البعد عن مواطن الذلة
الإيمان
فضائل الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/4/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عزة المؤمن. 2- عزة أسامة بن زيد ، وقصته مع حلة سيف بن ذي يزن. 3- ذلة الكفر
وعزة الإيمان. 4- ينبغي للمسلم أن لا يذل نفسه. 5- بعض صور إذلال المؤمن لنفسه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله عز وجل، ما خلق المسلم ولا أوجده ليكون ذليلاً، أبداً، لكن أوجده سبحانه وخلقه ليكون عزيزاً كريما.
الذلة ليست من صفات المسلم، وليست من خلق المؤمن، بل المؤمن عزيز، عزيز بإيمانه، عزيز بدينه، عزيز بهذا الوحي وهذا النور الذي يحمله بين جنبيه، وكلما ضعف وخفت هذا النور من قلبه، نقصت عنده العزة بمقدار نقصانها، واقترب إلى الذلة.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمين، ولكن المنافقين لا يعلمون.
أنت أخي المسلم بمجرد أنك مسلم فقط، فأنت عزيز، وذاك الكافر بمجرد أنه كافر فهو ذليل، بغض النظر عن مكانتك ومكانته ومستواك ومستواه، وجاهك وجاهه، كونك مسلماً فهي العزة، وكونه كافراً فهي الذلة، هل عندك هذا الشعور أخي المسلم؟ هل هذه القضية واضحة في ذهنك وتصورك.
ذهب حكيم بن حزام إلى السوق يوماً، فوجد فيها حلة تباع، وكانت حلة نفيسة جميلة، فقال حلة من هذه؟ قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك اليمن، فاشتراها حكيم رضي الله عنه بخمسون ديناراً ثم ذهب وأهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصعد بها المنبر، فما رأى حلة أجمل منها وهي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الصلاة والسلام وألبسها لأسامة بن زيد رضي الله عنه، حبه وإبن حبه، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان عازفاً عن الدنيا، فلبسها أسامة رضي الله عنه. وكان آنذاك فتىً صغيراً وكان رضي الله عنه دميم الخلقة وكان أبوه مولىً فلبسها أسامة ونزل بها السوق، فرآه حكيم بن حزام رضي الله عنه ولم يكن قد أسلم بعد. فقال له: حلة من هذه؟ فقال حلة ذي يزن ملك اليمن. فقال له حكيم: أو تلبس أنت حلة ملك اليمن؟ قال نعم، أنا خير من ذي يزن، قال نعم. والله أنا خير منه، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه.
الله أكبر، الله أكبر، تأملوا رحمكم الله إلى هذه العزة، وإلى هذه القوة، من هذا الفتى الصغير المسلم. لقد تربى في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه المدرسة التي خرجت قادة الدنيا، ودعاة العالم، ورسل الإصلاح والخير إلى كل مكان، لم يكن من منهج هذه المدرسة أن يحفظ الأولاد (طه والطبلة)، ولا (الولد النظيف منظره ظريف). بل كان منهج تلك المدرسة أن تملئ قلوب الصغار بعزة الدين، وشعوره وهو فتىً صغير أنه خير من ملك اليمن في ذلك الزمان. لماذا؟ لأنه مسلم وذاك كان كافراً، وهذا الشعور هو الذي لابد أن نشعره نحن لكي نغذي عليه أبنائنا، لا أن نشعر بالذلة، والضعف والمسكنة، وإن كنا لا نملك شيئاً، وإن كان لا حول لنا الآن ولا قوة، يكفي أننا مسلمون، ويكفينا أن نموت ونلقى الله جل وعلا على هذا المبدأ.
إن أصغر مسلم وأقل مسلم عندنا، أفضل من أعظم شخصية كافرة، أصغر رجل مسلم، هو أفضل عند الله جل وعلا من ملوك ورؤساء الدول الكافرة كلها. لا لشيء، سوى أن هذا مسلم وذلك كافر.
أيها الأحبة في الله: وبعد هذه المقدمة، أدخل في موضوع خطبتي هذه الجمعة، الذي أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعلها جمعة خير وبركة، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً.
موضوع هذه الخطبة، هو محاولة تلمس بعض المواطن، وبعض الأمور التي تجلب الذلة للمسلم، هناك بعض القضايا، وبعض الأشياء جاء النهي عنها في شريعة الله، لأن التعرض لها أو فعلها وإتيانها تسبب الذلة، وتوقع المسلم في المذلة، وهذا خلاف الأصل الذي يجب أن يكون عليه المسلم وهو العزة.
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
فأبدأ بأولى هذه الأمور، وهو الكفر فالكافر ذليل، ذليل في الدنيا والآخرة، وإن ظهر لنا أن بعضهم قد يؤتى من العزة والتمكين، ويتسلط على بعض الرقاب، لكنه ذليل ومآله إلى ذلة، وأعظم ذل له يوم القيامة، يوم يسحب ويلقى على رأسه في نار جهنم والعياذ بالله.
((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام. وذلاً يذل به الكفر)).
فالذلة ملازمة للكفر، والعزة ملازمة لشريعة الله، ولملة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز.
ومن المواطن أو الأمور التي تسبب الذلة، أن يعرض المسلم نفسه للبلاء وهو لا يطيق ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي في جامعه: ((لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق)) فبعض عباد الله يتحمس للجهاد، وملاقاة العدو، بسبب شريط سمعه، أو خطبة ألهبت حماسه، فيتحمس ويذهب، ولم يبلغ به قوة الإيمان إلى الآن لملاقاة السيوف، وتحمل الرصاص. فإذا ما رأى الجد ذل، ورجع القهقرى، وفر من أرض المعركة، ويكون بعمله هذا قد أذل نفسه بنفسه، وذلك بأن عرض نفسه لأمر لم يوجبه الله عليه وهو لا يطيقه، فملاقاة العدو، وإزهاق النفس رخيصة في سبيل الله، لا يقدر عليه كل أحد، وإنما يحتاج إلى قدر من التربية وقوة في الإيمان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ومثله من يتحمس ويريد أن ينكر المنكرات ببيته، ويريد أن يغير الواقع الذي حوله بيده، وهو لا يطيق ذلك، لأنه لم يصل إلى القوة، وإلى المرتبة التي من خلالها يمكنه أن يغيّر وينكر بيده، فيذل نفسه، لأنه عرضها من البلاء ما لا يطيق.
ومما يجلب الذل للمسلم، شرب المسكر قال الإمام النسائي في سننه، باب ذكر ما أعد الله عز وجل لشارب المسكر من الذل والهوان وأليم العذاب، ثم ساق بسنده قوله عليه الصلاة والسلام: ((كل مسكر حرام، إن الله عز وجل عهد لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا يا رسول الله وما طينة الخبال. قال عرق أهل النار أو قال عصارة أهل النار)).
شارب الخمر حتى وهو في النار، يكون من أذل أهلها وأحقرهم، فيكون شرابه عرق أهل النار وعصارة أهل النار من القيح والصديد، فكما أنه في الدنيا لم يمتثل أوامر الله ولم يرتدع عمّا حرم الله، كان جزاءه أن يشرب أيضاً في النار، عرق وعصارة أهلها. هذا في الآخرة.
حتى في الدنيا تجد أن شاربي الخمر أذل الناس وأحقر الناس، أولاً تجده يختبئ خلف الجدران، ويتوارى بالحيطان، وهو يمارس فعلته البشعة، لكي لا يراه أحد، فهو ذليل بفعله هذا، ثم لو خرج ورآه الناس لكان أذل وأحقر، يلعب به الصبيان، ويسخر منه عقلاء الناس، لأنه يخرج بلا عقل ولا توازن، فأية مذلة وراء هذه.
وكم كان هناك أناس لهم من الوجاهة والمكانة في المجتمع، وكانوا من أصحاب التجارات والأموال في يوم من الأيام، ثم لما تورطوا في شرب المسكر، وصل بهم الحال إلى أن صاروا من أرذل الناس، وأذل الناس وأخسهم، نفر منهم القريب، وتبرأ منهم البعيد، وصار يحتقرهم الصغير قبل الكبير. فالله ما أحكمك وما أعلمك عندما حرمت المسكر على عبادك، فأبى بعض من تجرأ عليك إلا أن يذل نفسه.
وأيضاً مما يورث الذل أحياناً إذا لم يراعى فيه الإنسان حق الله تعالى، الملك قال الله تعالى: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير يقول صاحب المنار عند تفسيره لهذه الآية: ولا تلازم بين العز والملك. فقد يكون الملك ذليلاً، إذا ضعف استغلاله بسوء السياسة وفساد التدبير حتى صارت الدول الأخرى تقتات عليه كما هو مشاهد، وكم من ذليل في مظهر عز، وكم من أمير أو ملك يغرُ الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة، فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين. حتى يقول في آخر كلامه رحمه الله: فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان بهذا ويفقهوا معي كون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها انتهى كلامه رحمه الله.
إن كلام صاحب المنار رحمه الله يذكرنا ببعض ملوك المسلمين في بعض فترات التاريخ كأواخر من حكموا الأندلس، فهم وإن كانوا حكاماً لكن كانوا في ذلة، وذلك لضعف دولتهم وبداية الغرب في أخذ أراضيهم من جهة الشمال والتضييق عليهم، والسبب في ذلك كما قال صاحب المنار سوء السياسة وفساد التدبير. وبل والبعد عن منهج الله جل وعلا.
نسأل الله جل وعز أن يبصرنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا
وأن يختم بالصالحات أعمالنا وآجالنا، إنه ولي ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وأيضاً مما يورث المسلمون الذل ترك الجهاد في سبيل الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد: سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فإذا ترك المسلمون الجهاد، فما الذي يكون مكانه؟ الذي مكانه هو الاستسلام للعدو، والخضوع له، والرضا بأحكامه علينا، والتوقيع على ما يريد وفتح خيرات بلادنا له، يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء ويعبث كما يشاء، هذا هو ما يحصل وحصل بسبب ترك الجهاد.
ولو صدق المسلمون مع ربهم، كما صدق الأوائل ورفعوا راية الجهاد لأعزهم الله جل وعلا، وإن حصل لهم هزائم أو خسائر في بعض الجولات لكن ترك الجهاد بالكلية، بل التوقيع على ترك الجهاد وتعطيل هذه الشعيرة، فهذا هو الذل بعينه، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى واعتبر ترك الجهاد وإلغاءه من التفكير هو ترك لبعض الدين فقال في آخر الحديث: ((سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فأي ذل أعظم من أن يذهب الرجل برجله وباختياره إلى ديار الكفر، أين هذا الموقف من موقف الغلام أسامة بن زيد، حينما قال: والله أنا خير منه، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه أما هذا، وإن لم يقلها بلسانه فقد قالها بلسان حاله: هو خير مني، وأمه خير من أمي، وأبوه خير من أبي.
أين أولئك الرجال، الذين كانوا وهم في بلادهم كان ملوك الكفر يرتعدون خوفاً منهم ، ولله در الشاعر عندما عبر عنها فقال:
والزيت أدّمٌ له والكوخ مأواه
من بأسه وملوك الروم تخشاه
فحين جاوز بغداداً تحداه
شكا فرددت الأهرام شكواه
وأساسها قيصر من قبل ولا شاه؟
فطبقا الشرق أقصاه وأدناه
يا من رأى عمراً تكسوه بردته
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً
أين الرشيد وقد طاف الغمام به
كم بالعراق وكم بالهند ذو شجن
وكيف ساس رعاة الإبل مملكة
بالدين والدين من مغناهم انبعثا
أيها الأخوة في الله: أمر مروراً سريعاً على باقي الأشياء التي تورث وتجلب الذلة للمسلم دون تفصيل خشية الإطالة، وبعضها ذكرها كافياً لها.
من ذلك: مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)).
ومما يجلب الذل أيضاً المعاصي قال الله تعالى: والذين كسبوا السيئات، جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم.
ومن ذلك أيضاً عدم نصرة المؤمنين مع القدر على ذلك أو التسلط على المؤمنين بإذلالهم كما يفعل بعض الموظفين عندما يعطى بعض الصلاحيات فيتسلط على عباد الله، ويؤذي المراجعين وأصحاب المعاملات. عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة)).
ومن ذلك أيضاً: التكبر على الناس ولبس بعض الثياب من أجل المفاخرة والشهرة والتكبر على العباد قال صلى الله عليه وسلم: ((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة ثم تلهب فيه النار " [رواه أبو داود في سننه وسنده حسن].
ومن ذلك أيضاً ما عنون له البخاري في صحيحه فقال: باب ما يُحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به ثم ساق البخاري بسنده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخُل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل)). قال ابن حجر وهو يشرح هذا الحديث: بأن هذا يحمل على الذم لمن اشتغل بشيء فضيع بسببه ما أمر الله بحفظه، أو يحمل على من إذا لم يضيع ولكن تجاوز الحد في ذلك، فهذا أو هذا مما يسبب الذل للمسلم.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد..
(1/1225)
البركة
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/10/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البركة هبة إلهية اختص الله بها بعض خلقه. 2- القرآن كلام الله وذكر بعض بركات هذا
البركات. 3- بركة النبي. 4- بركة أولياء الله الآمرين بالمعروف الدعاة إليه. 5- بركة مكة
والمدينة والشام واليمن. 6- بركة النخلة والتمر والخيل. 7- البركة في الصدق والسحور.
8- التمييز بين العطاء المحض والبركة فيه. 9- البركة لا يعطيها الله إلا للمتقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
البركة هي شيء من خير يجعله الله تعالى في بعض مخلوقاته.
والبركة كلها لله تعالى ومنه ، وهو المبارِك جل وعز بيده الخير كله ، والبركة كلها له ، وهو سبحانه يختص بعض خلقه بما يشاء من الخير والفضل والبركة كالرسل والأنبياء والملائكة وبعض الصالحين. قال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وكذلك فضل الله بعض الأماكن على بعض وبارك فيها كمكة والمدينة والمسجد الأقصى ، وفضل بعض الأزمنة على بعض وبارك فيها ، كشهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة ، وأيضاً فقد أوجد جل وتعالى البركة في الأشياء كالمطر والسحور ونحوها. وإليك أخي المسلم تفصيل هذا الإجمال:
فالقرآن ، كله بركة قال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون وقال سبحانه: وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون قال ابن القيم رحمه الله: "وهو أحق أن يسمى مباركاً من كل شيء لكثرة خيره ومنافعه ووجوه البركة فيه". ويقول صاحب الظلال رحمه الله وهو يصف بركة القرآن:
إنه مبارك في أصله ، باركه الله وهو ينزله من عنده ، ومبارك في محله ، الذي علم الله أنه له أهل، وهو قلب محمد ، ومبارك في حجمه ومحتواه، فإن هو إلا صفحات قلائل ولكنه يحوي من المدلولات والإيحاءات والمؤثرات والتوجيهات في كل فقرة منه ما لا تحتويه عشرات الكتب. وإنه لمبارك في أثره وهو يخاطب الفطرة البشرية بجملتها خطاباً مباشراً عجيباً لطيف المدخل ، فيفعل فيها ما لا يفعله قول قائل. انتهى كلامه رحمه الله.
ومن بركات القرآن أنه رقية ، وأنه دواء وشفاء، ولكن كثيراً من عباد الله حرموا أنفسهم هذا الخير.
يقول ابن القيم عن نفسه: مكثت بمكة مدة يعتريني أدواء ولا أجد طبيباً ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة ، فأرى لها تأثيراً عجيباً ، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثيراً منهم يبرأ سريعاً.
ثم يقول رحمه الله: ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له ، وهو أن الآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية ، ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره. فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل. انتهى (الجواب الكافي ص5).
أيها المسلمون: أما عن بركة الأشخاص فهناك أشخاص مباركون، ففي مقدمتهم وعلى رأسهم أفضل الأنبياء وسيد الأولين والآخرين نبينا محمد فإنه سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع روى مسلم في صحيحه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله اصطفى كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بين هاشم)) فله عليه الصلاة والسلام فضائل عظيمة ومزايا كريمة أنعم الله تعالى عليه بها ، فزادته شرفاً وفضلاً وبركة.
ومن أعظم بركاته عليه الصلاة والسلام هذا الدين الذي بعث به ، فمن قبلها سعد في الدنيا والآخرة ، ومن ردّها خسر الدنيا والآخرة ، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وما هذا النكد وهذا الشقاء الذي تعيشه البشرية إلا لبعدها عن هذه الرسالة الخالدة.
أضف إلى ذلك صوراً من بركاته الحسية: من تكثيره الطعام ، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة وإبراؤه المرضى وبركته في إجابة الله تعالى لدعائه صلوات ربي وسلامه عليه.
وهناك أيها الأحبة الصالحون من البشر ، الذين هم أولياء الله عز وجل. وهؤلاء أيضاً بركة على أنفسهم وعلى غيرهم. وفي مقدمة هؤلاء العلماء والدعاة وطلاب العلم العاملين المخلصين ، هؤلاء هم صفوة المجتمع ، فهم مستقيمون في جميع أحوالهم وهم مطيعون لربهم ، أخلاقهم حسنة ، نفوسهم طيبة ، فكيف يكون هؤلاء بركة على المجتمع؟ يكون ذلك من وجوه عديدة :
منها أنهم هم الدعاة بين الناس إلى الخير، وهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وهم الذين يقومون بواجب النصيحة. وكل هذا بركة على الناس.
ومنها: أنهم يعرفون الناس بدينهم وبأحكامه وتشريعاته وآدابه ، فهم ورثة الأنبياء في هذا الباب.
ومن بركتهم الدعاء للناس ، فهم يدعون للفساق والمنحرفين بالهداية ، ويدعون للمؤمنين المستقيمين بالتوفيق والمغفرة ، ونحو ذلك. ولا يخفى الأثر العظيم النافع للدعاء دنيا وآخرة.
يقول ابن القيم: "النافع هو المبارك ، وأنفع الأشياء أبركها ، والمبارك من الناس أينما كان هو الذي يُنتفع به حيث حل".
فيا أخي المسلم: احرص أن تلحق بركب هؤلاء ، فإن لم يكن فلا أقل من أن تدافع عنهم وتدعو لهم ولا ترضى بأية أذية تلحق بهم ، فهم بركة المجتمع ، وما يدريك أن الله دفع عنا ألواناً من الشرور والنقم والعذاب بسبب هؤلاء وبركتهم وصلاحهم ودعائهم قال الله تعالى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. ويقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)) وفي رواية: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)). والحديث واضح ، وهو أن من أسباب رفع العقاب عن الناس ، الأخذ على يد الظالم وتغيير المنكر فالسؤال الآن: تغيير المنكرات ومقاومتها ومدافعتها والنصح والأخذ على يد الظالم ، هذه من سمات من؟ هل هي من سمات المغنيين ، أم من خصائص اللاعبين والرياضيين ، أم تغيير المنكرات من صميم عمل الممثلين؟
إنه كما نعلم جميعاً من سمات الصالحين ، ومن أخص خصائص الدعاة وطلاب العلم. بل إن رفع العذاب عن الناس ببركة هؤلاء قد يشمل حتى الكفار إذا كانوا بين أظهر المؤمنين. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد يدفع الله العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن لا يستحق العذاب" ، ثم استدل رحمه الله على كلامه هذا بقوله تعالى: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم. لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً "فلولا الضعفاء – والكلام ما يزال لشيخ الإسلام - فلولا الضعفاء المؤمنين الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار عذب الله الكفار". انتهى.
فلنتق الله أيها المسلمون ، ولنحافظ على هذه الثلة الخيرة بيننا ، فهم بركة المجتمع، ولنفخر بكثرة وجوه الصالحين في مجتمعنا، فببركتهم ودعوتهم سينصر الله هذه الأمة ، روى البخاري في صحيحه أن النبي قال: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)) وفي رواية النسائي: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها وبدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) قال أهل العلم: سبب تخصيص الضعفاء لأنهم أشد إخلاصاً في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة ، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا.
نعم أيها الأحبة: إن علماءنا ودعاتنا وطلاب العلم فينا ، والأُناس الطيبين الصالحين هم بركة مجتمعنا ولله الحمد ، إن منافعهم عديدة ، وخيرهم كثير ، ونفعهم مستمر، فنسأل الله جل وتعالى أن يكثر سوادهم وأن يحفظهم وأن يزيدهم عدداً وإيماناً وعلما وتوفيقا. ونحن وإن لم نصل إليهم بعلمهم وجهادهم وبلاءهم ، فنسأله سبحانه أن يحشرنا معهم بحبنا لهم.
أيها المسلمون: ومما جاء الشرع أيضاً ببركته مكة إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ووجه البركة ، أن الطواف بالبيت فيه مغفرة للذنوب فهذه بركة ، والصلاة فيه بمئة ألف صلاة ، وأي بركة أعظم من هذا، وجعله سبحانه مباركاً لتضاعف العمل فيه ، بل قد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). وقال: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) فأي بركة أكثر وأعظم من هذا بل قد ذكر بعض أهل العلم بأن من بركات الحرم قول الله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شيء.
وأيضاً مدينة رسول الله مدينة مباركة الصلاة في مسجدها بألف صلاة ، وفيها روضة من رياض الجنة. وصلاة ركعتين في مسجد قباء كأجر عمرة. وينبت بين لابتيها تمر العجوة ، من تصبّح بسبع تمرات منها لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر ، وعلى أنقابها ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال وكيف لا يكون للمدينة كل هذه البركة وقد دعا لها رسول الله ص كما في البخاري: ((اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة)) بل من بركتها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة أو شهيداً)). قال العلماء: في هذا الحديث دلالات ظاهرة على فضل سكنى المدينة ، والصبر على شدائدها وضيق العيش فيها، وأن هذا الفضل باق مستمر إلى يوم القيامة.
وأيضاً مما ورد في الشرع بركته أرض الشام، فأرض الشام أرض مباركة قال جل وتعالى في شأن انتقال بني إسرائيل إلى الشام: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وقال تعالى مخبراً عن هجرة إبراهيم ولوط عليهما السلام إلى الشام ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين فأرض الشام أرض مباركة ولا عبرة بالفترة الحالية من عمر الزمن ، سواء كان فيمن يحكمها أو يعش فيها أو حتى وجود اليهود على أرضها ، فكل هذا فترة مؤقتة.
وكذلك أرض اليمن أرض مباركة بدعاء النبي : ((اللهم بارك لنا في يمننا)) ، ولا عبرة أيضاً بوضعها الحالي وما تعيشه من أوضاع ، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي أنه قال: ((أتاكم أهل اليمن ، هم أرق أفئدة ، وألين قلوباً ، الإيمان يمان والحكمة يمانية)).
وأيضاً مما ورد في الشرع أن فيه البركة: المطر: ونزلنا من السماء ماء مباركا.
وأيضاً: شجرة الزيتون قال تعالى: يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار.
وأيضاً: الخيل قال : ((البركة في نواصي الخيل)) [البخاري].
وهذه البركة لارتباطها بالجهاد في سبيل الله: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم قال : ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم)) [رواه البخاري].
وأيضاً النخل قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم)). والمراد بها النخلة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر ، فإنه بركة)) [رواه أبو داود].
وأيضاً: الاجتماع على الطعام فإن الله يبارك فيه وأيضاً لعق الأصابع قال : ((إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة)) وأيضاً بركة السحور: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) وأيضاً ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض قال : ((إنها لمباركة هي طعام طُعم وشفاء سقم)).
وأيضاً التبكير قال : ((بورك لأمتي في بكورها)) ألا فليعلم أولئك الذين ينامون إلى نصف النهار أنهم قد حرموا أنفسهم بركة ذلك اليوم.
وأيضاً يا معاشر التجار الصدق في البيع ((فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)).
فنسأل الله جل وتعالى أن يبارك لنا في أموالنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
البركة أيها الأحبة يمنحها ويسلبها المولى جل تعالى، إن العبرة ليست بما تملك من مقومات المادة ، وليست العبرة بما تملك من طاقات وقُدرات ، إذا سلبت البركة من كل ذلك ، بل إن القليل من المادة ، والقليل من الطاقات مع بركة الله ، تفعل الأعاجيب.
فأنت قد تُعطى الملايين ، لكن تنزع منها البركة ، تجد شقاءها في الدنيا قبل الآخرة ، تملك الملايين ، لكن لا تتمتع بها لأن البركة منزوعة ، وقد لا يكون معك إلا راتبك الذي لا يوصلك لآخر الشهر ، لكن يبارك الله في هذا القليل فتعيش حياة الملوك أنت وأولادك.
رجلان ، الأول له عشرة من الولد ، والثاني ليس له إلا بنت واحدة.
تُنزع البركة من الأول ، فهؤلاء العشرة لا ينفعونه بشيء ، بل ربما عانوا هم سبب المتاعب التي يعيشها ، والنكد الذي يعيشه ، ربما مَرِضْ ولا أحد من العشرة يُحس به ، أو يلتفت إليه يمر اليومان والثلاثة والأسبوع ، ولا أحد يسلم عليه.إنهم عشرة ، لكن بدون بركة.
والثاني يطرح الله البركة في هذه البنت ، فتكون قرة عينيَ والديها في الدنيا ، تقوم بحقهما ، وترعى شؤونهما مع أنها متزوجة ولها بيتها ومسئولياتها ، ومع ذلك هي على صلة مستمرة بهما يومياً ، على الأقل ترفع سماعة الهاتف كل ليلة قبل أن تنام لكي تطمئن عليهما ، إنها المنحة الإلهية التي لا تُشترى بالمال ، ولا يجلبها الملك والسلطان وإنما هي بيد من بيده ملكوت كل شيء.
ثم هناك رجلان آخران:
الأول: محسوب على كبار العلماء.
والثاني: طالب علم في أول الطريق.
تجد أن الأول مع ما أوتي من مكانة علمية واجتماعية ، وربما عمّر خمسين أو ستين بل ربما سبعين سنة ، لكن لم يستفد منه أحد لا أثر له ، لا وجود له في الوسط الذي يعيش فيه حتى الحارة التي هو يسكنها لم يستفيدوا من علمه ، نعم إنه مكانه ، ومنصب لكن بدون بركة.
والثاني: طالب العلم هذا لم يعرفه الناس إلا من سبع أو ثمان سنوات، لو ألقى درساً بسيطاً هنا ، لوزعت أشرطته بعد ثلاثة أيام في الصين وكندا ودول أوربا وانتفع الناس بها شرقاً وغرباً. إنها البركة الإلهية التي لا تشترى بالمال ، ولا تكسبها القبيلة ولا العشيرة ولا تجلبها المناصب والهيئات.
اعلم يا عبد الله أن هذا الباب لو أغلقه الله عليك ثم فتح لك كل أبواب الدنيا ، من مال وولد وجاه وسلطان وصحة.فوالله ما هو بنافعك بشيء إنما يكون معها الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.
واعلم يا عبد الله ، بأن الله لو فتح لك باب البركة فابشر بكل خير ، مع قلة الراتب ، وضيق المسكن ، وانعدام الولد ، وضعف الجاه.
أيها المسلمون: وبعد كل هذا كيف نحصل على البركة؟ إن طريقها واحد لا يتعدد ، والحصول عليه لا يتغير قال الله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
من أراد البركة فعليه بالإيمان ، الإيمان الحقيقي لا الإيمان الصوري. من أراد البركة في رزقه وماله وولده وعلمه فعليه بتقوى الله عز وجل في كل شيء.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم.
ولو أراد أهل قرية أن يُعطوا من بركات الأرض وبركات السماء فعليهم بالإيمان والتقوى. أما أن يستمر أهل القرية على المعاصي ، ويستمر أهل القرية على الغناء واللهو واللعب فمن أين يأتي البركة؟
كيف يريد أهل القرية البركة في حياتهم ومعاشهم، وما يزال الربا قائماً بين أظهرهم.
كيف يريد أهل القرية بركات من السماء والأرض وما يزال هناك مظلومون ، وما يزال الغش وما يزال البدع قائماً.
كيف يحصل البركة لأهل هذه القرية، وفساقها أكثر من صالحيها. ومنكرها أكثر من معروفها. من أين يأت البركة لأهل هذه القرية. وما يزال هناك نقص كبير في عدد المصلين وعدد المزكين ، وعدد التائبين.
فإن لم يتغمد الله هذه القرية برحمته ، فإنها مُقدمة والعياذ بالله على دمار وهلاك.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
(1/1226)
الإهمال
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/1/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإهمال مرض منتشر في مجتمعاتنا. 2- مرد صور الإهمال إلى مرض القلب وقسوته
وغفلته. 3- النصوص تأمر بتطهير القلب. 4- أهمية القلب على سائر الجوارح. 5- إهمالنا
القلب للعبادات القلبية. 6- الإهمال في تربية الأولاد. 7- الإهمال في القيام بحق الخدم (تعليماً
وعملاً وتربية). 8- فقدان الأمانة سبب لكثرة الإهمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: مرض منتشر بيننا ، وكل منا قد أخذ حظه من هذا المرض ، منا المقل ومنا المكثر ، كل بحسبه وكل في مجاله - إلا من رحم الله عز وجل ، وقليل ما هم.
هذا المرض أيها الأخوة: هو الإهمال. مرض الإهمال ، الذي أصاب الأفراد ، وأصاب المجتمعات ، أصاب الكبار فنقلوا عدواها إلى الصغار.
مرض الإهمال: مرض خطير ، إذا لم يعالج الإنسان نفسه من، فإنه على شفا جرف هار. والذي يتعود الإهمال في جانب من حياته ، ربما يسري ، ويؤثر هذا على بقية جوانب حياته ، فيصير يهمل في أشياء وأشياء
أيها الأحبة في الله: هناك إهمال في العبادات وهناك إهمال في الواجبات ، وإهمال في توجيه الأولاد ، وإهمال في الدراسة من الطلاب ، وإهمال من الموظفين في أعمالهم ، وإهمال من أرباب الأسر بأسرهم ، وإهمال من أصحاب الأعمال بعمالهم ، وإهمال بحق الوالدين ثم إهمال بحقوق الجيران ، حتى أن هناك إهمال بما نرمي في شوارعنا ، وإهمال عند البعض في قيادة السيارة ، ثم إن هناك إهمال بالحياة الدنيا كلها ، والذي أخطر منه إهمال الآخرة ، وعدم الاكتراث بها.
أيها الأحبة في الله: أليس ما ذكرت بعضه أو كله موجود ومنتشر بيننا ، على نسب متفاوتة ، فلماذا هذا الإهمال ، ولماذا عدم المبالاة ، ولماذا فقدان الشعور بالمسئولية ، ولماذا الناس تهمل؟لقد فكرت في هذا الأمر كثيراً ، وتأملت حال الناس ، لماذا يهمل الطالب دراسته ، ؟لماذا لا يبالي ولا يهتم ، ولماذا يهمل الموظف في عمله ، وأيضاً لا يبالي ولا يهتم ، لماذا يهمل الأب في مسئولياته ، فيهمل أولاده ، ويهمل زوجته ، ويهمل بيته ، ولماذا يهمل الرئيس في رئاسته ، ولا يرعى تلك الأمانة التي علقت في رقبته ، وبعد هذا ، لماذا يهمل بعض الناس جميع حياته ، فلا تجده يهتم بشيء ، ولا يكترث بأمر، أقول: لقد تأملت وفكرت في هذا الأمر ، فوجدته والعلم عند الله ، أن هذا كله يدور حول إهمال الإنسان ، وإهمال المُكلف لقلبه أولاً وقبل كل شيء ، فهو عندما أهمل قلبه ، أثر هذا الإهمال إلى بقية جوانب حياته.
قلوب الناس أصابها القسوة ، وأصابها الغفلة، وأصابها اللهو، بل ربما دخلها الرياء والنفاق والحسد، فماذا تتوقعون من جسد ومن أعضاء ، الذي يحركه أصابه بعض ما ذكرت.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "القلب مَلِك والأعضاء جنوده ، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده.
لهذا لا غرابة أننا نجد الاهتمام البالغ في الإسلام بشأن القلب ، لأنها لو صلحت ، صلح سائر عمل الإنسان ولو فسدت فسد سائر عمل الإنسان.
إن الله سبحانه وتعالى أمر بتطهير القلب وتنقيته وتزكيته ، بل جعل سبحانه وتعالى من غايات رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تزكية الناس ، وقدمها على تعليمهم الكتاب والحكمة لأهميتها ، قال جل وعلا: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: وثيابك فطهر وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا: القلب.
ويقول سبحانه عن اليهود والمنافقين: أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
أيها الأحبة في الله: لقد أعطى القلب مكانة عظيمة في الدنيا والآخرة وما فسدت أحوال الناس ، وما أصاب بعض الناس مرض الإهمال ، إلا بعدما أهملوا هم قلوبهم ، فمرضت وكلت فظهر هذا الإهمال واضحاً جلياً على بقية سلوكياتهم.
وإليكم شيئاً من نصوص الكتاب والسنة لندرك سوياً مكانة هذا القلب وأهميته يقول الله تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فلن ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم ، والذي يهمل قلبه فإني أخشى عليه أن تهمل هناك. ويقول جل وعز: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب فأين صاحب القلب المنيب؟ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). وفي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعاً: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). فهلا وقفنا أيها الأخوة مع أنفسنا لننظر كيف عملنا بقلوبنا ، بل ماذا عملت بنا قلوبنا، كم ننشغل بأشياء كثيرة من أمور دنيانا ومعاشنا ووظائفنا ، وإذا بقى لنا شيء من الاهتمام أعطيناه لأعمالنا الظاهرة.
وأما هذا القلب فقليل منا من ينظر إليه ، ويعطيه الإهتمام اللائق به. فأثرت هذه الغفلة وأثر هذا الإهمال لقلوبنا أن أهملنا أشياء كثيرة ، وإليكم شيئاً من ذلك:-
أولاً: هناك إهمال ملحوظ وواضح ، ويلحظه الفرد منا في نفسه: إهمال في العبادات ، لا نؤدي هذه العبادات كما ينبغي ، ولا نهتم بها كما هو مطلوب منا ، وهذا أمر خطير بل ربما نهتم بقضايانا الخاصة ، وأمورنا الشخصية أكثر من الاهتمام بعبادة ربنا فهناك إهمال في شأن الصلاة ، إهمال في الإتيان بطهارتها كاملة بآدابها وسننها وواجباتها وشروطها ، وإهمال في خشوعها واستحضار القلب في الوقوف بين يدي المولى جل وعلا ، وإهمال واضح وملحوظ في المحافظة على صلاة الجماعة ، نتحمس في رمضان وفي المواسم والمناسبات ، ثم فتور عجيب حتى رمضان الذي بعده.
صلاة الجماعة واجبة أيها الأخوة على أصح قول أهل العلم ، والذي يتخلف عنها من غير عذر فهو آثم مأزور ، وليس له الخيار في أن يصلي في بيته أو يصلي في المسجد ، بل يجب عليه حضور جماعة المسلمين ، ويجب عليه أن يجيب داعي الله ، حيث ينادى لها ، ويجب عليه أن يركع مع الراكعين قال: ((هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة)).
ثم لو تأملنا حالنا مع بعض العبادات في الآخرة لرأينا أن الإهمال غزاها أيضاً ، فهناك إهمال في تأدية فريضة الزكاة ، إما بإخراجها وإما بصرفها إلى مستحقيها ، وهناك إهمال بشأن الحج ، إما بعدم المبادرة بأدائها أو عدم تأديتها كما حج المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والتقصير هناك وترك بعض السنن والآداب ناهيك عن إهمال بعض الواجبات.
فاتقوا الله أيها المسلمون: لا يصل الإهمال في حياتكم إلى عباداتكم ، فهي الرابط بينكم وبين ربكم ، وهي طريقكم إلى آخرتكم وإلى جنة ربكم ، فإذا أهملتم بها ، فأخشى أن لا تصلوا إليها.
ثانياً: جانب آخر من جوانب وظواهر الإهمال المتفشي بيننا ، إهمال الأولاد وهذا الإهمال شمل عدة جوانب ، فأولاً إهمال من بعض الآباء في توجيه أبناءهم التوجيه الشرعي، ربما أمره ونهاه ووبخه في قضايا كثيرة جداً ، ولا يأمره وينهاه لأجل الصلاة ، أو الحلال أو الحرام ، وهو مسئول عن هذا الإهمال أمام الله عز وجل وسيحاسب عنه.
ثم هناك إهمال من بعض الآباء في توجيه أبناءهم التوجيه الخلقي ، فكثير من أخلاقيات الإسلام لا يمارسها الأولاد ، ومن أسبابها إهمال الآباء في غرس هذه الأخلاقيات في نفوس أولادهم.
فتجد بعض الأولاد يفتقد إلى خلق الكرم والشجاعة ، ودماثة الخلق ، ولين الجانب ، واحترام والديه ، وتقدير كبار السن ، والعطف على المساكين والأرامل ، إلى غير ذلك من توجيهات الإسلام النبيلة.
ثم إن هناك إهمال من بعض الآباء حتى توجيه أولادهم في دراستهم ، فالأب يُدخل ولده إلى المدرسة ، ثم بعد ذلك لا يدري عن شيء ولا يتابع ولا يسأل ، ولا يدري ماذا يفعل وماذا يعمل ولده داخل وخارج المدرسة.
بل ربما البعض لا يدري في أي مرحلة ولده الآن ، وكل هذا من إهمال بعض الآباء لأولادهم.
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ، اتقوا الله في أولادكم ولا تهملوهم ، فإن في إهمالهم شر وفساد في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة في الله: جانب ثالث من جوانب الإهمال في حياتنا ، ولعلكم تستغربون من هذا النوع من الإهمال ، وهو إهمال الخدم في البيوت.
قل ما تجد بيتاً من بيوت مجتمعنا هذا الأيام إلا وفيها خدم ، إلا من رحم الله عز وجل ، وهناك عدد من الجوانب مهملة في حق الخدم:
أولها: استقدام الخدم من النساء بدون محرم ، وهذا أمر محرم ولا يجوز ، لو كانت المرأة مسلمة ، لأنه لا يجوز للمسلمة أن تسافر بغير محرم ، إذا كان الحج. وهو ركن من أركان الإسلام. يسقط عن المرأة ، ولو كانت قادرة بدنياً ومالياً إذا لم تجد محرم ، فكيف بغيره ، ثم هناك إهمال وتجاوز آخر ، وهو استقدام الكفار من الخدم نساءً ورجالاً ، وهذه مخالفة شرعية عظيمة حيث لا يجوز إدخال الكفار جزيرة العرب بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعتذر لي يا أخي وتقول بأن الجهة الفلانية سمحت، والجهة المعنية تستقدم ، هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يخالفه فهو مسئول عن المخالفة سواء كان فرداً أو مجتمعاً، وأنت عليك بنفسك وستحاسب لوحدك.
ثم إن هناك جانب يخفى على الكثير ممن لديهم خدم ومسلمون ، يهملونه تجاههم أحب التنبيه إليه ، وهو توجيه الخدم التوجيهات الشرعية التي يجهلونها ، بحكم طبيعة البلاد التي عاشوا فيها ، فيأتينا خدم من بلاد يكثر فيها الجهل ويكثر البدع والفقر، فيقضي الفرد هناك سنوات قلَّ ما يتعلم ديناً صحيحاً. وهو في كثير من الأحيان لا يلام ، ثم يأتون هنا ويجلسون في بعض الأحيان 5 أو 6 سنوات لدى أسر في مجتمعنا ، فلا تحرص الأسر على تعليمهم شيئاً من الدين ، يشاهدون العاملة تقصر في الطهارة فلا توجه ، وتفرط في الصلاة فلا توجه ، وتتهاون في التستر بحكم ما عاشته في بلادها فلا توجه ، وغيرها كثير بحجة أنها خادمة ، سبحان الله أيصل الإهمال إلى هذا الحد ، أما تعلمون أنكم مسئولون عنها وعن تقصيرها ، ويجب عليكم تعليمها ، تقضي بعض الشغالات سنوات عديدة لدى بعض الأسر ، ثم ترجع إلى بلدها ، ولم تستفد شيئاً سوى المال الذي جمعته ، أما الدين ، فالله المستعان ، وكأنها لم تعش لدى أسرة مسلمة ، وكأنها لم تسكن 4 أو 5 سنوات في بلاد الحرمين.
فاتقوا الله أيها المسلمون: لا تهملوا خدمكم بحجة أنهم خدم ، احرصوا عليهم ، فإن من تعليمهم وتوجيههم نفعاً لكم في دينكم ودنياكم.
اللهم علمنا ما ينفعنا
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: فثمة سبب آخر ، من أسباب الإهمال الذي تفشى عند بعض الناس ، سوى إهمال القلب وعدم العناية به ، فإن هناك سبباً آخر ، وهو فقدان الأمانة ، وفقدان الشعور بالمسئولية لدى البعض ، هو الذي يجعله يهمل ، سواء كان طالباً أو مدرساً أو موظفاً أو مسئولاً أو غير ذلك ، قال الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)) [متفق عليه].
إن فقدان الأمانة أيها الأخوة ، مصيبة آية مصيبة ، إن المجتمع الذي يفقد أصحابه الأمانة ، يصعب التعامل معه ، فإنك لا تستطيع أن تثق بأحد ، وهذا سبب عظيم في إهمال الناس لمسئولياتهم ، وهو عدم شعورهم بأهمية الأمانة الملقاة على عاتقهم. حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً.
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن ، فعلموا من القرآن ، وعلموا من السنة ، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل ، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً وليس فيه شيء ثم أخذ حصاةً فدحرجه على رجله فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة حتى يقال للرجل، إن في بني فلان رجلاً أميناً حتى يقال للرجل ، ما أجلده ما أظرفه ما أعقله وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلماً ليردنه عليّ دينه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه عليّ ساعيه وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً)) [متفق عليه].
وكأن ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم وقع شيء منه في وقتنا هذا ، فقل ما تجد ذلك الأمين الذي يراقب الله ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظروا الساعة ، قالوا: وما إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله)) ، وفي رواية: ((وسد الأمر إلى غير أهله)).
(1/1227)
الإشاعة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/8/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر الإشاعة وأثرها في المجتمع. 2- أعداء الأنبياء حاربوا دعوة الله ببث الإشاعات
الملفقة. 3- منهج المسلم في التعامل مع الإشاعة. 4- الشائعات أظهرت الفتن في المجتمع
المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ظاهرة من جملة الظواهر التي تظهر في المجتمعات، موضوع مهم، يهم المجتمعات بشكل عام، كل المجتمعات، الإسلامية وغير الإسلامية، لكن أهميتها للمجتمعات المسلمة أشد، نود طرحه في هذه الجمعة، ألا وهو موضوع الإشاعات.
وما أكثر الإشاعات التي تطلق في أوساطنا ونسمعها هذه الأيام، إشاعات مقصودة، وإشاعات غير مقصودة، فلا يكاد يشرق شمس يوم جديد إلا وتسمع بإشاعة في البلد، من هنا أو من هناك.
فكم للشائعات من خطر عظيم في انتشارها وأثر بليغ في ترويجها.
الشائعات يا عباد الله تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص.
فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وكم حطمت الإشاعة من عظماء، وكم هدمت الإشاعة من وشائج، وكم تسببت الشائعات في جرائم، وكم فككت الإشاعة من علاقات وصداقات، وكم هزمت الإشاعة من جيوش، وكم أخرت الإشاعة في سير أقوام.
لخطر الإشاعة فإننا نرى الدول، دول العالم كلها تهتم بها، والحكام رؤساء الدول يرقبونها معتبرين إياها، بل إن كثير من دول العالم تسخر وحدات خاصة في أجهزة استخباراتها، لرصد وتحليل ما يبث وينشر من إشاعة في دولتها. وبانين عليها توقعاتهم للأحداث، سواء على المستوى المحلي أو الخارجي.
أيها المسلمون: إن تاريخ الإشاعة قديم، قدم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أن كلاً منهم قد أثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه ثم يبثونها ويتوارثونها أحياناً.ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
فهذا نوح عليه السلام اتهم بإشاعة من قومه بأنه يريد أن يتفضل عليكم أي يتزعم ويتأمر، ثم يشاع عنه أنه ضال: إنا لنراك في ضلال مبين وثالثة يشاع عنه الجنون وقالوا مجنون وازدجر.
وهذا نبي الله هود عليه السلام، يشاع عنه الطيش والخفة كما قال تعالى: إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ومرة يشاع عنه أنه أصيب في عقله: قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أُشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون.
ثم هذا موسى عليه السلام، يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملائه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر ويسمم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون ومما قال فرعون أيضاً: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى. وبرغم هذه الأراجيف والأباطيل والشائعات من حول موسى عليه السلام، فإن الحق ظهر واكتسح في يوم المبارزة ما صنع السحرة، وألقى السحرة ساجدين، فبُهت فرعون أمام هذا المشهد، لكن أسعفته حيلته ودهاؤه بأن يلجأ من جديد إلى تلفيق الإشاعات، فنسب إلى موسى أنه كان قد رتب الأمور مع السحرة، وأن سجودهم وإيمانهم محض تمثيل واتفاق، لمآرب يحققونها جميعاً: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون وقال سبحانه: قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.
إذاً يا عباد الله، يتبين لنا من خلال هذه الأمثلة أن الإشاعة موجودة مع وجود هذا الإنسان، وستبقى ما بقى هذا الإنسان.لأن من طبيعة النفس الإنسانية أن تصاب بالأمراض، كالحسد والبغض والكره، والنفقات وغيرها، والإشاعة أحد الوسائل التي يعبر بها الإنسان، بل يفرغ الإنسان به عما في نفسه تجاه الآخرين.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا الشائعات احذروا من نشرها وتوزيعها، لا يكن أحدكم مردداً لكل ما يسمع، فقد ثبت في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) وفي رواية: ((كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)) ، ويقول الإمام مالك رحمة الله تعالى: اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما سمع.
واحذروا كذلك يا عباد الله، من يقول كل خبر، وتصديق كل ما يقال، فإن هناك فئات وأصنافاً من الناس في كل مجتمع، قلوبها مريضة، أرواحها ميتة، ذممها مهدرة، لا تخاف من الله، ولا تستحي من عباد الله، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس، تتغذى على لحوم البشر، ترتقي على أكتاف وحساب غيرها.
ليكن منهج كل واحد منكم عند سماعه لأي خبر قول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
أيها المسلمون: إن أثر الشائعات سيء، جد سيء، وينتج عنها غالباً آثاراً أخرى أسوأ منها، وفي تاريخ هذه الأمة من الشائعات الكثيرة التي كانت نتائجها سيئة في ظاهرها.
نختار لكم بعض الأمثلة: الشائعة التي انتشرت أن كفار قريش قد أسلموا، وذلك بعد الهجرة الأولى للحبشة، كانت نتيجتها أن رجع عدد من المسلمين إلى مكة، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فارٌّ منه، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
مثال آخر: في معركة أحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال ، فتأملوا رحمكم الله تأثير الإشاعة.
مثال ثالث: الشائعات الكاذبة التي صنعت ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، ماذا كانت آثارها السيئة لا على المجتمع في ذلك الوقت، بل على الأمة حتى وقتنا هذا، تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم، وأصبحت لهم شوكة وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه، بل كانت آثار هذه الفتنة، أن قامت حروب بين الصحابة الكرام كمعركة الجمل وصفين، من كان يتصور أن الإشاعة تفعل كل هذا، بل خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة والقدرية الأولى، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وبدع وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم.
مثال رابع وأخير: حادثة الإفك، تلك الشائعة التي طعنت في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الشائعة التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً، بل هزت المدينة كلها، بل هزت المسلمين كلهم، هذا الحادث، الذي كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، وكلف الأمة المسلمة كلها أن تمر به من أشق التجارب في تاريخها الطويل، وعلق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه وقلب صفوان بن المعطل شهراً كاملاً، علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.
لسنا مبالغين أيها الأخوة، إذا قلنا أن ما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك هو حدث الأحداث في تاريخه عليه الصلاة والسلام، فلم يُمكر بالمسلمين مكر أشد من تلك الإشاعة، وهي مجرد إشاعة مختلقة بين الله تعالى كذبها، ولولا عناية الله عز وجل، لكانت قادرة على أن تعصف بالأخضر واليابس، ولا تُبقي على نفس مستقرة مطمئنة، ولقد مكث مجتمع المدينة بأكمله شهراً كاملاً، وهو يصطلى نار تلك الإشاعة، ويتعذب ضميره وتعصره الإشاعة الهوجاء، حتى نزل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، وليكون درساً تربوياً رائعاً لذلك المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة.
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليكم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميعٌ عليم.
بارك الله لي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن الإشاعة يا عباد الله، لها أثر كبير على نفسية الإنسان، بل ربما يصل تأثيرها إلى دين المسلم وخلقه، ولها تأثير كبير كذلك على المجتمعات بأسرها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا بأن الإشاعة ربما تقيم دولاً وتسقط أخرى.
أيها الأخوة: إننا نعيش في زمن كثر فيه ترويج الإشاعة، ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم بأي شكل من الأشكال، فلابد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل فيها مع الإشاعات، ونلخصها في أربعة نقاط مستنبطة من حادثة الإفك، التي رسمت منهجاً للأمة في طريقة تعاملها مع أية إشاعة إلى قيام الساعة.
النقطة الأولى: أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً.
النقطة الثانية: أن يطلب المسلم الدليل البرهاني على أية إشاعة يسمعها قال الله تعالى: لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء.
النقطة الثالثة: أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره، فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية إشاعة، لماتت في مهدها قال الله تعالى: ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا.
النقطة الرابعة: أن يرد الأمر إلى أولى الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي:قال الله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً.
إذاً يا عباد الله، إذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، احذروا من الشائعات، فإن مسئوليتها عظيمة، في الدنيا وفي الآخرة، خصوصاً إذا كانت ضد مسلم وهو منه برئ.
إحذروا أن تكونوا أنتم الانطلاقة لكل شائعة، واحذروا أن تكونوا مروجين، لهذا الشائعات.
فإذا ما سمعت أخي المسلم بخبر ما، سواءً سمعته في مجلس عام أو خاص، أو قرأته في مجلة أو جريدة، أو سمعته في إذاعة، وكان ما سمعته يتعلق بجهة مسلمة، سواء كانت طائفة أو مجتمع أو شخص وكان الذي سمعته لا يسر، أو فيه تنقص أو تهمة، فاحتفظ بالخبر لنفسك، لا تنقله لغيرك، مع أن الذي ينبغي أن يبقى في نفسك، هو عدم تصديق الخبر لأن الأصل كما قلنا، إحسان الظن بالمسلمين حتى يثبت بالبرهان والدليل والأدلة صدق هذا الاتهام. لأن القضية قضية دين، والمسألة مسألة حسنات وسيئات. فليحافظ كل منا على دينه، وليحافظ كل منا على حسناته. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. اللهم آمنا في أوطاننا.. اللهم إنا نسألك رحمة تهدي.
(1/1228)
ابتلاء المؤمن
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/6/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البلاء سمة لكل البشر. 2- الإيمان قرين الابتلاء. 3- عظم المُثَمّن من عظم الثمن.
4- تعرض الأنبياء للبلاء. 5- تعرض المؤمنين للبلاء. 6- وصايا ستة لأهل البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن من سنة الله تعالى في عباده المؤمنين أن يبتليهم جل وتعالى ، ابتلاءً يقوى بقوة الإيمان ، ويضعف بضعفه ، يقول رسول الله في الحديث الصحيح: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)). إنه ما من أحد في هذه الدنيا إلا وهو مُبتلى ، إما بمصائب وبلايا ، وإما بمحن ورزايا ، وإما بآلام تضيق بها النفوس ، أو بمزعجات تورث الخوف والجزع ، فكم ترى في الدنيا من شاكي ، وكم تسمع من لواّم ، وآخر يشكو علة وسقما ، ورابع ، يشكو حاجة وفقرا ، وهذا متبرم من زوجة وأولاده ، وذاك لواّم لأهله وعشيرته، وإذا قد كسدت تجارته وبارت صناعته. وآخر قد ضاع جهده ولم يدرك مرامه ، وهكذا.
لكن المؤمن من بين كل هؤلاء ، ذلك الذي قد توجه بكليته إلى ربه ، وضع أمامه هدفاً سامياً يسعى لتحقيقه ، هذا المؤمن ابتلاءه يختلف عن غيره ، فليس ابتلاءه ابتلاء إهانة وتعذيب ، لكنه ابتلاء تمحيص وتهذيب ، ابتلاء تربية وتقويم وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
إن هذا الصنف من المؤمنين ، ممن جعلوا غايتهم رضى الله رب العالمين ، قد وطنوا أنفسهم على احتمال المكاره ، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، إنهم قد أحسنوا ظنهم بربهم ، وأمّلوا فيه جميل العواقب وكريم العوائد ، كل ذلك بقلب لا تشوبه ريبة ، ونفس لا يزعزعها كربة ، مستيقنين ، معتقدين ، اعتقاداً جازماً بأن بوادر الصفو والفرح لابد آتية. كاستيقانهم بأن غداً بعد اليوم، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور.
إن هؤلاء المؤمنين يعلمون بأن الإيمان ليس مجرد دعوى أو أمنية فحسب ، لكنهم يعلمون بأنها حقيقة ذات تكاليف ، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد وصبر وتحمل لا يحملها إلا من في قلوبهم تجرد وإخلاص. إنهم يعلمون بأن أثقال الحياة ، وصعوبة الطريق ، ووعورة المسار ، لا يطيق حملها الضعاف المهازيل ، لا ينهض بأعبائها إلا العمالة الصابرون ، أولو العزم من الناس ، أصحاب الهمم العالية. إنه لا يكفي أن يقول الناس: آمنا ويتركوا لهذه الدعوى. حتى لا يتعرضوا للفتنة فيثبتوا لها ويخرجوا منها ، صافية عناصرهم ، خالصة قلوبهم.
أيها المسلمون: إن عبء الإيمان لكبير ، وإن تكاليفه لشاقة إلا على النفوس المؤمنة بالله إيماناً راسخاً ، والمتقبلة لتكاليفه بطواعية ، والراغبة فيما عند الله وما وعد به المؤمنين من نصر وعز في الدنيا ، وثواب مضاعف في الآخرة ، قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.
نعم ، إن عبء الإيمان شاق وكبير. ولكنه سهل ويسير على من يسّره الله عليه إنها سهلة على تلك النفوس التي تعرف أن العبء عندما يكون كبيراً ، يكون جزاؤه ومثوبته أكبر وأجل عند الله: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون نزلاً من غفور رحيم.
إنه لا غرابة ، فكلما عظم الثمن المقدم ، عظم المثمن المستوفى ، فالشهيد الذي قدم نفسه ، وباع حياته لله ، عوضه الله بدلاً من هذه الحياة بحياة أفضل ونعيم أكمل. كم من محنة تحمل في طياتها منح ورحمات ، وكم من بلية ، يكون بعدها فرج وكرامات ، إن المؤمن الواثق بربه ، لا يفقد صفاء العقيدة ونور الإيمان ، إن هو فقد من صافيات الدنيا ما فقد ، بل يقف أمام كل عاصفة بيقين أرسى من الجبال ، وعلم بالله لا يرقى إليه شك.
أما ضعيف الإيمان ، ذلك الإنسان الجزوع المتردد الخائف فإن ضعف إيمانه ويقينه ، يُنفّره من الصبر أمام الابتلاءات ، ويضيق عليه المسالك إذا نزلت به نازلة ، أو حلت به كارثة ، ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وتعجل الخروج فيما دخل ، متعلقاً بما يضره ولا ينفعه.
