلسطين وتقصف الآمنين فإن جل هذه القنوات باتت ترقص على جراحات الأمة عبر عروضها الغنائية الفاضحة, والمسابقات الفنية والكروية, ومسابقات الجمال,وترى اليهود يقصفون فلسطين ومقدساتها وتعرض هذه القنوات افتتاح دورة رياضية وغنائها
وتجد أن هذه القنوات في ذات الوقت تُلغي برامجها الترفيهية المحرمة للبكاء وقراءة القرآن أيامًا على بعض الزعماء أو لتغطية حدثٍ مهم, وكأن مقتل المسلمين في فلسطين لا يعنيهم في قليل أو كثير, على أننا نستثنى من تلك التفاهات بعضًا من القنوات التي غطت أخبار المسلمين وبينتها لهم مع ما يصاحب ذلك من ملاحظات كالموسيقى الصاخبة التي لا تناسبُ الحدث, أو إثارة للفتن بلا سبب, بل قد تعود بالضرر لا بالنفع.
أيُها المؤمنون:
وإن نقدنا لهذه التصرفات والأدوار الهزيلة لا يعني أن الأمة خلت, فالخير فيها ممتدٌ إلى قيام الساعة, وأكبر دليل على ذلك ما رأيناه وسمعنا عنه من تلك المظاهر الشعبية في بلدان العالم الإسلامي التي تحترف للقضية, ولمرأى شهداء الأقصى وتلك الجموع البشرية التي تريدُ صادقة التضحية بنفسها في سبيل ال,له وكذلك الدعمُ المالي الذي بدأه قادة هذه البلاد وأهلها وهو ما رأيناه مما يُفرحنا ويسرنا في حملة جمع التبرعات الأيام الماضية, كيف رأينا الشعب بفئاته ومسؤليه وهم يُبادرون إلى التبرع, كلُّ بما يملك صغارًا أو كبارًا, رجالاً أو نساءً, نسأل الله أن يتقبل منهم وأن يُوصل تبرعاتهم للمستحقين من المسلمين المجاهدين الصابرين في أسرع وقت. وإن هذا الشعور لهو شعورٌ أصيل يناسب القضية.
لكننا نستغربُ أخوتي ونحن نرى ذلك الجبن في النفوس والقلوب في المفاوضات على الطاولات لدى المخذلين والتابعين فيما يُسمى غرف العلميات لتطويق وحصار هذه الانتفاضة المباركة, إنها انفعالية في السوء والتصرفات المصلحية الشخصية وغرامٌ بالمتع الرخيصة في أدق الساعات وأحلك الأيام, وافتتان من العامة كذلك بالملاهي والكرة والمعازف, فجمع ذلك لهم حبُ الدنيا وكراهية الموت, فأصبحت كثير من قيادات الأمة ومناضليها المزعومين مظلمة الروح جوفاء القلب, ضعيفة اليقين, قليلة الدين, نافذة الصبر والجلد, فاقدة للخلق والإرادة, تبيع الحق والأمة بمنافع شخصية, جاه موهوم, وعزٌ مصطنع في أهواء مشتتة وأهداف متفرقة, ولئن كانوا زعزعوا في الأمة روح التدين وشريف الخلق فلقد سلكوا في قضية فلسطين وعبر السنين مسالك المنظمات والتجمعات والحزبيات والهيئات التي تتأرجح بين يمينٍ ويسار بشعارات زائفة من العلمانية والوطنية والقومية, اجتماعاتهم وتنظيماتهم وقراراتهم تعدُ ولا تنجز, وتقولُ ولا تفعل, وتشجبُ ولا تقاوم قلوبٌ شتى ووجوهٌ متباينة, فصمُوا العري بعد توثيقها, ونقضُوا الأيمان بعد توكيدها, وفرقوا الكلمة بعد توحيدها, وفي قضيتهم تركوا الدين الذي يحلها, وعلقوا آمالهم على تشكيل لجنة دولية للتحقيق في المتسبب في القضية وكأنّ حل فلسطين ومقدساتها موقوف على هذه اللجنة.
وفي ذات الوقت الذي يسعى فيه الأعداء إلى هذا القتل لأهلينا في فلسطين والهدم لمقدساتنا فإن يهود جادون في بناء أنفسهم, استمدادًا من تاريخهم واعتمادًا على تراثهم, يجمعون بني قومهم من شتات الأرض شُذَّاذ الآفاق باسم الدين وإسرائيل والتوراة والتلمود.
لقد أشربهم تلمودهم أحقادًا زرقاء ينفخ فيها أحبارُ السوء بوصايا الزيف من التوراة المحرفة ليتنادوا عليها وكأنها حقائق مسلماتٌ إنها طبائع الملعونين من أسلافهم, قسوة في القلب كالحجارة أو أشد, وشرةٌ في النفوس, وأكلُ سحت, وفسادُ معتقد وبغيٌ في الأرض, وتطاول على الخلق وربِّ الخلق, هذا سبيلهم في الزعزعة والهدم, أما سبيلهم في المفاوضات والمحادثات فسبيل المخادعة والتضليل والتلاعب بالأسماء والمصطلحات والالتفات على التوصيات والقرارات وإذا تأزمت الأمور وخيف من إفلات الزمام وأسر ثلاثة من جنودهم أو قليل غيرهم بينما هم يقتلون الأبرياء الذين هم لا يحملون السلاح, إذا حصل كل ذلك كونت لجان وتراسل المندوبون بأسماء وألوان ومبادرات ومهدئات, امتصاصًا للغضب وتهدئة للأوضاع وتحقيقًا لمكاسب يهود.
أيها المسلمون: هذه هي القضية, وذلكم هو وضعها, ولا بد من ردها إلى أصلها في صراع المسلمين مع اليهود حتى تصبح قضية قوية تتأبّى على الوأد والاحتواء, لابد أن تعود القضية إلى امتدادها الإسلامي بكل آفاقه وأعماقه, فهو أمرٌ فصلٌ ليس بالهزل, فهو صراع عقائدي ومعركة مع أشدِّ الناس عداوة للذين آمنوا.
على الأمة أن تدرك أن تفوق يهود سيظل خنجرًا هامزًا غامزًا في لحوم الشاردين وجنوبهم حتى يؤبوا إلى القرآن شرعة ومنهاجًا.
إذا عاد الشاردون إلى الحق عاد اليهودُ بإذن الله إلى حجمهم وذلتهم المضروبة عليهم, وينقطع بهم حبلُ الناس ويبطلُ السحر والساحر, ويأتي وعدُ الحق فلا ينفعُ اليهودي شيء ولا يستره اتقاءٌ خلف حصى, ولا يقيه حجر, ولا يحميه سلاحٌ ولا شجر, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهودَ فيقتلهم المسلمون, حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)) [متفق عليه].
هذا هو النداء يا مسلمُ! يا عبد الله, ولا نداء غيره, فهو محور القضية, وليستيقن الجاهلون أنهم لن يروا نصرًا ولن يحفظوا أرضًا ماداموا مُصرين على الألقاب الضالة, ومناهج الإلحاد الصارخة وسلام الشجعان الهزيل, إن هذا الركام كلَّه نبت الشيطان وغرسُ الكفار, وهذا هو الذي يحجبُ نصرَ الله ويمدُّ في حبالِ اليهود وحمايتهم, وكأنه الغرقد شجرُ اليهود.
إننا يجب أن نفهم طبيعة اليهود وأشياعهم, فهما قرآنيًا وأن نتعامل معهم تعاملاً ليس تقريرًا سياسيًا يتلونُ بالمنافع والمتغيرات, ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
إن الكفاح في الطريق المملوء بالعقابات الكئود لدى ذي الجدِّ والكرامة ألذُّ وأجملُ من القعود والتخلفُ من أجل راحة ذليلة لا يليقُ بهمم الرجال, وإن فرصتنا كبيرة بهذه الانتفاضة المباركة مع عظم مصابها فيمن قُتل أو جرح؛ لأن الأمة إنما تنجح بالجهاد الذي يوحد صفوفها على أعدائها وينصرها بإذن الله.
أما خيارُ السلام الهزيل والمفاوضات وطلب الهيئات واللجان الدولية الكاذبة فهو ترك للتناصر في الإسلام والأخذ بعزائم الأمور أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور.
اللهم ربنا عزَّ جارُك وتقدست أسماؤك, اللهم لا يردُّ أمرك, ولا يُهزم جندك, سبحانك وبحمدك, اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وكل مكان, اللهم آمن خوفهم, وفك أسرهم, ووحد صفوفهم, وحقق آمالنا وآمالهم وبارك في حجارتهم, واجعلها حجارة من سجيل على رؤوس اليهود الغاصبين, اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة, واجعل جهادهم عبادة اللهم احفظ دينهم وعقيدتهم ودماءهم, وانصرهم على عدوك وعدوهم, وطهر المقدسات من دنس اليهود المتآمرين والمنافقين والمتخاذلين, اللهم فرج هَمّ المهمومين, وفُكَّ أسر المأسورين والمعتقلين, وكن لليتامى والأرامل والمساكين, واشف مرضاهم ومرضى المسلمين, ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم, وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, اتقوا الله تعالى عباد الله وبعد:
إن الناظر فيما أصاب المسلمين من ابتلاءٍ هذه الأيام يرى اختلافًا في مواقف الناس من صابر ثابت, وجَزعٍ خائف, ظهر في بعض مسالك أقوام تعلق بغير الله واعتمادٌ على أسباب لا تغني عنهم من الله شيئًا, ومنهم آخذ بالأسباب على وجهها, معتمدٌ على ربه فيما وراء ذلك, ومن هنا فحقيقٌ بالأمة أن تعي حالها وتنظر في واقعها لمستقبلها, لقد حقق الأعداء من جراء ذلك التخاذل كثيرًا من مراداتهم, إن الناشئة في كثير من بلاد المسلمين يزودون عن كتاب الله ذودًا, دينهم تعكر منابعه, وتاريخهم تُشوَّه مصادره, لازال في وقت ومال وجهد كثير من شباب الأمة الفراغ لمتابعة الكرة الآسيوية أو العالمية, وإقامة حفلاتها الغنائية البائسة التي ترقص على جراح الأمة, يضحكون ولا يبكون, ينطلقون إلى المنتديات يلعبون ويتجمعون في أماكن اللهو يعبثون.
إن أولى الهزائم هزيمة الإيمان في القلوب والجدب في المُثل والأخلاق, أين هم من نموذج صاحب النجدة والقوة وباذل التضحية أنس بن النضر رضي الله عنه حين قال لرسول الله :
((أما والله لئن التقينا بالمشركين ليرين الله ما أصنع)), إنها يمين من ورائها إيمانٌ عميقٌ ليس قوله هذا مزايدة أو في مظاهرة أو خطاب سياسي, ولقد ثبت رضي الله عنه في أحد حتى قتل فما عرفه من جروحه أحدٌ إلا أخته من خلال أصبعه من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن هذه الأمة أمةٌ جهادٍ ومجاهدة, والجهادُ فيها أرفعُ العبادات أجرًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي : "ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه , قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا وهو يقول: لا تستطيعونه: وقال في الثالثة: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفترُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) متفق عليه. وإن من الجهاد الجهادُ بالمال بدعم هؤلاء الصابرين.
إن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العدد والعُدة الظاهرة بين المؤمنين وعددهم سيما اليهودُ الجبناء, فيكفي المؤمنين أن يُعدّوا ما استطاعوا من القوى وأن يتقوا الله ويثقوا بنصره ويثبتوا ويصبروا وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا , وإن الانتصار على النفس وشهواتها والخذلان وآفاته انتصارٌ على الشح والغيظ والذنب, والرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين فيه النصر على الهزائم والنكبات التي طالت في الأمة, وإن الأعداء ما كانوا أعداء إلا لمخالفتهم أمر الله فإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة فليس هناك مزية فالمؤمن حين يعادي ويعارُك ويجاهدُ فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهدُ في سبيل الله.
أيها الأخوة المؤمنون: إن المأساة أليمة والخطب جسيمٌ لكنما يحدث هو مسؤولية على كل من رآه أو علم به, وإننا والله مسؤولون عن مناظر القتل التي يمارسها يهود على إخواننا فلسطين, وكثير منا لا يحرك ساكنًا بل لديهم الوقت لمتابعة كرة آسيوية أو حفلات غنائية, والله إننا نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة لهم, إن أسلحة المال والدعاء لها أعظم الأثر بإذن الله في دعم إخواننا المسلمين ودحر اليهودِ الغاصبين, وإنه ليس من عذر لأحدٍ منا اليوم يرى مقدساته تنتهك, ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في حجر آبائهم ويهود متسلطون ثم لا يدعم إخوانه هناك ويتأثر لمصابهم, ألم تروا كم من امرأة مسلمة عفيفة محجبة, وجنود صهيون يخلعون حجابها وعلى مرأى من العالم ومسمع, ألم تروا جنائز الشهداء؟! ألم يؤثر بكم بكاء أم طفل خرج إلى الطريق ببراءته ففقدته بجوار الأقصى.
محمدًا أي ذنب جئت تحمله حتى قتلت على عين الملايين
محمدًا أي جرح صُغت في كبدي وما الذي بعد هذا الخطب يبكيني
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا.
وفي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرةٌ تواقة لجنان الحور والعين
يا غيْرتي أين أنت أين معذرتي ما بال صوت المآسي ليس يشجيني
أين اختفت عزة الإسلام من خلدي ما بالها لم تعد تغذو شراييني
أيها الأخوة المؤمنون لازلنا نستقبل تبرعاتكم لانتفاضة الأقصى المباركة عبر مكتب هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية, والتي وصلت بعض تبرعاتها بأسرع وقت ممكن.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ويجعل بذلكم وجهدكم في ميزان حسناتكم, اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.
(1/1389)
في واجبنا نحو فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
23/7/1421
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نقض العهود لاتفاقيات السلام ولهاثنا خلف هذه الاتفاقات الهزيلة. 2- وقوف الساسة في
بلاد والمسلمين ضد خيار الجهاد والحرب لطرد المغتصب وتثبيطهم وصفهم من ذلك.
3- ضرورة الوقوف في وجه الغرب واليهود سياسيا واقتصادياً. 4- ضرب المسلمين بأموال
المسلمين المكدسة في الغرب. 5- المقاطعة للسلع الأمريكية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: ماذا يجب علي أن أصنع؟ وكيف أتصرف حيال ما يجري للمسلمين في كلِّ مكان وخصوصًا في أولى القبلتين ومسرى رسول الله؟ سؤال يطرحه كل مسلم لازال الإيمان في قلبه ـ لاسيما بعد أن أصبح القادة يتفاضحون عبر قنوات الإثارة والتهييج, فقرأ الناس وعرفوا واطلعوا على ما يجري وراء الكواليس وداخل الأروقة, وعرفوا السر في كونهم منذ أكثر من خمسين عامًا يسمعون جعجعةً ولا يرون طحينًا.
وبسطت لهم الأمور التي توهموها معقدة, وطرحت تساؤلات والناس يسمعون, ليس أفراد الشعوب الذين كثيرًا ما قيل لهم أنتم لا تفقهون في السياسة, ولكن من دهاقنة السياسة وثعالبها, ممن رغبوا في ركوب موجة الهياج الشعبي الإسلامي لانتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك, من أقوام ما عهدناهم أهل غيرة ولا حماس لقضايا الإسلام, بل عهدنا منهم تبديلاً لأحكام الشرع عبر كتب ذات ألوان يضاهئون بها القرآن, ومن غيرهم من ساسة, الله أعلم بنواياهم.
لكنهم طرحوا تساؤلات كررها من روائهم بسطاء الناس وأقلهم فهمًا في السياسة, إننا نطالب بالجهاد ضد إسرائيل وبيننا وبينه مراحل هي بوُسْعِنا لم نعملها بعدُ, مع كونها عظيمة النكاية في إسرائيل ومن يدعمها, لماذا لا يلغى مشروع السلام مع إسرائيل فنبذ إليهم على سواء, والله سبحانه يقول: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء أي فانبذ إليهم عهدهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد على حد سواء, إننا الآن ليس فقط نخاف من إسرائيل الخيانة, بل قد لمسناها لقد انتهكوا ونقضوا العهود ولم يوفوا بالاتفاقيات بدليل أن كل طموح المعتدلين من الساسة هو الرجوع إلى اتفاقيات أوسلو, والسؤال الملح من كل مسلم لماذا هذا الحرص على الرجوع للاتفاقيات مع ثبوت نقضهم لكل ميثاق, ومع استعداد أمة الإسلام من شرقها إلى غربها للجهاد ضد إسرائيل, لماذا يتعامل قادة الدول العربية والإسلامية مع شعوبهم كما فعلت المرأة التي حبست هرة لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض, فلا هم يسلحون الشعوب, ولا يسمحون لهم بالجهاد بل يبقون متمسكين باتفاقيات قد نقضها اليهود من كل وجه.
لقد توعد الله المثبطين عن الجهاد بما قد علمتم من قوله: قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرًا وقوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتّلوا تقتيلاً , وقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعلمون بصيرًا ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن مُتم أو قتلتم لإلى الله تحشرون.
إذا كانت هذه القوارع في المثبطين عن الجهاد والمعوقين له, فكيف بالمانعين, القاعدين بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجًا, والله يريدها دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفًا حيث أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا ويقول: ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا واذكروا إذا كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
ولكننا يا عباد الله مع علمنا بعظم الجرم الذي يرتكبه من يعوِّق ويثبط عن الجهاد في سبيل الله فضلاً عمن يقف مانعًا منه صادًا عنه متوعدًا من قام به بل حارسًا لأعداء الله اليهود حاميًا لهم ثغرة بلاده أن يأتيهم منها المجاهدون مع علمنا بعظم جرم هؤلاء إلا أننا وشعوب الأمة المسلمة كلها تطالب ساستها بما هو دون ذلك بمراحل, وهو يسير على من يسره الله عليه وعسير كل العسر على من ربط مصيره بمصيرهم وجعل زمامه في أيديهم, وتولاهم من دون المؤمنين.
إن من المطالب التي صرح بها بعض الساسة المزايدين عبر قنوات الإثارة والتهييج أن تقاطع إسرائيل وتلغي جميع الاتفاقيات معها؛ لأنها نقضتها, وأن تقفل سفاراتها في الدول التي بها سفارات, وأن تقاطع معها أمريكا السند الوحيد والأكبر لها والتي ذللت لها أموال العالم الإسلامي وثرواته, ماذا يحصل لو قيل لأمريكا إنك داعمة لإسرائيل العدو الظالم الغاشم وعليه فلا علاقة بيننا, فلا قواعد عسكرية ولا تمثيل عسكري, ولا دبلوماسي, ولا تبادل تجاري ولا غير ذلك إنها ستعتبره الموت, مع أنه في العرف الدولي لا يمكن أن يتهم من فعل هذا بأنه أعلن الجهاد ولا أقام حروبًا دينية مخالفًا بذلك مواثيق الأمم المتحدة التي وقع عليها وهي تمنع قيام حروب على أسس دينية وبمعنى أصرح تمنع الجهاد في سبيل الله.
إن أمة الإسلام تملك من الثروات الزراعية والبترولية وخصب الأراضي والمواشي بل والمفكرين والمخترعين وأصحاب المواهب والابتكارات, ما هو كفيل باستقلالها بنفسها واستغنائها عن الأمريكان ومن نحا نحوهم وسار في فلكهم.
إنهم عبّاد المادة, إن أمة الإسلام لو تكاتفت وتناصرت واستغنت ببعضها عنهم لكانت أكبر قوة على وجه الأرض بلا مبالغة, إن كثيرًا من خبراء تلك الدول التي تسمى بالمتقدمة من أصول إسلامية, ولو حصل التمايز والانحياز فلاشك أنهم أو جلّهم سيقدمون خبراتهم في جميع مجالات التقنية لأمتهم, لا لعدوها.
وإن مما يجب على الأمة المسلمة ضرب اقتصاد عدوها بسحب أرصدتها منه, وهي الأرصدة التي أهينت الأمة المسلمة بسببها, فكم تدخل عدونا وفرض سياسته الماكرة على دول مسلمة فقيرة بفعل الضغط المالي الذي يمارسه عليها عبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الذي يهيمن عليه الأمريكان ومن سار في فلكهم, ويدعم أكثره ـ بكل أسف ـ من أموال الدول الإسلامية الغنية, فأموال المسلمين تعطى لعدوهم ليسيطر ويتدخل في سياسات دول مسلمة أخرى, ويفرض عليهم ما يريد, وقديمًا قيل: كاد الفقر أن يكون كفرًا, فمتى يكون صندوق النقد الإسلامي أو الدولي بأيدي المسلمين ولن يجد منهم حتى أعداؤهم إلا الرحمة لفقيرهم ومساعدة كسيرهم, وتاريخنا خير شاهد على حسن تعاملنا, عسى أن يكون قريبًا, نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم. والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: لقائل أن يقول: كل ما سبق مما يقوم به القادة فما دورنا نحن؟ إن ما يجب علينا نوجزه في أمور:
أولها: من كان منا من ذوي الرأي والمشورة فواجب عليه أن يبلغ للمسئولين ما ينفعهم في دينهم وآخرتهم ويكون ناصحًا لهم بما فيه خير أمتهم.
ثانيًا: الدعاء وقد صح عنه : ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم, بدعائهم)) ((الدعاء سلاح المؤمن)) أمن يجيب المضطر إذا دعاه والآيات والأحاديث في فضله وأهميته كثيرة فندعو لإخواننا المسلمين, وندعو على عدونا, وندعو لدين الله بالتمكين.
ثالثًا: المال, فندعم إخواننا وندعم القضية بالمال, والحروب تأتي على الأخضر واليابس وتستهلك أموالاً طائلة, ونقاطع البنوك التي تصب في نهاية المطاف لصالح اليهود من البنوك الأوربية والأمريكية وغيرها من بنوك الربا.
رابعًا: دراسة تاريخ القدس والمعرفة التفصيلية بالقضية, وربطها بجذورها الإسلامية وعدم جعلها قضية خاصة بالفلسطينيين وحدهم, ولا بالغرب وحدهم بل هي قضية المسلمين جميعًا كما سبق بيانه في خطبة سابقة.
خامسًا: دراسة أسباب البلاء ومعرفة مكمن الخطر ونقاط الضعف فينا ومن أين أُتينا, فتشخيص الداء أعظم معين على صرف الدواء, والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
سادسًا: تجديد الولاء والبراء في نفوس المسلمين وصرف الولاء في المسلمين والبراء من الكافرين واستبانة سبيل المجرمين وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين.
سابعًا: مقاطعة البضائع والسلع الواردة من تلك البلاد الداعمة لإسرائيل والمطاعم ونحوها, وقد نادى بذلك المحامون في مصر, وهو مما تستطيع فعله الشعوب المسلمة, ماذا يضيرك أيها المسلم لو قاطعت كل هذه المطاعم الأمريكية ودعوت إلى ذلك أهلك وأقاربك, إنك تؤجر على ذلك لو فعلته تدينًا وإمعانًا في البراء منهم.
ثامنًا: تحديث النفس بالغزو ((من لم يغزو أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) ((إن بالمدينة لأقوامًا ما سرتم مسيرًا أو قاطعتم واديًا إلا شاركوكم في الأجر, حبسهم العذر)).
(1/1390)
في مقدمات النصر القادم
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
30/7/1421
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذلة المسلمين اليوم وفقدتهم إرادة التغيير. 2- انتصار إخواننا العزل في أفغانستان.
3- هزيمة عام 67 لا تعني أن يستمر الإحباط إلى مالا نهاية. 4- تغير الظروف والمؤشرات
بعد تلك الحرب. 5- إسرائيل هزمت التيارات الوطنية والقومية ولم تواجه بعد الراية الإسلامية.
6- الأمل في نصر الله كبير ، والقنوط منه حرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: تنوعت أقاويل الحكماء وأهل الغيرة والدين في سبب ما وصلت إليه الأمة المسلمة من وهن وضعف واستخزاء لأعدائها, وما وصل إليه أعداؤها الأذلاء من اليهود من غرور وكبرياء ووقاحة أفصح عنها مجموعة منهم حين رفعوا لافتات كتب عليها (الإسلام = التطرف) كما نشرته جريدة الحياة اليوم.
ونشرت عن نتنياهو: أن روسيا وإسرائيل تقفان في خندق واحد ضد عدو مشترك, فما سبب هذا الوهن والمذلة التي منيت بها أمة المليار مسلم وأمة أكبر احتياطي للنفط في العالم, وأمة الأراضي الخصبة, وأمة المواد الخام في كل شئون الحياة, وقبل ذلك كله وأهمّ منه كله أمة القرآن, أصدق حديث, وأصدق قيل, وأحسن حديث, وأحسن قصص, وأحسن تفسير, وأمة خير نبي ((أنا سيد ولد آدم)), أوتي القرآن ومثله معه ((ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه)) وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى , أمة هي خير أمة أخرجت للناس, لقد ذهل كثيرون من هذا الوهن الذي منيت به أمة الإسلام, وكشفت عنه الأحداث الأخيرة في فلسطين وتداعياتها.
وتساءل كثيرون: هل أزمتنا أزمة إرادة؟ لأن المعطيات كلها متوافرة ولا ينقص إلا الإرادة, والله يقول: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة , وليس في الأفق أي بارقة أمل تدل على الإعداد, بل ولا على مقدماته, فدلّ ذلك على عدم الإرادة أصلاً! إذ لو وجدت الإرادة لتبعها الإعداد ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ثم فقدان الإرادة وضعفها هل هو في القادة فقط والشعوب منه بريئة؟ أم هو شامل حتى للشعوب؟ بدليل أن كثيرًا من الشعوب لم تحدث نفسها بالغزو أصلاً, بل يوجد من أفراد المسلمين كثيرٌ لم يخطر بباله أن يغزو يومًا من الأيام, بل ربما هيأ نفسه للفرار من أقطارها, فهم كما قص الله عن المنافقين: ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبسوا بها إلا يسيرًا.
إن الأفغان حين اجتاحهم السوفيات لم يكن بأيديهم سوى العصي وبنادق الصيد القديمة, وكان عدوهم يملك أقوى ترسانة نووية في زمانه, فلما ملكوا الإرادة والتصميم والثقة المطلقة بنصر الله ووعده, قاوموا الغاشم وأخذوا منه سلاحه وقاتلوه به حتى قويت شوكتهم ونصرهم الله على عدوهم, ولا يليق بمشغب أن يقول ساندتهم أمريكا, ولولا ذاك لما انتصروا؛ لأننا نقول: إنهم بدأوا المقاومة ولم يحسبوا حساب مساندة أمريكا لهم, ثم من يقول إنك لو قاومت لن تجد دعمًا من دول أخرى ولو بحرّ مالك, كيف وأمة الإسلام تستطيع الاستغناء بالله وحده بما معها من عدد وعُدَد, ثم لم يلبث هذا الدب الغاشم أن دحره الله وشتت شمله وفرق جمعه, وكسر شوكته, وقل مثل ذلك في البوسنة والشيشان في حربهم الأولى كيف دحر الله أعداءهم من الصرب والروس وخرجوا منهزمين.
لو وجدت الإرادة لفتحت الحدود المحيطة بإسرائيل للمجاهدين ضدها, لو وجدت الإرادة لقوطعت كل الأمور التي تكون سببًا لقوة إسرائيل مباشرة أو بواسطة, لو وجدت الإرادة لما سجن دعاة الإسلام وعلماؤه في سجون فلسطين على يد بني جلدتهم بضغوط من اليهود من أهل السلام.
إنه ليس هناك أي دليل على إرادة صادقة عند أمة الإسلام لمواجهة عدوها, فما هذا الوهن والإحباط, ألم يسمعوا قوله سبحانه: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون وقوله: قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون أغرهم هزائم منوا بها فيما سبق فقاسوا حالهم اليوم على حالهم أمس, إنه قياس مع الفارق.
إن الحروب السابقة جرت حين كانت التيارات الأرضية من بعثية وناصرية وقومية وشيوعية وغيرها هي التي توجه الشعوب, فصرفتها عن طبيعة المعركة إلى رايات جاهلية, أما اليوم فإن الأمر قد اختلف؛ حيث غربة الإسلام بدت تتقشع شيئًا فشيئًا بفضل الله أولاً ثم بفضل جهود العلماء المخلصين العاملين الربانيين في هذه البلاد وغيرها من بلاد الله, وإذا أردت أن ترى مصداق ذلك فانظر كم من الناس كان يعرف ابن عثيمين حفظه الله عام 93هـ, وهو زمن حرب رمضان, كم كان يعرفه في هذه البلاد؟ إنه لم يكن يعرف خارج بلدته, واليوم يصدر الناس عن فتواه في مشارق الأرض ومغاربها, وانظر كم دفعة تخرجت من الجامعة الإسلامية منذ تلك الحرب إلى اليوم؟ إنها ثلاثون دفعة وكل دفعة فيها ما لا يقل عن مائة طالب توزعوا في أقطار الأرض شرقها وغربها, وقد تحملوا من العلم النافع والعمل الصالح والسمت الحسن من العلماء الربانيين من أمثال الشيخ بن باز رحمه الله وغيره كثير رحم الله أمواتهم وختم لأحيائهم بخير, وكثير منهم عين داعية إلى الله على منهج السلف في بقاع شتى من الأرض, ومن كان له بصر بمثل هذه الأمور عرف الأثر العظيم الذي تركوه في مناطقهم, فكيف بخريجي الجامعات الإسلامية الأخرى, ومن طلب العلم في الحلقات وغيرها, كدار الحديث وجامعة الإمام ومعاهدها الإسلامية, لاشك أن لجهود العلماء الربانيين المخلصين في هذه البلاد وغيرها أثرًا تغيير المعادلة ومعطيات القضية ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين إنهم يكيدون كيدًا وأكيد كيدًا فمهل الكافرين أملهم رويدًا.
ولاشك أن لهم أثرًا عظيمًا في كشف الغربة الثانية التي ألمت بالإسلام وتجلية كثيرٍ من حقائق الدين والذب عنه, ودحض الشبهات المثارة حوله.
ثم أمر آخر كان له أثر في الفارق الكبير بين هذا الوقت وأوقات الهزائم السابقة, ذلكم هو ثورة الإعلام والاتصالات التي حدثت في العالم كله, فجعلته كالقرية الصغيرة, يلقى الخطاب في أقصى العالم فيسمع في نفس اللحظة في أقصاه من الجهة الأخرى, واعتبروا ذلك بحادثة الغلام القتيل الذي ارتج العالم لمصرعه وبكى عليه أقوام وتباكى آخرون, وما شهر بجريمة اليهود في قتله إلا الإعلام.
إن الهزائم السابقة كان الخونة فيها يملكون أن يمنعوا عن شعوبهم ما يريدون منعه من المعلومات والأخبار, أما اليوم فإن الشعوب تبصر ما لا يحب الظالمون أن تراه شعوبهم, وتسمع ما لا يشتهي الظالمون, وتقرأ وتطلع على ما لا يرغبون, فما يكتمه هذا يفضحه ذاك, وهكذا دواليك, أفلا تمثل هذه الثورة الإعلامية في عصر الاتصال والفضائيات عنصرًا يستحق أن يشكل فارقًا يمنع القياس على ما مضى.
لقد جرب الناس الرايات كلها في حروبهم إلا الراية الإسلامية, والله يقول: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ويقول: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ويقول: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ويقول: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئًا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
لو أصلحت الأمة ما بينها وبين ربها لجاءها النصر, أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير أي والله إنه ليعفو عن كثير, ولولا ذاك لأخذنا أخذ عزيز مقتدر, فلنتب إلى الله ولنحسن العمل, فقد كان أصحابه إذا تأخر النصر تفقدوا أنفسهم فظفروا بعز الدارين, ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقون لا يعلمون نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: إن رصيد الأمة واحد, رصيد الإعراض عن شرعه والمعاصي التي تقارفها يكون ضررًا عليها وسببًا لعقوبتها, والغُنْمُ بالغُرْم, فرصيد التضحيات أيضًا واحد, فكل ما يعانيه الصادقون الربانيون من حمله الإسلام من أذى وتطريد وقتل وتشريد هو أيضًا رصيد يصب في صالح الأمة كلها بإذن الله فتستحق به إذا صبرت نصر الله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا.
لكن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالصبر واليقين وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ولا تكون للظالمين أبدًا وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين , لا تكون لمن وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون , ولا لمن يسارعون فيهم ـ أي في اليهود ـ يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ((إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسرًا)) وقد قال : ((لن يغلب عسر يسرين)).
إن إسرائيل تقرع الآن طبول الحرب عبر تصريحات قادتها, وقد جرت عادتها أن إذا أرادت حربًا تغير بها خارطة المنطقة وتحتل بها مواقع جديدة أن تفتعل حدثًا كزيارة شارون مثلاً لتتذرع به لتنفيذ مخططاتها التوسعية, ونجحت في كل حروبها وأطماعها الماضية فهل تنجح الآن؟ وهل تخطئ حساباتها الآن أم تصيب, أملنا في الله كبير وهو القائل: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون , والقائل: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.
(1/1391)
النصف من شعبان
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الشرك ووسائله, فضائل الأزمنة والأمكنة
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
14/8/1421
الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس في ليلة النصف بين غلو وجفاء. 2- ما صح في فضل ليلة النصف. 3- التحذير من
الشرك بأنواعه. 4- فضل شهر شعبان ، والندب إلى صيامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فحديثنا اليوم معاشر المؤمنين عن ليلة انقسم الناس فيها إلى قسمين, فريق غلا, وآخر جفى ليلة النصف من شعبان.
معاشر المؤمنين غلا فيها فريق فجعلوها الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم, وهذا خلاف ما نص عليه ربنا عز وجل في محكم التنزيل إذ يقول جلا وعلا في مطلع سورة الدخان: حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم [الدخان:1-3] , فبين جلا وعلا أن الكتاب المبين أنزل في ليلة مباركة, وهذه الليلة المباركة هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم, وكلنا يعرف تلك الليلة المباركة من قوله جلا وعلا: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر.[الفدر:1-3]
إذا معاشر المؤمنين من اعتقد ذلك فقد خالف صريح القرآن وغلى أيما غلو.
ومن غلوهم أيضًا معاشر المؤمنين تخصيص نهارها بصيام وليلها بقيام وعبادة, وما ورد في ذلك كما يقول أهل العلم إما ضعيف, وإما موضوع مختلق لا يثبت عن النبي صلوات ربي وسلامه عليه.
ومن غلوهم أيضًا صلاتهم مائة ركعة في كل ركعة يقرأون قل هو الله أحد [الإخلاص:1] إحدى عشرة مرة, وزعموا أنها تقضي حوائج الناس, والحديث موضوع كما يقول أهل العلم.
إذا غلا فريق معاشر المؤمنين وجعلوها فيها من المزايا والقربات والطاعات ما لم يأذن به الله عز وجل.
وفريق آخر لما رأى ما لم يثبت فيها, وذلك الجفا جعلها ليلة عادية كغيرها من الليالي, وجعلها ليلة لا مزية فيها.
والصواب معاشر المؤمنين أن ليلة النصف من شعبان ثبت في فضلها حديثان صحيحان ثابتان إلى المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه.
أما الأول: فحديث أبي ثعلبة أخرجه الطبراني وغيره يقول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا كانت ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى جميع خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين, ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه)).
وأما الحديث الثاني: حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو عند ابن حبان في صحيحه يقول : ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)).
فهذان الحديثان الثابتان معاشر المؤمنين بين فيهما المصطفى أن ليلة النصف من شعبان يغفر الله عز وجل للمؤمنين, ويطلع عليهم إلا المشرك أو المشاحن, فمن أراد أن يفوز بهذا الأجر العظيم وهذا الفضل العظيم, فما عليه إلا أن يحقق هذين الشرطين, لست مطالبًا أيها العبد المؤمن لا بقيام ولا صيام فضلاً عن عمرة أوعبادة ونحو ذلك, كل ما أنت مطالب به أن تحقق التوحيد وأن تنقي قلبك من الشرك وشوائبه وتتعاهد ذلك باستمرار وبعض الناس معاشر المؤمنين إذا ذكر الشرك يشمئز ويعقتد أنه متهم, والبعض الآخر معاشر المؤمنين إذا ذكر الشرك عندهم ظن نفسه بمأمن منه, وعنه.
الواقع أيها الأخوة المؤمنون أن أنبياء الله ورسله يخافون على أنفسهم من الوقوع في الشرك أو ألوانه وأنواعه, فمن دعاء الخليل كما تعلمون واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [إبراهيم 35] , وكان من دعائه : ((اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم)).
والشرك معاشر المؤمنين ينبغي على العبد أن يخافه ويحذره, كيف وقد أوحى الله إلى كل نبي وإلى كل رسول حكمه في هذا الأمر المنكر العظيم ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [الزمر165] , فإذا كان الخطاب موجهًا لإمام الأنبياء والمرسلين ولسيد الموحدين صلوات ربي وسلامه عليه, فكيف لا يخاف الشرك من كان دونه من المؤمنين.
واعلموا رحمني الله وإياكم أن الشرك قسمان لا ثالث لهما, شرك في العبادة والقصد, وشرك في الطاعة والاتباع, اعلم هذا يا من تريد أن تفوز بثواب ليلة النصف من شعبان التي يطلع الله عز وجل فيها إلى جميع خلقه فيغفر لهم إلا لمشرك أو مشاحن.
ما أكثر ألوان الشرك معاشر المؤمنين في العبادة, الطواف حول القبور ينقل في بعض الأقطار الإسلامية على الهواء مباشرة, وكذلك الذبح للأولياء والسادة, والذبح للجن معظم متبع في كثير من الديار التي تدعي الإسلام, بل وتحتفل بليلة النصف من شعبان, والنبي أخبرنا أن الله يغفر لجميع خلقه دون سؤال منهم ودون طلب إلا لمشرك أو مشاحن.
ولو ذهبت أسترسل وأسترسل ألوان الشرك في العبادة لطال بنا المقام, وهي لا تخفى على أمثالكم, أما الشرك في الطاعة والاتباع فما أعظمه وما أشد خطره, وقد انتشر وخفي أمره على كثير من الناس إلا من رحم الله بعلم.
وفقه الشرك في الطاعة والاتباع معاشر المؤمنين أصله كما بينه نبينا لعدي بن حاتم الذي كان نصرانيًا فلما أسلم وسمع قول الله عز وجل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله أشكل ذلك على عدي وقال يا رسول الله ما عبدناهم! أي كنت نصرانيًا ولم نعبدهم أبدًا, وظن أن العبادة بمفهومها المعتاد عند الناس من صلاة وسجود ونحو ذلك, فبين كيف كانت عبادتهم لأحبارهم ورهبانهم, بين له بقول أنهم كانوا إذا أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال اتبعوهم, فتلك عبادتهم, وما أشبهنا اليوم بالنصارى معاشر المؤمنين في ديار الإسلام وأقطاره, يتبع الناس علماءهم في تحليل أعظم ما حرم الله عز وجل كالربا وأنواعه وألوانه فيقعون في الربا وصوره, وإن قلت له اتق الله عز وجل قال: أحلها العالم فلان بفتواه كذا وكذا.
واعلموا هذا معاشر المؤمنين, اتقوا الله عز وجل ولا تفوتوا على أنفسكم فرصة كهذا ((يطلع الله على جميع خلقه فيغفر لهم إلا لمشرك أو مشاحن)) فنقِ قلبك من الشرك وشوائبه.
وأما الشحناء وما أدراكم ما الشحناء؟ شرها عظيم, ووبالها يعم ولا يخص, ألم يخرج نبينا صلوات الله وسلامه عليه ذات يوم بخبر ليلة القدر, فتلاحى رجلان فرفع خبرها ونبأها, رفعت تلك البركة عن الأمة إلى قيام الساعة بسبب ملاحاة رجلين وخصومة اثنين من الصحابة, فما ظنكم بما يقع في أيامنا هذه من خصومات ومشاحنات, ومن كان له مشكلة بالقضاء والمحماة يقف على ما يشيب له الولدان, لا أقول مشاحنات بين المسلمين, بل والله بين الأشقاء, بل بين الابن وأبيه, والرجل وأمه, مشاحنات ومرافعات وقضايا.
أين هؤلاء جميعًا من هذا الحديث ومن حديث مسلم الثابت عنه ((تفتح أبواب الجنة يوم الخميس ويوم الإثنين فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلاً بينه وبين أخيه شحناء, يقال أنظروا هذين حتى يصطلحا, انظروا هذين حتى يصطلحا)).
معاشر المؤمنين: فضل الله عز وجل جد واسع, فضل الله عظيم, ومن فضله هذه الليلة المباركة لست مطالبًا فيها لا بصيام ولا قيام ولا مزيد عبادة, تفقد قلبك وراجع توحيدك, ونق قلبك نحو إخوانك لا تبيتين الليلة وبينك وبين مسلم خصومة أو شحناء عسى الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا جميعًا, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين وإمام الأنبياء والرسل أجمعين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أما بعد:
فقد انتصف شهر شعبان معاشر المؤمنين, وشهر شعبان كما أخبر الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه ((شهر يغفل فيه الناس عنه بين رجب ورمضان, ترفع فيه الأعمال إلى الله)) قال لأسامة بن زيد ((وأنا أحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) قالها حينما سأله حبِّه ابن حِبِّه رضي الله عنهما فقال يا رسول الله: "لم لا أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟" فبين صلوات ربي وسلامه عليه سبب إكثاره من الصيام في هذا الشهر المبارك.
أول سبب أنه شهر يغفل الناس عنه, أي عن الصيام.
والأوقات المباركة التي يغفل الناس فيها عن العبادة يزداد فيها تشمير المؤمن وحرصه على الطاعة حين غفلة الناس لماذا يغفل الناس عن شعبان؛ لأنه بين رجب وبين رمضان, أما رجب فهو أول الأشهر الحرم, وكانت العرب تعظم رجبًا, وسمي رجب من الترجيب وهو التعظيم, ورمضان شهر الخير والقرآن, فغفل الناس عن شعبان لوقوعه بين هذين الشهرين.
ثم إنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله, الرفع الحولي, فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله وهو صائم, وتقول أقرب الناس إليه وأحبها إلى قلبه أمُّنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في المتفق على صحته: ((ولم أره أكثر صيامًا منه في شعبان)) لم يكن يصوم صلى الله عليه وسلم من الأشهر ما يصوم من شعبان يستقبل به شهر الصيام والعبادة.