إنه لو استشعر قول الله تعالى: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم استشعاراً حقيقياً ، وأيقن بأن الخلق والرزق والإحياء والإماتة كله بيد الله ، ما خاف من أي مخلوق مهما بلغ من عز أو منزلة ، لأنه لا أحد يستطيع قطع رزق أو رد مقدور أو انتقاص أجل: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم.
إن من فقد الثقة بربه ، اضطربت نفسه ، وساء ظنه ، وكثرت همومه ، وضاقت عليه المسالك ، وعجز عن تحمل الشدائد.
أما أمر المؤمن فكله خير ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن ، بهذا صح الخبر عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فيا أيها الأخ المؤمن: إنك وأمثالك من المؤمنين في هذه الحياة ، معرضون لألوان من الابتلاء بخير أو بشر ، بخير كالمال والصحة والولاية ، وبشر كالمرض والآفات وتسلط الأعداء ، أما ابتلاء الخير ليرى هل تؤدي حق الله فيما أعطيت من مال بأداء ما أوجب الله عليك فيه.
وهل قَصَرْت النفس حال الصحة على المأمورات وكبحت جماحها عن ارتكاب المنكرات. وهل أديت حق الله فيما استُخلفت عليه من مصالح المسلمين قال الله تعالى: ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون وقال عز وجل: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر هذا شيء من صور وألوان ابتلاء الخير.
أما ابتلاء الشر ، فكما قلت ليس لإهانة أو تعذيب ، لكن لتقوية الإيمان وحصول على المثوبة بالصبر على البلاء. كما حصل لنبي الله أيوب عليه السلام من الابتلاء بالمرض الذي بلغ به أن تخلى عنه جميع أهله.
وكما حصل لأبينا إبراهيم عليه السلام من تسلط قومه عليه وإلقائهم إياه في النار.
وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأذى والمضايقة والتآمر ضده تلك المؤامرة التي فضحها القرآن في قوله: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
فماذا كان بعد ذلك؟ ماذا كان؟ أما أيوب عليه السلام ، فكشف الله ضره وأتاه أهله ومثلهم معه رحمة من الله وذكرى لأولي الألباب ، وأما إبراهيم عليه السلام فإن الله تعالى قال للنار التي أُججت لإحراقه: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وجعله أمة يقتدى به إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين بل وجعل له لسان صدق في الآخرين.
وأما نبينا ورسولنا محمد فقد نجاه الله جل وتعالى وأفلته من تلكم المؤامرة الدنيئة ، وخرج من مكة مختفياً مطارداً ، ثم يعود إليها بعد بضع سنوات ، تعد قليلة في عمر الزمن ، يعود ليطل على مكة من أعلى طريق فيها ، فاتحاً لها ، بل عاد ليطل لا على مكة وحدها ، بل ليطل على الدنيا كلها ، وعلى هذه الأمة جميعها ، يوجهها إلى رب واحد ، وقبلة واحدة ، وقيادة واحدة ، ويصبح هو إمامها وقائدها المبلغ عن الله إلى يوم القيامة. بل وفرطها على الحوض وشفيعها عند الله ، وفاتح باب الجنة لها.
أيها الأحبة في الله ، أيها المؤمنون المبتلون شئتم أم أبيتم ، اتقوا الله تعالى ، اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم الذي جاء من عند الله واصبروا على ما قد تبتلون به ، وما كلفتم به من الله ، وأدوا حق الله فيما أعطاكم وفيما حملكم من أمانة ، ولا يطغينكم عزٌ أو رخاءٌ أو صحة أو ثراء ، ولا يضعفنكم الشدائد والأحداث والمصائب والمضايقات، فما هي إلا برهة من الزمن قليل ثم يأتي فرج الله ونصره ومثوبته لمن قام بأمره ، وإن استغرق ذلك وقت الدنيا كلها فإنها لا شيء في حساب وعمر الآخرة.
كما جاء وحصل لأيوب وإبراهيم ومحمد عليهم السلام ولأتباعهم ممن ابتلوا وأُوذوا في الله ، وستكون العقبى لأتباعهم كما كان لهم من قبل: فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً وقال سبحانه: سيجعل الله بعد عسر يسراً.
أقول هذا القول وأسأل الله تعالى أن يثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى ، اللهم وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، وقال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا إن نصر الله قريب. وقال رسول الله كما في البخاري: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له حفرة في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر – حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)).
إن الدنيا من مبتداها إلى منتهاها دار ابتلاء وغاية وجود المؤمن فيها إرضاء الله تبارك وتعالى ، ولمثل هذا فليعمل العاملون ، وعلى مثل هذا فلينافس المتنافسون.
فالمسلم لا يحزن لدنيا ولا تذهب نفسه حسرات ولا يستسلم إذا رأى من على غير الجادة هم أهل صولة وجولة في الدنيا ، في الوقت الذي يرى فيه إخوانه المؤمنون ، قلة في العدد والعدة والمال ، فإن كل هذا من الابتلاء.
وإن مما يزيد طمأنينة المؤمن ويقوي صبره إذا علم هذه النقاط الست:
1 – أن الابتلاء فيه تكفير للسيئات: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه)) [متفق عليه].
2 – رفع المنزلة والدرجة عند الله تعالى ، المؤمن إذا ابتلاه الله فصبر على بلواه ، لا تكفر عنه سيئاته فحسب بل يجزل الله له أيضاً في الثواب ويرفع مكانته عند الناس وفي الجنة.
3 – المكافأة في الدنيا ، وذلك بأن يعوضهم الله ما فقدوه ، ومن هذا القبيل ما حدث لأيوب عليه السلام.
4 – إخلاص النفوس لله ، فإن الابتلاء من شأنه أن ينقي النفوس من الشوائب والقلوب من الرياء والعمل من الشرك ويوجهها نحو الإخلاص.
5 – إظهار الناس على حقيقتهم. فمن الناس من يدعي الصبر وليس بصابر ، ويدعي الزهد وليس بزاهد، فإن الابتلاء لا تطيقه كل النفوس. ومن هنا كان الابتلاء لتمييز أصحاب الهمم العالية والنفوس القويمة والعزائم الفتية المؤمنة ، من أصحاب الهمم الضعيفة والنفوس الساقطة والعزائم الخائرة.
6 – الإقتداء بالصابرين: وفي هذا حافز للمؤمن أن يصبر ويصابر ويتحمل كما صبر أولئك الصابرون المؤمنون، فينال ما نالوا من الرضا والقبول والنعيم المقيم في الآخرة والعزة في الدنيا.
(1/1229)
الحلف
فقه
الأيمان والنذور
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/10/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحلف نوع من العهد والميثاق. 2- المنافقون يكثرون من الحلف لاستهانتهم بالله عز وجل.
3- الحلف الكاذب لترويح السلعة. 4- الحلف الكاذب في القضاء والخصومات. 5- الحلف على
ترك فعل من الخير. 6- كفارة اليمين. 7- الحلف بغير الله شرك. 8- الحلف وشهادة الزور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس ، عباد الله: إن شأن حلف اليمين ، عند الله عظيم ، وخطر التساهل بها جسيم ، وقد تساهل الناس هداهم الله ، في هذا الزمان ، بشأن اليمين ، فليست اليمين أيها الأخوة ، مجرد كلمة تمر على اللسان ، ولكنها عهد وميثاق ، ينتهي عند حده ، ويجب أن يوفى حقه ، قال صلى الله عليه وسلم : ((من حلف بالله فليصدق ، ومن حُلف له بالله فليرضى ، ومن لم يرضى فليس من الله)) والله تعالى يقول في كتابه العزيز: واحفظوا أيمانكم قال ابن عباس رضي الله عنهما ، يريد:لا تحلفوا ، فيكون معنى الآية على هذا ، هو النهي عن الحلف ، فلا ينبغي للإنسان التسرع إلى الحلف باليمين ، إلا عند الحاجة.
وهل تعلمون يا عباد الله أن كثرة الحلف من صفات الكفار والمنافقين ، والعياذ بالله ، لأن كثرة الحلف يدل على الاستخفاف بالمحلوف به ، وهو الله عز وجل ، وعدم تعظيمه ، قال الله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين ففي هذه الآية ، نهى الله عز وجل نبيه عن أن يطيع الكفار ، وذكر من صفاتهم ، أنهم يكثرون الحلف. وقال عن المنافقين: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون وقال عنهم أيضاً: اتخذوا أيمانهم جُنّة أي جعلوا الأيمان وقاية يتوقون بها ما يكرهون ، ويخدعون بها المؤمنين ، ومن قبلهم ، حلف إبليس لآدم زوجه ، ليخدعهما باليمين ، قال الله تعالى عنه: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين.
أي أقسم لهما أنه يريد لهما النصح والمصلحة ، "فدلهما بغرور" أي خدعهما بذلك القسم ، وأوقعهما في المعصية والمصيبة.
أيها المسلمون: لقد تساهل العباد بأيمانهم ، واستخفوا بالحلف ، حتى صار في ألسنتهم ، يطلقونها ولا يبالون بها ، ولها صور كثيرة.
فمن الاستخفاف باليمين ، أن تتخذ وسيلة لترويج السلع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحلف منفقة للسلع ، مُمحقة للكسب)) [رواه البخاري ومسلم]. ومعنى هذا الحديث ، أن يحلف صاحب السلعة ، أنه أُعطي فيها كذا وكذا ، أو أنه اشتراها بكذا وكذا ، وهو كاذب في ذلك ، وإنما يريد التغرير بالمشتري ، ليصدقه بموجب حلفه ، فيكون هذا الحالف عاصياً لله ، آخذاً للزيادة بغير حق ، فيعاقبه الله بمحق البركة من كسبه ، وربما يتلف الله ماله كله.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم ، أشيمط زان وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه)) [رواه الطبراني بسند صحيح ]. ومعنى- (جعل الله بضاعته) – أي جعل الحلف بالله ، وسيلة لترويج بضائعه ، فيكثر من الأيمان ، ليخدع الناس فيشتروا منه ، اعتماداً على يمينه الكاذبة ، فكان جزاؤه إعراض الله عنه يوم القيامة ، فلا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم ، وانظروا أيها الأخوة ، كيف قرنه بالزاني والمستكبر ، مما يدل على عظم جريمته ، نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
أيها المسلمون: وقد يتساهل بعض الناس ، أو كثير منهم بالأيمان ، في مجال الخصومات والتقاضي ، فيحلف الخصم ليكسب القضية ، ويتغلب على خصمه بالباطل ، دون مبالاة بحرمة اليمين ، والجرأة على رب العالمين ، واسمعوا يا عباد الله ، ما ورد في حق هذا من الوعيد الشديد ، قال الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
وروى الإمام أحمد والنسائي ، أن رجلاً من كندة يقال له امرؤ القيس ، خاصم رجلاً من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، فقضى على الحضرمي بالبينة ، فلم يكن له بينة ، فقضى على امرئ القيس باليمين ، فقال الحضرمي: أمكنته من اليمين يا رسول الله ، ذهبت ورب الكعبة أرضي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد ، لقى الله عز وجل وهو عليه غضبان ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً.
وروى الإمام مسلم في صحيحه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ، فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة ، فقال له رجل ، وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله ، قال وإن كان قضيباً من آراك)). وروى البخاري في صحيحه ، أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: ((الإشراك بالله ، قال ثم ماذا ، قال اليمين الغموس – قلت وما اليمين الغموس – قال: الذي يقطع مال امرئ مسلم – يعني بيمين هو فيها كاذب)).
عباد الله: ومن الأيمان المنهي عنها ، اليمين التي يحلف بها المسلم ليمتنع بها من فعل الخير ، قال تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة ، أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله أي لا تحلفوا ، أن لا تصلوا قراباتكم ، وتصدقوا على المساكين والمحتاجين ، وإذا حلف الإنسان على أن لا يفعل الخير ، فإنه يشرع له أن ينقض يمينه ، ويفعل ما حلف على تركه ، ويكفر عن يمينه ، قال الله تعالى: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم. أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها ، وذلك بأن يُدعي أحدكم إلى صلة رحمه أو عمل بر ، فيمتنع ويقول: حلفت أن لا أفعله ، وتكون اليمين مانعة له من فعل الخير ، بل يكفر عَن يمينه ويفعل الخير.
وفي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني والله إن شاء الله ، لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها ، إلا أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني)) وإذا حلف على ترك مباح ، كلبس ثوب ، أو ركوب دابة ، أو أكل طعام ، ونحو ذلك ، فإنه مخيّر بين الإستمرار على يمينه ، وترك المحلوف عليه ، أو استعماله والتكفير عن يمينه ، قال الله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم أي شرع تحليلها بالكفارة وهو ما ذكره في سورة المائدة ، في قوله تعالى: فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فكفارة اليمين ، فيها تخيير وترتيب ، تخيير بين الإطعام والكسوة والعتق ، والترتيب فيها بين ذلك وبين الصيام ، فمن لزمته كفارة يمين ، فهو مخير ، إن شاء أطعم عشرة مساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن عجز عن الطعام أو الكسوة أو العتق ، فلم يستطع واحداً منها ، لزمه صيام ثلاثة أيام متتابعات.
عباد الله: ومن الأيمان المحرمة ، الحلف بغير الله ، فالحلف بغير الله شرك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بغير الله ، فقد كفر أو أشرك)) [رواه الترمذي]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفاً ، فليحلف بالله أو ليصمت)) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من حلف بالأمانة فليس منا)) [حديث صحيح رواه أبو داود].
فالحلف بغير الله شرك يا عباد الله ، لأن الحلف بالشيء تعظيم له ، والتعظيم الذي من هذا النوع حق لله ، فالحلف بغيره من اتخاذ الأنداد له ، وقد قال الله تعالى: فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون قال ابن عباس رضي الله عنهما ، هو أن تقول: وحياتك ، وحياتي وقد كثر في هذا الزمان ، من يحلف بالشرف ، أو يحلف بالنبي ، أو بالأمانة ، وكل هذا مما نهى عنه الله ورسوله ، فيجب على من صدر منه شيء من ذلك أن يتوب إلى الله تعالى ، ولا يحلف إلا بالله عز وجل، ليسلم من الشرك. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره: "لأن أحلف بالله كاذباً ، أحب إليّ من أحلف بغيره صادقا".
وذلك لأن الحلف بالله على الكذب محرم ، لكن الحلف بغير الله أشر تحريماً لكونه من الشرك ، وسيئة الكذب أخف من سيئة الشرك. فاتقوا الله عباد الله ، وعظموا اليمين بالله ، ولا تتساهلوا في شأنها ، واحذروا من الحلف بغير الله لتسلم عقيدتكم ، وتصلح أحوالكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون.
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الناس: هناك موضوع يرتبط دائماً بالحلف ، وهو الحلف الكاذب ، وهي من آفات اللسان ، وهو ما يسمى بشهادة الزور.
إن عقوبة شهادة الزور يا عباد الله عظيمة ، وشرها وخيم ، يقول الله تعالى: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور. روى الإمام أحمد والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيباً ، فقال: أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله ، ثلاث مرات ، ثم قرأ: فاجتنبوا الرجس من الأوثان ، واجتنبوا قول الزور وفي الصحيحين ، عن أبي بكر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله ، قال: الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس ، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها ، حتى قلنا ليته سكت)).
وروى ابن ماجه والحاكم ، وقال صحيح الإسناد من حديث ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لن تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة ، حتى تجب له النار)). فتحفظوا يا عباد الله في شهادتكم.وتحرزوا مما تنطق به ألسنتكم ، فإن شاهد الزور قد ارتكب أموراً خطيراً ، منها الكذب والافتراء ، وقد قال الله تعالى: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون وقال سبحانه: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب.
ومن المحاذير التي ارتكبها شاهد الزور انه ظلم الذي شهد عليه ، فاستبيح بشهادته عليه دمه أو ماله أو عرضه ، ومن المخاطر التي ارتكبها شاهد الزور ، أنه ظلم المشهود له ، حيث ساق إليه بموجب شهادته حق غيره ظلماً وعدوانا ، فباع دينه بدنياه ، وظلم الناس للناس ، ومن المخاطر التي وقع فيها شاهد الزور ، أنه استباح ما حرم الله من الكذب وأموال الناس ودمائهم وأعراضهم ، فاستباح محرمات كثيرة.
يا شاهد الزور لقد ظلمت نفسك ، وظلمت غيرك ، وبعت دينك بدين غيرك ، إن شاهد الزور من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، شاهد الزور خائن ، يقلب بشهادته الحق باطلا ، والباطل حقا ، شاهد الزور يغرر بالحكام ، ويفسد الأحكام ، ويساعد أهل الإجرام ، كم أخربت شهادة الزور من بيوت عامة ، وضيعت حقوقاً واضحة ، وأزهقت أرواحاً بريئة ، كم فرقت بين المرء وزوجه ، كم منعت صاحب الحق من حقه ، وجرأت المفسدين على الفساد.
عباد الله: وفي وقتنا هذا قد كثر تساهل الناس في الشهادة ، خصوصاً في مجال التزكيات ، فإذا طلب تزكية شخص ، تبادر الكثير إلى تزكيته دون علم منهم بحاله وسلوكه ، ودون اعتبار لما يترتب على هذه التزكية من مخاطر ، فقد يتولى هذا الشخص المزكى منصباً يسيء فيه إلى المسلمين ، أو يستغل هذه التزكية للتغرير بالمسلمين ، وأخذ ما لا يستحق.
ومن التساهل في الشهادة ، الشهادة لشخص أنه يستحق من مال الدولة ، وهو ما يعرف بالضمان الاجتماعي ، فيشهد أن هذا الشخص محتاج ومستحق ، وهو ليس كذلك ، فهذه الشهادات من الزور الذي حرمه الله ورسوله.
عباد الله: إن شهادة الزور ، تفسد المجتمعات ، وتحول دون تنفيذ أحكام الله ، وتغرر بالقضاء والمفتين ، وتفسد الدنيا والدين ، فيجب على ولاة الأمور أن يعاقبوا شاهد الزور بالعقوبة الرادعة ، ويشهروا أمره حتى يعرفه الناس ، ويحذروه ، ولا يثقوا به.
أيها المسلمون: إن الشهادة ليست مجرد قول باللسان ، ولكنها كلمة يترتب عليها عدل أو جور ، وتبنى عليها الأحكام ، وتنزع بها حقوق ، وتسفك بها دماء ، ويفرق بها بين زوجين ، فاتقوا الله أيها المسلمون فيمن تشهدون عليه ، وفيمن تشهدون له ، وتثبتوا فيما تنطقون به ، أعوذ بالله من الشطيان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه ، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه ، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه.
(1/1230)
الحقد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية سلامة الصدر وامتداح القرآن لأهلها. 2- الحقد سبب لكثير من الرذائل والقبائح.
3- الحقد سببه الطمع فيما أنعم الله على الآخرين. 4- الحقد على المرء بسبب الدنيا أهون منه
بسبب الدين.5- الأحقاد قد تتعدى الأشخاص إلى المجتمعات والهيئات والدول بل والأمم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الحقد مرض سيء خبيث، لو أصيب به الشخص أتعبه ثم أهلكه.
الذين يصابون بمرض السرطان. في بعض حالاتهم يكونون أحسن حالاً من الذين يصابون بمرض الحقد. هل تدرون أيها الأحبة، ما هو الحقد، وماذا يفعل بصاحبه؟
الحقد يبدأ من الكراهية الشديدة، ثم يتحول إلى عداوة دفينة في القلب. وآخر مراحله هو الرغبة بالإنتقام، وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.
الحقد، حملٍ ثقيل يتعب حامله، لماذا ؟ لأنه دائماً مشغول الفكر، غير مرتاح البال، دائماً يفكر. يبحث عن الكلمة التي يُخرجها، لكي تزعج الشخص الذي يحقد عليه، دائماً يحاول أن يناله بسوء، لذا هو دائماً في قلق، لا يهنأ بمنام، ولا يتلذذ بلقمة، حتى إن بعض الحاقدين يكون حلمه في المنام فيمن يحقد عليه، نسأل الله السلامة والعافية.
إن الحقد أيها الأخوة أساساً ليست من الفطرة وليست من طبع البشر، بشكل عام. لأنها من ردئ الأخلاق. ومن سفاسف الأفعال، وهي في المسلمين أشنع.
إنه ليست من صفات أهل الإيمان أن يحملوا الحقد في صدورهم، وذلك لأن الأصل في صدرهم أن تكون مملوءة بالمحبة وإرادة الخير للناس.
والقلب أيها الأحبة إناء، إذا ملئت قلبك بالمحبة للناس لم يجد الحقد مكاناً ينزل فيه، لكن لو كان قلبك فارغاً من حب الآخرين، فإنه والحالة هذه، يجد الحقد مرتعاً خصباً يسكن فيه.
لقد مدحت آيات سورة الحشر المهاجرين والأنصار لخصال طيبة فيهم، ليست هذا مجال ذكرها، ثم عقبت بالثناء على الذين يأتون بعدهم، إنهم يسألون الله جل وتعالى ألا يجعل في قلوبهم، حقداً ولا غلاً للذين آمنوا، قال الله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
ولما كانت الجنة دار سعادة، ونعيم عامل شامل، كان لابد لأصحابها من أن يكونوا مبرئين من كل حقد وغلّ، ومن كل علة خلقية، لأن الحقد لا مكان ولا وجود له هناك، إنما توجد في هذه الدار الدنية. لهذا فإن الله جل وتعالى ينزع الحقد من كل الصدور التي تدخل الجنة، كما قال جل وعز في سورة الأعراف: ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون. وقال جل وعز: إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين.
الحقد يكون على حساب كثير من الفضائل، وجوانب الخير لدى الإنسان، كلما زاد الحقد في قلبه مثل الصفات الحميدة، وبذور الخير في نفسه ،
الحقد داءٌ دفين ليس يحمله إلا جهول ملئ النفس بالعلل
مالي وللحقد يشقيني وأحمله إني إذن لغبيٌ فاقد الحيل
سلامة الصدر أهنأ لي وأرحب لي ومركب المجد أحلى لي من الزلل
إن نمت قرير العين ،ـاعمها وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي
وأمتطى لمراقي المجد مركبتي لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي
مبرأ القلب من حقد يبطيئن أما الحقود ففي بؤس وفي خطل
كم جميل كلام هذا الشاعر، ليس هناك أهنأ من سلامة الصدر، كم هو مرتاح صاحب القلب السليم الذي لا يحقد على الناس، شعاره العفو، سلوكه مسامحة الآخرين، غايته رضي الله عز وجل، قدوته بعد رسول الله ذلك الصحابي الذي شهد له رسول الله بالجنة، لأنه كان لا ينام إلا وقد محى ما في قلبه على كل أحد، ومن يقدر على هذا ؟ ولهذا شهد له المصطفى بالجنة.
أيها المسلمون: لماذا يحقد الناس بعضهم على بعض ؟ الحقد غالباً لا يكون إلا من الأدنى للأعلى، تجد الإنسان الدنيء قليل المنزلة، خسيس الطبع، هذا الذي يمتلئ قلبه بالحقد غالباً. لكن كريم الطبع، ذو الأخلاق الفاضلة لا يعرف الحقد.
ولهذا، لا يحقدك أحد إلا إذا كنت أكثر منه، مالاً، أو جاهاً، أو سمعة، أو ذكاءً، أو عملاً، أو نحو ذلك، وهذا الذي هو أقل منك، فيما ذكرت أو غيرها لم يتربى على الإسلام كاملاً، ولا يدرك أن ما فيه إنما هو إبتلاء، فلا سبيل له إلا الحقد على الآخرين.
أيها الأحبة في الله: الحقد كله شر، لكن بعضه أهون من بعض. إذا كان الحقد من أجل الدنيا. فتارة أخف، لو حصل هذا لأجل مال أو جاه، أو عقار، أو ذرية، لهان الأمر نوعاً ما، في مقابل الحقد من أجل الدين، فهذه هي الطامة، وهذه هي بلية البلايا. أن يكون الحقد للدين، ولأهله، ولدعاته فهذه يكون صاحبها على خطر عظيم.
بعض الناس، تجد أن الغالب عليهم هو الشهوة، أياً كانت هذه الشهوة، إما شهوة البطن، أو شهوة الفرج، أو حتى شهوة المنصب والرئاسة، أو غيرها، هذا النوع من الناس، يظن بأن الدين، لا يجعله يستمتع كاملاً بما ترغبه نفسه، فتجد أنه بدأ يكره الدين، ثم يحمله هذا على كره أهله، ثم تجد أن الحقد يبلغ منتهاه لدعاة الدين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، لأنهم له بالمرصاد يفضحون فساده، ويبينون شروره وغوائله فتجد أن مثل هذه النوعية من الناس لو مكن له، وتمكن لأذى أصحاب الدين، إما بلسانه بالكلام عليهم، والطعن فيهم أو بفعاله، بالحاق الأذى المباشر به، لو تمكن من ذلك.
وهناك طائفة أخرى من الناس، وهم الذين يحملون المبادئ المنتة، والأفكار الخبيثة ويحاولون نشر هذه السموم في بلاد المسلمين، أفكار يفوح منها رائحة الإباحية والخلاعة والمجون، يريدون ترويجها بين الناس بشتى الوسائل، عن طريق المجلة أو الإذاعة، أو التلفاز، أو غيره من الوسائل، عن طريق القصة، أو القصيدة، أو المسرحية، أو ندوة، أو اجتماع، أو غيره.
من الذي في الغالب يفضح هؤلاء ويبين، عورهم للناس، ويكشف مخططاتهم، هم حملة الدين، فيحقدون عليهم، ويبغضونهم، ويحاولون أذيتهم.
إن هذه الفئة من الناس يزعجهم إقبال الناس على الدين، ويضايقهم إقبال الناس على سماع الدروس والمحاضرات، لأنهم أصحاب مبادئ منحرفة، وأفكار سيئة، فتجد أن الحقد يغلي في قلوبهم، لأن إلتزام الناس بالإسلام يعني كساد بضاعتهم، فلا أحد يقبل عليها.
أيها المسلمون: أعود فأقول بأن الحقد على الدين أخطر بمراحل من الحقد من أجل الدنيا، فلينتبه ممن في قلبه حقد على أحد بسبب الشرع، أو ممن يغلي قلبه حقداً على انتشار الإسلام في أوساط الكبار والصغار، الشباب والشابات، فإنه على خطر عظيم، وإلا فالدين والشرع لا خوف عليه، ولا حتى على جملته، فإن أصابهم أذى، فهم محتسبون مأجورون لكن الخسارة كل الخسارة لهذا الأبله الذي يحقد على شريعة الله، والذي يحقد على ملة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهَّاب.
ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الحقد قد تتسع دائرته، ويتعدى الأفراد العاديين، وتصبح هناك أحقاد على مستوى المجتمعات، بل حتى دول. دولة تحقد على أخرى، أو مجتمع بأكمله يحقد على آخر. فلا غرابة، إذا سمعنا بأن هناك دولة، اعتدت على دولة أخرى، فدخلت أراضيها ونهبت خيراتها، وخرّبت وفعلت، أو سمعنا بأن هناك دولة تخطط لقلب نظام الحكم في دولة أخرى، أو غيرها مما نسمع بين فترة وأخرى.
أيها المسلمون: كان العرب قبل الإسلام قبائل متفرقة، لا قيمة لهم ولا وزن، فاختارهم الله جل وعلا، وبعث فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا سنوات قلائل، حتى امتدت دولة الإسلام بقوة الحق والعدل والجهاد، واكتسحت عقائد بالية، وصهرت شعوباً كبرى، وقوضت أركان دولٍ عظمى في زمانها إلى الأبد، وشتت ديانات محرفة سابقة. فألقى كل ذلك أحقاداً سوداء على الإسلام والمسلمين في قلوب بعض المتعصبين لقومياتهم ومعتقداتهم ودولهم التي جرفها سيل الإسلام بنوره المبين فيما جرف، من اليهود والنصارى وغيرهم، أو نال منهم نيلاً، فأفقدهم بذلك زعاماتهم الدينية أو السياسية في الأرض.
ونشأ من جراء هذه الأحقاد السوداء مؤامرات عديدة مقعنة وسافرة على الإسلام والمسلمين في أحقاب التاريخ الإسلامي المتتابعة، وما يزال العالم الإسلامي يكتوي بنيران هذه المؤامرات المختلفة في أشكالها وألوانها وأساليبها، فمنها ما يحمل حرباً فكرية مسلحة بألوان شتى من المكر والخديعة، ومنها ما يحمل حرباً مادية مسلحة بكل قوة مادية مريعة.
وهناك أساليب أخرى يستخدمها العدو الآن، أشد فتكاً مما سبق، وهو أن يجعل بأس العرب والمسلمين فيما بينهم، فيزرع هو الأحقاد بين الدولة وجارتها وبين الطائفة وأختها وهكذا حتى تحول العالم الإسلامي إلى كتلة من الأحقاد، وتأمل واسرح بنظرك في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه لا تكاد تجد دولة إلا ولها مشكلة حدودية مع جارتها، ثم الحرب الإعلامية بينهم ثم الحقد والعداوة، هذا إذا سلموا من الاعتداءات المسلحة.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ذكاء الغرب في زرع الأحقاد بين الدول الإسلامية ثم يقعد هو على كرسيه يتفرج، لأنه يحقد على الإسلام كله، وعلى أهله كلهم وذلك لعدة أسباب:
منها لعلم الغرب أجمع بأن المسلمين لو اتحدوا، وصار لهم شوكة فإن هذا ليس في صالحهم.
ومنها لعلمه بأن الإسلام لو قوي فإنه سيتحول إلى جهاد حقيقي كما كان في السابق، وهذا هو الذي يخيف الغرب حقيقة.
وسيكتسح الإسلام أراضيه كما حصل من قبل.
ومن أهم ما يوقد أحقاد الغرب في هذه الفترة الحالية. هو هذه الخيرات الموجودة في البلاد الإسلامية. هذه الأموال الطائلة وهذه النعم، وفي مقدمتها الزيت الذي به قوام حياتهم فنقصه عندهم، ووفرته عندنا، وحاجتهم إليه مع أسباب أخرى أوجد الحقد الدفين على هذه المنطقة. وعلى أهلها وعلى دينهم الذي يتمسكون به.
فهل يعي المسلمون هذا ؟ عداء الغرب واضح للعالم الإسلامي، للأسباب التي ذكرت ولغيرها، وحقدهم بين لكل عاقل، ومكرهم واعتداءاتهم معلومة للقاصي والداني، العجيب، وهذا الذي أفكر فيه أحياناً، ولا أجد له تفسيراً في ذهني. مع كل هذه العداوة، ومع كل هذا الكيد المعلن ومع أمر الإسلام للمسلمين بعدم موالاة الكفار ومع نهي الشرع عن ذلك، مع كل هذا وهذا تجد هناك من المسلمين من يوالي الكفار، ويحبهم ويجلهم ويعظمهم، وهو يعلم عداءاتهم. فالذي يحيرني أمرين:
الأول: أقول كل هذا الحب لهم وموالاتهم، والتعظيم والتقرب لهم، وهم كفار، وليسوا كفار مسالمين، بل كفار محاربين.
فأقول كيف لو لم يكونوا محاربين. وكانوا مسالمين وكان عندهم العدل والإنصاف. ماذا يفعل هؤلاء فوق الحب والموالاة والتعظيم لهم.
أتوقع أنهم سيعبدونهم، لأنه ليس بعد هذا إلا العبادة.
الأمر الثاني: وهي نظرة مادية، مع أن الدين أمرنا أصلاً ببغضهم وكرههم وعدم موالاتهم، فأقول لو أن الإسلام والشرع لم يأمرنا بهذا، فقط من النظرة المادية، شخص تسلط عليك، وهو الآن يأخذ من أرضك، وينهب من مالك، ويستنزف كل الخيرات التي لديك، فمن باب النخوة ومن باب الاستماتة لأجل الحلال ولأجل المال من الطبيعي أنك تعاديه وتقاومه، ولا تدعه يسيطر عليك.
فأتعجب وأقول أنه حتى من هذا الباب لم يحصل شيء، بل ومع علمنا بنهبه لخيرات بلادنا وأكل أموالنا ومع ذلك الحب والموالاة والتقدير، والله المستعان.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
(1/1231)
العقل
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/3/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الإسلام للعقل. 2- لا إكراه للعقل في قبول الدين. 3- دور العقل في استنباط الأحكام
الشرعية. 4- حفظ الإسلام العقل حين حرم الخمر. 5- العقل مناط التكليف. 6- حكمة الله في
ولادة المولود بلا عقل ولا فهم. 7- أمور محظورة على العقل لضعفه عن إدراكها. 8- الدين
يدعو العقل إلى العمل. 9- عقول ربانية وأخرى حيوانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن من جملة كبريات النعم ، التي أنعم الله بها على الإنسان بشكل عام والمسلم بشكل خاص نعمة العقل والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون.
وليس ثمة دين يقوم على احترام العقل الإنساني والاعتزاز به والمحافظة عليه كدين الإسلام. بل إنك لتعجب من كثرة ما يرد في كتاب الله من الآيات التي تتحدث عن العقل ودوره وأهميته لعلكم تعقلون ولقوم يتفكرون ولقوم يفقهون ومثل هذا بالعشرات.
أيها المسلمون: لقد أبرز الإسلام مظاهر تكريمه للعقل والاهتمام به في مواضع عدة: أذكر لكم ستة منها:
أولاً: قيام الدعوة إلى الإيمان على الإقناع العقلي. فلم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله ويعتقد. بل دعاه إلى أعمال ذهنه ، وتشغيل طاقته العقلية في سبيل وصولها إلى أمور مقنعة في شؤون حياتها. فوجهها إلى التفكر والتدبر في كتابه: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب وفي مخلوقاته: الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار. وفي تشريعاته: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون. ومن أحوال الأمم الماضية وما أدت بهم مخالفاتهم إليه قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين. وفي الدنيا ونعيمها الزائل واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً.
وكل هذا التأمل وإعمال العقل ليس هو المقصود لذاته ، وإنما ليؤدي الثمرة النافعة من إصلاح القلب ثم إصلاح الحياة في الأرض على منهج الدين الصحيح.
ثانياً: لم يجبر الإسلام العقل على الإيمان، وإنما ترك له الخيار بين الإيمان والكفر وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. لكن بعد ذلك يتحمل المرء تبعات اختياره.
ثالثاً: ذم الإسلام لذلك العقل الذي فقط يقلد دون أن يعمل ذهنه، وحذر من التقليد الأعمى وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.
رابعاً: أمر الإسلام العقل أن يتعلم وحثه على ذلك ، لأن نمو العقل بالعلم ، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
خامساً: أسند إلى العقل استنباط الأحكام التي لا يوجد فيها نص من كتاب أو سنة. لكن الضوابط المعروفة وما حديث معاذ عنا ببعيد حين بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً ، قال: ((كيف تقضي يا معاذ؟ قال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله؟ قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)) فجعل من اجتهاد العقل أساساً للحكم ومادة للقضاء عند فقدان النص.
لكن هذا الاجتهاد ليس بالهوى ، لكن يكون في إطار الوحي والشريعة.
سادساً: من مظاهر تكريم الإسلام للعقل والمحافظة عليه ، أنه نهى عن كل ما يؤثر في سيره أو يغطيه فضلاً عما يزيله ، لذلك حرم شرب الخمر ، بل وحرم كل مسكر ، بل وامتد التحريم إلى الكمية التي لا تسكر منها فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) كل هذا حفاظاً على العقل وعلى بقائه.
أيها المسلمون: اعلموا رحمني الله وإياكم بأن العقل هو مناط التكليف ، ولا تكليف لمن لا عقل له لحديث: ((رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق)) ثم اعلموا بأن فاقد العقل يمتحن يوم القيامة بأن يدخل النار ، فإن أطاع ودخلها فهو من أهل الجنة ، وكانت النار عليه برداً وسلاما قال صلى الله عليه وسلم: ((أربعة يحتجون يوم القيامة ، رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة.فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة ، فيقول: رب ما أتاني لك رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه ، فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار ، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاما ، ومن لم يدخلها سحب إليها)).
وكذلك اعلموا بأن من بديع حكمة الله جل وتعالى ، أن المولود يولد ولا عقل له ولا فهم، وإلا لتنغّص عليه حياته. اسمع لما يقوله العلامة ابن القيم رحمه الله: يقول: "لو ولدت عاقلاً كحالك في كبرك تنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص ، لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعاً عاجزاً مسجوناً في المهد، ولكنها محض الحكمة والرحمة بك والتدبير".
أيها المسلمون: ومع تقدير الإسلام للعقل إلا أن الشرع قد حدد للعقل مجالاته التي يخوض فيها حتى لا يضل. وفي هذا تكريم له أيضاً لأن العقل مهما بلغ فهو محدود الطاقات والملكات ، لا يستطيع أن يدرك كل الحقائق مهما أوتي من قدرة. وسيظل بعيداً عن متناول كثير من الأشياء. وإذا حاول الخوض فيها التبست عليه الأمور ، وتخبط في الظلمات ، وركب متن العديد من الأخطار.
لذا منع الإسلام العقل من الخوض في أمور ثلاثة:
التفكير في ذات الله ، والتفكير في القدر ، والتشريع من دون الله.فهذه الأمور الثلاثة ضلال العقل فيها متحتم لو دخلها ولهذا جاء النهي عن الخوض فيها:
((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)). ((وإذا ذكر القدر فأمسكوا)). ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. وما ضلال وفساد ما يسمى بالمدرسة العقلية إلا بتغليب جانب العقل والتضخيم من حجمه ، وتقديم العقل على النقل ، فحصل منهم التخبطات التي ليس هذا مجال التفصيل فيها. لذا فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للنقل والشرع والوحي ، حتى ولو لم يدرك الحكمة والسبب.
ولذا يخطئ كثير من الناس ، بل وينحرف إذا صار لا يسير مع الشرع إلا بما اقتنع به عقله.وما غواية إبليس إلا من هذا الباب ، وهو أنه لمّا أمره الله بالسجود لآدم. لم يتمثل واستبد برأيه ونظر للمسألة من باب أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فلم يمتثل للأمر طلباً للسبب الذي لأجله يسجد الفاضل للمفضول حسب عقله، فكانت اللعنة عليه إلى يوم الدين. فبعض الناس قد يؤتيه الله عقلاً ، ويكون عقليته نادرة. فيصاب بالغرور من هذا الباب، فيخرج من الدين والعياذ بالله وهو لا يشعر، لأنه لا يُسلم عقله للشرع والدين والعلم. ومن أجمل ما قيل في ذلك هو هذه المحاورة بين العقل والعلم – الذي هو الشرع والوحي –
من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا
بأينا الله في فرقانه إتصفا؟
فقبل العقل رأس العلم وانصرفا
علم العليم وعقل العاقل اختصما
فالعلم قال أنا أدركت غايته
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له
فبان للعقل أن العلم سيده
أيها المسلمون: هناك خمسة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظل الدين الإسلامي :
الأول: تدبر آيات الله في الكون للتعرف على قدرة الله المعجزة ، وتفرده بالخلق والتدبر والسلطان ، بما يؤدي ذلك كله إلى إخلاص العبادة له وحده سبحانه وطاعته فيما أمر به وما نهى عنه. قال الله تعالى: خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة ، وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين.
الثاني: من مجالات إعمال العقل ، أن يوجه بعد ذلك إلى تدبر آيات الله في الكون للتعرف على سنن الله الكونية للتعرف على أسراره وذلك محاولة من المسلم تسخير ما في السموات والأرض من أجل عمارة الأرض وإقامة حضارة على منهاج النبوة. وهذا لا يتحقق بمجرد التمني، ولكن يحتاج إلى جهد عقلي جبار.
الثالث: إعمال العقل في تدبر حكمة التشريع الرباني. وهذا التأمل لا للمعرفة فقط ، بل لإحسان تطبيقه ، والاجتهاد في ذلك.وإلا فما فائدة معرفتنا أن تشريع الله أكمل تشريع وأحسنه وأفضله ثم لا نمارسه واقعاً. وما تخبطات كثير من المجتمعات الإسلامية إلا من بعدهم عن تطبيق شرع الله.
الرابع: تدبر السنن الربانية التي يجري الأمور بمقتضاها في حياة البشر من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يريده الله. فحياة البشر ليست فوضى بلا ضابط. بل إن الله ضبطها بنظام دقيق لو حاد الناس عنه ، أصابهم الهلاك والدمار والزوال. فلا خير في عقل نهايته يكون بيده ، بسبب إعراضه عن سنن الله.
الخامس: مما يوجه الإسلام عقل المسلم للعمل فيه هو تدبر التاريخ.
فالتاريخ لا يدرس في الإسلام لتسجيل انتصارات الجيوش وانكساراتها ، ونشأة الدول وزوالها إنما يتأمل العقل في التاريخ ، لتتبع حياة الإنسان على وجه الأرض في حالتيه: حالة الهدى وحالة الضلال ، وما يجري خلال كل من الحالتين من أحداث ، ونتائج تترتب على الأحداث، فنسأل الله جل وتعالى الهدى والاستقامة كما نسأله عقولاً تهدي إلى الجنة ، وأن يعيذنا من عقول الشر والفساد والضلال.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإنه ما من جدال بين عاقلين بأن أوضاع المجتمعات تتغير وتتبدل، ومن ذلك عقليات الناس ، ونمط تفكيرهم ، ومستوى عقولهم ، وما يقبلون وما لا يقبلون ، وما ينطلي عليهم وما لا ينطلي. فمثلاً ما كان يقال لبعض المجتمعات قبل سنوات ، وكان مقبولاً ، أصبحت أبسط العقول تمجه الآن ، وما كان يمرر حتى على عقول العجائز ، أصبح من الصعب الآن امراره إذا كان بنفس الطرح السابق.ولهذا فهناك مؤسسات عالمية ضخمة ينفق عليها بالملايين في دول كبرى ، عملها هو تقديم دراسات ، عن نمط تفكير الناس ، وعقليات الشعوب وذلك من أجل أن يقدم لها ما يناسبها. حتى مصانع السلع التجارية والاستهلاكية تصرف الملايين من أجل دراسات حول عقليات المجتمعات وأذواقهم وما يقبلون وما لا يقبلون.
ثم خذ مثال الطرح الإعلامي ، وقارن بين ما كان يقال قبل سنوات في قنوات العالم ، وما يقال الآن ، تجد فرقاً هائلاً في الانفتاح والمصارحة والتوثيق ، كل هذا يدل على نمطية عقول الناس اليوم، وأنها لا تقبل إلا الموثق الصريح ، وأصبحت تعرف وتميز لهجة التمويه والتحايل والتكتم.
أيها المسلمون: لعلي أختم بذكر بعض أنواع العقول ، أولئك الذين وهبهم الله عقولاً فذة ، وعبقرية متقدة ، ففي ماذا صرف كل واحد عقله.
الأول: هناك عقول ربانية. وهؤلاء هم الذين جعلوا همهم الآخرة ، إذا قاموا فمن أجل الدين، وإذا ما قعدوا فمن أجله كذلك ، وهذه العقول هي عقول العلماء والدعاة وطلاب العلم ، ومصلحي الأمة ، والكتاب والمفكرين ، أولئك الذين استخدموا عقولهم وسخروها فيما يرضي الله جل وتعالى ، وجعلوا كل تفكيرهم فيما ينفع الأمة ، ويصلح من أحوالها ، ويغيّر حالها.
هذه الفئة لاشك أنهم أفضل الناس للناس، إنهم لا يعيشون لأنفسهم ، إنما يعيشون لغيرهم، وكم هي المنّة من الله والخير لهذا الإنسان الذي قد وهب عقله وسخرها لتعليم آية ، أو بيان حكم أو إزالة منكر ، أمر إصلاح وضع. إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار.
النوع الثاني من العقول عقول حيوانية، وهؤلاء قد مُنحوا عقولاً وتفكيراً وذكاءً ، لكن اهتماماتهم هي نفس اهتمامات الحيوان الأكل والشرب والتكاثر والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
هذه العقول تعيش لنفسها ، ولا تفكر إلا في ذاتها ، تفاعلاتها سلبية مع أوضاع وأحداث الأمة ، ونسبة هؤلاء مع كل أسف غير قليل في الأمة ، فاحذر أخي المسلم أن تصنف مع هؤلاء.
النوع الثالث: عقول مجرمة. وهم الذين قد سخروا عقولهم وذكائهم ونباهتهم في محاربة الدين، والصد عن سبيل الله ، ووقفوا ضد تيار الإصلاح ، وهؤلاء على درجات وأصناف منهم العلماني الحاقد ، ومنهم المسلم الخبيث ، ومنهم المنافق اللئيم ، يتظاهر بالصلاح والإصلاح وهو من أشد أعداء الإصلاح وبين كل درجة ودرجة من هؤلاء أقسام وأقسام ، كل بحسبه ، الجامع بينهم هو ، تحريك هذه العقول وتوظيفها في مقاومة ومحاربة الدعوة من الانتشار ، ومنع الصحوة من التمدد ، ولكن ومع كل أسف مع ما أعطوا من عقول ، فإن عقولهم لم تكشف لهم بعد بأن دين الله لا يغالب وأن مكرهم وكيدهم سينقلب عليهم ، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ، إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيدا ، فمهل الكافرين أمهلهم رويدا".
(1/1232)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/6/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الظلم جبلة إنسانية جاءت الرسل لتهذيبها. 2- ظلم الإنسان لنفسه ولغيره. 3- من الظلم
التحاكم إلى غير شرع الله. 4- ظلم في عدم المساواة أمام الشريعة حين تطبيعها. 5- المظلوم
منصور ولو بعد حين. 6- عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: الظلم محرم في شريعة الله تعالى ، حرمه سبحانه على نفسه وعلى عباده ، وتوعد عز وجل الظالمين بعذاب أليم في الدارين ، وذلك لما له من عواقب وخيمة على الأفراد وعلى المجتمعات. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)).
الظلم طبع في نفوس بعض الناس ، لا ينام إلا على ظلم الآخرين ، ولا يقوم إلا على ظلم المساكين. وقد أخبر عز وجل أن من الناس من هو كثير الظلم لنفسه ولغيره فقال سبحانه: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ويقول جل وعز: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً
وصدق في هؤلاء قول الشاعر الجاهلي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلة لا يظلم
أيها المسلمون: للظلم صور وأشكال عدة ، فأولها ظلم الإنسان لنفسه ، ويكون ذلك بارتكاب الذنوب والخطايا ، ويكون بانتهاك المحرمات والفواحش ، ويكون بترك الواجبات والمأمورات ، فإن كل هذا من ظلم الإنسان لنفسه ، والله عز وجل قد حرم علينا ذلك فقال سبحانه: فلا تظلموا فيهن أنفسكم وأعظم ظلم العبد لنفسه أن يقع في الشرك إن الشرك لظلم عظيم.
ومن الظلم ظلم الإنسان لغيره من البشر، ويكون ذلك بالتعدي على أعراضهم أو بالتعدي على أبدانهم أو بالتعدي على أموالهم ، أو بأي صورة من صور التعدي ، فإن كل هذا محرم ولا يجوز ، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا هل بلغت)) قالها ذلك عليه الصلاة والسلام في خطبة يوم عرفة.
كم في عالمنا اليوم ممن ظلم في عرضه ، أو ظلم في بدنه ، أو ظلم في ماله ، وهو مظلوم لا يستطيع أن يسترد مظلمته ، ولا يستطيع أن يتكلم في الذي ظلمه ، ولو نطق باسمه لسانه ، قطع رأسه. والله المستعان.
ومن الظلم الذي يقع أيضاً في الأرض ، تغيير ما شرعه الله تعالى لعباده ، وتبديل حكم الله سبحانه وتعالى ، والتساهل في عدم تطبيق شريعة الله عز وجل. فإن هذا من أعظم الظلم ، قال الله تعالى ، واصفاً الحكام الذين لا يحكمون شريعته بقوله: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
أيها المسلمون: حتى لو طبقت شريعة الله ، في بعض الجوانب فإن من صور الظلم الذي قد يقع عدم تساوي الناس فيما يطبق عليهم ، وعدم تساوي الناس في تنفيذ الأحكام عليهم ، فإن هذه صورة مشينة من صور الظلم ، لأنه يؤدي إلى الفساد في الأرض ، ويؤدي إلى انتشار البغضاء والشحناء بين طبقات المجتمع ، ويوقف عجلة التقدم والتطور فيه ، ويؤدي في النهاية إلى الهلاك ، قال عليه الصلاة والسلام ، عندما سرقت المرأة المخزومية ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).
وبذلك قامت دولة الإسلام الأولى وبقت واستمرت ، وانتشر خيرها عندما أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((والذي نفسي بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
أيها المسلمون: هذا الظالم ، بأي نوع من أنواع الظلم ، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق الناس ، هل يظن هذا الظالم بأن الله غافل عنه ، لا يعلم عنه ، لا يقدر عليه ، الله عز وجل يمهل الظالم، لكن لا يهمله، يصبر عز وجل على الظلمة ولكن إذا أخذهم لم يفلتهم. يقول الله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. ويقول جل وعلا: ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ قوله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فيا أيها الظالم ، اتق دعوة المظلوم وذلك بالبعد عن الظلم ، ولا تعرض نفسك لدعائهم لأن دعوة المظلوم مستجابة ، ليس بينها وبين الله حجاب ، ((اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة ، اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ، فإنه ليس دونها حجاب ، فكيف بالمظلوم إن كان مسلماً ، فكيف بالمظلوم إن كان صالحاً تقياً ، داعياً إلى الله عز وجل.
ولج عتواً في قبيح اكتسابه
ستبدي له ما لم يكن في حسابه
يرى النجم تيهاً تحت ظل ركابه
أناخت صروف الحادثات ببابه
ولا حسناتٌ يلتقى في كتابه
وصب عليه الله سوط عذابه
إذا ما الظلوم استحسن الظلم مذهبا
فكِله إلى صرف الليالي فإنها
فكم قد رأينا ظالماً متمرداً
فعما قليل وهو في غفلاته
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى
وجوزى بالأمر الذي كان فاعلاً
أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى توعد الظالمين بعذاب أليم في الدارين ، وهذا هو عزاء المظلومين، فكل من ظلم عزائه في وعيد الله عز وجل بالظلمة.
أما في الدنيا ، فإن الظالم لا يُفلح في دنياه من سلك طريق الظلم ، فإن بابه في النهاية مغلق ، وإن زين له شيطانه ذلك. قال تعالى: إنه لا يفلح الظالمون ويقول سبحانه: قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون.
وأيضاً قد يحرم الظالم من هداية التوفيق ، قال تعالى: إن الله لا يهدي القوم الظالمين ويقول سبحانه: والله لا يهدي القوم الظالمين.
الظلم سبب مصائب الدنيا من أوجاع وأسقام وفقر وذهاب الأولاد والأموال والقتل والتعذيب وغلاء الأسعار وغير ذلك. إن ما تعانيه الأمة اليوم هو بسبب وجود الظلم ، بما كسبت أيدي الناس.
يقول الله جل وعلا: وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون دون ذلك أي قبل موتهم. عقوبة شاملة للقرى الظالمة ، عقوبة شاملة للمدن الظالمة ، عقوبة شاملة للمجتمعات الظالمة.
إذا انتشر الظلم في مجتمع ، وجاهر أهله به وصار الصبغة العاقة لهذا المجتمع هو الظلم ، قد يعجل الله لهم العقوبة الشاملة ، التي لا يكاد يسلم منها أحد ، بل تعم الصالح والطالح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة.
لقد ذكر لنا ربنا تبارك وتعالى ، ما فعله بالقرى الظالمة ، قال سبحانه: وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين وقال عز من قائل: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلةٍ وقصر مشيد. ويقول جل وعلا: وكأين من قرية عتت عن أمر بها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً.
أما في الآخرة: فأول ما ينزل بالظالم اللعنة ، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، يقول عز وجل: يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ويقول تعالى: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ثم إن هذا الظالم ، لن يكون له يوم القيامة نصير ولا شفيع ولا حميم.
يحرم الظلمة من شفاعة إمام المرسلين وشفاعة من يأذن الله في الشفاعة لعباده ، كما قال تعالى: وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ويقول عز وجل: وما للظالمين من أنصار ويقول عليه الصلاة والسلام: ((صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم ، وكل غالٍ مارق)).
ومما يصيب الظالمين يوم القيامة أيضاً الحسرة والندم، فكل ظالم سيندم هناك ، ولات ساعة مندم ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ياويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
وبعد هذا المشوار ، وبعد كل هذا سيُنكس الظلمة في نار جهنم ، وتكون هي نهايتهم فبئست النهاية ، وساءت الخاتمة ، قال تعالى: ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون فعاقبة الظالمين جهنم لا يموتون فيها ولا يحيون. قال صلى الله عليه وسلم: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل وأن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله فقال: وإن كان قضيباً من أراك)) [رواه مسلم].
وعن أبي سلمة رضي الله عنه: أنه كانت بينه وبين أناس خصومة فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) رواه البخاري في كتاب المظالم. قال - باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض.
هذا الذي ظلم قيد شبر من الأرض والله المستعان ، تكون هذه عقوبته يوم القيامة ، فكيف بالذي يظلم بالأمتار المربعة ، وكيف بالذي يظلم بالكيلومترات المربعة ، وكيف بالذي يبلع الألوف المؤلفة.
هذا الذي ظلم قيد شبر ، يخبر الصادق المصدوق بأنه سيطوق يوم القيامة بسبع أرضين ، وغالباً ما يكون ظلمه يقتصر على صاحب الأرض الذي ظلمه. أفلا يفكر هؤلاء الظلمة في عالمنا اليوم ، الذي يصل ظلمهم ويتعدى عشرات الأفراد ، أفلا يفكر هذا الظالم في عاقبته يوم القيامة ، الذي ظلمه يعم البلد كلها والمجتمع بأسره ، ويتضرر بسبب ظلمه ألوف الناس ، فإنا لله وانا إليه راجعون.
نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا وأن يجنبنا الظلم ، بجميع صوره وأشكاله، وأن يعجل نهاية الظالمين ، ويريح العباد من ظلمهم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1233)
الصدقة
فقه
الزكاة والصدقة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/9/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصدقة حجابك من النار. 2- مالك ما قدمته لآخرته لا ما تركته في دنياك. 3- فوائد
الصدقة لحياتنا الدنيوية. 4- إنفاق المرء مما يحب. 5- جبر الصدقة لما يقع به المرء من
خطل وخلل. 6- أنواع من الصدقة بغير المال. 7- كلمة في استقبال رمضان. 8- عود إلى
فضل الصدقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الدين والدنيا ، فلقد أرسل الله إليكم رسولاً يتلو عليكم آيات ربكم ، ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، فبقى دينه متلواً في كتاب الله ، غير مُبَدل ولا مُغيّر ، ومأثور فيما صح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفاض عليكم المال ، لتستعينوا به على طاعته ، وتتمتعوا به في حدود ما أباحه لكم ، فهو قيام دينكم ودنياكم ، فاعرفوا حقه ، وابذلوه في مستحقه ، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجرا.
أيها المسلمون: كثيراً من الناس ، يتهاون في شأن الصدقة ، ولا يبالي بها ، ويكتفي بأداء الزكاة ، إن كان يؤديها. ووالله لو أدى المسلمون ما فرضه الله عليهم ، من زكاة في أموالهم ، ما رأيت فقيراً في المسلمين. فكيف لو تجاوز المسلمون ذلك ، إلى إخراج بعض الصدقات ، بين الحين والآخر.