ولطيفة من لطائف أهل العلم معاشر المؤمنين يقولون: إن الصيام قبل رمضان صيام شعبان والإكثار منه والصيام بعد رمضان كصيام الست من شوال بمثابة القبلية والبعدية في الفروض, فكما أن القبلية والبعدية أفضل من مطلق النافلة, فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده أفضل من مطلق الصيام.
فاحرصوا رحمني الله وإياكم على الصيام في هذا الشهر المبارك, وحثوا أبناءكم وأهليكم ودربوهم وعودوهم على هذه الطاعة, فكثير من الناس الذين لا يعرفون الصيام إلا في رمضان في أول أيام الشهر يصابون بدوخة, وبعضهم بإغماء, ويثقل عليهم الصيام لأنهم ما تعودوا عليه ولا رغبوا فيه, فهذه فرصة مباركة معاشر المؤمنين يقول أنس: ((ما كان يحرص على صيام قط مثل حرصه على صيام شعبان)).
(1/1392)
آفات.. تقضي على المجتمعات
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الله عزام
بيشاور
سبع الليل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سورة الحجرات تحوي أساس البناء الاجتماعي الإسلامي. 2- التحذير من السخرية.
3- التحذير من لمز المسلمين. 4- التنابز بالألقاب. 5- التحذير من آفات اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
يا من رضيتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً ورسولاً، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون.
في سورة الحجرات، حيث تمثل أحد الأركان الأساسية في البناء الاجتماعي الإسلامي. إذ أن النظام الاجتماعي في الإسلام وترتيب الأسرة، وآداب الزيارة واللباس، وغير ذلك إنما يؤخذ من ثلاث سور: يؤخذ من سورة الحجرات، ومن سورة النور، ومن سورة الأحزاب.
وهذه السورة (الحجرات) على قصرها وعلى قلة آياتها إلا أنها ثقيلة جداً في ميزان الرحمن.. وثقيلة جداً في بناء الإنسان.. بناء هذا الكيان الذي تمثل مجموع لبناته المجتمع المسلم، ولن يكون مجتمع أبداً سواء كان جاهلياً أو إسلامياً ما لم يتمشّ المجتمع على خطوات هذا النظم الكريم، ويتبع هذه الآيات العظيمة الثقيلة في ميزان الله في الدنيا والآخرة.
إن المجتمع مكون من أشخاص، ولن يكون هنالك مجتمع أبداً ما لم تكن بينه روابط قوية، ووشائج وثيقة، وصلات عميقة، تحفظ هذا البنيان من الانهيار وتحميه من التحطم والاندثار.
آيتان فقط...
آيتان فقط في هذه السورة أشارت إلى معانٍ عميقة في الحياة الإنسانية.. كيف يكون الإنسان ضمن المجموعة المسلمة؟ كيف يعيش الفرد ضمن إطار المجتمع المسلم؟ الذي بناؤه المحبة.. صلاته المودة؟ وإلا، إن لم تتبع الحركة الإسلامية هذا النظام، وإن لم تلتزمه منهجاً – وخاصة هاتين الآيتين – فلم يكون بيت مسلم، ولن تكون حركة إسلامية، ولن تصل في يوم من الأيام إلى مراميها، ولن تجد مرادها في واقع الأرض أبداً.
آيتان فقط...
إن الصلات بين المسلم والمسلم قائمة – كما قلنا – على المحبة، فإذا أراد البيت المسلم بعداده الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وإذا أرادت الحركة الإسلامية التي لا تتجاوز بعدادها المئات أو الآلاف، وإذا أراد المجتمع المسلم الذي يكوّن نواة حية للعالم كله.. إذا أراد هؤلاء أن يقوموا على قواعد وثيقة، وأن يضربوا في الأرض جذوراً عميقة، لابد أن يلتزموا هاتين الآيتين.
آيتان فقط...
فإذا لم تنتبه الأسرة المسلمة إلى هاتين الآيتين، تنقلب الأسرة إلى شركة اقتصادية، وأحياناً بلا رواتب فيها، كل يؤدي دوره متثاقلاً، الملل يقتله، والسآمة تزهق روحه، ويتمنى الوقت الذي يتخلص من هذا العش الذي يجب أن يكون هادئاً.
وإذا لم تنتبه الحركة الإسلامية إلى هاتين الآيتين... فكذلك تتحول إلى شركة اقتصادية، لا رأس مال لها، ولا رواتب في داخلها، كل يأتي إلى دوره المكلف به متثائباً متثاقلاً، يشعر أن مسئوله فوق صدره كحجر الطاحون، وأن دعوته التي يعمل فيها كأنها فكي رحى تسحق كيانه، وتبيد حياته، وتهدد وجوده.
لا يمكن أبداً لحركة إسلامية، ولا لبيت مسلم يعيش في هذا الحال، أن يستمر دواماً... لابد أن يتفلت أفراده، وأن يتشتت أعضاؤه، وأن يتمزق لقاؤه، وأن يذرى هباءً أدراج الرياح.
والآيتان الكريمتان:
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:13].
ثلاث نواهٍ تضمنتها الآية الأولى.
الأولى: عدم السخرية.
والثانية: عدم اللمز.
والثالثة: عدم التنابز بالألقاب.
الأولى: عدم السخرية: والنهي في القواعد الأصولية يقتضي التحريم، ما لم تصرفه عن التحريم قرينة إلى الكراهية، ولم يقل أحد بأن السخرية بالمسلم مكروهة، بل كادت الأمة تجمع أن السخرية محرمة بالإجماع، وأنها من الكبائر، وأنها لا يكفرها الاستغفار البسيط، بل لابد لها من توبة بشروطها.
ويكفينا حديث مسلم الذي خرج من فم النبوة الشريف: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره (لا يتوانى عن نصرته ولا يحقره).. التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره صلى لله عليه وسلم (ثلاث مرات) – بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) – يكفيه شراً، ويكفيه إثماً... أي ليس بعد هذا الإثم إثم – ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) [1].
والعرض ليس فقط العورة المغلظة، بل العرض هو محل الذم أو المدح من الإنسان.. فإذا اغتبت إنساناً فقد نلت من عرضه، وإذا نممت على إنسان فقد جرحت عرضه، وإذا سخرت منه فقد انتقصت من عرضه ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)).
ولم يغفل رسول الله عن هذه القضية المهمة في بناء المجتمع المسلم، فلقد كانت ركناً ركيناً في خطبته التي ودع بها أصحابه والدنيا، يوم أن وقف يوم الحج الأكبر يسألهم: أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ أليس اليوم الحرام؟! فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ، ولم يكتف بذلك، بل قال أخيراً: ((ألآ هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد)) [2].
إن المحبة لن تقوم بين شخصين ما لم تحفظ ضروراته الخمس التي جاء كل دين ليحفظها.. جاء كل دين ليحافظ على ضرورات الإنسان الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. فإذا أردت أن تبقى الصلة قائمة بينك وبين أخيك، - إن لم تفده ولم تنصره ولم تقدم له ولم تحفظه – فلا أقل من أن تكف عنه أذاك، وأن تبعد عنه شرك. فإن انتقصت من عرضه، أو نلت من شرفه، أو أكلت ماله، أو سفكت دمه، فكيف لك بقلب هذا أن يميل إليك؟!.
هذه الضرورات الخمس، أقل الصلة الحفاظ عليها، وعدم المساس بحرمتها.
قاعدة أصيلة في بناء المجتمع المسلم.
قاعدة أساسية في بقاء البيت المسلم، والحركة المسلمة، والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية كلها.
ولماذا السخرية؟ لن تنتج السخرية من الصغار بالكبار، إن السخرية ناتجة عن شعور بالغرور والكبر إزاء الآخرين، الذين تنظر إليهم بعين الانتقاص والازدراء، إن الصغار لا يسخرون من الملوك، بل السخرية تأتي من الكبار إلى الصغار، ومن أنت؟ هل ترفعت على الناس وتكبرت عليهم بمالك أو بجاهك أو بعزك؟ من أين أخذت هذا؟ أليس الذي وهبك يستطيع أن يسلبك؟!! ألم تعلم أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، يخفض القسط ويرفعه، يرفع أناساً ويضع آخرين؟ ألم تعلم أنك وإن كنت ملكاً فإذا سخرت من الناس فإنك تعصي الله بهذا، وكما قال الحسن: (إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه).
ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاءْ [الحج:18].
على من تترفع؟ على هذا المسكين والضعيف؟!! ألم تعلم أن رسول الله قال: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)) وفي رواية: ((منهم البراء بن مالك)) [3] حيث كانوا إذا اشتد الوطيس، واحمر الحدق، ودارت الدائرة على المسلمين، يأتون إلى البراء يقولون: يا براء أنت الذي قال فيك : ((رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره)) فينظر إلى السماء يشير بإصبعه يقسم على الله ليهزمن القوم.. أقسمت عليك لتمنحنا أكتافهم إلا منحتنا أكتافهم، فلا يرد يديه إلى الأرض إلا وتبدأ هزيمة الأعداء، هؤلاء المدفوعون بالأبواب، هم الذين يحمون المجتمعات من الدمار، من الزلزلة الإلهية، من العذاب الرباني.. ((خير الناس الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة عمياء مظلمة)) [4].
ثم من أنت في ميزان الله عز وجل؟ أما بلغك حديث البخاري يوم أن مر رجل أمام النبي فقال لرجل عنده: ((ماذا تقول في هذا؟، فشهد الصحابي: هذا حري به إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع، فسكت رسول الله ، ثم مر رجل فقال : ما رأيك في هذا؟ قال: حري به إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع له، فقال : خير من ملء الأرض من ذاك)) والاثنان ممن صحب رسول الله. ((خذا خير من ملء الأرض من ذاك)). لأن ظاهرهما الإسلام.. الرجلان ظاهرهما الإسلام.. ولا يوجد شيء أفضل من ألف شيء من جنسه سوى الإنسان.
فكم رجل يعد بألف رجل وكم ألف تمر بلا عداد
ولن تجد فرساً أفضل من ألف فرس، ولا بعيراً أفضل من ألف بعير، ولا حماراً أفضل من ألف حمار.. ولكن الإنسان قد يعدل ملء الأرض من مثله من جنسه. ((هذا خير من ملء الأرض من ذاك)).
ثم يا أخي: لماذا تتكبر؟ ولماذا الغرور؟ ألم تعلم بأن المعصية بسبب الغرور يخشى أن لا تغفر، والمعصية بسبب الشهوات والذنوب قد تغفر.. ألم تعلم أن إبليس قد عصى الله بغرور فلم يغفر الله له، وآدم عليه السلام عصى الله بشهوة فغفر الله له.. إياكم والغرور، وفي الصحيح: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)) [5].
لماذا تترفع على الآخرين؟! ولماذا تعيبهم؟ ألا تنظر إلى نفسك؟! عدد عيوبك يا أخي قبل أن تعدد عيوب الآخرين، وانظر إلى نقائصك قبل أن تنتقص الآخرين.
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وحظك موفورٌ وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً يوماً فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
ألم تعلم أن النار خصت بالمتكبرين، والجنة خصت بالمستضعفين.. في صحيح البخاري ((تحاجت الجنة والنار – تجادلت الجنة والنار – قالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم، فقال الله تعالى للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.. وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل ملؤها)) [6].
لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم.
وغالباً يكونون خيراً منهم، المسخور منهم خير من الذين سخروا بهم.
الثانية: عدم اللمز.
ولا تلمزوا أنفسكم ، واللمز والهمز تعرض إليهما رب العزة كثيراً في كتابه، واللمز هو المعيبة باللسان، والهمز بغير اللسان.. بالإشارة أو اليد أو غير ذلك. أو اللمز في الوجه، والهمز في الغيبة.. اللمز الطعن في الوجه في حضور المطعون به، والهمز في غيبته وفي عدم حضرته.. والله عز وجل يقول: ويل لكل همزة لمزة والله عز وجل يقول: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتدٍ أثيم عتلّ بعد ذلك زنيم [القلم:10-13].
ولا تلمزوا أنفسكم. تعبير رباني لا يقدر عليه البشر، لأنك عندما تلمز أخاك وتعيبه إنما تعيب نفسك، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان و((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [7].
الأمة المسلمة جسد واحد لا تشتغل إلا كلا: فأحدٌ عينها، وآخر أذنها، وثالث قلبها، ورابع يدها، وخامس رجلها. وأي عضو أو شلو من الأشلاء يفقد، إنما تنتقص الأمة المسلمة في إنتاجها وعطائها وبذلها وتضحيتها.. فعندما تلمز أحداً من المسلمين إنما تلمز نفسك.
إن ذوي الألباب الضيقة لا ينظرون إلى الإسلام إلا من خلال مجتمعهم الصغير.. إلا من خلال مجموعتهم القليلة، وهذا لعمر الله ضرر بالإسلام وضرر بالإنسان.. ضرر بالإنسان الذي يظن أن إصبع رجله بعيد عن إصبع يده، لأنك أنت ومجموعتك أو أنت وتنظيمك، وأنت وحزبك، إنما تمثل من الإسلام والمسلمين.. ماذا؟! إنما تمثل جزءاً قليلاً من رأس أنملة، فإذا أخذت سكيناً حاداً، أو سيفاً ماضياً وقطعت إصبع رجلك لأن إصبع الرِجل بعيد عن إصبع اليد، إنما تقطع جزءاً من أجزائك، وتنفي شلوا من أشلائك، وتبعد كياناً وجارحة من جوارحك.. هذه تفيدك في السراء والضراء.. في أيام الشدة والرخاء، لا تستغني عنها، فإذا قطعت إصبع الرجل تبدأ الجراثيم والآلام تغزو جسمك من هذا الجزء الذي كان ثغراً محمياً بأخيك، فتبدأ الجراثيم تدخل دمك حتى تصل إلى مجموعتك فتنهكها وتهلكها وتشلها وتنهيها.
المسلم والأمة المسلمة كيان واحد.. جسدٌ واحد.
وكيف لك أن تطلق عينك بالسخرية والنظر باحتقار وازدراء للناس، وتطلق لسانك بالنميمة واللمز وغير ذلك، إنما أنت يا مسكين تقطع أعضاءك وتعمل في أمعائك، كجبار يمسك سكيناً بيده، قد بلغ به الغيظ أبلغ مداه، فيعمل في بقر بطنه، وعلى لوك أمعائه، ويلوكها بمرارة وحقد ليشبع حقده.. وماذا؟
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلنه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد [الحج:15-16].
في مسند أحمد: (( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته )).
ونتيجة تتبع عورات المسلمين باللمز والهمز ثلاث نتائج ظاهرة:
النتيجة الأولى: أنها علامة النفاق. ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم..)) فالطعن بالناس إنما هي علامة النفاق وليست علامة الإيمان ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالبذيء ولا بالفاحش ولا بالمتفحش)) [حديث صحيح [8]. ولذلك عندما دخل اليهود على رسول الله وردوا عليه السلام قالوا: السام – يعني الموت – عليك يا أبا القاسم، فسمعت عائشة رضي الله عنها لفظ اليهود فقالت: وعليكم السام والذام واللعنة، فقال: ((يا عائشة – صلى الله عليك يا رسول الله -: إن الله يكره الفحش والتفحش، ألم تسمعي ما قلت: لقد قلت لهم: وعليكم، قالوا: السام عليك، قلت: وعليكم)) [9]. فلم يقبل من عائشة رضي الله عنها أن ترد عليهم زيادة بل أن تخرج لفظا واحداً بذيئاً من فمها الطاهر، قال: إن الله يكره الفحش والتفحش عندما قالت – ماذا-؟ (وعليكم السام والذام واللعنة).
ثم العيب قسمان: إما أن يكون صحيحاً في أخيك إذ لمزته في وجهه، وإما ألا يكون فيه.. فإن لم يكن فيه فويل لك ثم ويل لك.
اسمع ماذا يقول في الحديث الذي رواه الطبراني وهو صحيح: ((من ذكر امرئٍ بشيء فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)) [10]. حتى يحقق ما قال فيه، ولن يتحقق أبداً، كيف وهو كذب؟! ((من ذكر امرئً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)).
ولذلك يا أخي الحبيب إياك ولسانك..
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه قد كان هاب لقاءه الشجعان
وكَلم اللسان أنكى من كلم السنان، لأن كلم السنان يبرأ لأنه في الجلد، وأما كلم اللسان فلا يبرأ لأنه يكسر القلوب، ومن الصعب أن تعود القلوب سليمة بعد كسرها.
اسمع رواية البخاري عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)) [11].
يُلقي الرجل الكلمة لا يُلقي لها بالاً وهو يحتسي القوة والشاي ويريد أن يملأ فراغه ويضحك خلاّنه أو يسر الذين يسامرونه وجلساءه، فيتكلم الكلمة سخرية من أخيه المسلم أو لمزاً أو همزاً، هذه الكلمة يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة، قال علقمة: (كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث أن أقوله).. (كم من كلام منعنيه أن أقوله حديث بلال بن الحارث).. كلمة.. والحديث في البخاري ورواه أحمد، يعني حديث صحيح لا مراء فيه ولا شك.
الثالثة: عدم التنابز بالألقاب.
ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب.. وقد نزلت هذه الآية في بني سلمة.. قدم المدينة المنورة، فوجد للصحابة الأنصار مجموعة من الأسماء، فكان إذا دعا صحابياً باسمه يقولون: له يا رسول الله إن هذا اللقب يكرهه هذا الأخ، فنزلت الآية لتمنعهم من الألقاب الكريهة.. وماذا يضرك لو تكلمت بكلمة طيبة؟ قد حرمك الله الخير كله.
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
قلبك – نعوذ بالله منه – ملئ بالحسد والحقد والبغضاء والضغينة على المسلمين، لسانك لا يتكلم بخير، وجهك لا يتفرد عن ابتسامة.. محروم من الخير كله، وهذا حرمان ليس بعده حرمان، ماذا عليك لو بسطت وجهك وفردت أساريرك في وجه أخيك؟ وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة.. ماذا عليك لو دعوت أخاك بأحب الأسماء إليه لتدخل السرور على هذا القلب الذي قد يكون منكسراً فتجبره هذه الكلمة، وقد يكون متألماً فتشفيه هذه اللفظة، ماذا عليك؟ ((أشحة عليكم)) بخيل حتى بالكلام! بخيل حتى بالسلام! بخيل حتى بطيب الكلام! ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))، ((وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)). ((ولا يزيد في العمر إلا البر)) ، إلا العمل الطيب، فاملأ قلبك محبة، إنما بهذا تمد على نفسك ينبوعاً صافياً من الحسنات لا يتكدر، فالحسنات تتصبب عليك وأنت في بيتك، لا تتحرك ولا تعمل بحبك للمؤمن، في الصحيح: ((وما أحب عبد أخاه إلا كان أحبهما إلى الله أكثرهما حباً لأخيه))، ((عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به))، ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك))، – الحديث صحيح في الترمذي – ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مسلماً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً)) [12].
ثلاث نواه كلها محرمة: السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ونتيجة أية واحدة من الثلاث جزاؤها شيئان عند الله: تأخذ من الله اسمين وتفقد اسماً عظيماً، كان اسمك عند الله مؤمنا، فأعطاك الله بدله اسم الفسق والفسوق، وإذا لم تتب بسرعة فيعطيك لقباً آخر: الفسق والظلم.
بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون.
هل اشتريت باسم المؤمن عند الله اسم الفاسق؟ّ! بعت اسم المؤمن واشتريت اسم الفاسق والظالم معا.. بماذا؟! بهمزات لسان، وومضات شفاه، أو تلمظ شفاه على أخيك، أو حركات قلب نحوه، تعس من تخلى عن اسم مؤمن، وأخذ من رب العزة – الذي لا معقب لكلماته، ولا راد لقوله، ولا معقب على حكمه – اسمين اثنين: اسم الفسق، واسم الظلم، بئس.. أي لعنة هذه البيعة التي بعت بها إيماناً واشتريت بها فسقاً وظلما!!.
وأما الآية الثانية فلم يعد عندنا وقت لها، ولعل الله عز وجل يمد في أعمارنا ويبارك بها – إن شاء الله – فنلتقي بكم في خطبة أخرى لنلتقي ونعيش في ظلال هذه الآية الكريمة من سورة الحجرات.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
[1] صحيح مسلم 16/120.
[2] أصل الحديث في الصحيحين وانظر ((صحيح الجامع الصغير)) 2068.
[3] ورد في ((صحيح الجمع الصغير)) بنحوه 4573.
[4] هذا القول ورد به أثر كما في ابن ماجة والبيهقي في الزهد والحاكم وقال: صحيح ولا علة له (انظر الترغيب والترهيب 3/444).
[5] جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه أنر صحيح الجامع الصغير 7674).
[6] رواه البخاري بنحوه (أنظر صحيح الجامع الصغير 2919).
[7] رواه البخاري في صحيحه (أنظر صحيح الجامع الصغير 5849).
[8] رواه بنحوه في صحيح الجامع الصغير 5381.
[9] أصل القصة في البخاري وانظر صحيح الجامع الصغير 187.
[10] رواه الطبراني بأسناد جيد كما في الغريب والترهيب 3/515.
[11] الحديث روي نحوه في الصحيحين وهذه رواية الترمذي وهي صحيحة (أنظر صحيح الجامع الصغير1619).
[12] الحديث صحيح مع زيادة ((ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) (صحيح الجامع100).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، رحم الله امرئً عرف حده فوقف عنده و((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)).
ويل لكل همزة لمزة.
وويلٌ: كلمة عذاب وتهديد، وقال بعض المفسرين: واد في جهنم.
نحن إخوة، وكل مسلم في أرجاء الأرض إنما هو أخوك تجمعك به هذه الوشيجة، وشيجة الإسلام، ولا تظننّ أن الصيام والصلاة والزكاة أعظم عند الله من صون حرمات المسلم ونصرته وعدم خذلانه، ولا تظننّ أن الزنا والربا أعظم حرمة من عرض المسلم في الصحيح ((الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها كأن يزني الرجل بأمه تحت ستار الكعبة)) – حديث صحيح – ((وإن أربا الربا استطالة المسلم في عرض أخيه المسلم)) [1]. أعظم من هذا!!.. أعظم من نكاح أمه تحت ظلال الكعبة، والله لقد كنت أظن أن الحديث ضعيف حتى رأيته في سلسلة الأحاديث الصحيحة أو في صحيح الجامع الصغير للألباني، وأربا الربا إستطالة المسلم في عرض أخيه.
قطعة صغيرة لا تتعدى بضعة سنتيمترات، تقبل أن تجرك إلى النار وأنت راض، قطعت صغيرة، قطعة لحم، مضغة قد جعلها الله بين سجنين عظميين، في داخل أربعة سجون، سجون عظميّة، فكين عظميين وشفتين، حتى تنتبه إلى الخلقة الربانية فلا تطلقها على عنانها، وجعل لك ربك أذنين اثنتين، أذنين اثنتين ولساناً واحداً حتى تسمع أكثر مما تقول: ((وبحسب امرئ من الكذب أن يحدث بكل ما سمع)) من حدث بكل ما سمع فهو كاذب.
يا أخي الحبيب!
ما الذي شتتنا؟ ما الذي مزق كياننا؟ ما الذي فرق جماعتنا؟ ما الذي دمّر مجتمعاتنا؟ ما الذي أضرنا وهز وجودنا إلا هذا اللسان؟ إلا هذه المضغة التي لا ترعى فيها بمسلم إلاً ولا ذمة؟.
فيا أخي إن حدثتك نفسك أن تعيب أخاك فانظر إلى عيوبك، وكما قال عيسى بن مريم عليه السلام عندما جئ بامرأة زانية، فأخذ القوم كلهم يتولون ويتحوقلون ويسترجعون ويستنكرون، فقال لهم سيدنا عيسى عليه السلام من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها.
والحمد لله أن رائحة الذنوب لا نشمها، فقد جاء في بعض الآثار قرأتها في فتاوى ابن تيمية (مجموع الفتاوى) على أن العبد إذا أذنب ذنباً تباعد عنه الملك ميلاً من رائحة الذنوب، الحمد لله أننا لا نشم ذوبنا وإلا فرائحتنا تزكم الأنوف، ومقدار ذنوبنا يطبق الأرض نتنا، وهل كلامُنا أقل من كلمة عائشة رضي الله عنها في حديث رواه أبو داود عن رسول الله عندما قالت للرسول عن صفية؟ قالت له: حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال : ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) [2]. أي لو اختلطت بماء البحر لأنتن البحر كله، والبحر لا ينتن لأن أملاحه كثيرة، ولكن هذه الكلمة – إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة – أنتنت ماء البحر لو مزجت به.
يا أخي إياك ولسانك، لا تنظر إلى عيوب أخيك، انظر إلى عيوبك قبله، أو كما قال في الصحيح: ((يرى أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه)) ، القذى الصغير في عين أخيه يراه ويكبره، ولا يرى الجذع الذي هو في داخل عينه، يعني أن ذنوبك ومعايبك ونقائصك أكبر وأعظم من أن تنظر إلى زلة من زلات أخيك، والمسلم لا يتتبع الزلات لأن المروءة تقتضي أن يعفى عن الزلات، وكما قال : ((أقيلوا – يعني اسمحوا واغفروا – أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر ويده بيد الرحمن)) [3].
ومن هنا قرر المالكية أن الدعاوى على المعروفين بالصلاح لا تقبل من المستهترين والفساق، وإذا جاء فاسق يرفع دعوى – إلى محكمة إسلامية – على رجل معروف بصلاحه وتقواه يسجن هذا المستهتر الفاسق حتى لا يتطاول الأشرار على الأبرار، وحتى لا تستطيل ألسنة الفساق في أعراض الخيار الذين عرفوا بصلاحهم وتقواهم.
احفظوا ألسنتكم وافتحوا صفحة جديدة مع ربكم، ولسوف نكمل الحديث إن شاء الله، فنلتقي بالغيبة وبآثارها وبالتجسس ومصائبه على المجتمع المسلم وبالظن السيء وآثاره التي نكبت الأسر والمجتمعات والحركات، حتى نصل إليها، عاهد ربك أن تفتح صفحة جديدة وأن تمسك هذا اللسان بلجام.
وكما كان بعض الصحابة أحياناً يضع حصاة صغيرة في فمه حتى لا يتكلم، وأحيانا يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني المهالك)، وإنك هالك – ولا محالة – إذا أتبعت نفسك هواها وأطلقت للسانك عنانه، وكما قال معاذ لرسول الله : أو نؤاخذ على كلامنا يا رسول الله؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)) [4].
وإذا كثرت الفتن فابك على خطيئتك وأمسك عليك لسانك.
[1] نص الحديث (الربا اثنان وسبعون باب أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) صحيح الجامع 3537.
[2] صحيح الجامع 5140.
[3] الحديث صحيح دون زيادة ((فوالذي نفسي.. )) أنظر صحيح الجامع1185.
[4] جزء من حديث معاذ الطويل رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(1/1393)
التضحية والفداء
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الله عزام
بيشاور
سبع الليل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التضحيات وقود الدعوات. 2- صور من تضحية النبي. 3- صور من تضحية الكفار
في سبيل مبادئهم. 4- صور من تضحية الحركات الإسلامية. 5- حديث عن جهاد الشعب
الأفغاني. 6- دعوة للتجمع تحت شعار خدمة الجهاد وترك الخلافات وما تجر إليه من غيبة
وفرقة. 7- دعوة للوحدة الإسلامية وذم التحزب والفرقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يا من رضيتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً ورسولا، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [البقرة:214].
ثمن الدعوات باهظ بقول الحق العظيم، وعلى لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ثمن حمل المبادئ ونقلها من عالم الأفكار والنظريات إلى عالم التطبيق والواقعيات يحتاج إلى كثير من التضحيات، حتى يكون واقعياً حيا في عالم الأرض.
ثمن الدعوات:
لن تنتصر دعوة أبداً إلا بالتضحيات، أرضية كانت أم سماوية، بشرية كانت أم ربانية، الدماء، الأشلاء، الأجساد، الأرواح، الشهداء، هي وقود المعركة، وقود معركة المبادئ، وقود معركة الأفكار. فهذه الآية تنبيه إلى قضية هامة في هذا الميدان؛ أنه لا جنة لمن لم يرد أن يضحي ويقدم أم حسبتم ؟! هل تظنون أنكم تدخلون الجنة قبل أن يمسّكم ما مسّ الذين من قبلكم، ثم يشير رب العزة إلى قضية هامة؛ أنكم لستم أعز من أحب خلقه إليه، لستم أحسن من صفوة عباده.
الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس [الحج:75].
وما دبّ على الثرى أحد أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كما قال الله عز وجل: مسّتهم البأساء الحرب والضراء الشدة والفقرة وغير ذلك وزلزلوا وانظر إلى النفس البشرية وإلى قلوبها عندما تزلزل، ترجف ارتجافاً شديداً كأنها أصابتها هزة أرضية لا تتمالك نفسها من السقوط وزلزلوا والزلزال جعل أصبر الخلق على الأرض، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ويجأر إلى الله عز وجل متى نصر الله ؟.
الصابر، المخبت، الخاشع، أمين الله على الأرض، الذي يتلقى الوحي من أمين السماء صباح مساء، ويثبّته القرآن آناء الليل وأطراف النهار، يزلزل - حتى يستبعد النصر - فيجأر إلى الله بدعواته، ويخلو إلى الله عز وجل بمناجاته يقول: متى نصر الله ؟.
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا [يوسف:110].
يصل الأمر إلى حافة اليأس برسل الله عز وجل، استيأسوا ولم يصلوا إلى اليأس لأنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [يوسف:87].
وظنوا أنهم قد كُذبوا. أغلقت الأرض دونهم، وأقفرت الدنيا في وجوههم، ولم تعد الأرض تجود بواحد يدخل في دعواتهم، استيئسوا. حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:110-111].
تضحيته صلى الله عليه وسلم:
ليس القرآن للتسلية، ولا للتمتع في أوقات الفراغ، وإنما هو منهاج للدعاة على طريق هذا الدين وإلى يوم القيامة في اقتفاء أثر سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق أجمعين ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ، ومع ذلك؛ هو كما يقول - في الحديث الصحيح - ((لقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال من الطعام)) [1]. هذا الحديث حسن صحيح رواه الترمذي وأحمد وغيره.
وعندما جاءت قريش تساوم أبا طالب أن يكف ابن أخيه عن إذايتهم، وأرسل عقيلاً وراءه يذكره أن قومه راجعوه حتى يكف عن أذيتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: ((والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بُعثت به من أن يشعل أحدهم من هذه الشمس شعلة من النار)).
وفي رواية أخرى - وإن كان فيها شيء من الضعف ((والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أدع هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه)) [2].
ليس تبليغ الدعوات بأمر سهل ورحلة ممتعة لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك [التوبة:42].
إنما هي طريق طويل شاق، كله أشواك، وكله تضحيات، وقد تخرج من هذه الدنيا ولا تنال ثمرة واحدة نتيجة عملك.
عبد الرحمن بن عوف يبكي:
وضع أمام عبد الرحمن بن عوف طعام طيب فبكى وقام، وقال: لقد خرج أصحابنا من الدنيا ولم يروا هذا، لقد كان مصعب بن عمير خير منا وما رأى مثل هذا.
ويقول أنس: (لقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أكل شاة مصلية أبداً) [3] - شاة مشوية (وما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين أبداً)، وتقول عائشة: (والله ما شبعنا التمر إلا بعد فتح خيبر) [4].
تظنون المبادئ لعبة أو لهوا أو متاعاً، يبلغها إنسان بخطبة منمقة مرصعة بالألفاظ الجميلة، أو يكتب كتاباً يطبع من المطابع ويودع في المكتبات، لم يكن هذا أبداً طريق أصحاب الدعوات!! إن الدعوات تحسب دائماً في حسابها أن الجيل الأول الذين يبلغون؛ هؤلاء يُكبّرون عليهم أربعاً في عداد الشهداء.
ومن كلمات سيد: "إن الجيل الأول كله إنما يذهب وقوداً للتبليغ، وزادا لإيصال الكلمات التي لا تحيا إلا بالقلوب وبالدماء.
إن كلماتنا ستبقى ميتة، عرائس من الشموع لا حراك فيها جامدة، حتى إذا متنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء".
كل كلمة عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء، والأحياء لا يتبنون الأموات، لا يقبلون إلا أحياء، والميت يدفن تحت الأرض وإن كان أعز أهل الأرض.
طريق الدعوات:
يا أيها الإخوة!!
طريق الدعوات محفوف بالمكاره، مليء بالمخاطر، سجون، وقتل، وتشريد، ونفي. فمن أراد أن حمل مبدأ أو يبلغ دعوة، فليضع في حسابه هذه، ومن أرادها نزهة ممتعة، وكلمة طيبة، ومهرجاناً حافلاً، وخطبة ناصعة في كلماتها، فليراجع سجل الرسل والدعاة من أتباعهم، منذ أن جاء هذا الدين، بل منذ أن بعث الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وإلى يومنا هذا.
كم ضحى الشيوعيون - أنفسهم - من أجل أن يقوموا بثورتهم الحمراء؟ كم سُجن ونفي (لينين)، (ترتسكي)..؟
كم نحن الآن نعجب من الديمقراطية الغربية؟ كيف أن القانون الغربي يخضع له كل الناس أجمعون!!، وتستطيع أن تحاكم رئيس الجمهورية أمام المحكمة، وتحقه وتأخذ منه، والقانون والقاضي لا يخضع لأحد. وحسبك مثالاً (نكسون) رئيس أكبر دولة في الأرض، عندما أراد الحزب الآخر أن يرفع عليه دعوى؛ - أنه كان يتجسس عليهم أثناء الانتخابات قبل سنوات - استقال (نكسون) واختفى وراء مسرح التاريخ خوفاً من أن يقع تحت طائلة القانون.
أتظنون أن هذا جاء عبثاً؟ أتظنون أن هذا جاء مصادفة؟ لم يصلوا إليه إلا على دماء وجماجم المفكرين، لقد قتل ثلاثمائة ألف على يد محاكم التفتيش، أحرق منهم ثلاثون ألفاً أحياء، وهم يريدون أن يخرجوا الإنسان الغربي من قبضة الكنيسة الجبارة، ويحرروه من قيدها القوي المتين.
لقد قتل (برونو)، وسجن (كوبرنيكس)، وعذب (جاليلو) من أجل أنهم كانوا يصرحون بمبادئهم، وعندما وقف (برونو) أمام المحكمة الكنسية حكمت عليه بالقتل لأنه يقول بكروية الأرض، فبعد أن حكمت عليه المحكمة قال: ( ALTHOW IT'S ROUND ) (ومع ذلك فهي كروية)، وقتل.
لقد قاوم المفكرون ثلاثة قرون متتالية - مفكرو الغرب - (منتسكيو) وغيرهم (جون لوك) (جان جاك روسو) (جون ليل) العقد الاجتماعي، هؤلاء قدموا الكثير ليخرجوا أممهم من عبودية رجال الدين المخرفين، الذين كانوا يسوقون الناس إلى نارهم، وإلى جحيمهم بسوط الكنيسة القوي.
ومن هنا، وبسبب ما لاقوه من عنت وعناء في معركتهم مع الكنيسة وهم يحاولون أن يحرروا الإنسان الغربي، بسبب هذا أنكروا إله الكنيسة، ليسقطوا الكنيسة وإمبراطور الكنيسة الذي يسمى (البابا)!!.
أكبر ثورتين:
لم يكن ما تنعم به الشعوب الغربية الآن من الديمقراطية، لم يكن مصادفة، ولا نتاج يوم، إنما كان نتاج دماء أناس ضحوا، وفي سبيل ماذا؟! في سبيل أفكارهم، لا يطمعون في جنة، ولا يخافون من نار، بل لشدة ما عانوه كانت شعاراتهم يوم أن انتصروا في أكبر ثورتين في الغرب - وقد اتفق الغرب على أن أكبر ثورتين كانتا الثورة الفرنسية سنة ألف وسبعمائة وتسع وثمانين، والثورة البلشفية التي كانت سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر - كان شعار الثورة الفرنسية (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس) يعني: أنهُوا الأديان والملوك في الأرض، لأنهم خدروا الإنسان، وحطموا إنسانيته، فابقروا بطن آخر قسيس واشنقوا بها آخر ملك، وكان شعر الثورة البلشفية الهاربة من جحيم الكنيسة، ومن سلطة القياصرة "لا إله والحياة مادة"، لم يكونوا ينكرون وجود الله، لم يكن (دارون) ولا (ماركس) - كما اطلعت - ينكرون وجود الله، ولكنهم أنكروه من أجل أن يسقطوا الكنيسة التي تضرب بسوطه، هروباً من الكنيسة، هربوا من رب الكنيسة، فنشأ الإلحاد في الغرب، وانتشر في العالم.
أريد أن أقول لكم: لا يمكن لمبدأ أن ينتصر بدون تضحيات، وبدون دماء. إن الشيوعيين في العالم العربي، كان يحكم عليهم القاضي في أيامنا في (1954م) عندنا في الأردن، يقول له: حكمت عليك المحكمة خمسة وعشرين عاماً، فيقول: تحيا روسيا، ويحيا لينين، في داخل المحكمة، وهل تظنون أنكم تبقون بدولتكم الضعيفة عشر سنوات أو خمسة عشر عاما؟ هؤلاء أصحاب مبادئ لا يرجون الله، ولا يرجون من الله، ولا يعرفون الله، دنياهم وأخراهم هي دنياهم، هذه الأيام التي يعيشونها، ومع ذلك يضحون من أجل مبادئهم.
نماذج على طريق الدعوة:
لقد قامت الدعوة الإسلامية نماذج فدذة، وضحت على الطريق الكثير والكثير عبر التاريخ، وكانت دماؤهم شعلة للأجيال من بعدهم.
هؤلاء أناروا لنا شعلة لنحملها على طريق المبادئ والدعوات، كانت دماؤهم منارات للأجيال التي تريد أن تهتدي.
لقد حدثتني (حميدة قطب) قالت لي: في الثامن والعشرين من آب سنة ألف وتسعمائة وست وستين: ناداني مدير السجن الحربي (حمزة البسيوني)، وأطلعني على قرار الإعدام (لسيد) و(هواش) و(عبد الفتاح إسماعيل)، ثم قال لي: معنا فرصة أخيرة لإنقاذ الأستاذ؛ هي أن يعتذر فيخرج بعفو صحي، ويخفف عنه الإعدام، ويخرج بعد ستة أشهر بعفو صحي، وقتله خسارة للعالم أجمع، هيّا اذهبي وراوديه لعله يعتذر.
قالت: فذهبت إليه - هي تحدثني فماً لأذن - قلت له: إنهم يقولون إذا اعتذرت سيخففون حكم الإعدام، فقال: "عن أي شيء أعتذر يا حميدة، عن العمل مع رب العالمين؟! والله لو عملت مع جهة أخرى غير الله لاعتذرت، لكنني لن أعتذر عن العمل مع الله. واطمئني يا حميدة إن كان العمر قد انتهى سينفذ حكم الإعدام، وإن لم يكن العمر قد انتهى لن ينفذ حكم الإعدام، ولن يغني الاعتذار شيئاً في تقديم الأجل أو تأخيره".
أي نفوس هذه التي صنعها الإيمان!! أية قوة هذه!! وأي ثبات!! وحبل المشنقة يلوح أمام ناظريه، يطمئن الأحياء على قدر الله وبقدره.
يقول (البشير الإبراهيمي): كنت ذات مرة عند الملك فاروق، فسمعتهم يتهامسون حول قتل البنا، فذهبت إليه وقلت له: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين [القصص:20].
فقال: هذا أنت - يعني أهذا تفكيرك - أهذا أنت - ثلاثاً- إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً [الطلاق:3].
أي يوميّ من الموت أفر يوم لا قدر، أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
نماذج أفغانية:
ونحن الآن مع شعب قد قدّم نماذج من البطولة، ما لم تحوه صفحات تاريخ القرون الخمسة الأخيرة. إن التضحيات التي قدمها الشعب الأفغاني مجتمعة لا يوازيها جهاد وقتال الشعوب الإسلامية كلها في القرون الأخيرة.
ما رأيت صبراً يصبر على صبرهم، ما رأيت شعباً أعز من نفوسهم، ما رأيت شعباً مسلماً أبياً مؤمناً مثل هؤلاء، لا يطأطئون رؤوسهم إلا لرب الأرض والسماء، لا يملكون قوت يومهم، ويخطب ابنتهم عربيّ غني فيأنفون أن يزوجوا بناتهم خوفاً من أن يعيّروا أنهم زوجوا بناتهم في أيام الفقر للأغنياء. بيوتهم هدمت، نساؤهم رُملت.
امرأة - عجوز من قندهار - يحدثونني عنها في الأسبوع الماضي؛ أنها جاءت إلى المجاهدين وقالت: إن ابني يتآمر عليكم مع الدولة، وقد ذهب إلى قندهار ليدل على معاقلكم وأماكنكم، فالحقوا به وأمسكوه، فأمسكوا به، وجاءوا به ثم أرسلوا إلى أمه العجوز التي جُبل قلبها حناناً على فلذات أكبادها، فقالوا: هذا ابنك ماذا نصنع به؟ قالت: قيدوا رجليه ويديه، إيتوني بسكين حاد، فآتوها، آتوها سكيناً!! ثم قالت له: أتذكر يوم أن شتمت رسول الله أمامي، فها أنا أنتقم لرسول الله منك أيها الكافر، ثم ذبحته بيدها، لم أسمع، لم أسمع في التاريخ أن امرأة ذبحت ابنها من أجل مبدئها، لقد سمعنا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قتلوا آباءهم، لكننا لم نسمع أن امرأة قتلت ابنها بيدها، بل ذبحته بالسكين، لم أسمع بهذا إلا في أفغانستان.
وفي (وردك) في (ميدان) وقبل شهر يهجم الروس - أو في أيام عيد الأضحى - يهجم الروس هجوماً عنيفاً - والروس في هذه الأيام يشددون ضرباتهم - ويريدون أن ينتقموا من الأحياء، يبيدوا خضراءهم، ولا يبقوا شيخاً فانياً ولا امرأة. وقبل أيام جاءت ثلاثون امرأة من قرية من القرى الأفغانية لم يُبقِ الروس غير هذه النساء الثلاثين، لقد أبادوا جميع أهل القرية.