هل تعلمون أيها الأخوة ، أن الصدقة تكون حجاباً بين الإنسان المسلم وبين النار ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ، ((اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإن لم تجد فبكلمة طيبة)) ، حتى الكلام الطيب هو صدقة على الناس ، وتؤجر عليه إذا كان خالصة لوجه الله تعالى.
أيها المسلمون: إن مالكم في الحقيقة ما قدمتموه لأنفسكم ذخراً لكم عند ربكم ، ليس مالكم ما جمعتموه فاقتسمه الورثة بعدكم ، فإنكم سوف تخلفونه وتدعونه ، كما قال تعالى: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم.
فسوف تنتقلون يا عباد الله عن الدنيا أغنياء عما خلفتم ، فقراء إلى ما قدمتم ، وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا يا رسول الله ، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه ، قال فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر)).
وفي الترمذي عن عائشة رضي الله عنها ، أنهم ذبحوا شاة فتصدقوا بها سوى كتفها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ((بقى كلها غير كتفها)).
لا تتهاونوا في الصدقة أيها الأخوة، تصدقوا ولو بالقليل يا عباد الله ، فإنها تطفئ الخطيئة ، كما يطفئ الماء النار.
تصدقوا قبل أن يأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته فيقول الذي يأتيه بها: لو جئت بها بالأمس لقبلتها ، فأما الآن فلا حاجة لي فيها ، فلا يجد من يقبلها.
أيها المسلمون: كم في الصدقات من خير عظيم عند الله عز وجل ، فمن ذلك أن الله تعالى يقبل الصدقة ، ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم ، كما يربي أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد.فأي فضل أعظم من هذا ، اللقمة البسيطة من صدقة تخرج بإخلاص ، تلقاها يوم القيامة مثل جبل أحد في ميزان أعمالك.
ومن ذلك أيضاً أن المتصدق يكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه ، يوم لا ظل إلا ظله ، فذكر منهم ، ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
ومن ذلك أيضاً ، أن الصدقة تطفئ غضب الرب ، كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صدقة السّر تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر ، وفعل المعروف يقي مصارع السوء)).
وكذلك أيها الأخوة ، فإن الصدقة تقي الرجل الفتنة في أهله وماله ونفسه وولده وجاره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( (فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره ، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)).
وكذلك أيضاً كما جاء في الحديث ، أن كل امرئ يكون في ظل صدقته ، حتى يقضى بين الناس.
أيها المسلمون: وأفضل مراتب الصدقات أن يتصدق الإنسان من أطيب ماله في وقت هو محتاج إليه ، جاء أبو طلحة – وكان له حديقة قبلة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فقال يا رسول الله ، إن الله أنزل هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإن أحب مالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجوا برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بخ بخ، ذاك مال رابح ، ذاك مال رابح ، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
ولهذا كان من أفضل الصدقات أيضاً ، الذي ينفق فيه على الأهل المحتاجين.
كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: ((أربعة دنانير ، دينار أعطيته مسكيناً ، ودينار أعطيته في رقبة ، ودينار أنفقته في سبيل الله ، ودينار أنفقته على أهلك ، أفضلها الذي أنفقته على أهلك)).
لأن الصدقة يا عباد الله على المسكين صدقة ، بينما الصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة.
أيها المسلمون: وبالنسبة لإخواننا التجار ، الذين يقضون جُلّ أوقاتهم في الأسواق ، في البيع والشراء ويحصل لهم في تعاملهم مع الناس كثير من اللغو وكثير من الحلف لغير حاجة ، وغير ذلك ، فإن هؤلاء التجار أرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من الصدقة ليخفف عنهم كثير من اللغو والحلف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ((يا معشر التجار ، إن هذا البيع يحضره اللغو والحلف ، فشوُبوه بالصدقة)) أي اخلطوه بالصدقة. وكذلك أرشد عليه الصلاة والسلام النساء ، بالإكثار من الصدقة ، لأنهن أكثر أهل جهنم ، ولعل أن تكون هذه الصدقة نافعة لها يوم القيامة ، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((يا معشر النساء: تصدقن ، وأكثرن الاستغفار ، فإني رأيتكن أكثر أهل النار ، إنكن تكثرن اللعن ، وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين ، أغلب لذي لب منكن ، أما نقصان العقل ، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي ما تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين)).
أيها الأخوة: قصة وقعت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان للصدقة دور عظيم فيها، وهذه القصة رواها الإمام مسلم في صحيحه في باب الحث على الصدقة: عن أبي عمرو جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال: كنا في صدر النهار ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه قوم عراة ، مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ، ثم خطب فقال: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا.
والآية التي في الحشر: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال:ولو بشق تمرة. قال فجاء رجل من الأنصار بصّرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، قال ثم تتابع الناس ، حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مُذهبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
يقول الله جل وعلا: وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم وقال تعالى: وما تفعلوا من خير يعلمه الله وقال سبحانه: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره.
أيها المسلمون: إن الصدقة بابها واسع ، وطرقها كثيرة جداً ، فلا يتصور أحدكم ، بأن الصدقة هو أن تخرج ريالاً من جيبك ، وتضعها في يد فقير أو مسكين ، نعم هذا من الصدقة ، ولكن مفهوم الصدقة في الإسلام ، أوسع من هذا ، أرأيتم لو أن رجلاً لا يملك حتى هذا الريال بأن يتصدق به، أفيحرم أجر الصدقة؟ إذا لم يكن عندك ما تتصدق به على الآخرين فكف شرك عنهم ، فهذا صدقة منك على نفسك.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما ، حديث أبي ذر ، جندب بن جنادة رضي الله عنه قال ، قلت يا رسول الله ، والجهاد في سبيله ، قلت أي الرقاب أفضل ، قال: ((أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمنا ، قلت: فإن لم أفعل ، قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ، - وهو الذي لا يتقن ما يحاول فعله – قلتُ: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة منك على نفسك)).
ومن مجالات الصدقة أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أيضاً رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)).
ومن مجالات الصدقة إتيان الرجل أهله ، لو احتسبها الرجل بنية صادقة عند الله عز وجل فإن له بها صدقة ، كما جاء في الحديث ((وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ، ويكون له فيها أجر ، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال ، كان له أجر)).
ومن مجالات الصدقة أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل سلامي من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته ، فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) [متفق عليه].
ومن مجالات الصدقة أيضاً: أولئك الذين لهم مزارع وحدائق ونحوها ، لو احتسبوا الأجر عند الله ، فإن الطير لو وقع على هذه الأشجار ، وأكل منها ، حسبت له عند الله صدقة ، كما جاء في صحيح البخاري من رواية أنس رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرساً ، إلا كان ما أكل منه له صدقة ، وما سرق منه له صدقة ، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة)). وفي رواية: ((فلا يغرس المسلم غرساً ، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير ، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)). وفي رواية: ((لا يغرس مسلم غرساً ، ولا يزرع زرعاً ، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء ، إلا كانت له صدقة)).
ومن مجالات الصدقة: وعن أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل مسلم صدقة، قال: أرأيت إن لم يجد ، قال: يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق ، قال: أرأيت إن لم يستطع ، قال: يعين ذا الحاجة الملهوف ، قال: أرأيت إن لم يستطع ، قال: يأمر بالمعروف أو الخير ، قال: أرأيت إن لم يفعل ، قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة)) [متفق عليه].
فنسأل الله سبحانه وتعالى ، بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من المتصدقين في كل أحوالنا ، في غنانا وفقرنا ، في صحتنا ومرضنا ، في حضرنا وسفرنا ، وفي سائر أحوالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك أن تقبل صدقاتنا ، وتأخذها منا بيمينك ، وتنميها عندك ، حتى نأتي يوم القيامة ، وإذا هي كجبل أحد في ميزاننا.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا..
(1/1234)
الذي يحرم النظر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/5/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم نعيم في الجنة النظر إلى الله عز وجل. 2- وأعظم حرمان للعبد يوم القيامة أن يحرم
رؤية الباري جل وعلا. 3- ثمة معاصي لا ينظر الله بعين رحمته ورد ذكرها في القرآن
والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن أعظم نعمة للمسلم وما بعدها نعمة، ومن أجلها يعمل المسلم ويخلص هي الجنة، فلو رزق المسلم الجنة، فقد أعطى أعظم الخير وأجل النعم، وهناك نعمة بعد هذا وأعظم من هذا، ألا وهي النظر إلى وجه الله تعالى. فهي أعظم نعمة من الجنة، قال الله تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة والحسنى هي الجنة، فما هي الزيادة؟ الزيادة: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه النظر إلى وجه الله.
روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تعالى: أتريدون شيئاً أزيدكم؟فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟قال: فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله فما أعطو شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا قوله تعالى: للذين احسنوا الحسنى وزيادة )).
وفي المقابل أيها المسلمون، الخسارة كل الخسارة ،والحرمان كل الحرمان، بل وبعده العذاب الأليم، الذي لا ينظر الله إليه، فالله جل وتعالى يوم القيامة، لا ينظر إلى بعض النوعيات من الناس، يصرف بصره عن بعض الفئات من الناس لأنهم لا يستحقون النظر، ولأنهم فعلوا وارتكبوا أشياء، حرموا بسببها نظر الله لهم، فلا ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا ينظر إليهم نظر عطف ولطف، ولا ينظر إليهم نظر إنعام وإفضال، فيا حسرتهم، ويا خسارتهم، ويا سوء عاقبتهم وخسران مآلهم.
فتعال معي يا عبد الله، نستعرض بعض نصوص الكتاب والسنة والتي حُدد فيها بعض من يحرمون نظر المولى سبحانه وتعالى، لكي نتجنب فعالهم، ونترك أفعالهم، ونبتعد عن طريقهم وسلوكهم.
قال الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
المعنى: أولئك الذين يشترون الدنيا بالدين، فيختارون الحطام القليل من الدنيا، ويتوسلون إليها بالأيمان الكاذبة والعهود المنكوثة، هذا النوع من الناس يحرمون نظر الله لهم، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، لأنهم يظهرون أمام الناس باسم الدين وهم يريدون الدنيا، يظهرون أمام الناس بهيئة العلماء والمشيخة، وهم في دخيلة أنفسهم يريدون أن يتوصلوا بالعبادة التي يلبسونها أمام الناس إلى عرض من الدنيا قليل.فلا يستبعد من أمثال هؤلاء بل ولا يستغرب إذا خرجت منهم فتاوى ليست في صالح الإسلام ولا والمسلمين، أو فتاوى ترضى بعض الجهات أو بعض الأطراف، فأمثال هؤلاء يحرمون نظر الله لهم.
وممن لا ينظر الله إليهم أيضاً، ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر)) فهؤلاء أيضاً لا يستحقون أن ينظر الله لهم، شيخ زان، رجل طعن في السن، واستطال في العمر فكان فوق الخمسين أو أكثر، ومع ذلك والعياذ بالله مبتلى بالزنا، إن هذا عقوبته أن يرجم بالحجارة حتى يموت، فهو ذو أولاد وكبير في السن، اكتمل عقله، وتم معرفته بطول ما مر عليه من الزمان، وضعف أسباب الجماع عنده لشيخوخته، ومع ذلك لم يترك هذا المنكر العظيم فكان حقه الحرمان من نظر الملك الديان، ومن حرم نظره جل شأنه فقد خسر الدنيا والآخرة وذلك الخسران المبين.
وأما الآخر فهو الملك الكذاب، إن صاحب السلطان لا يخشى من أحد من رعيته، ولا يحتاج إلى مداهنة، فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع من الكذب، من يحذره ويخشى أذاه، أو معاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة، لكن صاحب الولاية والسلطان غني عن ذلك مطلقاً، فما أعظم جريمة الملك الكذاب عند الله تبارك وتعالى، إن الكذب مبغوض مقبوح من الفرد العادي، إن الكذب منكر وبغيض عند الناس، حتى ولو صدر من أتفه شخص فكيف بالكذب من صاحب الولاية والسلطان والمكانة الكذب من أعظم خطايا اللسان وهو جماع النفاق، وأعظم من ذلك أن يكون من حاكم. قال صلى الله عليه وسلم: ((أربع من كن فيه فهو منافق، وإن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)). إن مثل هذا الوالي استحق أن يحرم من نظر الله سبحانه، لكذبه.
أما الثالث: فهو عائل مستكبر، والعائل هو الفقير، فهذا فقير ومتكبر، في الغالب، يكون الكبر والإرتفاع عند القرناء بالثروة والمال، أما الفقير فبماذا يتكبر على الناس ويستحقر غيره، إن الفقر مدعاة للتواضع واللين، إن الفقر مدعاة لرقة القلب وانكسارها، أما الفقير إذا تكبر، فهذا علامة لمرض في قلبه، مرض العجب والرياء، فكان حقه أن يسير في ركب المحرومين من نظر الرحمن تبارك وتعالى، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من تعظم في نفسه واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان)).
وأيضاً من الذين يحرمون النظر من الله جل وتعالى، غير ما سبق، من جاء ذكرهم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري وغيره، قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: رجل حلف على سلعة لقد أُعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم. ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك، فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) وفي رواية: ((ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى له، وإن لم يُعطه لم يَفِ له)) فهؤلاء الثلاثة أيضاً يحرمون نظر الرحمن جل وتعالى: الأول: صاحب اليمين الكاذب، يحلف على سلعة بأنه دفعت لبائعها أكثر مما أعطى فيها، وهو كاذب في خبره، والآخر يحلف ليقتطع مال رجل مسلم، ويأخذه بغير حقه، فهذا يستحق الحرمان، لأن يمينه الكاذبة قد ارتكب أربع عظائم: الأول :الكذب والإفتراء والثاني: الظلم لعباد الله. الثالث:عدم أداء الأمانة إلى أهلها. الرابع: إباحة ما حرم الله تعالى.
إن صاحب اليمين الكاذبة وقع في الزور، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حلف على يمين كاذبة مصبورة، فليتبؤ مقعده من النار)) واليمين المصبورة هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر لأجلها أي يحبس. وهي اليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في الإثم والنار.
الثاني: الذي يحرم نظر المولى مانع فضل الماء، الزائد على حاجته، فيعاقب مثل هذا أن يمنعه الله فضله يوم القيامة.
بعض الناس يبلغ بهم قسوة القلوب أن يمنعوا فضل الماء عن غيرهم، بخلاً وشحاً، نزعت الرحمة من قلوبهم، فجزاهم الله شر الجزاء، فمنعهم من فضله حيث كانوا أحوج ما يكونون إليه، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ)) وهذا نهي عن منع فضل الماء عن الماشية، فكيف بمن يمنعه عن بني الإنسان.
لا يفعل هذا إلا صاحب القلب الميت، فليُعلم الآن جرم من يهلكون شعوباً بأكملها جوعاً وعطشاً وعُرياً، هؤلاء ينتظرهم سوء العاقبة يوم القيامة. إن مثل هذا الصنف من البشر لا يستحقون نظر الله لهم. لأن الإجرام وصل بهم إلى تجويع وتعطيش بني الإنسان، من الطعام والشراب، حرموا الناس من الأكل والشرب بسبب الظلم الذي أوقعوه عليهم، والأظلم منهم من حرم الناس الغذاء المعنوي، أين هذه الصورة مما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، أن عمر بن الخطاب أخذ 400 دينار فجعلها في صرةٍ ثم قال لغلامه: إذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تشاغل في بيته حتى تنظر ما يصنع بها؟فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في حاجتك. فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: وصل الله عمر ورحمه ثم قال: يا جارية تعالي، إذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها.
حقاً إن هؤلاء ينظر الله تعالى إليهم؟ أين هؤلاء من الذين يمنعون الماعون؟ أين هؤلاء من أولئك البخلاء الأشحاء؟
وأما الثالث: المحروم أيضاً، فذلك الرجل الذي بايع الإمام، لم يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يف له. هذا الصنف حقاً يستحق أن يحرم نظر المولى جل وتعالى، تجد أنه يحوم حول السلطان، ويظهر الوفاء ويتظاهر بالولاء لا لله، ولا للدين بل لكي يعطى ويرمى عليه من الفضلات كالكلب، أمثال هؤلاء، لو سنحت له أية فرصة نهب وسرق من المال العال، لأنه لا ذمة لديه، بل بيعته أصلاً كانت للدنيا، المسلم يعطى الإمام الصالح العادل البيعة على نصرة الدين والدفاع عن المسلمين، يرجو بفعله ذلك وجه الله تعالى لا ينتظر مالاً ولا مغنماً أو أي عرض زائل. بل الصادق المخلص يرفض أن يأخذ وإن أعطى.
عن شداد رضي الله عنه، أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال أهاجر معك؟ فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوةٌ، غنم النبي صلى الله عليه وسلم سبباً، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((قسمة لك " قال الأعرابي: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي إلى ههنا وأشار إلى حلقه بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن تصدق الله يصدقك فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟ قالوا نعم قال: صدق الله فصدقه)) ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته ثم قدمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، فقتل شهيداً، أنا شهيد على ذلك)). هذا هو المؤمن الصادق. أما أهل النفاق والرياء وحب الدنيا إنما يتقربون ويبايعون لأنفسهم ولمآربهم، نسوا الله فنسيهم، وأحبوا الدنيا فأعمى أبصارهم.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إضافة إلى ما سبق ذكره، نذكر أصنافاً أخرى من الناس، من الذين يحرمون نظر الرب جل وتعالى:عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقلت: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟قال: المنان والمنفق سلعته بالحلف والمسبل إزاره)) [رواه مسلم في صحيحه].
الأول: هو (المنان)، من المنة، وهو الذي يذكر إحسانه ممتناً به على من أحسن إليه، الذي يعتد بصنيعته، إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة المنان، الذي يكثر المنة على غيره، والمنة لا تليق إلا بالله تعالى، إذ هو الملك الحقيقي، وغيره يعطى من ملك غيره، فلم يجز له المن، فإذا منّ كأنه ادعى لنفسه الملك والحرية وانتفى من العبودية ونازع صفات رب البرية فلا ينظر إليه. قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس.
قال بعض السلف: من منّ بمعروفه سقط شكره، ومن أعجب بعمله حبط أجره. وقال الشافعي رحمه الله:
أن يمنوا عليك منه
واصبر فإن الصبر جنة
أشد من وقع الأسنة
لا تحملن من الأنام
واختبر لنفسك حظها
منن الرجال على القلوب
الثاني: (المنفق سلعته بالحلف الكاذب)، فهذا يتجرأ على الله تعالى ويحلف لكي يكثر طلاب بضاعته، وهو كاذب في قسمه، فأي خديعة وأي غش بعد هذا.
قال الله تعالى: ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بنيكم ويقول عليه الصلاة والسلام: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) وقال: ((إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يُمحق)).
فهذا الرجل يستحق أن يحرم النظر من رب العالمين.
الثالث: (المسبل إزاره)، الذي أسبل ثوبه إلى ما دون الكعبين، فهذا يدخل في المحرومين، لأنه قد أتى كبيرة من الكبائر، وخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في اللباس قال عليه الصلاة والسلام: ((ما أسفل من الكعبين ففي النار)) وقال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)).
وممن لا ينظر الله إليهم أيضاً، من ذكروا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، العاق: لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث)) [رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح].
أما العاق لوالديه، فلأنه شق عصا الطاعة وعق والديه بمخالفة أمر الشرع له ببرهما وطاعتهما وجبر خواطرهما، فكان مصير هذا الإنسان أن يحرم من نظر الرحمن. عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور)) [متفق عليه].
والآخر هي المرأة المترجلة، التي تتشبه بالرجال في زيهم وهيأتهم، وطريقة كلامهم، بل ربما في لباسهم، هذه المرأة لعنت في شريعة الإسلام لأنها متشبهة بالرجال، وهي بهذا تخالف فطرتها وتخرج عن الاحتشام التي أمرت به إلى دائرة السفور والتبرج، فاستحقت أن لا ينظر الله إليها.
وأما الثالث: فهو الديوث، الذي لا يغار على أهله يدخل الرجال من غير المحارم على أهله، لا غيرة عنده ولا إباء ولا شرف، تنكشف نساءه في الشوارع والأسواق، وقد نزعت الغيرة من قلبه، لا يحرص على عرضه ولا يبالي ولا يهتم، هذا إنسان ميت القلب، فالشؤم كل الشؤم لمن كان ديوثاً، والعياذ بالله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر والديوث)) [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].
وممن يحرمون نظر المولى جل وتعالى، المرأة التي لا تشكر زوجها عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله تعالى إلى إمراة لا تشكر لزوجها)) أن لا تقدر حق زوجها عليها، ولا تقدر فهي جاحدة لفضله، منكرة لمعروفه، لا تصبر مع زوجها في الشدائد، ولا تظهر الفرح لأعماله ولا السرور بأقواله، هذه المرأة محرومة من نظر الله جل وتعالى.
(1/1235)
الخيانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
6/10/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخيانة خلّة ترفضها الطبائع السوية. 2- عاقبة الخيانة في الآخرة. 3- خيانة اليهود والكفار
. 4- رسول الله يرفض خيانة الكفار والأعداء. 5- خيانة المرء لله ولرسوله. 6- خيانة الأمانة
المتعلقة بحقوق العباد. 7- خيانة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
الخيانة أمر مذموم في شريعة الله. تنكرها الفطرة ، وتمجها الطبيعة السوية ، ولا تقبلها حتى الحيوانات العجماوات. إن الله لا يحب الخائنين. وإن الله لا يهدي كيد الخائنين. إن الله لا يحب كل خوان كفور. إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً. ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا أؤتمن خان)).
إن هذه النصوص كافية لمعرفة جريمة الخيانة ومدى قبحها وشؤمها.
فالخائن لا يحبه الله ، وذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم من آيات المنافقين. بل وقرن الله جل وعلا بين الخيانة والكفر في قوله جل وتعالى: إن الله لا يحب كل خوانٍ كفور. هذا الخائن وإن اندس بين الناس ، وإن عرف كيف يرتب أموره بحيث لا يفتضح أمام عباد الله ، فأين يذهب يوم القيامة. ألم يفكر في الفضيحة في ذلك اليوم.سوف ترفع له راية يوم القيامة أمام الناس زيادة في النكاية به ، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان: ((لكل غادر لواء يوم القيامة ، يقال:هذه غدرة فلان)) وفي رواية مسلم: ((لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة ، يرفع له بقدر غدره ، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)). فكل من كانت ولايته أعم وأشمل ثم خان من تحت ولايته ، فلاشك بأن جرم هذا أكبر من جرم من هو أقل منه في الولاية.
وكلما كانت المسئولية أعظم ثم حصل الخيانة كان الإثم أعظم. والله المستعان.
أيها المسلمون: إن الخيانة من أخلاق اليهود المتأصلة فيهم فأين ومتى وجد يهود ، وجدت الخيانة. قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة: ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فمن خياناتهم محاولتهم لاغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان بينه وبينهم عهد أمان.
ومن خياناتهم تواطؤهم مع الأحزاب وقد كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد أمان، ولما كان أمر خيانة العهود والمواثيق أمراً خطيراً ، أمر الله رسوله بأن يعلن للكافرين نبذ عهدهم ، ويشعرهم بأن يستعدوا للمواجهة على صعيد سواء لا خيانة فيه ولا غدر. فقال تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
الخيانة مذمومة حتى مع الكفار ، حتى مع الأعداء، ولهذا أمر الله رسوله أن يرد إليهم عهودهم لتكون القضية واضحة لا خيانة فيها.
ومما يذكرني في هذا المقام أنه لما كان يوم فتح مكة ، اختبأ عبد الله بن سعد ابن أبي سرح عند عثمان بن عفان ، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايع عبد الله ، فرفع رأسه ، فنظر إليه ثلاثاً ، كل ذلك يأبى ، فبايعه بعد ثلاث ، ثم أقبل على أصحابه فقال: ((أما كان فيكم رجل رشيد ، يقوم إلى هذا حيث رأني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك؟ ألا أومأت إلينا بعينك قال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)) والحديث صحيح رواه أبو داود وغيره.
فهنا امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، امتنع عن إشارة بعين في حق كافر لم يكن قد أسلم بعد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يود قتله. واعتبر تلك الإشارة منه خيانة. وهو كافر. فكيف بالذين لا يستعملون الإشارة ، وإنما يلجأون إلى طرق واضحة وأساليب مكشوفة ، تفوح منها رائحة الخيانة والغدر.
المصطفى عليه الصلاة والسلام لم يرض أن يتخذ الخيانة وسيلة ، حتى في حق كافر ، محارب لله ورسوله ، فما جرم أولئك الذين لا تكون خياناتهم إلا في مسلمين ، كيف بالذين لا تكون خياناتهم إلا في حق مؤمنين موحدين لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة.
وفي المقابل هم مع الكفار كالقطط ، إذا كان المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، لم يرض ولن يقبل نقطة خيانة في حياته في حق فرد واحد ، ولو قدر أنه حصلت مفسدة ، ولا مفسدة ، فهي في حق كافر واحد ، فأين يذهبون وأين يفرون من الله يوم القيامة ، أولئك الذين خياناتهم على مستوى الأمة ، والمفسدة فيها متحققة على المستوى العام ، والضرر لاحق لا نقول بهذا الجيل فحسب، بل لأجيال متعاقبة، والعلم عند الله ، نسأل الله جل وعلا ألا يكون في البشر من يرتكب خيانات ، وتخط يده بكلمات يضر بألوف مؤلفة ، وهو يعلم في قرارة نفسه أنها خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. ولكن سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أيها المسلمون: قال الله تعالى في محكم تنزيله: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون هذه الآية أيها الأخوة فيها تحديد شامل للجوانب التي نُهي المؤمنون من ارتكاب جريمة الخيانة في إطارها.
لا تخونوا الله ، هذه واحدة ، والرسول هذه ثانية وتخونوا أماناتكم هذه ثالثة.
فخيانة الله: هي الإخلال بحقوق ، ما استأمننا الله عليه ، وأعطيناه فيه عهد الأمانة ، لأننا مسلمون.
فعدم تحقيق لا إله إلا الله في النفس وفي الغير خيانة لله ، تعطيل فرائض الله ، أو تعدي حدوده أو انتهاك محارمه ، كلها خيانة لله ، التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض ، دعوة وإصلاحاً وتقويماً وجهاداً يعتبر خيانة لله.عدم مصارعة أهل الباطل مجاهدة أهل الكفر ، ومحاولة التزلف والتقرب لهم ، خيانة لله. عدم تبني قضية الدين جملة وتفصيلاً ، لتقريره عقيدة في القلب ، وحركة في واقع الحياة ، التخلي عن هذه القضية خيانة لله.
لأن الله جل وتعالى قد أمرنا بكل ما سبق ذكره وبغيره.
أما خيانة الرسول: فحقوقه تابعة لحقوق الله ، ومن حقوقه علينا ، الإيمان برسالته واتباع شريعته ، والتمسك بسنته ، وعدم معصية ما أمر به ، أو نهى عنه. فتقديم قول فلان أو فلان على قوله ، تعتبر خيانة للرسول.ترك سنته مع علمنا بها خيانة للرسول.أولئك الذين لهم جهود قوية وجادة في زعزعة الناس عن اتباع سنته ، ومحاولة استبدالها بمناهج وأفكار علمانية ، لابد أن يكونوا على بينة أنهم خانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسيكون عليه الصلاة والسلام خصمهم أمام الله يوم القيامة ، فليعدوا لذلك الموقف جواباً وإذا عُلم أنه ستنخرس ألسنتهم فليدعوا ألسنة تنتشر بين الناس ولا يحاولوا أن يحولوا بينها وبين عباد الله.أولئك الذين لهم جهود بالطعن في السنة إما رواية أو دراية.أو الطعن في حملة السنة سواءً كانوا الصحابة أو من أتى بعدهم من حملة الشريعة للناس ، أو أولئك الذين دينهم سب الصحابة ، لأنهم أوصلوا السنة للبشرية ، فليعلم أنهم خونة للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الثالثة: وتخونوا أماناتكم. خيانة الأمانات كلها ، وهذه تشمل ما يتعلق بحقوق كل ذي حق ، نحن مستأمنون عليه.
فليحذر الموظف من خيانة الأمانة ، بتعاطي الرشوة ، أو إتعاب أصحاب المعاملات وتأخيرهم بقصد التسلط فإنها خيانة للأمانة. وليحذر أصحاب المناصب والمراكز من التخوض في المال العام دون وجه شرعي ، فإنها خيانة للأمانة. وليحذر كل من الزوج والزوجة ، من علاقة محرمة ، أو اتصال بأجنبي فإنها خيانة للأمانة.وليحذر كل راع مسؤول عن رعيته من خيانة ما استؤمن عليه.
أيها الأحبة: الخيانة من صفات المنافقين ، والأمانة من صفات المؤمنين ، فاختر أي الطريقين شئت، وتخيّر أي الوصفين تريد.قال صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا عهد له ، ولا دين لمن لا عهد له)) [رواه الإمام أحمد].
إنه لا صلاح لأمة استشرت فيها الخيانة ، ولا بقاء لمجتمع تفشى فيه الخيانة ، ولا كرامة لأناس صارت الخيانة من أعمالهم وسلوكهم، هل يمكن لخونة أن يصلحوا وضعاً ، أو أن يقيموا أساساً ، أو أن يشيدوا عمراناً وحضارةً لا يمكن أبداً ، يوسف عليه السلام عندما طلب من ملك مصر أن يجعله على خزائن الأرض ، وهو في مصطلحنا المعاصر وزيراً للمالية. كان يعلم من نفسه أنه ليس بخائن ، ولا يمكن أن تخطر الخيانة بفكره أبداً وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم إن أوضاع مصر الاقتصادية كانت منهارة ويوسف عليه السلام كان يعلم أنه من الأسس والقواعد الأساسية لإصلاح أي وضع اقتصادي منهار ، أن يتولى دفة الأمور الأمناء.
الأمناء في دينهم، الأمناء مع ربهم ، الأمناء في التزامهم.
أما الخونة فلا مجال لهم أصلاً في مثل هذه المراكز وإن وجدوا ، فالدمار والخراب والتدهور الاقتصادي لوضع ذلك المجتمع. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فهذه قصة خيانة جرت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل فيها قرآن يتلى إلى قيام الساعة ، فيها الكثير من التوجيهات للفرد والجماعة والأمة ، والحاكم والمحكوم لمن تأملها وتدبرها.
تقول القصة: كان طعمة بن بشير بن أبيرق من مسلمة الأنصار، وكان بشير والد طعمة من المعروفين بالنفاق والعياذ بالله. فنقب طعمه جداراً لرفاعة بن زيد وسرق منه درعين ودقيقاً ، وكان في جراب الدقيق خرقُ. فجعل ينتشر منه الدقيق.وكان ذلك أثراً مادياً دل على السارق.وعرف رفاعة بن زيد وأهله أن بني أبيرق هم الذين سرقوا الدرعين والدقيق ، فجاء قتادة بن النعمان ابن أخي رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه بني أبيرق وما كان منهم من سرقة ، وشاع أمر بني أبيرق في المدينة: فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيد بن عروة بن أبيرق ، فقال يا رسول الله: إن هؤلاء قد عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين ، فاتهموهم بالسرقة ، ورموهم بها من غير بينة ، وأخذ يجادل عن ذويه. فتنكر الرسول صلى الله عليه وسلم لقتادة بن النعمان ورفاعة بن زيد ، لأنهم قد اتهموا بني أبيرق دون بينة فأنزل الله عليه من الآيات ما بين له فيه خيانة هؤلاء ، ونهاه عن أن يدافع عن الخونة أو أن يجادل لتبرئتهم ، فهم مدانون بالخيانة لاسيما وأمارتها تشير إليهم. ثم لم يقتصر أمر بني أبيرق على إنكار ما كان منهم من خيانة ، وإنما رموا بها بريئاً فألصقوا به التهمة ، وهذا البرئ هو لبيد بن سهل ، فلما أنزل الله ما أنزل.وبرأ لبيداً من التهمة ، هرب السارق من بين أبيرق إلى مكة ثم هرب إلى خيبر ، ثم إنه نقب بيتاً آخر ذات ليلة ليسرق ، فسقط الحائط عليه فمات.قال الله تعالى في شأن هذه القصة: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماًً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما ً ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً.
إن في هذا النص القرآني معالجة تامة وأحكام وتوجيهات قضائية وإدارية لعمليات الخيانة في المجتمع المسلم.
منها تحديد الله لرسوله مسؤوليته القضائية وسبيله في إصدار أحكامه على الناس ، وتحذيره من الاندفاع بأكاذيب الخائنين وتضليلاتهم.
ومنها توجب تحري الحكم بالحق من قبل القضاة والسلاطين والولاة.
وفي قوله تعالى: ولا تكن للخائنين خصيما نهي واضح وصريح عن المخاصمة لصالح الخونة ، أو الدفاع عنهم ، خصوصاً عند وجود بعض العلامات الدالة على خيانتهم.
وفي قوله: إن الله لا يحب من كان خواناً أثيما تأنيب من الله للخونة وتحذير لهم من عاقبة هذه الفعلة الشنيعة ثم نبههم بقوله: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا.
وفي أواخر هذه الآيات الكريمات ، باب أمل لكل خائن ، ولكل من ارتكب عملاً خان فيه نفسه أو مجتمعه أو وظيفته أو أمته ، بأن يرجع إلى الله ويتوب من وصمة العار التي لحقت به ، والتي ستلاحقه وستدخل معه قبره وسيراها يوم القيامة ، وسينفضح هناك أمام الخلائق ، باب أمل بالتوبة في قوله عز وجل: ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً.
فاتقوا الله أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ففي رقبة كل واحد منا أمانة ، لابد أن يؤديها ، والتقصير وارد، والتسويف حاصل ، فليؤد كل منا أمانته ، ولنبتعد عن طرق الخيانة ونتب إلى الله مادام في الأمل فسحة قال عز وجل: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.
اللهم إنا نسألك رحمة..
(1/1236)
الفاروق عمر
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/7/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رؤى رسول الله لعمر. 2- أوليات عمر بن الخطاب. 3- وصية الصديق بتوليه عمر.
4- روائع عمر في خلافته. 5- منع عمر لاستخدام الكفار والاستعانة بهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
في الجمعة الماضية كان الحديث عن الصديق أبي بكر ،وهذا حديث عن الفاروق عمر. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قُمص ، فيها ما يبلغ الثديَّ ومنها ما دون ذلك وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره ، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) [رواه البخاري].
هذا دين عمر ، دين يغطيه ، دين يستره ، فلا يظهر منه إلا كل جميل. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الريَّ يخرج في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب ، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم)) [رواه البخاري].
رجل جمع الله له الدين والعلم ، فأي رجل يكون؟ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليتُ مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟)) [رواه البخاري].
بماذا وعن ماذا نتحدث في سيرة عمر ، أنتحدث عن دينه وعلمه ، أو نتحدث عن زهده وورعه وتقواه ، أو عن حكمه وسياسته وعدله ، أو عن شجاعته وقوته وجهاده. حقاً إنك لتحتار وأنت تتحدث عن عمر ، لكن هذه بعض نتف من حياته.
قال ابن سعد في طبقاته: إن أول من سُمي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وإنه أول من كتب التاريخ ، كتبه من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، وهو أول من جمع القرآن في المصحف، وهو أول من جمع الناس على قيام شهر رمضان وكتب به إلى البلدان ، وجعل بالمدينة قارئين. قارئاً يصلي بالرجال وقارئاً يصلي بالنساء، وهو أول من ضرب في الخمر ثمانين ، وهو أول من عسّ في عمله بالمدينة ، وحمل الدرّة وأدب بها حتى قيل بعده: لدرّة عمر أهيب من سيفكم.
وهو أول من فتح الفتوح فتح العراق كله وأذربيجان وفارس والشام ومصر وقتل رضي الله عنه وخيله على الريّ قد فتحوا عامتها.
وهو أول من وضع الخراج على الأرض والجزية على جماجم أهل الذمة. وهو أول من مصر الأمصار: الكوفة والبصرة والموصل، وأنزلها العرب، وهو أول من استقضى القضاة في الأمصار.
وأول من دون الدواوين ، وكتب للناس على قبائلهم وفرض لهم الأعطيات من الفيء.
وهو الذي أخرج اليهود من الحجاز، وأجلاهم من جزيرة العرب إلى الشام وحضر فتح بيت المقدس ، ووسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشه بالحصى ، وأمر أن يجاء بالحصى من العقيق. لأنه وادٍ مبارك. هذه بعض منجزات عمر.
لما دنا أجل الصديق رضي الله عنه ، كتب كتاباً في تولية العهد لعمر.
بسم الله الرحمن الرحيم: من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب ، وأنا في أول أيام الآخرة ، وآخر أيام الدنيا ، أما بعد: فيا عمر بن الخطاب ، قد وليتك أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أصلحت وعدلت فهذا ظني فيك ، وإن اتبعت هواك فالله المطلع على السرائر ، تعلم يا عمر أن لله حقاً في الليل لا يقبله في النهار، وله حق بالنهار لا يقبله بالليل. وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة... حتى قال له في آخر هذه الوصية: فإن حفظت قولي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ، ولابد لك منه ، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه. يا عمر اتق الله لا يصرعنك الله مصرعاً كمصرعي والسلام.
تولى عمر الخلافة واستلم الحكم في اليوم الذي توفي فيه الصديق ، وبحث عن ميراث أبي بكر ، فإذا هو ثوبان وبغلة ، فبكى وقال : لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.
تولى عمر ، وصعد المنبر وألقى خطبته العظيمة ، بين فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة ، وسار في الناس سيرة عمرية ما سمع الناس بمثلها. كان عمر يأخذ الدنيا في يوم ، ويسلمها للفقراء في يوم. تأتيه القوافل محملة بالغنائم والفيء والذهب والفضة على الجمال ، وتدخل المدينة ، وخليفة المسلمين يصلي بالناس في بردته وبها أربعة عشر رقعة تختلف بعضها عن بعض.
قلب إمبراطورية هرقل ، وجعل عاليها سافلها ، وغنم أموالها ، ولا يجد خبز الشعير ليأكله. يقبل الليل ، وتهدأ العيون ، وينام الناس ، فيأخذ عمر درته ويجوب بها سكك المدينة ، علّه يجد ضعيفاً يساعده ، أو فقيراً يعطيه، أو مجرما يؤدبه.
خرج مرة في سواد الليل فرآه طلحة رضي الله عنه، فذهب عمر فدخل بيتاً، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة ، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا ، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة ، أعثرات عمر تتبع. هذا وعمر خليفة المسلمين.
قدم الأحنف بن قيس مع وفد العراق في يوم صائف شديد الحر على عمر، وكان عمر محتجر بعباءة يهنأ بعيراً-أي يطليه بالقطران - من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك وهلم ، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير ، فإنه من إبل الصدقة، فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين ، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين ، فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ، ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة.
كان راتب عمر من بيت مال المسلمين مقابل أن يتولى الخلافة درهمين كل يوم له ولعياله. وربما احتاج أحياناً لمزيد ، فيأتي صاحب بيت المال فيستقرضه ، وربما أعسر ، فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه ، فيأتيه به عمر وربما أخرج عطاءه فقضاه.
أخرج ابن سعد عن البراء بن معرور أن عمر مرض مرة فنُعت له العسل ، وكان في بيت المال عُكة بها شيء من العسل ، فخرج يوماً حتى أتى المنبر وقال: إن أذنتم لي فيها ، أخذتها ، وإلا فهي علىّ حرام، فأذنوا له.
وتستمر مسيرة عمر ، ويدخل عام الرمادة ، سنة ثمانية عشر للهجرة ، فيقضى على الأخضر واليابس ، يموت الناس جوعاً ، فحلف عمر لا يأكل سميناً حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين. وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس.
عن طاووس عن أبيه ، قال: أجدب الناس على عهد عمر، فما أكل سمناً ولا دسماً حتى أكل الناس قال: أسلم: كنا نقول لو لم يرفع الله سبحانه وتعالى الضائقة عام الرمادة ، لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين.
عن يحيى بن سعد قال: اشترت امرأة عمر لعمر فرقاً من سمن ، فقال عمر: ما هذا؟ قالت: هو من مالي ليس من نفقتك ، فقال عمر رضي الله عنه: ما أنا بذائقه حتى يحيى الناس.
وقف على المنبر يوم الجمعة يخطب الناس ، ببرده المرقع ووالله لو أراد أن يبني بيته بالذهب لاستطاع ، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير لاستطاع ، لكنه يقف على المنبر أثناء الخطبة ، فيقرقر بطنه من الجوع فيقول لبطنه: قرقر أو لا تقرقر ، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أما بعد: فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته ، وإن أشقى الرعاة عند من شقيت به رعيته. إياك أن ترتع ، فترتع عمالك فيكون مثلك عند ذلك ، مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض ، فرتعت فيها ، تبغي بذلك السمن ، وإنما حتفها في سمنها.
وكتب مرة إلى عتبة بن فرقد وكان قد ولاه على أذربيجان فقال له يا عتبة: إنه ليس من كدّ أبيك ولا من كد أمك. أي إن هذا الذي تأخذه من بيت مال المسلمين ليس من كد أبيك ولا من كد أمك ، ثم قال له: فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير.
أصدر تعليمات بالمنع من شيء أو نهى عن شيء، وكان إذا جمع أهله وأقاربه وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، والله لا أجد أحداً منكم فعل ما نهيت عنه إلاّ أضعفت عليه العقوبة.
يأتي الهرمزان مستشار كسرى لابساً تاجاً من ذهب وزبرجد، وعليه الحرير يدخل المدينة فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر. قال أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتاً من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة ، قال أين حرسه؟ قالوا ليس له حرس.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
طرق الهرمزان الباب ، خرج ولده ، قال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة ، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوه ، بحثوا عنه ، فوجدوه نائماً تحت شجرة ، وقد وضع درّته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع وقد توسد ذراعه ، في أنعم نومة عرفها زعيم. تعجب الهرمزان مما رأى ، هو الذي فتح الدنيا ودرج الملوك والسلاطين ، ينام بهذه الهيئة ، تحت شجرة ، وقال كلمته المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
بين الرعية عقلاً وهو راعيها
ببردة كاد طول العهد يبليها
وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
فنمت نوم قرير العين هانيها
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً
فقال قولة حقٍ أصبحت مثلاً
أمنت لما أقمت العدل بينهمو
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناسٌ محدَّثون، فإن يك في أمتي أحدٌ فإنه عمر)) [رواه البخاري]. وعنه رضي الله عنه أيضاً قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن في أمتي منهم أحدٌ فعمر)) [رواه البخاري].
أيها الأحبة: مما اشتهر به عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه الشروط التي وضعها على أهل الذمة من النصارى الذين كانوا يعيشون مع المسلمين في بلادهم التي فتحها المسملون. والتي عرفت فيما بعد بالشروط العمرية. من إلزامهم بإكرام المسلمين ، والتمييز عنهم في اللباس والأسامي وغيرها، وأن لا تكون بيوتهم أرفع من بيوت المسلمين ، وأن لا يظهروا الصليب حتى في كنائسهم ، ومن باب أولى في شيء من طرقات المسلمين ، وأن لا ينشروا كتبهم ، أو يظهروها في الأسواق ، كل هذا وغيرها من دفع الجزية عن يد وهم صاغرون ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولقد كان رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة ، أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله ، قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر: إن لي كاتباً نصرانياً. فقال: مالك قاتلك الله ، أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض.
ألا اتخذت حنيفاً مسلماً: قال قلت يا أمير المؤمنين ، لي كتابته، وله دينه ، قال: لا أكرمهم إذا أهانهم الله ، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله.
وكتب إليه خالد بن الوليد ، إن بالشام كاتباً نصرانياً لا يقوم خراج الشام إلا به ، فكتب إليه عمر: لا تستعمله ، فكتب خالد: إنه لا غنى بنا عنه ، فرد عمر: لا تستعمله ، فكتب خالد: إذا لم نستعله ضاع المال. فكتب إليه عمر: مات النصراني والسلام.
لقد كانت هذه السياسة العمرية الحكيمة من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين ، أو جعلهم مستشارين ، أو حتى كتبة ، هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم ، عندما لحقه مشرك ليقاتل معه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا استعين بمشرك)).
كان عمر رضي الله عنه يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول: إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ، ويحكموا فيكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إليّ.
وما كنت عند وعد الهوى تتأخر
وشابت ليالينا وما كنت تحضر
فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
وجيشك في حطين صلوا فكبروا
وفي بيت لحم قاصرات وقصر
وهل شجر في قبضة الظلم يُثمر؟!!
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا
سهرنا وفكرنا وشابت دموعنا
أيا عمر الفاروق هل لك عودة
رفاقك في أغوار شدوا سروجهم
نساء فلسطين تكحلن بالأسى
وليمون يافا يابس في حقوله
اللهم رحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ،اللهم رحمة اهد بها قلوبنا.
(1/1237)
الغيرة
الإيمان, التوحيد
الأسماء والصفات, خصال الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/10/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إثبات صفة الغيرة لله على وجه يليق بجلاله. 2- غيرة الله على كتابه من انصراف الناس
عنه وهجر التحاكم إليه. 3- غيرة الله على محارمه أن تنتهك. 4- الغيرة من صفات المؤمن.
5- الغيرة على الدين والعرض. 6- الدياثة وتبرج النساء والاختلاط صور لذهاب الغيرة في
الصدور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى مسلم في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يغار، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)). وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفحَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتعجبون من غيرة سعد ، لأنا أغير منه، والله أغير مني)) [رواه البخاري]. وفي رواية له قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش)).
وقد استدل العلماء بقول الله عز وجل: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون على أنها أصل في إثبات الغيرة لله تعالى ، ومن غيرته جل وعلا أن حرم الفواحش.
حديثنا عن الغيرة أيها الأحبة سيكون بإذن الله تعالى له جانبان ، غيرة الله ، وغيرة عباد الله من المؤمنين.
كما جاء في الحديث المتفق عليه: ((المؤمن يغار والله أشد غيرة)).
أما غيرة الله ، فاعلم أولاً بأن الغيرة صفة من صفات الله جل وتعالى ، غيرة حقيقية تليق بجلاله وعظمته ، ليست كغيرة المخلوق: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فالله عز وجل يغار على كتابه الذي أنزله للناس ليكون منهجاً لهم ، يتحاكمون إليه في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم ، إذا ما الناس انصرفوا إلى مناهج أرضية ، تراضوها بينهم ، فمتى ما أعرض العبيد عن كتاب الله ، وحكموا قوانينهم الوضعية ، غار الله تعالى لكتابه ، فكتب الشقاء والاضطراب على ذلك المجتمع ، فلا راحة ، ولا أمن ، ولا استقرار ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً قال الله تعالى: بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج أي مضطرب.
إن القرآن لم ينزل ليقرأ في المناسبات ، أو ليفتتح به المؤتمرات والندوات ، وإنما أنزل القرآن ليعمل به ، ولهذا من غيرة الله تعالى فإن كتابه يرفع من الأرض في آخر الزمان ، ويسري عليه في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، بل وحتى من صدور الرجال ، فيصبح الناس وليس معهم شيء من القرآن ، وذلك حين يدرس الإسلام كما يدرس وشى الثوب، فلا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ، ويكون ذلك في آخر الزمان.
فنسأل الله جل وعز أن يرحمنا برحمته حين يعرض الناس عن القرآن ، ولا يكون له الدور الذي من أجله أنزل. وكذلك يغار المولى جل شأنه على محارمه ، وهو كل ما حرمه الله ، وكل ما حرمه وقع في حماه ولا يجوز لأحد أن يقع فيه ((ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه)).
ماذا يحصل لو وقع الناس في ما حرم الله؟ نزلت بهم البلايا والمصائب والمحن ، وضاق بهم سبل العيش من قلة الوظائف ، وارتفاع الأسعار وغيرها. يا معشر الأنصار ، خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط إلا فشا فيهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ولم ينقضوا عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم ، ولم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم)).
وكذلك يغار الله على أوليائه الصالحين ، وعباده المخلصين ، إذا أوذوا أو ضيق عليهم ، ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) ومن الذي يستطيع أن يحارب الله جل وتعالى ، وحرب المولى جل وعز طرف فيها، نتيجتها معروفة ، لكن لماذا يمكن الله في بعض الأحيان لأعدائه من أوليائه؟ لسببين والعلم عند الله ، الأول:ليزاد المجرمون إثماً ووزراً مع وزرهم وحتى يأتوا يوم القيامة مثقلين بالأوزار ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
السبب الثاني: حتى تزداد رتبة العبد رفعة في الآخرة ، ويزداد شرفاً في الدنيا.
ذكر أن عالماً قال كلمات حق أغضبت أحد الخلفاء فقال أحد بطانة السوء: اقتله يا أمير المؤمنين ، فقال الخليفة ، لا. إن هؤلاء يعلمون إذا قتلناهم كانوا شهداء ، وكنا بقتلهم من أهل النار.
أيها المسلمون: وأما عن غيرة المؤمن ، فإن من أعظم النعم على العبد أن يرزق الغيرة ، وذهاب الغيرة من قلب العبد معناه ذهاب الإيمان ، يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا ترحلت الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة ، بل ترحل منه الدين ، والغيرة أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن خلت من القلب ، لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف".
فأول ما ينبغي على العبد أن يغار على دينه ، وذلك بالتألم والغضب على حق يهان ، أو شريعة تنقض أو باطل يحمى ، أو منكر يُستر ، أو مجرم لدين الله يوقر ، ولابد أن ينتج عن هذا التألم والغضب مساندة للحق وأهله ، ونصرة للشريعة ودعاتها ، ومقاومة للباطل ودحره وفضح لأستار المنافقين وهتكه.
من الغيرة على الدين ، الوقوف مع الخيرين ، ومقاومة المبطلين والمفسدين مهما كانوا ، ولو كانوا أولي قربى.
المسلم الغيور ، هو الذي يقدم مصالح المسلمين على مصالحه الخاصة. كم هو خطر على الإسلام والمسلمين أن يتولى أمر مصالحهم فاقد الغيرة على دين الله.
والله إن حقوقاًً لتهمل ومصالح تموت ، والسبب: إسناد الأمر إلى من لم يذق للغيرة على الدين طعما، فمن أسندت إليه قضية في العرض ، كيف يغار وهو قد تقلب في بيئة لا تعرف للعفاف سبيلا، ومن أسندت إليه قضية في الدين ، كيف يغار وهو لا يرى للدين حرمة ، ولا للمسلمين ذمة.
إن المسلم الغيور هو الذي لا يغريه طمع، ولا يخيفه رهبة عن قول الحق.
الغيرة هي التي تجعل المسئول عادلاً في كل قضية واقفاً في حدود الإنصاف ، يراقب الله في كل عمل يعمله ، لا يبالي ذمه الناس أو مدحوه.
دُعي محمد بن بشير رحمه الله إلى قضاء قرطبة ، فاستشار صديقاً له في قبول الولاية ، فقال له: كيف حبك لمدح الناس لك وثنائهم عليك؟ وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل؟ قال:والله ما أبالي من مدحني أو ذمني ، وما أسر للولاية ، ولا استوحش للعزل ، فقال: اقبل الولاية ولا بأس عليك.
فيا أيها المسلمون ، اتقوا الله تعالى ، ولا تخشوا أحداً إلا الله ، وكفى بالله حسيبا. إن الله يغار إذا انتهكت حرماته ، وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، فترقب أيها الظالم عقوبة الله ، مساءً أو صباحاً ، بياتاً أو ضحىً.
دخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال له:أيها الأمير ، لقد قرأت في بعض الكتب ، أن الله تعالى يقول: ما أحمق من سلطان ، وما أجهل ممن عصاني ، وما أعز ممن اعتز بي. أيها الراعي السوء ، دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً ، فأكلت اللحم ، ولبست الصوف ، وتركتها تتقعقع. فقال له أمير البصرة ، أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك؟ قال: لا قال:قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في الدنيا.
أيها المسلمون: إن المستقيم على النهج السوي ، والطريق النبوي عند فساد الزمان غريب ، ولو عند الحبيب ، لقد كثرت الآفات ، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التغيير في الدين والتبديل ، واتباع الهوى والتضليل ، وفقد المعين ، وعز من تلوذ به من الموحدين. لقد صار الناس كالشيء المشوب ، ودارت بين الكل رحى الفتن والحروب، ولقد انتشر شر المنافقين ، ويميل صبر المتقين لقد تقطعت سبل المسالك ، وترادفت الضلالات والمهالك. ومنع الخلاص ، ولات حين مناص ، إن الغيور على الدين في هذا الوقت وجوده أعز من الكبريت الأحمر. ليس له مجيب ولا راع ، ولا قابل لما يقول ولا داع. كيف لا وقد نصبت رايات الخلاف ، ورمى بقوس العداوة والاعتساف ، نظرت للغيور شزر العيون ، وأتاه الأذى من كل منافق مفتون. أفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام، وعراه من الانثلام والانفصام.
والباطل ، قد اضطرمت ناره، وتطايرت في الآفاق شراراه ، والغيور هو الذي على الدين مستقيم وبحجج الله وبراهينه مقيم.
فنسأل الله الكريم المنان ، أن يرزق كل غيور كمال توحيد وصبر وإيمان ، ورضاً وتسليم لما قدره الرحمن ، وبعده عقبى ثم عقبى في الجنان ، وقد وعد الله الصابرين جزيل الثواب فقال عز من قائل في محكم الكتاب إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب واتباع سنة النبي المجاب، أقول هذا القول.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومما يجب على العبد أن يغار عليه أيضاً بعد غيرته على الدين ، أن يغار على عرضه ، فالغيرة على المحارم من سمات المؤمنين ، وكلما نقص الإيمان في قلب العبد ، نقصت وضعفت غيرته، وإذا ذهبت الغيرة بالكلية ، صار ديوثاً، والديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله ، ولذا استحق هذا الديوث أن يحرم دخول الجنة. يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة ديوث)) [رواه أحمد والنسائي].
لا ندري أيها الحبة ، بماذا نفسر خروج النساء سافرات متبرجات في الأسواق والمجمعات التجارية والأماكن العامة. هل يدل هذا على وجود غيرة عند الرجال أم يدل على عكس ذلك.
ترى أحياناً امرأة شابة كاشفة لوجهها ، متزينة بأبهى زينة ، وقد أخرجت شيئاً من شعرها وربما تعطرت ، فتكون في قمة الزينة والفتنة ، ويكون معها زوجها إما بسيارته ، أو يمشي معها ، وهو متأبطها في أحد المجمعات أو الأسواق.
سبحان الله ، تصل الدياثة إلى هذا الحد، إن كثيراً من الحيوانات والبهائم ، تغار على أنثاها من أن يقربها حيوان آخر ،وهذا الديوث يرضى بأن يتمتع بالنظر إلى أنثاه كل من مر بذلك المكان، ماذا بقي لك أيها الزوج بعد هذا فقدت الغيرة إلى هذا الحد ، ووصلنا إلى هذا الحضيض ، والمصيبة أن هذا المنظر لا يعد آحادا أو في حكم الشاذ ، بل صار منظراً متكرراً بالعشرات والمئات. كنا قديماً لا نرضى مثل هذه الوقاحة حتى من الأجانب الكفار إذا قدموا إلى بلادنا، والآن صار أبناء البلد ، وأصحاب العوائل المعروفة ، ينافسون الكفار في الدياثة. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ونقول عندنا غيرة.