وفي قرية - في لوجر - ذبحوا ثلاثة وأربعين من الشيوخ والعلماء والنساء والأطفال، ثم سكبوا عليهم البترول، وأحرقوهم في أيام عيد الأضحى أو قبلها بقليل، فاختبأ شاب - غلام - في الثانية عشرة تحت السرير، ودخل الروس، وبدأوا يفتشون البيت، فعثروا على مصحف، فرماه الروسي بشدة إهانة للمصحف الشريف، وإذا بالطفل ينتفض من تحت السرير، ويخرج أمام الروسي ويحتضن المصحف بين يديه، قال له: هذا كتاب ربنا، وهذا عزنا، وشعارنا، قال: ألقه، قال: لو قطعتني إرباً إرباً والله ما أفلته من يدي، وأمام هذا الاحترام لهذا الدين يحترم الروسي هذا الغلام، ويذبح كل من في البيت ويترك هذا الغلام حياً.
نحن لا ننشغل إلا بالسلبيات، ولا نعدد إلا السيئات، أما المكارم والعظائم، أما هذه الأمور التي فاقت المعجزات فهي في طي النسيان.
في حدثينا اليومي لا نتحدث إلا عن خلافات بيشاور، ولا نتحدث إلا عن خلاف فلان وفلان، وفلان أخذ كذا، وفلان كذب في كذا، ادخلوا الساحة وانظروا ماذا يصنع المجاهدون؟ ثم بعد ذلك احكموا هل تستطيعون أن تعيشوا عيشهم شهراً واحداً؟ هل تستطيعون أن تحتملوا احتمالهم بضعة أو عشرة أيام؟ إنكم لا تستطيعون، كم من أسرة لم يبق فيها إلا طفل صغير، قتلت الأم، وقتل الأب، وذبحت الفتاة، وغاب كثير منهم تحت الردم والتراب من قصف الطائرات، هذه الأمور التي لا تُنقل للعالم الإسلامي، وإنما يُنقل خلاف اثنين أو ثلاثة يعيشون في بيشاور، وتترك هذه الصفحات المشرقات التي تصنع التاريخ من جديد، وتحول خط التاريخ البشري بالدماء وبالأرواح وبالأشلاء.
نقطة الالتقاء:
أنا أنصحكم، أنصحكم إن أردتم أن تساهموا بسهم بسيط في هذا الجهاد؛ الذي هو فرضٌ علينا أن نكون في داخله، فرض عين على كل مسلم في الأرض الآن أن يقف بجانب الأفغانيين، وفرض عين على كل مسلم في الأرض الآن أن يحمل السلاح ويقف أمام الجبابرة في الأرض، إن لم تحمله هنا فاحمله هناك، وإن لم تقاتل هنا فقاتل هناك، ولا عذر لأحد، كما قال أبو طلحة : (ما سمع الله عذراً لأحد).
أنصحكم إن أردتم أن تخدموا الجهاد:
أولاً: أن لا تنقلوا تمزقاتكم وخلافاتكم في العالم العربي إلى الساحة الأفغانية، كفاهم ما هم فيه من مصائب ومشاكل وخلافات، والأرض غير الأرض، والبيئة غير البيئة، وأظن أنكم بقلوبكم جميعاً تحبون أن تخدموا الجهاد الأفغاني، فلنرفع هذا الشعار، ولنلتقِ عليه جميعاً، شعارنا: "خدمة الجهاد". أما خلافياتنا البسيطة، خلاف في الفرعيات الفقهية، أو في طريقة العمل من هنا أو من هناك، هذه الأمور يجب أن تتناسوها في هذه الساحة التي تعملون فيها، نحرك إصبعنا أو لا نحرك، نرفع أيدينا أو لا نرفع، نجهر بالتأمين أو لا نجهر، فلان من القيادة الإسلاميين طيب أو غير طيب، فلان من العالم العربي إمام أو فرد، دعوا هذا جانباً، دعوا هذا جانباً، وكفى الساحة ما فيها من آلام ومشكلات. ونلتقِ جميعاً، لنتعاون على ما اتفقنا عليه، وكلنا يتفق أنه جاء لخدمة الجهاد، لنتعاون على خدمة الجهاد، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، لا توسوسوا، ولا توصوصوا، ولا تومئوا، ولا تشيروا ولا تتهامسوا، ولا تتناجوا: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا [المجادلة:10].
كل من وصل إلى هذه الساحة - إن لم يكن الكل فأكثر من تسعة أعشارهم - جاءوا بدافع طيب، وجاءوا يريدون الجهاد، وبعضهم ما جاء لأنه انقطعت به السبل، كانت الدنيا مفتوحة أمامه، وهو في بلده أو في بلاد المهجر مكرم معزز محترم، يعيش في وظيفته أو دراسته، ترك هذا كله وجاء يخدم الجهاد، هذا أضعه على رأسي وعيني وأتغاضى عن الهفوات.
وما جمع رسول الله هذه الجموع التي ضحت من أجل هذا الدين إلا بميزان الحسنات والسيئات، ((وما يدريك يا عمر إنه شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم)) [5] ، عمر بعد اكتشاف رسالة حاطب بن أبي بلتعة يهيج من مكانه صائحاً: دعني أضرب عنقه، فقد نافق، قال: ((وما يدريك إنه شهد بدراً)) ، لقد انتقى خير عمل لهذا الصحابي حتى يطفئ أوار الغضب في قلب عمر، وفي قلوب الصحابة، وفي رواية أبي داود: ((لا تذكروا لي أصحابي فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)) [6].
لقد تفرق الصحابة وكلٌ معه من السنة ما يختلف به عن الآخر، وكل يحمل رواية من روايات القرآن، وحرفاً من أحرفه، ومع ذلك كان الجميع يشتركون في اليرموك، وفي فتح هذه البلاد التي نحن على ساحتها، كلهم:- أصحاب حذيفة، وأهل الشام والأوزاعي، وأهل الكوفة والبصرة، كلهم بقراءاتهم المختلفة، وبأئمتهم المختلفين، وبما معهم من السنة. جيش واحد، وقيادة واحدة، التقوا على أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا. لنرفع شعار "أننا جئنا لنخدم الجهاد"، كل منا بعد جلوسه في بيشاور أسبوعاً أو أسبوعين يصبح منظراً سياسياً، وعالماً اجتماعياً يحكم على هذا، ويخرج فتوى بهذا، وينبذ هذا، ويحذر من هذا، ولم يطلق حتى الآن سهماً في سبيل الله، أو طلقة واحدة في سبيل الله عز وجل، ولا يدري أن هذا الذي يراه أمامه قد مضى عليه بضعة عشر عاماً على طريق الآلام والدموع والدمار.
لنلتقِ على شعار "نريد خدمة الجهاد"، ولنلتقِ على شعار آخر "ترك الخلافيات"، والتعاون على المبدأ الأساسي، وترك الفرعيات الفقهيات؛ فكلنا - بل إن لم يكن كلنا - فمعظمنا جاء لخدمة هذا الدين، وخرج مهاجراً إلى الله عز وجل: ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله.
حتى ولو لم تَمُتْ في المعركة، ما دمت خرجت للهجرة في سبيل الله، ومُتّ في بيشاور فأنت وقع أجرك على رب العالمين، فلتكن ميتتك وأنت تجاهد، لا وأنت تأكل لحوم البشر، إن لحوم الناس مسمومة كما يقول ابن عساكر: (إن لحوم العلماء والناس مسمومة، وعادة الله في هتك أستار من أكلَها معلومة، ومن أطلق لسانه على المسلمين بالثلب أصابه الله قبل الموت بموت القلب)، لا تلقَ اللهَ ولسانُك يقطر دماً مما امتصصت من دماء الناس، لا تلقَ اللهَ ولحوم إخوانك بين ثناياك، كما قال في رواية، جاء في الأثر: ((والله إني لأرى لحمه بين ثناياكما)) عندما قالوا إن هذا العبد نؤوم، قال: ((لقد ائتدمتما لحم صاحبكما، وإني والله أرى لحمه بين ثناياكما)).
إذن الشعار الأول: ترك الخلافيات، لا نريد أن ننقل تمزقاتنا من العالم العربي ونزيد تمزقات الساحة الأفغانية.
ثانياً: نلتقي على خدمة الجهاد، وكلٌ يشتغل في الميدان الذي هو فيه، وكلٌ ميسرٌ لما خلق له، وكما أنكم لا تحاسبون حكام بلادكم فليس حكام بلادنا أفضل من قادة الجهاد، كما أننا لا نحاسب أولئك لا نريد أن نفرض عليهم نظرياتنا وسياساتنا وغير ذلك.
النقطة الثالثة: نريد أن نعدد الحسنات، ونترك الولوغ في السيئات، نريد أن ننقل الإيجابيات التي تشرح الصدور وتبعث الأمل في القلوب، وما أكثرها، وما أكثر الإيجابيات، وما أقل السلبيات، فلا تشتغلوا بتعداد عيوب المسلمين ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فمن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته)) [7]. إياكم أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً فيتبع عوراتكم، ويهتك استاركم، ويفضحكم ولو في جوف بيوتكم.
ثلاث نقاط نلتقي عليها، ونتعاون عليها:
الأولى: لنتناسَ تمزقاتنا وخلافياتنا في عالمنا العربي، ولندعها فوق تلك الساحة، وكفى الساحة ما فيها من مصائب وآلام.
النقطة الثانية: جئنا للتعاون على الجهاد، فلنتعاون على ما اتفقنا عليه - وهو الجهاد - وليعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
النقطة الثالثة: نشر الإيجابيات والحسنات، والسكوت عن العيوب والسيئات؛ لا تصدوا عن سبيل الله وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم.
((وإن الكلمة لتخرج من فم الرجل لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في النار)) [8].
كم من شاب جاء متحمساً للجهاد ثم صده كلامكم عن سبيل الله؟! كم من الشباب وصلوا إلى هذه الأرض ثم رجعوا يائسين لكثرة ما زرعتم في قلوبهم من السيئات التي حفظتموها وجمعتموها ولا تنسون منها شيئاً؟! أنتم بفعلكم هذا، وظنكم أنكم تصلحون، تصدون عن سبيل الله وتضلون، وأنتم لا تعلمون، اشتغلوا بما ينفعكم ((وإذا أراد الله بقوم خيراً ألهمهم العمل))، ((وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) [9].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين استغفروا الله.
[1] أنظر صحيح الجامع الصغير 1525.
[2] الرواية الأولى حسنها الألباني وهي شاهد للرواية الثانية.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه.
[4] رواه مسلم.
[5] قطعة من حديث صحيح رواه البخاري.
[6] رواه أبو داود والحديث يضعف (راجع الأحاديث الضعيفة للألباني).
[7] صحيح الجامع الصغير 7984 بلفظ (يدخل الإيمان قلبه).
[8] جزء من حديث رواه البخاري لكن بلفظ (إن العبد ليتكلم بالكلمة..).
[9] صحيح الجامع الصغير 5633.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف:103-104].
نرجو الله عز وجل أن لا نكون من هؤلاء الذي ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
لكم كل حلوة؟
كثير من الشباب المتحمس يثير قضية الخلافات، وأنه لابد من الاتحاد، وهو قادم من العالم العربي، ونسي ما يجري في ساحته؛ حتى في الساحة الإسلامية، حتى في ساحة الدعوات الإسلامية، حتى في ساحة العمل الإسلامي.
يريد من مئات القبائل في أفغانستان! ومن نصف مليون يحملون السلاح أن يتوحدوا تحت قائد واحد! وكل الأيدي العالمية تعبث، وكلها تريد أن تمزق، وتريد أن تسقط الراية! وتوقف هذا السيل الذي لو وصل إليهم لأغرق من أغرق، وطهر من طهر، ينسون ساحاتهم العربية الإسلامية؛ في بقعة من الأرض قد لا يكون فيها مائة داعية تجد أكثر من عشرين طريقة للعمل الإسلامي، كل أناس يتبعون إمامهم، كل خمسة يتجمعون حول شيخ ويصبح شيخ طريقة، وقائد دعوة، وإمام هداية، هؤلاء من جماعة فلان، وهذا من جماعة فلان، وجماعة فلان عيوبهم كذا.
وفي المسجد الواحد كم تثور الخلافات بين أتباع فلان وأتباع فلان وجماعة فلان وحزب فلان، ينسون هذا ويريدون بكلمة واحدة؛ أن يوحدوا شعباً مختلف الطباع، مختلف العادات، قبائل شتى، وتقاليد مختلفة، يريدهم أن يتجمعوا، وأين؟ في أرض المهجر حيث مُزقت الأنساب، وضاع الائتلاف، والناس يبحثون عن لقمة طعام يسدون بها رمقهم، كما قال حذيفة بن اليمان عندما سئل عن قوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرين فأولئك هم الظالمون ، فأولئك هم الفاسقون [المائدة:44-45-47].
قال: هي فينا، قالوا: هي في أهل الكتاب، إن الآيات تتكلم عن أهل الكتاب، قال: لكم كل حلوة، ولهم كل مرة؟! لكم كل حلوة أنتم إن لم تحكموا بالكتاب فلن تكفروا، أما اليهود والنصارى فهم كفار لأنهم لا يحكمون بالكتاب! ونحن لنا كل حلوة وللأفغان كل مرة!.
ويرى كما في الحديث الصحيح: ((يرى أحدكم القذى الصغير في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه)) [1] ، جذع شجرة في عينه - هو لا يتكلم عنه - عيوب تسد الشرق والغرب، وتُنجّس البحر، كلها تلفها بين جنبيك، أنت ساكت عنها، وتتبع صغائر الناس وسقطاتهم ولممهم.
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وحظك موفورٌ وعرضك صيّنُ
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينُك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروف وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
[1] رواه في صحيح الجامع الصغير بلفظ (يبصر أحدكم القذي في عين أخيه وينسى الجذع في عينه) رقم 8013.
(1/1394)
التقوى والورع
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الزهد والورع
عبد الله عزام
بيشاور
سبع الليل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تلازم الصبر مع التقوى. 2- حب الرياسة والشرف. 3- حب الظهور وشهوة الكلام.
4- علاج الشهوات والشبهات. 5- ورع الإمام النووي. 6- قصص في الورع.
_________
الخطبة الأولى
_________
يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط [آل عمران:120].
ويقول الله عز وجل على لسان يوسف عليه السلام: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
ويقول الله عز وجل: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين [آل عمران:125].
فالصبر جُمع مع التقوى في أماكن كثيرة من القرآن الكريم، والتقوى والصبر عمودان لازمان لحماية الإنسان من شرور أعدائه، فلابد من التقوى أن يتدرع بها ومن الصبر أن يتدثر به، من أجل أن يتم المطلوب، ويصل إلى الهدف.
وقد ذكرنا وتكلمنا في خطبة سابقة عن الصبر، وفي هذا اليوم نتكلم عن التقوى التي من أنضج ثمراتها الجانية الدانية: الورع.
حب الرياسة والشرف:
لقد وضح الإسلام على لسان رسوله على أن: ((الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات – أو مشابهات – فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه)) [1]. فمجال الورع هو مجال الشبهات، والتقوى والورع بالنسبة للرجل إنما يعرفان عند الشبهات؛ فكلما كان التوقي مستمراً والحذر دائماً، والمراقبة متواصلة، كلما كان الورع أرفع وأعلى.
والورع أول ما يظهر في قضيتين: قضية الرئاسة، وقضية المال، وفي الحديث الصحيح: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه)) [2]. أي شبه رسول الله هذين بالذئبين الجائعين، الحرص على الشرف ذئب، والحرص على المال ذئب آخر، وهما ينطلقان في ليلة شاتية باردة، والغنم متنافرة، يفترسان دين الإنسان وورعه.
وآخر ما يخرج من قلب الإنسان حب الرياسة والشرف، وهو مهلكة، وكم من النفوس تردّت، وكم من الناس سقطوا في هوّه سحيقة بسبب حرصهم على الشرف أو المرتبة والرئاسة، ولذا فحب المال أخف من حب الرياسة، والورع من الذهب والفضة أخف من الورع على حب الرياسة؛ لأن الذهب والفضة إنما يدفعان ويبذلان للرئاسة، وآخر ما يخرج من قلب الإنسان من حظوظ وشهوات هو شهوة الظهور والرئاسة، وكم ضاع من الأموال على هذا الطريق، وكم هلك من المسلمين، وكم تمزقت من الدول، وكم ضاعت من الممالك؛ كل ذلك بسبب حرص واحد أو اثنين أو ثلاثة على حب الرئاسة، آخر ما يخرج من قلب المؤمن هو حبه الظهور.
حب الظهور وشهوة الكلام:
وحب الظهور كم قصم من الظهور، فكان المسلمون الأوائل الذين يُضرب بهم المثل في الورع يتَوقّون هذا المنزلق الخطير، وهذا المنحدر الصعب، وهو حب الظهور الذي يخالط القلوب دائماً إلا من رحم الله وعصم، وإلا من وقى الله ومنع، وحمى قلبه من أن يغرق في هذا الحظ الذي قلما تتخلص النفس منه إلا عند لقاء ربها.
والورع إنما يتمثل في توقي السيئات، وفي محاولة وقاية الحسنات ووقاية الإيمان كذلك، وقاية النفس مما يشينها ويعيبها أمام رب العالمين وأمام ملائكته المكرمين، وكلما زادت المراقبة كلما خفّت المعاصي، وقلّت الذنوب وتناقصت السيئات، واتقوا الله؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء أو عندما يفضي الرجل إلى أهله، فاتقوا الله وأكرموهم، وأكرموهم بحسن الخلق، وإن الله يغار وغيرة الله أن يرى عبده على المعاصي، دع نفسك مما يشينها.
وأعلى مراتب هذا المقام هو البعد عن التوسع في المباحات، وترك ما لا يعنيه من الأمور، وجماع الأمر في هذا كما قال : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) [3] ، وكم من الناس يشتغلون فيما لا يعنيهم، فيفرقون جماعات، ويمزقون أسراً، ويشتتون أحبة، كل ذلك لأن عنده شهوة الكلام، لأن عنده شهوة، يريد أن يتكلم، ولا يستطيع أن يتخلص من هذه الشهوة، فهو يتّبع الشبهات، ويتكلم فيما لا يعلم حقه، ويثرثر فيما يظن، و((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) [4].
وأما الظنون:
إن الظن لا يغني من الحق شيئاً [يونس:36].
و إن بعض الظن إثم ، فكيف إذا كان الكلام في الحرمات مبنياً على الظنون والشبهات. إن شهوة الكلام فيما لا يعنيك أمرٌ خطيرٌ، يأكل حسناتك كما تأكل النار الحطب.
((وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، فيهوي بها في النار)) [5].
إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً.
هو يضع رجلاً على رجل، ويحتسي القهوة والشاي، ولكنه يريد أن يملأ فراغه، فلا يملأ فراغه بذكر أو تلاوة أو عبادة، إنما يملأ فراغه بأكل لحوم إخوانه، بتمزيق الحرمات، بانتهاك الحدود، وهو لا يملك من الحسنات إلا قليلاً، فدع نفسك عما يشينها.
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وحظك موفورٌ وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً لقومٍ فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروف وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
يأتي إليك فتسأله عن فلان؛ تريد أن تتثبت منه، تريد شهادة ممن يعرفه، فيقول لك: هو رجل طيب وصالح، ولكنه يفعل كذا، وكذا، وكذا، (لكن) هدّم بها بنيانه، وهدّم بها أركانه، ومزق بها حرماته، ولم يبق له في نظرك أي شيء، هو بدأها: رجل طيب صالح. ولكن... ولكن.. ولكن.. ثم يتكلم لك من السيئات مالا يعلمه إلا الله عز وجل، منها ما هو عالم به يقينا، وأكثرها شبهات وشهوات نفس، لأنه لا يرضى عنه، لا يعجبه هذا المرء؛ في طعامه أو شرابه أو طريقة كلامه، ثم يمزقه تمزيقاً، ليشبع شهوة الحقد والغضب في نفسه يطفؤها بنار. نار على نار، نار الحقد، ونار الغيبة التي أكلت بها حسناته، ولذا قال : ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وزكاة، وحج، وصيام..، ويأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وطعن هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرح في النار)) [6].
وليس في صندوقك من الحسنات إلا الزاهد اليسير، فلماذا تقدم على حسناتك وتحرقها بكلمات هي كما قال مما لا يعنيك: ((من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)) [7].
قيل أن أحد الصالحين سأل عن صاحب قصر رآه؛ لمن هذا اقصر؟ ثم تذكر هذا الحديث: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) فصام سنة كاملة تكفيراً لهذا، لأنه سأل عن صاحب القصر، فكيف الذي لسانه يلغ ليل نهار في الحرمات، ويتتبع الشبهات، ولا يدع مسلماً عامّياً أو عالماً أو أمّياً إلا وقد مزق لحمه بين أسنانه، وولغ في عرضه بلسانه، كيف يلقى الله عز وجل؟؟.
اعلم يا أخي – كما قال ابن عساكر وجاء بها على لحوم العلماء: (أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار من أكلها معلومة، ومن أطلق لسانه على الناس بالثلب أصابه الله بداء موت القلب)، ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) [8] ، دع الشبهات، دع المناطق المباحات حتى ترتفع إلى مقام الورع ومقام التقوى، من أجل أن يحميك الله من أعدائك، ثم تذكر القاعدة التي قالها رب العزة في كتابه:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا [الحج:38].
((من عادى لي ولياً فقد بارزته بالحرب)) [9] ، فهل تطيق حرب رب العالمين؟ هل تطيق مبارزة قاهر السموات والأرض؟ فما بالك يا أخي؟! ألا تتذكر آخرتك؟ ألا تذكر يوم أن تعرض على ربك؟! ألا تذكر الموازين وضغطة القبر؟! ألا تتذكر العقارب والثعابين؟! ألا تذكر الصراط المنصوب على جهنم؟! وكم من الناس قد سقطوا عن الصراط، ويسقطون من أجل حقوق الناس التي لا تضرك ولا تنفعك، وإنما تتبعتها، وانتهكتها، وبخستهم حقوقهم من أجل شهوة انتقاص الآخرين في نفسك، وحب انتقاص الآخرين نقص عندك، والنفس الناقصة لا تحب إلا أن تنتفش، وإلا أن تنتقص، وإلا أن تبخس الموازين، وإلا أن تهضم حقوق الناس، وأن تبطر الحق، وأن تغمط الحق.
في المرحلة الأولى من مراحل الورع: هي البعد عن السيئات، وانتبه إلى المناطق المزروعة بالألغام؛ مناطق المباحات والشبهات، ومن اتقاها فقد استبرأ لدينه وعرضه، أرأيتم كيف يحافظ الإنسان على ثوبه أن لا يتلطخ بالبول والبراز والنجس عندما يكون في أرض نجسة؟ فاستبرئ لدينك، واستبرئ لعرضك، واستبرئ لقلبك، ونق قلبك؛ ولا ينقيه إلا الورع، ولا يمكن أن يصبح الإنسان إماماً في الدين، وأن يتقبل كلامه من المتقين إلا إذا اتقى الشبهات والشهوات.
الصبر واليقين علاج الشهوات والشبهات:
فاتقاء الشبهات علاجه اليقين، واتقاء الشهوات علاجه الصبر، وبالصبر واليقين يبلغ الإنسان إمامة المتقين.
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة:24].
فعليك باليقين الذي يطرد الشبهات، لا تتكلم بكلمة لا تقطع بصحتها، ولا تتكلم بكلمة قطعت بصحتها إلا إذا كانت خيراً، وإذا تردد الأمر بين الخير والشر فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ودع الشبهات حتى ترتقي إلى مقام الأئمة التقاة.
ثم الورع بالنسبة للحسنات؛ لتكثيرها ووقايتها من الاحتراق، ثم الورع للإيمان، لأن الأعمال الصالحة كلما ازدادت كلما ازداد الإيمان وهذا الذي اتفق عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن الإيمان ما وقر في القلب وتكلم به اللسان، وعملت به الأركان، تزيده الطاعة، وتنقصه المعصية، ولذا كلما دخل الإنسان في ساحة الشبهات والشهوات، كلما ازدادت السيئات، والسيئات تطفئ نور القلب؛ كما قال الإمام مالك للشافعي – رحمهما الله جميعاً – عندما رآه لأول مرة – قال -: ((يا غلام إني أرى أن الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية)) ، ويقول الله عز وجل: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين:14].
والران هو عبارة عن الغلاف الأسود الذي يحيط بالقلب بسبب النكات السوداء، إذ في الحديث الصحيح: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الران الذي ذكر الله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )). وهكذا.. وهكذا.. حتى يتغلف القلب بغلاف أسود، وذاك هو الران، ويصبح القلب كما جاء في بعض الروايات ((كالكوز مُجخّيا)) أي لا يستقر به ماء؟ كذلك القلب إذا غلف بالران، وإذا ازدادت السيئات لا يستقر به أي نور – أي نور – ولا حسنة، ولا خير، ولا بر، ولا حكمة، ولا علم، إنما هو فارغ للشيطان يذرعه ذهاباً وإياباً.
ورع النووي:
وقد جاء في روايات عن السلف مالاً يصدقه العقل من ورعهم وتقواهم، حتى نقلوا أن (النووي) مكث في الشام وعاش فيها ومات، ولم يذق ثمارها، وعندما روجع (النووي) في هذا قال: "إن هنالك بساتين موقوفة قد ضاعت، وأخشى أن آكل مال الوقف".
ولذا لورعه كم فتح الله عليه! لقد نقل الكثير عن (النووي) أنه طفئ المصباح ذات مرة لخلاص زيته عنه، وإذا بأصابعه تنير له ليكتب عليها. لقد ألف مؤلفات لا يصدق العقل أن هذه مؤلفات بشر، كتبٌ بعضها مقرر في قسم الدكتوراه، والماجستير، والدراسات العليا؛ في السنة لا يكاد الإنسان يقرأ منها العشرات من الصفحات.
حسبوا (للنووي) أنه كان يؤلف في كل يوم من أيام حياته (ملزمة) – قسّموا ما ألفه على أيا حياته منذ ولادته حتى وفاته – إذ أنه لم يعمّر سوى اثنين وأربعين عاماً، قسّموا كتبه – صفحاتها – على أيام عمره، فخرج لكل يوم (ملزمة) من التأليف.
والورع يورث قوة القلب، ويورث العزة، وعندما طلب (الظاهر بيبرس) فتوى: أن يجمع المال لشراء السلاح أفتاه علماء الشام إلا (النووي)، فعاتب (الظاهر بيبرس) (النووي) على هذا، قال: "أنا أريد أن أصد أعداء الله وأحمي حوزة الإسلام وبيضته، وأنت لا تعطيني فتوى أن أجمع المال من أجل شراء السلاح؟! قال له: "لقد جئتنا عبداً مملوكاً لا تملك من الدنيا شيئاً، وأنا أرى لك اليوم الغلمان والجواري والقصور والضّياع، فهذه ليست أموالك، فإن بعت هذا جميعاً ثم احتجت بعد ذلك لشراء السلاح أنا أفتيك أن تجمع من أموال المسلمين"، قال: اخرج من الشام. فخرج من الشام إلى (نوى) وجاء علماء الشام (للظاهر بيبرس) وقالوا: لا غنى لنا عن (محي الدين النووي)، قال: أرجعوه. وذهبوا إلى (نوى) في (حوران) وقالوا له: ارجع فقد سمح لك (الظاهر) أن ترجع إلى الشام، قال: "والله لن أدخلها و(الظاهر) فيها".. عزة.. رفعة، قمم، ما الذي جعل هذه القلوب تقف هذه المواقف؟ ما الذي جعل هذه النفوس تعلو هذه الذرى؟ ما الذي جعل هذه الأفئدة ترتقي هذه القمم؟ إنه الورع الذي يصنع به – بإذن الله – يصنع به العزة، ويصنع به القوة.
والقلب الورع، قلب جسور، شجاع، قوي، عزيز.
وأما القلوب – قلوب أصحاب الشهوات والشبهات – فهي ضعيفة، مريضة، ترتجف لشرطي يمر في الشارع، تظنه يراقبها أو يكتب عنها ورقة يقدمها.
أما أصحاب القلوب العظيمة، أصحاب الصدور المنشرحة، أصحاب النفوس التي تربت على الحلال، على الورع، فهذه قلوب عظيمة قوية، وأنى للأسود أن يكون لها قلوب بشجاعتها، وبرّ الله بقسم (النووي)، ولم يمض سوى شهر حتى مات (الظاهر)، وعاد (النووي) إلى الشام.
من بيتكم خرج الورع:
جاءت أخت (بشر الحافي) إلى الإمام (أحمد)، قالت له: يا إمام، أوَ يجوز لي أن أغزل على نور الظالمين؟!!
كان الزعماء والكبراء في ذلك الوقت يضيئون أسرجة كبيرة ومصابيح عظيمة في بيوتهم تضئ المنطقة حولهم، فجاءت لتسأل أوَ يجوز لي أن أنسج، وأن أغزل على مثل هذا النور؟ قال: من أين هذه؟ قالوا: هذه أخت (بشر الحافي)، قال: من بيتكم خرج الورع.
هؤلاء النماذج القليلة هي التي حفظت الإسلام.
الطمع علاجه الورع:
ولقد أعجب (الحسن البصري) عندما سأل غلاماً قال له: يا غلام ما ملاكُ الدين؟ قال: الورع، قال: وما هلاك الدين قال: الطمع. كم أهلك الطمع من أديان الناس؟ وكم أضاع من آمال تمنتها الأمة وبذلت من أجلها؟ وكم ضاع من الدعاة بسبب الدنيا والطمع فيها؟ وما حفظ الإسلام على مرّ التاريخ سوى ورع الصالحين، وزهد المتقين، وأنت تعرف الإنسان عندما تعامله فتشعر بورعه عند معاملته بالدرهم والدينار، وعندما تلوح بارقة من بوارق الزعامة والرئاسة، - ونرجو الله عز وجل أن يطهر قلوبنا منها، ونرجو الله عز وجل أن لا يبقى لنفوسنا حظاً في نفوسها – عندما تلوح بارقة يُضّحي بكل القيم، بارقة طمع في زعامة أو رياسة؛ يُضّحي بكل القيم والمقدسات، يرى الناس يُقتّلون أو يُذبّحون، ويرى الناس فقراء ويتسولون، ومع ذلك شغله الشاغل، وعمله العامل ليل نهار، كيف يحافظ على منصبه هذا الحقير التافه الزهيد الذي لا يساوي من الدنيا شيئاً، فكيف من الآخرة!!، ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع)) [10] ، وماذا يحمل الإصبع من ماء البحر، و((ما الدنيا في الآخرة إلا كموضع سوط أحدكم في الجنة)) [11]. وماذا يساوي موضع السوط في الجنة، وأقل الناس في الجنة – في رواية مسلم – له ضعف مساحة الأرض، وفي رواية أحمد له عشرة أضعاف مساحة الأرض، فاتقوا الله وانتبهوا لقلوبكم، ودعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، وانتبهوا إلى ما يدخل في أفواهكم وما يخرج منها، وأهم ما يحميكم منها: الفم والفرج فيدخلكم الجنة، وفي الصحيح ((من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أكفل له الجنة)).
احفظ فمك من المحرمات الداخلة، ومن الشبهات النازلة، ومن الكلام الخارج، واحفظ فرجك من الزنا يدخلك ربك الجنة، ونرجو الله أن لا يحرمنا الجنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
[1] حديث صحيح رواه البخاري بأطول من هذا.
[2] صحيح الجامع الصغير رقم (5620) بلفظ (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال ولشرف لدينه).
[3] صحيح الجامع الصغير رقم 5911.
[4] حديث صحيح رواه مسلم في المقدمة لصحيحه.
[5] جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه.
[6] رواه مسلم.
[7] صحيح الجامع الصغير 5911.
[8] صحيح الجامع الصغير 3377.
[9] جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه.
[10] رواه مسلم بنحوه في الصحيح.
[11] رواه البخاري في صحيحه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
لقد عاش فوق هذه الأرض صالحون، وفي الأرض الآن صالحون، ولكن أين أصحاب الورع؟ أين الذين تخلصوا من الطمع؟ أين الذين تخلصوا من إيثار الدنيا؟ أين الذين يقفون عند حدود الشبهات والشهوات؟
قال الصحابة – رضوان الله عليهم –: (تركنا تسعة أعشار الحلال خوفاً من الحرام). اجعل بينك وبين الحرام فسحة، فسحة من الحلال، حتى تستبرئ لدينك وعرضك، حتى تبرئ قلبك.
وكلما كثر أصحاب الورع في المجتمعات كلما حيت وظهرت، وكلما قلّ أصحاب الورع في المجتمعات كلما اندثرت وبادت، فانتبه يا أخي، وقد أكرمك الله عز وجل بالوصول إلى هذا المقام، ونرجو الله عز وجل أن لا يحرمك من أجر الرباط، وأن لا يحرمك من أجر الجهاد، فانتبه إلى نفسك، وانتبه إلى قلبك، وإياك وذئب الشرف وذئب المال، ذئب حب الشرف – أي المكانة –، وذئب حب المال؛ فإنه أهلك لدينك من إهلاك ذئبين جائعين أرسلا في غنم في ليلة شاتية ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه)) [1].
نعم.. هنالك أناس ورعون، ولكنهم قليلون، كنت أراهم ينفقون الآلاف المؤلفة، بل الملايين، ولكنهم عند درهم واحد ليس لهم أو يشتبهون به يقفون كثيراً.
يقفون أن يدخلوا بطونهم منه شيئاً، كنت أراهم ينفقون على الجهاد مئات الألوف بل ملايين من الروبيات، ولكنهم على أنفسهم، وعلى أهلهم لا يكادون يدفعون إلا بالقطارة، والمال مالهم، وهو جهدهم، ولكنهم يحبون أن يعاملوا أنفسهم بالشدة.
أعرف أخاً كان مندوباً في إحدى المؤسسات، أو كان مندوباً هنا في الهلال الأحمر السعودي كانت زوجته تطلب منه الأغراض فيقول: نحن لا نحتاج لهذا، ولا نريد أن نتوسع بالمباحات – وهو يدفع كل يوم ألف ريال بدل انتدابه للجهاد الأفغاني – فكان إذا اشتد طلب زوجته لأغراضه، تقول له: احسبنا كما تحسب الأفغانيين، وعاملنا كما تعامل الأفغانيين، وهب أننا من الأفغانيين، فتصدق علينا كما تتصدق على هؤلاء، الورع في معاملة النفس، ولذا ترك البلد وله في كل قلب مكانة، وما وطئ مكاناً إلا – والحمد لله – ترك فيه خيراً، ولقد كان هذا التغيير بالنسبة للمهاجرين والمجاهدين كان له – بفضل الله – بعض الآثار فيه.
أيها الأخوة:
انتبهوا إلى أنفسكم، انتبهوا إلى قلوبكم، انتبهوا إلى الشهوات والشبهات حتى ترتقوا إلى مقام الأئمة التقاة، وهو سهلٌ، وجماعه وعماده ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، ((ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه)) ، استمع كثيراً، وتحدث قليلاً تنجُ، لا تتوسع في المباحات، واكتفِ ما استطعت بالضرورات، واجعل المال الفائض بين يديك في سبيل الله، وانظر كم يغدق الله عليك من الخيرات.
[1] صحيح الجامع الصغير رقم 5620 بنحوه.
(1/1395)
الصبر عبادة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الله عزام
بيشاور
سبع الليل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصبر وعاقبته. 2- أنواع الصبر. 3- صبر يوسف عن معصية الله. 4- الصبر
على طاعة الله. 5- ثبات في سجون الطغاة. 6- الصبر على الأمير في الجهاد. 7- صور من
صبر الصحابة. 8- الصبر على طول الطريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيا ورسولاً، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولاتك من ضيقٍ مما يمكرون [النحل:127].
ويقول الله عز وجل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
وقد جاء في الحديث الصحيح: ((الصبر ضياء)) [1].
فما الصبر؟
وما منزلة الصابرين؟
وما هي العدة والزاد من أجل الصبر؟
منزلة الصبر:
فالصبر أيها الأخوة نصف الدين، والصبر بمنزلة الرأس من الجسد بالنسبة لهذا الدين، وكما أنه لا جسد بلا رأس؛ كذلك لا دين بلا صبر.
والصبر واجب بإجماع العلماء؛ واصبر فعل أمر والأمر للوجوب. ولا يمكن أن يجتاز مراحل هذه الدنيا على الصراط غير صابر، ولا يرتفع إلى المقام عند ربه غير صابر شاكر.
ولقد ذكر الله عز وجل الصبر في القرآن حوالي تسعين موضعاً، وذكره سبحانه على ستة عشر نوعاً؛ لكل نوع منها فائدة، أو ذكر لها ستة عشر فائدة في كتابه العزيز أهمها: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10].
وقد جاء في الأثر: ((يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان، ويصب عليه الحسنات صباً، فيتمنى أهل الدنيا – أهل العافية – لو كانت أجسادهم تُقرض بالمقاريض مما يرون لأهل الصبر من الخير والعافية والمنزلة)) [2]. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
وكذلك الصبر والتقوى هما ترسان ركينان متينان ضد مكائد أعداء الله عز وجل، وضد مخططات الناس لك، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ، إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيطٌ [آل عمران:120].
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها [آل عمران:120].
فما العلاج؟
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط.
وكذلك الصبر- وخاصة في الجهاد – ينزل ملائكة النصر: ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [3].
بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين [آل عمران:125].
خمسة آلاف؛ كما يقول القرطبي والحسن وغيرهم: هؤلاء الخمسة آلاف عدة لكل عسكر صبر واحتسب وإلى يوم القيامة، فكل من صبر من العسكر واحتسب أجره وعمله لله وفي الله تتنزل عليه الملائكة.
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
والصبر والتقوى يرفع الإنسان في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول رب العزة على لسان يوسف عندما قال له إخوانه: قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا [يوسف:90].
لماذا منّ الله علينا.
إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
فالمنّ والرفعة وعلوّ المنزلة التي رفع الله إليها – رب العزة – يوسف عليه السلام إنما كانت بسبب العلة إنه (وإنّ) للتعليل إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
والصبر كذلك يفتح النفوس لتتلقي إشارات هذا الكون فيتدبر ويتفكر، وكذلك تفتح القلب لتلقي معاني هذا القرآن فيعتبر ويسير إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور [لقمان:31].
والصبر أنواع:
- صبر على طاعة الله.
- وصبر عن معصية الله.
- وصبر باختيارك.
- وصبر على بلاء ليس بإرادتك.
وكلما كان الصبر باختيارك كلما كان الجزاء أوفر، وكلما كان المقام أرفع وأعلى.
فالذين يصبرون بأنفسهم على الجهاد، الذين ربطوا أنفسهم على الجهاد، مع أن الدنيا مفتوحة أمامهم، هؤلاء أرفع مقاما ممن انقطعت به السبيل وليس له إلا هذا السبيل، هذا مثاب وهذا مثاب، ولكن الذي يربط نفسه على طاعة الله باختياره لاشك أنه أعظم أجراً وأجزل ثواباً، ومن هنا كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: لقد كان صبر يوسف على امرأة العزيز أعظم أجراً وأرفع ذكراً من صبره على البلاء في داخل البئر، لأن إلقاءه في الجب لم يكن باختياره، أما صبره وهو شاب أعزب متغرب بعيد عن مراقبة الأعين وتراوده امرأة هي سيدته، وفي قمة جمالها، وفي عنفوان شبابه وطاقته، وفي بيت مغلق، أمين عن الرقباء، بعيد عن النظر، وقد توفرت جميع الدعاوى، وهي التي تتقدم إليه وتصر عليه، وتتوعده وتتهدده إن لم يفعل، وهو الأجير في بيتها، ومع ذلك. قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه [يوسف:23-24].
والذي يميل إليه المفسرون أنها همت به – همّت بضربه – وهمّ بضربها، لولا أن رأى برهان ربه، لأنه لا يمكن أن يكون (الهم) كما قال بعض المفسرين: هو الميل للوقوع في الفاحشة، لأنه سبقه ببيان.
معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ولو ضربها واشتبكت معه لتمزق ثوبها من الأمام، وعندها تثبت عليه الجريمة، فكان برهان ربه الذي صرفه عن أن يشتبك معها.
واستبقا الباب وقدّت قميصه من دبرٍ وألفيا سيّدها لدى الباب [يوسف:25].
وإن من أعظم الصبر هذا الصبر، صبر والفاحشة ميسرة، والدواعي مهيأة، والشاب في طاقته وعنفوان شبابه، وفي غربته، ومع ذلك يعتصم بالله.
ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم [آل عمران:101].
ومن المعلوم أن الشاب إذا بعد عن الرقباء، وعن من يعيشون معه من أبناء حيه، ويخرج من رقابة عرافته، وبلدته فإنه يميل للتفلت مما تربى عليه من أخلاق أو قيم أو عادات، ومع ذلك فقد صبر الشاب يوسف عليه السلام، صبر الذي يريد الله عز وجل أن يخلصه، وأن يطهره. لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [يوسف:24].
والفاحشة ككسر يصيب العظم.
الفاحشة جرح في القلب ككسر يصيب العظم، وقد يكون بعد الفاحشة توبة فيجبر العظم، لكن الفاحشة الأخرى تكسر العظم وعندها قد يتعذر أن يعود العظم مستقيما أو تقوم الرجل أو اليد بوظيفتها التي كانت أيام أن كانت سليمة.
ومن نعم الله عز وجل على الشاب أن يصبر عن المعصية والفاحشة، فهؤلاء يثيبهم رب العزة في ظل يوم لا ظل إلا ظله ((وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين)) [4].
الصبر على الطاعة أعظم:
والصبر على الطاعة، كما يقول ابن تيمية: "أعظم عند الله من الصبر عن المعصية"، لأن الصبر على الطاعة إنما يحتاج نفساً دائمة المراقبة، ذات عزيمة نافذة، وذات قوة وإرادة، لا تعرف التردد ولا التلعثم، حتى تبقى العبادة مستقيمة مستمرة إلى أن يلقى الله عز وجل.
أما الصبر عن المعصية، فإنه أقل منزلة عند الله خاصة إذا لم تتوفر الدواعي ولم تتيسر السبل ولم تتهيأ الجادة.
والصبر بالإرادة كما قلت كصبرك على الرباط والدنيا تدعوك، وصبرك على طعام الأفغاني، وزهرة الأرض تفتح فمها مبتسمة لك، والدنيا تمد ذراعيها لتحتضنك، ومع ذلك أن تدوس على هذا وتعيش بين الثلوج، وفي قمم الجبال، وعلى الخبز الجاف، تلبس ما تهيأ، وتأكل ما تيسر، وقد تفتقد الخبز أو الكساء أو الطعام أو الحذاء، ومع ذلك لا يربطك إلا شيء واحد هو الصبر لرب العالمين، والصبر برب العالمين، وهذه منزلة عظيمة، فاصبروا على طاعاتكم.
وأما الصبر على البلاء، فهو عظيم المنزلة، لكنه دون منزلة الذي يصبر باختياره، فالصبر على المرض أو على السجن أو غير ذلك أقل منزلة من الصبر على الجهاد، خاصة وأنت خارج باختيارك، نافر إلى الله عز وجل بإرادتك وطاعتك، تارك أهلك، ووظيفتك، ومالك، ودنياك لله عز وجل، فهذه منزلة عظيمة لا يدانيها كثير من منازل السائرين، بين إياك نعبد وإياك نستعين.
والصبر بالله، وفي الله، ولله عز وجل.
الصبر: بالله ولله ومع الله.
أما الصبر بالله: أن يكون موقراً في قلبك، مستقراً في أعماقك، أن الصبر الذي تحتمله إنما هو من رب العالمين أولاً وآخراً، ليس لك به حول ولا قوة، إنما هو من الله عز وجل: ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً [الإسراء:74].
في غياهب السجون:
وحدثني بعض الإخوة ممن ألقوا في غياهب السجون – في أرض الكنانة – قالوا: كانت تمر علينا ساعات من الآلام والتعذيب بعد أن نلقى في الزنزانة، ويغلق علينا، نقول: لو طلبوا منا أي شيء لقلناه، لقد نفذ صبرنا حتى إذا جاء وقت التحقيق، وإذا بهم بعزيمة جديدة، وقوة جديدة، وصبر جديد، فلا يتلفظون ببنت شفه، ورحم الله عز وجل (محمد يوسف هواش) كان يردد كلمة بالعامية كلما اشتدت به الظروف، وأخذت بخناقه الكروب، ينظر إلى السماء ويقول: "كله في حبك يهون". كله يهون من أجلك، وكذلك الحاجة (زينت الغزالي) – رحمها الله حية وميتة – يوم أن صُب عليها العذاب من كل الأنواع، ولم تبق السلطة والطواغيت نوعا من جام غضبهم إلا ألقوه فوق رأس هذه المرأة التي ما عرفت عذاباً، ولا شدة، ولا تعذيباً حتى ضربوها ستة آلاف وثمانمائة سوط، ومع ذلك كانت في المحكمة في قمة عزتها، وقمة اعتزازها بهذا الدين، يوم أن سألوها – يسألها المدعي العام -: أنت قلت عن رئيس الدولة – عن رئيس الجمهورية – أنه أبو الجهل؟ فقالت: نعم، ولكنني متأسفة لأنه ليس جهلاً واحداً، إنما هو أبو الأجهال، قالوا: أنت سمّيت – المدعي العام يسألها وفي المحكمة المسجلة التي تنقل لرئيس الجمهورية – قالوا: أنت سمّيت عبد الناصر ذبابة؟ قالت: نعم، ثم اعتذرت عن التسمية لأنه هنالك حديث صحيح أن في أحد جناحيها داءاً وفي الآخر دواء، وهذا لا دواء فيه، قالوا: ماذا سمّيته كذلك، وما هي آخر التسميات؟ قالت: لقد سمّيته(خيالة المآتة) أي حارس البستان؛ رجل من القش، عصا موضوع عليها قطع من القماش تخيف الناس كما تخيف العصا العصافير، فصاح المدعي العام بأعلى صوته مذعوراً قال أربعون مليوناً يُدارون بعصا؟ قالت: نعم، بعصا والعصا، تدار من الخارج، ثم حكم عليها بالأشغال الشاقة المؤبدة، فقالت: الله أكبر، من أجل رفع راية الإسلام، وإقامة المجتمع المسلم.
أقول: الصبر بالله. واصبر وما صبرك إلا بالله [النحل:127].
وكلما – يا أخي – اشتدت عليك الظروف، وكلما أخذت بخناقك الكروب، فانظر إلى علاّم الغيوب، واطلب أن يصب في هذا القلب الضعيف صبراً يليق بعبادته، صبراً يوفي نعمه ويكافئ مزيده.
اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور [سبأ:13].
وأما الصبر لله عز وجل، فأن تنظر بقلبك ونيتك وعينيك دائماً إلى السماء أنني أعمل هذه الأعمال، وأصبر عليها؛ أصبر على أوامر الأمير، وإن كان أقل مني شأنا، وإن كنت أرفع منه ذكراً، أصبر لله لأني أريد الثواب من الله، وكلما ألقي إليك أمر أو وجّهت إلى عمل ولو كان على خلاف إرادتك، ولو كان يعاكس هواك فلابد من الصبر.
لابد من أمير وجماعة:
ولقد كانت وصية رسول الله للأنصار أن يصبروا على الأثرة، أي استئثار الناس بالدنيا دونهم حتى يلقو على الحوض، وعلى الأمراء الذين يعرفون منهم وينكرون حتى يلقو على الحوض ((وستجدون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) [5].
والصبر على الأوامر وإن كانت أوامر أمير سفر، والمجموعة لا تتعدى الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة، هذه عبادة من رب العالمين، وهذه طاعة لا يدرك كنهها، ولا يعرف معناها إلا المتوسمون، فلابد من إدراك منزلتك، ومعرفة حقيقتك، لمن تتبع أنت؟ ومع من تسير؟ ولماذا وجُدت هنا؟ لابد أن تعلم أنك تابع لمجموعة، ولا جهاد بلا جماعة، ولا يمكن أن يتم الجهاد إلا عن طريق مجموعة، ولا يقبل الإسلام مجموعة إلا إذا كان لها أمير، ولا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة.
وقد يزين لك الشيطان، ويسول لك إبليس أن هذا الطريق أفضل من أجل الجهاد، وأعظم من أجل الثواب، وقد تكون مخطئاً – يا أخي – فأن تتضافر الجهود، وتنصب كلها في بوتقة واحدة، هذا خير من ناحية الدنيا، وكذلك من ناحية الآخرة.
الجهاد مع الطاعة خير من جهاد مع معصية، فاختر لك أميراً، واختر لك رئيس مجموعة، ولا يجوز أن تبقى ذرة مفلتة من كل القيود، ولا فرداً ضائعاً دون وثائق تشدك إلى إنسان تتلقى منه الأوامر، وتستنصح منه الإرشادات، وتوجه حسب ما يراه، وقد ترى غير ما يرى، وما الأجر والصبر إلا أن تطيع على كره من نفسك ((بايعنا رسول الله على السمع والطاعة)) – الحديث في الصحيحين عن عبادة بن الصامت – ((على السمع والطاعة في المنشط وفي المكره)) – فيما أحببنا وفيما كرهنا – ((وعلى أثرة علينا)) – أن نرى أو نظن أن الغير قد استأثر دوننا بالمنافع العاجلة، وبالأمور الدنيوية – ((وعلى أثرة علينا)) [6].
وأما الصبر مع الله عز وجل، فأن تدور مع الشرع حيث دار، وتسير معه حيث سار، دون تسخّط ولا تجزُّع ولا تَشَكِّ، وما الصبر إلا حبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن التشويش، وحبس القلب عن الجزع، هذا هو الصبر: حبس القلب عن الجزع فيما تلقاه من أمور، أو ينصبُّ عليك من بلاء، وحبس اللسان عن التشكي.
وإذا اعترتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أكرم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وحبس الجوارح عن التشويش فلا لطم خدود، ولا شق جيوب، ولا الدعوى بدعوى الجاهلية، ولذلك لابد أن تكون – يا أخي – صابرا بالله أي تظن وتعتقد أنه لا يصبرك إلا الله، وصابرا لله: أن يكون القلب اتجاهه في كل أوامره وتنفيذ المكروهات لله عز وجل، والعيون لا ترنوا إلا إلى السماء، وهي تتوقع وترجو الثواب من خالق الأرض والسماء.
وكذلك الصبر مع الله أن تسير مع الله بإرادته الشرعية، أن تحبس النفس عن المعاصي وأن تسير على الطاعات باتباع الأوامر واجتناب النواهي، والتسليم للقضاء والقدر.
أمثلة حية من التاريخ:
ولقد ضرب السلف والخلف أمثلة حية رفيعة من الصبر، ولكنني إذ كنت أطالع السيرة والتاريخ، كان يُعجم عليّ تفسير انبعاث الجيوش من الجزيرة العربية أيام أبي بكر دون راتب، ودون أي منصب من مناصب الدنيا، كان يُعجم عليّ تفسير هذا، كيف يتركون أبناءهم، وعائلاتهم، وأسرهم؟ وليس للجند ديوان! وليس للشهداء دفتر بحيث تُكفل العائلة! أو يُتكفل الأيتام! ولم تجر الدواوين، ولم تفتح الأسماء، إلا أيام عمر – رضي الله عنهم أجمعين – أيام أن صارت الفتوح، وجاءت الغنائم، وافتتحت العراق والشام، عندها أمر عمر بتدوين ديوان الجند. ولكن معظم الأمور قد حُلّت في نظري عندما رأيت الأفغان، لقد وضح في ذهني كل قضايا التاريخ الإسلامي، كيف يصبر الإنسان سنة وسنتين، وعائلته تتضور جوعاً، وأقصى ما يتمناه من قائده أن يسد رمقه أثناء وجوده في جبهته، ليس له درهم يدخله جيبه أو يعطيه أهله، وكم من الناس لم يروا عائلاتهم منذ سنوات، تركوا أزواجهم وهن في مقتبل العمر، وفي حال الورود، تركوا أبناءهم وهم فراخ زغب لا يجدون من يعيلهم ولا من يقيتهم، تركوا الأم الرؤوم التي ما اعتادت أن تخرج لاحتطاب أو أن ترد جبلاً، أو أن تعمل عملاً شاقاً، تركوهم لله، وفي الله عز وجل، وكما قال رسول الله لأبي بكر: ((ماذا تركت لأهلك؟ - أجابه أبو بكر: تركت لهم الله ورسوله)).
ومهما تحدثنا عن صبر هؤلاء فلن نستطيع أن نوفيهم حقهم، مهما تحدثنا عن القمة التي ارتفع إليها هؤلاء، قد لا نستطيع أن ندركهم بأشواقنا فضلاً عن أن نلحقهم بأفعالنا.
قمم لا يكاد الناس يصدقونها خيالاً، ولذلك إن تطاول الأقزام على العمالقة عمل تستنفره النفوس الأبية، وتشمئز منه قلوب الطيبين، ولا يمكن أن يتقبله أهل الفضل، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذووه، أنا – وإن كنت لست من أهل الفضل – إلا أني أدرك عظمة هؤلاء، ورفعة هؤلاء، لأني خبرت وجربت الشعوب، وعشت مع مجاهدين، وقارنت بين الصابرين هنا والصابرين هناك، والسائرين هنا والسائرين هناك، والمتجمعين على الجهاد هنا والمتجمعين هناك، فوجدت أنه من العبث أن أبدأ بمقارنة، ولا مقارنة؛ لا مقارنة بين الشعوب العربية التي لم تقف ثلاث ساعات أمام إسرائيل، وبين شعب فقد كل شيء إلا إيمانه بربه، وتوكله عليه، يصبر ثمان سنوات، لقد مضى حتى الآن ثمان سنوات إلا شهراً على الثورة الشيوعية – على انقلاب ترقي – مضى ثماني سنوات، والقذائف لم تدع بيتا إلا هدمته، ولا أسرة إلا مزقتها، ولا عائلة إلا أصابتها، وما ودعت، ولا تركت بينا إلا أحالته ميتماً ومأتما، ومع ذلك؛ النفوس بأنوفها تناطح السحاب، والقلوب بعلوّها تتعدى الضباب، ولا تكاد تصل أرجلهم التراب، لأنهم يمشون فوق الأرض وإن كانوا بأرواحهم وقلوبهم ليسوا فوق الأرض، هم يعيشون فوق هذه الأرض، ونفوسهم معلقة كما قال علي : بالمحل الأعلى.
وبعد ذلك يأتي أناس ما عرفوا للبين لوعة، ولا عرفوا للمرارة طعماً، يتقلبون بين أعطاف النعيم، توضع لهم صحفة وترفع لهم صحفة، وينظرون إلى الشعب الأفغاني المسلم الأبي الصابر، نظرة ازدراء واحتقار، ومن علو، ولماذا؟ لأن ثوبه أجمل من ثوب الأفغاني، أو حذاءه أكثر جدة من حذاء الأفغاني، أو طعامه ألذّ، أو فراشه ألين، أو سريره أرفع، وما بهذه تتفاضل النفوس، إنما تتفاضل النفوس بالصبر وبالأعمال، إنما يتكافأ الناس بأنسابهم، والنسب هو العمل، والأنساب هي الأفعال، وإنما الأحساب لا وزن لها في هذه الدنيا عند الصادقين، ولا في الآخرة عند رب العالمين.
يقولون ما الشعب الأفغاني، هذا؟ ما هي قيمة هذا العشب؟ يا أخي أنت تهتم به والله لا يستحقون الاهتمام!! [7].
وأُطرقُ، واضرب الذكر صفحاً عن هؤلاء [8] ، لأنهم لا يستحقون إلا الرثاء، وهم – والله – إن رأيتهم عليك أن تذرف عليهم دموعاً لأنهم ضاعوا في هذه الدنيا.
ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [الحجر:3].
والبلية الكبرى أنهم قد ينظرون إلى أنفسهم أنهم على الطريق، وأن غيرهم قد ضاع وأضاع، وضل المنارة، وأضاع الجادة. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف:104].
يقول لي أحد الأخوة: لقد ضُربت دار فذبح صاحبها ذبيحة، ودعانا شكراً لله، فقلنا: يضُرب بيتك، وتُقتل ابنتك، ومع ذلك تذبح لنا!! قال: أذبح شكراً لله لأنه أخذ واحدة من أبنائي وترك لي البقية، أنّى لنا بصبر هؤلاء!!؟ ونحن إذا انقطع الغاز أو الكهرباء ليلة عن البيت انقلب البيت على رأسك، وويل لك إن لم تكن لك القوامة، وقد يكون مبيتك في الشارع إن لم تجد مركزاً إسلامياً أو مأوىّ تبيت فيه.
تقارن بين هؤلاء وبين الذين يعيشون تحت بقايا السقوف المعلقة منذ سنوات، يعيشون بين الركام من الأحجار والتراب، ومع ذلك في داخل هذا الركام يفكرون كيف يقاومون أعتى قوى الأرض وأشرسها، أي صبر أعظم من هذا؟! أي نعمة ينعم الله بها على القلب البشري أكثر من نعمة الصبر هذه؟! وكما قال عمر : وجدنا خير عيشنا بالصبر، وقال: "لو كان الصبر والشكر جوادين ما باليت أن أركب أحدهما، أن أركب البلاء فأصبر أو أركب العافية فأشكر".
كرامة:
يقول مطرف: زرت ابن الحصين وقد اشتد به كرامة البلاء، واستطلق بطنه، وثقبوا له السرير لأنه لا يستطيع أن ينزل عنه، فذرفت عيناي، قال: ما يبكيك؟ قال: حالك، قال: لا تبك لأني أحب ما يحب، ويشير إلى السماء، يا مطرف أوَ تكتم عني؟ والله إن الملائكة لتزورني في مرضي هذا، وتردّ عليّ السلام، وآنس بها، الملائكة تزورني، وتردّ عليّ السلام، وآنس بها.
فيا أيها الأخوة: الصبر، الصبر، ومنزلة الصبر عظيمة، ولقد قال الله لكم قبل الرباط أن تصبروا وتصابروا.
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [آل عمران:200].
ولا تستطيعون مواصلة الجهاد بدون صبر، لأن الجهاد أثقل العبادات، وأثقلها عليك أن تعيش مع مجموعة قد لا يرضيك تصرفها، أو يسرك سلوكها، ومع ذلك تصبر، ولن تنال الأجر الأوفى، والجزاء الأمثل، إلا بالصبر على الأصحاب.
وفي الصحيح: ((الغزو غزوان فمن غزا ابتغاء مرضاة الله، وياسر الشريك)) – أي كان يسراً في أخلاقه سهلاً مع أصحابه، باشاً في وجوههم، يتغاضى عن هفواتهم، ويطبق جفنيه عن أخطائهم، ويقيل عثراتهم – ((وياسر الشريك، وأطاع الأمير، وأنفق الكريمة، واجتنب الفساد، فذاك نومه ونبهه أجر كله)) [9] ، القلم يجري عليك بهذه الشروط الخمسة، أن تخرج ابتغاء مرضاة الله، وأن تطيع الأمير وأن تياسر الشريك، وأن تنفق مالك – وأن تنفق الكريمة –، وأن تجتنب الفساد، فلا نميمة، ولا غيبة، ولا حسد، ولا تفريق، ولا تمزيق، ولا استغلاء، ولا رياء، ولا نظر لنفسك، ولا النظر إلى الآخرين من الفوقية، إن تنظر إليهم كإخوانك، إن لم تنظر إليهم أنهم خير منك، وهذا الأفضل أن تنظر إلى الناس أنهم خير منك، وهذا الأفضل أن تنظر إلى الناس أنهم خير منك، وأن لا ترى العيب في عين أخيك، ولا ترى العيب في عينك، ((لم يرى أحدكم القذى الصغير في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عينه)) [10].
انظر إلى عيوبك، انظر إلى نفسك، وعندها ستصبر على الناس، وتدرك أن أولى الناس بالإصلاح هي نفسك التي بين جنبيك.
أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير [آل عمران:162].
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم...
[1] قطعة من حديث طويل رواه مسلم في صحيحه.
[2] رواه الطبراني في الكبير بنحوه ، كما في الترغيب والترهيب للمنذري 2824.
[3] قطعة من حديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ورواه أحمد وقال الألباني إسناده صحيح لغيره ، انظر صحيح الجامع الصغير 7957.
[4] جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه.
[5] جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه.
[6] في البخاري ومسلم بنحوه طويلاً.
[7] هذا كلام المرجفين على الشعب الأفغاني.
[8] أي المرجفين.
[9] الحديث بنحوه في صحيح الجامع الصغير (4117).
[10] الحديث بنحوه في صحيح الجامع الصغير (1013).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
مع سعد الرشود
يمر في خاطري وأنا أتحدث عن الصبر شبح أخي الحبيب الشهيد (سعود البحري)، (سعد الرشود) الذي جاء ستة عشر شهراً متواصلة، وطاف أفغانستان كلها يركب متن جواده، يطير على متنه، كلما سمع فزعة أو هيعة طار إليها، يبتغي الموت مظانّه، قلت له: يا سعود نحضر لك أسرتك، قال: لا، دعهم يجاهدون بصبرهم على فراقنا، قال لي: لقد نسيت صور بناتي الثلاث، وذات ليلة رأيت إحدى بناتي تداعبني في المنام، وشدّ الحنين إليها قلبي، فانتبهت من نومي مذعوراً، وعلمت أنها رؤيا شيطانية تريد ابنتي أن ترجعني بحنيني إليها، فتفلت ثلاثاً على شمالي ثم نمت مرة أخرى، قلت له: يا سعود أو تذهب إلى (جوزجان)؟ قال: كما ترى، إن كنت ترى أنا أذهب إليها، حيثما وجهتني أتوجه. وذهب سعود، وغاب ستة أشهر بين ثلوج الشمال، وعلى ضفاف نهر (آمو جيحون).
عجبت لهؤلاء!! بأدبهم، وتربيتهم، وصبرهم وطاعتهم، ما عاشوا في جماعة إسلامية، وما تلقوا التربية الطويلة على أيدي المربين، ولكنه الإخلاص يفيض الله بسببه على القلوب من أنواع النعم، وعلى الجوارح من أنواع السلوك، ما تستحي النفس البشرية أن تتحدث عن هؤلاء كأنداد.
صدقوا أيها الأخوة كنت وأنا أتحدث إلى هذا الشاب أشعر بضآلتي، وقزامتي، وصغري، أمام هذا العملاق الكبير، وقد مضى بخفيةٍ إلى ربه، جاء غريباً، وعاش غريباً، ومضى غريباً، وطوبى للغرباء الأخفياء، الأتقياء، الأبرياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا. ولم يفتقدهم الكثير، ولم يعرفهم الكثير، وحتى الآن أنا أعلم أن بينكم أناسا لا يعرفون صورة سعود، ولا يتذكرونها، ولكن ما يضير (سعود)، وما يضيرك يا (عبد الوهاب)، وما يضير (أبا حمزة) و(أبا عثمان)، إن كان أبناء مكتب الخدمات لا يعرفونك؟ وكما قال عمر: إن كان عمر لا يعرفهم فرب عمر يعرفهم. مضوا إلى الله، ولم يدعهم رب العزة بدون أن يرينا كرامات حتى بعد موتهم، وقد حدثني أبو داود – وهو بينكم – أنه رأى بعينيه ليلة الاثنين النور يتصعد من قبورهم إلى السماء، وعلى شكل قوس يعود إلى قبورهم ثم يعود هكذا، نور في الدنيا، ونور في البرزخ، ونور إن شاء الله على الصراط، ولن يعدموا – بإذن الله –، ونرجو الله أن لا يعدموا من رؤية نور وجه ربهم في الفردوس الأعلى، حيث يقول لهم: سلام عليكم أهل الجنة سلام قولاً من رب رحيم.
يا أيها الأخوة!
الصبر.. الصبر على هذا الطريق، مياسرة الشريك، محبة الأصحاب، الصبر على المشقة، الصبر على الإخوة، الصبر على الأمير، الصبر على الطعام، الصبر على الجهاد، الصبر على حمّارة الكيظ، الصبر على البرد، الصبر عن الغربة عن الأهل والخلان والأحياء والجيران.
هذا هو الطريق، فاصبروا عليه حتى تلقوا رسولكم على الحوض.
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون [آل عمران:200].
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديماً، فقال تعالى ولم يزل قائلاً عليماً، وآمراً حكيماً، تنبيهاً لكم وتعليماً، وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
عباد الله!!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
اذكروا الله يذكركم، واستغفروه يغفر لكم.
(1/1396)
الصدق مع الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الله عزام
بيشاور
سبع الليل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الصدق. 2- مطابقة الظاهر للباطن. 3- لا ينفع إلا العمل الصادق المتجرد لله.
4- الأتقياء الأخفياء. 5- الجزاء من جنس العمل. 6- أهمية الإخلاص والتحذير من الرياء.
7- مثالان في الصدق ابن تيمية وسيد قطب.
_________
الخطبة الأولى
_________
يا من رضيتم بالله ربا وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولا اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [التوبة:119].
الصدق الذي تتكلم عنه هذه الآية من سورة التوبة إنما هو مطابقة الأمر للواقع وللحقيقة، أو استواء السرائر مع الظواهر، أو استواء البواطن الخافية مع الأمور المعلنة.
فلو فتحت صدر الإنسان الصادق وأعطاك الله الاطلاع على قلبه لما وجدت هنالك اختلافاً بين الصفيحة المعلنة وبين السريرة المخبأة، وهذا حال الصادقين، بل إن بعضهم سريرته أفضل من ظاهره، وكان السلف رضوان الله عليهم يقولون: (اللهم اجعل باطننا خيراً من ظاهرنا، واجعل ظاهرناً خيراً).
مطابقة الظاهر مع الباطن:
ومن نعم الله عز وجل، أن هذه القلوب تتعامل مع علام الغيوب، مع الله عز وجل، والسرائر لا تبقى مخفاة طويلاً، وهي تفترق مع الظاهر أحياناً، ولكنها لا تطيق إلا أن تتطابق بعد فترة؛ فإن كانت سريرته خيراً لابد أن يظهرها الله عز وجل، وإن كان باطنه شرّيراً لابد أن يظهره الله، وما أسرّ أحدٌ سريرة إلا أظهرها الله عز وجل على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه.
يستحيل أن يبقى الإنسان مخادعاً لنفسه طويلاً، لأنها فطرة فطر الله الناس عليها، فطرة الله أن تنطبق الظواهر مع البواطن، فإذا افترق خط الظاهر مع خط الباطن لفترة؛ بنفاق أو كذب أو رياء أو غير ذلك لا يستقيم هذا الحال طويلاً، لأن الفطرة قد فطرها الله عز وجل على أن لا تتقبل الباطل طويلاً، ولا تطيق المداهنة أمداً بعيداً.
كل فطرة وكل قلب يحب أن يعود إلى فطرته التي فطره الله عليها.
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة [البقرة:138].
فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم:30].
ومن هنا فالفطرة الحقيقية التي صبغها الله وخلقها بيده سبحانه؛ لا تطيق الزور والبهتان ولا تطيق الكذب لطويل من الزمان.
ولهزة من الهزات بتذكير من بعض الدعاة، أو بسماع آية من الآيات تجد هذه الفطرة تنتفض وتهتز وينتفض عنها ركام الواقع وركام الزور والبهتان والباطل، ثم تنطق بالحقيقة.
وكم من الناس يظلمك أو يكذب عليك أو يخطط لك، وأمام صدقك وصبرك الطويل تجد فطرته تنتفض، فيعبر عن ندمه وخطئه إما بدموع هاتنة [1] بين يديك، أو بتوبة صادقة على يديك، ويفتح لك هذا القلب الذي ما أطاق الباطل والبهتان طويلاً.
فأما الزبد فيذهب جفاء، ولا ينفع في العمل إلا الصدق، ولا يقبل الله عملاً إلا إذا كان صادقاً.
ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:3].
كما قال الفضيل بن عياض: (أصوبه وأخلصه)، وأخلصه: من الرياء، وأصوبه: يعني أصدقه؛ ما كان موافقاً لسنة رسول الله ، ولما جاء به الوحي الأمين من عند رب العالمين.
وبدون الصدق لن يستقيم لنا أمر، ولن تصلب لنا قناة، ولن نستمر على ثبات، ومآلنا إلى تمزق وشتات.
كم من الناس كانوا يخطبون، أوتوا جوامع الكلم، ويعجبك في لحن القول، ويلوون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وكان الناس يتجمعون حولهم، وكنت أطمئن قلبي أن هذا الأمر لن يستقيم طويلاً، لأن الزبد لن يمكث في الأرض.
فأما الزبد فيذهب جُفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
لن يعيش في الأرض ولن يستمر إلا الحق، وما نبت منه، والخبيث ليس له جذور في أرض الواقع، وليس له استدامة في الحياة.
ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار [إبراهيم:24].
إن الخبث لا يستطيع أن يتماشى مع الفطرة الإنسانية، ولا يستطيع أن يضرب جذوره في القلوب البشرية، ليس له جذور في أعماق الفطرة الإنسانية، إنه طارئ ويبقى مؤقتا، وسرعان ما يزول كما تزول البثور عن الجلد إذا ظهرت، إنها عبارة عن دمامل وقروح، وسرعان ما يتغلب عليها الجسد وتزول من فوق البشرة.
وأما الحق فإنه ثابت عميق مستمر وإلى أن نلقى الله عز وجل. والسبب: أن الله هو الحق، ولا ينصر إلا الحق، ولا يديم إلا الحق، ودينه الحق.
ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل [الحج:62].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال.
كان الناس يتجمعون حول بعضهم – كما قلت لكم – كنت مطمئنا أن الزبد لن يبقى، كنت مطمئنا أن الخبث لن يعيش، وكنت أطمئن من حولي: هذه عبارة من فقاعات، ورغوة الماء سرعان ما تنفض، والله عز وجل يقول: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث [المائدة:100].
والخبيث يركمه رب العزة بعضه فوق بعض، يركمه جميعاً، فيجعله في جهنم وأصحابه هم الخاسرون.
وتمضي الأيام – ومن خلال تجارب الحياة – لتثبت ما كانت تحدثني به نفسي: أن الزبد لا يعيش، وأن الغثاء لا يستمر، وأن سفساف الأمور مآلها إلى الزوال، وسرعان ما تزول بهبَّة ريح من اليمين إلى الشمال.
ولذا فقد كان السلف رضوان الله عليهم حريصين على الحق وإن كان مراً، حريصين على الصدق وإن كان ثقيلاً، حريصين على مطابقة الظواهر مع البواطن وإن كان من أحمز الأمور وأشقها.
أحدهم تجده وهو يحرص أن يكون له أعمال بينه وبين الله عز وجل لا يطّلع عليها أحد من الناس، فإذا اكتشف الناس عباداته تجده سرعان ما يفارق مكانه ليختفي بين العوام.
كان الإمام أحمد – رحمه الله – إذا مر في الشارع يسير بين الحمّالين حتى لا يشار إليه بالبنان، حتى يظنه الناس حمالاً – شيّالاً وعتّالا – فلا يشيرون إليه البنان.
كان أحدهم إذا دخل المعركة يتلثم، أو جاء بغنيمة كبرى يتلثم ثم يضعها حتى لا يعرف الناس اسمه.
وكلكم تعرفون صاحب النقب يوم أن حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا من الحصون فترة طويلة، وذات ليلة انسلّ أحد المجاهدين وتسلق سور الحصن، ونزل على الحراس، وقتل الحارس وفتح نقباً في السور، ودخل الجيش الإسلامي، واحتل الحصن، ونادى طويلاً، نادى مسلمة طويلاً: أيكم صاحب النقب؟ فلم يتقدم إليه أحد، وذات ليلة وإذا بفارس ملثم يدخل خيمة مسلمة ويقول: أتحب أن تعرف من صاحب النقب؟ قال: نعم، قال: بشرط؛ أن لا تذكر اسمه لأحد، وبشرط أن لا تثيبه ولا تجازيه، قال: نعم، قال: أنا صاحب النقب، ولم يذكر اسمه ثم فر هارباً. فكان بعدها مسلمة كلما توجه إلى القبلة بالدعاء يقول: (اللهم احشرني مع صاحب النقب).
أعمدة البناء :
هذه النفوس الصادقة والنماذج الرفيعة هي التي كانت تحفظ المجتمع الإسلامي من الانهيار، يوم أن كانت الشهوات تتسلط على الأمراء وعلى الحكام؛ كان الذي يحفظ المجتمع من الانهيار، ويحفظ الأرض من الاهتزاز، ويحفظ الناس من التمزق والشتات؛ هذه النماذج الرفيعة التي بقيت طيلة المجتمع الإسلامي منبثّة وبِنسَبٍ قد تقل أو تكثر، هذه تمثل أعمدة البقاء لهذا البنيان الذي يسمى "المجتمع المسلم". وهذه الأعمدة الإسمنتية المسلحة قد يكون عدادها أربعة ولكنها تمسك – وعلى قرونها تمسك – بنيانا ضخما قد يصل إلى مائة طابق أو يزيد أو يقل.
وكلما خلا المجتمع من الصادقين، وكلما اختفت هذه النماذج الرفيعة التي يقول عنها : ((الأخفياء الأتقياء الأبرياء)) [2]. كلما اختفت تدريجياً من المجتمع – كلما بدأ المجتمع يتآكل وينهار ويتشتت ويتمزق.
ولذا؛ فليست مشكلة الإسلام اليوم سوى قلة الصادقين بين العاملين لله، سوى قلة الأخفياء الأتقياء الأبرار الذين يتصدرون لقيادة الأمم، ويتصدرون لتوجيه السفينة، فإذا أمسكت السفينة يدٌ صادقة قادتها إلى شاطئ الإسلام بشراع الأمان وبيد القوي الأمين، المجاهد الصادق الذي لا يُعرف اسمه ((الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا)) ، غابت ملامح وجوههم وراء غبار المعركة، وغطى صليل السلاح وقذائف الطائرات والدبابات على مسامعهم فلا تسمع الغثاء، وليس عندهم وقت لاستماع غيبة أو تجسس أو نميمة أو ريبة، فالأمر أعظم من ذلك، الأمر جلل، الأمر أكبر من أن يلتفت إلى نقيق ضفادع أو إلى نعيب غربان، إن الأمر أعظم من ذلك.
وكما قال لعبد الله بن عمرو بن العاص في الحديث الحسن الذي رواه أصحاب السنن: مر علينا رسول الله ونحن نصلح خُصّاً لنا قد وهى – خصاً من القصب ومن الخشب قد ضعف –، فقال : ((ما أظن الأمر إلا أعجل من هذا)) [3].
أنتم مشغولون بتصليح خُصّكم؟ إن الأمر – أمر الآخرة – أعجل من هذا. ومن هنا كانت الآخرة تشغل حياتهم، كانت رقابة الله تكف أنظارهم عن كل شيء، هم ينظرون إلى الدنيا من قمم عالية، وما أصغر الدنيا للذين يحلقون في أجواء السماء، ألم تركب الطائرة؟! إن أرض المطار كبيرة في نظرك وأنت على الأرض، فإذا غادرت أرض المطار تختفي العمارات الشاهقة تدريجياً، ثم تختفي كل الأرض نهائياً، إنك الآن تحلق في الفضاء، وتشق عنان السماء، ولذا لم يبق لك في الأرض تعلق ولا ارتباط. هكذا كان السلف، هكذا كان الصادقون، هكذا كان الصالحون.
الجزاء من جنس العمل:
والله عز وجل من حكمته ونعمته ورحمته، أنه يعامل الناس بما يطوون في مكنون ضمائرهم، وأنه يعاملهم بما تدخره صدورهم من سرائرهم وبما تتوجّه إليه نياتهم، وسبحان ربي! إن العقوبة من جنس العمل، هكذا علّمتنا السنة، وعلّمنا قبلها الكتاب.
فاذكروني أذكركم [البقرة:152].
ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم [الحشر:19].
نسوا الله فنسيهم.
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [آل عمران:54].
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون [النمل:51].
قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما قال: (لقد وجدنا في التوراة أن من حفر لأخيه حفرة أوقعه الله فيها)، قال هي في القرآن: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله [فاطر:43].
الظلم أول نتيجة على صاحبه. وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [النمل:118].
المكر نتيجة على صاحبه. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [النمل:51].
الكيد كذلك يكيد الله لهم [4] ، وهكذا.
فإياك أن تظن أن مكنون ضميرك خافٍ – إن أخفيته على الناس لفترة – خاف عن علام الغيوب الذي خلق هذه القلوب وبيده مفاتيحها سبحانه وتعالى، إياك يا أخي أن تسر سريرة لا يرضاها الله عز وجل، وإياك أن تنوي نية لا يقبلها الله عز وجل، إياك، إياك ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكم امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) [5].
قلت: كم هزّني جواب أحد الأخوة عندما قلت له: ألا تتزوج من هذه البلاد؟ قال: لا أتزوج حتى لا أخلط هجرتي، حتى لا تختلط هجرتي بشيء من الدنيا.
محور المجتمعات:
يا أيها الأخوة:
إن أعظم الناس الذي يغيّرون المجتمعات؛ ثلاثة من البشر: العالم، والكريم، والمجاهد. هؤلاء – الثلاثة أصناف – هم محور المجتمعات، حولها تدور، وهم قاعدتها، إذ يحملون بصلابة كواهلهم كل المجتمع، فلذلك هؤلاء الثلاثة إن صدقوا، العالم، والكريم، والمجاهد، يصبح المجتمع طاهراً نقياً متماسكاً، وإن ساءت نياتهم وفسدت طوياتهم، تحول المجتمع كله إلى ركام من القمامة، لأن القلوب كالفاكهة، كالزهرة، إن كانت هذه الفاكهة نقية ناضجة فهي لا تعبق إلا عطراً، ولا تعطي إلا لذة وحلاوة، وإذا فسدت – كالفاكهة التي تفسد – لا ينبعث منها إلا الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف وتتقزز لها الأبدان.
فإذا فسدت القلوب بدأت الروائح الكريهة التي تؤذي المجتمع كله من الفساد، والنميمة، والغيبة، والريبة، والظن السيء وغير ذلك، وهذه تحول المجتمع كله إلى مجتمع متنافر متدابر، كلٌ آخذ بأنفه حتى لا يشم الرائحة من جاره أو ممن كان بقربه.
هؤلاء الثلاثة يحذرهم رسول الله - في الصحيحين كما جاء في الرواية – ((أول ما تسعّر النار يوم القيامة بثلاث)) – ثلاثة أصناف من البشر ((عالم ومنفق ومجاهد)) ، هؤلاء أول وقود النار، العالم والمنفق والمجاهد، يا لله! مجاهد قدم دمه وبعد ذلك يكون أول وقود النار، منفق لم يبق في جيبه درهم يحيى به المجتمعات، ويسد به الحاجات ويغيث به، ويفرج الكربات، به تسعّر النار ويكون من حطبها ووقودها!!، نعم هكذا في صحيح مسلم: ((أول ما تسعر النار يوم القيامة بثلاث: عالم، ومجاهد، ومنفق كريم، أما العالم فيأتي الله به ويسأله ماذا فعلت في الدنيا؟ فيقول: تعلمت العلم في سبيلك، ونشرته ابتغاء مرضاتك، - أو كما قال فقال: كذبت تعلمت ليقال عنك عالم، وقد قيل، فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار، ثم يؤتى بالمنفق فيقال له: ماذا فعلت في الدنيا؟ اكتسبت المال من حلال، وأنفقته في سبيلك، كذبت، أنفقت المال ليقال عنك جواد، وقد قيل، فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار، والثالث: ماذا فعلت؟ قاتلت في سبيلك حتى قتلت، كذبت، قتلت ليقال عنك جريء، وقد قيل فأخذت أجرك في الدنيا، ثم يأمر به فيلقى في النار)) [6].
فعندما سمع معاوية هذا الحديث من أبي هريرة بكى حتى اخضلت لحيته ثم أغمي عليه، وبعد أن أفاق قال معاوية صدق رسول الله يقول الله عز وجل: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16].
وقبل أن أقرأ هذه القصة عن سيدنا معاوية ما كنت أمر على هذه الآية إلا وتهزني من أعماقي ولعلها أخوف آية كنت أمر عليها عندما كنت أقرأ القرآن: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16].
والبشر قد تغيب عنهم قدرة الله فترة، وقد لا يقدرون الله حق قدره، أو لا يرجون وقار الله، ولا يجلّونه حق جلاله، فيتعاملون مع البشر كأن القوة النهائية والنتيجة الختامية بأيديهم، وهم لا يعلمون. بشر تغيب عنهم قوة العزيز الجبار، فيتسلطون ويظلمون ويبطشون، ويحاولون أن يخفوا آثار الصادقين، ولكن الحق الذي لا يقبل إلا الحق، والطيب الذي لا يقبل إلا طيباً، سبحانه إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره الظالمون والمجرمون.
أمثلة حية من التاريخ:
أنا أضرب لكم مثالين من التاريخ الإسلامي القديم والحديث.
المثال الأول: شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لقد أفتى أن طلاق الثلاث في جلسة واحدة يقع طلقة واحدة وخالف، به فقهاء المذاهب الأربعة، وأفتى بذلك تلميذه ابن القيم، فوضعوهم على جمل طافوا بهم في دمشق وأغروا بهم السفهاء، والولدان وراءهم يطقطقون، ويصفقون، ويهزؤون، وألقي ابن تيمية في السجن، ألقي في السجن، يحدث في الفتاوى يقول: - لقد كنت أتفقد بعض الأسر قبل أن ألقى في السجن، وعندما ألقيت في السجن قطعت هذه المعونات للأسر الفقيرة، فكنتُ متألماً على هذا، وكانت الأخبار تأتيني إلى السجن من الأسر: أنك تأتينا بنفسك وشكلك، وتدفع لنا نفس المبلغ الذي كنت تدفعه.
يقول ابن تيمية: إن إخواننا من الجن يقومون بمقامنا، إذا تنكرت الأرض كلها فعالم الجن والملائكة مع المؤمن، عالم الجن المؤمن.
يقول ابن تيمية كلمته المشهورة: (ماذا يصنع فيّ أعدائي، إن جنتي وبستاني في صدري لا تفارقني، - إن جنتي وبستاني ومحل استظلالي من هاجرة المجتمع وحره في صدري لا تفارقني – إن سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن نفيي سياحة، ولو أعطيت الناس الذين سجنوني مقدار ملء هذه القلعة ذهباً ما وفيّتهم الحق الذي أعطاني الله إياه، ومات ابن تيمية، وأخذت بعض رسائله بعد أن قطع عنه القلم والورق عن السجن فكان يمسك ببعض حجارة السجن والملقاة على أرضه ويكتب على الجدران، فنقلت هذه، وأحرقت كتبه، وظن الطغاة أنهم قد أطفئوا نور هذا العالم وغيّبوا معالمه.
ويدور الزمان، بعد ستة قرون ونصف تماماً، يظهر الله في الجزيرة العربية البترول – والذين يظهر عندهم البترول، علماؤهم تربوا على كتب ابن تيمية – وبهذه الأموال الضخمة طبعت كل كلمة كتبها ابن تيمية، ووزعت على كل أرجاء الأرض، فلا تكاد مكتبة إسلامية في الأرض تخلو من كتاب أو أكثر من كتب ابن تيمية، وأيُّ عالم في الأرض الآن أشهر في أذهان المسلمين من شيخ الإسلام ابن تيمية؟! بعد ستة قرون، إنه الصدق العجيب الذي يفجره الله ذكراً حسنا في الأرض وترحيباً من الملأ الأعلى في السماء.
وهذا سيد قطب مثال آخر:
رجل كان يعيش بين ظهرانينا، عرضت عليه الدنيا كلها، عرضت عليه الوزارة وهو وراء القضبان، وعرضت عليه الدنيا؛ أمانة الاتحاد الاشتراكي، مديرية المطبوعات والنشر، وزارة التربية والتعليم.
وخلال فترات متراوحة من سجنه الذي قضى معظمه في داخل شفخانة السجن، داخل مصحة السجن، إذ أنه كان يحمل في طيات بدنه الناحل قائمة من الأمراض، وكان إذا زار السجن أحد الزعماء الذي يحبون الإسلام وطلب مقابلة سيد، يحتاج إلى حمام ساخن، يجلس في الماء الساخن لمدة ساعتين – حتى يستطيع مقابلة الناس.
أعدم سيد قطب، وقبل هذا الإعدام كان يردد كلمته: "إن إصبع السبابة التي تشهد لله بالوحدانية في الصلاة لترفض أن تكتب حرفاً واحداً تقر به حكم طاغية". ومضى سيد قطب إلى ربه، وكم من المضحكات المبكيات.
وكم ذا بمصر من المضحكات وإن كان في شأنه كالبكا
لتتم المسرحية يأتون بأحد المشايخ يقابله قبل أن يصعد المشنقة يقول له: إن من مراسم الإعدام أن تقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، فقل يا (سيد) "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله"، فنظر إليه وقال له: حتى أنت جئت تتم المسرحية، حتى أنت يا هذا، أنت تأكلون الخبز بلا إله إلا الله، ونحن نعدم من أجل لا إله إلا الله. وأعدم سيد قطب في أعماق سجن الاستئناف، وحتى الآن لا يعرف أهله أين قبره.