ثم أيها المسلمون بما نفسر رضا كثير من أولياء الأمور أن يجلس نساؤه وبناته ، وأولاده ، بل ويجلس هو نفسه أمام شاشات التلفاز ، وينظرون سوياً ، يشاهدون ماذا؟ أصبحنا ، نتغاضى عن كثير من البرامج والمسلسلات البرامج الرياضية جولات المصارعة الحرة ، وما كان يعرض سابقاً أمام ما يعرض الآن ، عبر هذه القنوات الفضائية، لا بارك الله في القائمين عليها.
والله أيها الأخوة ، إن الزنا الصراح صار يشاهد الآن في بيوت المسلمين.
القضية الآن: تجاوز الخلاف هل وجه المرأة عورة أم لا ، ظهر الوجه ، وظهر الشعر، ثم ظهر النحر ، ثم ظهر الفخذين ، والآن تظهر السوأة أصبح يرى في بيوت المسلمين المصلين ثم نقول غيرة ، وندعي أننا غيورين على محارمنا وأعراضنا، تسمح لأهلك أن ينظروا إلى الفحش وتقول أنك صاحب غيرة. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:ألا تغارون ، ألا تستحيون ، فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج (أي الأجانب). رحم الله الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليس الأمر أمر مزاحمة الآن ، بل تعدى ذلك بكثير.
اسمع أخي المسلم القصة التي ذكرها البخاري في صحيحه في كتاب النكاح ، باب الغيرة لترى الفرق الكبير بين غيرة رجال تلك الفترة ، وبين ما يسميه رجالنا غيرة.
تقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما:تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه. فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء ، وأخرز غربه. وأعجن ، ولم أكن أحسن أخبز. وكان يخبز جارات لي من الأنصار ، وكن نسوة صدق ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي. وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يوماً والنوى على رأسي ، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار ، فدعاني ليحملني خلفه ، فاستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب ، فاستحييت منه وعرفت غيرتك ، فقال:والله لحملك النوى كان أشد عليّ من ركوبك معه ، قالت حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني" هذا نموذج واحد من غيرة الصحابة رضي الله عنهم وهو الزبير رضي الله عنه ، أما سعد بن عبادة ، فغيرته عجب من العجب ، وقد عرف بين الأنصار بذلك ، فإنه رضي الله عنه ما تزوج امرأة قط إلا عذراء ، ولا طلق امرأة فاجترأ رجل من الأنصار أن يتزوجها من شدة غيرته.
فأين غيرتك أنت أيها الرجل.
فأيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ، احفظوا أنفسكم من الدياثة ، واحفظوا نساءكم من الفتنة والافتنان قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا من المصائب والمعائب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن الله وملائكته يصلون على النبي..
(1/1238)
خطر البدع والتحذير منها ومن أهلها
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد الله بن صالح القصير
الرياض
جامع الأمير متعب
_________
ملخص الخطبة
_________
الاقتصاد في الدين على ما شرعه رسول الله 2- النصوص الشرعية تُحذّر من الميل إلى
أصحاب البدعة 3- هجر أهل البدعة وعدم مخالطتهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (1/1239)
العمل الصالح
الإيمان
حقيقة الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/1/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- علقت النصوص القرآنية النجاة بالعمل الصالح. 2- العمل الصالح يشمل أعمال القلوب
والجوارح. 3- من العمل الصالح ما هو إحسان إلى الخلق. 4- الدعوة إلى الله من أفضل العمل
الصالح لتعدي نفعها. 5- وجوب العمل على تغيير المنكرات في مجتمعنا. 6- صلاح العمل
مرتبط بصلاح النية. 7- عاقبة العمل الصالح في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن للعمل الصالح مكانة عظيمة جداً في شريعة الإسلام. إنه ثمرة الإيمان بالله وباليوم الآخر وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولأهمية العمل الصالح: تجد هذا الحشد الهائل من الآيات في كتاب الله.
فمرة تقرنه بالإيمان، ومرة تبين جزاءه الحسن، وأخرى تصرح بأن ما ينفع الإنسان في آخرته، هو الأعمال الصالحة، وتارة تبين الآيات بأن الأعمال الصالحة سبب لتفكير السيئات، وغفران الذنوب، وتارة تبين بأن الخسارة تلحق الإنسان لا محالة إلا من آمن وعمل الصالحات، فمن هذه الآيات قول الله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم.
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً.
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً.
ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً.
والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
أيها المسلمون: إن الأعمال الصالحة، ميدانها واسع ولله الحمد في دين الإسلام، وهذا من نعم الله جل وعلا، والذي يقصر في باب بعد إتيانه بالأركان. يمكنه أن يزيد في باب آخر.
إن مفهوم الأعمال الصالحة شامل، في شريعة رب العالمين، يدخل فيها أعمال القلوب والجوارح في الظاهر والباطن، في القوى والملكات، والمواهب، والمدركات، أعمال خاصة وأعمال عامة، أعمال فردية وأخري جماعية.
هناك من الأعمال الصالحة ما لو عملها الإنسان فإنها تمتد معه إلى ما بعد الممات، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له، هناك أعمال يومية يقوم بها الإنسان، إذا صحت بها النوايا، واستقامت على الطريقة دخلت في صحائف صالح الأعمال.
إن الأعمال الصالحة كما أسلفنا ميدانها واسع، بل ميادينها فسيحة، من أعمال بدنية ولسانية وقلبية، فالشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج في مقدمة الأعمال الصالحة. وبقية الواجبات والفرائض والمندوبات والمستحبات، من الأعمال الصالحة ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)).
وإذا أردتم أيها الأحبة مزيداً من طرق الأعمال الصالحة، فبر الوالدين، وصلة الأرحام وإكرام الضيف والجار، والجهاد في سبيل الله وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، ودعوة ترفعها تدعوا بها لإخوانك المسلمين في كل مكان.
ومن الأعمال الصالحة، أن تواسي فقيراً وتكفل يتيماً وتعود مريضاً وتنقذ غريقاً وتساعد بائسا، وتنظر معسراً، وترشد ضالاً وتهدي حيراناً، وتعين محتاجاً، بل ومن الأعمال الصالحة هذا السؤال من الصحابي، ثم هذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((في كل ذات كبد رطبة أجر)) [متفق عليه]. ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة)) [متفق عليه].
ثم إليك أخي المسلم جملة من الأعمال اللسانية، وكلها تصب في نهر الأعمال الصالحة: ذكر، ودعاء، وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وتعليم للعلم النافع، ناهيك عن الشفاعة الحسنة، تفك بها أسيرا، وتحقن بها دماً، وتجر بها معروفاً، وتدفع بها مكروهاً. ((قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)) ثم التبسم في وجه أخيك، ورد السلام، تشميت العاطس وكل قول جميل وكلام طيب، منطوقاً ومكتوباً، مذاعاً أو منشوراً.
أما الأعمال الصالحة القلبية، فبابها أوسع من أن يغلق دونه أحد. إيمان بالغيب والحب والبغض لله، والغضب والرضاء والخوف والرجاء، والخشية والصبر والتذلل للمولى جل وعلا والانكسار بين يديه، وتعلق القلب بالمساجد.
ومن ذلك الأعمال الفكرية، من التخطيط والتفكير والتأمل والعزم والتصميم بشرط أن تصب في خدمة الإسلام.
بل إن النيات والمقاصد لها في الإسلام شأن عظيم، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل إمري ما نوى.
أيها المسلمون: لا شك بأن الأعمال الصالحة كلها خير، وأي باب سلك المسلم فهو إن شاء الله على خير، لكن لابد أن يعلم بأن بين الأعمال الصالحة تفاوت وتفاضل، كما بين السماء والأرض، وكل ما كان العمل الصالح نفعه متعدٍ للآخرين فلاشك في أفضليته فيما إذا كان العمل الصالح قاصداً نفعه على المرء نفسه، وبهذه المناسبة لابد من كلمة ونحن نتحدث عن الأعمال الصالحة، بأن في مقدمة الأعمال الصالحة في هذا الزمان مما هو نفعه متعدي: الدعوة إلى الله عز وجل. ومحاولة جر الآخرين إلى طريقة الهداية، وانتشال الناس من هذا الوحل والطين الذي هم غارقون فيه إلى حياة طيبة كريمة، هذا في الدينا، ثم: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً. أي خير لك أخي المسلم، وأية منّة من الله جل وتعالى، أن يكون لك شرف المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل.
كم في أوضاعنا من فساد يحتاج إلى تغيير، وكم في مجتمعاتنا منكرات تحتاج إلى إزالة بل وكم في حياتنا الشخصية من أمور وأمور تخالف تعاليم الإسلام.
بماذا تتصورون أن يتغير كل هذا، هل يغيرها التسبيح والتمحيد والتهليل؟ أم يغيرها بر الوالدين وصلة الأرحام؟ إنه لا يغيرها إلا الدعوة إلى الله عز وجل، وعندما نقول بأن كل مسلم ينبغي أن يكون له شرف المشاركة في الدعوة، فإن هذا لا يعني ما يفهمه الناس خطأ، وهذا الفهم مع كل أسف تفكير كثير من المسلمين، وهو أنه يعتقد أنه لا يصلح للدعوة، إلا إذا كان خطيباً مفوها، أو عالماً بارزاً ،أو فقياً أو قاضياً أو على الأقل خريجاً لإحدى الكليات الشرعية، وهذا فهم قاصر بل خاطئ، إذا كان الأمر كذلك فإن معنى هذا بأن عدد المصلحين والناصحين في منطقة صغيرة كمنطقتنا، يعدون على أصابع اليد الواحدة، إن كل فرد منا أيها الأخوة، يصلح أن يكون داعية، بحدود قدراته وإمكانياته، بشرط أن يكون محباً للأعمال الصالحة ويكون من أهل الأعمال الصالحة.
وأنت تسير في طريقك من البيت إلى المسجد، فترى شخصاً على خطأ ما تنصحه بالكلمة الطيبة هذه دعوة، تدخل بقالة لتشتري بعض حاجياتك فترى شيئاً يخالف الشرع، تنصح فاعله بكلمة هادفة، هذه دعوة، تدخل بيتك فترى الزوجة مقصرة في بعض الواجبات، تنصحها ترشدها، هذه دعوة، أحد أبناءك أو بناتك تراه يفعل ما لا يرضى الله، تقدم له النصيحة ثم التربية السليمة، هذه دعوة.
زملاؤك في العمل ممن تحتكُّ بهم يومياً تجد أن هذا يدخن، والثاني: يتأخر عن عمله يومياً، والثالث: مهمل وغير مبالٍ لمعاملات الناس، والرابع: لا يتورع من أكل وسرقة المال العام، والخامس والسادس والسابع.
فمن الواجب عليك شرعاً أمام الله عز وجل، أن تدعوا هؤلاء، كلمة لهذا، ونصيحة لهذا، وجلسة انفرادية مع الثالث، وتوجيه وإرشاد للرابع، أما أن تبقى ساكتاً وأنت ترى هذا الفساد الإداري، وهذه المخالفات الشرعية، ثم لا تحرك ساكناً، فأخشى أن تكون ممن يشاركهم في الإثم، لأنك ترى الخطأ، وتعلم عنه ثم تغض الطرف.
أيها الأحبة: إن الخطبة ليست عن الدعوة إلى الله وسيكون لنا كلام طويل في المستقبل إن شاء الله تعالى حول هذا الموضوع، لكنها خاطرة خطرت في موضوع العمل الصالح. الذين كفروا وصدوا عن سيبل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
اعلموا رحمني الله وإياكم ،بأن صلاح العمل مرتبط بصلاح النية، والعكس صحيح فإن فساد العمل مرتبط بفساد النية، فلو جاءنا شخص ما – وقدم أعمالاً صالحة، أمام الناس، من بناء للمساجد، ومساعدة للأيتام وبذل في وجوه الخير، ونحن نعلم سوء طوية هذا الرجل والعياذ بالله، وفساد نيته فنقول، بأن أعمالك مردودة عليك، ومن حكمة الله تعالى ولطفه وإحسانه أن جعل لأهل الإيمان والهدى والأعمال الصالحة، علامات يعرفون بها، كما جعل لأهل المعصية والفجور والخيانة، صفات يعرفون بها، وإن تظاهروا أمام الناس بالصلاح، وإن ادعوا أنهم يخدمون الإسلام، ويعطفون على الفقراء والأيتام.
قال الله تعالى في حق المؤمنين المتقين تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود وقال في حق المنافقين المخادعين، الذين يتربصون بالمؤمنين الدوائر أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم وقال عز وجل: يعرف المجرمون بسيماهم المقصود أن الله تعالى ميز أهل الإيمان والأعمال الصالحة الصادقة، أولئك الذين لهم قدم صدق في الإسلام بعلامات لا يمكن أن تخفى أو تلبس على الناس، وفي المقابل ميز تعالى أهل الإجرام وأهل النفاق وأهل الأعمال الصالحة الكاذبة بعلامات لا يمكن أن تخفى على عباد الله المؤمنين. قال الله تعالى: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ، وقال عز وجل: وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلاً ما تتذكرون ، وقال سبحانه: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون.
واسمع بعد هذا إلى هذا الكلام الجزل المتين للإمام ابن القيم رحمه الله في كتابة أعلام الموقعين (4/200) حيث يقول: وقد جرت عادة الله التي لا تبدل، وسنته التي لا تحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه، ما هو بحسب إخلاصه ونيته، ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت والبغضاء. انتهي كلامه رحمه الله.
وصدق والله ابن القيم، فإن الأمة تعرف مخلصيها، ويقذف الله في قلوب أبناء الأمة محبة لهؤلاء المخلصين، بحسب إخلاصهم ونياتهم ومعاملتهم مع ربهم، ولا يمكن أن يلبس على الناس بغير هذا، كما أن الأمة تعرف مجرميها ويقذف الله البغض في قلوب أبناء الأمة، بحسب جرمهم وخبثهم وخياناتهم، وإن تظاهروا بالصلاح والاستقامة، ولا يمكن أيضاً أن يلبس على كل الناس، وفي النهاية تكون العاقبة والتمكين لأهل الأعمال الصالحة، لا لأهل الأعمال الخبيثة، قال الله تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
أيها المسلمون: إذا كانت العاقبة لأهل صالح الأعمال، والخسارة والبوار لأهل سيء الأعمال، فمن العقل ومن الحكمة ،و من مصلحة الجميع أن لا نوكل أعمالنا الخاصة والعامة إلا لمن نعلم أنه من أهل صالح الأعمال، وذلك لكي يسيِّر أعمالنا بصلاحه، أما ذلك الذي ملوث ليلة مع نهاره بسيء الأعمال، لا يقوم ولا يقعد، ولا يتكلم إلا بنفاق ودجل، فهذا لا يصلح أن يعاشر الناس أصلاً، فضلاً أن يولى أمانات، ويوثق على أموال وأعراض وحرمات المسلمين قال الله تعالى: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.
من أراد أن يجعل الحيات والعقارب يعاشرون الناس، هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الكذاب شاهداً على الناس هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الجاهل معلماً للناس مفتياً لهم، هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الجبان مقاتلاً مدافعاً عن الناس هل يصلح هذا؟ لا يصلح.
من أراد أن يجعل الأحمق سائساً للناس، هل يصلح هذا ؟ لا يصلح.
وكذلك أن يجعل صاحب الأعمال السيئة والنوايا السيئة في مصالح المسلمين الخاصة والعامة ولو حصل شيء مما سبق ذكره، فإنه هذا يوجب فساد المجتمع وخراب الأوضاع وتدهور الحال.
فنسأل الله جل وتعالى، أن يصلح أحوالنا، ويصلح نياتنا، ويصلح أعمالنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/1240)
بعض أسباب تخلف المسلمين 2
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/3/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أسباب تخلف المسلمين ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- الأمر بالمعروف
صفة المؤمنين. 3- منزلة الأمر بالمعروف في الدين. 4- ترك الأمر بالمعروف سبب البلاء
واللعنة. 5- حال بني إسرائيل حين تركوا الأمر بالمعروف. 6- من أسباب غلف المسلمين
التأثر بالكفار في التشريع. 7- من أسباب غلق المسلمين اضمحلال الشخصية المسلمة وحال
شبابنا في هذه الأيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
نكمل معكم بإذن الله تعالى موضوع خطبتنا للأسبوع الماضي ، عن أسباب تخلف المسلمين، ونذكركم بالسبب الأول الذي عرضناه آنفاً، وهو البعد عن الدين والذي قلنا أن من أبرز مظاهره الجهل بالدين ، وكان ذلك بعد أن قدمنا بمقدمة تعرضنا فيها لبعض جمل حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه ، قوله عليه الصلاة والسلام: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)).
السبب الثاني من أسباب تخلف المسلمين: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.قال الله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون.
إن صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات التي تميز أمة الإسلام عن غيرها من الأمم السابقة واللاحقة ، ولهذا وردت هذه الصفة في أعقاب نعت تلك الأمة بالخيرية في قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وكأن اتصاف المسلمين بهذه المقومات جعلهم خير أمة ، وعلى هذا يمكن أن يعود لهم عزهم وسيادتهم ويزول تخلفهم إذا عادوا إلى التحلي بهذه السجايا ،الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله.
وورد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وصف المؤمنين في مقابله وصف المنافقين ، فقال تعالى: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم.
وقال بعد آيتين من السورة نفسها: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم.
أيها المسلمون: إن الإنسان ضعيف ، كما قال ربنا جل وعلا: وخلق الإنسان ضعيفا فقد تزل به القدم وتتخاذل قواه أمام سلطان الشهوة العارم ، والشيطان ساع وراء هذا الإنسان الضعيف يطغيه ويفتنه ويزين له الحرام ، ويهون عليه الوقوع في المعاصي وإن يدعون إلا شيطاناً مريدا لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام وقال تعالى: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.
وهذا الضعف الإنساني إن لم يقم الأخيار بالتذكير بالحق والوقوف في وجه الانحراف أدى إلى الوقوع في الضلال ومجانبة السبيل السوي وكانت عندئذٍ الكارثة ، ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة التقويم وأداة صيانة الأمة من السقوط.
إن علينا أن نسارع إلى علاج هذا التخلف الرهيب في مستوى الإيمان ، ومن أهم وسائل العلاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو الدين كله كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) والشاهد في مطلع الحديث الشريف حيث جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين هو النصيحة ، وبين باقي الحديث عموم النصيحة وشمولها.
كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، جزءاً من البيعة كما في حديث عبادة بن الصامت الذي رواه البخاري ومسلم ، والذي يقول فيه: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
ولولا أن تكون هذه الخلة الكريمة من دعائم الدين المهمة ، لما كانت جزءاً من البيعة ، ولما كانت مماثلة للصلاة والزكاة كما في حديث جرير بن عبد الله في صحيح مسلم الذي يقول فيه: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم".
أيها المسلمون: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب البلاء يصيب المجتمع كله ولا يخص المذنبين والعصاة بأعيانهم ، ذلك لأن المسؤولية يوم القيامة فردية على الفعل ، ولكن البلاء في الدنيا يعم، وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة قال الله تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب. وفي حديث عائشة المتفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم ، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم آسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)).
أيها المسلمون: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يوجب لعنة الله عز وجل ، كما ذكر ربنا تبارك وتعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون.
عباد الله: إن مظاهر اللعنة النازلة بالمجتمعات التي لا يتناهى أفرادها عن المنكرات كثيرة ، منها:اضطراب الأمن ، وسيطرة القلق على النفوس ، وانتشار الفواحش ، وفشو الجرائم ، وظهور الأمراض والأوجاع ، وتسلط الظلمة على جماهير الناس ، يسومونهم سوء العذاب.
وكثير ذلك من مجتمعات المسلمين اليوم ، حتى لا يكاد يخلو منه بلد ، إلا وظهرت وبرزت هذه المظاهر التي ذكرتها.
إن كثيراً من مجتمعات المسلمين اليوم ظهرت فيها المنكرات ، واستعلنت فيها الآثام ، وقل فيها الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر ، فكأن واقعها واقعاً مؤلماً ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إذا كنا نتطلع اليوم إلى نهضة إسلامية ، وصحوة إيمانية ، ويقظة فكرية ، فما أجدرنا بأن نحيي هذه السنة الكريمة ، فيكون التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر شعارنا.
وإمكانيات النجاح متوافرة اليوم ، وربما لا تكون كذلك غداً ، والعاقل من يغتنم الفرصة قبل فواتها.
إننا مطالبون للقيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن نزداد علماً بحقائق هذا الدين وأحكامه، وأن يكون منا تصميم صادق لإعلاء كلمته وخدمة حملته ، وإخلاص النية في ذلك ، وعمل دائب لإحياء طريقته ، واختيار أحسن السبل والوسائل في إبلاغ الناس ودعوتهم.
يجب أن ينبه المسلمون إلى مواطن الخطر في حياتهم وإلى نقاط الضعف ، وأن يذكر الغافل ، وينصح العاصي ، ويكافأ المحسن.
يجب أن يكون المسلمون بعضهم لبعض نصحة، لا يجوز أن نرى الشهوات والأهواء تغتال أبناءنا أمام أعيننا ثم لا نحس بمسؤوليتنا نحوهم يجب أن يكشف الدجل وأن تنزع الأقنعة وأن نسلك إلى التوعية الطريق الأقوم.
إن مهمة المسلم أن يستجيب لله ، وأن يحيا الحياة الإسلامية التي أراد الله له أن يحياها ، ولن تحياها إلا في وسط إسلامي يطبق الإسلام ، ولا يكون ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا أخي ، إذا رأيت مسلماً يرتكب مخالفة شرعية فعليك أن تنبهه إلى هذه المخالفة بالأسلوب الحسن ، إننا لو فعلنا ذلك نباعد بين مجتمعنا وبين حلول لعنة الله ، وإننا بذلك أيضاً نأخذ العبرة من قصة كفار بني إسرائيل الذين كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، وإذا أصبح التناهي عن المنكرات سجية لأفراد الأمة ، كان ذلك ضغطاً اجتماعياً على العصاة المنحرفين ، إذ سيواجه العاصي بالإنكار من كل إنسان يلقاه، فهو عندئذٍ سيترك المنكر ليتخلص من انتقاد المنتقدين وسؤال السائلين ونصح الناصحين لأضرب لذلك مثلاً.
لو أن إنساناً جاهر بمعصية ومشى في الطريق في مجتمع إسلامي يلتزم أفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسيستوقفه أول إنسان يمر به وينكر عليه اقترافه للمعصية وينبهه إلى أن هذا لا يليق بالمسلم ، ويجري بينهما حوار ، ثم يمضي كل في سبيله ، فيلقاه آخر وينكر عليه ما يراه من تلبس بهذه المعصية ، ثم يلقاه ثالث ورابع وعاشر يسمع منهم إنكار المنكر على أساليب مختلفة تتفاوت فيما بينها تبعاً لمستوى كل واحد منهم ومزاجه وطريقة تعامله مع الناس ، إنه ليتخلص من هذا الضغط ، فسيترك المنكر.
إن مجتمعاً يتصف أفراده بهذه الصفة تصبح فيه المعاصي كلها منكرة مجهولة لا يعرفها أحد ، بينما تكون الطاعات كلها معروفة لا يجهلها أحد. ونجد ما يشبه هذا في بعض الدول إذا خالف إنسان قواعد المرور والنظافة قابله من يراه من الناس بالاستنكار والاستهجان وأطلقوا منبهات سياراتهم احتجاجاً عليه ورفعوا أصواتهم سخطاً لفعله.
أيها المسلمون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يردّ على الأمة معالم من أصالتها ، ومقومات من مقوماتها ، وعندئذٍ تعود إلى سالف مجدها وتعود من جديد إلى حمى الإسلام ، فلا يُصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ألا وهو الدين.
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
السبب الثالث من أسباب تخلف المسلمين: التأثر بالكفار في التشريع والاعتقاد والمجتمع.
لقد حلت القوانين الأجنبية محل الشريعة في كثير من بلاد المسلمين ، وغزتنا من ديار الكفر مبادئ اعتقادية ملحدة قائمة على المغالطة والتدخيل ، صورت أنه لا خلاص لنا من هذه الويلات والمآسي إلا بالتخلص من الدين وآثاره ، وقالت: إن لكم بأوربا أسوة، فهي لم تتقدم إلا بعد أن تركت دينها وراء ظهرها.
لقد انتشرت هذه المبادئ الهدامة مع الأسف الشديد لأول مرة في أبناء المسلمين وتبنوها وقاتلوا من أجلها ، وأقاموا عليها تجمعات سياسية ، استطاعت بمعونة من الكفار ، وبغفلة من المسلمين أن تستولي على مقاليد الأمور الفكرية ، والإدارية والتشريعية ، والإعلامية والسياسية في كثير من بلاد المسلمين.
وكذلك فقد تأثر المسلمون بالكفار في الحياة الاجتماعية ، من حيث سفور المرأة وتبرجها ، واختلاطها بالرجال ، وفشو المنكرات من خمر وربا وزنا وفواحش وما إلى ذلك.
من كان يتصور أن أراضي المسلمين التي بقيت يُحكم بها بكتاب الله عز وجل قروناً طويلة ، يأتي اليوم الذي يستباح فيها ما حرمه الله ، بل وأنظمتها الآن ، تساند وتدعو إلى الحرام ، وتحمي سياساتها بيوت الزنا والربا والخمور من خلال قوانين سنتها لذلك نعوذ بالله من الخزي والعار والذل والهوان ، ثم بعد ذلك نتساءل عن سبب تخلف المسلمين ولماذا تسلط عليهم أعداءهم.
السبب الرابع من أسباب تخلف المسلمين: اضمحلال الشخصية المسلمة.
لقد مرت بأمتنا الإسلامية ، نكبات عظمى وكوارث سود ، ولكن الشخصية الإسلامية ، ظلت تقوم من وراء هاتيك الكوارث والنكبات والعواصف العاتية على قدميها ، تنهض بالأمة وتدفع بها إلى جادة السلامة ، لقد كانت تقوم على أنقاض الواقع المؤلم وتعمل على استئناف الحياة الإسلامية الكريمة ، وهناك مثل من أعظم الأمثلة على حيوية الشخصية المسلمة وأثرها الفعال.
سقطت بغداد سنة 656هـ على يد هولاكو، وعاث التتار فساداً وإفساداً في ربوعها ، ونكلوا بالعلماء ، وهتكوا أعراض المسلمين والمسلمات ، وألقوا بألوف الكتب والمخطوطات الإسلامية في نهر دجلة ، وخربوا البلاد وظلموا العباد ، وفعلوا الأفاعيل ، ولكن الشخصية المسلمة بقيت على ما هي عليه ، رغم أنه فُعل بها ما فعل ، ولم تضمحل واستطاعت أن تنتصر على هؤلاء الأعداء في عين جالوت سنة 658هـ أي بعد سنتين ، كذلك كان الأمر في الماضي ، أما اليوم فإننا لا نكاد نرى الفرق جلياً بين أكثر المسلمين والكفار بشتى مللهم ونحلهم ، ليس هناك من الفروق في كثير من الحالات. إلا في الموقع الجغرافي ، والانتماء الطائفي ، وإلا في الأسماء ، وحتى هذا الفرق الهزيل بدأ يبهت لونه على مر الأيام ، فهناك اتجاه عند بعض الأقليات إلى ترك الأسماء الخاصة بهم التي كانت تميزهم ، وهناك من بعض الدول الإسلامية ، تمنع ذكر الانتماء إلى الدين في أوقاتها الرسمية.
أما الفرق الشكلي ، فقد أضحى سمة بين المتقدمين في السن ، أما شباب المسلمين فإنك تشاهد تحلل الشخصية بارزاً فيهم إلا من رحم الله عز وجل منهم ، والتزم بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وإلا فإنك ترى ذلك في تصفيف شعورهم ، وفي كل شهر تخرج لنا قصة معينة ، وإذا أردت أن تعرف أن موديل السنة قد تغير في قص الشعر ، فإنه أمر سهل ، بمجرد نظرة في رؤوس بعض شباب الكورنيش وتجمعات الأرصفة ، تعرف أن الموديل الجديد قد نزل الأسواق.
ناهيك عن الملابس الضيقة ، والتخنث في المشي ، والتختم بالذهب كالنساء ، وأمور وأمور يشيب فيها رؤوس الناشئة.
هل هذا حال شباب يريد أن يعيد للأمة عزها ، وما زال يتراقص ويتمايل ويتغنى كالإناث.
أين شبابنا اليوم من شباب أسلافنا؟ كان الواحد قائداً للجيش ، يقاتل أعداء الله ويجاهد في سبيل الله ، وهو دون العشرين.
شباب الأمة في الماضي ، كان همّ الواحد منهم متى يكون عالماً وإماماً ، مجاهداً لأعداء الله ، ومتى يُخلص أراضي المسلمين من تسلط الكفار عليه ، لو كان هناك تسلط في بعض البقاع ، إلى غير ذلك من معالي الأمور ، وشبابنا اليوم هم الواحد منهم ، متى تنزل آخر أغنية؟ وما هو رأيك في آخر فيلم؟ وبقية الوقت يقضيه في هواية المعاكسات والمغازلات ، والشاب العاقل الرزين هو من كان متابعاً للمباريات فقط.
فاتقوا الله أيها المسلمون ، اتقوا الله تعالى في أولادكم ، واتقوا الله تعالى في أنفسكم أولاً.
فإننا نحن وأبناءنا من أسباب تخلف المسلمين ، لو بقينا على حالنا ، ولم نغير واقعنا.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي..
اللهم اكشف الغمة عن أمة..
اللهم اهد شباب المسلمين لما فيه صالح العلم والعمل.
(1/1241)
بعض أسباب تخلف المسلمين 1
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/3/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غير الله حالنا بعد أن تغيرت نفوسنا. 2- ظاهرة تخلف المسلمين وضعفهم. 3- حديث
غثائية الأمة وشرحه وانطباقه على الواقع الحالي الذي نعيشه. 4- من أهم أسباب تخلف
المسلمين بعدهم عن الدين. 5- الجهل صورة لبعدنا عن الدين ، ونماذج من هذا الجهل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الأخوة المسلمون: قد يسأل سائل ويقول ، لقد كنا نحن المسلمين أعظم أمة في الأرض ، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، ونؤمن بالله ، كنا أمة نحرر المظلومين في الأرض ، كنا أمة نحقق العدالة بين الناس ، كنا أمة ننشر التوحيد في كل مكان ، حتى دانت لنا الدنيا المعمورة ، فلم تكن فوق كلمتنا كلمة ، ولم تكن أمة في الأرض تتقدم علينا في العلم ، ولا في الإقتصاد، ولا في الأخلاق ، ولا في السياسة ، كنا أمة كما قال القائل:
أمة في الأرض لا يقهرها مجرم بل هي ذل المجرم
فلماذا تبدّل ذلك كله ، وآل أمرنا إلى هذا الواقع المؤلم الحزين؟ ؟
لماذا أصبحت شعوبنا ودولنا متخلفة ، يطلق عليها الدول المتخلفة ، وإذا أرادوا المجاملة في التعبير ، والتأنق فيه ، لكي لا يكسروا مشاعرنا ، قالوا - الدول النامية - أي المتخلفة، والدلالة هي الدلالة.
لماذا كل هذا؟
الجواب يا عباد الله على هذا السؤال تضمته الآية الكريمة ، قال الله تعالى: كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين.
أيها المسلمون: لقد قررت هذه الآية الكريمة ، أن الله تبارك وتعالى ، لم يكن ليغير نعمة أنعمها على قوم حتى يكون التغيير منهم هم ، حتى يغيروا ما كانوا عليه من فكر واعتقاد ، حتى يغيروا ما كانوا عليه من خلق ومنهاج.
تلك سنة الله تحققت في الأمم الماضية من آل فرعون والذين من قبلهم من الذين كفروا بآيات الله ، وتعدوا حدوده ، وحاربوه في حياتهم ، بمخالفة شرعه الذي شرع لهم ، ونرى في الآيات أيها الأخوة ، أن العقوبة كانت بسبب ذنوبهم ، كما قال تعالى: فأخذهم الله بذنوبهم وقال عز وجل: فأهلكناهم بذنوبهم.
إنها سنة الله في عباده ، كما قال عز من قائل: ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
وتذكر هذه الآيات من صفات الله هنا ، والله ما تخشع له القلوب ، وتنخلع له الأفئدة ، إنه سبحانه قوي شديد العقاب ، وإنه سميع عليم ، وإنه سبحانه يعاقب الظالمين بالأخذ الشديد والإغراق والإهلاك في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون عباد الله: إن تخلف المسلمين ظاهرة ، يصعب أن نحصر أسبابها التفصيلية في خطبة قصيرة كهذه، ولكني سأذكر لكم بعد توفيق الله عز وجل ومنه وكرمه ، بعضاً من أهم هذه الأسباب ، لكن قبل الشروع في ذكر الأسباب ، لابد من تصوير واقع الأمة ، لكي يمكننا أن نتخيل إلى أي حد وصلت إليه. لا أحسب أن هذا الواقع المؤلم الحالي للأمة يمكن لنا تصويره أقرب من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم له في الحديث الصحيح في وصف المسلمين في آخر الزمان ، وهو حديث ثوبان رضي الله عنه ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل:يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [رواه أبو داود].
لنا وقفة أيها الأخوة مع بعض جمل هذا الحديث العظيم.
قوله عليه الصلاة والسلام: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم ، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها)) إنه تصوير نبوي عجيب لا يمكن لأحد أن يصور ويصف حال الأمة بهذا الوصف ، إلا من قال عنه رب العالمين بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
تأملوا يا عباد الله هذا الوصف وهو تحول المسلمون فيها إلى شيء مأكول، والمأكول لا حيلة له ولا قوة ولا حركة فيه ولا مقاومة.
وعندما يوصف المسلمون بالشيء المأكول ، فهم إلى التمزيق والطحن والمضغ والازدراء ، وما وراء ذلك صائرون، والمسلمون في هذا الوصف النبوي صمّ لا يسمعون تعلن الأمم عزمها على أكلهم ، وتتداعى أمم الكفر إلى ذلك ، ومع ذلك فهم لا يسمعون ، وكيف يسمعون وقد فقدوا الحياة ، وقد يسمعون ولكنهم لا يعون ما يسمعون ، فكانوا هم والصم سواء.
أولسنا نرى اليوم في تصريحات كثير من دول الكفار من النصارى واليهود والشيوعيين ، وغيرهم وفي أعمالهم مثل هذا الإعلان ، الذي يتضمن عزمهم على احتلال بلادنا. بل جاوزوا الإعلان إلى التنفيذ ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، كما حصل في كثير من بلاد المسلمين ، وفي مقدمتها فلسطين:
وأقفرت من بني أبناءها الشهب
واطعلت سفن الإسلام والعرب
وطول صبر على الأرزاء والنوب
ضياع أندلس من قبل في الحقب
بمثلها أمة الإسلام لم تُصب
خلت فلسطين من أبناءها النجب
طارت على الشاطئ الخالي حمائمه
يا أخت أندلس صبراً وتضحية
ذهبت في لجة الأيام ضائعة
وطوحت ببنيك السيف نازلة
بمثلها أمة الإسلام لم تصب ، ومع ذلك نأكل ونشرب ونلهو ونلعب ، ونتمتع بكل ألوان المتعة ، وكأن الأمر يخص غيرنا ، لا نسمع ، أو نسمع ولا نعي ، وكلا الأمرين مصاب جلل ، له أوخم العواقب وأسوأ النتائج.
المسلمون في هذه الصورة النبوية الرائعة ، محاط بهم من كل جانب ، فالأكلة يتحلقون حول القصعة ، وكذا الكفار اليوم يحيطون بالمسلمين.
وعندما سمع الصحابة رضوان الله عليهم ، ماذا سيكون حال أمتهم في ذاك الزمان تصوروا أن عددهم يومئذٍ عدد قليل ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صحة هذا التصور فقالوا: ((أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله)) فأجابهم عليه الصلاة والسلام: ((لا.. إنكم يومئذٍ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)).
لقد نبههم إلى أن الأمور لا تقاس بالكمية وإلى أنه لا ترتفع قيمة الأمة ولا يعز شأنها بكثرة عددها فقط ، لا ، لابد من الكيفية الجيدة ، ويقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيكونون في ذاك الزمان كثير، ولكنهم غثاء بغثاء السيل.
إن عددهم اليوم يزيد على مليار نسمة ، وتصل نسبتهم إلى خمس سكان العالم كله ، ولكن هذا المليار من المسلمين ما شأنه ، ما قيمته الفكرية؟ ما قيمته الاقتصادية؟ بل ما قيمته العسكرية؟ وما قيمته السياسية؟ إنهم غثاء كغثاء السيل ، ونحوه سرعان ما تتبدد ، وسرعان ما تتناثر هنا وهناك.
إن الكثرة ليس لها شأن كبير إن تخلت عن النوعية الجيدة ، إن ألف تفاحة فاسدة لا تسد مسد تفاحة واحدة صحيحة ، لو كنت جائعاً وأعطيتك ألف تفاحة فاسدة ، ما تنفعك بشيء ، إن التفاح الفاسد زبالة تجلب الجراثيم وتنشر الروائح الكريهة ، وتأتي بالحشرات ، لكن التفاحة الصحيحة تنشر الشذى الرائع ، وتنعش البدن ، وتفيد الجسم ، وتُمِتعُ آكلها.
إن أزمة المسلمين اليوم أيها الأخوة ، فلنقلها بكل صراحة ، إن أزمتهم ليست في قلتهم، ولكن الأزمة في فسادهم وتخلفهم وبعدهم عن دينهم.
ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر هذا الحديث العظيم ، الذي لا يكفيه هذا التأمل القصير ، ذكر بأن هؤلاء المسلمين الغثاء ستنزع من صدور أعدائهم المهابة منهم ، وذلك باتصافهم بصفتين ، هما حب الدنيا وكراهية الموت. قال عليه الصلاة والسلام: ((ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن؟ فقال قائل: يا رسول الله وما والوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)).
إن الدنيا تشغل بال أكثر الناس اليوم ، يوظفون لها حياتهم ، يعيشون من أجلها ، ويشقون رغبة في جمع أكبر قدر ممكن من متاعها وعرضها ، نعم هذا حال سواء المسلمين.
وهو أمر سيء مؤلم ، ولكن الأكثر إساءة وإيلاماً أن يكون كثير من الدعاة وطلبة العلم لا يرتفع عن مستوى العامة والدهماء ، فترى الواحد من هؤلاء الدعاة خاضعاً للدنيا التي سيطرت عليه سيطرة تامة ، ولكنه يلبس على نفسه ببعض التعللات ، وبعض المغالطات.
أيها المسلمون: إننا لنقرأ في السيرة النبوية أخبار غزوة أحد ، عندما أصابت المسلمين تلك المصيبة ، فسألوا: أنى هذا؟ من أين هذا؟ فنزل في ذلك قوله تعالى: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم أصابتكم هذه المصيبة بسبب يعود إليكم.
فنسأل الله عز وجل ، أن يغير حالنا وأن يكشف غم الأمة عنها إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول ما سمعتم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وبعد هذه المقدمة الموجزة ، والتي صورت من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حال أمتنا في هذا الزمان ، نبدأ أيها الأخوة ، في ذكر بعض الأسباب ، والتي رأيت أنها في مقدمة الأسباب التي أدت تخلف المسلمين.
وربما لا يسعفنا الوقت في ذكر هذه الأسباب التي جمعتها. لذا فإنه من المحتمل أن نكمل هذا الموضوع الهام في مرة قادمة. إن شاء الله تعالى.
أولى هذه الأسباب وفي مقدمتها ، البعد عن الدين ، بَعُد كثير وكثير من المسلمين عن التمسك بالإسلام التمسك المطلوب.
وإن من أبرز مظاهر البعد عن الدين ، هو الجهل بالدين، الجهل المطبق ، وهذا أمر عام في العالم الإسلامي بالنسبة إلى العامة.
مشكلة المسلمين الأولى جهلهم بدينهم ، مما أدى هذا إلى بعدهم عن الدين.
المصيبة يا عباد الله ، بأن هذا الجهل لا يتمثل في مسائل فرعية ، بل في قضايا كلية ، ومسائل من أصل دين الإسلام.
وهذا له صور كثيرة في واقعنا ، فمن صور الجهل بالدين بالقضايا الكلية الأساسية كبرى مسائل الاعتقاد ، الولاء والبراء مثلاً ، لو فقه المسلمون هذه القضية في دينهم ، فهماً صحيحاً واقعياً ، لما أعطو ولائهم لكثير من أعدائهم من مشركين ونصارى ، بل ويدندن في الآونة الخيرة بشأن اليهود أيضاً. أليس هذا جهل مطبق بمسألة الولاء والبراء وخطورتها لو صرفت الولاية في غير محلها.
ولو علم المسلمون أهمية هذه القضية ثم طبقوها تطبيقاً حقيقياً واقعياً ، ما ذلوا لأعدائهم ومكنوهم من بلادهم وأموالهم.
فلأن الكثير من المسلمين أعطوا ولائهم للكفار ، فقد ترتب على هذا أن عاثوا في بلاد المسلمين تسلطاً واحتلالاً وفساداً، بل وخيرات وأموال المسلمين تصب في بطونهم:
سنابك الخير داست عندنا الكتبا
قال الحقيقة إلا اغتيل أو صلبا
ماذا سأقرأ من شعري ومن أدبي
وحاصرتنا فآذتنا ولا قلم
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون: ومن صور الجهل بالدين أيضاً. عدم معرفة الكثير من المسلمين ، بل ومنا نحن بأحكام أساسية في الطهارة والصلاة ، وباقي أركان الإسلام.
أطرح سؤالاً في الطهارة في مجلس عام أو عن سجود السهو ، أو غيرها من المسائل الأساسية فمن الذي يجيب؟ إلا من رحم الله عز وجل ، ولهذا تجد الأسئلة تكثر جداً في رمضان ، والحج ، فلحرص الغالبية على صيامهم ، وجهلهم بالمقابل بأحكام دينهم ، يتخيل أن أي تصرف أفسد صومه ، ولهذا تمر عليك أسئلة غريبة جداً ، لا علاقة لها بالصيام أصلاً ، تُسأل هل يفسد الصوم.
أما جهل المسلمين بأحكام حجهم ، فالله المستعان ، ترى العجب العجاب في الطواف والرمي ، وغيرها من مناسك الحج.
عدة مرات سمعت أن أشخاصاً سعوا بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً ، بدلاً من نصفها ، ظانين أن الذهاب والإياب شوطاً واحداً. هذا مثال خفيف مما يحصل في الحج ، وربما حصل هذا من كبار السن ، فقد يكون عمر الواحد ثلاثين أو أربعين سنة.
فالسؤال الذي يطرح نفسه ، ماذا كان يعمل هذا الرجل أربعين سنة قضاها في الإسلام ، هل تتوقعون أنه كان يعيش الإسلام واقعاً وسلوكاً ، وكانت حياته كلها إسلامية ، لا أظن ذلك بل هو مسلم كما يقال بالتابعية وشهادة الميلاد.
لو قضى نصف هذه المدة في جمع الطوابع أو لعب الورق ، أو غيرها من التوافه التي شغلت ، بل شُغلت بها حياة المسلمين ، لصار خبيراً ومحترفاً ، بل مستشاراً فيما فرغ نفسه له.
ثم يأتي بعد 40 سنة قضاها في الإسلام ولا يفقه أبسط مسائل الحج أو غيره.
ولو سمعنا مثل هذه الأمور من مسلم عاش في جزر الملايو أو على قمم الهملايا ، أو ولد ونشأ في أدغال أفريقيا ، ربما وجدنا له مسوغاً ، لكن من نشأ وترعرع في أرض الجزيرة ، ويعيش في أرض العلماء ، ووسائل التعلم ميسرة حتى للأجانب ، فماذا يكون عذر هذا أمام الله عز وجل، أن يأتي بعد 30 أو 40 سنة قضاها في الإسلام ويجهل الكثير من أحكام دينه الذي لا تقوم العبادات إلا به.
هذه هي مصيبة المسلمين الكبرى ، جهل أبناءها بدينها ، وما ذكرته من مثال أو مثالين ، يعد أبسط وأتفه الأمثلة، وإلا فواقع المسلمين وحالهم ، وجهلهم بدينهم ، أكثر من هذا بكثير.
فنسأل الله عز وجل ، أن يبصرنا في ديننا وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن ينفعنا بما علمنا إنه على كل شيء قدير.
(1/1242)
النصارى وعام 2000م
أديان وفرق ومذاهب
أديان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/9/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاهتمام العالمي بدخول القرن الحادي والعشرين. 2- تغيير النصارى دين عيسى عليه
السلام إلى الكفر. 3- تناقض النصارى واختلافاتهم وبُعد عقائدهم عن العقل والفكر السليم.
4- وعد الله لأمة الإسلام بالنصر والتمكين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ستحتفل أمة النصارى هذه الليلة بعيد رأس السنة الميلادية، وسيكون لهذا العيد مذاق خاص عندهم لأنه يوافق حد زعمهم نهاية الألفية الثانية. وقد سبق أن تحدثنا في عدد من الخطب عن هذه المناسبة وعن بعدها الديني والسياسي لدى كل من اليهود والنصارى، وذُكر بأنه عيد شركي باطل، ووُضّح حكم مشاركة المسلم لهذه الاحتفالات بأي نوع من أنواع المشاركة، وأنه حرام ولا يجوز إضافة إلى ما يترتب على ذلك من تنازلات عقدية تمس معتقد المسلم. وفي معظم أنحاء العالم سعت كثير من الدول لإعداد احتفالات صاخبة لهذه المناسبة، ونُصبت الساعات الرقمية في أماكن بارزة ومرتفعة للعد التنازلي باليوم والساعة والدقيقة ليوافق منتصف الليل في الحادي والثلاثين من ديسمبر عام 99م لتبدأ الدقيقة الأولى من العام الجديد 2000م.
والمقصود أن العالم كله هذه الليلة إلا من رحم ربي سيكونون في حنّة ورنّة لهذه الألفية ما بين استعداد محموم للاحتفال وما بين تخوف من علّتها الحاسوبية والتي أقضّت مضاجع الحاسوبيين بأسرهم ومن وراءهم ممن يتوكلون على الأسباب وينسون رب الأرباب ومسبب الأسباب سبحانه وتعالى. وهذا العيد وهذه الاحتفالات مع كونها تقوم على أسس باطلة شركية فسيكون فيه من المنكرات والفواحش وشرب الخمر والزنا ما الله به عليم.
أيها المسلمون: من المسلمات أن ما كان أساسه باطل منحرف فهو باطل منحرف، فما هو دين النصارى الحالي الذي يعتقدون؟ وبماذا يؤمنون؟ سأذكر لكم في هذه العجالة طرفاً من دين النصارى لندرك بطلان وكفر هذا العيد وهذه الاحتفالات لأنه يقوم على معتقد شركي باطل.
بعث الله عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم فجدد للنصارى الدين بعدما حُرّف، وبين لهم معالمه ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من تلك الآراء الباطلة، فعاداه اليهود وكذبوه ورموه وأمه بالعظائم وراموا قتله، فنجاه الله منهم ورفعه إليه فلم يصلوا إليه بسوء. وأقام الله تعالى للمسيح أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته حتى ظهر دينه على من خالفه ودخل فيه الملوك وانتشرت دعوته واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة، ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير حتى تناسخ واضمحل ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء بل ركّبوا ديناً من المسيحية ودين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يُدخلوهم في النصرانية.
ومع هذا التغيير الذي حصل في دين النصرانية الصحيح الذي أنزله الله بقي مع أمة النصارى بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا عنه يوم الأحد وتركوا الختان والاغتسال وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح عليه السلام صليباً قط فعظموا هم الصليب وعبدوه، فغير بذلك النصارى دينهم وبدلوه، وأدخلوا في معتقداته أشياء وأمور فاسدة وألزموا كل نصراني أن يعتقدها من ذلك:
أن الله نزل من العرش عن كرسي عظمته ودخل في فرج امرأة وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والأذى وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن ثم خرج من حيث دخل رضيعاً صغيراً يمص الثدي، ولُفّ في القمط وأودع السرير يبكي ويجوع ويعطش ويبول ويتغوط ويُحمل على الأيدي ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه وصلبوه وألبسوه إكليلاً من الشوك وسمّروا يديه ورجليه وجرّعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الذي يعبده النصارى سبحانه وتعالى عما يقوله النصارى الضالون علواً كبيرا. ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه وتعالى ما سبه أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد، وأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته)) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في النصارى: "أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
وأما اعتقاد النصارى في الأنبياء فإنهم يعتقدون أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه.
ومن المتناقضات أن النصارى أنفسهم متفرقون في اعتقاداتهم وليسوا على دين واحد، فلو سألت أهل البيت الواحد عن ربهم لأجابك الرجل بجواب وامرأته بجواب وابنه بجواب والخادم بجواب فما ظنك بمن في عصرنا هذا وهم نخالة الماضين وزبالة الغابرين ونفاية المتحيرين.
إنه لمن العجب أنك تجد بعض النصارى قد بلغ في العلوم الدنيوية حداً عظيماً فقد يكون من كبار الأطباء أو المهندسين أو مستشاراً أو خبيراً وقد جمع من العلوم والشهادات كل مجمع، ولو سألته عن ربه واعتقاده لوجدته أجهل من حمار أهله. فتتعجب ممن هذا عقله كيف لا يتأمل في دينه أو يفكر في معتقده وكيف يمكن أن يقبل بأن ربه الذي يعبده قد دخل في فرج امرأة بعد ما كان في السماء ثم ولد من جديد فأي عقول هذه؟ المصيبة أن هذه العقول هي التي تمسك بسياسات العالم اليوم، وأن من يحمل هذه الاعتقادات الممجوجة هم الذين يوجهون الدول في الغالب وهم الذين يديرون الدفة وقراراتهم هي التي تنفذ وخططهم هي التي تطبق.
لا نقاش بأن هذه العقول بهذه التصورات الحقيرة والاعتقادات الباطلة غير مؤهلة لكي تقود نفسها فضلاً عن أن تقود غيرها، وما نكد البشرية وشقائها اليوم إلا لتغلب أمثال هذه العقول على الأمور لسبب أو لآخر. نعم إذا غاب الاسلام الحقيقي عن الساحة فلا عجب ولا غرابة أن يحل محله نفايات الأذهان وخرافات العقول وزبالات الأفكار، إذا تخلى المسلمون عن دورهم في نشر العقيدة الصحيحة الصافية في كل الأرض فمن الطبيعي أن يحل محله العقائد الباطلة، إلى أن يقيض الله لهذه الأمة من يعيد لها مكانتها وقيادتها للبشرية وهذا حاصل بإذن الله، فإن المستقبل لهذا الدين والمستقبل للاسلام كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز وذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله)) وفي صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)) قال الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون تبشرنا هذه الآية بأن المستقبل للاسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد خلفاءه الراشدين والملوك الصالحين وليس الأمر كذلك فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه مسلم في صحيحه: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أن ذلك تاماً فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)). فالجولة الأخيرة سيكون للاسلام وأهله بإذن الله عز وجل.
أيها المسلمون: هذا طرف مما تعتقد الأمة النصرانية اليوم وعلى هذا المعتقد وغيره سيحتفلون هذه الليلة أخزاهم الله. وإننا في هذه الأيام المباركة من أيام رمضان بل وفي أفضل لياليه وهي ليالي العشر فإنني أذكر نفسي وأذكر إخواني بأن لا ننشغل بهذه التفاهات كما انشغل به غيرنا وأن لا نضيع دقيقة من الليل في متابعة هذه الأحداث التي لا تهمنا لا من قريب ولا بعيد. فنحن في أيام فاضلة وإضاعتها في غير تكثيف العبادة سفه وخسران.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قال ابن القيم رحمه الله وهو يحاور النصارى ويناقشهم في اعتقادهم في الله عز وجل ويوجه لهم بعض الأسئلة التي لا يمكن لهم الاجابة عنها إلا بالتخلي عن اعتقادهم فيقول رحمه الله :
نريد جوابه ممن وعاه
أماتوه فما هذا الإله؟
فبشراهم إذا نالوا رضاه؟
فقوّتهم إذا أوهت قواه؟
سميع يستجيب لمن دعاه؟
ثوى تحت التراب وقد علاه؟
يدبرها وقد سُمرت يداه؟
بنصرهمُ وقد سمعوا بكاه؟
الإله الحق شُدّ على قفاه؟
يخالطه ويَلحقه أذاه؟
وطالت حيث قد صفعوا قفاه؟
أم المحي له رب سواه؟
وأعجب منه بطنٌ قد حواه؟
لدى الظلمات من حيضٍ غَذَاه
ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه
بلازم ذاك هل هذا إله؟
سيُسأل كلهمْ عما افتراه
يُعظّم أو يُقبّح من رماه؟
وإحراقٍ له ولمن بغاه؟
وقد شُدّت لتسميرٍ يداه
فدُسْهُ لا تبُسهُ إذ تراه
وتعبده فإنك مِن عِداه
حوى رب العباد وقد علاه
له شكلاً تذكّرنا سَناه
لضم القبر ربَك في حَشاه؟
بدايته وهذا منتهاه..
أعبّاد المسيح لنا سؤال
إذا مات الإله بصنع قوم
وهل أرضاه ما نالوه منه
وإن سخط الذي فعلوه فيه
وهل بقي الوجود بلا إله
وهل خلت الطباق السبع لما
وهل خلت العوالم من إله
وكيف تخلّت الأملاك عنه
وكيف أطاقت الخشبات حمل
وكيف دنا الحديد إليه حتى
وكيف تمكنت أيدي عِداه
وهل عاد المسيح إلى حياة
ويا عجباً لقبرٍ ضمّ رباً
أقام هناك تسعاً من شهورٍ
وشق الفرجَ مولوداً صغيراً
ويأكل ويشرب ثم يأتي
تعالى الله عن إفك النصارى
أعبّاد الصليب لأيّ معنىّ
وهل تقضي العقول بغير كسرٍ
إذا ركب الإله عليه كرهاً
فذاك المركب الملعون حقاً
يهان عليه رَبُّ الخلق طُراً
فإن عظّمته من أجل أن قد
وقد فُقد الصليب فإن رأينا
فهلاّ للقبور سَجَدْتَ طُراً
فيا عبد المسيح أفق فهذا
(1/1243)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الاستعداد للموت الذي يدهم فجأة. 2- شدة النزع وألم الموت. 3- ما يستحب
للميت ساعة الاحتضار. 4- وصف وداع النبي الدنيا. 5- حال الصحابة وحزنهم على فراق
نبيهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: اتقوا الله واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، اتقوا يوما تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
عباد الله: إن الله جلت قدرته وتعالت أسماءه، أوجدنا في هذه الحياة من عدم هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكوراً. أوجدنا في هذه الدنيا لا للدوام والبقى، ولكن للموت وما بعد الموت كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون.
حكم المنية في البرية ساري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها سائراً حتى يكون خبرا من الأخبار
كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت)). وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)).
أيها المسلمون: عباد الله: إن الموت مما ينبغي الإستعداد له واستشعار قربه، فإنه أقرب غائب ينتظر، وما يدري الإنسان لعله لم يبق من عمره إلا اليسير، وهو مقبل على دنياه، ومعرض عن آخرته.
تؤمل في الدنيا طويلا ولا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش دهرا إلى دهر
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
ولو لم يكن بين يدي الموت كرب ولا هول سوى سكرات الموت لكان جديرا للإنسان أن يتعظ ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، والعجب كل العجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي يأنس بها مع أولاده وأصدقائه وأقرباءه، وأخبر أن داعيا سوف يحضر ويدعوه إلى أمر من الأمور، لتنكد وتكدر عليه مجلسه، وفسد عليه عيشه، وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ذلك الداعي، فكيف به إذا أيقن أن ملك الموت سوف يدخل عليه في أية لحظة بسكرات النزع، وهو عنه في سهو وغفلة، وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور واشتغال القلب بالدنيا.
فليس للموت يا عباد الله وقت معلوم عند الناس فيخاف في ذلك الوقت ويأمن منه في سائر الأوقات، فليس يأتي في الشتاء دون الصيف، ولا يأتي في الليل دون النهار، ولا يأتي بعد عمر الخمسين فيأمنه من هو دون ذلك، وليس له علة دون علة كالحمى وغيرها، فيأمنه من لم يصبه ذلك. فحق على العالم بأمر الله عز وجل ووهو يعلم أن الله انفرد بعلم ذلك الوقت وعليه فينبغي أن لا يأمنه في وقت من الأوقات، وأن يكون مستعدا له أتم الاستعداد.
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيس من الناس من هم، فقال: ((أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا)).
أيها الأخوة المسلمون: إن ذكر الموت لا بد أن يكون مع تفكر قلب فارغ عن الشهوات، واستحضار لحاله عند الموت وأهواله، وشدائده وسكراته، ولا بد من تفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن، أعاننا الله وإياكم وجميع المسلمين على ذلك، حتى قالوا إن خروج الروح من البدن أشد من الضرب بالسيف، ونشر المناشير، وقرض المقاريض، لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعره، من المفرق إلى القدم، ليستل الروح منها.
فلا تسأل عن كربه وألمه فإنما يصيح المضروب ويستغيث لبقاء قوته. وأما الميت عند موته فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه، لأن الكرب قد بلغ فيه، وغلب على قلبه، وعلى كل موضع فيه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، أما العقل فقد غشيه وشوشة، وأما اللسان فقد حجزه الحال وأبكمه، والأطراف فقد ضعفها وخدرها.
فإن بقيت فيه قوة، سمعت له عند نزع الروح وجذبها غرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأربد وجهه، حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله. وقد جذب منه كل عرق على حدته، فالألم منتشر في داخله وخارجه، حتى ترتفع الحدقتان إلى أعلى أجفانه، وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان، فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيا، فأول ما يبرد قدماه، ثم ساقاه، ثم فخداه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل التوبة من العبد ما لم يغرغر)).
وأما ما يستحب من الأحوال عند المحتضر، فأن يكون قلبه يحسن الظن بالله تعالى، ولسانه ينطق بالشهادة، ويستحب تلقينه لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح من رواية مسلم: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)).
وينبغي للملقن أن يرفق به، ولا يلح عليه وأن يبشر بالجنة، لأنه في ذلك الموضع يا عباد الله يتحير الرجال والنساء، وأن إبليس عدو الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو يموت فقال: ((كيف تجدك؟ قال: أرجوا الله وأخاف ذنوبي، فقال: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجوا، وأمنه من الذي يخاف)).
إلى كم ذا التراضي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي
فلو كنا جمادا لاتعظنا ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت وما نصغي إلى قول المنادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ولكن الذنوب إلى ازدياد
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، واذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة.
واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة.
واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين.
واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجوا بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثر ما في القبور ويحصل مافي الصدور.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعه واقتفى أثره ودعى بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الأسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لاتقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم الي غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)) ، ((إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار)).
أما بعد:
عباد الله: اعلموا ألهمنا الله وإياكم الرضا بقضائه وقدره، ورزقنا وإياكم وجميع المسلمين الاستعداد للقائه أنه ما من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به، وخاضع لسلطانه، ولو جعل الله الخلود لأحد من الخلق لكان الأولى بذلك الأنبياء والرسل، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه، سيد ولد أدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. قال الله تعالى: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون وقال الله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون.
عباد الله: يقول الله عز وجل: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ويقول سبحانه: فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويقول عليه الصلاة والسلام: ((من أراد أن تهون عليه مصيبته فليذكر مصيبته في، فإنها من أعظم المصائب)).
عباد الله: عندما نزلت سورة النصر إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً بكى أبو بكر الصديق رضي الله عنه فتعجب الصحابة لبكائه وقالوا: ما بال هذا الشيخ يبكي، ولم يعلموا أن الله ينعي رسوله إلى أصحابه، ويعلمهم أنه بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا، فلينتظر حتى يأتيه اليقين، وبعد نزول هذه السورة حج عليه الصلاة والسلام حجة الوداع وقال في خطبته ((لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) ، صلى الله عليه وسلم.
وكان جبريل ينزل عليه في كل عام مرة يراجع معه حفظ القرآن، وفي تلك السنة نزل عليه جبريل مرتين يراجع معه حفظ القرآن، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ما أظن أجلي إلا قد حضر)). صلى الله عليه وسلم.
ثم أمر أن يستغفر لأهل البقيع فخرج عليه الصلاة والسلام في جوف الليل ومعه مولاه، فلما وقف بين أظهرهم قال: ((السلام عليكم أهل المقابر، ليهنىء لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولى)) ثم أقبل على مولاه وقال: ((إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقال مولاه: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله لقد اخترت لقاء ربى والجنة)) ثم عاد من البقيع متثاقلا في مشيه، تخط رجلاه الأرض ويدخل صلى الله عليه وسلم بيته، ثم أخذته بعد ذلك بحة وصداع وحمى شديدة، حتي أن أم بشر رضي الله عنها قالت: ما وجدت مثل هذه الحمى التي عليك على أحد يا رسول الله، فقال: إنا يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إنها من الأكلة التي أكلت أنا وابنك بشر بخيبر من الشاة، وكان اليهود عليهم لعائن الله قد أهدوا له شاة مشوية ووضعوا فيها السم، فأكل منها عليه الصلاة والسلام ثم لفظها بعد أن عرف أن فيها سما، ولكن السم لقوته سرى في جسمه عليه الصلاة والسلام، فأوقف الله مفعوله، وكان يعاوده في كل عام في نفس الموعد، حتى كان العام الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام اشتد عليه وكان سببا لنيل الشهادة كما نال النبوة ونال الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وكان إذا خف عليه المرض يصلي بالناس، وإذا اشتدت عليه الحمى أمر أبا بكر يصلي بالناس، وقد تأخرت عائشة في تنفيذ أمره وقالت: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت ،كثير البكاء إذا قرأ القرآن، فقال: ((إنكن صويحبات يوسف، فمره فليصلي بالناس)) "فسمع عمر رضي الله عنه فقال: يأبى الله ورسوله غيرك يا أبا بكر، فذهب الناس وقدموا أبا بكر. وكان عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى بيوت أزواجه كل يوم ليعدل بينهم وهو في مرض موته، حتى عجز عن المشي، فأخذوا يحملونه برداء من جميع الأطراف ويطوفون به بيتا بيتا، حتى يعدل بينهن، وهو يقول بصوت ضعيف، أين أنا غدا، أين أنا غدا، وكان يحب أن يكون في بيت عائشة، فاجتمعت زوجاته صلى الله عليه وسلم وتنازلن عن حقهن فاستقر في بيت عائشه رضي الله عنها.
وكان يشتد عليه الحمى حتى إنه يأتي وقت الصلاة فيهرق على نفسه القربة الباردة ثم يتوضأ، فيغمى عليه، فينتقض وضوئه، ثم يعود فيفيق فيهرق على نفسه القربة الباردة، وهكذا إلى سبع قرب لا يستطيع النهوض ليصلي بالمسلمين، فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس.
ولقد لقي صلى الله عليه وسلم من الموت شدة، وكان بين يديه إناء فيه ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((اللهم أعني على كرب الموت وسكراته، اللهم أعني على كرب الموت وسكراته، ويمسح وجهه، وعائشة تنظر إليه ولا تدري ماذا تصنع، وهو ينظر إلى السماء ويقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)).
ثم جاءته صحوة الموت، فقام وعصبت رأسه وتهلل وجهه كأنه القمر، ودخل على المسلمين وأبوبكر يصلي بهم، فاتكأ على الباب ونظر إليهم، وكان المسلمون لا يفارقون المسجد في مرضه صلى الله عليه وسلم، تركوا الطعام وتركوا الأهل وامتلأ المسجد، وتجد في الصفوف الأخيرة، عمر وعثمان وعلي وعبدالرحمن بن عوف لا يقر لهم قرار ولا يهنئون بمنام يتتبعون أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت آخر صلاة صلاها عليه الصلاة والسلام، ثم عاد إلى فراشه، واشتد عليه المرض، وكان مضطجعا في حجر عائشة، ثم نظر وقال: ((بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، اللهم أعني على الموت وكربته)) ثم انحنى رأسه وخرج رذاذ بارد، من فمه على يد عائشة، فأسلمت رأسه إلى الوسادة، وخرجت تخبر الناس، فلما علموا صاح صائحهم، وأخذ الصحابة يبكون، حتى كاد عمر يفقد عقله: إن رسول الله لم يمت ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى عليه السلام، وسوف يرجع كما رجع موسى، واستل سيفه، وهدد من قال: إن الرسول مات، ثم أقبل أبو بكر، وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة، والرسول مسجى، فكشف عن وجهه وقبله بين عينيه، وقال: بأبي أنت وأمي يارسول الله ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا.
ثم خرج على الناس وعمر يكلمهم ويهدد الصحابة فقال: (أيها الناس: من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت). ثم تلا قوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين. عندها سقط السيف من يد عمر وخر على الأرض وقال بصوت واهي: أهذه آية من كتاب الله يا أبا بكر؟ قال: نعم، عند ذلك أسلموا أمرهم إلى الله، وحملوا جثمانه بعد تحديد قيادة الأمة، وأسلموه إلى قبره صلى الله عليه وسلم وفاطمة تبكي وتقول: كيف هان عليكم أن تسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التراب، وبلال الذي كان يؤذن له، أصبح لا يؤذن بعده وقال: والله لقد أحسسنا بالإيمان ينقص في قلوبنا من يوم أن دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1/1244)
حديث زينب في الإنفاق - يوغسلافيا
العلم والدعوة والجهاد, فقه
أحاديث مشروحة, الزكاة والصدقة, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/10/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث زينب الثقفية في الإنفاق في سبيل الله. 2- الكذب يوقع في الحرج ولا يخلص
منه. 3- الحديث يحث المرأة على حضور مجالس العلم بوقار المسلمة وحشمتها. 4- تفجر
الصراع في يوغوسلافيا. 5- دعوة لمد يد العون للمسلمين في البوسنة. 6- عمل المرأة الطمع
في راتبها. 7- في دروس الحديث ستر أسرار البيوت ، والصبر على شظف العيش.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اتفق البخاري ومسلم واللفظ لمسلم ، عن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تصدقن يا معشر النساء ولو من حُليكن)) قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود ، فقلت له:إنك رجل خفيفُ ذات اليد-أي قليل المال-وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة ، فأته فاسأله فإن كان ذلك يُجزئ عني-تقصد أنها تريد أن تدفع صدقتها له لأنه محتاج-تقول فإن كان ذلك يُجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم ، فقال عبد الله:لا ، ائتيه أنت فانطلقتُ ، فإذا امرأة من الأنصار باب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه المهابة ، فخرج علينا بلال ، فقلنا له:إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أن امرأتين في الباب تسألانك:أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام حجورهما؟ ولا تخبره من نحن. فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال الرسول : ( (من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الزيانب هي " قال: امرأة عبد الله. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة)).
والحديث متفق عليه كما سبق واللفظ لمسلم. رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.
أيها المسلمون: نقف معكم ، ودروس وفوائد هذه الحادثة الجميلة ، الدرس الأول:من هذه الحادثة الموقف الحرج والطريف الذي وقع فيه بلال رضي الله عنه ، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين وصية الصحابيتين له ، بعدم ذكر اسميهما كثيراً ما تمر علينا مواقف حرجة ، وعندما يحاول البعض منا الخروج من هذا الموقف المحرج ، نراهم يقعون في الكذب ، سواءً علمه الناس أو كان بين الواحد منا وبين ربه، ولكم أيها الأخوة في التورية مندوحة عن الكذب إذا احتيج إلى ذلك.
فهذا بلال رضي الله عنه ، حاول التورية لكي يُنفذ ما طلبته الصحابيتان منه ، بقوله - امرأة من الأنصار وزينب-والزيانب كثيرات ، ولكن فطنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه أوقعت بلال في موقف ، فلم يجد مخرجاً منه غير الصدق ، لأنه يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة ، ولأن ليس أمامه إلا التصريح ولا مضرة في ذلك.
فإذا وقعت أخي المسلم في موقف محرج ، وكان لا بد عليك من قول الحقيقة ، سواءً أحرجك رئيسك في العمل ، أو أُحرجت مع كبير في عائلتك أو حتى لو أحرجت بسؤال من طفلك الصغير ، فاحذر أخي المسلم الكذب ، فربما هذه الكذبة يُخلصك من ذلك الموقف المحرج ، لكن ما الذي يُخلصك من محاسبة ذلك أمام رب العزة يوم القيامة.ثم أليس يكون الموقف أكثر حرجاً لو كشفت عورات هذه الكذبة أمام من خلصتك نفسك منه.فإذا كان لابد ، فإن في التورية مندوحة عن الكذب إذا احتجت إلى ذلك كما تقدم.
درس آخر من الحادثة:
إن مجال الخير ليس مقصوراً على الرجال دون النساء ، والباب مفتوح للجميع ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخص فيها النساء بموعظة وتذكير، ويحث النساء على التصدق ، والأصل في الأوامر أنها للرجال والنساء معاً ، ما لم يدل الدليل على التخصيص ، ففي هذا الحديث تشجيع عام للنساء للإقبال على الأعمال الصالحة كحضور المحاضرات والدروس التي يوجد فيها مكان مخصص لهن ، إذا كان ذلك لا يخل بواجب ولا يعرضها لفتنة ، وهناك تشجيع خاص في الحديث بل حث للمرأة المسلمة على الإنفاق في سبيل الله.
وبهذه المناسبة أوجه نصيحة للأخوات المسلمات بالتنبيه لهذا الأمر ، أمر الصدقة والإنفاق ، وإن كنت لأعلم بأن المرأة لن تسمعني الآن ، لكن وليّ أمرها موجود الآن ، إما أب أو زوج أو أخ ، فليتنبه هو لهذا الأمر ، لتتنبه هي.
أيها المسلمون: إن ما ينفق على الكماليات والزينة والأزياء في وقتنا هذا ، بلغ والله من الإسراف ما الله به عليم.بل تجاوز وطغى في كثير من الأحيان ، وكثير من المناسبات.
فهل تنبه أولياء أمور النساء لهذا الأمر ، وحاولوا إيقاف أو - على أقل تقدير - تخفيف هذا السيل وهذا الكم من الأموال التي تصرف في غير وجه صحيح.
ما الحاجة لأن يكون لكل مناسبة زي خاص ، ولكل دخول وخروج رسمة معينة.ولكل وقفة صبغة ولون معين.
متى تدرك النساء ، ويدرك أولياء أمورهن خطأ وتجاوز حد مثل هذه الأمور ، وأنه غالبه من الإسراف المحرم.المعقول معقول وما تحتاجه المراة ،لكساءها وزينتها فهو مقدر، لكن هذا الهوس من الكماليات ، وهذا الإفراط في الزينة والأزياء ، لا يرضى به عاقل ، قبل أن يرضى به مسلم.
متى تدرك النساء ويدرك أولياء أمورهن بأن هذا بعض من الغزو الموجه لنا ، لاستنزاف أموالنا ، وتخريب أخلاقنا.
أيها المسلمون: ذكرنا في الجمعة الماضية بعضاً وطرفاً مما يعانيه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، فقر وجوع وأمراض ، وتسلط من حكوماتهم عليهم في أغلب الأحوال فوق ما هم فيه من البلاء.
فما يعانيه الأكراد في العراق أمور ليست خفية على أحد ، وما يحصل الآن للمسلمين في يوغسلافيا من الإبادة بأبشع صورة وليس لهم ذنب إلا لأنهم مسلمون ، أمر صار يعرفه القريب والبعيد.
كلنا يذكر الحرب التي قامت بين جمهورية صربيا النصرانية والتي تعتقد المذهب الأرثوذكسي ، وجمهوريتي كرواتيا وسلوفانيا اللتان عقيدتهما المذهب الكاثوليكي. وكلاهما نصارى ، فعندما قامت بينهما الحرب بعد تفكك يوغوسلافيا سعى الغرب كله ، بقضه وقضيضه ، لحل المشكلة ووقف القتال بينهما ، لأنهم نصارى ، وإن اختلفت مذاهبهما.
والجميع يذكر كيف سعت الأمم المتحدة لوقف القتال وأرسلت قوات حفظ السلام ، وأرسلت مراقبين لها على الأوضاع ، وصورت الأمر للعالم كالمأساة التي لابد أن توقف ، حتى لا يتسع الصراع ويتساقط ويزداد عدد القتلى. وإن لم يوقف ذلك فإن الحرب الأهلية سوف تقوم بين الجمهوريات.
والآن ماذا يحصل في يوغسلافيا ، نشب القتال بين جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة!
وصربيا الصليبية ، فلا هيئة أمم ولا مراقبين ولا مساعي لوقف القتال ، بل يصل الأمر إلى اللامبالاة ومحاولة نسيان ذلك ، والمسلمون يُقتلون ويشردون ، وتهدم قرى بأكملها ، والعالم الصليبي يتفرج بل ويشجع على ذلك ، وفوق كل هذا المسلمون غافلون عن إخوانهم هناك ، بل ربما البعض لا يدري بأن أمر حاصل الآن.
المطلوب منكم أيها الأخوة المسلمون نصرة إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك والوقوف معهم ومساندتهم واستشعار أوضاعهم هناك ، ونداءاتهم لنا ، والتنبه من تلاعب الإعلام الغربي ، ويكفي النتائج التي خلفها الإعلام الغربي من طمس لهويتهم لسنوات عديدة.
والمطلوب أيضاً دعمهم معنوياً ومادياً وبشكل عاجل، فلقد تكالب واتفق عليهم أهل الباطل مع ما هو معروف بينهم من حرب ضروس ، اتفقوا على إبادة المسلمين في يوغسلافيا ، لا لذنب ارتكبوه، ولكن لأنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد فنساؤهم ترملت، وأطفالهم تيتمت، وأعراضهم انتهكت، وشبابهم عذبوا ومثل بهم ، ومع هذا كله فهم صامدون ولله الحمد ولسنوات عديدة ، حتى إنهم كان يعرض عليهم أعلى المناصب في سبيل التخلي عن دينهم ولكنهم يرفضون ، مواقف مشرفة من هذا الشعب ، نسأل الله العلي القدير لهم الثبات.
وسوف يقف أخوة على الأبواب لجمع تبرعاتكم وصدقاتكم لإخوانكم المسلمين هناك ، قال عليه الصلاة والسلام: ((من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)).
وما حصل وما زال مستمراً للمسلمين في الجزائر أوضاع يعلمها الخاص والعام ، أضف إلى ذلك أحوال أخرى في الصومال وفي السودان وكشمير والهند وغيرها وغيرها.
فهل خففت المرأة المسلمة من كمية مكياجها وصبغة وجهها ، وخصصت هذا المبلغ الزهيد للإنفاق في سبيل الله ، ومساعدة المنكوبين من المسلمين ، وهلا حدّ الزوج ووليّ أمر المرأة المسلمة من ذلك ، وتنبه إلى هذا الإسراف المسرف، لو فعلوا ذلك لكان خيراً لهم وأعظم أجراً.
درس آخر: كم وكم يسمع الواحد منا من مواعظ أو كلمات أو خطب عن طريق الدروس والمحاضرات أو الأشرطة أو المذياع أو غيرها ، مما تأمرنا بمعروف وتنهانا عن منكر ، ولكن هل أحس كل واحد منا أنه هو المعني بالخطاب؟ فامتثل الأمر ، واجتنب النهي واتق الله.
والصحابة رضوان الله عليهم ، كل واحد منهم عندما يسمع الخطاب ، يعتقد أنه هو المخاطب به ، دون سواه ، وبهذا الأدب في الاستماع يبادر الجميع إلى العمل ، كما ترى في هاتين الصحابيتين رضي الله عنهما.
وهذا ما تعلمه الصحابة رضوان الله عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم : العلم والعمل لابد أن يكون لك هذا الشعور حين سماعك لوحي الكتاب والسنة ، بأنك أنت المخاطب وحدك لا غير فإذا قرأت في القرآن ، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فأنت المخاطب وإذا قرأت ، يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ، ويا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً ، فأنت المخاطب ، لا أحد سواك ، وإذا قرأت ، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، فأنت المخاطب. وإذا سمعت ، ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب)) فأنت المخاطب ، وإذا سمعت ((لا يحل مال امرءٍ مسلم إلا بطيب نفس منه)) ، فأنت المخاطب.
فاتقوا الله أيها المسلمون: يا من تقرأون وتُقرأ عليكم الآيات والأحاديث لما نزلت هذه التوجيهات؟ ومن هم المخاطبون بها؟ إنها والله ما نزلت إلا لنا ، ونحن المخاطبون بها الآن ، ونحن المحاسبون عن مخالفتها غداً. فهل نعي هذا.
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المسلمون: ومع درس آخر ، من هذه الحادثة:
كان رجال الصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، يعلمون ويشعرون بقوامة الرجل على المرأة ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، تحّرج من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم ، عن صحة إنفاق زوجته عليه وعلى أبنائه مع حاجته الماسة والشديدة إلى ذلك ، لأنه كان خفيفي ذات اليد ، أي قليل المال ، فاستحيا أن تنفق عليه المرأة ، فقال لها: لا بل اذهبي أنت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسأليه عن ذلك ، فهل يستفيد درساً من هذه القصة أولئك الرجال في وقتنا المعاصر ، وما أكثرهم لا كثرهم الله ، الذين يتربصون بما في أيدي النساء ، ويرضون أن يكونوا عالة عليها أما يستحي أمثال هؤلاء الرجال أن يكون عالة على زوجته ، لو كان محتاجاً فلا حرج ، لكن الذي نشاهده في واقعنا أن أغلب الرجال الذين من هذا الصنف ، تجده يحرص جداً على أن تبقى زوجته في العمل ، ولو كان لديهما عدداً من الأطفال ، هم أحوج ما يكونون إلى حنان وعطف الأم ، وأن تبقى بجانبهم معظم اليوم ، فتجد هذا الرجل ، يأتي بخادمة لتبقى مع الأولاد في الصباح ، وتذهب هذه المسكينة إلى العمل من الصباح الباكر حتى منتصف النهار ، ويذلل كل الصعاب التي ربما تواجههم في سبيل أن تعمل زوجته كل ذلك ، طمعاً في راتبها ، وجشعاً وحرصاً في هذا المال ، وشهوة في المزيد.
نعم ، لو كانت الأسرة محتاجة ولها ظروفها فلا حرج في أن تعمل المرأة ، وتساعد زوجها ، لكن السؤال الآن هل كل الأسر في حاجة ماسة وضاقت بهم سبل الحياة والعيش حتى تعمل المرأة؟ لا أظن ذلك.
فليستفد درساً أولئك الأزواج من عبد الله بن مسعود ، وليشعروا بقوامتهم على المرأة ، وليستحوا وليخجلوا أن يكونوا ، عالة على زوجاتهم.
جانب آخر في طمع بعض الرجال في راتب المرأة ، وهذه الصورة أبشع من أختها وأشد إثماً عند الله عز وجل ، وهو ما يفعله بعض الآباء ، وذلك بأن يعضل بعضهم ابنته عن الزواج ، يتقدم الخطاب ، ويتقدم الأكفاء لخطبة هذه المرأة ، فيُرد هذا ، ويرفض هذا ، ويعرقل الآخر ، ويأتي ، بسبعين عيباً في الذي يليه ، وهو كاذب في كل هذه الحجج ، ويتظاهر بأنه يريد مصلحة ابنته ، ولا يريد أن يلقيها لأي أحد ، ويريد أن يطمأن على مستقبلها، وهو في الحقيقة ما أراد إلا أن يكسب من ورائها شيئاً من حطام الدنيا ، لأن ابنته مدرسة أو موظفة ، وهو الذي يستلم مرتبها في آخر الشهر.
ربما يستغرب بعض الآباء الآن وهم يسمعون مني مثل هذا الكلام ، لأن نفوسهم أبية ، ولم يخطر في بالهم في يوم من الأيام أن يستغلوا أحداً من أولادهم ، بل تجد أن الولد أو البنت كل منهم يعمل وله دخله الشهري أو البنت كل منهم يعمل وله دخله الشهري ومع ذلك يعطيه الوالد ولا يبخل عليه.
فإذا كان هناك صنف من الآباء بهذا المستوى وبهذا الخلق الرفيع وهم والحمد لله موجودون ، لكن ليعلموا أن الصنف الآخر أيضاً موجود. وهناك من الآباء - ووصلتنا حالات من هذا النوع قلوبهم والعياذ بالله - كالذئاب ، ولا يخشون الله أبداً ، يعرقل ويؤخر زواج هذه المسكينة الضعيفة التي ولاه الله أمرها ليستفيد مدة أطول من راتبها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما يخشى هذا الأب أن يسلط الله عليه مرضاً من الأمراض ينكد عليه حياته ، ويجعله لا يهنأ بشربة الماء الذي يشربها ، فضلاً عن تمتعه بأموال غيره.
نعم لو كان الأب فعلاً في حالة عُسْرٍ فإن أولى الناس وأوجب الناس عليهم أن يساعدوه أولاده، ذكوراً وإناثاً.
وأنا أعلم شخصياً حالات بعض الأسر، الأب في حالة شديدة من ضيق العيش ، لكنه رجل صالح وابنته صالحة.فتقدم لها رجل كفؤ ، فزوجها مباشرة ولم يتأخر ، وكانت موظفة ، ومازالت تعمل لأبيها وهي في بيت زوجها.تعمل وفي كل شهر توصل الراتب كاملاً لأبيها برضى الزوج والتفاهم الطيب بين الجميع.
تتمتع هي بحياتها الزوجية ، وتساعد والدها في نفس الوقت.
لكن ليس كل من يعضل ابنته يكون في حاجة شديدة.لكنها شهوة المال وطمع الدنيا ، ورقة في الدين ، وقلة الخوف من الله.
درس آخر: وسنمر على بقية الدروس بسرعة خشية الإطالة:
حب الزوج وستر حاله ، ونرى ذلك في مساعدة الزوجة زوجها وأبنائها بالصدقة وستر أمر الزوج وفقره عن الناس ، عندما طلب الصحابيتان رضي الله عنهما من بلال عدم ذكر اسمهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلنحذر من أسرار البيوت وإفشاءها بين الناس ، ولو كانت أموراً عادية.
درس آخر: التحلي بالصبر.
ومن أنواعه الصبر على ضيق العيش ، فهاتان الصحابيتان صابرتان محتسبتان على شظف العيش مع أزواجهما من غير تذمر ولا سخط ولا غضب ، بل إنهما تكتسبان وتنفقان وإنما تحرجتا من إنفاق الزكاة الواجبة على الزوج ومن في حجورهما من الأيتام فسألتا عن ذلك.
درس آخر: الذي يجهل حكم مسألة عليه أن يسأل أهل العلم فيما يعرض له من مسائل في الدين والدنيا ، سواء امرأة أو رجل فإنه لا حياء في الدين ، لكن المرأة إذا أمكن لها أن يكون ذلك بواسطة زوجها أو قريب محرم لها كان أفضل ، وذلك ما بدأت به زينب رضي الله عنها.
ومن أسهل الطرق وبحمد الله في وقتنا هذا الهاتف ، فأرقام أهل العلم من المشايخ متوفرة ، ولا يبقى إلا كسر حاجز الشيطان الذي يضعه أمام كل مؤمن ومؤمنة ، ليمنعه من معرفة الحكم الشرعي الصحيح.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي..
(1/1245)
حديث بعثت بالسيف
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/10/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص حديث : بعثت بالسيف. 2- لا يقوم الدين إلا بالقرآن والسيف. 3- أمر الرسول بقتل
وقتال وجهاد ستة أنواع من الناس. 4- غاية وهدف الجهاد الإسلامي. 5- أسباب عزة المسلمين
وأسباب ذلتهم. 6- حديث (جئتكم بالذبح). 7- خطر مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
8- ظاهرة التشبه بالكفار والمغنيين واللاعبين. 9- موقف في عزة المؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له)) – وفي رواية – : ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذَّلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
لا عجب أيها الأخوة ، إذا قلنا ، بأن كل حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يناسب أن يكون موضوع خطبة ، أو محاضرة أو درس يقدم للناس ، لا عجب في ذلك ، لأنه كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وما خرج منه عليه الصلاة والسلام فهو حق ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وحديث ابن عمر هذا ، حديث عظيم جداً ، لو أردنا بسط الكلام فيه ، لأخذ منا عدة جمع ، لكن حسبنا بعض الإشارات. يقول عليه الصلاة والسلام: ((بعثت بالسيف)) لماذا؟ ((حتى يعبد الله وحده لا شريك له)).
فالرسول عليه الصلاة والسلام بعث بالسيف ، كما أنه بعث بالوحي ، ولهذا قرن الله جل وتعالى بينهما في كتابه فقال: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد.
فالأمران مجتمعان ، فلا يمكن للدين أن يقوم إلا بالأمران معاً ، ولم تقم قائمة دولة الإسلام الأولى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالأمران ، ومن كان يظن بأن الدين سيمكن ، وسوف تستقر دعائمه ، ويثبت أركانه ، بشيء واحد من الأمرين ، فهو مخطئ ، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ لكلا الأمرين عدته ، وبذلك الأمران انتشر الدين ، وكانت دولة الإسلام ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، ودحر أعداء الإسلام ، وأخرست ألسن المنافقين ، وأبطلت حيلهم وكيدهم ، فلا غنى لهذا الدين في كل زمان من الكلمة والبيان ، ومن السيف والسنان.
ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بستة أسياف:
السيف الأول: على المشركين قال الله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة.
السيف الثاني: على أهل الكتاب من اليهود والنصارى قال الله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
السيف الثالث: على المنافقين قال الله تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.
السيف الرابع: على البغاة ، قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما. هذه الأسياف الأربعة جاءت في كتاب الله جل وتعالى.
السيف الخامس: على المرتدين عن الإسلام بعد الدخول فيه ،كما في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)).
السيف السادس: على المارقين من أهل البدع كالخوارج ونحوهم ،وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم وأن الله عز وجل قد ادخر أجراً عظيماً لمن قتلهم.
هذه هي الأسياف التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فما غايتها؟ غايتها: حتى يعبد الله وحده لا شريك له.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ولم يحمل السيف لكي يخضع الناس لحكم العرب ، ولم يبعث لجمع الأموال ، ولم يبعث لكي يدير رحى الحروب والمعارك ، إنما بعث صلوات ربي وسلامه عليه ، ليخضعهم لحكم الله عز وجل. وليزيل الفتنة التي قد يتعرض لها المؤمنون كما قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وبهذا السيف صار المؤمنون أعزة ، وبهذا السيف صار المسلمون أقوياء ، ودانت لهم الشعوب والأمم ، وهذا سبب من أسباب عزتهم، ألا وهو حمل السيف في وجوه أعداء الله ، وإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمات ولافتات وشعارات من سواه هي السفلى. قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فلماذا سلط الذل على المسلمين الآن ، لأنهم تبايعوا بالعينة ، أي بالربا ، واشتغلوا بالدنيا والزرع ، وتركوا الجهاد ، وسيبقى هذا الذل مضروباً على أعناق المسلمين ، مادام ا لربا قد ضرب بأطنابه في بلادهم ، وسيبقوا أذلة مادامت سيوفهم منكسة ، بل لم يملكوا السيوف حتى الآن ، ولم يفكروا في رفعها ، وستبقى عليهم الذلة ماداموا يأخذون بأذناب البقر ، وماداموا منشغلين بزروعهم وتجاراتهم ودنياهم.
فأسباب العزة ، واضحة جلية في هذا الحديث، ومحل شاهدنا منه ترك الجهاد ، وخفض السيوف.
إن أعداء الله ، والمحاربين لهذا الدين لابد أن يخوفوا بالسيف أحياناً ، ولابد أن يعلموا بأن مقاومة الدين ، قد يعرضهم للسيف والذبح، وهذا أحد الوسائل التي استخدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرء شر وفتنة وأذى كفار قريش.
روى ابن إسحاق في السيرة بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أنه سئل عن أشد ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين في مكة ، فقال عبد الله: كنت عندهم يوماً من الأيام ، وقد اجتمعوا في الحجر ، فتذاكروا ما دخل عليهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من شأن هذا الرجل ، لقد شتم آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وفرق جماعتنا ، إذ دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت ، واستلم الركن ، حتى إذا طاف بهم غمزوه ببعض القول ، قال عبد الله بن عمرو: فعرفت ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فمر ولم يقل شيئاً ، ثم مر بهم الثانية ، فغمزوه ببعض القول ، فمر ولم يقل شيئاً ، ثم مر بهم الثالثة ، فغمزوه ببعض القول ، فالتفت إليهم وقال: ((تسمعون يا معشر قريش ، والله لقد جئتكم بالذبح ، والله لقد جئتكم بالذبح)) قال: فأخذت القوم كلمته ، حتى ما كان منهم أحد إلا وكأنه على رأسه طائر واقع. فأحياناً لابد من تذكير كل من يحارب الدين ، بهذه القضية.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي)).
سبحان الله ، الرزق الذي يظن كثير من الناس هنا أو هناك ، أو أنه بيد كذا أو بيد فلان ، يحسم القضية عليه الصلاة والسلام بأنه رزقه تحت ظل رمحه ، وهذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل هو عام ، والمعنى بأن المسلمين الحقيقيين لا يشتغلون بالدنيا عن الجهاد في سبيل الله ، بل يجاهدون ، ويحاربون ، ويستعدون لهذا الأمر، والله جل وتعالى يرزقهم من عدوهم.
ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفة المنصورة قال: ((ويزيغ الله قلوب أقوام ويرزقهم منهم)).
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري.
إن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ذلة وصغار ، ولهذا فإن المسلم عزيز والمخالف ذليل ، أياً كان هذا المخالف وأياً كانت المخالفة ، فبمقدار المخالفة تكون الذلة. وفي هذا إشارة إلى أن المطيع عزيز ، والفاسق والعاصي والمخالف ذليل.
إن أصحاب المعاصي والفسوق والفجور والمخالفات ، لهم من الذلة في الدنيا ، ولهم من الذلة عند الموت، ولهم من الذلة في القبر، ولهم من الذلة في الآخرة بقدر ما معهم وما فيهم من المخالفة والمعصية.
إن المخالفة تقسي القلب ، وتوهن البدن ، وتضعف الحفظ والاستيعاب ، وتذهب الحياء والغيرة ، وتضعف تعظيم ووقار الرب ، وربما والعياذ بالله تنكس القلب ، وتزيفه عن الحق.
إن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم واستخدام الجوارح في ذلك ، تعد خيانة للجوارح التي خلقها الله لتستعمل في طاعته. كم أذلت المخالفة أعناقاً طالما ارتفعت ، وأسكتت ألسناً طالما نطقت وتكلمت ، وأصمت آذاناً طالما استمعت ، وفرقت أسراً ومزقت جموعاً طالما اجتمعت. احذر المخالفة أخي المسلم أياً كانت هذه المخالفة فإن لها حامياً غيوراً يراقب السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
إن المخالفة أضر على المسلم من ضرر السم في جسده ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الناس ، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب ، ووهناً في البدن، ونقصاناً في الرزق، وبغضاً في قلوب الناس.
قال الله تعالى: ومن يهن الله فما له من مكرم. وقال سبحانه: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نورٍ كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: اللهم أعزنا بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية.
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: إنهم وإن هملجت بهم البغال ، وطقطقت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية في رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري – وفي هذا أيضاً إشارة إلى أن عز المسلم بالجهاد وذل غيره بالمخالفة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ختم المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم بقوله: ((ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
الذي يتشبه بقوم فهو منهم، وفي الغالب تجد أن المتشبه يجد في نفسه من التعظيم والتوقير لمن تشبه بهم ، ولذلك تجد أن الغالب لا يقلد المغلوب.والكبير لا يتشبه بالصغير ، والعزيز لا يمكن أن يتشبه بالذليل، والعكس هو الصحيح.
وفي الغالب أن الأقل هو الذي يتشبه بالأرفع والأكمل والأحسن ، على أقل تقدير في نظره. وإلا لما تشبه به. وفي هذا المقطع من الحديث يؤخذ منه تحريم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم سواءً كان شيئاً من دينهم أو ملابسهم أو أحوالهم وعاداتهم ، فكل ما كان من خصائصهم وعرف أن هذا لهم فقط فإنه يحرم على المسلم أن يتشبه بهم.
وقد ألف شيخ الإسلام في هذا الشأن كتابه الفذ اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. وقال عن هذا الحديث: ((ومن تشبه بقوم فهو منهم)) : إن أقل أحوال هذا الحديث يقتضي تحريم التشبه بالكفار وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم ، لأن قال: ((فهو منهم)).
إن الأصل في المسلم أنه عزيز ، ولابد أن يستشعر هذه العزة ، وأن لا يرضى لنفسه أن يتشبه بمن هو أقل منه مكانة وإن كان مسلماً ، وإن حصل شيء من هذا فإنه يدل على ضعف شخصيته ، واهتزاز رجولته ، وعدم الثقة بنفسه ، كما هو شأن بعض شباب المسلمون هداهم الله ،تجد أن هذا يحاول أن يقلد ويتشبه باللاعب الفلاني ، وآخر يقلد المغني الفلاني ، وثالث يقلد ويتشبه بالممثل الفلاني. كل هذا على فرض أنهم مسلمين فإن هذا لا يسوغ ، ويدل على الهزيمة النفسية.
أما التشبه بأعداء الدين فإن هذا أقبح وأقبح لماذا؟ لأن المسلم كما قلنا عزيز وهم أذلة. وإن وقع تقليد الأعداء والكفار والغرب ، فإن هذا يدل بلا شك على ضعف الإيمان في قلب المتشبه، واهتزاز عقيدته ، فتجده ينظر إلى الغرب نظرة إعجاب وإكبار والعياذ بالله، وهذه قضية عقدية خطيرة. وقد تؤدي إلى الردة عن دين الإسلام نعوذ بالله من الخذلان.
تبدأ بالتشبه بهم في لباسهم أو طريقة أكلهم ثم شيء من عاداتهم وتقاليدهم ، ثم أخذ وتقبل بعض أفكارهم وتصوراتهم ، ثم الدخول في دينهم.
إن المسلم عزيز ، وهذه العزة لابد أن تجعله لا ينظر لغير المسلمين نظرة إعجاب وإكبار.
استمع معي أخي المسلم إلى هذا الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه ، وتأمل فيه يتضح لك ما أقول: ذهب حكيم بن حزام إلى السوق يوماً فوجد فيها حُلة تباع ، وكانت حلة نفيسة جميلة ، فقال: حلة من هذه؟ قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك اليمن ، فاشتراها حكيم رضي الله عنه بخمسين ديناراً ، ثم ذهب وأهداها لرسول صلى الله عليه وسلم، فلبسها رسول الله وصعد بها المنبر فما رُأي حلة أجمل منها وهي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الصلاة والسلام وألبسها لأسامة بن زيد رضي الله عنه ، لأنه عليه الصلاة والسلام كان عازفاً عن الدنيا ، فلبسها أسامة وكان آنذاك فتاً صغيراً وكان رضي الله عنه دميم الخلقة ، وكان أبوه مولى ، فلبسها أسامة ونزل بها السوق ، فرآه حكيم ولم يكن قد أسلم بعد ، فقال له: حلة من هذه؟ فقال: حلة ذي يزن ملك اليمن ، فقال له حكيم: أو تلبس أنت حلة ملك اليمن؟ قال: نعم ، أنا خير من ذي يزن ، قال: نعم والله أنا خير من ذي يزن ، وأمي خير من أمه ، وأبي خير من أبيه.
فتأمل يا عبد الله ، شاب صغير من شباب المسلمين لديه الشعور بأنه خير من ملك اليمن ، لماذا؟ لأنه مسلم ، وذاك كان كافراً.
ونحن ومع كل أسف يفتخر الواحد منا لأنه قد قلد أو تشبه بفلان أو فلان من شخصيات تلك الأمم الكافرة.
اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك.
(1/1246)
شرح حديث: ((كيف أنت يا عبد الله))
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/10/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الحديث. 2- كثرة الحثالة في آخر الزمان. 3- ماذا يصنع المسلم إذا فشت المنكرات وكثرت الحثالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بين فترة وأخرى، نختار حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ونقف عنده، وسبق أن ذكرنا، بأن كل حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يناسب أن يكون موضوع خطبة أو محاضرة أو درس يقدم للناس. فمن كلامه يمكن أن يتعرف الناس على واقعهم، ومقدار القرب والبعد عما يريده الله منهم.
حديثنا هذا اليوم، هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد وبسند صحيح، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنت إذا بقيت في حثالة الناس؟ قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: إذا مَرِجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، قال قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟قال: اتق الله عز وجل وخذ ماتعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)).
ومن عجيب فقه الإمام البخاري رحمه الله تعالى أنه أورد هذا الحديث تعليقاً في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.
ورواية الإمام أبي داود في كتاب الملاحم.
قال: ((كيف بكم وبزمان، أو يوشك أن يأتي زمان، يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس.قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، فقالوا:كيف بنا يا رسول الله، فقال:تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم)).
وفي رواية قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه، قال فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فِداك؟ قال :الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)).
أول نقطة في هذا الحديث العظيم، ينبغي الوقوف عنده:قوله:كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟
الحثالثة: هي التي في آخر الإناء.
والحثالة: هو الردئ من كل شيء، فحثالة التمر هو أردؤه، وما لا خير فيه. وكذلك الحثالة من الناس، هم أراذل االناس وشرارهم وسفلتهم، وهم الذين لا خير فيهم.
نعم أيها الأحبة: إن فئة من الناس قد يصلون إلى هذا الأمر، الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حثالة من الناس.ولا أظنك أخي المسلم، محتاج إلى كبير جهد، لكي تجد بعض أفراد هذا الصنف من الناس، ومع كل أسف، فإن هذه الحثالة بدأت تنمو، وتزداد، وتتكاثر حثالة في كل طبقة، وحثالة في كل ناحية هذه الحثالة لا يهمها أمر الناس، لا يهمها إصلاح وضع، ولا يهمها إزالة خطأ، ولا يهمها نشر وعي وخير بين الناس، لأنهم حثالة، يعيشون لبطونهم، ويعيشون لشهواتهم ولا يهمهم إلا أنفسهم، المهم أن يبقى ويأكل ويشبع ويجمع وما سوى ذلك فليس في تفكيره.
كم أيها الأحبة ممن نعرف وممن لا نعرف بهذه الصفة. لا تهتم الواقع، ولا يؤلمها آلام الغير، ولا تكترث لأحد، ينام ملئ عينه، ويأكل ملئ بطنه، ويضحك ملئ فمه، وبعد ذلك فليحصل ما يحصل إذا كثر هذا الصنف من الناس في مجتمع أو بلد أو أمة، فإن هذا مؤذن بخطر، المسلم لا ينبغي له أن يعيش لنفسه فحسب، إن هذا هو عيشة الحيوانات والبهائم.
الأصل في المسلم أن يعيش لغيره، لأنه لا ينظر فقط إلا عمر هذه الحياة الدنيا بل هو يعتقد بأمور وقضايا وراء هذا العالم المحسوس.الحثالة من الناس هم الذين يعيشون لأنفسهم ولا يفكرون إلا في ذواتهم لا يهمهم لو زاد المنكر، ولا يهمهم كذلك لو نقص الخير لا يحزنون لو مات عالم، ولا يفرحون لو ولد عالم، الحثالة من الناس لا يتفاعلون مع أحداث الأمة، لا يقلقون لتغريب، ولا ينزعجون بتطبيع، فاحذر أخي المسلم أن تكون من هذه الحثالة، فإنك ما خلقت لتكون حثالة، وما أصبحت مسلماً وانتسبت إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتكون من حثالة الناس، بل الذي يطلبه منك الإسلام، أن تنظف المجتمع من الحثالة، لا أن تبقى معها، وتسير في ركابها.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من حال هذه الحثالة فقال: ((قد مرجت عهودهم وأماناتهم أي اختلفت وفسدت، لا عهد لهم ولا أمانة)).
وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم الحال الذي يصل إليه الناس إذا فسد العهد، وفسدت الأمانة، بالإضطراب والتشابك وتعقد الأمور فشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه لكي يعطي تصوراً للواقع الذي تصل إليه الأمة، وأي سوء لواقع ولوضع لا يعرف فيه الأمين من الخائن، ولا يعرف البر من الفاجر، ولا الصالح من الكالح، أي مصيبة لوضع، تكثير فيه الخيانات، وتضعف فيه العهود على مختلف الطبقات والمستويات ويكثر فيه القيل والقال، يصل الحال إلى حد التشابك، التشابك في التصورات، والتشابك في الرؤية، والتشابك في معرفة العلاج لكثير من صور الخيانات ونقض العهود كيف يكون حال الأمة إذا أصبحت الخيانة هي السلعة الرائجة، وكيف حال مجتمع، يقدم فيه الخائن، ويؤخر الأمين.
حقاً: إنها لمأساة، ما أسوأه من حال، وما أفسده من وضع، ولهذا خاف الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يدرك ذلك الوضع، وحُق له أن يخاف، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المخرج والحل، وماذا يصنع عند ذاك. وفي رواية قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ وهذا هو المطلوب من المسلم، أن يسأل أهل العلم، وأن يأخذ بآراء أهل الخبرة والفقه في الأمور، وأن يلجأ إلى العلماء في حال الفتن، واشتباك الأمور، ولا ينفرد هو برأيه وعقله.فماذا كان العلاج النبوي لذلك الصحابي الجليل حول مرج العهود والأمانات والتشابك والإضطراب في حال الناس.
قال صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) ، إن هذه الوصفة النبوية، اشتملت على خمس فقرات، كل فقرة، تحتاج إلى خطبة مستقلة.
فأولاً: قال: اتق الله عز وجل.
والتقوى في مثل هذه الحالات هو العاصم بأمر الله عز وجل، التقوى: وصية الله للأولين والآخرين، وهل تظن أخي المسلم، أن من يحمل التقوى، تختلط عهودهم، هل من يحمل التقوى تحصل منه خيانة، لنفسه أو لدينه، أو لبلده التقوى ليست كلمات تردد، ولا تسابيح تعد. التقوى أخي المسلم أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
التقوى هي العاصم إذا تداعت الخطوب وادلهمت الأمور، وضاقت المسالك: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا إذا اشتبكت الأمور بالتقوى هي الفرقان: يا أيها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا.
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أكد على مسألة التقوى قال: ((خذ ما تعرف ودع ما تنكر)). نعم خذ ما تعرف، والذي لا تعرف أو فيه شك فهذا دعة.
ما هي مشكلة الأمة الآن من حثالة الناس، المشكلة أن هذه الحثالة لا تتورع فيما تأخذ، ولا تتقي الله فيما تأخذ، هدفها الأخذ، شئ من الحلال، والباقي والغالب نسأل الله العافية من الحرام.
وهذا أخي المسلم، أحد النتائج المترتبة على المجتمع الذي قد اختلط وفسد فيه عهود الناس وأماناتهم، إذا قلت الأمانة عند الناس، أو انعدمت عند البعض الآخر، فإنه لا يتورع حينئذٍ فيما تأخذ وفيما تدع، كم في المجتمعات من أبرياء ومساكين، يشتكون أنهم قد سلبت حقوقهم، وأخذت أموالهم فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون، وإياكم ثم إياكم من مواطن الشبهات، والقضايا المشكوك فيها، وما أكثرها في هذا الزمان، فكل لحم من السحت فالنار أولى به.
وأغلب الناس إنما يُأتون ما باب المشتبهات وهي القضايا والأمور التي لا يتضح فيها الحلال من الحرام. ولهذا جاء التحذير النبوي من الخوض في مثل هذه الأمور ففيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)).
اعلم كذلك أخي المسلم، بأن ما تأخذ وما تدع لا ينحصر في الأمور المادية، فحسب بل كن على حذر حتى في القضايا والأمور المعنوية فلا تأخذ إلا ما تعرف ودع ما تنكر بل ينبغي الحذر فيها أكثر من الحذر في الماديات في بعض الأحيان.
فلا تأخذ من الأخلاق والأفكار والتصورات والمعاني إلا ما تعرف أنه من شريعة رب العالمين، وما سواه فدعه لأنه منكر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ختم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصف العلاج لعبد الله بن عمرو بن العاص حال تشابك الأوضاع، واضطراب الأمور، وكثرة الفتن بقوله: ((وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم)) وفي رواية: ((وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة)). وهذا كلام بليغ شامل دقيق من المصطفى صلى الله عليه وسلم يمكنك أخي المسلم أن تلحظ من خلاله عدة إشارات:-
الإشارة الأولى: إنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن الأمة كلها أذان المجتمع بأسره، يحصل له التشابك والأضطراب، وأن وصف الحثالة ينسحب على الجميع، هذا لا يمكن أبداً، هذا يفهم من قوله - وعليك بخاصتك -.
إذاً هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول الذي كان عليه عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذه الثلة، هم الذين يقاومون الحثالة في كل مجتمع وينهون عن الفساد في الأرض، وفي مثل هؤلاء، جاء التوجيه النبوي لذلك الصحابي ولنا أيضاً، أن نقبل على هؤلاء الخاصة ونذر أمر العامة حال التشابك وحال الفتن، وحال اضطراب الأمور والأوضاع ثم من الذين يحددون لنا ما نأخذ وما ندع، هم هؤلاء الخاصة، الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم راوي الحديث بأن يقبل عليهم، وأن يكون معهم، ويلتفت حولهم، ويسير في ركابهم بقوله - وعليك بخاصتك -.
الإشارة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بأن هناك خاصة، فهناك خاصة للمؤمنين، وهناك خاصة لطلبة العلم، وهناك خاصة للدعاة، وهناك خاصة لأهل الخير والاستقامة كما أن هناك خاصة لأهل الشر والفساد، وهناك خاصة للمجرمين وهكذا، لكن كما تلاحظ في الحديث بأن توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكون قريباً من الصنف الأول، وهم الخاصة من المؤمنين، والخاصة من أهل الدين والعلم والدعوة والخير والهدى، لكي ينتفع بعلمهم، ولكي يزداد إيماناً بالجلوس معهم، ولكي يعينوه على نفسه حال تشابك الأمور، واضطراب الأوضاع وكثرة الفتن.
إن هؤلاء الخاصة هم الذين يقيمون الحجة على العالمين.
إن هؤلاء الخاصة، يجدون من الروح والسعادة والإيمان مالا يجده غيرهم.
إن هؤلاء الخاصة الذين أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يقبل عليهم هم زبدة أهل الأرض، وهم طيبها، وهم مصدر الخير والبركة والأمن، وأما العوام فهم تبع لهم.
ثم إن هؤلاء الخاصة وإن كانوا قلة في عددهم لكنهم كثرة بإيمانهم وبإخلاصهم وصدقهم ودعوهم قال الله تعالى: وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون.
الإشارة الثالثة: ودع عنك أمر العامة.فليس كل ما عند العامة صحيح وصواب ولا تنخدع بالكثرة، فإن الصواب يعرف من الكتاب والسنة، لا مما عليه العامة، وبهذا تعلم فساد بعض الاصطلاحات الشائعة عند الناس كقولهم: الموت مع الجماعة رحمة، أو إذا كان كل الناس وكل المجتمع وكل البلد أو كل الأهل يفعلون كذا فأنا واحد منهم، هذا ليس بصواب، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ودع عنك أمر العامة.
وفي المقابل جاء التوجيه بالإقبال على الخاصة.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا..
(1/1247)
رشوة الضمائر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, الهبة والهدية والوقف
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/11/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرشوة أقبح أنواع الغلول. 2- تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدايا العمال.
3- أسوأ أنواع الرشوة رشوة العلماء وأهل الدين. 4- محاولة قريش رشوة النبي.
5- محاولة اليهود رشوة السلطان عبد الحميد. 6- مؤامرة الغرب واليهود على الدولة العثمانية.
7- فتاوي علماء السلطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى أبو داود وابن ماجه والترمذي بسند صحيح ، عن عبد الله بن عمرو وقال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي)).
وعن أحمد والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش)).
ويعني بالرائش الوسيط الذي يمشي بينهما.
الرشوة أيها الأخوة ، يعدها البعض من الغلول ، بل هي في الحقيقة أقبح من الغلول ، لأن فيها استغلال للطرف الأخر.
إنها ظاهرة سيئة لو تفشت وظهرت في مجتمع ما ، لأنها تدل على الفساد الإداري الموجود.
أيها الأحبة في الله: حديثي إليكم هذا اليوم ، بحول الله وقوته ، ليس له علاقة بالرشوة من هذا الجانب. بمعنى أني لن أتحدث عن الرشاوى التي يدفعها أصحاب الحاجات لتسهيل معاملاتهم أو بضائعهم أو نحو ذلك لدى طرف معين ، وإن كان هذا الموضوع يستحق أيضاً أن يفرد بحديث مستقل، لأن الفرد لو لم يصل إلى حقه إلا أن يدفع الرشوة ، فهذا تدنٍ ، وانحطاط خلقي وإداري وصل إليه ذلك الوضع، لا ينبغي السكوت عنه أو عندما يستغل بعض أصحاب القلوب المريضة مناصبهم ومراكزهم ، ولا يمكن أن تسير معاملة من تحت يده ، إلا وأخذ نسبة فوق راتبه الأصلي ، وتكون هذه النسبة على ظهر صاحب المعاملة ، وترتفع النسبة وتنزل بحسب أهمية الموضوع.
أقول حديثي ليس عن هذا كله وإن كان هذا الموضوع ينبغي أن يسلط عليه الضوء، لكن أذكر هذا الصنف من الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بسنده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبيه على الصدقة ، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدى لي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: ((ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر " ثم رفع يديه. يقول راوي الحديث حتى رأينا عفرتي إبطيه ، ثم قال: اللهم هل بلغت))
فاتقوا الله أيها المسلمون ، اتقوا الله تعالى ، واحذروا أن تأخذوا شيئاً من هذا الطريق ، فإنها الرشوة بعينها ، والرسول عليه الصلاة والسلام قد لعن الراشي والمرتشي.
أيها المسلمون: سوف أتعرض لنوع آخر من الرشوة ، ليس له علاقة بمعاملة ولا ببضاعة ، لأنه أخطر منه بكثير ، وهي الرشوة التي تدفع لحملة الشريعة ودعاة الدين ، وأصحاب المنهج والرسالة ، تدفع لهم لشراء ضمائرهم ، تدفع لهم ليتخلوا عن بعض من الفكر الذي يحملونه ، والمنهج الذي يدعون إليه ، وهذه الرشوة لا يشترط أن تكون مالاً عينية يقبضها ثم يسكت ، بل قد تكون بصور وألوان مختلفة ، فقد يعطى منصباً أو جاهاً أو شرفاً أو نحو ذلك ، فيرضى بما أُعطى ، أو ربما يُقنع بأن هذا من الدين ، وفي خدمة الإسلام ، فيتنازل هذا المسكين عن الكثير من المبادئ التي كان يحملها ويدعو إليها.