ولقد كان أحد ذويه يشكو إليّ بمرارة: ليتنا نعرف القبر حتى نزوره، قلت له إن رب البشر يعرف أين قبره، ما حاجتكم بقبره؟
لقد لقي (سيد) ربه، و(الظلال) – طيلة حياته – لم يطبع سوى طبعة واحدة، وفي السنة التي أعدم فيها طبع (الظلال) سبع طبعات!! سبع طبعات، بل كانت المطابع النصرانية في بيروت إذا أشرفت على الإفلاس، تنصح بعضها حتى تنقذ نفسها من الإفلاس، تقول لبعضها: اطبعوا الظلال فإن حياتكم تعود إلى الاستمرار.
سر الإخلاص:
إن الإخلاص والصدق له سرّ عجيب في هذه الدنيا وفي الآخرة، إياكم أن تتعاملوا مع الله إلا بالصدق والإخلاص، إياكم أن تتعاملوا بالمكر والدهاء، إياكم أن تعجبكم أنفسكم فتقولوا: إنما أوتيته على علم عندي.
إياكم أن يوسوس لكم الشيطان فينفخ في عروقكم الغرور وحب الظهور، أو إيذاء المسلمين، فأنت تتعامل مع رب العالمين، وهذا الذي يقابلك – العبد الضعيف – إنما يدافع عنه الله: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) ، فهل تستطيع مبارزة رب العالمين في ميدان مكشوف، ومعركة حامية الوطيس؟ إن الذي تقابله لن تستطيع ضرّه.
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط [آل عمران:120].
لن يضروكم إلا أذىً وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون [آل عمران:111].
أيها الإخوة:
إن كنت داعية فاصدق الله، وإن كنت كاتباً فاصدق الله، وإن كنت حارساً فاصدق الله، وإن كنت مجاهداً فاصدق الله، وإن كنت موظفاً فاصدق الله.
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤتِ من لدنه أجراً عظيماً [النساء:40].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
[1] هاتنة: متتابعة.
[2] رواه أبو حاتم والبيهقي والحاكم وقال: صحيح ولا علة له انظر الترغيب والترهيب 3/444.
[3] حديث صحيح (راجع صحيح الجامع 2789.
[4] أي أن الكبد كالمكر أيضاً فمن كاد فإنه سيكاد له.
[5] رواه البخاري في صحيحه.
[6] الحديث مروي بنحو لفظه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يمرّ بخاطري – وأنا أتكلم عن الصدق – كلماتٌ سمعتها من سياف، يقول: كانت الصفوة الأولى من الدعاة في داخل أفغانستان في طهرها تقرب من الملائكة.
جاء أول شهيد في أفغانستان – وهو حبيب الرحمن المهندس – ذات مرة وهو في الجامعة يشكو لي قسوة قلبه، قال لي: يا سياف يا أخي إني أشعر بقسوة القلب، قلت له: وهل تجد له ملامح،، قال: صدق يا أخي أني قبل أن آتي إلى الجامعة كنتُ أسمعُ تسبيح الشجر والحجر والآن غاب عني ذلك كله في هذا الجو – في جو الجامعة المحموم -.
ثم يتابع سياف: هذا الشاب كان أول شهيد في أفغانستان، المهندس حبيب الرحمن الأمين العام للحركة الإسلامية الأفغانية، يتابع سياف فيقول: ثم ألقينا في السجن في زمن داود، وكانت الشوارع بجانب وزارة الداخلية تغلق عندما يبدأ تعذيبنا حتى لا يسمع الناس صراخنا، ونحن نصرخ في أعماق السجن، قال: كنت أقول في نفسي: هل هنالك مجموعة من البشر في الأرض تعلم أن هنالك فئة من المسلمين يعذبون لله وفي الله ومن أجل الإسلام في أعماق سجون أفغانستان؟
ما كان سياف، ولا غير سياف يظن أن قضية الصادقين المخلصين تنتقل من قضية محلية صغيرة إقليمية في أعماق السجون إلى قضية عالمية تهز العالم كله، وتحسب لها الدول الكبرى ألف حساب، إنه الصدق، الصدق، كلمة الحق، الكلمة الطيبة:
كشجرة طيبة أصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها [إبراهيم:24-25].
ويذهلك أن تسمع بداية هذا الجهاد، كذلك يقول سياف: - عندما جاء داود – التقيت بأربعة عشر شخصاً من شباب الحركة الإسلامية في جامعة كابل فقالوا لي: لقد قررنا القتال ولكن هل عندك مسدس واحد تقدمه لنا؟ قرروا القتال قبل أن يكون مسدس واحد، قال: فبحثت طويلاً وفشلت وعجزت أن أحصل على المسدس، وهرب الشباب إلى بيشاور، ومع ذلك قرروا أن يواصلوا المعركة، ويتحرك (الدكتور محمد عمر) بقنبلة واحدة يشتريها من (دره) وبمسدسين يتحرك من حدود باكستان إلى بدخشان على حدود الاتحاد السوفييتي ليقوم بالهجوم على مركز من مراكز داود التي بدأت تتلون باللون الأحمر، مسدسان وقنبلة!! يقطعون أكثر من ألف كيلو متر من أجل أن يلقوها على مركز من مراكز داود، ولم تذهب هذه المحاولات الصادقة، ولكنها في نظرنا الآن وفي نظر العسكريين كعبث أطفال.
لم تذهب هذه المحاولات الصادقة عبثاً، ولم تذر أدراج الرياح، بل فجر الله بهذه النوايا الصادقة، بهذه المحاولات البسيطة، فجر الله هذا الجهاد الضخم الذي حرك العالم الإسلامي خاصة، وحرك العالم كله.
وقبل أيام شهدتُ إسلام طبيبة فرنسية أسلمت بسبب الجهاد الأفغاني، وقبلها أسلم صديقها بسبب الجهاد الأفغاني.
يا أيها الإخوة:
إن الله يصنع بالنيات الطيبات، والمحاولات الصادقات، بالقلوب الصادقة، بالنوايا المطمئنة الراضية المخلصة، يصنع الله بها العجب في نظر البشر، في واقع الأرض، وفي الآخرة، فاصدقوا الله يصدقكم.
وكما قال عن الأعرابي الذي جاء وحضر أول معركة مع رسول الله فأعطاه الغنيمة، قال: ما اتبعتك لهذا، اتبعتك لأن أضرب هاهنا، فأدخل الجنة، ودخل معركة ثانية، فافتقده فوجد السهم قد أصابه حيث أشار، فقال : ((صدق الله فصدقه)) [1] ، فاصدقوا الله يصدقكم، وانصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
[1] القصة ثابتة كما في صحيح الجامع برقم (3756).
(1/1397)
اليهود كما ذكرهم القرآن
أديان وفرق ومذاهب
أديان
مشبب بن فهد القحطاني
الظهران
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة دراسة اليهود ونفسياتهم وأخلاقياتهم كما ذكرها لنا القرآن الكريم. 2- تحذير الله
لنا من سنن أهل الكتاب وقبائحهم. 3- قلة أدب اليهود مع الله عز وجل. 4- قلة أدب اليهود مع
الأنبياء. 5- دور اليهود في الإضلال والإفساد. 6- نقض اليهود للعهود والمواثيق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: نعيش هذه الأيام ضجة إعلامية حول ما يسمى بالانتفاضة، والتي أثارها اليهود بدخولهم إلى ساحة المسجد الأقصى، وقد تفاعل العالمُ مع هذه الحادثة، وتكلم المتكلمون بشتى أنواع التنديد والشجب والاستنكار.
وبعد فترة سيهدأ الجميعُ، وكأن شيئا لم يكن، وسيستمر المخطط اليهودي يمضي في تحقيق طموحاتهم حتى تحينُ اللحظة الحاسمة.. والتي يعود فيها المسلمون إلى دينهم الحق، ويرفعوا راية الجهاد ضد أعداء الله.
عندها تقف تلك المهازلُ التي تخرج علينا يوما بعد يوم، ويهزم الجبناء، ويطهر الأقصى، وتعود رايةُ التوحيد خفاقة كما كانت ،بإذن الله تبارك وتعالى..
أيها الأخوة: لقد كان الحديث في الفترة الماضية عن الجهاد وكيفية الإعداد له، وبعضِ طرق الأعداء التي حصرت الجهاد في مسائل محددة، وأضعفت أثره في النفوس.
أما حديثنا في هذا اليوم فسيكون بإذن الله عن أهمّ أعدائنا على الساحة الدولية وهم اليهود.. وسنبدأ هذه السلسة بذكر بعض صفات اليهود الذين أثاروا تلك المشكلة وغيرها، وسنعتمد على في ذلك على ما ورد في كتاب الله عز وجل العالِم ُبنفسياتهم وتفكيرهم، والعالمُ بماضيهم ومستقبلهم.
أيها الإخوة نذكر بهذا الموضوع لعدة أسباب من أهمها ما يلي:
الأول: لكي نحذر من الوقوع في تلك الصفات الممقوتة.. حتى لا يحصل لنا ما حصل لهم...من الغضب والذل والمهانة والطرد والإبعاد من رحمة الله.
الثاني: لكي نعرف واقع أولئك القوم، فلا نصدقهم ولا نهادنهم ولا نتعاون معهم بأي حال من الأحوال.
إخوة الإيمان: لقد أمرنا الله تعالى بالحذر والابتعاد عن صفات أهل الكتاب بشكل عام، واليهودِ بشكل خاص. كما أمرنا بمخالفتهم في أشياء كثيرة... ومما يدل على ذلك أمر ه تعالى لنا بأن ندعوه في كل ركعةٍ من صلاتنا بأن يبعدنا عن طريق اليهود والنصارى. ومن سار على نهجهم.. أمرنا أن نقول اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. ثم نقول بعد ذلك آمين.. نرفع بها أصواتنا...وترتج المساجدُ بأصوات الموحدين، معلنين البراءة من اليهود المغضوب عليهم ومن النصارى الضالين.
إن قولنا (آمين) في نهاية الفاتحة له معان عظيمةٍ يجهلها بعَضُ المسلمين. فينبغي.. أن نعيد النظر في معناها.. وأن نخرجها من قلب صادق مخلص لربه عز وجل.
كما حذرنا الله من قسوة القلب التي يتصف بها أهل الكتاب ومنهم اليهود فقال سبحانه أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
ونهانا عن التفرقِ والاختلاف الذي حل بهم فقال جل وعلا: ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.. وبشكل عام فنحن مأمورون بالحذر من أخلاقهم، والتشبه بهم في الأقوال والأفعال والمعتقدات.
وحتى نحذر من الوقوع في صفاتهم، فلعله من المناسب أن نستعرض بعض تلك الصفات الذميمة الممقوتة والتي منها ما يلي:
أولا: قلة أدبِهم مع الله عز وجل ومع ورسله صلوات ربي وسلامه عليهم: فاليهود يعتبرون من أقل الناس أدبا مع الله تعالى ومع رسله صلوات ربي وسلامه عليهم
فمن أمثلة قلة أدبهم مع الله عز وجل.. قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم: عزير ابن الله وقولهم يد الله مغلولة والجواب غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وقالوا أيضاً: سمعنا وعصينا.
ومن قلة أدبهم مع ربهم أيضاً أنهم قالوا لموسى عليه السلام أرنا الله جهرة..ولم يكتفوا بهذا كله بل ألفوا الكتب على حسب أهوائهم، وقالوا هذا كلام اللِه ومن عنده... يقول تعالى مبينا هذا الواقع فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ هذا غيض من فيض من أمثلة قلة أدبهم وعدم احترامهم لله عز وجل.. الذي أنعم عليهم بنعم لا تعد ولا تحصى، وفضلهم على العالمين في وقتهم.
أما قلةِ أدبهم مع الأنبياء والمرسلين فأكثر من أن يحصى ،فلقد آذوا موسى بشتى أصناف الأذى، مع علمهم بأنه رسول من الله إليهم مما جعل موسى عليه السلام يستنكر هذا الأسلوب القبيح فقال الله تعالى حكاية عنه وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ولذلك حذرنا الله من فعلهم فقال سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا. أما أذيتهم لعيسى فكثير أيضا، وقد بلغ بهم الحال أن حاولوا صلبه لكن الله تعالى نجاه منهم.. كما قال تعالى مقرراً اعترافهم بذلك: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا.
أما أذاهم للأنبياء صلى الله عليهم وسلم.. فيقول عنه سبحانه: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.
أيها الأخوة في الله: إن أناسا هذا طبعهم: قلةُ أدب مع الله ومع ورسله.. وقتلٌ لأفضل خلق الله.. ثم يطمع عاقل منهم أن يحترموه ويقدروه ؟ ويحسنوا علاقتهم به ويكفوا أذاهم عنه.. إن هذا ضرب من المستحيل ،وجهل بالدين.
ومن صفات اليهود المتأصلة في نفوسهم فعلُ المنكرات وعدمُ النهي عنها، ولذلك لعنهم الله تعالى بقوله لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
بل إن اليهود لم يكتفوا بفعل المنكرات، بل شجعوا عليها حتى لو أدى ذلك إلى أن يدفعوا من أموالهم ما يوفرها ويزينها للناس.. قال تعالى مبينا حالهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وكما هو معلوم أن هذه الآية نزلت في اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.. وهذه الرغبة في إفساد الناس، موجودة عند يهود اليوم. فالناظر إلى كبرى البنوك الربوية، ودور السينما ،ومصانع إنتاج الخمور والمخدرات وشركات التدخين وبيوت الأزياء وشبكات الجنس والمنظمات السرية وغيرها، نجد أن اليهود من ورائها.
وهذه الصفة الذميمة توعد الله أصحابها بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.. لذلك نحذر من تقليد اليهود في هذه الصفة فلا نحاول أن ننشر الفساد بين المسلمين سواء عن طريق البيع أو التشجيع أو السكوتِ على المنكر.. فلا نبع ولا نشتري المجلاتِ المنحرفة ،ولا الأفلامِ المحرمة، ولانبع ولا نشتري الدخان أو أجهزة اللهو الجالبة للفتنة.. ولا أيَّ شيء يفسد الأمة..فلنحذر من هذا الخلق الذي يتحلى به بعض المسلمين رغبة في جمع المال... فلا بارك الله في مال يُعذب به صاحبُه في الدنيا والآخرة.
إخوة الإيمان: أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إله الأولين والآخرين. وصلى الله وسلم على سيد ولد أدم أجمعين.. نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن أشهر صفات اليهود نقضهم للعهد والميثاق: فلقد نقضوا عهدهم مع الله ومع رسله في أكثر ِمن موضع.. وقد سطر الله ذلك في كتابه فقال سبحانه: أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون ويقول سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُون َ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.. حصل هذا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الإسلام وقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعاهدهم نقضوا العهد أكثر من مرة.. وتآمروا مع القبائل الكافرة ضد المسلمين.. حتى انتقم الله منهم وأخزاهم.
أيها الإخوة: إذا كان هذا دأبهم مع الله ومع رسله فكيف بغيرهم؟ لاشك أن غيرهم من باب أولى.. لذا ينبغي على المسلم عدم تصديقهم مهما أعطوا من عهود ومواثيق.. خصوصا أنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين كما أخبر بذلك المولى سبحانه وتعالى فقال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا كما أن المسلم يحذر من السير على منوالهم، فلا ينقض العهد والميثاق مهما كانت الأحوال.. استجابة لأمر الله تعالى حيث يقول: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون.
وأخيرا أيها الإخوة: هذا ما تيسر من ذكر أخلاق اليهود. ولعلنا في الجمعة القادمة نكمل ما بقي منها.. أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يعيننا على أنفسنا وعلى الشيطان. كما أساله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/1398)
آداب النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث ((الدين النصيحة)). 2- ثلاث خصال تصلح القلب منها النصيحة. 3- أهمية
النصيحة في إصلاح المجتمع المسلم. 4- النصيحة لله ولرسول ولكتابه ولأئمة المسلمين
وعامتهم كيف تكون؟ 5- النصيحة لا تسقط عن أحد ، وكل بحسبه. 6- النصيحة والغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا, اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا, اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا, ونعوذ بك أن نغتال من تحتنا, اللهم آمنا بك ربًا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد نبيًا ورسولاً.
أما بعد:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي أنه قال: ((الدين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) هذا الحديث يعتبر أصلاً من أصول الإسلام حتى قال محمد بن أسلم الطوسي: " هذا الحديث أحد أرباع الدين" أحد الأحاديث التي نأخذ منها الفقه في ديننا هو هذا الحديث.
وراويه هو تميم بن أوس الداري كان نصرانيًا فأسلم, منَّ الله عز وجل عليه بالإسلام, دخل طواعية, وقصة إسلامه عجيبة؛ حيث الذي دله على هذا الدين وعلى الإسلام هو الدجال الأعور الذي يجعله الله فتنة للعالمين, والحديث مسطر في صحيح مسلم.
يقول تميم بن أوس الداري عن النبي : ((الدين النصيحة)) أي الدين كله يجتمع في النصيحة, والنصيحة كثيرًا ما تتكرر سواء في القرآن الكريم أو على لسان النبي , فتارة يذكر الله عز وجل النصح للمسلمين عمومًا, وتارة يذكر الله عز وجل النصح لأئمة المسلمين خصوصًا, وتارة يأمر الله عز وجل أولياء أمور المسلمين أن ينصحوا لعامة المسلمين, فالدليل على أن المسلمين جميعًا لهم حق عندك, هو أن تنصحهم لما تعلم من الخير, وهو قول النبي في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة ((حق المسلم على المسلم ست)) وذكر منها عليه الصلاة والسلام: ((وإذا استنصحك فانصحه)) أي وإذا طلب منك أخوك النصيحة فعليك أن تنصحه بما تعلم من الخير, وهاك هذا الحديث الصحيح العظيم في أمر النصيحة, وهو ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن جبير بن مطعم, وكذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي أنه قال: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله, والمناصحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم, فإن دعوتهم تحيط به من ورائهم)) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
ما معنى هذا الحديث؟ معنى لا يغِل: مأخوذ من الإغلال, وهو الخيانة والشر, ويروى أيضًا لا يُغل وهو مأخوذ من الحقد والشر أو شيء من الدغل والشر, فعليك بهذه الثلاث, فإنك إذا التزمت بهذه الثلاث صلح قلبك, وأولى هذه الثلاث إخلاص العمل لله, فإن المرائي في عمله يجد في نفسه حقدًا على الناس, يجد أن نفسه ملئ بالحسد على من أوتي نعمة, أو على من عمل خيرًا, ولو كان هذا العمل من أمور العبادات مادام أنه لا يخلص العمل لله, مادام أنه إذا صلى, وإذا صام وإذا تواضع لا يعمل ذلك لله فإن قلبه لا يخلو من هذه الأشياء التي ذكرتها, إذا تواضع ليقال: فلان متواضع لا ينال الرفعة التي ذكرها النبي ((ما تواضع عبد لله إلا رفعه)) وكذلك سائر الأعمال لابد أن تكون لله.
والأمر الآخر: المناصحة لأئمة المسلمين أن يبادر الإنسان بنصيحة من آتاه الله عز وجل سلطانًا أن يكتب إليه, أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر, وهذا من النصيحة.
النصيحة لأئمة المسلمين, هذا يُذهب من القلب الحقد والدغل والشر؛ فإن الإنسان إذا كتم الذي في قلبه, وما باح به للذي في يده السلطة, ولم يستطيع التغير فإن هذا الذي في قلبه يستفحل ويكبر, أما إذا كان من الذين يعتلون المنابر, أو يذهبون للذين في يدهم الأمر أو يبرقون إليهم, أو يرسلون إليهم بما يحصل من فساد مثلاً, أو بما يحصل من تجاوزات فإن هذا هو الأمر الذي يصلح الله به قلوب العباد.
إخلاص العمل لله والمناصحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم, أن يلزم الإنسان جماعة المسلمين, إذا كان استقلاليًا منفردًا, اعتزل الجماعة فإن الشيطان يلقي في قلبه الحقد على جماعة المسلمين, فإذا حصل لهم خير تمنى أن هذا الخير لم يكن ولم يحصل, لماذا؟ لأنه لم يعد نفسه من جماعة المسلمين, أما وقد جعل نفسه من جماعة المسلمين فإنه يحب الخير لهم, يحب أن يكونوا على سداد في الأمور كلها, في أمور عباداتهم وفي معاشهم, وفي كل صغيرة وكبيرة, في دنياهم وأخراهم قال : ((فإن دعوتهم تحيط به من ورائهم)).
ما أعظم هذا الحديث. المعنى اختصارًا أن هذه الثلاثة هي التي يستصلح بها القلوب ويقول عليه الصلاة والسلام أيضًا في أمر النصيحة أيضًا: ((إن الله يرضى لكم ثلاث)) وذكر من ذلك عليه الصلاة والسلام ((والنصيحة لعامة المسلمين)) ويؤكد جرير بن عبد الله البجلي النصيحة لخاصة المسلمين, وذلك في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عنه أنه قال: "بايعت النبي على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم" أن ينصح لكل مسلم يلقاه في أمور دينه ودنياه, ولا يرفض ذلك من الناس إلا معتوه أو مجنون, ولكن الخطب والمصيبة هو في رفض النصيحة في الدين, إذا جئت لأحد ونصحته في أمر سيارته بل في أمر نعله الذي ينتعله وقلت له أنصحك أن تشتري نعلاً خيرًا لتقبل منك النصيحة بقلب رحب, وسر بذلك وعلم أنك تريد مصلحته, وكثير منهم يسر بمثل هذه النصيحة من أمور الدنيا, وإذا جئت إليه ونصحته بأمر من أمور الآخرة, بسنة من السنن قلت له: افعل كذا إن من السنة كذا وكذا, قليل ما هم الذين يقولون: جزاك الله خيرًا, بعضهم يستنكر هذا الحق, يأبى هذه النصيحة فليس المقام هنا نصيحة في أمور الدنيا, إنما المقام هنا عن النصيحة في أمور الآخرة.
ولسائل أن يسأل ما معنى النصيحة؟ ما هي هذه النصيحة؟ قال الخطابي رحمه الله تعالى في معالم السنن: النصيحة يعبر بها عن جملة, هذه الجملة هي إرادة الخير للمنصوح له, والنصيحة في اللغة مأخوذة من الخلوص تقول: خلصت العسل إذا نقيته من الشمع, فكأنك أنت تستخلص أخير ما عندك من الخير وتعطيه لهذا المسلم, هذه هي النصيحة التي يريدها النبي.
وما معنى النصيحة لله؟ النصيحة لله هي توحيده وعبادته عز وجل وإقامة أوامره, ومحبة من يحبه الله عز وجل, وموالاة من يواليه تعالى, وبغض من يبغضه عز وجل, والكره لكل معصية تقع على الأرض, هذا من معنى النصيحة لله.
ويقول محمد بن نصر المروزي في أمر النصيحة لله عز وجل: هو على وجهين كما قال بعض أهل العلم, نصيحة فريضة, ونصيحة نفل, أما الفريضة هي أن تقدم أمر الله عز وجل في الفرائض على كل أمر, أن تأتمر بأمره, وأن تنتهي بنهيه, هذه هي النصيحة لله فرضًا, والنصيحة لله نفلاً هي أن تحب الله سبحانه وتعالى على نفسك وذلك أن يعوض لك أمران أحدهما لله والآخر لنفسك, فتقدم أمر الله على نفسك, وهذا الأمر الذي هو لنفسك ليس من الأمور التي يرغبها الله, وإنما هو من الأمور المتاحة لك, ولكن هذا الأمر لما تعارض مع أمر يحبه الله تعالى قدمت أمر الله ومحبته على محبة نفسك, هذا هو النصيحة لله تعالى فرضًا ونفلاً إجمالا.
وعلى التفصيل أن الإنسان إذا أراد أن يؤدي فريضة لله تعالى وكان صحيحًا في بدنه, فعليه أن يؤدي هذه الفريضة وأن يشد على نفسه, أما إذا أصابته آفة, إذا حصلت به مصيبة لمرض أو لأمر عارض, فهل تنتفي النصيحة بالكلية؟ لا تنتفي النصيحة بالكلية, كل الأعمال قد ترتفع عن العبد في بعض الحالات, ولا ترتفع النصيحة عنه أبدًا, إذا لم يستطع ببدنه فعليه أن ينصح لله بقلبه, والدليل على ذلك قوله عز وجل في سورة التوبة: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ولا على الذين إذا ما آتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
هؤلاء نفر أتوا النبي في غزوة تبوك وكان منهم عبد الله بن مغفل المدني وكانوا فقراء وجاءوا للنبي حينما أمر بالاستعداد للرحيل للجهاد في سبيل الله, وقالوا: يا رسول الله, احملنا لا نجد ما نسير به إلى الجهاد, قال رسول الله ((لا أجد ما أحملكم عليه)) فتولى هؤلاء ورجعوا إلى بيوتهم وهم يبكون والدموع تذرف من أعينهم, لم يرجعوا فرحًا ولا اغتباطًا, وإنما رجعوا متألمين فأنزل الله سبحانه وتعالى مواساة لهم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج , ليس الحرج على أهل الأعذار, على الذين بهم علل أو بهم حرج, أو لا يجدون ما ينفقون, متى لا يكون عليهم حرج؟ قال سبحانه وتعالى: إذا نصحوا لله ورسوله , هذا دليل على أن النصيحة لا تسقط أبدًا, قد تسقط الأعمال ولكن النصيحة لا تسقط, وكيف ينصح هؤلاء في المدينة؟ ينصح هؤلاء في المدينة بأن لا يرجعوا فيها, وبأن لا يساعدوا المنافقين في نشر الإشاعات, وبأن يأخذوا على أيدي السفهاء بأن يعلموا العبادة في غيبة النبي إذا فعلوا ذلك فهم محسنون, سماهم الله محسنين؛ لأنهم نصحوا لله ولرسوله.
وهذا يدلنا على أن النصيحة لا تقتصر على العلماء, بعض الناس يقول نصيحة المسلمين من عمل العلماء فقط, أما عمل ما دون العلماء فلا تكون النصيحة منهم, لا, ليس الأمر كذلك, الأمر فيه تفصيل, إذا كان هذا الأمر الذي تراه من الضرورات ومن الأمور البينة الواضحة في أمر الدين, فينبغي عليك أن تنصح لله وأن تنصح للرسول بما تستطيع, نعم أن تبرق للمسئولين وأن تكتب هذا من النصيحة لله والنصيحة للرسول , وليس هو من التعيير, وليس هو من التشهير في شيء, وهذا هو دأب أهل السنة والجماعة مع أئمتهم ومع المسلمين جميعًا.
فنسأل الله تعالى أن نكون كذلك, وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه, أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضى من عباده باليسير من العمل وأفاض عليهم النعمة, وكتب على نفسه الرحمة, وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين محمد صلوات الله وسلامه عليه.
هنا كلام لأبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى صاحب التصانيف الكبيرة والوفيرة يقول في أمر النصيحة رحمه الله: "النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً, النصيحة لله تعالى توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال وتنزيهه عما يضادها ويخالفها, وتجنب معاصيه والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص والحب فيه والبغض فيه, وجهاد من كفر به تعالى, وما ضاها ذلك, والدعاء إلى ذلك والحث عليه, والنصيحة لكتابه هي الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه وتلاوته حق تلاوته, والوقوف مع أوامره ونواهيه وتفهم علومه وتدبر آياته والدعاء إليه ونبز تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه, والنصيحة للرسول قريب من ذلك الإيمان به وبما جاء به عليه الصلاة والسلام, وتوقيره وتعظيمه والتمسك بطاعته, وإحياء سنته واستنشار علومه ونشرها ومعاداة من عاداها وموالاة من والاها والتخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام, والتأدب بآدابه ومحبة آله وأصحابه صلى الله عليه وسلم والذب عن سنته.
جاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو يقول: فلان فيه كذا وكذا, يجرحه في روايته لحديث النبي فقام إليه رجل وقال: يا أبا عبد الله لا تغتب الناس, لا تغتب الناس, فقال: ويحك, أهذه غيبة, هذه نصيحة لله ولرسوله, هذه ليست من الغيبة, هذه من النصيحة لله ولرسوله.
ولذلك لو جاء إليك أحد وطلب منك النصيحة في مصاهرة فلان مثلاً, فعليك أن تبين له عيوب فلان هذا, وليس هذا من الغيبة في شيء, فالرسول لما جاءت إليه إمرأة تطلب النصيحة من فلان أو فلان, فقال : ((أما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه)) أي , أو أو ضراب للنساء, أي يضرب النساء كثيرًا, فلا أنصحك أن تتزوجيه ((وأما معاوية فصعلوك لا مال له ـ أي فقير جدًا ـ فأنكحي خيرًا)) نصحها عليه الصلاة والسلام بأن لا تتزوج هذين, فهذه من النصيحة التي ينبغي للمرء أن يبذلها لمن طلبها منه, قال أبو عمرو بن الصلاح: "والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وتذكيرهم به إذا نسوا, وتبيينه لهم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم, والدعاء إليه بالتوفيق.
والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى الحق وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم وسد خلاتهم, وستر عوراتهم ونصرتهم على أعدائهم ومجانبة الغش والحسد لهم, وأن يحب لهم ما يحب لنفسه, ويكره لهم ما يكره لنفسه وما شابه ذلك.
هذا الحديث الذي سقته أولاً حديث أوس بن تميم الداري وكذلك هذه الكلمات التي سقتها عن السلف الصالح إنما هي حث لنا جميعًا على أن نتحرك وننصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم, هذا استحثاث مني إليكم جميعًا على أن نبذل ما في طاقتنا لنعمل لهذا الدين إذا كنا ننصح للناس في أمر دنياهم فما أحوجنا أن ننصح لديننا وأن ننصح لآخرتنا ولدار الآخرة خير للذين اتقوا قال سبحانه وتعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيح أجر المصلحين.
(1/1399)
الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكبرياء صفة الله العظيم. 2- المخلوق لا يستحق هذه الصفة بحال. 3- وعيد الله للمتكبرين
. 4- الكبر من أعمال القلب ويظهر أثره على الجوارح. 5- ما هو الكبر؟ وما هي درجاته؟
6- عاقبة المتكبرين في الآخرة. 7- علاج الكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد, إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد, وما ذلك على الله بعزيز , اللهم إنا نسألك التقى والعفاف والغنى, اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا, اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا, اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا, ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا, أما بعد:
فإن من الأخلاق الذميمة التي تحمل الإنسان على ما لا يرضاه الله عز وجل من الأقوال والأفعال الكبر, الكبر هذا الخلق الذميم الذي أخرج بسببه إبليس من الجنة فاهبط من المقام الذي كان فيه.
الكبر هذه الصفة التي لا تنبغي إلا لله تبارك وتعالى, صفة الكبر هذه صفة كمال في ربنا عز وجل, وصفة نقص في المخلوق, قال : ((قال الله تبارك وتعالى: العز إزاري والكبرياء ردائي)), وفي رواية: ((والعظمة ردائي, فمن نازعني في واحد منهما عذبته)), وذلك لأن هاتين الصفتين من صفات الله تبارك وتعالى خاصة, لا يجوز للمخلوق أن يتصف بهما, فالله تعالى إذا اتصف بهما كان ذلك فيه كمال, والمخلوق إذا تجرأ ولبس شيئًا من هاتين الصفتين كان فيه نقصًا وعيبًا, قال الله تبارك وتعالى: سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق , فالمتكبر لا ينتفع بآيات الله؛ ذلك أن الله عز وجل يصرفها عنه سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق , والمتكبر لا يرى الحق أبدًا, بل يرى الحق باطلاً, ويرى الباطل حقًا, قال الله عز وجل عن فرعون: كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار , فالمتكبر متوعد أن يطبع الله على قلبه, فلا يرى الحقد على حقيقته, وقال عز وجل مبينًا أنه المتكبر إنه لا يحب المستكبرين , إنه لا يحب المتعالين المتغطرسين المتجبرين, والمتكبر عن عبادة الله تبارك وتعالى والخضوع له متوعد بدخول جهنم كما قال الله عز وجل: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين , بل إن المتكبرين من أكثر أهل النار عددًا كما صح ذلك عن نبينا إذ قال: ((قالت النار أوثرت بالمتكبرين)), ولذلك يقول سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: " من كانت معصيته في شهوة نرجو له توبة؛ فإن آدم عليه السلام عصى مشتهيًا فغفر له", أي ما حمله على المعصية الكبر, وإنما حمله على ذلك الملك الذي لا يبلى حمله على ذلك أنه يحب أن لا يعرى, فلذلك أقدم على الأكل من الشجة فإذا كانت معصيته من كبر فأخشى عليه اللعنة فإن إبليس عصى مستكبرًا فلعنه الله, وقال ـ والحديث في الصحيحين ـ: ((لا ينظر الله إلى من جر الإزار من الخيلة)).
فالكبر خلق باطن تصدر أعمال هي ثمرته, فتظهر هذه الأعمال على الجوارح؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح, وآفة الكبر عظيمة, وفيه يهلك الخواص, وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء, قال : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)), وإنما صار الكبر حجاب دون الخير؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين؛ لأن صاحبه لا يقدر أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه, فلا يقدر على التواضع, ولا يقدر على ترك الحقد والحسد والغضب, ولا على كظم الغيظ, وقبول النصح, ولا يسلم من الازدراء بالناس واغتيابهم, فما من خلق ذميم إلا وهو مضطر إليه, وما من خلق يكرهه الله عز وجل إلا ويرتكبه؛ ذلك أن الكبر قد دخل في قلبه, ومن شر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له, وقد تحصل المعرفة للمتكبر فيقف على الدليل ـ على ما قيل ـ, ويعرف أن الحق هو كذا, يقف على معرفة هذا الشيء, ولكن لا تطاوعه نفسه على الانقياد للحق أبدًا كما قال تعالى عن آل فرعون: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا , لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا , فآل فرعون كانوا يعلمون أن الحق ما جاء به موسى عليه السلام, ولكنهم جحدوا الحق استكبارًا وعلوا, وكذلك ما قاله الله عز وجل عنهم أيضًا: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون , وكذلك ما قاله الله عز وجل عن الأقوام الكافرة برسولها: إن أنتم إلا بشر مثلنا , أي أنخضع لكم وأنتم بشر مثلنا, تأكلون كما يأكل الناس, وتمشون في الأسواق؟ وذلك كبرًا من عند أنفسهم وعلو.
وآيات كثيرة ذكرها الله عز وجل فيها بيان خصلة الكبر, وأنها كانت السبب في رفض كثير من الناس الحق, وقد شرح النبي لنا الكبر شرحًا موجزًا مختصرًا جامعًا مانعًا, فكفى به مفسرًا, وكفى به مبينًا لمعناه, وذلك في صحيح مسلم أنه قال : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) فقال رجل: يا رسول, إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن, ونعله حسن! فقال : ((ليس ذلك, إن الله جميل يحب الجمال, الكبر بطر الحق وغمط الناس)), ويروى عنه : ((إن الكبر بطر الحق وغمص الناس)), إذًا الكبر هو هذا, إما بطر للحق أو غمط للناس, ومعنى بطر الحق: الاستنكاف عنه, وعدم قبوله والنظر إليه بعين الاستصغار, فإذا عرف الحق بطره أي رفضه, ولا يرضى أن يقبله, ويركب رأسه رغم البيان والحجة عليه, وغمط الناس: استصغارهم, وازدراؤهم والنظر إليهم من أعلى, فهذا هو الكبر.
والناس في هذه الآفة على ثلاث درجات.
الأولى: أن يكون الكبر مستقرًا في قلبه, فهو يرى نفسه خيرًا من غيره إلا أنه يجتهد ويتواضع, فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة إلا أنه قد قطع أغصانها, فهو يرى في نفسه أنه خير من غيره, يرى نفسه أعلى من الناس, يجد هذا الشيء في قلبه, ولكنه لا يتلفظ بموجب هذه الخصلة الذميمة, لا يتحول هذا الشيء الذي في قلبه إلى فعل, إلى قول, وإنما يكتم هذا ويظهر عكس هذا الموجب, يظهر التواضع وخفض الجناح للمؤمنين, فهذا إن كانت شجرة الكبر في قلبه إلا أن أغصان هذه الشجرة لا تنمو فقد قطعها.
الدرجة الثانية: أن يظهر ذلك بأفعاله من الترفع في المجالس والتقدم على أقرانه, والإنكار إذا قصر أحد في حقه, فترى بعضهم يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم, وكذلك العابد يعيش دوجه كأنه مستقذر لهم, وهذا قد جهلا ما أدب الله عز وجل به نبيه , إذ كان هو على رأس العلماء والعباد والزهاد ماذا قال الله تعالى له؟ قال الله عز وجل له: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين , ولا تمش في الأرض مرحًا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً.
الدرجة الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه كالدعاوى والمفاخر وتزكية النفس, وحكايات الأفعال في معرض المفاخرة بغيره, وكذلك التكبر بالحسب والنسب, فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك, وإن كان أرفع منه عملاً, وقد قال : ((ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) قال ابن عباس رض الله عنهما: يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك, أي أنا أكرم منك حسبًا, أو أكرم منك أبًا, وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى, قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وهذا من أسباب الكبر أن يتكبر الإنسان بوجاهته وحسبه ونسبه, أو أن يتكبر بالمال أو أن يتكبر بالجمال, أو أن يتكبر بالقوة وكثرة الأتباع, ونحو ذلك, فالكبر بالمال أكثر ما يجري بين التجار والأغنياء والرؤساء, والكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء ولذلك تراهن يغتبن غيرهن ويتنقصن من جمال غيرهن, وكذلك الكبر بالقوة, وهذا يكون بين الرؤوساء ومن لهم أتباع, وهذا يحصل عند بعض من يعلم وعند بعض من له مستفيدون, فهذا من أسباب الكبر. وأعلم أن التكبر يظهر في شمائل الإنسان, يظهر في حركاته فمن ذلك أنه يحب قيام الناس له, أنه إذا جاء مجلس من المجالس أحب أن يتمثل له الناس قيامًا.
فقد قال في الحديث الصحيح: ((من أحب أن يتمثل له الناس قيامًا فليتبوأ مقعده من النار)) وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما كان أحد أحب إلينا من رسول الله , وإذا رأيناه لا نقوم له لما نعلم من كراهيته لذلك, كان يكره أن يتمثل له الناس قيامًا, فمن الشمائل التي تظهر على الإنسان من جراء الكبر أن يحب أن يتمثل له الناس قيامًا, والسنة أن الإنسان إذا دخل مجلسًا أن لا يتمثل له الناس قيامًا, وإنما القيام عند الاحتفاء به والمعانقة واستقبال صاحب الدار لضيفانه واستقبال الرجل لأبنائه ونحو ذلك.
ومن صفات المتكبر أيضًا أنه لا يمش إلا ومعه أحد يمشي خلفه, يكره بعضهم أن يمشي وحده أو أن يحضر مجلسًا وحده, فهذا من الخصال التي تظهر كذلك على الجوارح من جراء الكبر.
ومن ذلك أيضًا أنه لا يزور أحد تكبرًا واستعلاءً أو استنكافًا, ومن ذلك أيضًا أن يستنكف من جلوس أحد إلى جانبه من الفقراء, وممن هم دونه, أو أن يمشي معه أحد من الضعفاء أو المساكين, فهذه خصال تظهر على الجوارح من جراء ما في القلب.
فأسأل الله عز وجل لي ولكم السلامة من هذه الخصلة الذميمة, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل, وأفاض عليهم النعمة, وكتب على نفسه الرحمة, وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين محمد صلوات الله وسلامه عليه.
الجزاء من جنس العمل قال في الحديث الصحيح: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال يطؤهم الخلائق لهوانهم على الله تعالى)) قال : ((يحشر المتكبرون)) أي يوم القيامة يكونون في أرض المحشر كأمثال النمل في صور الرجال, أقزام, أقزام لأنهم كانوا في الدنيا يرون أنفسهم عمالقة فيتكبرون على العباد, فالله سبحانه وتعالى يحولهم يوم القيامة إلى صور صغيرة كأمثال الذر في صور الرجال, تطؤهم الخلائق لهوانهم على الله تعالى.
وفي هذا الجانب يقول الله تبارك وتعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين , ولعلاج خصلة الكبر على الإنسان.
أولاً: أن يستأصل أصل الكبر من قلبه, وذلك بأمرين أن ينظر أولاً إلى نفسه فيعرف حقيقتها, وأن ينظر ثانيًا إلى ربه فيعرف مولاه ويقف على عظمة ربه, فأن يعرف الإنسان حقيقة نفسه بأن ينظر إلى أول أمره وإلى وسط أمره وإلى آخر أمره.
فينظر في أول أمره ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره , أي ما الذي حمله على الكفر من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره , فأول أمره نطفة مذرة وآخر أمره جيفة قذرة, ويحمل فيما بين ذلك العذرة, فإذا تفكر الإنسان إلى حقيقة نفسه وجد أن مآله إلى التراب, وأنه حقير, ولا يحسبن الإنسان أنه سيبقى إلى الدوام, ولذلك قال الله عز وجل: ثم إذا شاء أنشره , أي مآله إلى الله تبارك وتعالى, ومن ثم ينظر الإنسان إلى ربه تبارك وتعالى, وذلك بالتفكر في آلاء الله عز وجل وعجائب صنعته, فيتفكر في الجبال والبحار, وفي نفسه كيف خلقه الله عز وجل وصوره إنسانًا فمن عرف حقيقة ربه عرف حقيقة نفسه, ومن عرف حقيقة نفسه حقًا عرف حقيقة ربه تبارك وتعالى كما قال بعض العلماء.
والعلاج الثاني: أن يعارض أسباب الكبر, فإن كان سبب كبره الحسب والنسب فلينظر إلى أبيه كيف كان نطفة مذرة, فلينظر إلى أبيه وجده وجد جده, أين هم؟ أليسوا في التراب؟ فلربما من ترابهم صنع ما صنع من البنيان, فكذلك يذهب الإنسان الكبر بسبب الحسب والنسب.
وإذا كان الكبر بسبب الغنى فليتفكر الإنسان أن اليهود من أغنى العالمين, فيا لها من خصلة يسبق فيها الإنسان يهودي, ذمه الله عز وجل, فخصلة الغنى ربما تذهب بين عشية وضحاها, فإذا قدم سارق وسرق ماله أصبح صفر اليدين لا يملك ما يتكبر به.