رشوة خطيرة أيها الأخوة ، وكم من أُناسٍ نسأل الله السلامة والعافية ، سقطوا في هذا الباب ، كانوا أصحاب منهج ، ودعاة خير ، وحملة رسالة ، فاستخدم أعداء الدين شتى الطرق والوسائل لمنعهم من نشر الخير وصدهم عن سبيل الله ، فعجزوا بكل الطرق والوسائل ، استخدموا معهم القوة والتهديد والعنف فلم يجد فجاءت وسيلة الرشوة ، فنفعت مع البعض ، نسأل الله الثبات في الدنيا والآخرة.
والمال كما تعلمون ، له سلطان على بعض النفوس ، يصبر ويقاوم ويثبت أمام القوة والعنف والشدة والفقر ، لكن يسقط أمام الرخاء والجاه والمنصب والمال.
وهذه الرشوة أيها الأخوة ، طريقة إبليسية قديمة يستخدمها أعداء الدين منذ القديم مع طلبة العلم والدعاة والعلماء ، بل وحتى مع بعض الحكام والولاة، بل وأيضاً جُربت مع الأنبياء والرسل، والتاريخ حفظ لنا الكثير من القصص والأحداث التي يحاول فيها أعداء الله صد الناس عن فهم حقيقة الإسلام وعن الالتزام بهذا الدين بمحاولة إغراء وإعطاء حملة هذا الدين للناس ، إعطائهم هذه الصورة من الرشاوى ، تشترى به ضمائرهم: ليسكتوا ولو جزئياً ، عن مبادئهم وأفكارهم.
وإليكم أيها الأخوة ، بعض وقائع التاريخ على هذا النوع من الرشاوى ، رشاوى الضمائر والذمم ، رشاوى المنصب والجاه في مقابل التخلي عن الفكرة والمبدأ. فنبدأ أولاً بالأنبياء والرسل.
بعدما بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ، ونزل عليه الوحي في شعاب مكة صار يدعو إلى دين الله عز وجل سراً ، واستمرت الدعوة سرية قرابة ثلاث سنوات ، ثم أُمر عليه الصلاة والسلام بالجهر بالدعوة ، وعندها أحست قريش بخطورة وجود هذا الرجل بين أظهرهم ، فجاءت المحاولات العديدة لصده عن نشر الإسلام مرة بإلقاء التهم عليه ، ونشرها بين الناس ، وهي ما تسمى بالحرب الإعلامية ، فقالوا عنه: ساحر، وقالوا: مجنون ، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، وغير ذلك ، فلم تنفع هذه الطريقة ، ثم ذهبوا إلى عمه لكي يتفاهم مع ابن أخيه ، ويوقفه عن تسفيه عقول القوم – زعموا – فلم تنفع ثم تطور الأمر قليلاً ، وهو استخدام شيء من العنف والقوة لإيقافه عن الدعوة فيرمى عليه سلى الجزور، وهو ساجد عند الكعبة ، وتنبو تلك المحاولات الضعيفة أمام قوة وصمود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعدها جاءت هذه الفكرة الإبليسية والتي نحن بصدد الحديث عنها ، محاولة إغرائه بالمال أو الجاه ، لعله يُفتن أو حتى ولو سكوتاً جزئياً.
فاجتمع ذات يوم أشراف قريش من كل قبيلة عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وغيرهم. اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض ، ابعثوا إلى محمد فكلموه، فبعثوا إليه ، أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأْتهم ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أن قد بدا لهم أمر جديد حول إسلامهم ، وكان شديد الحرص عليهم ، فجاء وجلس إليهم ، فقالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فما بقى أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً – وهذا هو الشاهد – فبعدما عجزت طرقهم ، استخدموا هذه الطريقة: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكاً ، ملكناك علينا ، إلى آخر تلك الاغراءات التي لا يصمد أمامها إلا عظماء النفوس ، وأقوياء العزيمة والإرادة.
فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما جئت بما جئتكم به ، أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليّ كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)).
بهذه القوة كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم على أعداء الدين من قومه. وهو عليه الصلاة والسلام ، بهذه الطريقة يرسم منهجاً واضحاً للدعاة وطلبة العلم والعلماء والمشايخ ، بألا يقبلوا المساومة ، ولا يرضوا بالتفاوض إذا كان يؤدي هذا التفاوض إلى تنازل ، كذلك يبين المصطفى عليه الصلاة والسلام ويعلم حملة الشريعة من بعده ، بأن هذه حيلة ووسيلة يستخدمها الأعداء في إسكات صوت الحق والجهر به ، ووصوله إلى الناس ، ويبين بأن الرشاوى قد تستخدم في هذا الاتجاه.
فنسأل الله جل وعلا ، أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يثبتها بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
المثال الثاني: مع الحكام والولاة، نعم حتى الولاة والحكام لم يسلموا من الرشاوى ، إما مالاً أو شيئاً آخر ، ليتنازلوا عن مبدأ أو أرض أو حق هم متمسكون به ، ومثالنا مع السلطان عبد الحميد، أحد سلاطين الدولة العثمانية.
تولى عبد الحميد الخلافة، وهناك الكثير من المثالب على الدولة ، وبدأت أمور تحصل في الدولة العثمانية صَعُبَ السيطرة والتحكم فيها ، من ذلك تغلغل النفوذ الأجنبي في الدولة: وبخاصة امتيازات الدول الغربية في حماية نصارى الدولة، وأيضاً صارت الدول الغربية ترشي الوزراء ، وتشتري ذممهم ويستخدمونهم ضد الدولة. كما تغلغل الفكر القومي أيضاً في الأجهزة الرسمية إضافة إلى الحركة التنصيرية في الدولة العثمانية وصار لها نشاط واسع ، مع أن الدولة صارت تتعقب وتتابع هذه الحركات ، وتتخذ الإجراءات اللازمة لمنع مثل هذه الأنشطة ، لأنها تعلم خطورته ، وقد قبضت الدولة على عدد من الشخصيات بوجوه مقنعة وهم يعملون لصالح التنصير ، كما حصل هناك الكثير من الهزات الداخلية للدولة من الداخل ، كتمرد الأرمن على الدولة ، والأرمن هم قطاع من الشعب العثماني، والذي كان يحركهم هيئات التنصير الكاثوليكية الأوروبية كما أنه حصل ضعف شديد في اقتصاد الدولة العثمانية تلك الفترة، حيث حرب الدولة مع اليونان ثم حربهم مع الروس، فصار عجز في ميزانية الدولة مما أودى بها إلى الاستدانة ، ووصلت ديون الدولة الملايين عندها بدأت التحركات الفعلية لبعض دول أوربا عندما تأكدوا من ضعف الدولة من كل جانب. وبدأوا يستعمرون بعض المناطق ، فاحتلت بريطانيا قبرص ، ثم تبعه باحتلالها لمصر ، وكان اهتمامها بمصر ينبع من أهميتها كنقطة استراتيجية على طريق الهند ، ثم صار لها أطماع في العقبة ، واليمن والخليج العربي ، إضافة إلى الدعم الذي كانت الذي كانت تدفعه بريطانيا للأرمن ، داخل الدولة ، وتحركهم ضدها ، ثم صار لكل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا وروسيا أطماع في تركة هذه الدولة العملاقة، وكان في أثنائها لليهود حركة قومية وتنظيمات سرية وتجمعات وتخطيط لإقامة دولة لهم ، فعقدوا مؤتمر بسويسرة عام 1314هـ ورأوا أن يعملوا على تأسيس وطن لهم ، واقترح زعيمهم " هرتزل " أن تكون فلسطين ، فنشأت الفكرة الصهيونية. ثم أصبح هذا اليهودي يتصل بالسلطان عبد الحميد وكان يحاول أن يعظمه لتتوطد الصلة بينهما ، غير أن عبد الحميد كان ذكياً فلم يأبه به ، فحاول هذا اليهودي تحقيق هدفه عن طريق دولة أوربية ، واختار لذلك انكلترا الحريصة على مصر بصفتها تملك الممر لطريق الهند ، على أن مصر تجاور فلسطين ، فعرض على الانكليز إنشاء دولة يهودية في فلسطين يكون لها استقلال ذاتي ، وتساعد انكلترا على الوصول إلى الهند إن تعذر طريق مصر ، على كل لا أريد الدخول في التفاصيل والتاريخ طويل وليس هذا مجاله ، فبعد أن عجز هرتزل عن الوصول للسلطان عبد الحميد بعدة طرق ، استخدم أو حاول أن يستخدم الرشوة ، واستعان ببعض الزعماء من العثمانيين الذين استطاع إغرائهم بالمال ، أو بأشياء أخرى ، واستعان كذلك ببعض أصدقاء عبد الحميد من الأجانب الذين كانوا على صلة بالسلطان نفسه أو ببعض أصحاب النفوذ، فرفض السلطان كل ما عرض عليه، مع أن دولته كانت ضعيفة ، وأوضاعها الاقتصادية متردية، والديون متراكمة ، مع كل هذا رفض أن يدنس شرفه وسمعته ، ويعطي أرض فلسطين لليهود مقابل أموال يأخذها – وقال: إن أرضاً ملكها المسلمون بدمائهم ، لا يمكن أن أتنازل عنها بمال ، فرفض رحمه الله التنازل عن المبدأ والأرض مقابل رشوة، عندها قرر اليهود العمل على خلعه، وبدؤوا يعملون ضده حتى خلعوه.
وفي المقابل تجد هناك من لا يمانع أن يدنس شرفه ، وأن يبيع عرضه وسمعته ، ويتنازل عن كل شيء مقابل دريهمات والله المستعان.
أما العلماء وهم الصنف أو المثال الثالث، فإن شأنهم أخطر ، لأنهم حملة الشريعة ، وهم موضع الثقة بين الناس ، وكلامهم مقدم على غيرهم ، فلو أتى عالم أو صاحب علم ، ورضى بأن يكون تبعاً لغيره ، وذنباً لمن هو أحط منه ، وصار يسبح بحمده ، فهذه هي المصيبة وهناك عدد من هذه النوعيات ، حفظ لنا التاريخ سيرهم وأعمالهم ، باعوا دينهم بعرض من الدنيا ، في القديم والحديث. قبلوا الرشاوى نسأل الله العافية ، إما مالاً أو أرضاً أو جاهاً أو منصباً ، ثم صاروا يضللون الناس ، وينفذون ما يُملى عليهم وان كان مخالفاً لما يحملونه من علم.
بل أصبحت تسمع بفتاوى تخرج من بعض أمثال هؤلاء فيها إباحة لما حرم الله صراحة ، سبحان الله يصل التبجح والجرأة على الله والسقوط في وحل الرشوة وحب الدنيا إلى هذا الحد ، ما قيمة العلم الذي يحمله إذا لم يعمل به ، يفترض فيه وفي أمثاله ، أن يكونوا موجهي الأمة ، ويرشدوا الناس ويقفوا في وجه الباطل ، لا أن يعينوا الباطل وباسم ماذا؟ باسم الدين نسأل الله العافية. فضلوا وأضلوا ، ولا شك أن العامة تغتر بأقوالهم ، لأنهم أمامها هم العلماء وهم المشايخ، وهم أساتذة الجامعات الشرعية ، وهم في الحقيقة ، خونة للدين ، وللعلم الذي معهم ، وباعوا كل ما لديهم ، بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين. فهذه هي الرشوة.
ولنا عودة بإذن الله تعالى في مناسبات قادمة لهذه النوعية من العلماء ، لأهمية هذا الموضوع.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك...
(1/1248)
رسالة المسجد
فقه
المساجد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/4/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المسجد النبوي وعمارة الصحابة له. 2- خوف أعداء الإسلام من دور المسجد. 3- دعوة
المسلمين لصيانة المساجد عن القذر والعبث وأمور الدنيا. 4- المسجد مكان لدواء القلوب في
أمراضها. 5- ضمور دور المسجد في واقعنا رغم كثرة المساجد وزخرفتها. 6- أخطاء
يرتكبها رواد المساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه وقال عز وجل: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.
المسجد أيها الأخوة ، له تاريخه وله دوره في حياة المسلمين ، يجهل كثير من المسلمين تاريخ مسجدهم ، ودور مسجدهم ، وما يجب عليهم تجاه مسجدهم.
عندما وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة مهاجراً من مكة ، كان أول مشروع قام بتنفيذه في عاصمته الطيبة طيبة ، أن وضع حجر الأساس لبناء ذلك المسجد ، لتنطلق منه الدعوة الإسلامية ، ولِتُربى فيه الأرواح المؤمنة ، ولتهتدي فيه القلوب الصادقة.
بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده ليكون روضة من رياض الجنة ، إمامه محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلاميذه:أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، ومواده المقررة وحي الله عز وجل ، وأما مطلبه فهو أن تكون كلمة الله هي العليا.
أيها المسلمون: عمّار المساجد هم أولياء الله عز وجل وأحبابه من خلقه: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين لذلك فأعداء هذا الدين بجميع مللهم ونحلهم لا يريدون للمساجد أن تُعمر ، ولعلمهم بأن المساجد تهدد بقاءهم وتحول بينهم وبين شهواتهم ، وتُنهي تواجدهم في الأرض.
فهم لذلك لا يريدون عمارتها ، وإنما يسعون جاهدين إلى هدمها وإزالتها من الأرض ، ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين.
اعلموا رحمكم الله بأن الله عز وجل يثني على عمار المساجد من الرجال المؤمنين فيقول: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
رجال يعمرون بيوت الله سبحانه.
رجال يحافظون على الصلوات الخمس جماعة في المسجد، رجال يحمون هذه البيوت أن تغلق أو تهدم أو تزال أو تضيع قداستها.
رجال يدافعون عن حرمة بيوت الله ، مما يبثه العلمانيون من زبالة أفكارهم في أوساط المسلمين.
فالمساجد بيوت الله عز وجل في الأرض ، أطهر ساحات الدنيا ، وأنقى بقاع الأرض فيها تتآلف القلوب المؤمنة ، وتنزل رحمات الرب، وتهبط ملائكة الله ، وتحل السكينة والخشوع.
بنفس تلك الأرض ما أحس الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
أيها المسلمون: حق على الأمة الاعتناء بمساجدها لأنها مظهر للرقي والفلاح ، كنا أمة مبعثرة قبل ظهور الإسلام ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم جمعنا في أعظم جامعة ، آخت بين قلوبنا ، وجمعت كلمتنا، ووحدت شملنا، ولمت شعثنا، ألا وهي المسجد ، فكان حقاً علينا جميعاً أن نظهر هذه المساجد بأجمل مظهر يعرفه الناس ، فنعتني بها أكثر من بيوتنا ومنازلنا ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب".
كذلك لابد للحرص من الجميع والمطالبة بإقامة المساجد في كل مكان تدعو الحاجة إلى وجودها فيه ، وخاصة في أماكن التواجد البشري ، والعمل الجماعي ، وعلى الطرق للمسافرين وفي محطات الوقوف والانتظار والمطارات ودور التعليم وأماكن النزهة والاصطياف والحدائق العامة وغيرها.
أيها الأخوة: لا مكان للغوغائيين والمشاغبين في المسجد ، فنحن أمة النظام وأمة الهدوء ، وأعظم المظاهر الحضارية والمنشآت المعمارية في حياتنا هي المساجد، ولذلك فإن للمساجد في الإسلام حقوقاً، ولروادها آداباً ينبغي لكل مسلم معرفتها والتمسك بها ، والعمل بمقتضاها ، فلا يجوز لرواد المساجد أن يرفعوا أصواتهم ، لأنها مكان للسكينة والهدوء والانضباط ، ولأن المسلم يقف فيها أمام مالك الملك ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا)) إذ لو فتح الباب لأصبح المسجد مكاناً للدعاية والإعلان ورفع الصوت والضوضاء، وهذا بدوره مخالف لهدي محمد صلى الله عليه وسلم ومناقض لرسالة المسجد ومهمته في الحياة.
كذلك مساجدنا يا عباد الله أسواق لتجارة الآخرة لا لتجارة الدنيا ، تجّار الآخرة هم عمار المساجد ، وتجار الدنيا هم عمار الأسواق ، والمساجد في الإسلام أسواق الآخرة ، بل هي أسواق الجنة وميادين التجارة الرابحة مع الله ، لأنها أسواق الأرواح المؤمنة ، والقلوب المطمئنة. عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك)).
كذلك أيها الأخوة ، فإن المسجد هيئة لتأديب القلوب وتهذيب الأرواح ، وليس مكاناً لإقامة الحدود والتعزير.فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية ، والكلمة اللينة والقدوة الحسنة ، وهذه كلها وجدت في مسجده عليه الصلاة والسلام ، ولذا فمن أراد أن يربي نفسه فليزم المساجد ، ومن أراد أن يربي ولده فليُلزمه بالمساجد ، فإنها خير معين على ذلك.
وليست المساجد في الإسلام دوراً للتعزير والضرب وأماكن لتأديب المخطئين فهذا ما لا يليق بها ولا يتفق مع دورها العظيم في حياة المجتمع ، فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقام الحدود في المساجد ولا يستقاد فيها)) [رواه أحمد وأبو داود].
انظر أخي المسلم ، إلى روعة الإسلام وجماله وكماله حينما جعل المساجد أماكن لتربية النفوس وتهذيبها ، وتربيتها التربية الإسلامية الفاضلة ، فإذا ما عصت هذه النفوس وتمردت ، فإن علاجها وتأديبها يكون خارج المسجد.
أيها المسلمون: قد تستغربون أنه من المسجد تصرف الأدوية الربانية، وفي المسجد يعالج المرضى. لم تعرف صيدليات العالم ولا عيادات التاريخ الإنساني ، أعظم من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم وعيادته المباركة ، التي كتب عليها: وإذا مرضت فهو يشفين وما ذلك إلا لأن دواءها وعلاجها يصل مباشرة إلى القلوب فيشفيها بإذن الله ، وكثيراً ما كان المرضى يأتون إلى مسجده صلى الله عليه وسلم ، الذي كان مكاناً لعلاج المرضى ، وبخاصة في أيام الحروب والمعارك ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها قالت: أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل - وهو عرق في وسط الذراع - فضرب النبي صلى الله عليه وسلم له خيمة في المسجد ليعوده من قريب متفق عليه.
وهذا يعني أن الجريح أو المريض له أن يُعالج في المسجد لمصلحة ، وليكون قريباً للإمام وأعيان الناس ، فيتمكنون من عيادته إذا اقتضى الحال ذلك ، ثم لأن المسجد مكان عبادة وبقعة طاهرة تحف بها الملائكة وتغشاها السكينة، فيكون المريض بذلك قريباً من دعوات إخوانه المؤمنين ، فلعل ذلك يكون سبباً في شفائه وبرئه وسرعة استعادته لعافيته ، وهذا سبب خفي قل من يتنبه له أو يتذكره ومن هنا نرى أن المسجد مكان طبيعي لعلاج مرض القلوب إضافة إلى أنه من أحسن البقاع وأفضلها في علاج الأبدان بإذن الله سبحانه.
معاشر المسلمين: ليس لأحد أن يسيء الأدب في بيت الله عز وجل ، فبيته سبحانه وتعالى محترم ومقدم ، وينبغي أن تكون له مكانة سامية ومنزلة رفيعة ، وحصانة شرعية تليق به.
وكيف لا يكون كذلك وهو بيت مالك الملك وملك الملوك؟. إن ملوك الدنيا لا يرضون ولا يسمحون أن يساء الأدب في بلاطهم وقصورهم وبيوتهم ، ولا أن ترفع الأصوات بحضرتهم ، ولا أن يكثر الضجيج في أماكن تواجدهم ، ولا أن تحدث حركة أو لفظه غير مسؤولة عندهم.
فالله سبحانه وتعالى أولى بالاحترام والتعظيم والتقديس ، في بيوته جل شأنه.
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)) [متفق عليه].
فلا يحق للمسلم أن يبزق في المسجد ولا أن يتفل فيه ولا أن يضع فيه أذىً أو قذراً ، أو قصاصات الأوراق وفضلات الأشياء ، فإن هذا السلوك ينبئ عن قلة إيمان من فعل ذلك ، وعن سوء أدبه ، وعن عدم احترامه لبيت الله عز وجل.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه
واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وجعلنا من رواد المساجد المحافظين عليها قولاً وعملاً وأن يتوفانا وهو راض عنا وأن يقبضنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
اعلموا رحمني الله وإياكم بأن الناس شغلوا في زماننا هذا بزخرفة المساجد على حساب رسالتها الخالدة ، وأثرها في الأجيال ، إن المسجد يا عباد الله يعمل على تخريج جيل مسلم على درجة عالية من الوعي والمعرفة ، وهذا هو رسالة المسجد، فالمفسر للقرآن يخرج من المسجد.
والمحدث يتخرج من المسجد ، والفقيه والخطيب يخطب في المسجد ، والمفتي متخرج من المسجد ، والمجاهد ينطلق من المسجد ، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والحاكم بشرع الله والمنفذ لأوامر الله والداعي إلى سنة رسول الله وغيرهم كثير، كلهم من المسجد.
ولذلك فإن المسجد في عصور السلف الصالح خرَّج قادة الدنيا ، وأصحاب التأثير في تاريخ الإنسان.
فالخلفاء الراشدون من أين تخرجوا؟ وأين تعلموا ، أعظم رجال الأمة بعد نبيها ، والعبادلة الأربعة والقادة الفاتحون والشهداء في سبيل الله ، جميعهم كانوا من المهاجرين والأنصار ، وغيرهم من الثلة الخيرة ، والنخبة المصطفاة الذين كانوا عباداً للحجر ، فأصبحوا قادة وزعماء للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم ، جميعهم تخرجوا من مسجد المدينة ، مسجد محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي كان مبنياً من الطين ومسقوفاٌ بجريد النخل.
فماذا فعلت المساجد التي بنيت بأرقى الخامات؟ وصممت على أحدث التصميمات؟
ماذا فعلت في حياة الجيل وهي التي خططت تخطيطاً بديعاً؟
هل أثرت في مسيرة هذه الأمة ، وهي تواجه الآن تحديات من أصعب ما تمر به الأمة؟
هل أخرجت لنا وللأمة المسلمة علماً نافعاً وعملاً صالحاً؟
هل وقفت مساجدنا سداً منيعاً أمام حملات الغزو الفكري والعسكري والتيارات الهدامة؟
هل بعثت الفكر من مرقده وأيقظته من سباته؟
هل شحذت الهمم وحركت المشاعر في النفوس؟
هل بثت النور في قارات الأرض؟
وهل عبرت منها الكلمات الصادقة عبر المحيطات؟ الجواب معروف.
لا وألف لا ، وذلك أمر يؤسف له أما لماذا؟ فلأننا عمرنا مساجدنا بالبناء ولم نعمرها بالذكر والدعاء ، ولأننا عمرناها بالزخارف والألوان ولم نعمرها بتلاوة القرآن، ولأننا لم نتعامل مع المسجد كما تعامل معه أولئك ، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)).
هذا هو الواقع الحالي في تعاملنا اليوم مع المساجد التي أصبحت مظاهر ، وأصبحت آيات في حسن البناء وروعة الهندسة ، تعجب الناظرين وتسرهم في مظهرها إلا أنها في مخبرها وجوهرها لم تؤد رسالة ولم تحقق هدفاً.فعقم جيلها ، وسكتت ألسنتها، واختفت حلقاتها ، وانطفأ نورها ، وانعدم دورها.
المباهاة في عمارة المساجد من علامات الساعة ، لأن الأمة إذا ضعفت ومرضت ، واهتمت بالمظهر على حساب الجوهر ، وبالقشور على حساب اللباب، والكم على حساب الكيف ، أفل نجمها ودب فيها الوهن والخور والعجز.
كان المسجد في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم مكاناً لإعلان الحرب على أعداء الله ، ولرفع راية الجهاد ولاستنهاض الهمم ، وايقاظ المشاعر وتحريك القلوب وبث الحماس في النفوس ، كان عليه الصلاة والسلام يعلن البيانات العسكرية من على منبره مباشرة ، ولذلك كانت انتصاراتنا الهائلة في بدر وأحد والفتح واليرموك وحطين وعين جالوت وغيرها من معارك الإسلام الفاصلة.
كان عليه الصلاة والسلام يعلن حالة الحرب من المسجد ، وكان يتكلم عن ملابسات المعركة وعن ظروفها وعن الشهداء وأحوالهم في المسجد ، فقد أعلن عن معركة أحد يوم الجمعة وبدأت أحداثها يوم السبت ، وتكلم عليه الصلاة والسلام عن الشهداء في مؤتة من على منبره وكأنه يعيش أحداثها لحظة بلحظة ، وكان يرسل السرايا والغزوات من المسجد ، فتكون الغزوة مباركة والسير مباركاً والنتيجة مباركة.
أيها المسلمون: نختم هذه الخطبة بذكر بعض الملاحظات:
الأولى: يتساهل بعض المصلين هداهم الله بتحية المسجد ، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)).
فللمسجد في الإسلام تحية يحيا بها ، كما يحيي المسلم أحب حبيب أو أقرب قريب، وهذه التحية تحية متميزة، وليست كغيرها من أنواع التحايا ، فهي تربى المسلم على أدب إسلامي رفيع ، فدخول المسلم إلى المسجد ليس كدخول إلى مكتب من المكاتب أو منزل من المنازل ، وإنما هو دخول إلى مكان مقدس وبقعة طاهرة تختلف عن غيرها من الأماكن والبقاع ولذلك كان من اللائق أن يحيا المسجد بركعتين طيبتين يصليهما المسلم قبل أن يجلس لتكونا بإذن الله فاتحة خير وبداية أنس مع الله جل شأنه ، بل ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها مستدلين بما ثبت في صحيح مسلم ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام رجلاً في أثناء خطبة الجمعة وقال له: ((قم فصل ركعتين)) لأنه جلس ولم يصليهما.
الملاحظة الثانية: يستغل بعض الناس تواجد المصلين في المسجد ، فيقوم بالصاق إعلانات في المداخل والمخارج وأحياناً على لوحة الإعلانات داخل المسجد عن افتتاح محل أو مشروع تجاري معين أو سلعة معينة ، وهذه دعايات تجارية ليس هذا محلها.
قد يكون سائغاً ومقبولاً بل قد يكون من وسائل الدلالة على الخير والدعوة إليه إعلانات المحاضرات النافعة والدروس العلمية وحلقات تحفيظ القرآن.
أما إعلانات عن افتتاح محل أطياب أو غيرها فإنها إعلانات تجارية يجب أن لا تكون على جدران المساجد وساحاته ، فإن المساجد لم تبن لهذا.
الملاحظة الثالثة: البعض يخطئ بحسن نية وسلامة مقصد فيعلق بعض الصور الفوتوغرافية ونحوها للمجاهدين والمنكوبين في أنحاء العالم الإسلامي بحجة أن يراها المصلون ، فيسارعون إلى دعمهم ومد يد العون لهم وتفريج عُسرهم.
فمساعدة المجاهدين والمنكوبين واجبة ، وحق علينا جميعاً ، لكن الصور مهما كانت فلا تُدخل إلى المساجد وينبغي أن تبعد عن بيوت الله.
(1/1249)
رحمة الله
التوحيد
الأسماء والصفات
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/6/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحمة صفة من صفات الله شملت كل عباده. 2- طاعة الله سبب في رحمة العبد.
3- آثار رحمة الله نراها حولنا في كل شيء. 4- رحمة الله بالمؤمنين وهم في المحنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الرحمن الرحيم ، اسمان كريمان من أسماء المولى جل وتعالى ، والرحمة صفته ، صفة حقيقية تليق بجلاله سبحانه وتعالى ، وهي صفة كمال لائقة بذاته كسائر صفاته العُلى.
قال الله تعالى في محكم تنزيله ، في شأن ذكر هذه الصفة ، أو ذكر شيء من آثارها على خلقه ، قال تعالى: إنه هو التواب الرحيم وقال تعالى: إن الله بالناس لرؤوف رحيم ، وقال جل وتعالى: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم وقال: فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم وقال: واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الدالة على صفة الرحمة.
أيها الأحبة في الله: الله جل وعلا رحيم بنا ، وهو سبحانه أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا.
رحمة الله تعالى وسعت وشملت كل شيء ، العالم العلوي، والعالم السفلي ، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله تعالى ، المسلم والكافر ، البرّ والفاجر ، الظالم والمظلوم ، الجميع يتقلبون في رحمة الله آناء الليل وأطراف النهار قال الله تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء.
الله جل وتعالى ، فتح أبواب رحمته للتائبين ، وللعاصين ، وللمنحرفين ، ما عليهم إلا أن يقبلوا على مولاهم ، قال الله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما قنط من جنته أحد)).
أيها المسلمون: إن الله جل وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها أخرج البخاري ومسلم ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذا وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله ، وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها)). إن رحمة الله تغلب وتسبق غضبه.
روى البخاري في صحيحه ، حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما خلق الله الخلق ، كتب في كتابه- وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)) – وفي رواية: ((إن رحمتي سبقت غضبي)).
الله جل ثناؤه له مائة رحمة ، كما في حديث أبي هريرة عن البخاري ، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة)) ، وفي رواية: ((كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض ، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة)). وفي رواية: ((إن لله مئة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فيها يتعاطفون وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحش على ولدها- وفي رواية ، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)).
أيها الأحبة في الله ، اعلموا رحمكم الله ، بأن العبد كلما كان أقرب إلى الله تعالى ، كانت رحمة الله به أولى ، أي كلما كان العبد طائعاً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، عاملاً بما أمر به الله ورسوله منتيهاً عما نهاه الله ورسوله عنه ، كان استحقاقه للرحمة أعظم ، قال الله تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ، وقال عز وجل: وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون وقال سبحانه: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون وقال سبحانه: إن رحمت الله قريب من المحسنين.
والله عز وجل سمى بعض نعمه التي أنعمها علينا بالرحمة ، فسمى المطر رحمة في قوله تعالى: وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وسمى رزقه بالرحمة في قوله: وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً وسمى كتابه العزيز بالرحمة في غير ما آية ، لقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، وسمى الجنة بالرحمة وهي أعظم رحمة خلقها الله لعباده الصالحين ، قال تعالى: وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون وقال تعالى: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً.
أيها المسلمون: عباد الله: يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كلام نفيس له ، وهو يتكلم عن آثار رحمة الله فيقول: فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة.فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل علينا كتابه ، وعلمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة ، وبصرنا من العمى، وأرشدنا من الغي ، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفته وأفعاله ، ما عرّفنا به أنه ربنا ومولانا ، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم ، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا ، وبرحمته أطلع الشمس والقمر ، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات ، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل وبرحمته ، وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان ، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته ، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته.
وأوسع المخلوقات عرشه ، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وسع المخلوقات ، بصفة رحمته التي وسعت كل شيء ، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته يسمى به دون خلقه ، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتاباً فهو عنده وضعه على عرشه. ((إن رحمته سبقت غضبه)) وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم ، والعفو عنهم والصفح عنهم والمغفرة والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة.
فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب ، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر. وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالهم ، فبرحمته خلقت ، وبرحمته عمرت بأهلها ، وبرحمته وصلوا إليها ، وبرحمته طاب عيشهم فيها. وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور ، ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه ، ومن عقوبته بعفوه ، ومن نفسه بنفسه.
ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه ، وألقى بينهما المحبة والرحمة ، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل وانتفاع الزوجين ، وتمتع كل واحد منهما بصاحبه، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض ، لتتم مصالحهم ، ولو أغنى بعضهم عن بعض ، لتعطلت مصالحهم ، وانحل نظامهم ، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير والعزيز والذليل والعاجز والقادر والراعي والمرعى ثم أفقر الجميع إليه ، ثم عم الجميع برحمته، ومن رحمته أنه خلق مئة رحمة ، كل رحمة فيها طباق ما بين السماء والأرض ، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة ، نشرها بين الخليقة ليتراحموا بها، فيها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم ، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه. وتأمل قوله تعالى: الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان كيف جعل الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة ، متعلقاً باسم الرحمن. إلى آخر كلامه رحمه الله ، الذي كله درر وفوائد.
نسأل الله جل وعلا ، أن يرحمنا برحمته ، وأن يجعلنا من المرحومين في الدنيا والآخرة. أقول ما سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: قال الله تعالى: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
إن رحمة الله أيها الأخوة: لا يحصيها العد ، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه ، وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته.
إن رحمة الله لو فتحها سبحانه لأحد من خلقه ، فسيجدها في كل شيء ، وفي كل موضع ، وفي كل حال ، وفي كل مكان ، وفي كل زمان ، فإنه لا ممسك لها ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، يجدها في نفسه وفي مشاعره ، ويجدها فيما حوله ، وحيثما كان وكيفما كان.
وما من نعمة من نعم الله ، يُمسك الله معها رحمته ، حتى تنقلب هي بذاتها نقمة ، وما من محنة تحفها رحمة الله ، حتى تكون هي بذاتها نعمة ، ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد ، وينام على الحرير وقد أمسكت عنه رحمة الله، فإذا هو شوك القتاد. ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
إن الإنسان يواجه أصعب الأمور برحمة الله فإذا هي هوادة ويسر ، ويواجه أيسر الأمور وقد تخلت رحمة الله فإذا هي مشقة وعسر ، ويخوض المخاوف والأخطار برحمة الله ، فإذا هي أمن وسلام ، ويعبرها بدون رحمة الله ، فإذا هي مهلكة وبوار. إنه لا ضيق مع رحمة الله ، إنما الضيق في إمساكها دون سواه ، لا ضيق مع رحمة الله ولو كان صاحبها في غياهب السجون أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك ، ولا سعة مع إمساك رحمة الله ، ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء.
إن هذا الباب لو فتح لك يا عبد الله ، وهو باب الرحمة ، فلا عليك ولو أغلقت أمامك جميع الأبواب ، وأقفلت جميع النوافذ ، وسدت جميع المسالك ، إنه هو الفرج والفسحة واليسر والرخاء.
ولو أغلق عنك هذا الباب يا عبد الله ، باب الرحمة ولو فتح لك جميع الأبواب والنوافذ والمسالك ، فما هو بنافع وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء. هذا الفيض من رحمة الله ، يفتح عليك ، ثم يضيق الرزق ويضيق السكن ويضيق العيش وتخشن الحياة فلا عليك ، فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة ، وهذا الفيض يمسك عنك ، ثم يفيض الرزق ويقبل كل شيء فلا جدوى، وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء.
إن المال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان لتصبح مصادر قلق وتعب ونكد إذا أمسكت عنها رحمة الله ، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان.يبسط الله الرزق مع رحمته – فإذا هو متاع طيب ورخاء ، وإذا هو رغد في الدنيا وزاد في الآخرة ، ويمسك رحمته عن هذا الرزق، فإذا هو مثار قلق وخوف ، وإذا هو مثار حسد وبغض ، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض ، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.
ويمنح الله الولد ، ويكون معه الرحمة ، فإذا هي زينة الحياة الدنيا ، ومصدر فرح واستمتاع ، ومضاعفة للأجر في الآخرة ، بالخلف الصالح الذي يذكر الله ، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء ، وسهر بالليل وتعب بالنهار. ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
ويهب الله الصحة والقوة مع رحمته ، فإذا هي نعمة وحياة طيبة والتذاذ بالحياة وتسخير لهذا الجسم في طاعة الله ، ويمسك رحمته فإذا الصحة والقوة بلاء ، يسلطه الله على الصحيح القوي ، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسم ويفسد الروح ويدخر السوء ليوم الحساب.
ويعطي الله السلطان والجاه والملك مع رحمته، فإذا هي أداة إصلاح ومصدر أمن ، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر ، ويمسك جل وتعالى رحمته عن هذا السلطان والملك ، فإذا به مصدر قلق على فواتها ومصدر طغيان وبغي عند بقائها ، ومثار حقد على صاحبها ، لا يقر له معها قرار ، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان ، ويدخر بسببه للآخرة ، رصيداً ضخماً من النار.
نسأل الله الرحمة والسلامة. والعلم الغزير والعمر الطويل والمقام الطيب.كلها نعم تتغير وتتبدل من حال إلى حال ، مع إمساك رحمة الله ومع إرسالها.
إن القليل من العلم يثمر وينفع ، وقليل من العمر يبارك الله فيه ، وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة ، وفي المقابل بسطة في العلم وطول في العمر ، مع نزع البركة والرحمة ، شقاء على الإنسان ونكد في الدنيا قبل الآخرة.
إن من رحمة الله أن تحسن برحمة الله ، أنها تضمك وتغمرك وتفيض عليك ، إن شعورك بوجودها هو الرحمة ، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة ، وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة ، والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها ، أو يأسك منها ، أو شكك فيها ، وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبداً ، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
إن رحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان وفي أي حال. وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ، ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل رضيع مجرد من كل قوة ومن كل حراسة ، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور فقال بعضهم لبعض: فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهم لا تحزن إن الله معنا.
ووجدها أحمد بن حنبل وهو يجلد وهو يضرب كان رحمه الله يضرب ضرباً عجيباً حتى قال بعض جلاديه ، لقد ضرب ضرباً لو ضرب بمثلها جمل لهلك ، لكنه رحمة الله كان يتلقى الضرب مع رحمة الله ، فبقى بإيمانه قوياً كالجبل الأشم يدافع عن منهج أهل السنة والجماعة.
ووجدها شيخ الإسلام عندما أدخل السجن فالتفت إلى السجناء، وتمثل قول الله تعالى: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
وسيجدها كل من أخلص لله ، وآوى إليه يأساً من كل من سواه ، منقطعاً عن كل شبهة في قوة ، وعن كل مظنة في رحمة ، قاصداً باب الله ، دون الأبواب كلها.
ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها ، ومتى أمسكها فلا مرسل لها ، ومن ثم فلا خوف من أحد ، ولا رجاء في أحد ، ولا مخافة من شيء ، ولا رجاء في شيء ، إنما هي مشيئة الله ما يفتح الله فلا ممسك ، وما يمسك فلا مرسل، والأمر مباشرة إلى الله.
إنه ما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه بلا واسطة ، وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة ، وفي إخلاص فلا رجاء في أحد من خلقه ، ولا خوف لأحد من خلقه ، فما أحد بمرسلٍ من رحمة الله ما أمسكه الله.
أيها المسلمون: إنها آية واحدة من كتاب الله في سورة فاطر: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم آية واحدة ، تبين بعض آثار عقيدة المسلم بصفة الرحمة ، لو استقرت في قلب المسلم ، استقراراً صحيحاً لصمد كالطود أمام الأحداث ، وأمام الأشخاص وأمام القوى والقيم والاعتبارات ، ولو تضافر عليه الإنس والجن.
إنهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها ولا يمسكونها حين يرسلها.
إنهم وإن منعوك عن الكلام ، وإن حاولوا أن يحولوا بينك وبين الناس ، وإن تعرضوا لمصدر رزقك ، فما دامت رحمة الله تحفك ، فهم الذين يكونون في شقاء وغم وسفول ، وأنت يا عبد الله ، يكفيك رحمة الله، فأنعم بها وأكرم من عطاء. وهم يكفيهم في الدنيا بُعْد رحمة الله عنهم وفي الآخرة أشد وأبقى.
فنسأل الله جل وعلا أن يحفنا برحمته ، وأن يفيض علينا من رحمته ، وأن يغمرنا برحمته فإنه الرحمن الرحيم ، وهو الغفور الرحيم ، وهو على كل شيء قدير.
(1/1250)
حسن الكلام
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/1/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قد يكون السكوت أولى وقد يكون الكلام. 2- أهمية اللسان وعمله. 3- ذكر بعض آفات
اللسان والتحذير منها. 4- أمر الشريعة باختيار الطيب من القول. 5- نهي الشريعة عن بعض
الألفاظ القبيحة أو المستقبحة المعاني أو الملبسة. 6- الفحش في الشعر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد امتن الله سبحانه وتعالى على الإنسان بنعم عديدة ، وأحوال متكاثرة فريدة ، ومن تلكم النعم ، نعمة البيان واللسان ، نعمة النطق والكلام الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان.
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
اللسان نعمة جليلة ، ومخلوق صغير ، داخل كيان هذا الإنسان ، لكن له شأن عظيم ، فما أصغر حجمه وما أصغر أثره على الإنسان.
اللسان أيها الأحبة يعتريه شيئان ، الكلام والسكوت، فكلام اللسان له سلبيات، وهي ما تسمى بالآفات، وله إيجابيات وهي الطاعات والقربات.
وسكوت اللسان قد يكون آفة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس ، وقد يكون عملاً صالحا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) [البخاري]. فالسكوت والصمت خير من الكلام بالباطل وبالفحش.
فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ولقد ندمت على الكلام مرارا
الصمت زين والسكوت سلامة
ما أن ندمتُ على سكوتي مرة
أيها المسلمون: اللسان تتعلق به آفات كثيرة ، وخصال عديدة ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : فيما رواه الترمذي بسند حسن عند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان)) – أي تخضع له – فتقول: ((اتق الله فينا ، فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا)) وعندما سأله معاذ بن جبل عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار ، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده ، وذروة سنامه ، ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال بلى يا رسول الله:فأخذ بلسان نفسه ثم قال:كف عليك هذا)) [رواه أحمد]. ولرب كلمة يقولها الإنسان لا يتبين فيها تزل به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
إن الحديث أيها المسلمون عن اللسان وآفاته ، حديث لا ينقطع ولا ينتهي ، لأنك إن أردت الحديث عن ذلك فإنك ستلاحقك سائر شئون الحياة التي يحياها الإنسان، فهناك الكذب وبضده الصدق ، وهناك الكف عن أعراض الناس وبضده الغيبة والنميمة ، وهناك التقعر في الكلام، وقد هلك المتنطعون، وهناك قول الزور ولغو الحديث والخوض في الباطل ، وهناك التحدث بالأخبار من غير تثبت ، وهناك الطعن في نيات الصالحين والتلذذ بتشويه سمعة من آتاه الله فضلاً وعلماً وعفة.وهذا إذا صار معه الهوى والعياذ بالله كان الكلام مطيته الكذب وسوء الظن قال الله تعالى: إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم وقال تعالى: سنكتب ما قالوا وقال تعالى: وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. وقال جل شأنه: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون.
أيها المسلمون: إن أقل الورع يكون في اللسان ، قال بعض السلف: "فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقلّ منه في اللسان".
فإنك مأخوذ بما أنت لافظ
لسانك لا يلقيك في الغي لفظه
اللسان معبر عندما اشتمل عليه قلب الإنسان ، فإن كان القلب زكياً مؤمناً كانت ألفاظه طيبة. وإن كان القلب خرباً مظلماً بظلمة المعصية ، كانت ألفاظ اللسان سيئة بذيئة.
إن من الناس من يعيش مع كل أسف ، بذيء اللسان، شرس الطبع ، لا تحجزه مروءة ، ولا يردعه أدب ، جرد لسانه مقراضاً للأعراض ، بكلمات تنضح فحشاً ، وألفاظ تنهش نهشا ، يسرف في التجني على عباد الله بالسخرية واللمز ، وكأنه قد وكل إليه تجريح عباد الله. ويزداد الأمر ، وتعظم البلية حين ترى من عليه ملامح الاحتشام وسيماً الوجاهة ، وهيئات العلماء يسفر عن بذاء وثرثرة ، يزعج بكلامه الباطل كل من جالسه ، لا يدع لأصحاب الفضل فضلاً ، يحمل على أهل الخير ومن شهد له بالصلاح حملات شعواء ، أحياءً وأمواتا ، لزلة لسان ، أو سبق قلم ، هذا حجزه عن عيوب الناس ما يعلم من عيوب نفسه.
ودينك موفور وعرضك صيّنُ
فكلك سوءات وللناس ألسن
فقل لها يا عين للناس أعين
إذا رمت أن تحيا سليماً من الأذى
لسانك لا تذكر به سوءة امرئ
وعيناك إن أبدت لك معايباً
ذكر رجل آخر بسوء عند إياس بن معاوية ، فقال له: هل غزوت الترك والروم؟ فقال: لا ، فقال:سلم منك الترك والروم ، ولم يسلم منك أخوك المسلم.
إن الاشتغال بالطعن في الناس ، خاصة من عرف بالدعوة والعلم ، وذكر نقائصهم ، والتسلي بالخوض في معائبهم ، وإفشاء مقالة السوء بينهم من طبائع القلوب المريضة ، والصدور الحاقدة ، وهو من أظهر الدلائل على قلة التوفيق ، والعياذ بالله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) [رواه البخاري ومسلم].
فاحذر أيها المسلم من لسانك ، وزن كلامك، وتأمل عاقبة قولك قبل أن تتلفظ به ، فرُب كلمة سلبت نعمة ، وإن الكلمة إذا خرجت من فمك لا يمكن استردادها ، وقد يصعب تدارك خطرها ، فالملائكة كتبوا ، والناس سمعوا ، والمرجفون علقوا وشرحوا وزادوا ، وأنت وحدك الذي تتحمل كل هذه التبعات والمسئوليات.
أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة، وحثت على اختيار الطيب من القول ، وأمرت بحسن الكلام ، ونهت عن الضد من ذلك ، قال الله تعالى: وقولوا للناس حسناً. وقال: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن وقال: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. وقال: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم والله جل وتعالى أنكر على الصحابة قول المنكر من الألفاظ ونهى عنها ، ألم تسمع لقول الله تعالى: الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أمهاتهم إن أمهاتُهُم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً قالوا ألفاظ الظهار، وهي ألفاظ محرمة ، لا يليق بمؤمن أن يتلفظ بها مع زوجته ، لما فيها من التعدي والتحريم ، فقول الرجل لامرأته "أنت عليّ كظهر أمي" ، هذا قول منكر ولفظ لا يجوز للمؤمن أن يأتي به ، ولهذا شرعت له الكفارة.
بل إن الله عز وجل لينكر على الصحابة الجهر بالقول والزيادة في الصوت ، فضلاً عن اللفظ نفسه يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. ولهذا فقضية اللفظ والقول ، وحُسن تخيّر الكلام مع من تخاطبه ، قد جاءت بها الشريعة.
ثم اسمع لهذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليم نهى الله عز وجل الصحابة ، أن ينادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظة:راعنا ، لا تقولوا راعنا ، وقولوا انظرنا. السبب؟ السبب هو أن الأمة الغضبية ، اليهود ، كانوا يقولون يا محمد راعنا ، وكلمة راعنا لها عدة معاني ، فتأتي بمعنى انتظرنا ، وتأتي بمعنى أنك يا محمد راعٍ فيك رعونة ، أو غير ذلك من مرادات اليهود ، المغضوب عليهم كما حكاه أهل التفسير.وأياً كان معناها ، فقد نهى الله الصحابة عن التشبه باليهود ، وأمرهم بغيرها لكمالها وحسنها وأدبها.
ومن هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقل أحدكم أطعم ربك، وضيء ربك، اسق ربك، ولا يقل سيدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي)) فالرب هو الله عز وجل ، فلا يجوز أن يقول الرجل لمولاه: أطعم ربك يعني سيدك، وإن كان معناه صحيحاً من جهة اللغة، ولكن لما كان الرب هو الله سبحانه ، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وأبدله بلفظ أحسن منه. ومن ذلك:نهيه عليه الصلاة والسلام أن يقول الرجل إذا شعر بملل أو كسل أو فتور ، نهاه أن يقول: ((خبثت نفسي)) ولكن ليقل: لقست نفسي أي فترت وكسلت ، فخبثت نفسي لفظ غير حسن وفيه معان سيئة ، فلهذا نُهي عنه والحديث في البخاري.
ومن ذلك النهي عن تسمية العنب بالكرم قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم للعنب الكرم ، فإنما الكرم قلب المؤمن)) [رواه البخاري]. فلفظة الكرم تدل على كثرة الخير والمنافع ولا يليق إطلاقها على العنب الذي تتخذ منه الخمور والأشربة المحرمة.
ومن هذا الباب :التلفظ بألفاظ الطلاق والنكاح والعتق والظهار والنذور ونحو ذلك مما يتساهل فيه بعض الناس. ناهيك عن بعض الألفاظ التي قد تخرج صاحبها من الإيمان والإسلام ، مما يكون فيها كفر أو اعتراض على إرادة الله ، وخلقه وتصريفه لشئون الكون ، وبعض ألفاظ الاستهزاء والسخرية بالدين أو بأهله ، نعوذ بالله من الخذلان.
اسمع لهذه القصة الطريفة والتي ذكرها صاحب كتاب الحاوي للفتاوى في المجلد الأول منه ص 241 لترى حساسية السلف رحمهم الله ودقة تربيتهم حتى لأولادهم في انتقاء الألفاظ.
كان الشيخ تاج الدين ابن السبكي ، مع جماعة له في دهليز داره ، فمر بهم كلب يقطر ماءً ، يكاد يمس ثيابهم ، يقول فنهرته وقلت: يا كلب ابن الكلب ، وإذا بأبيه الشيخ العلامة تقي الدين السبكي سمعه من داخل البيت ، فلما خرج على ولده ، قال له: لم شتمته؟ فقال: ما قلت إلا حقاً ، أليس هو بكلب ابن كلب؟ فقال: هو كذلك ، إلا أنك أخرجت الكلام في مخرج الشتم والإهانة ، ولا ينبغي ذلك". فقس رعاك الله ، تربيتنا لأنفسنا ولأولادنا ، في حسن انتقاء الألفاظ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ،واتباع سنة نبينا نحمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الأحبة المسلمون: لقد كان السلف رحمهم الله ، يتخيرون ألفاظهم ولا ينطقون إلا بالكلام الطيب الحسن ، لأنهم يعلمون أنهم سيلاقوه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فلا يريدون أن يروا في صحائف أعمالهم ألفاظاً بذيئة فاحشة ، غيرُ حسنة. وكان هذا هدياً عاماً فيهم وتلك من صفات أهل الإيمان ، قال يونس بن عبد الأعلى:كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر.وكان يقول: ما كان الشافعي إلا ساحراً يقصد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من البيان لسحرا)) ، ويقول ابن هشام صاحب السيرة: طالت مجالستنا للشافعي ، فما سمعت منه لحنةً قط ، ولا كلمةٌ غيرها أحسن منها. ولهذا فتن الناس الشافعي لما قدم مصر ، من حسن حديثه وبيانه.
أيها المسلمون: كم من لفظة يقولها الإنسان ، فتؤثر في حياته كلها ، وتقلبها رأساً على عقب ، رب لفظة قالها رجل ، هدمت بيته ، وفرقت شمله ، ورب كلمة سيئة خرجت ، فرقت الصديق عن صديقه ، ورب كلمة قيلت ، حرمت صاحبها من رزقه ، ووظيفته.
اسمع لهذا القصة التي حصلت للنعمان بن عدي وقد ولاّه عمر على عمل له في ميسان. فكان النعمان يسلي نفسه بأبيات من الشعر يتلفظ بها في وقت فراغه ، وكان من جملة ما ينشد:
بميسان يُسقى في زجاج وحَنْتمِ
وصناجةٍ تحنو على كل منسم
ولا تسقني في الأصغر المتثلم
تنادمنا في الجوسق المتهدم
فَمَنْ مُبلغُ الحسناءَ أن حليلها
إذا شئت غشنى دهامتين قرية
فإن كنتُ ندماني فبالأكبر اسقني
لعل أمير المؤمنين يسوءه
وهذا الرجل لم يحصل له شيء مما جرى على لسانه ، وهو لا يعرف الخمر وليس من أهلها ولم يشربها قط، لكن تكلم بهذا الكلام الذي يفوح منه المنكر والفسق والمجون فبلغ ذلك عمر ، وبلغه قوله: لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا في الجوسق المتهدم فقال عمر: وأيم الله لقد ساءني. فعزله وفقد النعمان وظيفته ، ثم أمره عمر بأن يقدُم عليه ، فلما جاءه ، قال: والله يا أمير المؤمنين ، ما كان من هذا شيء، وما كان إلاّ فضل شعر قلته ، وما شربتها قط ، فقال عمر:أظن ذلك ، ولكن لا تعمل لي عملاً أبدا.
تخيلوا أيها الأحبة ، أن كل من تلفظ بكلمة لا تليق بمقامه ، أو كان فيها سوء أدب أو فسق أو نحو ذلك ، فصل من وظيفته. كم مديراً أو مسئولاً تم فصلهم في زماننا هذا ، فمن لم يتأدبوا ولا يزنون لكل لفظة تخرج من رؤوسهم ، قد نكون مبالغين إذا قلنا بأن أغلب الإدارات والجهات والمصالح ستقفل.
وبالمناسبة فإن الشيء بالشيء يذكر ، اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في الشاعر ، إذا ذكر في شعره ما يوجب الحد ، كأن يذكر أنه شرب الخمر ، وهو لم يشربها ، أو أنه فعل فاحشة ، وهو لم يرتكبها ، هل يحد بذلك ، فيجلد ويرجم إن كان محصناً.ويكون شعره بمنزلة الإقرار ، هذا محل خلاف بين الفقهاء. وليس المقام مقام ترجيح الأقوال ، أكثر من مقام ذكر خطورة وأهمية ما يخرج من المكلف من ألفاظ.
وليس يصاب المرء من عثرة الرَّجِلِ
وعثرته بالرَّجِلِ تبرى على مهلِ
يصاب الفتى من عثرة بلسانه
فعثرته في القول تذهب رأسه
لعلي أختم أيها الأحبة ، لكي لا أطيل ، فإن أقرأ عليكم حديث معاذ رضي الله عنه ، فيما نحن بصدد الحديث عنه ، فإنه حديث عظيم ، يحتاج إلى وقوف وتأمل. قال معاذ:قلت يا رسول الله:أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: ((لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه ، تعبدُ الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيمُ الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصومُ رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاةُ الرجل من جوف الليل ، ثم تلا: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون ثم قال: يا معاذ ألا أخبرك برأس الأمر ، وعموده ، وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله.قال رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ، ثم قال يا معاذ ، ألا أخبرك بملاك ذلك كله! (كل ما تقدم). قلت:بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه عليه الصلاة والسلام وقال :كف عليك هذا ، قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال:ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1251)
حسن العهد من الإيمان
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/11/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وفاء النبي لزوجه خديجة بعد موتها. 2- وفاة الصحابة وبعض أمثلته. 3- دعوة إلى
مواصلة من كان لنا به علاقة وانقطعت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عقد البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باباً فقال:باب حسن العهد من الإيمان. إن من عقيدتنا أهل السنة ، أن الإيمان قول وعمل ، وهو اعتقاد بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح، ولهذا الإيمان خصال وشعب أصلها وأعلاها: لا إله إلا الله ، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق.
ومن تلك الشعب ، حسن العهد ورعاية الحرمة ، فإن هذا من شعب الإيمان ، ومن خصاله وصفاته.
إن حسن العهد يكون بحسن العشرة ، ورعاية الحرمة ، وزيادة المحبة والألفة ، ولا يمكن أن يُحسن الإنسان عهده بإنسان، وهو لم يحبه أو يألفه ، أو يعاشره مدة من الزمان ، فإن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إئتلف وما تناكر منها اختلف.
إن حسن العهد من الإيمان ، بين زوج وزوجته ، وابن وأبيه ، وأب وولد ، وصديق وصديقه ، وجار وجاره ، وتلميذ وشيخه.
ولقد حقق النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه هذا المعنى أتم تحقيق ، وكذلك صحابته الكرام رضوان الله عليهم ، حققوا هذا المعنى تحقيقاً كبيرا.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لم ينسَ العهد لزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها بعد موتها ، حفظ عهدها ، ولم ينسَ تلك الأيام التي عاشت معه تقول عائشة رضي الله عنها: ما غرتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرتُ على خديجة ، هلكت قبل أن يتزوجني وما رأيتها ، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن ، تقول عائشة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة؟ فيقول لها:إنها كانت وكانت ، وكان لي منها الولد.
وتقول عائشة :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثنائه عليها واستغفاره لها ، فذكرها يوماً ، تقول: فحملتني الغيرة ، فقلت:لقد عوضك الله من كبيرة السن. قالت: فرأيته غضب غضباً ، أُسقطتُ في خلدي ، وقلت في نفسي:اللهم إن أَذهَبْتَ غضب رسولك عني ، لم أعد أذكرها بسوء.فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت ، قال: ((كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ رفضني الناس ، ورزقت منها الولد ، وحُرمتموه مني ، قالت عائشة:فغدا وراح عليّ بها شهرا)).
شهر كامل يروح ويغدو على عائشة في شأن خديجة ، مع أنها قد ماتت وفارقته لكنه لا يرضى أبداً أن يكلمه أحدٌ في تذكره لها ، وحفظه ورعايته لعهدها ، وعشرتها التي كانت بينهما في سالف الأزمان ، وكيف لا يذكرها وهو يرى أولادها وبناتها بعد فراقها بين يديه ، وكيف لا يحسن عهدها وقد كانت وكانت.
قال النووي رحمه الله:في هذا الحديث دلالة بحسن العهد ، وحفظ الود ، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشرة حياً وميتاً.بل وإكرام معارف ذلك الصاحب.
ولهذا كان عليه السلام يكرم حتى معارف وصواحب خديجة حباً لها ، ورعاية لعهدها ، فيرسل إليهن الطعام ما يكفيهن.
ومرة استأذنت هالة بنت خويلد وأصل القصة في الصحيحين -أخت خديجة ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف استئذان خديجة لشبه الصوت بينهن، فتذكر خديجة قالت عائشة: فارتاع لذلك ، أي فزع ، وفي رواية: فارتاح لذلك أي سروراً بسماع صوت يشبه صوت خديجة، فقال: ((اللهم هالة ، أي اللهم اجعلها هالة ، وعائشة تنظر لهذا التغير في النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت: فغرت ، وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين قد سقطت أسنانها ، وقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ، فعرفت عائشة وقالت:والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير)).
ومرة جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم استقابلها، فقال لها: ((كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فلما خرجت ، قلت يا رسول الله تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال:يا عائشة إنها كانت من صواحب خديجة ، وإنها كانت تأتينا زمان خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان)).
أما الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ، أن حسن العهد من الإيمان ، يخرج أبو بكر الصديق مع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما من صلاة العصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا به يرى الحسن يلعب مع الصبيان ، فيتذكر حبيبه صلوات ربي وسلامه عليه ، فيأخذه ويحمله ويقول:بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي، ثم يذهب ويحمله كما كان يحمله عليه السلام رعاية وحسن عهد لعشرته عليه الصلاة والسلام.
وكان أسامة بن زيد أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي عليه السلام ، أحبه الصحابة أكثر من أولادهم ، لأنه كان أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه السلام: ((من أحبني فليحب أسامة)) وهذا من رعاية الحرمة ، وحسن العهد ، بالذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
فيا عباد الله: من كان بينه وبين إنسان آخر مودة ، ومحبة وألفة ، فإن من الإيمان وحسن العهد أن لا ينساه ولو كان ميتاً ، فيا أخي الحبيب ، أما كانت لك علاقة ومودة مع إنسان ما؟ فما هي أخباره الآن ، هل نسيته ، هل سألت عنه؟ قد تكون العلاقة ، علاقة زوج بزوجته ، فماتت وتركته ، فمن حسن العهد ورعاية الحرمة والعشرة ، ألاّ ينساها ، بل يتصدق عنها ، ويرسل إلى صديقاتها ومعارفها ، ويدعو لها ، خصوصاً إذا كان له منها ولد ، يُذكره بها عندما يراه ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى فاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم بنات خديجة ، كان يراهن بين يديه فيذكر الزمن السالف مع خديجة ، فيُحسن عهدها وذكرها ، ويتصدق عنها ، ويرسل إلى معارفها ، فإن حسن العهد من الإيمان.
وقد تكون العلاقة بينك وبين إنسان ما ، علاقة أب بابنه ، أبٌ فقد ابنه أو بنته إما بسبب مرض أو غيره من عوارض الدنيا.فبقيت الذكريات ، وبقيت أشياء عالقة في ذهن الأب لا يمحوها الدهر ، ولا ينسيه الزمن ذكر ابنه ، فمن حسن العهد ومن رعاية تلك الذكريات ألا يُنسى هذا الابن ، بل يُدعى له ويُستغفر عنه ، ويُتصدق عنه ، ولا ينسى الإنسان حبيبه وأليفه من أهل الدنيا، فإن حسن العهد من الإيمان.
وقد تكون العلاقة ، علاقة ابن بأبيه.بالأمس القريب كان ذلك الأب يملأ البيت بذكره بالأمس القريب كان ذلك الأب يلتف حوله الأبناء والأحفاد ، ذكريات لا تُنسى ، ووشائج قربى لا تُبلى ، فيا أيها الابن ، هل تذكر أباك الآن أم أنك لا تذكره؟ من حسن العهد ألا تنساه ، بل تدعو له وتستغفر له ، وتتصدق عنه ، وتسأل عن أصدقائه ، كيف هم؟ وما هي أخبارهم؟ حباً لأبيك ، ورعاية لما كان بينك وبينه ، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)) [رواه مسلم]. فيا أيها الإبن البار ، جدد العهد ، واحمِ الذكريات الحسنة السالفة بينك وبين أبيك.
كان عبد الله بن سلام مآخياً لأبي الدرداء ، بينهما أخوة ومحبة ومودة ، فلما مات عبدالله بن سلام ذهب ولده يوسف إلى الشام ليسأل عن أبي الدرداء لم يذهب إلا تجديداً للعهد ، ورعاية للحرمة والألفة وتأدية للحقوق ، فإن أبا الدرداء كان محباً لعبد الله بن سلام.فجاءه يوسف وهو يحتضر ، قد قارب مفارقة الدنيا ، ففرح به أبو الدرداء.
ومرة كان ابن عمر يمشي في الصحراء على دابته فقابله أعرابي فتوقف ابن عمر ونزل ، ووقف معه ، وقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى ، ثم ألبسه عمامة كانت عليه وقال له: اشدد به رأسك ، ثم أعطاه دابته وقال: اركب هذا ، فتعجب أصحاب ابن عمر ، وقالوا له: إن هذا من الأعراب ، وهم يرضون بالقليل ، فقال: إن أبا هذا كان وِدّاً لعمر. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)) [والقصة في صحيح مسلم].
وقد مات عمر ، لكن ابنه عبد الله ، قد حفظ العشرة والمودة لأبيه ، وهذا من حسن العهد ، وإن حسن العهد من الإيمان.
أيها المسلمون: وليس كل الأبناء هكذا مع آباءهم ، بل إن منهم من لم يذكر أباه أو أمه ، بعد وفاتهما حتى الآن ، ولم يشغل نفسه بحفظ الذي كان بينهما من عشرة وعطف وحنان ، فليست هذه أخلاق أهل الإيمان وليس هذا من حسن العهد بالوالدين.
والناس مختلفون في هذا بحسب إيمانهم.
ومن النجوم غوامضٌ ودراري
وتفاضل الأقوام في الإصدار
ومن الرجال معالمٌ ومجاهل
والناس مشتبهون في إيرادهم
فيا أهل الإيمان قد تكون العلاقة علاقة أخ بأخيه أو علاقة قريب بقريبه ، إما بخال لا ينساه ، أو بعم قد أحبه وواساه ، أو ابن عم بينه وبينه من المودة والمعزة الشيء الكثير.ثم فرقت الأيام بينهما ، إما بسفر أو بموت ، كيف عهدك به ، هل سألت عنه؟ هل أحسنت عهده؟ فإن حسن العهد من الإيمان.
أقول هذا القول ، وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الأخوة المسلمون: اعلموا رحمني الله وإياكم ، بأن حسن العهد من الإيمان ، وهي خصلة من خصال الأوفياء والصالحين، وله صور عديدة وأشكال متنوعة ، ذكرت لكم نماذج منها ، ومنها أيضاً ما يكون بين الجيران علاقة وأي علاقة ، يكون بينك وبين جار لك تآلفتما وتحاببتما ، فترة من الزمن ، ثم تفارقتما. كان بينك وبينه معروف وصلات ، زيارات ولقاءات ، الآن ما هي أخباره؟ وما هي أحواله؟ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره)) فأين هو هذا الجار؟ وماذا جرى عليه؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه ، وهو يعلم به)) [رواه الطبراني بسند صحيح].
أين حسن العهد ، ورعاية الحرمة والألفة بينكما اسأل عنه ، فإن هذا من حسن العهد ، واعلم بأن حسن العهد من الإيمان.
وقد تكون العلاقة علاقة صديق بصديقه ، ألجأتك ظروفك العملية أو الدراسية أن تلتقيا ، ثم تفترقا فكيف أنت معه الآن ، هل اتصلت به؟ لربما دخل المستشفى وخرج ، ولم تعلم بذلك ، ولربما رزق بمولود فلم تهنئه ، ولربما مات له ولد فلم تعزيه ، ولربمات مات هو بنفسه فلم تصل عليه. فما هذا الجفاء؟ وأين حسن العهد ، أما علمت بأن حسن العهد من الإيمان.
قال الشافعي رحمه الله ، الحر من راعى وداد لحظة. لو جرت بينك وبين صديق وحبيب مودة لحظة ، فإن الحر يراعي ذلك ، ويحسن عهد صاحبه بسبب تلك اللحظة ، فكيف بمن صداقتك معه سنين ، وجرت بينكم أحداث وذكريات.
فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
ولا كل من صافيته لك قد صفا
فلا خير في خل يجيء تكلفا
ويلقاه من بعد المودة بالجفا
ويظهر سراً كان بالأمس قد خفا
صديق صدوق صادق الوعد منصفا
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة
فما كل من تهواه يهواك قلبه
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة
ولا خير في خل يخون خليله
وينكر عيشاً قد تقادم عهده
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها
وقد تكون العلاقة علاقة تلميذ بأحد المشايخ أو الدعاة فلطالما سمعت منه كلمات وتوجيهات ، دروس ومحاضرات ، ولطالما طربت أذناك بسماع صوته وتحرك قلبك ، من جودة إلقاءه ، فتعلمت درساً ، وفقهت حكما ، وعرفت واقعاً ، وسمعت بقضايا لم تكن تخطر لك على بال.
ثم حال بينك وبينه أحد عوارض الدنيا ، إما موت ، أو غيره ، فكيف علاقتك به الآن ، هل تدعو له ، هل تجدد عهدك به ، أم ذلك الحماس ، وتلكم اللحظات والذكريات ، أصبحت اليوم نسياً منسيا.
أما علمت بأن حسن العهد من الإيمان، فيا عبد الله راع وداد اللحظات الماضية ، والذكريات السالفة مع من تحب ، ولا تنسه ، وأحسن العهد بذلك ، راع حرمة الألفة والمودة ، التي عُقدت بينكما في يوم من الأيام ، فإن حسن العهد من الإيمان.
(1/1252)
عام 2000م - 4 –
الإيمان
الولاء والبراء
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/8/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية عقيدة الولاء والبراء. 2- عندما قامت دولة الإسلام في المدينة أضحى الناس من
جهة الولاء والبراء على أصناف ستة. 3- بيان القرآن لما يستحقه كل صنف من اللواء والبراء.
4- الولاء والبراء من مقتضيات الإيمان. 5- استعدادات غير مشكورة في لبنان ومصر
لاستقبال عام2000. 6- الهوس النصراني بهذه المناسبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عقيدة الولاء والبراء، من أهم قضايا المعتقد يراد تمييعه في ظل الاحتفالات بمناسبة الألفية القادمة. ولابد أن يكون لنا وقفة مع هذا الموضوع المهم، توضيحاً وتجليةً وإيراداً لبعض جوانبه التي قد تخفى على البعض منا وقد يغلف بعضها ببعض الأغلفة الإعلامية التي قد تنطلي على البعض خصوصاً ممن لا يرون بأساً بأن يقيم أمة اليهود أو أمة النصارى مناسباتهم كما يقيم المسلمون مناسباتهم.
الولاء والبراء والموالاة والمعاداة من العقائد الأساسية في هذا الدين ومما تميزت به هذه الأمة، وأما الأمم الكافرة فلها شأن آخر تختلف عن الأمة الإسلامية لكونها فسقت عن أمر الله وتولت الشيطان. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله)) [رواه الطبراني بسند حسن].
بل إن الإيمان لايستكمل إلا بهما كما قال صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)) [رواه الإمام أحمد].
بقي النبي صلى الله عليه وسلم فترة بعد البعثة في مكة مقيماً بين أظهر المشركين من كفار قريش، وبعدها أمره الله تعالى بالهجرة إلى المدينة فهاجر وأقام بالمدينة دولة الإسلام وبعدها انعزل أولياء الرحمن عن أولياء الشيطان واستقل المسلمون استقلالاً كاملاً فانقسم الناس بعدها في تلك الفترة إلى ستة أقسام :
القسم الأول: المؤمنون الصادقون من المهاجرين والأنصار الذين كانت تظلهم راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
القسم الثاني: الذين آمنوا ولم يهاجروا وبقوا في ديارهم خارج دولة المدينة. القسم الثالث: المنافقون الذين كانوا في المدينة وما حولها.
القسم الرابع: اليهود وكانوا مقيمين في المدينة.
القسم الخامس: النصارى وكانوا بعيدين عن المدينة مثل من كان منهم في نجران وفي الحبشة وفي الشام.
القسم السادس: المشركون من العرب وغيرهم.
فجاء القرآن الكريم يبين طبيعة العلاقة مع كل من هؤلاء ومن له الولاية ومن له العداوة ومن يحب ومن يبغض.
فأما القسم الأول: وهم المؤمنون الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن كان من أهل المدينة لكنه بذل من ماله في نصرة الإسلام في أول أمره فقد قال الله تعالى عنهم: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض فجعل الله بينهم الولاية التامة.
وأما القسم الثاني: وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا فقد قال الله في حقهم: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير. فهؤلاء ليس لهم نصيب في مغانم الغزوات ولا في خمسها إلا إذا حضروا القتال، فهذه الفئة لها ولاية لكن ولايتها ناقصة فلو حصل بينهم وبين الكفار نزاع لوجبت نصرتها.
وأما القسم الثالث: وهم المنافقون: فإنهم يعاملون بحسب الظاهر منهم لكن ينبغي الحذر منهم، فلهم من الموالاة بقدر ما يظهرون من الدين، ولهم من البراءة بقدر ما يظهر منهم من خبث.
ولهذا لما اعترض رجل على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستؤذِن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضرب عنقه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا لعله أن يكون يصلي، فقال خالد بن الوليد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقّب قلوب الناس ولا أشق بطونهم)) [متفق عليه].
فأما من أظهر كفره من هؤلاء المنافقين كما هو حال بعض المنافقين المعاصرين من خلال أقلامهم التي يكتبون أو مقالاتهم التي ينشرون أو دخولهم في أحزاب علمانية أو مذاهب كفرية وظهر للمسلم شيء من ذلك وثبت عنده فالواجب عندئذٍ أن يجاهدوا وأن يضيق عليهم ولا يتركون يعيثون ويعبثون قال الله تعالى: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير.
ولو حصل جهاد شرعي وقتال للكفار فإن هؤلاء المنافقين لا يمكنون من الخروج مع المسلمين كما قال سبحانه: فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ويقاس على الجهاد كل أمر مهم فيه مصالح للمسلمين فلا يجوز أن تعطى هذه المناصب لهؤلاء المنافقين ولا أن يتولوا ما فيه مصلحة للمسلمين لأنهم خونة والأصل أن لا يؤتمنوا.
ومن مات منهم فإنه لا يصلى عليه ولا يشهد جنازته قال الله تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون.
الموالاة إذن منقطعة عن أمثال هؤلاء، والمعاداة واجبة في حقهم.
وأما القسم الرابع والخامس: وهما اليهود والنصارى: فقد أكثر القرآن الكريم من ذكرهم وبين كثيراً من عقائدهم المنحرفة وسلوكهم المعوج وما تنطوي عليه ضمائرهم من الأحقاد تجاه المسلمين ولا سيما اليهود الذين عايشهم المسلمون في الجاهلية والإسلام في المدينة، وقد سالمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدهم، ولكنهم نكثوا العهود لأنهم خونة، وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم العلاقة معهم قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال سبحانه: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وقال جل وعز: ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون.
فالأصل في اليهود والنصارى المعاداة وأنهم أهل حرب ولا مودة بيننا وبينهم حتى يسلموا، ولو ماتوا وهم على عقائدهم الحالية فهم كفار حطب جهنم خالدين مخلدين فيها أبداً.
فلا سلام معهم ولا استسلام لهم، وبناءً عليه يُعلم خطورة مشاركتهم في أعيادهم واحتفالاتهم ومشابهتهم في بعض شئونهم، وأن هذا خدش في معتقد الشخص المشارك، وأنه على خطر عظيم هذا إن سلم من الكفر قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى " وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم ".
وأما القسم السادس: وهم المشركون: فهؤلاء يدخل فيهم جميع الكفار عدا اليهود والنصارى، وهؤلاء قد شدد الإسلام في جانبهم وضيق عليهم حتى ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا تقبل منهم جزية بل إما الإسلام أو القتال.
ومن ثم أصبحت العلاقة مع هؤلاء مبتورة فلا موادة بيننا وبينهم ولا صداقة ولا مناصرة قال الله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاه ويحذركم الله نفسه وقال سبحانه: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
وبناءً على ما تقدم ينبغي أن يعلم الآتي:
أولاً: وجوب محبة الله واتباع مراده: وهذا أصل عظيم من أصول العقيدة قال الله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله.
ثانياً: المرء مع من أحب: فمن أحب شيئاً تعلق به وانساق وراءه ووالاه. فمن أحب أهل العلم وأعجب بهم فإنه يحاول محاكاتهم وتتبع آثارهم.
ومن أحب الأثرياء والزعماء فإنه يتشبه بهم ويتمنى أن يلتحق بهم.
ومن أحب اليهود والنصار والكفار والمشركين تأثر بهم وتعلق بهم وفعل مثل أفعالهم وجاملهم وشاركهم وهنئهم، ولو هلك أحدهم عزّاهم وربما مشى في جنائزهم والعياذ بالله وكل هذا على حساب دينه.
ثالثاً: الحق والباطل ضدان: فلا يمكن أن يجتمع أتباع الحق وأتباع الباطل أو أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، بل هما عدوان متنافران، لا لقاء بينهما ولا مصالحة ولا تنازلات بل هو الصراع الدائم إلى يوم القيامة وهذه سنة الله بل شرعه الذي شرعه قال الله تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم.
رابعاً: محبة الرحمن تقتضي بغض أتباع الشيطان: ومجاملة أو مشاركة أتباع الشيطان يكون على حساب محبة الرحمن: ولا خلاف بأن اليهود والنصارى من أتباع الشيطان، واجتماع المحبتين محال، فكما لا يصح أن يدين المسلم بدين غير الإسلام فكذلك لا يصح أن يعطي ولاءه لغير أهل الإسلام قال الله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا.
وما أجمل تلك العبارة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله قائلاً: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة".
نسأل الله تعالى العصمة ونعوذ به من الخذلان.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وبعد ما سمعتم شيئاً من أحكام الإسلام في قضية أساسية من قضايا المعتقد وهو الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين لا بأس أن تسمع هذا الخبر والذي نشر في الشرق الأوسط [1] وبخط عريض – لبنان 2000 يحوّل رصيفه البحري إلى حلبة رقص عملاقة. يقول الخبر: يشهد لبنان مع اقتراب الألفية الثالثة جهوداً للاحتفال بالمناسبة، فهي تجمع بين إطلالة القرن الحادي والعشرين وشهر الصوم وعيد الفطر المبارك، ويضم برنامج الاحتفال منصات للجهات المشاركة تتصدرها منصة لبنان الذي بدأ باستعادة دوره على الساحة العالمية، كما يتضمن البرنامج مهرجانات موسيقية بمشاركة العديد من الفنانين اللبنانيين والعالميين، كما ستنظم حفلات خاصة بالأطفال وتقام حلبة رقص عملاقة مع شاشات ضخمة لنقل احتفالات عيد رأس السنة إلى انحاء العالم. وتشارك مجموعة من وسائل الإعلام العالمية بنقل وقائع المهرجان منها الـ ( CNN ) كما سيوضع جهاز ليزر على إحدى القمم المواجهة لمدينة بيروت لينشر أشعته على ساحة المهرجان والبحر والعاصمة إضافة إلى أربعة أجهزة ستقام في المكان عند تمام الساعة صفر من العام 2000 حينها يبدأ عرض راقص مذهل يبرز خلاله الراقصون ويحمل زيّهم شعار لبنان 2000، وسيتم نقل الاحتفال مباشرة إلى أنحاء العالم – نذّكر فقط بأن بداية الألفية سيكون في العشر الأواخر من رمضان والمسلمون صائمون ومشغولون بالتراويح وقيام الليل وقراءة القرآن – نكمل الخبر: وفي اطار لبنان 2000 تقام مباريات بين مجموعات من الفنانين في مجالات الغناء والموسيقى والرسم والنحت ويضم مشروع الاحتفال قرية خاصة تقام على ساحة الحدث، وتتسع لحوالي 20 ألف شخص جهزت بسلسلة من المطاعم ووسائل التسلية. إلى آخر هذا الخبر المخزي ديناً وخلقاً وولاءً.
خبر آخر منشور: كشفت مصر النقاب عن خططها للاحتفال بحلول الألفية الثالثة حيث سيُنظّم احتفال وسط الأهرامات لمدة اثني عشرة ساعة، تقول الحكومة المصرية أنه سيكون أضخم احتفال تشهده البلاد، وسوف يشتمل برنامج الاحتفال على اوبرا الكترونية خاصة من تأليف الموسيقار الفرنسي جان ميشال، وستكون العلامة البارزة في الاحتفال اكساء هرم خوفو بالذهب، وعبّر وزير الثقافة المصري فاروق حسني عن أمله في أن يساعد الحفل على تحسين صورة مصر في الخارج. انتهى الخبر ولا تعليق.
ونشرت جريدة الحياة [2] خبراً يتضح لك من خلاله سخافة وسذاجة عقلية فئات من النصارى، فطوائف منهم يعتقدون أن نهاية العالم سيكون مع نهاية الألفية الثانية. يقول الخبر: مسيحيون يؤمنون بزوال العالم في نهاية العام. تفاصيل الخبر: ترتفع حمى الألفية بين الطوائف والمجموعات المسيحية الأمريكية التي ترى في نهاية الألفية الثانية نهاية للعالم بأسره، واتخذ مكتب التحقيقات الفدرالي والسلطات الإسرائيلية أقصى درجات الحذر من هذه المجموعات، وطردت الدولة العبرية حتى الآن نحو عشرين شخصاً في غالبيتهم من الأمريكيين وذلك لترويجهم مثل هذه الخرافات.
وفي المقابل اسمع للخبر الآخر الذي نشرته الاقتصادية [3] عن الهوس النصراني الأمريكي من جهة أخرى حول نفس المناسبة نهاية الألفية الثانية: ارتفعت أسعار العشاء في ليلة الألفية في مطاعم نيويورك الفاخرة ليصل سعر العشاء في أعلى ناطحات السحاب إلى ثلاثة آلاف دولار. ويكلف أقل عشاء في ليلة الألفية ما يتراوح بين 500 و900 دولار. آخر الخبر: ورغم هذه الأسعار الفلكية يعتقد كثيرون أن استقبال الألفية الثالثة في احتفال باذخ في أعالي ناطحات السحاب التي تطل على مناظر خلابة يستحق إفراغ الجيوب.
أقول إنه إفراغ للعقول قبل الجيوب، ولو كان للنصارى عقل صحيح لما عظموا الصليب، والصليب عندهم يرمز لما يعتقدون في عيسى عليه السلام حيث يزعمون أن اليهود قد صلبوه وهذا من حماقتهم، إذ كيف يفتخر المرء ويعتز بما يرى أن له علاقة وارتباط بهلاك من يحبه. لكن هذه هي عقول القوم. وعلى أي حال فأمر النصارى في شرائعهم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: إنه لا ينضبط لهم شريعة مطردة على مر الأزمان لأنهم يجيزون لأحبارهم ورهبانهم شرع الشرائع ونسخها... فهم في كل مرة ينسخون أشياء ويشرعون أشياء من الإيجابات والتحريمات وتأليف الاعتقادات وغير ذلك. انتهى.
وبهذا تعلم بأن دين النصارى الحالي عبارة عن خليط من زبالة عقول البشر وضعه أناس من عند أنفسهم، وكلما جاءهم راهب غير وبدل من عند نفسه، وأدخل في الدين ما يعجبه وحذف ما لا يسوغ له، وهذه الملايين من البشر من الأمم النصرانية كقطعان المواشي والبهائم تتّبع ولا تفكر ولا تعمل عقولها، وهي الآن تريد أن تحتفل بعيد هذا خلاصته ولا يستبعد أن يسافر بعض المسلمين ليشاركوا الأمم النصرانية الضالة في عيدهم هذا، وسيدفعون ثلاثة آلاف دولار مقابل وجبة عشاء ربما لا يساوي في غير هذه المناسبة مائة دولار. وما قيمة الثلاثة آلاف دولار وهم قد دفعوا قبل ذلك عقيدتهم رخيصة في مقابل حضور مناسبة شركية.
[1] الأحد 31/10/1999م
[2] السبت 28/7/1420هـ
[3] الخميس 19/7/1420هـ
(1/1253)
عام 2000م - 3 –
الإيمان, موضوعات عامة
الولاء والبراء, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/8/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير النصوص من مشابهة الكافرين. 2- الميلاد الهجرة من خصائص أمتنا. 3- من
خصائص أمتنا أنها أقل الأمم عملاً وأكثرهاً أجراً. 4- اليهود والنصارى فِكاكنا من النار.
5- كفر اليهود والنصارى. 6- خصائص متفرقة لأمة الإسلام. 7- من ثمرات النصارى في
احتفالات الألفية الدعوة إلى وحدة الأديان – التبشير. 8- الانتحار في أوربا بمناسبة الألفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
نواصل الحديث عن موضوع نهاية الألفية الثانية، وقد انتهينا في الخطبة السابقة عن حكم الاحتفال بهذه المناسبة، وخلصنا من أقوال العلماء أنها مناسبة باطلة لا يجوز الاحتفال بها لأنها قائمة على أساس شركي باطل، ثم ذكرنا حكم مشاركة المسلم في هذه الاحتفالات وأنه حرام ولا يجوز، وذكرنا غفلة بعض الناس عندنا كأصحاب بعض المحلات من تخفيض على السلع أو عمل دعايات بمناسة الألفية وأن هذا نوع من المشاركة المحرمة. وذكرنا أيضاً اعتقاد اليهود الباطل في عيسى عليه السلام ومثلهم النصارى، وختمنا بعقيدة المسلمين الحقة في عيسى صلى الله عليه وسلم التي بينها ربنا في كتابه ونبينا صلى الله عليه وسلم في سنته، وأنه بريء من كل ما ينسب إليه أو يفعل باسمه في الاحتفالات القادمة. مرة أخرى ما علاقتنا نحن المسلمين بهذه الألفية وهذه الاحتفالات والتي في حقيقتها أعياد شركية باطالة محرفة، إنها مناسبة لا تمت للمسلمين بصلة، وإن احتفال بعض الدول بهذا العيد، ومع كونه محرماً في ذاته فهو أيضاً يدخل في التشبه بالكفار من جهة أخرى.
ولقد جاءت النصوص الكثيرة جداً من الكتاب والسنة تنهى عن التشبه بهم وتبين أنهم في ضلال، فمن قلدهم فقد قلدهم في ضلالهم قال الله تعالى: ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون وقال سبحانه: ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق.
وما من شك أن مشابهتهم أوحضور المسلم لاحتفالاتهم أو احتفال المسلمين في بلادهم بمناسباتهم كعيد الألفية القادم لمن أعظم الدلائل على مودتهم ومحبتهم، وهذا يخرق عقيدة الولاء والبراء، ويناقض البراءة من الكفر وأهله، والله جل وعز نهى المؤمنين عن مودتهم وموالاتهم، وجعل موالاتهم سبباً لأن يكون المرء والعياذ بالله منهم قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال تعالى: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "المشابهة تورث المودة والمحبة والموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر" انتهى.
إن من الأصول العظيمة التي هي من أصول ديننا الولاء للإسلام وأهله والبراءة من الكفر وأهله، ومن محتّمات تلك البراءة من الكفر وأهله تميز المسلم عن أهل الكفر واعتزازه بدينه وفخره بإسلامه مهما كانت أحوال الكفار قوة وتقدماً وحضارة، ومهما كانت أحوال المسلمين ضعفاً وتخلفاً وتفرقاً، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تتخذ قوة الكفار وضعف المسلمين ذريعة لتقليدهم ومسوغاً للتشبه بهم كما يدعو إلى ذلك المنافقون والمنهزمون.
مرة أخرى ما علاقتنا نحن المسلمين بهذه الألفية، فنحن أمة لها خصائصها ولها ما يميزها عن اليهود وعن النصارى وعن غيرهما من الأمم الكافرة الضالة، ولعل جهل بعض الناس بهذه القضية هو أحد أسباب الإنزلاق في هذه المخالفات العقدية، فهذه الأمة: خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل قال الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس أخرج ابن ماجة والبيهقي بسند حسن قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنكم وفّيتم سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله)) ويظهر هذا الإكرام كما قال المناوي رحمه الله تعالى في أعمالهم وأخلاقهم وتوحيدهم ومنازلهم في الجنة ومقامهم في الموقف وغير ذلك، ومما فضلوا به الذكاء وقوة الفهم ودقة النظر وحسن الاستنباط فإنهم أوتوا من ذلك ما لم ينله أحد ممن قبلهم ألا ترى إلى بني إسرائيل عاينوا من الآيات الملجئة إلى العلم بوجود الحكيم وتصديق الكليم كانفجار البحر ونتق الجبل وغير ذلك ثم اتخذوا العجل وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. انتهى.
فعجباً لأمة هي خير الأمم وأكرم الأمم ويريد بعض أفرادها أن ينعقوا وراء عباد العجل.
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة التاريخ الهجري الذي يميزها عن باقي الأمم، فالتاريخ الهجري هو تاريخ المسلمين المعتمد الذي انعقد الإجماع على العمل به، وهو من شعائر أهل الإسلام، والرغبة عنه إلى غيره من تواريخ الشرق أو الغرب خروج عن الإجماع وإظهار شعار من شعائر الكفار واستغناء به ومشاركة في طمس الهوية الإسلامية. ولا يمكن أن تستقيم عبادات هذه الأمة التي أمرها بها خالقها إلا بالتاريخ الهجري. فعبادات هذه الأمة مرتبط بهذا التاريخ وغيره لا يصلح لنا. وأظن أنه لا يخفاك أن الألفية القادمة مرتبطة بتاريخ النصارى.
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة الأقل عملاً والأكثر أجراً: وهذا من فضل الله تعالى بأن جعل الطاعات التي تقوم بها لله تعالى قصيرة وليست فيها مشقة، وهذا يوضحه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى. ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم. فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاءً؟ فقال: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء)).
قال ابن كثير رحمه الله: والمراد من هذا التشبيه بالعمال وتفاوت أجورهم، وأن ذلك ليس منوطاً بكثرة العمل وقلته، بل بأمور أخر معتبرة عند الله تعالى، وكم من عمل قليل أجدى ما لا يجديه العمل الكثير.
هذه ليلة القدر العمل فيها أفضل من عبادة ألف شهر في سواها، وهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنفقوا في أوقات لو أنفق غيرهم من الذهب مثل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه من تمر. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره وقبضه وهو ابن ثلاث وستين على المشهور، وقد برز في هذه المدة التي هي ثلاث وعشرون سنة من العلوم النافعة والأعمال الصالحة على سائر الأنبياء قبله حتى نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويعمل بطاعة الله ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
فهذه الأمة إنما شرفت وتضاعف ثوابها ببركة سيادة نبيها وشرفه عظمته كما قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدروا على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله يجعل الكفار من اليهود والنصارى فداءً للمسلم من النار يوم القيامة: فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار)) رواه مسلم. وعند الإمام أحمد بسند صحيح عن عمر بن عبدالعزيز عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهودياً أو نصرانياً)) قال فاستحلفه عمر بن عبدالعزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحلف له فسرّ بذلك عمر.
ومعنى هذا الحديث كما قال النووي رحمه الله تعالى: أن الله يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التفسير لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم قال: ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان الكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها والله أعلم. انتهى.
أليس من الغبن أن يتشبه بعض المسلمين ويقلدوا قوماً يجعلهم الله يوم القيامة حطب جهنم؟ وليس عندنا شك بأن كل اليهود والنصارى إذا لم يسلموا فهم وقود النار لأنهم يموتون على الكفر، وقد وجه هذا السؤال للجنة الدائمة للإفتاء: هل يجوز للمسلم أن يقول على اليهودي أو المسيحي كافر؟
فكانت الإجابة: يجوز للمسلم أن يقول لليهودي أو المسيحي أنه كافر لأن الله وصفهم في القرآن بهذا الوصف، وهذا معلوم لمن تدبر القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى.
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أمة الغيث، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنهم شهداء الله في الأرض، وأنهم الشهداء على الأمم، وأمة السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأول الأمم إجازة على الصراط، وأول الأمم دخولاً الجنة، وأنهم أكثر أهل الجنة، وأمة السلام والتأمين، وجعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً، ويأتون يوم القيامة غراً من السجود محجلون من آثار الوضوء، أمة السحور، أضل الله اليهود والنصارى عن يوم الجمعة وهدانا إليه سياحتها الجهاد في سبيل الله، أحلت لها الغنائم، تجاوز الله عن ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تتكلم، من مات من هذه الأمة يوم الجمعة أو ليلته وقاه الله فتنة القبر، أمة الإسناد، مرض الطاعون شهادة لهذه الأمة، وضع الله عنها الخطأ والنسيان، خفف الله عنها كثيراً من الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وغيرها من الخصائص التي ينبغي لها أن تعيها وأن تعتز بها وأن لا تجري وراء كل ناعق وماحق.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
سيكون لكل من اليهود والنصارى بمناسبة الألفية جهود مكثفة في نشر معتقداتهم وتغطيتها إعلامياً مما قد يجعل تسربها إلى بعض النفوس المريضة أمراً محتملاً، وسيكون هناك تجديد وتكرار مرة أخرى لموضوع سبق طرحه وهو الدعوة إلى وحدة الأديان دين الإسلام ودين اليهود ودين النصارى وما يتفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء مسجد ومعبد وكنيسة في محيط واحد في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن والتوراة والإنجيل في غلاف واحد إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة الباطلة.
وقد كانت هناك جهود قديمة في الموضوع وقد عقدت مؤتمرات وعملت ندوات وجمعيات في الشرق والغرب من أجل هذه الموضوع، وبمناسبة الألفية سيجدد الطرح مرة أخرى، فينبغي أن يعلم بأن الدعوة إلى وحدة الأديان والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة والغرض منها خلط الحق بالباطل وهدم الإسلام وتقويض دعائمه وجر أهله إلى ردة شاملة ومصداق ذلك في قول الله سبحانه: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وقوله جل وعلا: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء.
وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر والحق والباطل والمعروف والمنكر وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين فلا ولاء ولا براء ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جل وتقدس يقول: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويقول تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين.
إن الدعوة إلى وحدة الأديان إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فهي فكرة مرفوضة شرعاً محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع.
أيها الأحبة: ومن غريب ما قرأت بمناسبة الألفية وهو في الحقيقة ليس بغريب على الأمم الكافرة، وقد نشر الخبر في جريدة الحياة، وهو أن السويد تتوقع زيادة حالات الانتحار في نهاية الألفية.
معلوم أن السويد من أشهر الدول في كثرة عدد المنتحرين يومياً، تقول احصاءاتهم أن أربعة أشخاص في المتوسط معظمهم من الرجال ينتحرون كل يوم في السويد التي يبلغ عدد سكانها تسعة ملايين نسمة.
يقول الخبر: تتأهب السلطات الصحية في السويد لارتفاع متوقع في عدد حالات الانتحار في نهاية الألفية بعد أن ظهرت دراسة جديدة أن عدد المنتحرين يرتفع أكثر من عشرة أضعاف. وتقول الدراسة: بأن العدد يتوقع أن يصل إلى 50 شخص في اليوم الأول من العام الجديد.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) [رواه البخاري].
اللهم رحمة اهد بها..
(1/1254)
عام 2000م - 2 –
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/8/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سر اهتمام اليهود بهذا الحدث الذي يفترض أنه حدث نصراني. 2- صور في احتفالات
النصارى واهتمامهم بهذا الحدث. 3- نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. 4- مشاركة مذمومة
لبعض المسلمين في الاحتفالات. 5- تحريم المشاركة في أعياد الكفار. 6- تباين الملل الثلاث
في نظرتها إلى عيسى عليه السلام. 7- الحكمة في نزول عيسى عليه السلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
واستكمالاً لموضوع قدوم عام 2000م، هذا الحدث الذي صنعوا له زخماً إعلامياً غير عادي، وذلك كما ذكرنا لارتباط القضية عندهم بأبعاد دينية، وقد ذكرنا في الخطبة المتقدمة ما يتعلق باليهود حول هذا الموضوع، وما هي علاقة اليهود بعام 2000م مع أن الأصل أن تكون القضية مما يهم النصارى أكثر، وذكرنا ما صرح به اليهود ضمن مخططاتهم والتي تواكب هذا الوقت، وأن من أكبر ذلك محاولاتهم في هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل مكانه لا مكنهم الله من ذلك.
بل إن اليهود وفي ظل هذا الفراغ الذي تعيشه الأمة الإسلامية بعامة والعرب منهم بخاصة فإنه بدخول الألفية الثالثة تقترب دورة الزمان في التاريخ اليهودي من الإنتهاء لتبدأ دورة جديدة، ما هي هذه الدورة إنها دورة زمان - السلام – ذلك الحلم الذي يعتقد اليهود أنه سيقضي على كل عداء لهم، أما نحن المسلمين فنعتقد بأن عداء اليهود باق إلى قيام الساعة، ومهما بذلت من محاولات، ومهما كرّست من جهود فإنها ستذهب هباءً منثوراً، وسيأتي اليوم الذي سيقتل فيه اليهود ويذبحون ذبح الشياه على أرض فلسطين إن شاء الله تعالى.
أما النصارى فإنهم معنيون بوجه خاص في خضم هذه الأحداث، فالألفية مقترنة بالمسيح عليه السلام وهو نبيهم المرسل إليهم، وإذا كان قد قدم مرسلاً منذ ألفي عام فإن النصارى ينتظرون ألفاً أخرى يعيشون فيها في كنفه وتحت قيادته لدى مقدمه الثاني حسب ما يزعمون ويتوقعون ظهوره مع بداية عام 2000م.
فالألفية ليست ذكرى ميلاد فقط وليست خصوصية زمان فحسب، فإن النصارى يحتفلون بعيدهم في نهاية كل عام ميلادي، بل هي بوابة عبور إلى مرحلة جديدة لعصر جديد تعتقد طوائف من النصارى أن الأرض كلها ستخضع فيه لدين المسيح.
إن النصارى ومنذ فترة طويلة جداً وهم يستعدون لإقامة حفل ضخم جداً ربما لم تشهد الأرض كلها مثله في بداية ألفيتهم، وقد قرر أن يكون مكان هذا الحفل هو بيت لحم في فلسطين لاعتقاد النصارى أنه المكان الذي ولد وترعرع فيه عيسى عليه السلام، وسيحضر النصارى من كل مكان لشهود هذا العيد، ومنذ أكثر من سنة والفنادق محجوزة ورحلات السفر مرتبة ومعدة، والحجوزات مؤكدة، وسيتسابق النصارى حكاماً ومحكومين لحضور هذا العيد، وفي هذا المكان، وقد قدرت بعض المصادر أن عدد من سيحضرون إلى القدس في أواخر هذا العام الميلادي لهذا العيد الشركي الباطل أكثر من مليونين من النصارى، وبعد أن تأكد حضور البابا بنفسه لهذا العيد وشهوده هذه الاحتفالات فقد زاد عدد من قرر السفر إلى هناك والحضور، فبلغت تقديراتهم قرابة الثلاثة ملايين، ومهما يكن من أمر فالحشد كبير وخطير، وأساس مبدأ هذا التجمع أساس كفري باطل وعيد شركي ظاهر. ومن المقرر أن يشارك العديد من القادة والزعماء العالميين في إحياء تلك الذكرى الألفية وعلى رأسهم بابا الفاتيكان والرئيس الأمريكي والرئيس الروسي الذي انضم هو الآخر إلى هيئة رئاسة الاحتفالات الدينية، ولا أدري ما علاقته هو بالذات بعيد النصارى، أنسي الشيوعية الإلحادية، أم أن السياسة لا تعرف التعصب الديني، أم أن فكرة وحدة الأديان فعلاً بدأت بالتطبيق؟ على كل سيكون هو في رأس من يحضرون هذه العيد.
وقد رصد لهذا الاحتفال مبلغ 322 مليون دولار، وقد أعلنت بعض الدول كالأردن ومصر أنهم سيشاركون في هذا الاحتفال، أما السلطة الفلسطينية فهي المنظمة الأولى لهذا الحفل. ولكن كيف ينظر الإسرائيليون واليهود لهذا القدوم أو الهجوم النصراني لتلك البقعة الذي لم يشهدوه من قبل؟ إنهم بلا شك سيحاولون استغلاله لصالحهم، ولكنهم مع ذلك لا يخفون مخاوفهم وعدم تفاؤلهم بهذه المناسبة، لأنهم يعلمون أن للنصارى رغم تأييدهم لإسرائيل حساباتهم الخاصة، فالعداوة بينهم قديمة، ولا زالت قال الله تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب.
ومن جهود النصارى والتي يبذلونها منذ زمن ليكون لهم وجود في تلك الأرض التي هي في أيدي اليهود محاولة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وقد وضعوا ضمن خطتهم أن يتم ذلك مع بداية عام 2000م. لقد تبنى الكونجرس الأمريكي النهج الإسرائيلي فيما يتعلق بالقدس فقد وافق على مشروع تقدمت به وزارة الخارجية لتخصيص مبلغ مائة مليون دولار لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
وبدأ المشروع بمقدمة وهو نقل منزل السفير الأمريكي إلى القدس ريثما تتم الترتيبات لنقل السفارة نفسها، وقد جاءت الخطوة جزيئة لجس النبض لدى العرب، ونظراً لأن النبض العربي لا يمكن حسه لشدة ضعفه، فالمتوقع أن تقدم الحكومة الأمريكية على خطوات أوضح فيما يتعلق بنقل السفارة قبل عام 2000م أو في بدايته.
إن النصارى يحتفلون كل سنة بعيد رأس السنة الميلادية، لكن لهذه السنة ولهذا العيد مذاق خاص فهو حدث غير عادي بالنسبة لهم، إن هذا الحدث النصراني لن يكون الاحتفال بليلة رأس السنة فيه كما هو المعتاد في بلاد النصارى فحسب وفي قبلة ديانتهم الفاتيكان، بل الاستعدادات جارية ليكون مركز الاحتفال الرئيس بيت لحم موضع مولد المسيح عليه السلام، وسينتقل إليها أئمة النصارى كما ذكرنا: السياسيون والدينيون الإنجيليون منهم والمعتدلون بل والعلمانيون لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط الصحافة العالمية في الحديث عنها كلما اقترب الحدث يوماً بعد يوم، وسيؤمهم البابا يوحنا بولس الثاني، ومع كل أسف ستشارك بعض الدول الإسلامية في هذه التظاهرة العالمية على اعتبار أن بعض شعائر العيد النصراني يقع في أراضيها، بل إن كثيراً من المسلمين سيشاركون في تلك الاحتفالات على اعتبار أنها مناسبة عالمية تهم سكان الأرض كلهم.
السؤال: ما هو حكم الإسلام في مشاركة المسلم في احتفالات الألفية النصرانية القادمة؟ الجواب: إن المشاركة فيه مشاركة في شعيرة من شعائر دينهم، والفرح بهذا العيد فرح بشعائر الكفر وظهوره وعلوه، وفي ذلك من الخطر العظيم على عقيدة المسلم وإيمانه حيث إن من تشبه بقوم فهو منهم كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بمن شاركهم في شعائر دينهم؟ كيف يرضى المسلم أن يشاركهم في أعيادهم وهو يقرأ في كتاب الله عز وجل قول الله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم ؟
كيف يفرح المسلم بعيد الكفار وهو يقرأ في القرآن قول الباري جل وعز: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارً حسداً من عند أنفسهم ؟
كيف يجامل المسلم على حساب عقيدته ويشارك النصارى في شعائر كفرهم وهو يقرأ قول الله سبحانه: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء وقوله تعالى: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون وقوله تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى التي تبين أن عداوتنا للكفار بجميع مللهم ونحلهم يهوديهم ونصرانيهم عداوة أزلية باقية ما بقي الليل والنهار، وأن هذا هو قدر هذه الأمة، وأنه لا سلام إلا بإسلام القوم وإلا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين.
وقد أفتت اللجنة الدائمة في هذه البلاد أن من أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين وأنه من أهل النار كما قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة وقال جل وعلا: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية وغيرها من الآيات. وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار)).
أيها المسلمون: وإن من صور المشاركة بعيد الألفية والتي لا تجوز وقل من يتنبه لها هو أن بعض أصحاب المحلات التجارية يضع إعلاناً أنه بمناسبة عام 2000م سيكون هناك تخفيضات على البضاعة الفلانية، أو أية دعاية بهذه المناسبة، مرة أخرى ما علاقتنا نحن المسلمين بعام 2000، لا بأس أن يعمل دعاية لمحلك، ولا بأس أن تخفض من قيمة بعض البضائع لكسب الزبائن، لكن لا تربط ذلك بعيد من أعياد النصارى الكفرية كعام 2000 أو غيره، وانتبه لهذا المزلق فقد وقع فيه صالحون والسبب ضعف العلم وعدم السؤال وعدم توقي الشبهات والاغترار بما يبث في وسائل الإعلام وغيرها من الأسباب. نسأل الله تعالى الهداية.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
لم يخلق الله تعالى بشراً اختلفت فيه الأمم وتباينت فيه المعتقدات مثل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي هو موضوع الألفية القادمة، وهو عليه الصلاة والسلام برئ من كل ما سيحصل من كفر وشرك وأعياد باطلة.
أما النصارى المعظمين له والمغالين فيه فإنهم يتوقعون عودته في هذه الحقبة التي نعيشها بكل تشوق وتشوف وتلهف وتحسب، ولا شك أن تلك المشاعر ستزداد مع الأيام القليلة القادمة أي في بدايات الألفية الثالثة لميلاده عليه السلام، والتي يعتقد أكثر النصارى واعتقادهم هذا باطل أنها ستكون ألفية مجيئه ثانية إلى الأرض.
وأما اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وآذوه وعادوه وحاولوا قتله فإنهم لا يزالون يكفرون به وهم عندهم مسيحهم المنتظر غير مسيح النصارى ويترقبون قدومه أيضاً في وقت قريب، وهذا أيضاً اعتقاد فاسد باطل لا أصل له.
أما نحن المسلمين فإننا نعتقد أن عيسى سينزل في آخر الزمان إلى الأرض كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأن نزوله سيكون عند المنارة البيضاء شرقي دمشق لا كما يزعم النصارى بأن نزوله سيكون في فلسطين.
وإذا نزل سيحكم بالإسلام وسيقتل الدجال.
فقد زعم اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فصدّق النصارى هذه الدعوى ثم اتخذوه ديناً وعقيدةً، فعلقوا الصليب، فأبطل القرآن زعمهم هذا، وأنه لم يقتل بل رفعه الله إلى السماء، ورفعه إلى السماء كان ببدنه وروحه، وألقى جل وعلا الشبه على غيره قال الله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ثم أشار الله تعالى إلى أنه سينزل في آخر الزمان فيبقى ما شاء الله له أن يبقى ثم يتوفاه الله فقال جل شأنه: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا. ويبقى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم بعد نزوله أربعين سنة يحكم فيها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا ينزل بشرع جديد، لأن دين الاسلام خاتم الأديان باقٍ إلى قيام الساعة لا ينسخ، فيكون عيسى عليه السلام حاكماً من حكام هذه الأمة ومجدداً لأمر الإسلام، ولا يكون نزوله على أنه نبيّ، فلا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، بل يقيم الاسلام في الناس ويصلي إلى الكعبة ويحج ويعتمر. ويُنعم الله فيها على البشرية وقت حكم عيسى عليه السلام برخاء وأمن وسلام عجيب لم يمر بالبشرية بمثلها.
أيها المحب: ولعلك تتسائل عن اختيار عيسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء لينزل إلى الأرض؟ الجواب: هو أن العلماء تلمسوا بعض الحكم في ذلك: منها: إبطال زعم اليهود بقتله، فينزله الله تعالى في آخر الزمان فيقتلهم ويقتل رئيسهم الدجال. ومنها: إبطال كذب النصارى في أنه صُلب فينزله الله تعالى في آخر الزمان فيكسر صليب النصارى ويقتل الخنزير ليتبين عدم صحة هذه الديانة التي تكتسح البشرية اليوم، وأنها ديانة باطلة محرفة لا يقبلها الله، ومن مات عليها كان من أهل النار. ومنها أن عيسى مخلوق من البشر وهو ما يزال حياً، وليس لمخلوق من التراب أن يموت ويدفن في غيرها، فعند دنو أجله ينزله الله تعالى ليدفن في الأرض. وهناك حكماً أخرى والله أعلم بالصواب.
(1/1255)
عام 2000م - 1 –
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/7/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لِم الحديث عن هذه المناسبة. 2- تخطيط اليهود لإقامة دولة إسرائيل قم الهيكل في مكان
المسجد الأقصى. 3- عام 2000 هو عند اليهود بداية تنفيذ خططهم بإقامة الهيكل. 4- أهمية
جبل الأقصى عذر اليهود والنصارى والمسلمين. 5- حلف النصارى مع اليهود. 6- هل من
الممكن شرعاً أن يهدم المسجد الأقصى. 7- قدسية المكان وقدسية البناء. 8- مشاريع إسرائيلية
لهدم المسجد الأقصى. 9- ضعف ردود الفعل عند الأمة المسلمة إزاء هذه المشاريع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد كثرت المقالات وانتشرت المقابلات وطنطنت الإذاعات والمحطات بمناسبة قرب عام 2000م. ومع علمنا بأننا نحن المسلمين لاعلاقة لنا بدخول عام 2000 ولا بخروجه لكنك تعجب من تورط بعض المسلمين مع عقائد اليهود والنصارى بهذه المناسبة. وسيكون بإذن الله عز وجل عدد من الخطب يتناول هذا الموضوع من عدد من الجوانب، ماذا يعتقد اليهود بهذه المناسبة، وما هي مخططاتهم، وما حكم احتفال المسلمين بمثل هذه المناسبات، وأين موقع عقيدة الولاء والبراء من هذه القضية، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة، أسأل الله تعالى الإعانة والسداد.
استمر اليهود سنوات تلو سنوات وهم يخططون لقيام دولتهم إسرائيل، وبعد أن أقاموها على أرض فلسطين عام 1948م كانت وحسب مخططاتهم المرحلة الأولى، وهو ما يسمونها بإسرائيل الصغرى، أما إسرائيل الكبرى والتي يدبرون لها فإنها تشمل أرض الشام كلها وأجزاء من العراق ومصر، يقول هرتزل في مذكراته: "المساحة من نهر مصر إلى نهر الفرات، نريد فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا الخاصة وحاكماً يهودياً خلال هذه الفترة، وما أن يصبح السكان اليهود في منطقة ما ثلثي مجموع سكانها حتى تصبح الإدارة اليهودية سارية المفعول على الصعيد السياسي" واضح من كلامه أن اليهود يخططون لحكومتهم أن تحكم من نهر مصر إلى الفرات.
وأرض فلسطين أرض مقدسة عند اليهود والتي يسمونها أرض الميعاد، ومن ضمن مخططات اليهود لإقامة حكومتهم العظمى هو أن يعيدوا ما يسمونه بهيكل سليمان الذي يستدعي هدم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل مكانه، واليهود مصممون بشكل أكيد على تنفيذ مخطط هدم الأقصى وقد وضعوا تاريخه مع بداية عام 2000م – لا مكنهم الله من ذلك – فهم وحسب تصريحاتهم يسابقون عقارب الساعة الآن لهدم المسجد الأقصى في زمن يعتقدون أنه زمان الهيمنة اليهودية، ولن يكون لهذه الهيمنة أي صفة مع استمرار غياب قبلة اليهود، وهو الهيكل الذي انطلقت منه دعوات كل أنبياء بني إسرائيل، والذي ستنطلق منه كما يعتقدون دعوة نبي اليهود المنتظر الذي يعتقدون أن بناء الهيكل سيعجل بخروجه، والهيكل ليس له مكان آخر يقام فيه في نظر اليهود إلا على أرض مسجدي الأقصى والصخرة.
ما علاقة هذا الإعتقاد عند اليهود وما يخططون له بمناسبة عام 2000م؟ العلاقة هو أن اليهود يعتقدون أن مع بداية الألفية الثالثة وهو دخول عام 2000م هو بداية تنفيذ هذا المخطط وقد صرحوا بذلك، ولا يخفاكم المحاولات السابقة المتكررة من اليهود في هدم الأقصى.
إن قبلة اليهود منذ كانوا وإلى اليوم هي المعبد الذي بناه إبراهيم عليه السلام للمرة الأولى ثم شيده في هيئة عظيمة نبي الله سليمان عليه السلام والذي يطلقون عليه هيكل سليمان وهو الإسم التاريخي القديم للمسجد الأقصى قبل أن يتحول إلى إرث الأمة الإسلامية، والمعروف تاريخياً أن ذلك المعبد قد دمر مرتين عبر التاريخ ولم يبق منه إلا جزءً من السور في الجهة الجنوبية الغربية لساحة المعبد وهو الجزء الذي ظل باقياً حتى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي رُبط فيه البراق في ليلة الإسراء والمعراج وهو نفسه السور الذي تسميه اليهود اليوم بـ - حائط المبكى – المقصود: أن اليهود ظلوا يتجهون إلى ناحية ذلك الهيكل في صلواتهم منذ ذلك التاريخ وظلوا يتشوقون ويتشوفون إلى يوم يستطيعون فيه إعادة بناء ذلك الهيكل الذي يدعونه اليوم بالهيكل الثالث.