وإذا تكبر بقوته وعظمته فليتفكر في الأمراض والعلل التي تنتابه, فإذا مرض وإذا أصابته حمى فإنه يصبح هزيلاً ضعيفًا, وإذا تعطل شيء من أعصابه أصبح لا يتحرك, وإذا كان الكبر بسبب العلم فليتفكر وليتنبه بأن للعلم تبعة, وأن الله سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة فيكون أول المقضين يوم القيامة رجل تعلم العلم ليقال عالم, وقرأ القرآن ليقال قارئ, فيكون أول المسحوبين على وجوههم في نار جهنم, ومن ثم يتفكر أيضًا أن الله سبحانه وتعالى يمقت المتكبرين, وأن الله عز وجل لا يحبهم ولا يوفقهم.
فبهذه الأسباب يتحصل الإنسان على التواضع, ولعنا نتكلم في خطبة قادمة عن التواضع وأسبابه, فنسأل الله عز وجل أن ينفعنا بهذه الموعظة, وأن يجعلها في قلوبنا, وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
(1/1400)
تفسير سورة الفجر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إقسام الله بمخلوقاته للدلالة على أهميتها. 2- العمل الصالح في عشر ذي الحجة. 3- معنى
الشفع والوتر. 4- الاتعاظ بما ذكر الله من الأمور التي أقسم بها. 5- قصة قوم عاد وكيفية
انتقام الله منهم. 6- الابتلاء يكون بالخير وبالشر. 7- حال المؤمن والفاجر مع نعم الله عز
وجل. 8- صور من عذاب يوم القيامة وتضاور أهل النار فيها. 9- قصة أسير في عهد أبي
جعفر المنصور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإيمان: يقول ربنا الرحمن بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر ألم ترى كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلف مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك صوت عذاب إن ربك لبالمرصاد فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لمًا وتحبون المال حبًا جمًا كلا إذا دكت الأرض دكًا دكًا وجاء ربك والملك صفًا صفًا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي , هذه آيات سورة الفجر, هذه السورة التي تتكلم عن عدد من الأشياء والأزمنة التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها, والله عز وجل ربنا يقسم بما شاء من خلقه, وليس لأحد من الخلق أن يقسم بغيره تعالى.
قال عز وجل: والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر خمسة أقسم الله سبحانه وتعالى بها, بدأ بالفجر, والله سبحانه وتعالى حين يقسم بشيء فإنما ليبين لنا عظم هذا الشيء, قال عز وجل: والفجر , والفجر هو الصبح كما هو معروف, قال ابن عباس وعكرمة وغير واحد من المفسرين: "هو انفجار النهار من ظلمة الليل" وعلى الراجح من أقوال العلماء المفسرين أن هذا الفجر هو فجر يوم النحر, هو فجر يوم الحج الأكبر, يقسم الله عز وجل به لعظمه, ولأن المسلمين يفعلون فيه كثيرًا من مناسكهم في المشاعر المقدسة, هذا هو الراجح, وذلك لأن الله عز وجل قرن هذا الفجر بالليالي العشر, وهي التي على الراجح عشر ذي الحجة.
وأقوال المفسرين في قوله تعالى: وليال عشر منحصرة في ثلاثة أقوال: عشر ذي الحجة, والعشر الأول من محرم, والعشر الأواخر من رمضان, والأقرب هو القول أن العشر هي عشر ذي الحجة, وقد ورد عن النبي فضل هذه العشر, ونحن مقبلون عليها, وما كانت هذه العشر مختصة بهذه الفضيلة إلا لحكمة بالغة, ومن تلك الحكمة البالغة أنه لما كان الله عز وجل قد غرس في نفوس المسلمين حنينًا وشوقًا على بيت الله الحرام, وإنه لما كان كثير من الناس لا يفدون إلى البيت الحرام للحج في كل سنة وقد جعل الله عز وجل الحج مرة واحدة في العمر, جعل الله عز وجل عشرًا من ذي الحجة يستوي فيه السائرون والقاعدون ينال فيه السائرون والقاعدون أجرًا عظيمًا, فإذا كان قد فاته الحج إلى بيت الله الحرام فإنه في العشر يعمل في بيته بعمل يفوق الجهاد في سبيل الله الذي هو أعظم من الحج المبرور كما ثبت عن رسولنا حين سأل عن أفضل الأعمال فقال: ((إيمانٌ بالله ورسوله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)).
وقد ثبت فضيلة هذه الأيام العشر في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسولنا أنه قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام)) يعني: عشر ذي الحجة. فقالوا: يا رسول الله, ولا الجهاد في سبيل الله؟ ـ وذلك لما ارتسم في أذهانهم من عظم الجهاد في سبيل الله تعالى ـ قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
وقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يعظمون ثلاثة أعشار من السنة: عشر ذي الحجة, والعشر الأواخر من رمضان, والعشر الأوائل من المحرم, وفي هذا الحديث دليل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل قد يكون خيرًا من الفاضل عند الله عز وجل, فهذه الأعمال التي تعمل في عشر ذي الحجة أفضل من الجهاد في سبيل الله لخصوصية هذه الأوقات والأيام, وذلك فضل من الله ونعمة, فكثير من المسلمين في آفاق الأرض لا يستطيعون حج بيت الله الحرام, فجعل الله عز وجل لهم هذه العشر كي يعملوا فيها الأعمال المعتادة, فعلى المرء أن يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن في هذه العشر التي ستقبل علينا, وأن يكثر من نوافل الصلاة, وأن يكثر من نوافل الصدقة والصيام, وخاصة صيام يوم عرفة لغير الحاج؛ لأن النبي أخبرنا أن صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية, فذلك فضل من الله تعالى ونعمة.
وعلى الإنسان الذي يريد أن يضحي وله سعة في الأضحية يمسك عن شعره وأظفاره من أول يوم من هذه العشر, وذلك لما أخرجه الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسولنا أنه قال: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)) وفي رواية, وفي لفظ لأبي داود والحديث رواه مسلم والنسائي أيضًا قال : ((من كان له ذبح يذبحه, فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره وأظفاره)), ومن أخذ من شعره وأظفاره وهو يريد أن يضحي فهو عاص؛ لأن الأمر منه يدل على الوجوب.
الله الله أيها الإخوان في هذه العشرة المقبلة, عليكم بالصدقة وترك المحرمات, وأروا الله من أنفسكم خيرًا فإن لله تعالى نفحات يقبل فيها عباده سبحانه.
ثم قال سبحانه: والشفع والوتر , أقسم الله تعالى بالشفع وأقسم بالوتر, وهذه الوتر أو تلك الشفع اختلف المفسرون في تأويلها وتفسيرها.
فمن قائل: أنها يوم النحر؛ لأنها اليوم العاشر, والوتر هو يوم عرفة؛ لأنه اليوم التاسع.
ومن قائل: الشفع هو الخلق, والوتر هو الله سبحانه وتعالى, وهذا القول وجيه وجيه, وذلك لقوله ـ والحديث في الصحيحين ـ: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة, والله وتر ويحب الوتر)) وفي رواية: ((إن الله وترًا يحب الوتر, فأوتروا يا أهل القرآن)) وهذا وجيه وذلك أن كل المخلوقات شفع, والله سبحانه وتعالى وتر حتى الحصاة التي ظنها البعض أنها وتر فهي في الحقيقة شفع, فعرفنا في زماننا أن كل شيء يتكون من جزئيات, وأن الجزئيات تتكون من ذرات, حتى الماء الذي ظنناه شيئًا واحدًا متكتلاً يتكون من جزيئين فما وصل إلى درجة الغليان تجزأ إلى اثنين, وإذا كان في درجة مؤتلفة من الحرارة بقى على ما هو عليه.
وصدق عز وجل حين قال: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون , والله سبحانه وتعالى خلق من كل شيء زوجين اثنين ليبقى سبحانه وتعالى واحدًا وترًا.
والشفع والوتر والليل إذا يسر يقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا سرى وقيل: الليل لا يسري ولكنه يُسرى فيه, فنسب الفعل إلى الليل, وهذا من البلاغة القرآنية, والليل إذا يسر وقال بعضهم هو ليل جُمَعٍ, أي هو ليل المزدلفة, وثبت عن بعض الصحابة أنه كان يقول أسر يا ساري فلا تبيتن إلا بجُمَع, أي فلا تبيتن إلا في المزدلفة, وعلى كلٍ فالليل من نعم الله سبحانه وتعالى, والله خلق الليل ليكون لنا لباسًا, وهذا منه سبحانه نعمة.
والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر , أي هل فيما مضى من القسم عدة لذي لب وعقل وسمى العقل حجرًا؛ لأنه يمنع الإنسان مما لا يليق به من الأقوال والأفعال, ومن ذلك قالوا: حجر الحاكم عليه إذا منعه من التصرف بماله, قال سبحانه وتعالى: هل في ذلك قسم لذي حجر.
هل نتعظ بذلك القسم الذي من الله سبحانه وتعالى فنراعي الفجر, ونراعي الأيام العشر, ونراعي خلق الله تعالى, ونراعي الليالي التي نعصي الله فيها هل في ذلك قسم لذي حجر لذي لب وعقل هل ينتبه المنتبهون؟ هل ينتبه العقلاء الفطنون أن الله سبحانه وتعالى ما جعل الليل والنهار إلا لكي نعبده, ما جعل الله الليل والنهار خلفة إلا لكي نتذكر ما جعل الليل والنهار, إلا لكي نصلي ونصوم ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون هل في ذلك قسم لذي حجر.
وهذا القسم من الله سبحانه وتعالى محتاج إلى مقسم عليه, فأنت إذا قلت والله, وتالله فإنك تقسم لاشك على شيء فتقول والله لأفعلن, أو والله إن فلان لقادم, ونحو ذلك من الأقوال, فأين المقسوم عليه؟
المقسوم عليه طواه الطوى, طواه السياق, طواه سياق الآيات, ومعلوم ممن بعده من التفسير وموضوعه هو الطغيان, والفساد في الأرض هو الكلام عن الطاغين والمتجبرين والمفسدين, فقال سبحانه وتعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلف مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب , يحكي الله تعالى عن أكبر الجبابرة, وأعتى المفسدين في الماضي, وهم عاد وثمود وقوم فرعون, يحكي الله سبحانه وتعالى لنا قصتهم, ألم تر كيف , ألم تعلم يا محمد, ألم تعلموا أيها التالون لكتاب الله كيف فعل ربك بعاد , وعاد, وعاد الأول هي التي أهلكها الله سبحانه وتعالى, والتي ذكرها في غير ما موضع, وعاد هي عاد إرم والتي تنتسب إلى عاد ابن ارم, ونسبها ينتهي إلى نوح عليه السلام, تسكن في جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وحضرموت في مكان يسمى بالأحقاف لكثرة الكثبان الرملية فيها, وكانوا من أعتى القبائل, ومن أشدهم بطشًا, وكانت لهم تركيبة جسمية هائلة كما قال المؤرخون فأسكنهم الله عز وجل الجبال وزادهم في الخلق بسطة, وذلك من بعد نوح عليه السلام, فما شكروا نعمة الله عز وجل, وإنما علوا واستكبروا, وأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ألم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون فأرسل الله عز وجل لهم هودًا يذكرهم فقال لهم: واذكروا إذا جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين , أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون.
فكذبوه وعاندوه, ويذكر الله سبحانه وتعالى لنا قوتهم حتى نعلم نحن الضعفاء بأننا لا نقوى على محاربة الله عز وجل ولا نقوى على عصيانه وغضبه وسخطه قال سبحانه: إرم ذات العماد قيل: خيامهم الذين كانوا يرتحلون فيها, وقيل: هي أجسامهم التي كانت كالعمد, وقيل: هي مملكتهم التي كانت ذات أعمدة عظام, فيذكر الله سبحانه وتعالى لنا هذه القوة, والراجح أن المراد بذات العماد هي مملكتهم التي كانوا يسكنونها ويقتنونها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد هي القبيلة على الراجح التي لم يخلق مثلها في أشكال أفرادها, وفي قوتهم, وفي تركيباتهم الجسمية, لم يخلق مثلها في البلاد في زمانهم, فكانوا أقوياء أشداء, وكانوا يغيرون على القبائل الأخرى فينهبونهم ويسلبونهم ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: وثمود الذين جابوا الصخر بالواد أي جابوا الصخر ونحتوه كما قال عز وجل عنهم: وينحتون من الجبال بيوتًا فارهين يخرقون الجبال فيجعلونها مغارات ومساكن, انظروا إلى مساكنهم في وادي القرى في مدائن صالح, فالجبل قد تحول إلى قصر, والجبل قد تحول إلى مغارة, وذلك من قوتهم وعظمتهم.
وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذو الأوتاد صاحب العمد العظيمة, كان يتخذ أوتادًا وعمدًا يربط فيه الناس فيجعل على ظهر الواحد بعد أن يربطه ويمده مدًا فيضربه بصخرة, أو رحى فيموت على ذلك, أو يجعل على أطراف الرجال أعمدة ثم يأمر بالخيل فتجر هذه الأعمدة فيتقطع الرجل أوصالاً.
وفرعون ذي الأوتاد وقيل الأوتاد هي تلك البنايات العظيمة التي خلفها الفراعنة التي هي الأهرامات, الذين طغوا في البلاد اشتركوا في هذا أنهم جميعًا طغوا, والطغيان يؤدي إلى الفساد؛ لأن المرء إذا طغى حسب نفسه أعظم مما هو عليه, وانتقل من مكانة العبودية إلى مكانة الألوهية كما قال فرعون: ما علمت لكم من إله غيري , أنا ربكم الأعلى طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد من الشرك بالله, ومن قتل العباد وسفك الدماء فأكثروا فيها الفساد, فهل كان الله عز وجل عنهم غائبًا؟ بل كان عز وجل عليهم شاهدًا حاضرًا فقال سبحانه وتعالى: فصب عليهم ربك سوط عذاب انظر إلى هذا التعبير القرآني, صب, أرسل الله عز وجل عليهم العذاب طغيانًا كما أنهم طغوا وتكبروا, سوط عذاب, عذاب لازع فجمع الله عزوجل كثرة العذاب مع أمله وشدته فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد إذا قال القائل قد أهلك الله عز وجل عاد بالريح الصرصر العاتبة, قال سبحانه وتعالى: الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية هؤلاء هم ثمود وعاد, أما فرعون وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا.
إذا كان هذا عذاب الأمم الماضية, فماذا عن أحوال الأمم الآتية؟ وماذا عن الأمم الذين في زماننا الذين يسومون المسلمين سوء العذاب في البوسنة والهرسك, في بلاد الهند, وفي بورما وأرتيريا, وفي فلسطين, ماذا لليهود؟ وماذا للبوذيين, وماذا للسيخ وماذا للنصارى الصليبين, قال سبحانه وتعالى: إن ربك لبالمرصاد , فالله سبحانه وتعالى يرصد أعمالهم كما قال ابن عباس, يرصد خلقه فيرى أعمالهم خيرها وشرها ثم يحاسبهم بعد ذلك سبحانه وتعالى ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء.
فاتقوا الله عباد الله وراقبوا أعمالكم واعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرصد أعمالكم رصدًا فهو القادر على كل شيء وهو الذي لا يغيب عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
أقول هذا القول, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المعتبرين المتعظين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين وخالق الخلق تعالى ورازقهم وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين , يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز , والصلاة والسلام على إمام المتقين, وقائد الغر المحجلين سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
إن الله سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه: إن ربك لبالمرصاد يرصد الأعمال فلا يعذب أحدًا بغير ذنب, إنما يستعمل الله تعالى عدله فقد حرم على نفسه الظلم, أما الإنسان فإنه يظلم نفسه, ويجور فيما هو فيه, ولذلك قال سبحانه وتعالى عن الإنسان الجائر الظالم: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن إذا جاءه النعماء من كل جانب وأرسل الله عز وجل عليه خيرات الأرض, وكان في سعة من الولد والمال والأهل والعشيرة والبلد فإنه يغتر ويظن أنه مكرم عند الله عز وجل ونسى أن الله عز وجل يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين والآخرة إلا لمن يحب.
فيقول ربي أكرمن وعزني فلولا ما أنا فيه من الخير لما فجر الله لي خيرات الأرض ولما كنت أغنى من غيري, فإني مكرم وأنا على طاعة, ونسمع هذا من كثيرين يقولون: نحن على طاعة ولذلك فإن الله أعطانا هذه الأموال وجعلنا في أمن وأمان, ونسى هؤلاء أن الله يمكن أن يستدرج بالنعماء فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن , والبلاء يمكن أن يكون بالنعماء, ويمكن أن يكون بالضراء ونبلوكم بالشر والخير فتنة وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه قرأ عبد الله بن عامر الدمشقي وأبو جعفر القاري: (وأما إذا ما ابتلاه فقدّر عليه رزقه) فقدّر أي ضيق عليه رزقه.
وأما إذا ما اختبره وامتحنه فضيق عليه رزقه فجاءه المصيبة من كل مكان وجاءت البلايا وهو في طاعة وخير فيقول رب أهانن وليس الأمر كذلك فليس في سعة الرزق دليل على المكرمة, وليس ضيق الرزق دليل على المهانة, وإنما الله سبحانه وتعالى يقسم الأرزاق بين العباد فيقول رب أهانن كلا أي ليس حقًا أو ردع وزجر لهذا الإنسان الذي يظن هذا الظن كلا أيها الإنسان الذي تظن أن الله يمنعك عنك المال لأنه أهانك أو يعطيك المال لأنه أعزك وأكرمك كلا بل لا تكرمون اليتيم.
في الحقيقة أنتم إذا جاءكم المال لا تستعملون هذه الأموال فيما أباح الله ولا تضعون هذه الأموال في حقها كلا بل لا تكرمون اليتيم يمر أحدكم بماله على اليتامى فلا يتصدق عليهم ولا يبحث عن اليتامى فينفق عليهم كلا بل لا تكرمون اليتيم ذلك الذي فقد أباه وأصبح بحاجة إلى من يعوله ولا تحاضون على طعام المسكين أي لا يوصي بعضكم بعضًا بالإطعام, وإنما ترى بعض الناس يوصي بعدم الإطعام فإذا أراد أن ينفق أحد من الناس أو إذا دعى بعض الناس الناس للإنفاق أحجموا ومنعوا وصدوا عن الإنفاق في سبيل الله تعالى, لا يحض بعضكم بعضًا على طعام المسكين, لا يأتي أحدكم إلى أخيه فيقول: يا فلان هناك مسكين في مكان كذا وكذا, وهناك محتاج, وهنا مسلمون يتضجرون جوعًا فأنفق من مالك, وإنما يتحاضون على الإمساك والشح وعلى البخل ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لمّا وتحبون المال حبًا جمًا يجمع من هنا وهناك فيأتي إلى الميراث إلى ميراث الضعفاء واليتامى الذين لا قدرة لهم فيحوي هذا الميراث بغير حق, يجمعه, يلمّه لمّاً من كل جهة, فلا يلتفت إلى حرام أو إلى حلال, ويضع أمواله في البنوك الربوية يقول ربي أكرمني.
وتأكلون التراث أي الميراث أكلاً لمًا وتحبون المال حبًا جمًا حبًا طاغيًا كثيرًا فيقول سبحانه وتعالى: كلا إذا دكت الأرض دكًا دكًا وجاء ربك والمَلك صفًا صفًا جاء ربك لفصل القضاء والملائكة من حوله تحف بعرشه سبحانه وتعالى في موكب عظيم رهيب يقدم الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء وجئ يومئذ بجهنم لها سبعون ألف زمام, لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان الإنسان الذي كان يظن أن كثرة ماله دلالة على إكرام الله له, الإنسان الذي مات وهو يحسب بأنه قد أحسن صنعًا عند الله وبأن له الفردوس الأعلى, وبأن له الجنة, وبأنه لن يعذب أبدًا, هذا الإنسان إذا رأى الجحيم, إذا رأى الله عز وجل قد قدم لفصل القضاء ورأى جهنم تزفر فإنه يتذكر تفريطه ومعاصيه واحدة واحدة لأن الأعمال تعرض عليه منسوخة إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون يتذكر وهل تنفع الذكرى, لا والله, قد مضى عهد الذكرى, كان عهد الذكرى في الدنيا وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
هذا في الدنيا أما في الآخرة, فكل إنسان سواء كان بارًا أو فاجرًا يتذكر, وأنى له الذكرى وكيف تنفعه الذكرى وماذا ستنفعه هذه الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي ليتني عملت عملاً أدخره لهذا اليوم فهذا اليوم هو الحياة, وقد ظننت أن الحياة هي الدنيا ونسيت أن الدار الآخرة هي الحيوان, هي الحياة الحقة, وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعملون يا ليتني قدمت لهذه الحياة الأبدية فيومئذٍ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يوم القيامة لا يعذب عذاب الله سبحانه وتعالى أحد, لا يستطيع أحد أن يعذب كعذاب الله, فعذاب الله سبحانه وتعالى قمة في الألم, وقمة في العذاب كما أن نعيمه سبحانه وتعالى قمة في السعادة لا يعذب عذابه أحد هل يستطيع أحد ممن يعذبون العباد في الدنيا أن يجعلوا لمعذبيهم جلودًا غير جلودهم, هل يستطيع أحد ممن يعذبون في الدنيا أن يعذب أحدًا عذابًا شديدًا على مدار الحياة كذلك العذاب الذي في الآخرة ولا يموت, هل لأحد من أهل الدنيا الذين يعذبون العباد بغير حق يمتلك نار كنار الله سبحانه وتعالى؟ لا والله الذي لا إله إلا هو, فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ولا يستطيع أحد في الدنيا أن يوثق وثاق الزبانية زبانية العذاب الذين على جهنم خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه هل يستطيع أحد أن يفعل هذه الأفعال, وقرأ على الكسائي ويعقوب الحضرمي فيومئذٍ لا يُعذَب عذابه أحد ولا يوثَقُ وثاقه أحد أي يوم القيامة, لا يعذب عذاب هذا المسكين أحد, فقد كان في الدنيا أناس يعذبون أناس, يقتلون أناس, يحرقون بالنار كما في قصة أصحاب الأخدود, ولكن لا يعذب عذاب هذا المسكين أحد يوم القيامة, ولا يوثَق وثاقه أحد, لم يحصل من قبل أن يوثق أحد مثل هذا الوثاق.
فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك نداء إلى النفس الطيبة الطاهرة, نداء إلى هذه النفس التي صبرت في الدنيا ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي أي أيتها النفس المطمئنة, دعوة من الله سبحانه وتعالى لنفسك الطيبة أن تدخل في عبادة الله أن تكون عبدًا لله تعالى, فكثير من العباد ينسون أنهم عبيد لله يتصرف في الدنيا وكأنه سيد على ماله, وكأنه سيد في هذا الوجود, ونسى أنه عبد لله فادخلي في عبادي وادخلي جنتي فإنه من دخل في عبادة الله دخل جنة الله تعالى, روى الهروي بسنده عن رجل يقال له ابن أبي هاشم قال: أُسرت في بلاد الروم فجاءنا الملك, ملك الروم فأمرنا أن نرتد عن ديننا فارتد ثلاثة وكنت منهم وجيء بالرابع فطلب منه أن يرتد فأبى فقطع رأسه ورمي في النهر فغاص رأسه بالدم في النهر حتى رسب ثم صعد وتكلمت الرأس فقالت: يا فلان, ويا فلان, ويا فلان يناديهم بأسمائهم يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي فاضطربت النصارى وسقط كرسي الملك وكادت النصارى أن تسلم وعاد الثلاثة إلى الإسلام, وجاء الفداء من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور.
(1/1401)
وداع العشر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة إلى استغلال ما تبقى من رمضان. 2- الدعوة إلى معرفة منة الله علينا في تسهيل
الطاعات علينا. 3- عوائق تحجبنا عن التوبة. 4- دعوة للاستقامة على الطاعة بعد رمضان.
5- بعض أحكام صدقة الفطر. 6- بعض أحكام صلاة العيد وسننها.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهم إنا نسألك القبول في الصيام والقيام, اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها, وخير أيامنا يوم لقياك, اللهم إنا نسألك الرشد في الأمر كله, اللهم إنا نسألك الخير العميم في شهر القرآن, اللهم إنا فقراء إليك فلا تردنا خائبين.
أما بعد: إخوة الإيمان فقد عزم شهر رمضان على الرحيل, ولم يبقى منه إلا القليل, لقد عزم شهر الصيام على الرحيل, فمن كان قد أحسن فيه فعليه بالتمام؛ فإن الأعمال بالخواتيم كما صح ذلك عن نبينا , ومن كان قد فرط فيه فليختمه بالحسنى؛ فالعمل بالختام, فتزودوا منه ما بقي من الليالي, واستودعوه عملاً صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلام.
سلام من الرحمن كل أوان على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على شهر الصيام فإنه أمان من الرحمن أي أمان
فإن فنيت أيامك الغر بغتة فما الحزن من قلبي عليك بفان
كيف لا تجري للمؤمن على فراقه دموع وهو لا يدري هل بقي في عمره لديه رجوع, كم مات أناس قبل أن يدركوا شهر رمضان.
تذكرت أيام مضت وليالي خلت فجرت من ذكرهن دموع
ألا لها من الدهر عودة وهل لي إلى يوم الوصال رجوع
أين حرقة المجتهدين في نهاره؟ أين قلق المتهجدين في أسحاره, إذا كان هذا حال من ربح فيه, فكيف حال من خسر في أيامه ولياليه؟ ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه وقد عظمت فيه مصيبته وجلّ عزاؤه؟ ماذا ينفعه البكاء وقد ضيع الليالي في اللهو واللعب؟ ماذا ينفعه البكاء وقد كان يتسكع في الأسواق, وكان يجلس مع الأصحاب بعيدًا عن ذكر الله تعالى, والتراويح تصلى, والناس يتلون كتاب الله تعالى, ماذا ينفعه البكاء؟ لا ينفعه البكاء؛ لأن اليوم الذي مضى لا يعود يقول سبحانه وتعالى عن النادمين يوم القيامة أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير.
كم نُصح المسكين فما قبل النصح, كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح, كم شاهد المتواصلين فيه وهو متباعد, كم مرة به زمر السائرون وهو قاعد, حتى إذا ضاق به الوقت وحاق به المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم, وطلب الاستدراك في وقت العدم, ومتى رأيت العقل يؤثر الفاني على الباقي فأعلم أنه قد مسخ, يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "متى رأيت القلب قد ترحل عنه حب الله والاستعداد للقائه, وحل به حب المخلوق والرضى بالحياة الدنيا والطمأنينة بها, فاعلم أنه قد خسف به إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمئنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون , ومتى جفّت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب, وأبعد القلوب من الله القلب القاسي, ومتى رأيت لذة تهرب من الأنس به سبحانه وتعالى إلى الأنس بالخلق, ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار فاعلم أنك لا تصلح له, ومتى رأيته يستفيد غيرك وأنت لا تطلب من الله عز وجل القرب منه ويستدني سواك لا تقرب فاعلم أنه الحجاب والعذاب من ركب ظهر الأماني والتفريط والتواني نزل به دار الحسرة والندامة.
أيها المسلمون هذا شهر رمضان قد قرب رحيله عنكم, فمن كان منكم محسنًا فليحمد الله على ذلك؛ فهذا من فضل الله وتوفيقه ولا يغترن إنسان من طول قيامه وبصيامه وبتلاوته القرآن, فإن الله عز وجل هدانا صراطًا مستقيمًا, هو الهادي إلى سواء الصراط.
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فلا يتسربنّ الغرور إلى إنسان صام رمضان, وختم فيه القرآن, بل عليه أن يحمد الله تعالى كثيرًا وليتذكر الساعات التي ضيعها بغير ذكر الله تعالى.
أيها المسلمون: من فعل خيرًا في هذا الشهر فليحمد الله, من تصدق أو صام أو قرأ القرآن لينتظر عظيم الثواب من الملك الوهاب إن شاء الله, ومن كان مسيئًا فيه فلا نقل له إن باب التوبة قد قفل, فليتب إلى الله تعالى توبة نصوحة فإن الله تعالى يتوب على من تاب, وإنما الأعمال بالخواتيم, فليحسن الختام, لعل الختام يغطي على الابتداء, فإن الله عز وجل إذا رأى من عبده خيرًا في نهاية عمله ختم له بالخير إن شاء الله تعالى.
وبمناسبة التوبة فإن التوبة مطلوبة في كل زمان والله عز وجل يقول: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون , وإن في طريق التوبة عوائق لابد أن أذكرها هنا في هذا المقام سريعًا.
أولى هذه العوائق هو نسيان الموت, أن ينسى الإنسان نهاية أجله فيظن أنه باقٍ في هذه الحياة الدنيا فيفرط في شهر رمضان هذا, ويفرط كذلك في شهر رمضان الآتي, يظن أنه سيعيش أبدًا, ونسى المسكين أن أجله عند الله مكتوب, وأنه إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم, وكذلك لابد من تحطيم أصنام الهوى قال تعالى: أرأيت من اتخذ إلهه هواه , فالربا هوى, والغناء هوى, واللغو هوى, والغيبة هوى, فلابد من تحطيم هذه الأصنام, تقرب إلى الله عز وجل بأن تكسر قنينات الخمر, تقرب إلى الله بأن تكسر آلات اللهو والغناء, تقرب إلى الله تعالى بأن تحطم كل أصنام الهوى, فإن فعلت ذلك كنت من الحنفاء السالكين سبيل الأنبياء.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يحطم أصنام الهوى؛ فإنها عائقة عن التوبة.
كذلك لابد أن ننظر إلى شؤم الذنب, كيف ضيع علينا الأوقات؟ كيف ضيع علينا النفحات الطيبة؟ فصرفنا عن الصالحين, وقربنا من الطالحين؟ كيف أبعدنا عن قراءة القرآن وعن العلم والتعلم فلينظر الإنسان إلى شؤم المعصية, وعن إبعاده عن طاعة الله تعالى, ففي ذلك خير, وليغير الأصحاب, فإن عدم تغير الأصحاب عائق من عوائق التوبة, قال : ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)).
وكذلك فليغير أماكن المعصية, كيف يرجى ممن تاب من مصاحبة النساء أن تقبل التوبة وهو يذهب إلى أماكن اختلاط النساء, كيف يرجى ممن يترك معصية من المعاصي وهو يصاحب أهل هذه المعصية أن يتقبل الله سبحانه وتعالى منه التوبة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "من علامات اتهام التوبة جمود العين واستمرار الغفلة, وأن لا يستحدث العبد بعد التوبة عملاً صالحًا لم يكن قبل الخطيئة".
فإن عدم استحداث العمل الصالح يدل على أن هذه توبة الكذابين؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات , فعليك يا من أسأت في هذا الشهر المبارك أن تتوب إلى الله توبة نصوحًا.
أيها المسلم يا من بنيت حياتك على الاستقامة في هذا الشهر المبارك دم على ذلك في بقية حياتك ولا تهدم ما بنيت بعودك إلى المعاصي, يا من أعتقه مولاه من النار ـ نسأل الله أن نكون من أولئك ـ إياك أن تعود إليها بفعل المعاصي والأوزار, فتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.... يا من اعتاد حضور المساجد وعمارة بيوت الله بالطاعة وأداء صلاة الجمعة والجماعة واصل هذه الخطوة المباركة, ولا تقلل صلتك بالمساجد فتشارك المنافقين الذين قال الله عنهم: ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى , ولا تهجر المساجد وتنقطع نهائيًا فيختم الله على قلبك قال : ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم.
إلى من تعود القرآن في هذا الشهر: داوم على تلاوته ولا تقطع صلتك به فإنه حبل الله المتين, وهو روح من الله, وهو شفيعك عند ربك وحجتك يوم القيامة فلا تعرض عنه بعد رمضان فإنه لا غنى عنه بحال من الأحوال.
يا من كان يتصدق في هذا الشهر خصص من مالك كل يوم شيئًا تتصدق به على الفقراء, وعلى الأيتام فإن الله سبحانه وتعالى يرضى من عباده الصدقة.
وهكذا أخوتي في الإسلام انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي حتى الموت, قال سبحانه وتعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين , وقال عيسى عليه السلام عن ربه: وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيًا , وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
ولقد شرع الله عز وجل في نهاية هذا الشهر المبارك عبادات لتعلموا أن الحياة الدنيا جعلها الله عز وجل ليبلونا أينا أحسن عملاً الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً , فما تنقضي عبادة إلا ويتبعها عبادة أخرى.
الله عز وجل شرع لنا في نهاية الشهر المبارك عبادات تزيدنا من الله قربة, فشرع لنا صدقة الفطر وهي فريضة شرعها الله عز وجل على الكبير والصغير, والذكر والأنثى, والحر والعبد, وهي زكاة البدن طهرة للصائم من اللهو والإثم, وشكر لله على إتمام الصيام والأعمال الصالحة.
هذا الشهر شهر إحسان للفقراء ويجب أن يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجه وأولاده وسائر من ينفق عليهم, ولا يجب إخراجها عن الجنين الذي في البطن, ويخرجها في البلد الذي وفاه فيه تمام الشهر وهو فيه, ووقت إخراجها من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد, ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين والمستحب إخراجها بعد صلاة الفجر يوم العيد وقبل صلاة العيد, ولا يجوز تأخيرها بعد العيد ولا يجوز البدل عنها, أي القيمة على الراجح من أقوال العلماء فإن النبي قال: ((صاع من طعام)) , وإن الذهب والورق كانا يتداولان في عهده , ومع ذلك لم يشر إليهما عليه الصلاة والسلام.
وأما التحدث أن الناس في هذا الزمان يحتاجون إلى النقود ولا يحتاجون إلى الطعام فهي حجة واهية, وذلك لمشاهدة حال الفقراء واحتياجهم إلى الطعام, فهم يأخذون الطعام للإدخار ويأكلونه على مدار السنة ولكن الناس غافلون عن الفقراء والمساكين كذلك شرع الله لنا صلاة العيد والتكبير في السير إلى صلاة العيد حتى لا تغفل عنه سبحانه, وذلك منه فضل ومنَّة, فنسأل الله تعالى أن يتولانا برحمته وفضله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين لنعمه وآلائه, وأصلي وأسلم على أفضل خلق الله وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن العبادات التي شرعها الله لنا في نهاية هذا الشهر: العيد, والعيد إنما هو لشكر الله على تمام الصيام والقيام لإتمام فعل الخيرات في هذا الشهر المبارك, ولنا أن نتكلم عن بعض أحكام العيد حتى نكون على علم بهذه العبادة, فمن الناس من فرط في صلاة العيد, ومنهم من ابتدع بدع ما أنزل الله بها من سلطان, فلابد من الإشارة إلى موضوع العيد والصلاة والتكبير ونحو ذلك.
يقول : ((قد أبدلكم الله بها خيرًا)) أي العيدين, يوم النحر ويوم الفطر, وهذا الحديث منه يدل على أن للمسلمين عيدان "عيد الفطر وعيد الأضحى", وما عداهما من الأعياد فليست من الإسلام في شيء, ولا يشرع للمسلمين أن يشاركوا فيها أبدًا.
وهناك آداب وأحكام للعيد:
أولى هذه الآداب: جواز التجمل في يوم العيد, وذلك من فعل النبي , ومن اتخاذ عمر رضي الله عنه جبة يلبسها في العيد, فكان يلبس أحسن ثيابه في العيدين.
كذلك الخروج إلى المصلى, فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
والخروج إلى المصلى سنة رسولنا في العيد, أما الصلاة في المسجد فليس هذا من السنة في شيء, وما يفعله بعض أئمة المساجد وبعض الناس من الصلاة في المسجد فليس هذا من الفقه في شيء؛ لأن الرسول ندب الصلاة في المصلى, واستثنى الفقهاء من ذلك الحرم المكي في عهد الصحابة؛ لأن أهل مكة لا بطحاء قريبة منهم فكانوا يصلون في بيت الله الحرام, أما ما عاداهم من أهل الأمصار والقرى فيصلون في المصليات وذلك لأن الرسول أمر بخروج النساء جميعًا حتى الحُيَّض والنفساء, والحُيَّض لا يدخلن المساجد إلا مرورًا ولا يمكثن فيه, فكيف يتسنى للحُيَّض من النساء أن يحضرن العيدين وبعض أئمة المسلمين يصلون في المساجد, يفوتون على ذلك خيرًا كثيرًا للنساء, فالمشروع هو الصلاة في المصلى.
ما حكم صلاة العيدين؟ الراجح أن حكم صلاة العيدين هو الوجوب, والدليل على ذلك قوله وأمره أن يخرج الناس إلى المصلى, والنساء حتى الحُيَّض, حتى ذوات الخدر فيخرجن, وسئل عن التي لا خمار لها؟ فقال : ((لتعطها أختها من جلبابها)), وكما قال فهذا دليل على أن صلاة العيد واجبة على الرجال والنساء, فليحرص المسلمون جميعًا على أخذ نسائهم متحجبات غير متعطرات, غير مظهرات للزينة؛ فإن في إخراج الرجال لنسائهم وأولادهم للصلاة خيرًا كثيرًا وامتثالاً لأمر الرسول.
وكذلك الذهاب والإياب للمصلى, كان رسول الله يخالف الطريق يوم العيد, فيذهب في طريق ويرجع في طريق آخر, وكذلك يشرع التكبير في العيدين, ولنا عند التكبير وقفات:
أولاً: ثبت أن النبي يذهب في يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة فإذا قضى الصلاة قطع التكبير, فالمشروع للمسلمين أن يخرجوا من ديارهم بعد صدقة الفطر, أن يخرجوا للمصلى مكبرين, أن يكبروا الله سبحانه وتعالى على ما هداهم للصيام والقيام, الله أكبر الله أكبر ولله الحمد, الله أكبر الله أكبر كما ورد ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه, فالتكبير يكون جهرًا للمصلي, وإن كانت هذه السنة تخفى على بعض الناس ولا نراهم يفعلونها وهم يسيرون إلى المصلى, فتراهم صامتين وإذا جلسوا في المصلى كبروا, والصحيح أن التكبير من حين الخروج من البيت ويرفع صوته بالتكبير, ومما يحصل التذكير به في هذه المناسبة أن الجهر بالتكبير هنا لا يشرع الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض.
وأعجب ما سمعت تقسيم المصلى إلى قسمين, شطر يكبر جماعة فإذا انتهى شطر كبر الشطر الآخر, من أين أتى الناس بهذا الكلام؟ هل ثبت هذا عن رسولنا ؟ سبحان الله هذه بدعة لأن الإتيان بكيفية معينة لم ترد عن الرسول بدعة, والله عز وجل ما تعبدنا بالبدع, فليكبر كل إنسان بنفسه, فإذا حصل الاجتماع هكذا من غير اتفاق فلا بأس, لا حرج علينا أن نلتزم بما ورد عن رسول الله , فنكبر من خروجنا من البيت إلى المصلى, ونكبر كذلك في المصلى حتى يأتي الإمام.
(1/1402)
أمراض القلوب 2
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غفلة الناس من أمراض القلوب واهتمامهم بأمراض الجسد. 2- أمراض القلوب ذكرها
القرآن. 3- الغواية من أمراض القلوب. 4- كيفية الحفاظ على البدن. 5- القلب يتأثر بما يتأذى
منه البدن. 6- كيف نحصل سلامة القلب من الأمراض والأسقام. 7- بعض ما ابتدعه الناس
في ليلة سبعة وعشرين رجب. 8- الإعلام الفاسد والمناسبات الدينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد سبقت الإشارة في الجمعة الماضية إلى أن كل فساد حَلّ بأمة من الأمة فإنما هو بأسباب أمراض القلوب وعللها، وما زال الأمر أيها الأخوة الكرام يحتاج إلى مزيد من البيان فيما يتعلق بأمراض القلوب وعلاجها، فهو أمر خطير.
سبقت الإشارة إلى أن الناس قد اهتموا بما ليس يعادله في الخطورة على أنفسهم ولا على مجتمعاتهم. اهتموا بأمراض البدن وأهملوا أمراض القلوب والأرواح، وهي الأمراض الحقيقية. ولقد جاء في كتاب الله العزيز ما يفيد أن كل فساد إنما هو بسبب أمراض القلوب. ونسب الكتاب العزيز المرض إلى القلوب، وأفاد أنها تمرض بالأمراض المعنوية التي سبق الحديث عنها.
ومما جاء في الكتاب العزيز حول نسبة المرض إلى القلوب قوله تعالى في سورة البقرة: في قلوبهم مرض وهو مرض الشك كما قال مجاهد وقتادة رحمه الله، وقال تعالى في سورة الحج: ليجعل ما يلقي الشيطان فتنةً للذين في قلوبهم مرض وقال في سورة الأحزاب: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً فأمرهم بألا يلين في كلامهم حتى لا يطمع من في قلبه مرض الشهوة، ومع ذلك فلا يخشنّ في القول بحيث يلحق بالفحش بل يقلن قولاً معروفاً.
والمرض الذي يصيب القلب. أي المرض المعنوي هو مرض الجهل والشك والريب والشبهات مرض الغي والشهوات، ولقد نزه الله تبارك وتعالى رسوله عن الجهل وعن الغي. عن المرضين الخطيرين اللذين يصيبان القلب فقال في سورة النجم: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ما ضل، وما غوى، ما جهل، وما كان من أهل الغي والغواية، وصف رسول الله خلفاءه بضد الضلال والغواية، فقال فيما أخرجه أبو داود والترمذي بسند حسن صحيح وغيرهما عن العرباض بن سارية عن النبي قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) فوصفهم بأنهم راشدون أي ليسوا غاويين، مهديون أي ليسوا ضالين ولا جاهلين.
وإذا انتقلنا إلى البحث في أسباب ومشخصات أمراض القلوب والأبدان، ووجدنا أن القلب يتأذى بما يتأذى به البدن، وتحسب قوته وتضمن سلامته بما يضمن للبدن سلامته وقوته.
أما البدن فإنه تُضمن له السلامة إذا اتبعت ثلاثة أصول: حفظ القوة، الحمية من المؤذي الضار، استفراغ المواد الفاسدة.
ونظر الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة، ولقد جاء كتاب الله العزيز الذي أنزله الله تبارك وتعالى شفاءً ورحمة بما يفيد هذه الأصول الثلاثة: أما فيما يتعلق بحفظ القوة. فإن الله تبارك وتعالى رخص للمسافر والمريض أن يفطر في رمضان لأن الصيام يضعف قوة المسافر ويضعف الصيام أيضاً المريض ويزيده ضعفاً إلى ضعف، وأمر المسافر إن يقضي إذا انتهى من سفره وعاد إلى بلده وأمر المريض أن يقضي إذا صح وبرأ.
قال الله تعالى حول هذا الأصل الأول. أصل حفظ القوة في سورة البقرة: ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر حفظ القوة لابد أن يحفظ على المريض وعلى المسافر قوته، والمريض إذا حفظت عليه قوته أدى ذلك إلى سلوكه طريق الشفاء والسلامة.
وأما الأصل الثاني: وهو حمية البدن من ورود المؤذي الضار عليه ففي ذلك يقول الله تبارك وتعالى مرشداً من مرض من عباده إلى العدول عن الماء الذي قد يؤذي المريض في الوضوء وفي الغسل أرشدهم إلى العدول عنه إلى التيمم لحماية البدن من ورود المؤذي الضار على ظاهر البدن، فقال في سورة المائدة: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج.
وأما إرشاده إلى استفراغ المواد الفاسدة: ففي سورة الحج إرشاد لمن كان له مرض أو أذى من رأسه أن يحلق شعره لاستفراغ المواد المؤذية والأبخرة الضارة من الرأس، قال تعالى في سورة البقرة: فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فدية في مقابل ماذا؟ في مقابل أن يحلق رأسه حيث يُسمع بذلك للمحرم حتى يتمكن من الفراغ من أداء نسكه.
قال ابن القيم – رحمه الله تبارك وتعالى – وذاكرت بعض رؤساء الطب بمصر في هذا أي في الأصول الثلاثة حفظ القوة، الحمية من المؤذى الضار، استفراغ المواد الفاسدة. فقال: والله لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة لكان سفراً قليلاً أو كما قال.
والحديث عن مرض القلب وحقيقته فلماذا تكلمنا عن مرض الأبدان؟ فعلنا ذلك لتأكيد أن القلب يتأذى بما يتأذى به البدن، ويصلح بما يصلح به البدن. فأما القلب فإنه إذا حفظت قوته سلم وبرأ وشفي من كل مرض وعلة، وقوة القلب تتحقق بالإيمان وأوراد الطاعات، بالإيمان وما يزيده من تلاوة كتاب الله عز وجل وأحاديث رسوله ، خاصة تلك التي تتعرض لترقيق القلوب بالحديث عن قدر الدنيا بالضئيل بالنسبة لما في الجنة وبالحديث عن هوانها على الله تبارك وتعالى بقدر ما يهون جدي ميت أسكّ على بني آدم فلا يشترونه بدرهمين ولا حتى بردهم كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
قوة القلب تكون بالإيمان وبأوراد الطاعات وحميته من المؤذي الضار، تكون باجتناب المعاصي والآثام وأنواع المخالفات. واستفراغ المواد الفاسدة منه تكون بالتوبة النصوح واستغفار غافر الخطيئات هذا ما يضمن للقب سلامته، فإنه قد يذهب إدراكه، بالكلية وقد ينقص إدراكه وقد يرى الشيء بخلاف ما هو عليه فيحب الباطل الضار يبغض الحق النافع بسبب ذهاب الإدراك أو نقصه أو ضعفه بالضبط كما يحصل للبدن قد يذهب إدراكه بالكيلة إذا أصيب بالعمى أو الصمم أو الشلل، وقد ينقص الإدراك إذا ضعفت آلاته بالرغم من استقامة الإدراك، وقد يرى الشيء بخلاف الشيء بخلاف ما هو عليه كما يرى الحلو مراً إذا ذاقه، وكما يرى الخبيث طيباً والطيب خبيثاًً، وهذه الأمراض في القلوب أو الأبدان ترجع إلى الكمية أو الكيفية، أما الكمية فإذا نقصت المادة أو زادت أدى هذا الاختلال إلى المرض، وأما الكيفية فإذا حصل زيادة في حرارة أو رطوبة أو يبوسة أو نقص حصل المرض وهذا، الشأن ينطبق على كل من القلب ومن البدن.
أيها الأخوة الكرام فإذا تكلمنا عن الأدوية اللازمة لصلاح القلب وشفائه وجدناها تنقسم إلى طبيعية وشرعية.
أما الطبيعية فهي التي تصلح لشفاء الهم والغم والحزن والغيظ من أمراض القلوب التي تؤلم القلوب في الحال، وهذا يكون بمعالج المرض بضده، فالهم والغم يعالج بالفرج والسرور، ولكن بحق.
فإذا كان العلاج بغير حق أعقب أمراضاً أصعب فمن كان مهموماً بسبب فقره وضيق ذات يده وعدم قدرته على الإنفاق على أهله وعياله يعالج بأن يُعطى المال الذي يذهب همه وغمه، ويمكنه من الاستعانة على أرزاقه ومعايشه وهذا علاج بحق.
أما إذا عالج همه وغمه بالسرقة فيكون قد عالج مرضه بغير حق، ويعقب نفسه أمراضاً أصعب.
ومرض العشق يعالج بالتزوج، يتزوج الذي أصيب بهذا المرض، أما إذا عالجه بالفجور بالمعشوق أعقب أمراضاً أصعب وأخطر هذا فيما يتعلق بالأمراض التي تداوى بأدوية طبيعية.
أما التي تداوى بأدوية شرعية فهي أمراض الشك والجهل والغي والشهوات. وهي تحدث في القلب ألماً عظيماً وإن كان صاحبه لا يشعر به إلا أنها أشد خطراً عليه وأشد تأثيراً على قلبه الذي إذا فسد ونكتت فيه النكت السوداء أدى ذلك إلى شقائه الدائم وعذابه السرمدي.
ودواء هذه الأمراض موكول إلى الرسل وأتباعهم عليهم صلوات الله وسلامه، تداوى هذه الأمراض بالأدوية الشرعية بالعلم والهدى فإن صاحبت هذه الأمراض إذا عالجها بالعلم والهدى اشتفى قلبه وصحّ وبرأ، وإذا عالجها بأدوية غير نافعة، ازداد مرضاً على مرض، وازداد جهلاً علا جهل. وهو يحسب أنه يُشفى من هذه الأمراض كما قال القائل:
إذا دلّ من داء به ظن أنه نجى وبه الداء الذي هو قاتله
قد يخيل إليه إذا دلّ أي صح وبرأ قد حصلت له العافية والشفاء من الجهل، ولكن الحقيقة أن به الداء الذي هو قاتله أمراض الجهل والشك والشبهات والشهوات تعالج بالأدوية النبوية. والأدوية الإيمانية.
الله تبارك وتعالى في سورة يونس كما سبقت الآية في الخطبة الماضية: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فجعل كلامه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة للمؤمنين خاصة، وشفاءً تاماً لما في الصدور، فمن لم يعالج قلبه هذه الأدوية زاد مرضه وضعفت قوته ترامى إلى التلف ما لم يتدارك ذلك بأن يقوي قوته ويزيل مرضه.
أسأل الله العظيم أن يهدينا بهدايته التي تنشرح لها الصدور، وأن يغفر لنا ما سلف من المعاصي والذنوب، إنه هو الرحيم الغفور.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فما هي إلا ساعات قلائل وينصرم هذا الشهر الحرام شهر رجب الذي نسبت إليه عن الفضائل ما لم يثبت عن المعصوم الصادق المصدوق بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، والذي يحزن في شأن هذا الشهر الحرام الفضيل أن تنافس لياليه بما لم يثبت لها ليالي الشهر الكريم شهر رمضان، فيعمل في أول جمعة فيه من صلاة الرغائب التي يجتمع لها ما لا يجتمع لصلاة التراويح من شهر رمضان ولم تثبت هذه الصلوات عن النبي.
والزحام الرهيب والشديد على الحرمين في ليلة السابع والعشرين بدعوى أنها ليلة الإسراء ولمعراج، وذلك غير ثابت البتة عن المعصوم الصادق المصدوق رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. هذا الأمر يحزن ويغم ويدخل الأسى على النفس والقلب، إذ من شأن الكثير من المسلمين أنهم يتعاملون مع الله تبارك وتعالى بأسلوب الحبوب سريعة المفعول طويلة المفعول، يريد العبد أن يتناول حبةً واحدةً تكفي ألف سنة، يسمع من الأحاديث ما لم يثبت في شهر رجب في الجمعة الأول في ليلة سبع وعشرين، في ليلة الخامس عشر من شعبان، في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول فيتناول هذه الحبة يؤدي عمرةً، أو يصلي صلاة يقرأ فيها قل هو الله أحد ألف مرة على ركعتين وما إلى ذلك. أسلوب حبوب سريعة المفعول طويلة المفعول، والمؤمن ليس من شأنه أن يتعامل مع الله بهذا الأسلوب. المؤمن أبداً يراقب ربه يطيعه ويعقب عليه ولا يفتر عزمه عن أداء الطاعات لله تبارك وتعالى ما دام فيه نفس يتردد، قال الله تبارك وتعالى في صفة المؤمنين في سورة المعارج: الذين هم على صلاتهم دائمون دائمون – هذا هو شأن المؤمنين في تعاملهم مع الله تبارك وتعالى.
أما غيرهم فإنك لا تراه يدخل المسجد طوال السنة لا يقبل على ما اشتهر من العبادات في الكتاب والسنة ومعها من الأجر الجزيل العميم ما هو كافٍ أن يقبل عليه كل من أراد الله ورسوله والدار الآخرة، ولكن يسمعون بهذه الليالي وما فيها من المبالغات في الأجور: من صلى فله عبادة ألف سنة، من عمل كذا فله أجر أربعون ألف سنة، من عمل كذا فله وله ولهن فيقبلون عليها.
وما المانع يعبد ليلة أو يؤدي عمرة في يوم ثم يكون على راحته بقية السنة، بل يكون على غير راحته لأن يؤدي إلى نفسه أسوأ الأمور إذ يلقى بها في الشقاء والعذاب والتلف. ليلة في السنة يريح فيها نفسه طوال العام، وإذا كلمته قال: الإذاعات العربية في هذه الليلة تنقل الاحتفالات من مساجد بلادها ثم تأتون أنتم وتقولون: لم تثبت. لم تثبت عندكم وثبتت عند هذه الكثرة الكاثرة، نعم، لم يثبت ولا داعي لهذا العجب والإنكار لأن من قال: ثبت، فعليه أن يأتي بهذا الثابت عن المعصوم الصادق المصدوق بالسند الصحيح الذي قال عنه عبد الله بن المبارك – رحمه الله -: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. أين الأسانيد الصحيحة الموصلة إلى هذا الكلام الذي نسمعه من الإذاعات العربية في هذه الليلة. يجلس الرجل فيقول (الرجل الداعي) يقول:
صلى وراءك كل ذي خطر ومن يفز من بحبيب الله يأتمم
نعم، لكن متى، متى كانت هذه الليلة، أهي في ليلة السابع والعشرين من رجب حقاً! وما دليلها؟ ليس عليها دليل ولا يجرمنكم شقاقي أي لا يجرمن من المخالفين شقاقي. أن يصيبهم داء اتباع الهوى، عليهم أن يمحصوا في الأمر وأن يتدبروا عبادات في ليالي محدودة من السنة ومأكولات ومشروبات خاصة في تلك الليالي والأيام ربما لا تؤكل إلا في هذه الأيام والليالي. أما شهر رمضان، فهل كرّمته الإذاعات والتفازات العربية؟ شهر رمضان، الذي ثبت في صيامه وقيامه بالأسانيد والأحاديث الصحيحة ما يجعل الإنسان طول السنة يقول: اللهم بلّغنا رمضان. اللهم تقبل رمضان، بعده يظل يدعو، اللهم تقبل منا صيام وقيام رمضان، ثم إذا اقترب الشهر قال: اللهم بلّغنا رمضان، لما فيه من الأجر والفضيلة التي تتحقق في لياليه وأيامه المباركة.
هل صانت الإذاعات التي كرمت بعض هذه الليالي هل صانت هذا الشهر الكريم؟ إن الإذاعات نفسها تتبع نفس الأسلوب، أسلوب الحبوب، ليلة واحدة تتناول فيها حبةً ويا ليتها تتناولها على أسلوب مقبول، موسيقى تتسم بالحزن لتناسب المقام، موسيقى حزينة تليق بمقام الدين ومقام التمثيليات التي تحكي التاريخ الإسلامي، وعرض بعض الآيات، وعرض بعض القصص. وقراءة بعض الأحاديث.
وربما احتفلوا في هذه الليالي بعرض قصة رجل ليس له شأن في الإسلام أو امرأة. بالحديث عن أناس أتوا من الأعمال ما لم يسمح به رسول الله الذي يعتزل الناس والذي يكفّ عن الطعام ، والذي يصلي ولا يرقد ، هذا كله ردّه رسول الله على من أراد أن يأتي به.
في حديث الثلاثة في البخاري ومسلم عن أنس ابن مالك عن النبي لما بلغه أن رجلاً أراد أن يصلي كل ليلة ولا يرقد أبداً، وأن رجلاً أراد أن يصوم كل يوم ولا يفطر أبداً، ورجلاً أراد أن يترك الزواج فلا يتزوج النساء أبداً، أنكر عليهم ذلك كله وقال: ((ما بال أقوام يبلغني عنهم كذا وكذا، أما أني أصلي وأرقد وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، من رغب عن سنتي فليس مني)).
هذا هو أسلوب الإذاعات وأسلوب الناس احتفال في ليلة من ليالي السنة، وبقية السنة طبل ورقص وغناء ومجون وخلاعة ثم يأتون في ليلة من الليالي في شهر رجب وشهر شعبان في شهر ربيع الأول، ويأتي المذيعون والمذيعات ويحشدون لهذه الليالي ما يليق بها من الكلام الطيب. ومن إظهار التأثر والخشوع في أصواتهم، التأثر بهذه الليالي وبما جاء فيها وما نزل فيها، ولم ينزل فيها شيء، ولم يأت شيء ولم يثبت فيها فضيلةً فعجباً عجباً. كيف سولت الأنفس بل الشياطين للأنفس أن تهجر الثابت الذي ثبت له الأجر العظيم الفضيل وتنتقل إلى ما لم يثبت فيه شيء، فتؤدى عبادات تردّ على صاحبها إن قصد أنها مشروعة في هذه الليالي وفي هذه الأيام غير أن يحدثنا عن مشروعيتها الذي يؤخذ منه وحده، بينما كل الناس يؤخذ منهم ويُرد. أما الذي لا يرد عليه كلامه فهو الصادق المصدوق نبينا محمد الذي نسأل الله أن به الأسوة وأن يجعلنا يوم القيامة ممن تحت لوائه وفي زمرته وممن يشرب من حوضه المورود. آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1403)
أمراض القلوب 5
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشيطان ودوره في إفساد القلوب. 2- الأذكار تحفظ المؤمن من الشياطين. 3- الاستعاذة
بالله من شر الشيطان وكيده. 4- فوائد الاستعاذة بالله من الشيطان. 5- كيفية الاحتراز من
الشيطان. 6- دفع الجهل بالتي هي أحسن وقصة عمر مع عيينة بن حصن الفزاري.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد مرت بنا فترة غير قصيرة ونحن نتكلم عن أسباب مرض القلب لأن هذا الأمر حري بالاعتناء والاهتمام، فقد جاء في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). فينبغي الحرص على سلامته والحيلولة بينه وبين أسباب مرضه، وإن كنا قد أطلنا الحديث عن تسبب النفس وشرورها في مرض القلب فإن الحديث عن مرض القلب بالشيطان ليس أقل حاجة في أن يعطى حقه من الحديث عن النفس وشرورها، فإن النفس وشرها وفسادها ناشئ من وساوس الشيطان، ولهذا لم يأمر الله عز وجل في القرآن بالاستعاذة من شر النفس، بينما أمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، ولم تأتِ الاستعاذة من شر النفس إلا في السنة المطهرة حيث جاء في خطبة الحاجة ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعملنا)).
بينما ورد التحذير من الشيطان وكيده ومحاربته في عدة مواضع من القرآن الكريم وفي سنة رسول الله ، ومن تأمل القرآن والسنة وجد الاعتناء بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس، ولقد جاء في حديث صححه الترمذي عن أبي هريرة أن النبي أرشد أبا بكر إلى الاستعاذة من شر الشيطان والنفس جميعاً لما قال له الصديق : يا رسول الله علّمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له النبي : ((قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن اقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم. قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)).
فتضمن هذا الحديث الشريف سبب الفساد وغايته، وأن النفس والشيطان هما مصدر الفساد، وأن غاية الفساد إما أن تؤول وتعود على العامل وإما على أخيه المسلم، ومن هنا أرشد النبي أفضل هذه الأمة إلى أن يقول هذا الذكر إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه، يا ليتنا نحرص على ما يعرف بأذكار الصباح والمساء والأذكار التي تكون قبل النوم وعلى غيرها من الأذكار التي تكون قبل الأكل وبعده وقبل الشرب وبعده وعند لبس الملابس وخلعها ودخول الغائط وإتيان النساء وغير ذلك من الأذكار، فإن فيها حماية وتحصناً من الشيطان الذي هو أحرص ما يكون عن قطع الإنسان عن كل خير إذا همّ به أو همّ بالدخول فيه.
ومن الآن فصاعداً نتكلم عن تسبب الشيطان في مرض القلب وعما يكيد به الإنسان ليتم الغرض من التحذير من أسباب مرض القلب، وليتم العلم بما يوجب للقلب صحته وسلامته.
ومرادهم ما ينبغي أن يؤخذ به في علاج مرض القلب بالشيطان هو ما أمر به الله تبارك وتعالى في سورة النحل من الاستعاذة منه ومن شره قال الله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون. والاستعاذة أيها الإخوة الكرام هي: الامتناع والاعتصام بالله تعالى واللجوء إليه، وعلى الذي يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ألا يذكر لفظ الاستعاذة مجرد ذكر، بل عليه عند تفوهه بلفظ الاستعاذة أن يتيقن كل التيقن أنه متعرض لشر مستطير، ومن ثمّ فإنه يجأر إلى الله ويلجأ إليه ويمتنع به ويعتصم ليجيره من هذا الشر، وليجيره من هذا الأذى ويحميه منه، ولهذا فإن بعض الناس يشتكي من عدم حضور قلبه عند قراءة القرآن الكريم ومن عدم حصول الغرض المنشود في قلبه. بل إن بعضهم يشكو من حدوث خوف ورعب بسبب القراءة أو الدخول في الصلاة أو المسجد ومن ثمّ ينبغي عليهم عند الاستعاذة من هذا العدو اللدود أن يستعيذوا استعاذة متيقن أنه بصدد شر وبصدد حرب وكيد يوشك أن تحيط به هذه الحرب وهذا الكيد، ومن ثمّ فهو يحاول جهده ما استطاع أن يلجأ وأن يعتصم بشيء يحول بينه وبين هذا الأذى.
أما أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم مجرد قول ومجرد ذكر من غير حضور قلب ومن غير شعور بالمستعاذ منه والمستعاذ به، والمستعاذ منه وهو الشيطان، والمستعاذ به وهو الله تبارك وتعالى القوي المتين، إذا قال ذلك وهو لم يشعر بمن يستعيذ منه ومن يستعيذ به فلن يحصل له ما يصبو إليه من النجاة والإفلات من شر إبليس وكيده.
وفي الاستعاذة ثمانية أوجه مهمة وعظيمة الأهمية أذكرها موجزاً وملخصاً ما أقول:
الوجه الأول: أن من فوائد الاستعاذة أن القرآن الكريم شفاء لما في الصدور، يذهب القرآن الكريم ما يلقيه الشيطان في الصدور، ويذهب هذا الأثر ويطهر القلب وينقيه، ومن ثمّ فلابد من إخلاء القلب من هذه المادة وطرد الشيطان ومادته، ليحصل الانتفاع الكامل بدواء القرآن الكريم، ومن ثم أمر المؤمن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ليصادف القرآن الكريم محلاً خالياً فيتمكن منه ويلبث فيه ويحصل الانتفاع.
الوجه الثاني: أن من فوائد الاستعاذة أن القرآن مادة العلم والهدى والخير في القلب كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولاً بأول. كلما أحسّ بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، ومن ثم أمر المؤمن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، والفرق بين الوجه الأول والوجه الثاني أن الوجه الأول يهدف إلى حصول فائدة القرآن في القلب يهدف إلى نفع القلب بدواء وغداء القرآن الشافي، وأما الوجه الثاني يهدف إلى حفظ هذه الفائدة الناتجة عن أخذ هذا الدواء وبقائها وثباتها. ومن هنا قال من قال بالاستعاذة بالله بعد القراءة، لاحظ هذا المعنى الجيد فقال: إن الاستعاذة تكون بعد القراءة لا قبلها، لأن الآية تقول: فإذا قرأت القرآن يعني بعد أن تفرغ من القراءة، والحق أن المراد فإذا قرأت أي فإذا أردت الشروع في القراءة وهذا ما دلت عليه السنة وآثار الصحابة، وهو قول جمهور الأئمة من السلف والخلف أن الاستعاذة تكون قبل المشروع في القراءة لا بعدها، والاستعاذة قبل القراءة محصلة للأمرين للفائدة ولبقائها وثباتها وحفظها.
الوجه الثالث: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن الكريم وتستمع له كما جاء في حديث البخاري عن أسيد بن حضير أنه قرأ القرآن ليلةً فرأى مثل الظلة (أي رأى سحابةً أو عمامةً فيها مثل المصابيح.. غمامة أو سحابة من نور كأن فيها مصابيح مشتعلة تظلله من فوق رأسه، فلما أصبح قصّ على النبي ما رأى فقال عليه الصلاة والسلام: ((تلك الملائكة دنت لصوتك لمّا قرأت)) ، دنت لتستمع، والشيطان عدو الملك، ومن ثم أُمر المؤمن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن حضوره ليحضره خاصّ ملائكة الله تبارك وتعالى. فهذه منزلة لا يحضر فيها الملك والشيطان، فيستعيذ المؤمن لكي يفر الشيطان ويحضر الملك.
الوجه الرابع: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، ليحول بينه وبين الهدف الأسمى من القرآن، وهو تدبّر المعاني وتفهمها ومعرفة ما أراد المتكلم به سبحانه، وهو الله عز وجل يحول الشيطان بين القارئ وبين المقصود منه القراءة وحصول الفائدة في القلب، يشغله بأمور تلفته من هذا الهدف الأسمى المنشود، وتجعل لسانه يتمتم ويتحرك، بينما القلب في واد آخر، مشتت في كل واد منه مزعة، ومن ثم أُمر المؤمن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ومن كيده.
الوجه الخامس: أن الله تبارك وتعالى يستمع إلى قارئ القرآن الكريم، تبارك وعز وجل يشرف القارئ بأن يستمع إليه وكما جاء في الحديث: ((لله أشد أذناً لحسن الصوت بالقرآن الكريم من صاحب القينة إلى قينته)) الله تبارك وتعالى اشتد استماعاً لقارئ القرآن الكريم الحسن الصوت من صاحب القينة الذي اتخذ مغنية تغنيه وتشدوه، فأقبل عليها مشدوها إليها معجباً مطرباً، لكن الله تبارك وتعالى أشد استماعاً لقارئ القرآن الكريم فأي شرف أعلى من هذا الشرف وأي فوز أعظم من هذا الفوز. فلماذا؟
إذن قلّ الإقبال على ما يحصل هذا الشرف، لماذا إذن قلّ عدد الراغبين في أن يستمع لهم رب السموات والأرض وما بينهما، ربُ العالمين، هذا من أعظم الوجوه وهو أن يستمع الله تبارك وتعالى لقارئ القرآن الكريم.
الوجه السادس من أوجه الاستعاذة وفوائدها: أن الشيطان يقبل على القارئ إذا قرأ القرآن فيلقى في تلاوته رمد ثم يخبط لسانه ويغلط ويتشوش ويخلط في القراءة، وإذا تلفظ بلفظ من سورة ظن أنه ليس كذلك وأنه من سورة أخرى والتبست عليه القرآن، فأمر المؤمن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لكي لا يتمكن الشيطان من التخلل بينه وبين قلبه فيحدث له هذا الغلط والتشوش والتخبط، قال الله تبارك وتعالى في سورة الحج: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته. أي إذا قرأ ألقى في قراءته فإن كان ذلك فعل الشيطان بالرسل، فكيف بمن دونهم من الخلق ومن الناس، وهذا هو السبب الذي يحدث للقراء عندما يقرؤون عن ظهر قلب، يتشوشون ويتخبطون، فعلى القارئ أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم استعاذة المتيقن بما يستعاذ منه وبما يستعاذ به.
والوجه السابع: أن الشيطان يحرص على قطع الطريق الذي يسير فيه الإنسان لبلوغ خير ولتحصيل نفع وفائدة، فهو قاطع طريق يحول بين الإنسان وبين الخيرات، وإذا كان المسافر ينشغل بدفع القطاع قبل أن يسير في طريقه، فعلى قارئ القرآن أن يعلم أن الشيطان حريص على أن يمنعه من هذا الخير العظيم، وحريص على أن يقطع عليه طريقه للنفع والفائدة رضوان الله عز وجل، فعلى المؤمن إذن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم قبل القراءة.
والوجه الثامن والأخير: أن الاستعاذة إعلام بالآتي بعدها، وأنه كلام الله عز وجل، فليس لكلام غير كلام الله أن يستعاذ بالله من الشيطان الرجيم قبله، فالاستعاذة تنبيه للمستمع أن الذي ستستمع إليه بعد قليل هو كلام الله تبارك وتعالى.
أسأل الله العلي العظيم أن ينفعني وإياكم بالعلم النافع، وأن يجعل القرآن العظيم شفيعاً لنا ولكم، وحجة لنا ولكم، لا علينا، ومؤنساً لنا في قبورنا، وشفيعاً لنا يوم القيامة لبلوغ أعلى الدرجات عند الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين. اللهم صلّ وسلم وبارك على الخيرة من خلقك والمصطفى من عبادك نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فكما أمر الله تبارك وتعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم فقد أمر بالاحتراز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم بالإحسان كما جاء ذلك في سورة الأعراف سورة فصلت وسورة المؤمنون قال الله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وهذا في الاحتراز من شر شياطين الإنس، وأما ما يتعلق بشياطين الجن فالآية كالتالي: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم.
وقال تعالى في سورة المؤمنون: ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وهذا في حق الأول، وأما في حق الثاني: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون.
وقال في سورة فصلت: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
وإذا أردنا أن نضرب مثلاً للاحتراز من شر شياطين الإنس فنسوق الحديث الذي أورده الإمام البخاري – رحمه الله – عند الآية التاسعة والتسعين بعد المائة من سورة الأعراف خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فقد أورد حديثاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحر بن قيس بن حصن الفزاري كان من الشباب الذين يقربهم الخليفة العادل عمر بن الخطاب لأنه من أهل القرآن وكان أهل مشورة عمر هم أهل القرآن والعلماء سواءً كانوا شيوخاً أو شباباً، وكان الحر بين قيس من الشباب كابن عباس رضي الله عنهم جميعاً يقربهم عمر ويستشيرهم ويجعلهم أهل مجلسه، وهذا الحر ابن قيس الشاب العالم كان له عم هو عيينة بن حصن الفزاري. كان ممن يتألفهم رسول الله بالعطايا لأنه كان ضعيف الإيمان يتذبذب ويتردد، فيعطيه النبي لكي يثبت على هذا الدين العظيم، ومن ثمّ كان جلفاً غليظاً سيء الأدب والخلق جاء إلى المدينة وطلب من ابن أخيه الحر بن قيس أن يستأذن له على عمر بن الخطاب ولم يكن على باب عمر بواب، لكن عيينة كان يريد حضور مجلس عمر مجلس المشورة ليهينه على الملأ ولتكون إهانته ملء السمع والبصر مسموعة مرئية من الجميع، واستأذن الحر لعيينة على عمر ودخل عيينة فقال للخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي كان من أبرز كبار نصراء الحق من أصحاب النبي المبغضين للظلم والظالمين الساعين في إحقاق الحق وإبطال الباطل جهدهم، دخل عليه فلم يقل له يا أمير المؤمنين ولم يقل له يا خليفة رسول الله ولم يقل له من نحو ذلك شيئاً على الإطلاق، بل قال له مستهزأً متهكماً ساخراً: إيه يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجذل وما تحكم بيننا بالعدل، أي ما تعطينا ما ينفعنا ولا يحسن الانتفاع به، ولا تحكم بيننا عادلاً، لست كذلك فأنت تسيء إلينا ولا تحكم بيننا بالعدل ولا تعطينا ما يمكننا الانتفاع به فهمّ عمر به ضرباً بالدرة التي معه. لماذا؟ لأنه سيء الأدب غليظ يحتاج إلى أن يتأدب، لكن الحر بن قيس الشاب العالم قال: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وهذا من الجاهلين، قال ابن عباس راوي الحديث: فوالله ما تجاوزها عمر، وكان وقافاً عند كتاب الله عز وجل. هكذا كان عمر، عندما ذُكّر بالآية التي تحض على الاحتراز من شياطين الإنس فاحترز وامتنع، ودفع السيئة بالحسنة، وهكذا يجب أن نكون خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
وهكذا يتم المراد في هذا اليوم من التحذير من شر الشيطان وكيده ومحاربته ووصف العلاج من المرض الناشئ من الشيطان بالاستعاذة من شره، وكذلك وصف العلاج في الاحتراز من شياطين الإنس وذلك بدفع إساءاتهم بالإحسان، فإنهم ينقلبون عندئذ أحباباً وأولياءً، وما يقدر على دفع الإساءة بالإحسان إلا الصابر ذو الحظ العظيم، فإن الصبر يمد النفس المطمئنة بما تتقوى به على الغضب، ويتم عندها دفع الإساءة بالإحسان، ولا يتم ذلك لأي أحد بل ذلك مكفول للمعروفين بالحلم والعفو والصبر والأناة، ومن ثمّ قال النبي لأمير وفد عبد القيس الأشجع: ((إن فيك خصلتين يحبها الله ورسوله فقال: وما هما يا رسول الله قال: الحلم والأناة)) الحلم على المسيء وعلى الجاهل أن يُحلم عليه وأن تدفع إساءته بالإحسان، والأناة التأني والصبر والتروي في عمل الأشياء.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحلينا بهذه الخصال التي تحلى بها أمير وفد عبد القيس والتي أحبها الله والرسول. كما أسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا جميعاً أينما كنا من أرض الله من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأقم الصلاة.
(1/1404)
أمراض القلوب 6
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الجن والشياطين
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستعاذة من الشيطان. 2- الشيطان لا يخلص منه ومن غوايته إلا المخلصين. 3- براءة
الشيطان من أتباعه يوم القيامة. 4- أتباع الشيطان هم صرعى الشهوات. 5- ذلة المسلمين حين
أقبلوا على الشهوات. 6- عواصم من تسلط الشيطان على الإنسان. 7- مكر الشيطان وتنوع
أساليبه في إغواء الإنسان. 8-خلق الله البشر مفطورين على توحيده فاجتالتهم الشياطين.
9- بعض خطرات الشيطان ووساوسه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد مرّ بنا في الجمعة الماضية أن الله تبارك وتعالى أرشد في القرآن الكريم إلى الاحتراز من شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم وأرشد إلى الاحتراز من شياطين الإنس بالإعراض عن الجاهلين ودفع الإساءة بالإحسان، ونعود اليوم فنركز على ما يتعلق بعلاج القلب من مرض الشيطان فنقول:
إن الله تبارك وتعالى أمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم ليس عند قراءة القرآن فحسب كما مر بنا، وتكلمنا عن الفوائد والأوجه المترتبة على الاستعاذة من الشيطان عند الشروع في القراءة، بل أمر الله تبارك وتعالى بالاستعاذة من الشيطان عند كل الأمور والشئون فقال في سورة المؤمنون: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون أمر الله عز وجل بالاستعاذة من نزغات الشياطين ووساوسهم والاستعاذة بالله تبارك وتعالى من حضورهم أي من حضور الشياطين في أي أمر من الأمور أو شأن من الشئون، سواء كان ذلك في الحياة أو عند النزع والسياق والاحتضار.
على العبد المسلم إذن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم بهاتين الآيتين العظيمتين: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فيقول أعوذ بالله من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون.
ومما ينبغي أن يعلم أخوة الإسلام أنه ليس للشيطان سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، فمن صدق في إيمانه وتوكله وإخلاصه فاعتصم بالله وامتنع به فلن يكون للشيطان عليه سلطان إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون كما قال الله عز وجل في سورة النحل وأكد الله تبارك وتعالى أنه ليس للشيطان على المؤمن المخلص سلطان في سورة الحجر فقال الله عز وجل لما أقسم إبليس على إغواء وإضلال بني آدم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ليس لك على المؤمنين المخلصين من عبادي سلطان، إنما سلطانك على الغاوين، الذين يتبعونك من عبادي.
وفي سورة ص يحلف إبليس بعزة الله عز وجل أن يضل بني آدم وأن لا يدع منهم إلا من اعتصم بالله تبارك وتعالى وامتنع به إلا المخلصين قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين فليس للشيطان على المؤمن المتوكل الصادق في إيمانه وتوكله سلطان، وأما السلطان المثبت للشيطان في القرآن فإنما هو سلطان الإضلال والإغواء لا سلطان الحجة والبرهان، ليس عند الشيطان سلطان حجة يظهره لمن يغويهم ويوسوس لهم للدلالة على صدق ما يدعوهم إليه ويوسوس لهم به، ليس عنده من حجة ولا برهان، فهو القائل في خطبته التي سيسمعها كل أتباعه في جهنم يوم الفصل والقضاء في هذه الخطبة التي جاءت في سورة إبراهيم في الآية الثانية والعشرين وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ما كان ليّ عليكم سلطان حجة أو برهان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي دعوتكم فوافقت دعوتي أهواءكم وأغراضكم، فاستحببتم لي، أما أنا فلم يكن لي عليكم سلطان الحجة والبرهان، إذن فالسلطان المثبت غير المنفي هو سلطان الإغواء والإضلال كما قال الله عز وجل في سورة النحل: إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وقال الله تعالى في سورة سبأ: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ. سلطانه بالغواية والإضلال، إنما هو ليتبين من يؤمن بالآخرة إيماناً جازماً يقينياً ممن يدعي ذلك ولم يخالط قلبه يقين أو إيمان.
إذن ليس للشيطان على المؤمن المتوكل سلطان، وما كان له على أحد من بني آدم سلطان من حيث الحجة والبرهان، إنما سلطانه في الإغواء والإضلال والوسوسة، وبنو آدم هم الذين مكنوا الشيطان من أن يتسلط عليهم لما أطاعوه وخالفوا ربهم جل وعلا واتبعوا الشيطان الذي حذرهم الله منه! قال الله تعالى في سورة يس: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تتبعوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ألم أخذ عليكم العهد ألا تعبدوا الشيطان وألا تطيعوه إنه عدوكم الظاهر الواضح الجلي، وأن أعبدوني وأخذت عليكم العهد أن تعبدوني وحدي هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جِبِلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون ألم يكن لكم عقل تستوعبون به وتفهمون به ما أخذت به العهد عليكم من مخالفة عدوكم وطاعتي أنا، هذه جهنم التي كنتم توعدون هذا جزاء مخالفتكم جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون ومن هذا القبيل ومن هذه الجهة جهة أن الشيطان ليس له على بني آدم سلطان، إنما العصاة المخالفون من بني آدم هم الذين مكنوه من التسلط عليهم، من هذه الجهة قوله تعالى في سورة النساء: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً فليس على هذه الآية مطعن لا يقولن أحد قد أصبح للكافرين على المؤمنين السبيل كل السبيل والله تعالى يقول: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ، والجواب هو نفس الكلام السابق فالمؤمنون هم الذين سلطوا أعداءهم على أنفسهم وجعلوا لهم السبيل عليهم لما خالفوا ربهم ولم يعملوا بطاعته وأتوا بما يضاد الإيمان، جعلوا للكافرين عليهم سبيلاً، والله تعالى قد ضمن لهم إن هم داموا على طاعته ألا يكون للكافرين عليهم سبيل لكن هم الذين مكنوا الكافرين منهم لما ذلّوا أنفسهم لأعدائهم وأشادوا بذكرهم وطلبوا مودتهم وعطفهم، وأشادوا بذكر الكفرة الفسقة المارقين منهم، وملأوا صحفهم بالحديث عن هؤلاء الكافرين وأعرضوا عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وتصحيح مسارها، وهي تشتكي إلى الله تبارك وتعالى ظلم أصحابها الذين ائتمنوا عليها، فالبدع تمخر في غبابها وتعرض سفينة الدعوة دائماً للتدمير والتحطيم، والمسلمون ملتفتون عن ذلك كله إلى الإشادة بذكر أعدائهم الذين حذرهم الله منهم وأخبرهم أنهم أعداءهم كما أخبرهم أن الشيطان عدوهم ولكن مرض القلوب الذي ينقسم إلى مرض شهوات وشبهات أعمل في القلوب عمله، فأصبح كثير من المسلمين لا يهمهم إلا المآكل والمشارب والنساء، ولا يهمهم كيفية تحصيل هذه الشهوات من حرام أو حلال، لأن الشهوات قد تمكنت من قلوبهم فأمرضتها، وليس عندهم إيمان قوي يدفعون به هذه الشهوات فمرضت القلوب، ومرضت كذلك بمرض الشبهات لما شكّوا في نصر الله عز وجل وتأييده لعباده، واغتروا بقوة أعدائهم، فركنوا إليهم وتذللوا لهم ليضمنوا لأنفسهم السلامة معرضين عن وعد الله عز وجل في سورة النور: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا – بشرط – يعبدوني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ، أطاعوا أعداءهم في الإقبال على الشهوات واستولت الشبهات على القلوب، وعلم أعداء المسلمين أن المسلمين لو انسلخوا من دينهم فستكون المواجهة بين سلاح وسلاح، وعندها تكون الغلبة لأصحاب السلاح المتفوق للأعداء.
وأما إن تمسك المسلمون بدينهم فستكون المواجهة بين سلاح فقط، ودين وسلاح، حتى لو كان السلاح يومها أقل في القوة من سلاح الأعداء إلا أن الدين المتين والإيمان القوي سيعوض النقص الذي فات في السلاح لأن الله عز وجل قال في سورة آل عمران للنبي وأصحابه: بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.
وتسبب المسلمون يوم أحد في جعل السبيل للكافرين عليهم بسبب المخالفة ومعصية رسول الله فهل في المسلمين اليوم من هو أقوى ديناً وإيماناً من أصحاب النبي حتى لا نبتلى وحتى لا نذوق من وبال الكافرين، وحتى لا نذوق من تسلطهم، ولكون السبيل منهم علينا، هل فينا اليوم من هو أقوى من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين امتحنوا بأن جعل السبيل للكافرين عليهم لأنهم خالفوا وعصوا، وهم الذين عاينوا من أمارات نصر الله يوم بدر ما كان كفيلاً بألا ينسوا ما عهد إليهم به رسول الله.
ولكن أراد الله تبارك وتعالى بما قدّره عليهم أن يُلقن المسلمون الصادقون الدرس الذي لا يُنسى أبد الدهر، ولكن الدرس نُسي، القرآن نسيت الأوامر منه والنواهي ووليّ ظهرياً ولم يعد يظهر إلا بتمتمة الشفاه، وهاهم المسلمون اليوم حالهم ليس في حاجة إلى كثير شرح أو ذكر، أنتم تعرفون ما وقعوا فيه من الإشادة بأعدائهم وحبهم ومودتهم وإغداق الأموال والهدايا عليهم ليزدادوا ثراءً إلى ثرائهم وليزداد المحتاجون من المسلمين حاجةً إلى حاجتهم وفاقةً إلى فاقتهم وضعفاً إلى ضعفهم، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
إذن فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع تسلط الشيطان، والشرك وفروعه يوجب تسلط الشيطان، وكلٌ بقضاء من أزمة الأمور بيديه ومردها ومرجعها إليه، فلو شاء لجعل المسلمين أمةً واحدة، ولكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك قال في نهاية سورة الجاثية قال تعالى: فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سلك هداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله تبارك وتعالى حذرنا من إبليس وأخبرنا عنه أنه لما سئل عن سبب امتناعه من السجود أنه أجاب بالاحتجاج بأنه خير من آدم فأخرجه الله تبارك وتعالى من الجنة، وسأل إبليس ربه أن يمهله وينظره إلى يوم القيامة، وأنظره الله تبارك وتعالى فقال بعدما تم الإنظار وتمت كلمة الله تبارك وتعالى بإمهاله فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم – كما في سورة الأعراف – ثم لآتينهم من بين أيديهم من خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين حلف وأقسم ليقعدن إلى بني آدم على كل طريق يوصل إلى مرضاة الله تبارك وتعالى: لأقعدن لهم صراطك المستقيم وإذا كان الصراط قد فسر بأنه الدين الواضح كما جاء عن ابن عباس أو أنه كتاب الله كما جاء عن ابن مسعود، وبأنه الإسلام كما جاء عن جابر أو بأنه الحق كما جاء عن مجاهد، إلا أنها جميعاً أقوال متقاربة تعود كلها إلى معنى واحد وهو الطريق الذي يوصل إلى مرضاة الله عز وجل، حلف إبليس وأقسم ليقعدن على هذا الطريق لكي يتمكن من إضلال وإغواء بني آدم، فمن أراد منهم أن يفعل الخيرات ثبطه وأتاه من كل الجهات من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله موسوساً ومضللاً ومغوياً، فإن استجاب له كان له خادماً ومعيناً ومغنياً، حتى إذا وقع في المحظور تخلى عنه وتبرأ منه كما سيأتي ذلك في الخطبة القادمة إن شاء الله وقدّر.
لأقعدن لهم صراطك المستقيم فما من طريق خير إلا والشيطان قاعدُ عليه لبني آدم ليقطعهم عن سلوكه ثم لآتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم لأرغبن لهم الدنيا ولأزينها لهم ولأشهينها لهم ولأطمئننهم بأن الآخرة ليس فيها جنة ولا نار، ولآتينهم إن أرادوا فعل الحسنات فأخوفهم من الفقر والفاقة، وإن أرادوا فعل السيئات لآتينهم لنزيننها حتى يرتكبوها ولا تجد أكثرهم شاكرين ولن يتمكن أكثرهم بأن يكونوا من الشاكرين أبداً، ولهذا قال الله تبارك وتعالى عنهم كذلك في سورة النساء: إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله ما يدعو العصاة والمخالفون إلا إناثاً وإلا شيطاناً مريداً، شيطاناً عاتياً عاصياً ويعبدون مع الشيطان مناة والعزى واللآت هذه الأسماء المؤنثة، ويعبدون شيطاناً عاتياً مريداً لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً تمّت لعنة الله على إبليس وقال إبليس لمّا لُعن: لأتخذن من بني آدم نصيباً مفروضاً، مفروضاً: أي مقدراً، فكل من أطاعه فهو من نصيبه المفروض وحظه المقصود ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً حلف على أن يُضل بكل جهده وكل وسعه وأن يمني بنى آدم بالأماني الكاذبة والوعود الباطلة، ويقول للمتابع منهم له: الدنيا ستكون لك وستنال منها لذتك، وسيطول عمرك وستعلو على أقرانك وستظفر بأعدائك ثم إن أصحاب النفوس المهينة الخسيسة المبطلة التي لا قدر لها يغترون بالأماني الباطلة والوعود الكاذبة فيستجيبون له ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام لآمرنهم فليبتكن – البتك هو القطع وهو البحيرة من الإبل يقطعون أذنها لتتميز بين الإبل بحكم معين لم ينزل الله به سلطاناً من حيث عدم الركوب وعدم الحلب وما إلى ذلك، ولم يأمر الله إلا بالانتفاع بهذه الأنعام وهذه الإبل ولكم فيها منافع ومشارب.
ولآمرنهم فليغيرن خلق الله قال العلماء: أي فليغيرن دين الله لأن الله تبارك وتعالى قال في سورة الروم: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله فسعى إبليس إلى تغيير خلقه الروح بتغيير الدين، وتغيير خلقة الصورة بفعل الأفاعيل التي لم يأمر الله بها في الأنعام والإبل بل وفي الوجوه، وجوه بني آدم من حيث حلق اللحية بالنسبة للرجال وبالنسبة للنساء فبالنمص وغير ذلك مما نهى النبي عن مثله، تغيير لخلقة الروح وتغيير لخلقة الصورة وقد جاء في حديث صحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة)) – كل مولود يولد على الفطرة الصحيحة ولو خلت شياطين الإنس والجن بين الناس إلى تغيير الفطرة ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) الأبوان يعود عليهما الحكم إما أن يُهودا أو يُنصرا أو يُمجسا الصبي المولود أو يتركونه على الفطرة التي لو خُلي بينه وبينها لما اختار إلا هي". قال عليه الصلاة والسلام: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء)) – أي سليمة من العيوب مجتمعة الأعضاء – ((هل تحسون فيها من جدعاء)) – هل تولد البهيمة مقطوعة الأنف أو الأذن أو الشفة هذا هو الجدع – ((إلا أن تكونوا أنتم تجدعونها)) فهذا الحديث بين فيه النبي أن التغيير يكون في خلقة الروح وفي خلقة الصورة هكذا ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً يعدهم ويمنيهم أي الشيطان يعدهم وعداً باطلاً ويمنيهم أماني كاذبة ووعده باطل وأمانيه محالة.
ثم ذكر الله تبارك وتعالى وهذا آخر ما أذكره في هذه الخطبة أخبر في سورة البقرة عن وعد الشيطان لنبي آدم فقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم والشيطان يعدكم الفقر يخوفكم من الإنفاق ويخوفكم من السخاء والبذل والجود، ويرغب إليكم بالإنفاق فيما يعود عليكم بالخسران وبغضب الله عز وجل – ويأمركم بالفحشاء – أي بالبخل عن الإنفاق فيما يرضي الله عز وجل –.
فسر بعض علماء المسلمين الفحشاء في هذه الآية على أنها البخل وقالوا كل فاحشة في القرآن هي الزنا إلا هنا، والصواب كما قال ابن القيم – رحمه الله – أنها على بابها، وأنها كل فعلة فحشاء وكل خلة فحشاء، وهذا يشمل البخل وغيره من الفواحش.
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ومدار عمل إبليس مع بني آدم على هذين الأمرين يخوفه من فعل الخير ويأمره بفعل الشر، أما ربنا فإنه يقول في مقابل ذلك في نهاية الآية: والله يعدكم مغفرةً منه وفضلاً مغفرة: أي وقاية من الشر فإن كان إبليس يأمر بفعل الشر فإن الله يعدنا بالمغفرة على ما يفلت ويقع منا من الذنوب والمعاصي إذا تبنا منها وأحسنّا الإخلاص إليه، يقينا من شرور أنفسنا التي نحدثها بسبب الشهوات، والشبهات، فضلا والفضل هو إعطاء الخير، إبليس يخوفنا من إعطاء الخير. إبليس يخوفنا من إعطاء الخير، والله تبارك وتعالى يعدنا بأن يعطينا الخير لقاء ما نبذله من الخير.
وروي الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان وقال الترمذي حسن غريب عن ابن مسعود أن النبي قال: ((إن للملك بقلب ابن آدم لمّة، وللشيطان لمّة)) – لمّة يعني الخطرات والهم بفعل الشيء ((للملك لمّة وللشيطان لمّة)) ، الملك والشيطان يتعاقبان على القلوب ((أما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالوعد، وأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالوعد)) والملك والشيطان يتعاقبان على القلوب كتعاقب الليل والنهار، ويرمز بالشيطان بالليل لأنه مظلم أسود وهكذا عمل الشيطان يتسبب في إظلامه وتسويده، والنهار يرمز به للملك لأن النهار واضح جلي، ولمّة الملك تؤدي إلى بياض القلب ونقائه، ما يزال الملك والشيطان يتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فمن الناس من ليله أطول من نهاره، ومنهم من زمانه نهار كله، ومنهم من هو بضد ذلك أي زمانه ليل كله، وهذا مراد به تعاقب الملك والشيطان على القلوب فاستعيذوا بالله من شر الشيطان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1405)
التقوى والعبادة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة في تشريع العبادات تحصيل التقوى. 2- فضل التقوى. 3- حقيقة التقوى. 4-
فضل ذكر الله عز وجل. 5- منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العبد المسلم عليه أن يخرج بعد كل عبادة يؤديها بأثر محمود يظهر على نفسه، وقد أثبت الله تبارك وتعالى الأثر المحمود للعبادات فقال في حق الصلاة في سورة العنكبوت: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال في فضل الزكاة وأثرها على تطهير النفس في سورة التوبة: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقال في حق الصيام في سورة البقرة: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وكذا ثبت الأثر المحمود للحج من خلال ما قاله الله تعالى عن الدروس المستفادة والأمور المعتبرة من خلال الحج حيث أحاط كل أمر من أموره بالتقوى وأمر بها في كل حالاته وأمر بالإكثار من ذكره في كل حاله، وفي الحج كذلك صبر على احتمال المشقات وتعاون على البر والتقوى وزيادة واشتداد آصرة الأخوة والمحبة في الله تبارك وتعالى، فإذا تكلمنا على هذه الدروس المستفادة، وبدأنا بالحديث عن التقوى نقول إن الله تبارك وتعالى قال في نهاية أول آية من آيات الحج في سورة البقرة: واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب وقال في الآية الأخيرة من آيات الحج في هذه السورة: واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون عدا ما ذكره من الأمر بالتقوى في ثنايا الآيات الآخر. وقال في سورة الحج في آياته: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب فالحج يُعوّد على ملازمة التقوى، والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين. قال: الله تعالى في سورة النساء: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله. وأوصى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم معاذاً وأبا ذر فقال لهما رضي الله عنهما - قال لكل واحد منهما كما أخرجه الترمذي بسند حسن وأخرجه الحاكم قال لكل واحد منهما: ((اتق الله حيثما كنت)) : أي في سرك وعلانيتك. وقال أبو هريرة فيما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن حبان، قال إن رسول الله سُئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).
والتقوى أيها الأخوة الكرام هي فعل المأمور واجتناب المحظور ومن زاد أن يتقي المكروهات ويفعل المندوبات فذلك الذي أحرز سبقاً بعيداً.
هذه هي التقوى أن تستشعر قرب الله منك وأن تستحضر إطلاعه عليك كما كان رسول الله يدعو ويقول: ((اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) ، أي في السر والعلانية، تخشاه في ظاهرك وباطنك وسرك وعلانيتك على نحو واحد. وقال أبو هريرة لرجل يصف التقوى: هل سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: كيف تصنع؟ قال: أحيد عنه وأتقيه، قال أبو هريرة: كذلك التقوى، ومن هاهنا أخذ ابن المعتمر فقال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقي
واصنع كماشِ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وقال الحسن البصري – رحمه الله – ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة أن يكون حراماً.
هكذا ويقول ابن السماك:
يا مدمن الذنب ألا تستحي والله في الخلوة ثانيك
غرّك من ربك إمهاله وستره طول مثاويك
فهذا درس عظيم مستفاد من دروس الحج، ملازمة التقوى.
كنت بين الناس تتقي الله عز وجل وتحرص على أن تكون في أحسن حالات العبد مع الله تبارك وتعالى. إذا تعودت على ذلك فالزمه بعد الحج، واجعله أثراً من آثاره المحمودة على نفسك.
وأما الأثر الثاني: فهو ملازمة ذكر الله تبارك وتعالى. إذ أمر الله تبارك وتعالى في الحج بالإكثار من ذكره وملازمته، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ويقول: واذكروا الله في أيام معدودات ويقول: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء بسند حسن. أن النبي قال: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تعطوا الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله)).
وقد أمر الله تبارك وتعالى بالإكثار من ذكره فقال في سورة الأحزاب: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما من قومٍ يجلسون مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيه إلا كان عليهم ترة)) – أي حسرةً وندامة ومسئوليةً عظيمةً يسألون عن ذلك يوم الحساب، قال: ((فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)).
ذكر الله تبارك وتعالى والذي أمرنا بالإكثار من ذكره، وقد تعودنا عليه في الحج، كنا نقول من مطلعنا: لبيك الله لبيك، فلما انتهينا أخذنا في التكبير، الله أكبر الله أكبر، فلما قضينا فريضة الحج أُمرنا كما يؤمر كل منتهي من عبادةً أن نُكثر من استغفار الله عز وجل. وهذا كله يعوِّد الحجاج على ملازمة ذكر الله تبارك وتعالى فعليهم أن يحرصوا على ملازمة هذا الأمر الجليل الذي تعودوه فلا يحرموا أنفسهم من ذكر الله تبارك وتعالى قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وفي مجالسهم كلها، وعليهم ألا يحرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم والخير الجزيل والمآل الكريم عند الله تبارك وتعالى. قال النبي فيما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((سبق المفردون؟ قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)).
وأما الصبر على احتمال المشقات فهذا أمر غير خافٍ، حيث احتمال الحرارة والعرق الغزير والماء الذي لو نظر الإنسان إلى أسفل الخزانات مثلاً لم يشربه، لكنه يصبر في هذه الأيام على هذه المشقات ليعلم ما هو فيه من نعم في مقامه وفي حياته العادية الهنيئة السعيدة وليعرف ما فيه إخوانه ممن قلل الله تبارك وتعالى مصادر رزقهم ونعماهم فلم ينعموا بما نعمنا به نحن، وليعرف الإنسان ما ينتظره الفاجرون المارقون يوم القيامة إذ أقلهم عذاباً من توضع تحت أخمص قدميه جمرتان من نار تغلى منهما دماغه. كلما تعرض الإنسان لحَر أو تعرض لمشقة من المشقات عادت عليه هذه المشقات بهذا الدرس وهذه العبرة المستفادة.
ثم يتعود الإنسان كذلك على البر والتقوى من خلال اختلاطه بإخوانه، فيتعاون كل منهم على ما يحتاج إليه إخوانه الآخرون وما يصلحهم وتشتد آصرة المحبة والأخوة في الله تعالى من خلال هذا التعاون.
هذه دروس مستفادة ملخصة موجزة على من أدى فريضة الحج أن يلزمها وأن يظهر أثرها عليه كما أن على كل من أدى عبادةً أن يظهر أثرها المحمود عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين اللهم صلّ وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فمنذ يومين أو منذ ليلتين على الأحرى ارتفعت أصوات النساء في مكبر الوقت قريباً من صلاة الفجر بأغانٍ خليعة غير نزيهة لابد أن يكون لي فيها كلمة أنكر فيها هذا الأمر الذي شاع وذاع في ليالٍ العرس أو فيما يسمى بالسابع. هذه الأغاني أحلها رسول الله للنساء في ليالي العرس، أحلها شريطة أن تكون نزيهة سالمة من السفه والخلاعة. وأحل لهن كذلك أن يستعملن من أجل إشهار النكاح الدف الذي له وجه واحد، فلم يحل لهم الموسيقى المحرمة والطبل وما إلى ذلك مما ذاع وشاع بين النساء وبين الرجال كذلك. وعلى من يفعل ذلك أن يتقي الله عز وجل حتى لا يُحل بنفسه وبمن يشاركونه العقوبة. لا ينبغي أن يبدلوا نعمة الله كفراً وفسقاً، ولأجل هذه الأمور التي ذاعت وشاعت أصبحت كثير من البيوت لا تستمر كثيراً بعد تشييدها. إذ يُبدأ مع الله بالمبارزة بالمعاصي في هذه الليالي على أنحاء وأمور كثيرة غير خافية ولا مجهولة: إسراف ملحوظ في المآكل والمشارب وفضلات عظيمةً هائلة لا مكان لها إلا سلة القامة. ودخان تتضوع سمومه في أجواء الحاضرين ولهو ولعب وموسيقى وطبل ورقص وغناء لم ينزل الله به من سلطان، ولم يحل ذلك ولم يشرعه.
فهذه البيوت التي تنشأ على هذه الحالة من معصية الله تبارك وتعالى لا تلبث أن تنقض دعائمها وأن تنهدم بعد أن بُنى هذا الصرح وتكلف الكثير من مهور مبالغ فيها وأثاث مبالغٍ فيه وغير ذلك مما لا يخفى، سرعان ما يتطرق إليها الزوال والخراب بسبب أن البداية لم تكن صحيحة سليمة.
وانظروا إلى البيوت القليلة التي أصرت على أن تُبدأ بطاعة الله تبارك وتعالى وتقواه، فلم تسمع في ليالي عرسهم إلا الخير. يقولون الخير ويُسمعون الناس الخير، يدخلون على خير ويخرجون على خير، ما أهنأ حياة هذه البيوت، وما أهنأ الزوجين وما أسعدهما، إذ يبدءان مع الله هذه البداية.
وأما الآخرون فيبدؤون بهذه المناكر ويورطون أقاربهم، ويحار الناس هل نحضر هذه الليالي؟ والجواب يسير: إن لم تستطع إزالة هذا المنكر لا تحضر أبداً. فالدنيا كلها وإن ملكها لا تساوي أن تكون في قوم ينظر الله إليهم نظرة مقت.
الدنيا كلها لا تساوي أن تقع في نظرة مقت من الله عز وجل، إن لم تستطع إزالة هذا المنكر لا تجلس ولا تشارك فيه ولا تحزن ولا تبتئس ولا تقل أرحامي والناس يقولون ويقولون:
يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئةً فلا يجزي إلا مثلها ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون منها بغير حساب اتقوا الله عباد الله، اتقوه حق تقاته كما قال ابن مسعود وذلك بأن: يطاع فلا يُعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1406)
بم يفرح المؤمنون
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, العلم الشرعي, القرآن والتفسير
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرح بأمور الدنيا مذموم. 2- الفرح بفضل الله ورحمته. 3- من الفرح ما هو محمود ومنه
ما هو مذموم ومنه ما هو مطلق ومنه أيضاً المقيد. 4- التمثيل لذلك في لقران. 5- فرح ابن
مسعود بموافقة فتياه لفتيا النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: كنت قد ذكرت في آخر خطبة قول الله تعالى المتعلق بقارون في الآية السادسة والسبعين من سورة القصص حيث يقول ربنا تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وذلك في معرض الكلام على أن الفرح بالانتصارات الكروية فرح مذموم شرعاً. ثم خشيت بعد ذك أن يظن أن هناك تعارضاً بين بغض الله للفرحين وبين إثبات الفرح للمؤمنين كما في سورة الروم مثلاً في قوله تعالى: ويومئذ يفرح المؤمنون.
فرأيت تتميماً للفائدة أن أشفع الخطبة الماضية بخطبة أخرى يكون موضوعها "ما جاء في الفرح في القرآن الكريم والسنة المطهرة".
وينبغي أولاً قبل الخوض في مواضع الفرح في القرآن والسنة أن نعرف أن الفرح هو نعيم القلب وبهجته وسروره، والحزن عذابه. والفرح فوق الرضا هو طمأنينة القلب وسكونه وانشراحه فحسب، وهو ضد السخط، ولذلك فإن السخط لا يؤلم القلب، والحزن يؤلمه إلا إن كان مع العجز على الانتقام والله أعلم.
ذكر الفرح في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً، هذا الفرح المذكور في القرآن تسمان: مطلق ومقيد.
مطلق لم يقيد بسبب للفرح، ومقيد ينقسم إلى قسمين: مقيد بالدنيا وهو مذموم كالقسم الذي قبله، فالفرح المطلق الذي لم يذكر له سبب مذموم، والمقيد بأمور الدنيا مذموم، والقسم الثاني من أقسام المقيد: هو الفرح بفضل الله ورحمته وينقسم أيضاً قسمين: فرح بالمسبب وفرح بالسبب، فتكون أقسام الفرح بعد هذه التفريعات والتقسيمات أربعة: مطلق ثم مقيد بالدنيا ثم مقيد بفضل الله ورحمته ينقسم إلى فرح بالمسبب وفرح بالسبب.
أما القسم الأول: وهو الفرح المطلق: فقد ذكر في خمسة مواضع من مواضع ذكر الفرح بالقرآن.
والمقيد بالدنيا: ذكرى في ثلاثة عشر موضعاً منها.
والمقيد بفضل الله ورحمته: ذكر في أربعة مواضع موضع واحد للفرح بالمسبب وثلاثة للفرح بالسبب.
وسأتكلم عن موضع واحد من مواضع كل قسم بإيجاز: فأختار من مواضع القسم الأول وهو القسم المطلق. أختار من الآيات التي وردت فيه الآيتين التاسعة والعاشرة من سورة هود حيث قال ربنا تبارك وتعالى: ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور فهذا فرح مطلق ولهذا فهو مذموم. يخبر الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين عن طبيعة الإنسان أنه جاهل ظالم لأنه إذا أذاقه سبحانه منه رحمه كالصحة والرزق والأولاد ونحو ذلك ثم نزعها منه فإنه يستسلم لليأس وينقاد للقنوط فلا يرجوا ثواب الله تعالى ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها أو خيراً منها عليه. وإذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته أنه يفرح ويبطر ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، فيفرح بما أوتي مما يوافق هواه، ويفخر بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق واحتقارهم وازدرائهم وأي شيء! وأي عيب أشد من هذا. وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضدّه، ولهذا أعقب الله تعالى هاتين الآيتين بقوله تعالى: إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات صبروا إذا آتاهم الله نعمة ثم نزعها منهم، صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة أجر كبير.
وأما القسم الثاني: فأختار من مواضعه تلك الآيات الأربع من سورة الأنعام من الآية الثانية والأربعين إلى نهاية الآية الخامسة والأربعين في قسم الفرح المقيد بالدنيا قال الله تعالى في هذه القسم المذموم:
ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
يقول الله تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلكم : من الأمم السالفين المتقدمين. فكذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا فأخذناهم بالبأساء والضراء : أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب. رحمة منا بهم لعلهم يتضرعون : إلينا ويلجئون عند الشدة إلينا. فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم : لم يتضرعوا عند البأس والشدة. ولكن قست قلوبهم : أي استحجرت فلن تلين للحق وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون : ظنوا أن ما هم عليه دين الحق فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان ولعب بعقولهم الشيطان.
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء : أي من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الدنيا. أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون أي آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب أن يؤخذوا على غرة وغفلة وطمأنينة ليكون أشد لعقوبتهم وأعظم لمصيبتهم. فقطع دابر القوم الذين ظلموا : أي اصطدموا بالعذاب وتقطعت بهم الأسباب، فاستأصلت شوكتهم ولم تغن عنهم شيئاً قوتهم. والحمد لله رب العالمين على ما قضاه وقدره من هلاك المفسدين، ولأنه بذلك تتبين آياته وتكريمه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون.
وأما القسم الثالث: وهو المقيد بفضل الله ورحمته، فأختار من فرعه الأول (المقيد بالمسبب) الفرح المقيد بالمسبب الموضع الوحيد الذي جاء في سورة آل عمران في الآيتين التاسعة والستين والسبعين بعد المائة حيث يقول ربنا عز وجل: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أي لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل إعلاء الدين قاصدين إعلاء كلمة الله تعالى. لا يخطرن ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها الذي يحذر من فواته من جَبُن عن القتال وزهد في الشهادة لا يخرطن ببالك ذلك فإنه قد حصل لهم أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون، فهم أحياء عند ربهم في دار كرامته، وقوله: عند ربهم يقتضي علو درجتهم وقربهم من ربهم سبحانه: يرزقون من أنواع النعيم الذي لا يعرفه إلا من أنعم به عليهم. وهم مع ذلك صاروا فرحين. أي مغتبطين بما أتاهم الله من فضله، قرت به عيونهم وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته وعظمته وكمال اللذة في الوصول إليه وعدم المنغص.
فجمع الله تبارك وتعالى لهم بين نعيم البدن بالرزق ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله، فتم لهم النعيم والسرور وجعلوا يستبشرون أي يبشر بعضهم بعضاً بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم وأنهم سينالون ما نالوا، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور.
وأما الموضع الأخير: وهو المقيد بفضل الله ورحمته في قسمه المقيد بالفرح بالسبب، فأختار من ثلاثة مواضعه الموضع الذي جاء في سورة يونس في الآية الثامنة والخمسين في قوله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. أمر الله تبارك وتعالى بالفرح بفضله أي بالإسلام على قول من أقوال المفسرين، وبرحمته : أي بالقرآن على قول من أقوال المفسرين.
افرحوا أيها الناس بفضل الله، أي الإسلام ورحمته أي القرآن، فإنهما أعظم نعمة ومنة تفضل الله بها عليكم، ليست نعمةً دنيوية تنسي فضل الله ومنته بل هي نعمة عظيمة إسلامية قرآنية دينية تقرب إلى الله تبارك وتعالى وتشعر بالفرح والسرور بهذه المنة الربانية الكريمة. ذلك خير من كل ما يجمعه الناس من زينة الدنيا وزهرتها ومتاعها المضمحل عن قريب. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
إذ لا نسبة بين نعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين وبين كل ما يجمعه الناس من حطام الدنيا وزينتها الزائلة، لا نسبة بين هذا وذاك، وإنما أمر الله تبارك وتعالى بالفرح بذلك لأنه يوجب انبساط النفس ونشاطها وقوتها وشدة الرغبة في العلم والدين الداعية للازدياد منها، هذا ما ينبغي أن يفرح به الإنسان، لا بشهوات الدنيا ولا بالفرح الباطل المذموم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأما مواضع ذكر الفرح في السنة المطهرة فهي كثيرة، كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد ورغم وجود الكثير في الصحيحين إلا أنني عدلت إلى حديث في مسند الإمام أحمد وعند أصحاب السنن ليتبين من خلاله الفارق الشاسع والبون البعيد بين الصحابة وبيننا، فإنه يتبين من خلال ذكره بأي شيء كانوا يفرحون، وبأي شيء أصبحنا نحن نفرح في آخر هذا الزمان.
نعم، هذا الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن وغيرهم عن عبد الله بن عتبة بن مسعود بسند صحيح، وهو ابن أخ عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل عالي الرتبة البدري المحبوب إلى الله ورسوله يقول عبد الله بن عتبة ابن مسعود: أتى عبد الله بن مسعود فسُئل عن رجل تزوج امرأةً ولم يكن سمى لها صداقاً فمات قبل أن يدخل بها فلم يقل فيها شيئاً. فرجعوا ثم أتوه فسألوه، فقال: سأقول فيها بجهد رأيي، فإن أصبت فالله عز وجل يوفقني وإن أخطأت فهو مني ومن الشيطان والله عز وجل ورسوله بريئان منه. لها صداق نسائها ولها الميراث وعليها العدة. أي لها صداق نسائها، لم يكن زوجها قد سمى لها صداقاً وعيّن لها صداقاً فيفرض لها من تركته صداق كالذي يفرض ويعين لنسائها لها صداق المثل، ولها الميراث وعليها العدة – وطبعاً هذا لا يعارض أن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها لأن هذا مات قبل الدخول. مات ولم يطلق. فهنا فرق.
فقام رجل من القوم المستمعين لفتيا عبد الله بن مسعود فقال: أشهد على النبي أنه قضى بمثل ذلك، فقال عبد الله بن مسعود: هلم من يشهد لك بذلك (أريد شاهدين على أن النبي أفتى وقضى بمثل هذا، يريد أن يطمئن إلى هذا الأمر الذي يُفرح فرحاً شديداً، ولكن يفرح من؟ يفرح من كان لا يفرح إلا بفضل الله ورحمته، لا بغرور الدنيا ولعبها وباطلها ولهوها وزينتها ويفتخر بذلك. ويلهو بذلك ويلعب الشيطان بعقله ويذهب كل مذهب بسبب هذا الإفراط في الفرح المذموم، لا، إنه فرحٌ بفضل الله ورحمته، من يشهد لك بذلك. فقام الجراح وأبو سفيان الأشجعيّان وقالا: نشهد أن النبي قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق. تزوجها رجل يقال له هلال ابن مروان مات قبل أن يدخل بها، فعرض ذلك على النبي فقضى بمثل ما قضيت به يا ابن مسعود فجاء في بعض الروايات أن ابن مسعود ما فرح بعد الإسلام بشيء مثل فرحه بموافقة قوله لقضاء النبي.
نعم، نعم وأي شيء يمكن أن يفرح به الإنسان أكثر من هذا الفرح. ألا يجد نصاً في القرآن ولا في السنة فيما يعلم هو فيضطر إلى الإفتاء بعد الاجتهاد وإعمال النصوص بقدر المستطاع ومحاولة الاستنباط ثم يعلم بعد ذلك أن ما اجتهد فيه وافق قضاء النبي هل يُفرح العبد المؤمن المسلم شيء مثل هذا؟ لا، ففرح فرحاً شديداً حين وافق قوله قضاء النبي ، فبمثل هذا فليفرح المؤمنون والمسلمون.
أيها الأخوة الكرام نسأل الله تعالى ألا يجعل قلوبنا تهش أو تبش أو تفرح إلا بما يرضي الله تعالى، آمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
(1/1407)
صفات المؤمنين في سورة الأنفال 3
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القرآن والتفسير
سعيد بن يوسف شعلان
جدة
عمار بن ياسر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى التوكل على الله. 2- فضل التوكل وعاقبته. 3- كيف نحقق في أنفسنا التوكل
الصحيح على الله. 4- ذم الركون إلى الأسباب وذم التفريط فيها. 5- درجات التوكل على الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: سبق لنا أن عرفنا أن المؤمنين ينحصرون فيمن كان بهذه الصفات التي وردت في الآيات الأولى من سورة الأنفال التي ما زلنا معها منذ فترة، وقد انتهينا من الصفتين الأوليين منها، وسنكون اليوم إن شاء الله وقدّر مع الصفة الثالثة من هذه الصفات، يقول الله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون.
عباد الله:
إن الأمر كله لله عز وجل، وليس للعبد فيه شيء البتة، ولهذا فإن التوكل على الله عز وجل هو تسليم الأمر منه وله، وعزل العبد نفسه عن منازعة مالكه، واعتماده عليه فيه وخروجه عن تصرفه بنفسه وحوله وقوته وكونه به سبحانه دون نفسه، وهذا هو مقصود التوكل فإذا عزل العبد نفسه عن مقام المتوكل عزلها عن حقيقة العبودية.
وقد خاطب الله سبحانه في كتابه خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه وشرط في إيمانهم أن يكونوا متوكلين.
والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه، فهذا يدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل، فمن لا توكل له لا إيمان له.
ومن الآيات الدالة على أن الله تعالى شرط في إيمان خواص خلقه أن يكونوا متوكلين قوله تعالى في سورة المائدة: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وقال في سورة آل عمران: وعلى الله فليتوكل المؤمنون وقال في سورة الأنفال: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون فدلت هذه الآية كما سبق على أن المؤمنين ينحصرون في من كان بهذه الصفات.
ومن الآيات الدالة على عاقبة التوكل وفضله قوله تعالى في سورة آل عمران: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم وقوله تعالى في سورة الطلاق: ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
ومن الأحاديث – حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وهو في الصحيحين، وقد قال النبي في صفتهم: ((لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون)).
ومن الأحاديث أيضاً ما أخرجه أهل السنة بإسناد حسن عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي قال: ((من قال – أي إذا خرج من بيته – بسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووقيت وكُفيت، فيقول شيطانه لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي ووقي وكُفي)).
والتوكل نصف الدين، والإنابة النصف الثاني، فإن الاستعانة عبادة، والتوكل هو الاستعانة والإنابة هي العبادة ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، من صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان هذا الشيء محبوباً لله مرضياً كانت للعبد فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطاً لله مبغوضاً كان ما حصل له مضرةً عليه، وإن كان هذا الشيء مباحاً حصلت للعبد مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه إن لم يستعن فيه على طاعة الله عز وجل.
والتوكل عمل قلبي فليس بقول اللسان كأن تقول: أنا متوكل على الله، وعمل قلبك يكذب ذلك. التوكل عمل قلبي فليس بقول اللسان وعمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات، هو عمل قلبي أن تسلم الأمور بقلبك إلى الله، وأن تعتمد على الله في قضائها وألا تنازعه فيها فهو مالكها. وأن تنزل الأمور كلها بالله عز وجل.
هذا هو التوكل عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا بعمل الجوارح ولا هو من باب العلوم والإدراكات.
ويتحقق التوكل بثمان درجات كل درجة منها حريّةٌ بخطبة مستقلة لا سيما وهذه الدرجات قد حصل فيها تفريط عظيم من المسلمين في فهمها وبالتالي في تحقيقها، لكن جمع الفوائد مع الاختصار أمر مطلوب في وقت وزمن قليل البركة سريع الانقضاء والمدى كوقتنا وزماننا هذا، ومن ثمَّ فلابد أن نجملها وننهيها في هذه الخطبة جملة واحدة.
وأول درجة من هذه الدرجات التي يتحقق بها التوكل: معرفة العبد بربه وبصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور كلها إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول موضع يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل، فكلما كان العبد بالله وبصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى، وهذه الدرجة الأولى هي أعظم درجة وأكثر درجة حصل فيها التفريط في الفهم والتحقيق لأن معظم الأمور في زماننا هذا تصرف الناس عن معرفة الله عز وجل وتوسع دائرة علمهم بالدنيا وشهواتها الفانية الزائلة المرحول عنها عما قليل، فحصل الجهل بالله وبصفاته سبحانه وتعالى ومن ثمَّ قدح التفريط العظيم في هذه الدرجة في توكل الناس فعاد ضعيفاً هزيلاً.
عجيب أمر الناس في غاية العجب وشدته، عندما ينصرفون عن إنزال أمورهم بالله عز وجل وإلقائها إليه ويتجهون إلى المخلوقين لينزلوا بهم حاجاتهم.
عجيب أمرهم عندما يغمضون أعينهم وأعين البصيرة بصفة خاصة عن آيات قدرة الله عز وجل وآثارها في الكون الفسيح، فلا يعلمون من هو الجدير بالتوكل عليه القوي أم الضعيف؟ القدير قدرةً لا يقدر مداها أم الضعيف ضعفاً لا يذهل عنه ولا يجهل قدره لكن كما قلت معظم الأمور في هذا الزمان صوارف عن معرفة الله عز وجل، تزيد في جهل الناس بربهم وأسمائه العلى سبحانه، وإذا قامت الدواعي وتوافرت على الخوف من بعض المخلوقين خَوّف الناس بعضهم بعضاً أضعاف أضعاف ما يخوف بعضهم بعضاً، إذا قامت الدواعي وتوافرت على الخوف من الله. يعني لو هدد بعض المخلوقين بالشر والانتقام والإفساد خوّف الناس بعضهم بعضاً من هذا المهدد أضاف أضعاف ما لو ظهرت آية من آيات الله عز وجل التي يخوف بها عباده. فلا تجد الناس يخوف بعضهم بعضاً ولو على النصف من مقدار تخويف بعضهم بعضاً إذا قامت الدواعي وتوافرت على الخوف من تهديد المخلوقين إلا من رحم الله.
نعم هذا من الدلائل القوية على الجهل بالله عز وجل وقدرته. أمن الناس مكر الله عز وجل - إلا من رحم الله –لأنهم جهلوا بالله وبقدره وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته.
أما الدرجة الثانية: من الدرجات التي يتحقق بها التوكل: عدم نفي الأسباب، فمن نفاها فتوكله مدخول.
فالتوكل نفسه سبب في حصول التوكل فيه، وقد جعله الله كالدعاء الذي هو سبب في حصول المدعو.
والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه، التوكل من أعظم الأسباب في ذلك، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب. تأخذ بالأسباب وتعمل بها، نعم لكن لا تركن إليها ولا تعتمد عليها ولا تكن إليها، بل استعملها فقط وِكل نجاحها إلى مسببها، إلى الله سبحانه.
إذن من تمام التوكل عدم الكرون إلى الأسباب والاعتماد عليها في حدّ ذاتها وحدها. بل يؤخذ به ويعتمد على الله تبارك وتعالى في إنجاحها فيكون حال قلب المرء قيامه بالله لا بها (لا بالأسباب) وحال بدنه قيامه بالأسباب. حال القلب قيامه بالله لا بالأسباب، وحال البدن قيامه بهذه الأسباب يأخذها ويتناولها ويستعملها.
إذن لا يكون متوكلاً من رأى الأسد مثلاً مندفعاً نحوه فلا يسعى لخلاص نفسه وفكاكها بل جلس وقعد يقول: اللهم سلم سلم.
ولا من كان في شدة الجوع وعنده الطعام فلم يتناوله بل قعد وجعل يقول: أنا أتوكل على الله في سدّ جوعتي، ولا من أراد الحج فلم يأخذ بأسبابه من الإحرام ونحوه بل قعد يقول: أنا أتوكل على الله فيما يبلغني مرادي. لا يكون هذا متوكلاً فضلاً على أن يكون من العقلاء. لا هو من المتوكلين ولا هو من العقلاء.
فإن النبي قد ظاهر يوم أحد بين درعين، أخذ بالأسباب حماية لبدنه ، وتوكل على لله في أن يقوم الدرعان بالوظيفة المخولة لهما – الحماية والستر – نعم، ولم يحضر الصف في القتال قط عرياناً بل كان يستر نفسه بالدروع، وقد هدى الله به العالمين وعصمه من الناس أجمعين، ومع ذلك استأجر دليل مشركاً على دين قومه يدله على طريق الهجرة وهذا لا يقدح في التوكل. يأخذ بالأسباب فيما يتعلق بأمور البدن ويتوكل على الله في إنجاح هذه الأسباب.
وكان يدخر قوت أهله سنة، وهو سيد المتوكلين صحيح أن تصدقه الكثير كان يأتي على هذا القوت في بداية أيام السنة وشهورها التي ادّخر فهيا القوت لأهله، لكن على أي حال كان إذا أتاه نصيبه من تمر خيبر أدّخر قوت أهله سنة ثم تأتي الصدقة بعد ذلك على معظم ما عنده أو على كل ما عنده صلوات ربي وسلامه عليه وهو سيد المتوكلين، كان يدخر قوت أهله سنة.
ولم يسافر قط في جهاد أو حج أو عمرة إلا حمل الزاد والمزاد، وكذلك جميع أصحابه، وهم أولو التوكل حقاً، لا يعتمدون على جُرُب الناس وأموال الناس وما عند الناس، بل يحملون كما يحمل النبي ما يلزمه من الزاد والمزاد. وأكمل المتوكلين بعد الصحابة هو من اشتم رائحة توكلهم من مسافة بعيدة أو لحق أثراً من غبارهم.
والدرجة الثالثة من الدرجات التي يتحقق بها التوكل: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل. فإن العبد لا يكون متوكلاً حتى يصح لله توحيده. يتوكل عليه وحده لا عليه وعلى غيره. من الدرجات الأساسية رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل بل حقيقة التوكل توحيد القلب، فمتى كان فيه علائق الشرك فتوكله مدخول معلول، فإن العبد متى التفت إلى غير الله عز وجل أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله بقدر ذهاب تلك الشعبة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المتوكلين حق التوكل. آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين. اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما الدرجة الرابعة: فهي اعتماد القلب على الله عز وجل واستناده وسكونه إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويه الأسباب ولا سكون إليها، بل يخلع سكونه إليها من قلبه، ويلبسه سكون إلى مسبّبها.
وعلامة هذا – علامة تحقق هذا الاعتماد أنه لا يبالي بإقبال الأسباب وإدبارها. لا يبالي بإقبال الأسباب وتوفرها في يده أو إدبارها ولا يضطرب قلبه من وجودها في يد عدوه ولا يخفق عند إدبار ما يحب وإقبال ما يكره، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه قد حصنه من خوفها، رجائها يا لها من درجة عظيمة لو تحققت، لكن المتأمل في أحوال الناس يجدهم قد فرطوا تفريطاً عظيماً في هذه الدرجة، فإنهم يضطربون أعظم الاضطراب لوجود الإمكانات بيد عدوهم ويقولون ما لنا بهم طاقة، أين نحن منهم وإذا أعطاهم الله الأسباب وتوافرت في أيديهم اغتروا بها وقالوا: هذه خططنا وهذه مهارتنا، هذا شغلنا وعملنا، هذا كدنا وجهدنا، وسكنوا إلى الأسباب وهذا يقدح أعظم القدح في التوكل.
الدرجة الخامسة: حُسن الظن بالله وأنه لن يخذلك وأنه سيكفيك ولو عاداك الناس جميعاً فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم كلما كنت حسن الظن بالله عز وجل شديد الرجاء فيه نفعك توكلك عليه، إذ لا يتصور توكلك على من ساء ظنك به، ولا توكلك على من لا ترجوه. كيف يصح التوكل على من ساء ظنك به وأنه لن يعينك ولن ينصرك في مقابل هذه القوى والتحديات.
إذا ساء ظنك به وقلت ألف مرة ومرة: أنا متوكل لم يستقم منك توكل إذا كنت سيء الظن بالله لا ترجوه ولا تطمع في أن يعينك وينصرك ويخذلك عدوك.
الدرجة السادسة: استسلام القلب لله عز وجل وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته: استسلام القلب لله عز وجل، فلا يتغير قلبك إذا لم يقدر الله لك ما كنت تريده بالتحذير. إذا قدّر عليك بعد توكلك شيئاً تظن شراً وخلاف الخير، إذا قدّر عليك شيئاً تظن كذلك فاستسلم له ولتنجذب دواعي قلبك كلها له سبحانه ولا تنازعه.
نعم وهذا فيما يفعله الله بك لا فيما أمرك به ونهاك عنه، وهذه مسألة مهمة ينبغي أن نلتفت إليها وأن نفهمها حق الفهم يعني الاستسلام مطلوب كل الطلب فيما يفعله الله بك إذا قدر الله عليك شيئاً تظنه خلاف الخير المستسلم له. سلّم وارض وأصبر، واعلم أن الله يريد لك الخير، ويقضى لك ويقدر لك الخير لكن هذا لا يستقيم في مقام المأمورات والمنهيات يعني أن الله عز وجل أمرك بالصلاة فلا يجوز لك ولا يقبل منك أن تمتنع من أدائها وأن تتركها إذا قلت الموانع والحوادث والحوائل كائنة ما كانت من مرض ونحوه، إذا قامت هذه الموانع لا يقبل منك أن تمتنع من أداء الصلاة وتقول أنا مستسلم لما قدّره الله علي وقد نهاك الله عن الزنا قال: إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ، فلا يجوز لك أن تقربه بحجة توافر الأسباب وقيام الدواعي عليه من إغراء وتحريض وما إلى ذلك وعدم عقوبة وعدم تنفير منه وعدم حيلولة بينك وبينه لا يجوز أن تقربه وتقول أنا مستسلم. لا الاستسلام فيما فعله الله بك لا فيما أمرك ونهاك عنه.
الدرجة السابعة: التفويض: وهو روح التوكل ولُبّه وحقيقته، المفوض إنما يفوض أموره إلى الله عز وجل لأنه يعلم أنه يقضي له الخير في معاده ومعاشه. فعليك أيها المسلم أن تلقى أمورك كلها لله عز وجل وأن تنزلها به طلباً واختياراً، لا كرهاً واضطراراً. بطلبك واختيارك تفوض أمورك إلى الله عز وجل وقد حكى الله سبحانه في القرآن عن مؤمن آل فرعون أنه قال: وأفوض أمري إلى الله.
فإذا قضى الله تبارك وتعالى لك خلاف ما تظنه خيراً بعد أن فوضت الأمور إليه فاستسلم كما علمت من الدرجة السادسة لأنه كما علمت لا يقضي للمؤمن إلا ما هو خير.
الدرجة الثامنة والأخيرة: الرضا: والرضا ثمرة التوكل، أن ترضى بما قضاه الله عز وجل لك. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى – المقدور يكتنفه أمران: المقدور الذي يقدره الله عز وجل، يكتنفه أمران التوكل قبله والرضا بعده. فمن توكل قبل الفعل ورضي المقدور له بعده فقد قام بالعبودية، لأن المتوكل يرضى بما يفعله وكيله، فاستكمال هذه الدرجات الثمان يستكمل العبد مقام التوكل، ولما كان النبي أكمل الخلق قياماً بمقامات العبودية ومقام التوكل من هذه المقامات فقد سمّاه الله المتوكل كما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما – لما سُئل عن بعض صفة النبي في التوراة فقال: إن الله عز وجل قال عن عبده ورسوله: ((أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل)). فقد سمي الله تعالى النبي المتوكل، ولذلك قال في سورة النمل: فتوكل على الله إنك على الحق المبين.
ففي ذكر أمر الله لرسوله بالتوكل وإخباره له أنه على الحق دلالة على أن الدين بمجموعه في هذين الأمرين أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله واعتقاده ونيته، وأن يكون متوكلاً على الله واثقاً به لأن الله تعالى قال: فتوكل على الله إنك على الحق المبين أنت على الحق وكونك على الحق فإن توكلك سيقع في محله وسيجدي وينفع أعظم النفع لأنك على الحق في قولك وعملك واعتقادك، إذن توكل على الله لتستكمل النصف الثاني من هذا الدين العظيم: أن يكون العبد على الحق في قوله وعمله واعتقاده وأن يكون متوكلاً على الله واثقاً به، وقد قال رسل الله وأنبياؤه صلاة الله وسلامه عليهم كما في سورة إبراهيم: وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا فالعبد آفته إما من عدم الهداية وإما من عدم التوكل، فإذا جمع العبد التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.
(1/1408)