والنصارى أيضاً يقدسون مكان الهيكل يصلون ويحجون إليه ولكنهم يؤثرون أن يَدَعوا لليهود ساحة الصراع عليه الآن حتى إذا أعيد الهيكل نظّم النصارى جهودهم لتنصير اليهود، ولذا نرى أن اليهود هم المتصدون منذ دخولهم القدس للعمل لإعادة الهيكل مع مواطأة وممالأة من نصارى البروتستانت الذين يشاركونهم معظم معتقداتهم في الأرض والمعبد. ولم تسنح الفرصة لليهود طوال ما يقرب من ألفي عام للاقتراب من حلمهم لتاريخي بإعادة بناء الهيكل إلا في هذا القرن بعد أن عادوا للاستيطان في أرض فلسطين، وظل حلمهم يقترب شيئاً فشيئاً حتى اقترب جداً باحتلالهم لمدينة القدس بعد حرب 67م حيث وقع المسجد الأقصى أسيراً تحت أيديهم، ولكن الأمور لم تكن بالسهولة التي يستطيعون معها في الحال أن يُقدموا على إنفاذ رغباتهم المحمومة في هدم المسجد الإسلامي وبناء المعبد اليهودي مكانه فلجؤوا، إلى الحيل والمكائد والمؤامرات للوصول إلى ذلك الهدف في الوقت المناسب وهم يرون أن أنسب وقت لتحقيق ذلك كله هو مع بداية عام 2000م حسب تقديراتهم وتصريحاتهم.
أيها المسلمون: وقد يقول قائل: وهل يمكن أن يُهدم المسجد الأقصى ويدك ويكون قاعاً صفصفاً، دون أن تذكر في آية أو يشير إليها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديثه أنها مما يحصل في آخر الزمان من الفتن؟ وهل هدم المسجد الأقصى ممكن قدراً؟ الجواب: أن ذلك ممكن قدراً ولو لم تذكر في آية أو حديث، ولا يلزم كل الحوادث تذكر في القرآن أو في السنة ولو كانت حوادث عظيمة ولو كان لها تعلق بمسجد أو قبلة أو غير ذلك، فمثلاً الكعبة نفسها قد هدمت من قبل في زمن الحجاج دون أن يكون لذلك ذكر في آية أو حديث، والحجر الأسود قد نزع من الكعبة في زمن القرامطة ونقل إلى البحرين وظل هناك قرابة عشرين سنة، والمسلمون يحجون ويعتمرون من غير وجود الحجر ولم تأت الإشارة إلى ذلك في كتاب ولا سنة. فلا يلزم من عدم ذكرها في الآيات والأحاديث أن ذلك مستحيل، والذي يحكم الأمور عند ذلك هو قانون الأسباب والمسببات الذي يجري به قدر الله بما يشاء وقوعه. وعلى حسب النظرة المادية والأسباب المادية فإننا نرى بأن اليهود قد بذلوا ويبذلون الأسباب لتحقيق ذلك في الوقت الذي يعطل فيه المسلمون الأخذ بالأسباب نفسها، وسنن الله لا تحابي أحداً، فماذا فعل المسلمون في العالم كله وهم يبلغون عددياً ملياراً وربع المليار؟ ماذا فعلوا على مدى ثلاثين عاماً لكي يستنقذوا مقدساتهم من عصابة لا يتجاوزون أربعة ملايين التي زرعت بينهم ثم فرضت وجودها عليهم؟ وحكمة الله جل وتعالى نافذة وقدره ماضٍ فقد ينقذ الأقصى من هدم اليهود له بكن، كما رد كيد أصحاب الفيل عندما قدموا لهدم الكعبة قبل الإسلام، فأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول، دون أن تفعل قريش شيئاً بل استسلموا للأمر وخرجوا من مكة. والله غالب على أمره سبحانه وتعالى.
وسيقول سائل: وعلى فرض أن اليهود تمكنوا من هدمه بعد عدة أشهر ومع بداية الألفية الثالثة حسب تخطيطهم، فهل يتصور أن مسجداً مقدساً له أحكاماً تخصه في الإسلام من مضاعفة أجر الصلاة فيه واستحباب شد الرحال إليه، هل يتصور أن مسجداً مقدساً بهذا الشأن في الإسلام وقد كان قبلة المسلمين الأولى وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي إليه هو وأصحابه فترة من الزمن قبل الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة، هل يتصور أن هذا المسجد يتحول إلى معبد يهودي وما زلنا نقرأ إلى الآن آيات في القرآن بشأن هذا المسجد سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ؟ هل يمكن أن يتحول من مسجد إلى معبد؟ الجواب: أن المسجد الأقصى هذا نفسه قد مرت عليه السنون في مرحلة تاريخية وصلبان النصارى مرفوعة فوق مآذنه أيام الاحتلال الصليبي، وقد كان مسجداً إذ ذاك، ولم تنتف عنه صفته الشرعية ولا خصوصياته المسجدية، والذي أصابه لم يتعد التلوث بأوضار التثليث ثم عاد لأهل التوحيد عزيزاً مطهراً لما عادوا إلى نصرة التوحيد أيام صلاح الدين الأيوبي.
فالذي ينبغي أن يفقهه من المسألة أن الأرض هي المقدسة، وليس البناء الذي عليه، أرض المسجد الأقصى هي التي لها أحكامها الشرعية من حيث مضاعفة أجور الصلوات فيها واستحباب شد الرحال إليها سواء أكان البناء موجوداً أو غير موجود، فالساحة نفسها سميت مسجداً وقت تنزّل القرآن بآيات الإسراء، ولم يكن ثمة مسجد مقام.
إن المكان هو الذي أخذ حكم المسجد قبل أن يبنى مسجداً في الإسلام، وصلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأولي العزم من الرسل إماماً في أرض فضاء، فحقائق التاريخ وقصص الأنبياء تدل على أن المسجد الأقصى لم يبن مرة أخرى بعد ما هدم بُعيد زمان عيسى عليه السلام حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقي أرضاً فضاءً حتى زمن الفارق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمسلمون يعلمون أن هذه الأرض أرض مقدسة ولها أحكام المسجد، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه كعب الأحبار ليدله على موضع مصلى داود عليه السلام، فبنى هناك مسجداً متواضعاً من خشب، فلما جاء عهد الخليفة الوليد بن عبدالملك أعاد بناءه على الهيئة التي هو عليها الآن، وقد حافظ المسلمون على مر العصور على هذه الأمانة حتى جاء عصر تضييع الأمانة الذي نعيشه فوقع المسجد أسيراً في أيدي اليهود، وها هو يُتهدد بالهدم.
ويمكن أن يقال أيضاً بأن الله جل وتعالى قد يحبط كيد ومخططات اليهود ولا يتمكنون من هدمه مع بداية عام 2000م يُستنبط ذلك من حديث الدجال الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمنع من دخول أربعة مساجد بعد أن يعيث فساداً في الأرض منها المسجد الأقصى، فهذا الحديث قد يدل على أن المسجد سيظل كما هو بحفظ الله وحده، وقد يفهم من الحديث أنه سيُعاد كما كان إذا أصابه مكروه لا قدر الله في وقت يرجع فيه المسلمون إلى دينهم أو على يد أحد الحكام الصالحين وعلم الغيب عند الله جل وتعالى.
أما الآن فليس على عامة المسلمين شيء أن يفعلوه سوى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ودعم الحركات الجهادية الإسلامية على أرض فلسطين الذين هم الآن على خط المقدمة وفي المواجهة حتى يأذن الله بأمر.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
لقد خطت حكومة اليهود خطوات عملية لتحقيق نواياهم في هدم المسجد الأقصى مع بداية الألفية الثالثة، فهناك بعض الإجراءات الحكومية الإسرائيلية التي لها دلالتها البالغة في الإشارة إلى الدور الذي تضطلع به الحكومة الإسرائيلية في المؤامرة الكبرى:
من ذلك عمليات الحفريات تحت المسجد الأقصى: هذه الحفريات التي تمت على مراحل متعددة بدأت منذ عام 67م وحتى نهاية عام الـ 80م، ولا تزال أعمال الحفريات تجري بطرق مختلفة وهي تستهدف الوصول إلى غاية من أخبث الغايات التآمرية على المسجد الأقصى من قبل الحكومة الإسرايلية، وهي تفريغ الأرض تحت المسجد لتركه قائماً على فراغ ليكون عرضة للإنهيار السريع بفعل أي عمل تخريبي أو حتى اهتزازات طبيعية أو صناعية، لكن الهدف المعلن للعالم وعبر الصحف والإذاعات أن سبب الحفريات هو الكشف عن آثار باقية للهيكل الثاني الذي دمر عام 70م، ومع الأسف إن هذا السبب الرخيص والتافه الذي لا ينطلي حتى على البله تردده بعض الصحف العربية ضاحكة به على نفسها. وقد سمحت الحكومة الإسرائيلية لشركتين مؤخراً بإجراء المزيد من الحفريات.
ومن ترتيبات الحكومة الإسرايلية لهذا المخطط: مشروع شق الأنفاق تحت ساحات المسجد الأقصى. بدأ العمل في هذا المشروع عام 96م واستمر العمل سرياً حتى استكمل وطوله 400 متر وبعد استكماله افتتح رسمياً وبشكل علني، وهذا الافتتاح الرسمي أرادت به الحكومة الإسرائيلية أن تلقي برسالة مفادها أن اليهود أصبحوا شركاء في ساحات الأقصى، وعملوا بداخلها مساحات تصلح لأن تكون كنيساً مؤقتاً يقيم فيه الراغبون من اليهود صلواتهم في الدور الأسفل ريثما يتاح لهم الانتقال إلى الأدوار العليا، وأرادت حكومة نتنياهو السابقة أيضاً أن يكون الافتتاح اختباراً تقاس به ردود الأفعال والأقوال العربية والإسلامية إذا ما تم تنفيذ المشروع الأكبر وهو هدم الأقصى.
لكن مع كل أسف ردود الأفعال جاءت مشجعة لليهود حتى أن نتنياهو لم يجد مانعاً من التفاخر علناً بما تم إنجازه مشيداً بعهده الشجاع الذي شهد هذا الافتتاح بعد أن تأخر كثيراً فقال كما نشرت الوطن الكويتية [1] : إنني فخور جداً ومتأثر جداً، فالنفق يمس أساس وجودنا.
ومن ترتيبات الحكومة الإسرايلية لهذا المخطط أيضاً: مشروع السور العازل بين المسلمين واليهود: فقبل اغتيال رابين بعام طرح مشروعاً رُأيَ أن فيه حلاً نهائياً للفصل بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وذلك ببناء سور ضخم يمتد بطول 360 كم وارتفاع ثلاثة أمتار يفصل الأراضي الخاضعة لسلطة الحكومة الإسرائيلية والأراضي الواقعة تحت السلطة الفلسطينية اسماً، وقد أعلن في حينه أن السور يهدف إلى منع دخول الفدائيين لتنفيذ عمليات تخريبية داخل إسرائيل، ولكن الظاهر أن الهدف الأكبر هو تمكن اليهود من تخريب المسجد الأقصى دون حسيب ولا رقيب. والمشروع واجه صعوبات في تنفيذه في البداية بسبب ضخامة التكاليف، ولكن كالعادة لم تقصر الولايات المتحدة حكومة وشعباً في دعم هذا المشروع المريب، بل إنها تعهدت بأن يتم تنفيذه كاملاً بتمويل أمريكي خالص وقد أقرت له ميزانية منذ عام 93م وقدم رئيس الولايات المتحدة ( كلينتون ) القسط الأول منها مائة مليون دولار في زيارته لإسرائيل عام 96م، وظن بعض السذج والبله كالعادة أن هذا السور هو خطوة في الاعتراف بدولة فلسطين حقيقة لأنه سيضع فواصل حدودية بينهما، لكن حمامة السلام النووية - بيريز – بدد هذا الوهم عندما قال: لن تكون هناك دولة فلسطينية، والسور لا يمثل حدوداً لنا مع هذه الدولة.
فماذا يمثل إذن؟ إنه يمثل أمران: الأول: قول الله تعالى: لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر فاليهود معروفون بالجبن والخوف.
الأمر الثاني: وهو أنهم لما رموا بسوء، فلكي لا يراهم أحد، ليعملوا من وراء السور خوفاً وجبناً. وللحديث صلة إن شاء الله تعالى.
نسأل الله جل وتعالى أن لا يمكن لهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم.
[1] 28/9/1996م
(1/1256)
صلاة الاستسقاء والمطر
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/8/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من البلاء قلة الماء وحبس المطر. 2- آداب صلاة الاستسقاء. 3- استسقاء في عهد الناصر
لدين الله. 4- نزول المطر حسب قدر الله ومشيئته. 5- من الشرك قولهم: مطرنا بنوء كذا.
6- المطر عذاب عذب الله به قوم نوح وغيرهم. 7- المطر رحمة الله للصحابة في بدر.
8- نسبة الكوارث إلى الطبيعة ونسيان الخالق صاحب الأمر. 9- خوف النبي من الريح
والمطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن العباد قد يصابون ابتلاءً من الله بقلة الماء وندرة الأمطار، أما الكفار فلا حيلة لهم، وأما نحن المسلمين، فمن نعم الله علينا أن شرع لنا صلاة الاستسقاء، وهو طلب السقيا ممن بيده ملكوت كل شيء، لكن طلب السقيا من الله ليس هو ركوع وسجود، حركات فحسب، لكن لها شروط وآداب قلّ ما يأخذ بها المسلمون اليوم من الضراعة إلى الباري سبحانه، والابتهال بالدعاء والاستغفار من الذنوب، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، وأن تكون الصلاة خالصة لله تبارك وتعالى، كما ينبغي أن يقدم للصلاة من توفرت فيه الولاية والصلاح والتقوى، حتى تتطهر القلوب من الأدناس والأرجاس، وتنزع ما في صدورها من غل وسخائم.
قحط الناس في آخر مدة الناصر لدين الله، فأمر القاضي منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، تنفلاً وإنابة ورهبة، فاجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مكان ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشياً مخبتاً، وقام ليخطب، فلما رأى الناس في ارتقابه، رقت نفسه وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكت، ولم يكن من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عملَ منكم سوءاً بجهالةٍ ثم تابَ من بعده وأصلحَ فإنه غفور رحيم.
استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه.
فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته ففزع الناس بوعظه، وأحس الناس الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أمر الله السماء بماء منهمرٍ، روى الثرى، والله لطيف بعباده.
إن تنزيل المطر على الأرض لا يكون كما نعلم إلا على حسب مشيئة الله، وعلى حسب حاجة الخلق إليه، قال الله تعالى: وإن من شئ إلاّ عندنا خزائنه وما ننزلهُ إلا بقدر معلوم روى ابن مسعود والحكم بن عتيبة وغيرهما أنه ليس عام أكثر مطراً من عامٍ، ولكن الله يقسمه كيف يشاء، فيمطر قوم، ويحرم آخرون، وربما كان المطر في البحار والقفار، وهذا معنى قوله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء فالله جل وتعالى هو الخازن للماء ينزله إذا شاء، ويمسكه إذا شاء كما قال عز وجل: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وقال سبحانه: وأنزلنا من السماء ماءً فأسقَيناكُمُوه وما أنتم له بخازنين أي ليست خزائنُه عندكم، وهو كما قال في الآية الأخرى: وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناهُ في الأرض وإنَّا على ذهاب به لقادرون قال الله تعالى: قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهو يتحدث عن نزول المطر من السحاب على الأرض: فيرشُ السحاب على الأرض رشاً، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. ثم قال رحمه الله: فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا. انتهى كلامه رحمه الله [1].
وبأي كفًّ في المدائن تُغدِقُ
عُليا الجنانِ جداولاً تَتَرقرقُ
أم أي طُوفانٍ تفيضُ وتُفهِقُ
للضفتين جديدَها لا يُخلقُ
متخبطٌ في علمها ومُحقِقُ
من أي عهدٍ في القرى تتدفق
ومن السماء نزلتَ أم فجّرت من
وبأي عين أم بأيةِ مُزنَةٍ
وبأي نَولٍ أنت ناسجُ بردةٍ
تعييِ منابعُك العقولَ ويستوي
أيها الاخوة المسلمون: إن كون الله تعالى هو وحده القادر على إنزال الغيث أمرٌ يعتقده كل مسلم، بل ويعتقده كثيرٌ من المشركين. قال الله تعالى: ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون.
ولكن بعض المسلمين يقعون أحياناً في الخطأ الفادح حين ينسبون إنزال المطر إلى غير الله من الكواكب والأنواء وارتفاع الضغط أو انخفاضه أو غير ذلك من الأسباب. فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) [رواه مسلم].
نحن نعلم أن هناك سنناً كونية ثابتة بثها الله تعالى في هذا الكون. فكل ما في هذا الكون يسير وفق هذه السنن التي أوجدها الله، ويحكمه نظام محكم دقيق أوجده أحكم الحاكمين.
ولكن الله الذي أوجد هذه السنن الكونية قادر على أن يخرق هذه السنن متى ما أراد، بحيث لا تعمل عملها المعتاد، وإنما تعمل وفق إرادة الله ومشيئته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
المطر جند من جنود الله، أهلك الله جل وعلا بهذا المطر الذي نراه سهلاً يسيراً عذباً زلالاً بل نستسقي من أجله، أغرق الله جل وعلا بهذا المطر أقواماً تمردوا على شرع الله، وفسقوا وظلموا فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي، فأغرق القوم، قال الله تعالى: وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم 5 وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوحٌ ابنهُ وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبلٍ يعصمُني من الماء قال لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلاّ من رحمَ وحالَ بينهما الموجُ فكان من المغرقين وقيل يا أرضُ ابلعي ماءك ويا سماءُ أقلعي وغيض الماءُ وقضي الأمر واستوت على الجوديّ وقيل بعداً للقوم الظالمين هذا المطر كان هنا وبالاً على الظالمين الكافرين.
وكان أيضاً جنداً من جنود الله، ووقف في صفِ الجيوشِ المسلمة كما حصل في غزوة بدرٍ إذ يغشيكم النعاسَ أمنةً منه وينزلُ عليكم من السماءِ ماءً ليطهركم به ويذهبَ عنكم رجزَ الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام.
فمن ذا الذي جعل المطر يأتي بهذه الصورة؟ أهي مجرد صدفة؟ إنها إرادة أحكم الحاكمين، ومن هو على كل شيء قدير. إرادة من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. فهل ندّكر ونعتبر أم على قلوب أقفالها.
إن إيماننا بهذه الأمور يجب أن يكون إيماناً حقيقياً وعملياً مؤثراً، يدفعنا إذا حصل عندنا نقص في الأمطار إلى محاسبة أنفسنا، وتسديد النقص وأداء الواجب واجتناب المحرم، وإذا حصل زيادة في الأمطار تؤدي إلى الأضرار أن نحاسب أنفسنا أيضاً لنرى من أين أتينا أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون أي حصل النقص والضرر على البلاد والعباد والدواب والنباتات بسبب معاصي بني آدم.
فالله تعالى يبتلى من يشاء بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه، ومجازاة لهم على صنيعهم وبلونهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون.
هذا والحق تبارك وتعالى يقول: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ويقول سبحانه: ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فإذا غيَّر الناس من الطاعة إلى المعصية، ومن الاستقامة إلى الانحراف، ومن الهدى إلى الضلال غير الله تعالى عليهم، فبدل بالنعم النقم، وبالسعة ضيقاً، وبالأمن خوفاً، وبالغنى فقراً، جزاءً وفاقاً وما ربك بظلم للعبيد.
ومن تاب تاب الله عليه، وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحا ثم اهتدى.
بارك الله لي ولكم..
[1] مفتاح دار السعادة 2/36
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قد تحدث في بعض البلاد زلازل وبراكين، وقد تحدث رياح عاتية، وأعاصير مدمرة، وقد تحصل أمطار غزيرة وبرد، وقد تقل الأمطار حتى تتأثر الزروع والبهائم ويحصل القحط، وقد تحدث فيضانات، وقد تحدث أمور غيرها. فالماديون يرجعون حدوث مثل هذه الأمور إلى الطبيعة فحسب، وكأنها هي الخالق المدبر المتصرف، ولا يربطون بين حدوثها وبين الوقوع في معاصي الله وانتهاك محارمه والإعراض عن دينه. ولهذا لا يرعوي من كان ضالاً عن ضلاله، ولا يستقيم المنحرف ولا يرجع عن انحرافه. يبقى المقصر في الصلاة مقصراً فيها إلا من رحم ربك، ويبقى من يأكل الربا على ذلك، ويستمر من لا يخرج زكاته على هذا الفعل، ويظل من يشاهد أفلام الفساد يشاهدها، ومن يسعى لمقارفة الفواحش على مقارفتها وهكذا.
يستمرون على أفعالهم المحرمة وممارساتهم المنكرة لأنهم لم يعتبروا حدوث هذه الأمور مواعظ لهم. وإنما اعتبروها أموراً طبيعية بحتة، لا علاقة بين حدوثها وبين ممارساتهم وواقعهم المنحرف.
أما المسلم الحق الذي يرجو رحمة ربه ويخشى عقابه فإنه يعتبر هذه أموراً طبيعية. ولكنها مربوطة بمشيئة الله وإرادته. يصرفها سبحانه كيف يشاء، وقد يرسلها نعمة، وقد يرسلها نقمة، وقد يرسلها رحمة، وقد يرسلها عذاباً. ولهذا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عُرِفَتْ في وجهك الكراهية؟ فقال: ((يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) [رواه البخاري ومسلم].
وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. وإذا تخيلت السماء (يعني تغيمت وتهيأت للمطر) تغير لونه وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرتْ سرَّي عنه)) [رواه مسلم].
هكذا كان سيد الخلق وأعرف الناس بربه. فما بالنا نحن نغفل عن هذا وكأننا بمأمن من أن يصيبنا العذاب بالريح أو بالمطر أو البرد أو الزلازل أو غيرها؟
هل ندرك هذا أم نبقى نقول بأن هذه أمور وظواهر طبيعية، لا علاقة بين حدوثها وبين أعمال الناس وتصرفاتهم؟
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا..
(1/1257)
صراع الخير والشر
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/4/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصراع بين الخير والشر صراع بدهي مزوري ، وهو من سنن الكون. 2- صراع المؤمن
مع نفسه الأمارة بالسوء والشيطان. 3- صراع المسلم مع المنكرات وأصحابها. 4- صراع
الأمة المسلمة مع قوى الشر المختلفة. 5- أكذوبة السلام العالمي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
حقيقة بدهية تدور حولها خطبتنا في هذه الجمعة ، وهي: اعلم أخي المسلم بأن الصراع أزلي في حياة الإنسان ، إن وجود عدو يصارع الإنسان أمر ضروري لابد منه ، أياً كان هذا الإنسان ، بغض النظر عن لونه أو شكله أو دينه أو جنسه.
فلا يتصور للإنسان وجود على ظهر هذه الأرض إن لم يوجد العدو الذي يوجه إليه عداءه ، ومتى خلت حياته من عدو ، وجّه عداءه إلى من لا يعاديه.
فإذا رفض بعض الناس النزول إلى حلبة الصراع ، ورفضوا معاداة الآخرين ، فإن هؤلاء الذين رفضت عداءهم ينصبون لك الأحابيل ويضعون لك المخططات لتدميرك وهلاكك ولا يلقون سلاحهم حتى يصلوا إلى أهدافهم.
قال الله تعالى في كتابه مؤكداً هذه الحقيقة: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم.
ومن الاختلاف ينشأ الصراع، ويتعادى البشر فيما بينهم. ويقول جل وتعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.
هذه سنة من سنن الله في خلقه، فلا يصلح أن يطمح المرء في أن يعيش حياةً هادئة لا يعكر صفوها مكر الأعداء ، وظلم الأشقياء ، ومؤامرات الفسقة ، بل على المسلم أن يوطن نفسه على خوض صراع طويل طويل ، لا يتوقف إلا إذا توقف في الإنسان نبضات قلبه.
أيها الأحبة: مادام الأمر كذلك ، والصرع صار ضرورياً لا انفكاك عنه ، تأتي الخطوة التي بعدها ، وهي تحديد العدو ، فإذا لم يوفق الإنسان في تحديد عدوه فإنه قد يتخذ العدو صديقاً والصديق عدواً.
ومنهم عدو في ثياب الأصادق
له فيكم فعل العدو المفارق
ومنهم عدوٌ كاشرٌ عن عدائه
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه
الله جل وتعالى عندما خلق آدم ، حدد له عدوه تحديداً بيناً فقال سبحانه ، يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى – إن هذا عدو لك ولزوجك – تحديد واضح، وعندما أوجد سبحانه بنيه ، حدد لهم عدوهم فقال: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان وقال سبحانه: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً نخلص من هذا بأن تحديد العدو ومعرفته أمر ضروري في نجاح الإنسان في صراعه مع القوى التي تريد تحطيمه.
أيها المسلمون: هناك ثلاث مجالات للصراع ينبغي للمؤمن أن يخوض غمارها ما بقي على هذه الحياة.
المجال الأول: صراع المسلم مع نفسه التي بين جنبيه، فالنفس أمارة بالسوء ، والشيطان يستغلها ، ويزين لها الباطل ويديم لها الوسوسة. – الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس – إن الشيطان يحاول أن يثني المؤمن عن كل خير، فإذا أراد الجهاد قعد له في طريق الجهاد، وقال له: تجاهد فتقتل ، فتنكح المرأة ، ويقسم المال. وإذا أراد الهجرة ، قعد له في طريق الهجرة وقال له: تهاجر وتدع أرضك وسماءك. وإذا أراد أن يتصدق ، حرّك الشح والبخل في قلبه وإذا أراد أن يدعو إلى دين الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، قال له الشيطان: يبغضك المجتمع ، وتوسم بالتطرف والإرهاب ، وربما تضايق أو قد تسجن. وإذا أراد أن يغيّر واقعاً سيئاً حوله في عمله أو سوقه ، أتاه الشيطان ، دع الناس وشأنهم ، كل الناس يرون ما ترى ، ويعلمون أكثر منك ، لا تورط نفسك ، ولا تقطع رزقك بيدك.
وهكذا ، ما إن يريد الإنسان أن يطرق باب خير إلا جاء إبليس ، وحاول أن يغلق هذا الباب دونه، وفي المقابل لا يدع أمراً يحبه الله إلا زيّن للعبد مخالفته ، ولا أمراً مكروهاً لله ، إلا وزين له مقارفته. قال الله تعالى: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فالإنسان في صراع دائم في نفسه مع الشيطان لا ينتهي.
أيها المسلمون: اعلموا حفظني الله وإياكم من نزغات الشيطان ووساوسه أن الشيطان مخلوق ذكي ، ذكي جداً. وقد استخدم ذكاءه الحاد في الإفساد والإضلال.
الشيطان يعلم أن فلاح الإنسان ونعيمه إنما هو في فقه دين الله، لذا فهو يزين للإنسان خلاف منهج الله، وسبيل الشيطان إلى تحقيق مراده من الإنسان هو تزيين الفاحشة والمعصية ، وتحسين الباطل حتى يندفع الإنسان إليها ذاتياً.
كذلك اعلموا رحمكم الله وسلمكم ، بأن الشيطان ليس لوحده ، إنما يقف معه من البشر أولئك الذين خرجوا عن منهج الله ودينه وشريعته، وهؤلاء أصناف لا عد لهم ولا حصر ، من اليهود والنصارى والمنافقين والملحدين والعلمانيين وغيرهم. وكل هؤلاء تجمعهم راية واحدة ، وهي التي سماها الله في كتابه حزب الشيطان.
فها هنا نقطة مهمة جداً لابد من التنبيه إليها. وهو أنه ليس من الضروري أن كل من هو من حزب الشيطان أن يعلن صراحة انتمائه إلى هذا الحزب. ويعلن ولاءه الصريح للشيطان أبداً ، فقد يكون من هؤلاء من يصلي ، ويرى في المناسبات العامة كالجمعة والعيدين ، بل قد يلعن أمام الناس حزب الشيطان ، لكن المحصلة النهائية أن إبليس راضٍ عنه ، وهو يعمل لصالحه ، ويفسد في الأرض ، وإن تبرأ بلسانه منه ، فكل من يسير على مبدأ أو منهج أو عقيدة أو طريق يخالف ما جاء من عند الله ، فإن الشيطان يرضاه ، ويبارك في خطواته.
ومن مجالات الصراع أيضاً مجال الأمة الإسلامية، إن هذه الأمة ما أوجدها الباري سبحانه وتعالى إلا لتكون أمة فاضلة ، أمة راقية ، تقر بالفضائل ، وتنبذ الرذائل. ولا بأس أن أضرب مثلاً يوضح المقصود.
أرأيتم المدن الراقية في العالم. كيف يحافظ أصحابها على نظافتها وجمالها ، يتعاون فيها الأفراد مع أجهزة الدولة ، لتبقى المدينة نظيفة طاهرة. ماذا يحدث لو قلّت عناية الناس بالنظافة، وامتنعت البلدية من جمع الأوساخ وتنظيف الحواري والأحياء.
لاشك أن هذه المدينة تصبح بعد فترة وجيزة من الزمن كتلة من القاذورات تصعب الحياة فيها، ننقل هذا المثال على أمة الإسلام. لاشك أن الضعف البشري موجود ، والتقصير موجود ، لذا فلابد من قاذورات تسقط هنا وهناك، عُليه لابد من التنقية والتنظيف. ما الذي يطهر المجتمع من الأوساخ ، ما الذي يُبقي المجتمع المسلم طاهراً نقياً. إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أهل الحسبة ، ورجال الهيئة ، هم الذين يتتبعون وسخ الناس وقاذوراتهم ، لكي لا تخرج رائحتها فتؤذي الآخرين.
والأصل في هذه الشريعة أننا كلنا أهل حسبة ورجال هيئة ، وليس الأمر والنهي مقصور ومحصور في فئة بعينها ، بل إن من طليعة ما يذكر من خصائص هذه الأمة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال جل شأنه: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله...
إن الفئة العليا في هذه الأمة ، والفئة الممتازة هي التي نذرت نفسها لتقويم المعوج ، وإصلاح الفاسد ، كما قال سبحانه: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ومتى ما تخلت الأمة عن القيام بهذا الدور ، وقصرت فيه ، أصابها البلاء والانحراف ، ودب إليها الوهن ، وغضب الله عليها ولعنها، وأصبح حالها كحال بني إسرائيل من قبل: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
ولقد قام العلماء والمصلحون والدعاة على مدار تاريخ الأمة ، بهذا الدور الجبار ، محافظين على نقاوة المجتمع من أن يدنسه نتن الفسقة وأصحاب الشهوات الدنيئة، إلى أن هبت علينا في الآونة الأخيرة رياح الغرب العاتية التي تريد أن توقف هذا التيار ، وتدمر البقية الباقية من هذا الأصل، فجاء دعاتهم يقولون: مالكم وللآخرين؟ الناس أحرار فيما يفعلون. هذه حرية شخصية ، الإنسان في بيته يفعل ما يريد.
فماذا كانت النتيجة بمجتمعات المسلمين؟ ظهر الزنا وفشى ، وتبرجت المرأة ، وشربت الخمور ، وأعلن الربا جهاراً نهاراً ، وسمعت المعازف في شوارع الناس وأسواقهم ، وضيعت الصلوات وانتشرت المسرحيات ، وذبحت القيم والأخلاق ، وبان العهر والرذيلة ، وتسكع الشباب والشابات، وأمور لا حصر لها ولا نهاية ، باسم الحرية.
فكل محاولة لتقليص جهود الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، ما هو إلا سرعة في إيصال الأمة إلى هاوية الرذيلة. فهذا الصراع سيبقى قائماً بإذن الله ، ولن تتخلى هذه الأمة عن هذه الخاصية ، مهما حاول أعداؤها من خارجها أو داخلها سحب هذه الورقة منها.
إن هذه الشعلة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنطفئ ، مهما حاول من لا يحبون النظافة ويعشقون القاذورات، أن يقضوا عليها أو يمنعوا من تمددها ، فإن هذا دين الله عز وجل ، ولن يصارع أحد دين الله إلا غُلب ، ونكّس رأسه ، ورُغم أنفه ، ثم فُضح على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، وستبقى طائفة من هذه الأمة ، ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
قال الله: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويداً [الطارق:15-17].
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
المجال الثالث للصراع الذي ينبغي للمسلم أن يخوض غماره ، هو المجال العالمي ، مقاومة الشر في العالم كله. فالإسلام دين عالمي أنزل للبشرية جميعاً ورسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم – رسول عالمي أرسل للعالم كله.
ومهمة المسلم مهمة عالمية ، لا يمكن أن تحد بحدود أو تقيد بقيود. قد يقول البعض بأن هذا يستحيل في ظل الظروف الحالية ، والأوضاع الدولية ، والاتفاقات المبرمة بعدم التدخل في شؤون أية دولة ، فنقول بأن هذا هو الأصل، والمسلم يحاول كسر هذه الحواجز ، بكل ما أوتي من حيلة ووسيلة ، ويحاول أن يستفيد ويستغل كل السبل الحالية المتاحة في تبليغ دين الله إلى كل مكان ، وهذا الوضع الحالي الذي نعيشه هذه الفترة ، لا يمكن أن يستمر فلن يبقى الوضع هكذا دائماً ، فإن الثبات أمر يخالف سنن الله جل وتعالى في الكون ، في هذه الأشياء التي ذكرتها ، فإن بعد الضعف قوة ، وبعد القوة ضعف وهكذا ، وتلك الأيام نداولها بين الناس.
الاتحاد السوفيتي دولة ، كانت تعد يوماً من الأيام من كبريات الدول ، ذهبت وزالت في لمحة بصر ، وصعدت وقامت دول أخرى مجتمعات ذهبت ، وحضارات زالت ، وقامت أخرى مكانها وهكذا ، فتبدل هذه الأحوال سنة لابد منها.
المهم أن يجعل المسلم هذا المجال ، من مجالات الصراع الذي يشغل فكره ، ويعمل جاهداً لاقتحام هذا المجال.
إن علينا أن نقر الحق ونحارب الباطل في شتى أقطار المعمورة ، تلك مهمة إلهية ربانية ليس لنا خيار في أن ندعها أو نتخلى عنها ما دمنا ندعي الإسلام ، ونأخذ به.
وإن أعظم باطل ، يجب علينا أن نحاربه في جنبات الأرض هو الكفر بالله والشرك به ، ولذلك فإن أصحاب السلطان الذي ينازعون الله في حكمه ، وأصحاب الدعوات الضالة التي تؤله البشر أو الشجر والحجر أعداء لنا ، وعلينا أن نقاوم هذا الضلال الذي عشش في عقول البشر. صحيح أننا لا نُكره الناس على اعتناق الإسلام تحقيقاً لقوله تعالى: لا إكراه في الدين ولكننا نحارب المبادئ الظالمة ، والنظم الكافرة ، والجبارة الذين يستعبدون البشر لجعل شريعة الله هي المسيطرة في الأرض ، وحكم الله هو القائم ، فبعد أن نزيل هذه الأنظمة التي تحول بين دين الله وبين شعوبهم نترك الناس بعد ذلك لهم الخيار في البقاء على ما هم فيه من ضلال ، أو الانتقال إلى الحق الذي جاء من عند الله.
لقد فقه الرعيل الأول هذا الأمر ، فحطموا كل السدود التي أقامها أصحاب المبادئ الضالة كي يحولوا بها دون بلوغ الحق إلى العالمين.
لقد حطموا دولاً كبرى أبى حكامها إلا الوقوف في وجه الحق.
ليس من حق أي نظام غير دين الله أن يسود في أي جزء من العالم ، لماذا؟ لأن هذه الأرض ملك لله ، والبشر عبيده ، فيجب أن يكون القانون العام الذي يحكم المجتمع الإنساني هو قانون الله. ويجب على العبيد طاعة مالكهم وخالقهم.
ولاشك بأن هذه مهمة صعبة ، والذي ينظر إلى الأحوال السائدة في العالم اليوم قد يقول هذا من مستحيل المستحيلات ، لأن الدول الإسلامية بعيدة في واقعها عن شريعة الله ولا تطبق دين الله، إلا من رحم الله ، فكيف بالدول الكافرة.
لكن نقول بأن هذا هو الأصل ، وهذا هو الذي يجب أن يكون.أما كيف أو متى فعلمها عند ربي، لكن سيكون إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن يبقى بيت مدر ولا وبر على وجه الأرض كلها إلا ويدخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل.
ثم إن هذا من التكاليف التي كلف الله بها هذه الأمة ، شاءت أم أبت ، وهي محاسبة في تقصيرها ، فإن عليها بذل الجهد كله ، لإعلاء كلمة الله في مختلف بقاع الأرض.
وقد وضع للأمة منهجاً عليها أن تسلكه لتحقيق مراد الله ، يبدأ هذا المنهج باستقامتها هي أولاً ثم دعوة الأمم وعرض الإسلام وينتهي بالحرب والقتال.
وإننا على علم بأن مصارعة الأمم الكافرة على مستوى العالم ، يحتاج إلى مراحل طويلة تُعدها الأمة لكي تتهيأ لذلك من بناء الفرد والمجتمع ، والأسرة ، وإعداد العدة ، وإقامة الدولة وغير ذلك.
لكنه مجال من مجالات الصراع بين الخير والشر لا يمكن أن يقف أو ينتهي حتى قيام الساعة، ولا يمكن أصلاً للعالم كله أن يعيش تحت مظلة واحدة ، الذي يسمونه التعايش السلمي ، فإنه شعار زائف لا رصيد له من الواقع ، فالذي لا يغزو لابد أن يُغزى ، والذي لا يُحارِب لابد أن يُحارب ، هذه سنة الله في خلقه ، وإلا لماذا لم يتركوا الصومال تعيش لوحدها ، وتستقل بنفسها ، هل هي اعتدت على أحد؟ أبداً ، حتى الحيوانات ، القوي لا يمكن أن يترك الضعيف فأين التعايش السلمي؟ لابد أن يعي المسلم بأن أوسع ميادين الصراع بين الخير والشر في حياة المسلم هو المجال العالمي ، وأكثرها كلفة وأبعدها خطراً.لكنه تكليف رباني ، كُلفت بها هذه الأمة ، لا يجوز لنا التخلي عنها.
اللهم آمنا في أوطاننا..
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا.
(1/1258)
فتح القسطنطينية ومذابح البوسنة
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/10/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الملاحم قبيل الساعة. 2- تاريخ العداء بين المسلمين والروم. 3- في عهد الرسول قتال
المسلمون الروم في مؤتة ، وكادوا في تبوك. 4- فتوحات الصحابة في بلاد الروم. 5- وعد
رسول الله بفتح القسطنطينية. 6- استعداد الفاتح لفتح القسطنطينية. 7- فتح القسطنطينية وخطة
الفاتح بعد الفتح. 8- استمرار الفتح الإسلامي في البلقان. 9- تقهقر الدولة العثمانية وذلة
المسلمين. 10- بعض من مذابح المسلمين في التاريخ القديم والحديث.11- المستقبل لهذا الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، ثم قال صلى الله عليه وسلم عدو يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام ، قلت (القائل عبد الله بن مسعود راوي الحديث) قلت: الروم تعني؟ قال: نعم)).
وفي سنن أبي داود ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدد فتناً ، ثم قال: ((وفتنة الدهيماء ، لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته فإذا قيل انقضت تمادت ، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، حتى يصير الناس في فسطاطين ، فسطاط إيمان لا نفاق فيه ، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه ، فإذا كان ذاك فانتظروا الدجال من يومه أو من غده)).
وفي صحيح البخاري عن عوف بن مالك رضي الله عنه ، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فقال: ((أُعدد ستاً بين يدي الساعة ، موتي ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاصي الغنم ثم استفاضة في المال ، حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر- يعني الروم – فيغدرون ، فيأتوكم تحت ثمانين غاية، – ومعنى الغاية هنا الراية – تحت كل غاية اثنى عشر ألفا)).
أيها المسلمون: هذه ثلاثة أحاديث وردت في كتب الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تتحدث عن الفتن ، وما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم مما سيحدث في آخر الزمان لها علاقة كبيرة بما يدور على الساحة في زماننا هذا. هذه الأحاديث أيها الأخوة وما في معناها ، تدور حول قضية ، وهو أن الحرب بين المسلمين والروم حرب قائمة منذ القديم، وقد التقى المسلمون مع الروم مرات عديدة ، وسيكون بينهم لقاءات في المستقبل، وسيكون الغلبة في النهاية للمسلمين كما وعدنا بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً أيها الأخوة ، تدل هذه الأحاديث أن اجتماع الروم – وهم النصارى – كلهم في خندق واحد ، ومعاداتهم وحربهم للإسلام ، أمر قائم لا شك فيه.
وبدأت هذه الحرب منذ بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فعملوا على التصدي منع انتشار الإسلام ، شمال جزيرة العرب وذلك بعدما عجزوا عن دفع قيامه وانتشاره داخل الجزيرة ، حاولوا على الأقل حجره وحصاره داخل الجزيرة ، وذلك بناءً على أسس عقائدية عندهم منذ أن كانت لهم دولة في بلاد الشام ، شمال جزيرة العرب. منها حديث ابن عباس ، وأنه لما التقى أبو سفيان بن حرب بملك الروم وسأله عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أبو سفيان ببعض صفاته ، فقال قيصر: لئن كان حقاً ما تقول فإنه سيملك موضع قدميّ هاتين.
فالنصارى منذ القديم وهم يعلمون بأن هذا الدين سيصل دولتهم، وأن المسلمين سيجتاحون دولتهم ويملكون أرضهم ، وذلك عندما كان للروم دولة ، وللإسلام دولة في بداية أمره ، ثم يقول قيصر بعد ذلك لأبي سفيان: لو كنت عنده لغسلت قدميه.
وكذلك المسلمون ، كانوا وهم في أول الطريق وأول الدعوة ، كانوا موعودين بكنوز كسرى وقيصر، وأنهم سينفقونها في سبيل الله ، يقول عليه الصلاة والسلام ، كما في حديث أبي هريرة: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)) [رواه البخاري].
فمنذ أن عرف المسلمون هذا الحق ، وأنكر النصارى هذا الحق ،قامت العداوة بين معسكر المسلمين ومعسكر النصارى ، ولن تنتهي هذه العداوة إلا بالنتيجة الحاسمة التي وُعد بها المسلمون بالنصر ، وهذا النصر أيها الأخوة لا يتم إلا بأن يتوج بفتح بلاد الروم ، وبلاد النصارى كاملة بإذن الله. يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ، ثم فارس فيفتحها الله ، ثم تغزون الروم فيفتحها الله ، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله. قال نافع: يا جابر لا نُرى الدجال يخرج حتى تُفتح الروم)).
إذاً هذا الفتح سيأتي لاحقاً إن شاء الله ، نقوله تحقيقاً لا تعليقاً. وقد فتح شيء من بلاد الروم في الأيام الخوالي ، لكن الفتح الأكبر يأتي لاحقاً بإذن الله جل وعلا.
أيها المسلمون: إن أول لقاء كان بين المسلمين وبين الروم كان في غزوة مؤتة ، في السنة الثامنة من الهجرة ، ثم أتت بعدها غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ، ثم تتابعت جيوش المسلمين على الشام في عهد الإمامين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، حتى أخرج هرقل من أرض الشام. وهرب إلى القسطنطينية في السنة الخامسة عشرة من الهجرة ، وفي ذلك الوقت ذُكر المسلمون المقاتلون عند هرقل ، بأنهم فرسان بالنهار ، عباد بالليل ، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا إليه ، فقال هرقل للقائل ، لئن صدقت فيما تقول ليرثُن ما تحت قدمي هاتين ، وتتابعت الفتوحات الإسلامية، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن فتح القسطنطينية هو مفتاح دخول المسلمين إلى أوربا الشرقية وبداية سقوط الكنيسة الشرقية والتي كانت القسطنطينية هي عاصمتها ، لذلك كانت بشرى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والحاكم: ((لتُفتحن القسطنطنية فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش)) هذه كانت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم ، آمن خلفاء الدولة العثمانية بهذه النبوءة وصدقوا هذه البشارة وعملوا على تحقيقها ، وسخروا من الأسباب ما يستطيعون ، فنصبوا المدافع وأقاموا القلاع الكبيرة ، على جانبي خليج البسفور ، وقدموا في سبيل هذا الفتح الكثير من الأعمال العسكرية. عندما انتهى السلطان محمد الفاتح من بناء قلعة – رومنى – على الجانب الأوربي من تركيا ، خرج بعض جنوده للتفرج على مدينة القسطنطينية فحصل بينهم وبين سكان تلك المدينة بعض الاحتكاك الأمر الذي أدى إلى بعض الشغب، فأمر السلطان محمد الفاتح بإبعاد البيزنطيين الذين يسكنون بجوار أسوار المدينة ، خصوصاً وأنه كان ينوي فتح القسطنطينية ، وكان يعد العدة لذلك ، فما كان يريد أن يطلع من يسكن بجوار المدينة على هذا الإعداد.
فعندما سمع أمير بيزنطه بهذا الأمر أمر بإخلاء كل القرى المجاورة وسحب سكانها إلى داخل مدينة القسطنطينية وأحكم إغلاق أبواب المدينة ، كان هذا بداية الاحتكاك بين العثمانيين المسلمين من جهة والنصارى من جهة أخرى ، فأدى هذا الاحتكاك ، أن طلب الإمبراطور المساعدة من جيرانه الدول المسيحية ، وبالطبع فدولة الفاتيكان كانت من أقوى الدول في ذلك العصر وكان المسيحيون أول ما يستنجدون بالفاتيكان، فيسخر الفاتيكان الأموال ، ويحرض أمراء الدول المسيحية على نجدة إخوانهم في الدين النصراني.
حاصر العثمانيون القسطنطينية براً وبحراً واستطاعوا بخطة عسكرية بارعة ، يشهد لها التاريخ حتى اليوم من نقل السفن من المضيق حتى الجانب الثاني ، حتى وصلوا إلى أسوار المدينة. بدأ الهجوم الإسلامي على القسطنطينية عام 857هـ بعد صلاة الفجر ، والذي كان يقود هذا الهجوم العام هو السلطان محمد بن الفاتح بنفسه ، وكان هذا هو دأب السلاطين ، كانوا يحرصون على الجهاد في سبيل الله ، كحرص غيرهم على استتباب الأمن في دولتهم.
اندفعت الجنود البواسل في الدخول داخل المدينة من فتحة صغيرة في السور أحدثتها المدافع الكبيرة التي جهزها العثمانيون لهذا الأمر.
أقيم العلم العثماني على أسوار المدينة بيد أحد الأمراء ، يسمى ولي الدين سليمان ، الذي قتل وهو يدافع عن ذلك العلم ، كي لا يسقط العلم فعندما قتل ذلك الأمير هب ثمانية عشر رجلاً ليقيموا ذلك العلم ، فتحت أبواب المدينة بعد ذلك بالكامل، ووصل الأسطول الإسلامي إلى المدينة ، فدخله فاتحاً بنصر الله جل وعلا ، هرب الشعب البيزنطي، ودخل الخليفة فاتحاً على صهوة جواده، وأول شيء فعله أن نزل وسجد شكراً لله على ذلك الفتح ، وعلى تحقيق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم على يديه ثم توجهه إلى ذلك الشعب النصراني الخائف من القتل ، فقال السلطان كلمته المشهورة والتي سجلها له التاريخ قال: أقول لكم ولجميع إخوانكم ولكل الموجودين هنا أنكم منذ اليوم أنتم في أمان في أموالكم وأعراضكم وحرياتكم ، وهو بهذا العمل إنما يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً وقد طردته قريش وحاربته. فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ((ماذا تظنوني أني فاعل بكم: قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)). هذا الفتح كان بداية دخول المسلمين إلى أوربا من جانبها الشرقي لأول مرة ، وكان هذا تقريباً قبل خمسمائة وأربعين عاماً ، ولأول مرة يتجاوز المسلمون الفاصل المائي الطبيعي الذي يفصل آسيا عن أوربا من جانبها الشرقي.
ثم بدأ المسلمون بالتوسع في أوربا الشرقية حتى وصلوا إلى ما يسمى الآن – فيينا – عاصمة النمسا، ولا تزال هذه المواقع التي وقف عليها العثمانيون وهم يشرفون على مدينة فيينا موجودة حتى اليوم. هذا التوسع الإسلامي شمل ما يعرف الآن بيوغوسلافيا في عام 755هـ، وشمل كذلك بلاد البشناق والذي يعرف اليوم بالبوسنة والهرسك في عام 867هـ. شمل كذلك بلغاريا واليونان ورومانيا وألبانيا وشمل كذلك قبرص والمجر وتشكسلوفاكيا كل هذه المناطق كانت خاضعة في يوم من الأيام لحكم المسلمين ، وأراض وطئتها أقدام المسلمين الطاهرة ، لكن أخرجوا منها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة في الله: استمر وجود العثمانيين المسلمين في أوربا الشرقية 625 سنة بمعنى أنه زاد وجودهم هناك عن وجود المسلمين في الأندلس، فإنهم لم يزيدوا عن 600 سنة ، وانتهى هذا الوجود بسقوط الدولة العثمانية عام 1923م أي قبل سبعين سنة فقط ، وسبعون سنة أيها الأخوة ليس بالبعيد ، بمعنى أن أجدادنا قد حضروا هذا التاريخ. ثم نحن الأحفاد نستقبل هذه النكبات والمصائب ، ويضيع هذا المجد في فترة قصيرة جداً ! ! يفاجأ الإنسان بحجم المعاناة والتي عاناها المسلمون في خلال هذه الفترة القصيرة ، سبعون سنة فقط. لكن بداية التراجع العثماني قد سبق هذه الفترة وبدأ في أوائل القرن السابع عشر الميلادي عندما تقهقر المسلمون، أول ما تقهقروا من تشكسلووفاكيا والمجر ويوغوسلافيا ، ثم كانت الحرب العالمية الأولى والتي شهدت هزيمة الحلفاء بما فيهم الدولة العثمانية ، واحتلت القوات الأوربية ، اسطنبول كما سماها الأتراك عام 1918م لكن أيها الأخوة ، وإن خرج المسلمون كحكام لتلك البلاد ، لكنهم تركوا خلفهم أعداداً غير قليلة من المسلمين في تلك البلاد ، تركوا ألبانيا وغالبية أهلها من المسلمين ، تركوا في يوغسلافيا نسبة غير قليلة من المسلمين ، وكذلك في بلغاريا وهنقاريا ، واستمر الوجود الإسلامي في بلاد أوربا الشرقية حتى يومنا هذا. أما تركة الدولة العثمانية فإنها قسمت إلى دويلات صغيرة ، ورسمت لها الحدود الجغرافية ، ووضع عليها حكام يوالون الغرب ، بدلاً من إخوانهم المسلمين.
أعداؤها أبناؤها فهم الخراب
فتمزقت وأتوا سراعاً كالذئاب
بنت الأعادي المجد من ذاك التراب
والشمس عنا قد توارت بالحجاب؟
فمتى سيشرق نورها فوق الهضاب؟
ومتى ستنجاب القتامة والضباب
يا أمة بليت بشر بلية
لغبائهم كفوا العدو جهادها
وصروحها هدمت وفي أطرافها
فإلى متى؟ وإلى متى؟ وإلى متى؟
يا أمتي والشمس طال غيابها
ومتى ستُمطرنا السماء بصيب؟
قال الله تعالى: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وقال جل وعز: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، يقاتلون من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).
بارك الله لي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن ما سمعتم في الخطبة الأولى هو جزء يسير من عز الإسلام وتمكنه وقيام دولته فيما مضى. أما هذه الأيام وهذه اللحظات التي نعيشها الآن فما الذي يجري على تلك الأراضي؟ ما الذي يجري الآن على أرض البوسنة والهرسك؟ وحشية لا مثيل لها في التاريخ، ولا يكون الإنسان مبالغاً إذا قال بأنها أبشع ما مر بالمسلمين في التاريخ ، هذه ليست هي المرة الأولى ، التي يصاب فيها المسلمون بالنكبات والضربات فقد سبقتها مذابح التتار ، وسبقتها مذابح الصليبيين للمسلمين في بيت المقدس أيام صلاح الدين ، وسبقتها قتل المسلمين في الأندلس عند سقوط غرناطة ، وسبقتها قتل تسعة ملايين مسلم وقت انفصال باكستان عن الهند عام 47م في أثناء عبورهم من الهند إلى باكستان وذلك بعد أن أمنتهم الهند على أنفسهم ، وسبقتها حرق القرى الإسلامية على سكانها أحياء ، ومذابح صبرا وشاتيلا على يد اليهود في لبنان وغيرها وغيرها خلال التاريخ. ولكن مع هذا كله فهذه أبشعها ، لا لشناعة ما يرتكب فيها فحسب ، ولكن لموقف العالم أجمع من هذا التقتيل ، وموقف العالم الإسلامي بصفة خاصة. وإلا فالذي يفعل بالمسلمين الآن هناك ليس بالأمر الهين. والله جل وعلا سائلنا جميعاً ، ماذا عملنا وماذا قدمنا في سبيل إيقاف الدم المسلم من أن يراق بلا ثمن ، وبلا ذنب ، سوى أن يقول ربي الله. أطفال لا يتجاوز أعمارهم الثلاثة أشهر تقطع آذانهم ، وأنوفهم. يؤتى بالنساء الحوامل وتبقر بطونهن بالسكاكين. يحشر الشيوخ من الرجال وكبار السن ، ثم يذبحون ذبح الشياه من الوريد إلى الوريد، 120 ألف مسلمة، هتكت أعراضهن على أيدي الصرب، ومنهن من تحمل العار ولم يبق على ولادتها سوى أسابيع. طفل رضيع يُمسك به الوحوش الصرب، فيوضع على النار ليشوى أمام عيني والده، فلما تم شيه قطعوه قطعاً ، وأجبروا أباه تحت تهديد الرصاص أن يأكل من لحم طفله ، فلذة كبده ، ثم أطلقوا عليه الرصاص فقتلوه ، ولو قتل قبل ذلك لكان أهون عليه ، إلى غير ذلك من المناظر التي لا يتحمل الإنسان أن يسمعها فكيف بمن يشاهدها ، ثم كيف بمن يكون هو المنظر المشاهد. إنا لله وإنا إليه راجعون.
هل نتوقع أن لا نُسأل عن هذا ، والله لنُسألن ولنحاسب ، فليعد كل منا جوابه، ليوم السؤال والحساب.
ومع كل هذا أيها الأخوة. فإننا متيقنون بنصر الله ، وندين الله به ، ونعتقده عقيدة في قلوبنا ، كما نعتقد ونجزم بأن أمس قبل اليوم ، واليوم قبل غد ، وأن لنا مع الروم النصارى جولات وجولات، وأن هذا الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر.
عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق قال: فأخرج منه كتاباً قال فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب ، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم :أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولاً: يعنى قسطنطينية)). ورومية هي روما عاصمة إيطاليا اليوم، وقد تحقق الفتح الأول على يد السلطان محمد الفاتح العثماني ، كما مر معنا وذلك بعد أكثر من 800 سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح ، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولابد، ولنعلمن نبأه بعد حين، ولاشك أيضاً أن تحقق الفتح الثاني يستدعي أن تعود الخلافة الراشدة إلى الأمة المسلمة وهذا مما يبشرنا به صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم سكت)) عليه الصلاة والسلام.
(1/1259)
عواقب الذنوب والمعاصي على الأمم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/1/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المصائب عقوبة الله لنا على ذنوبنا وتصيرنا. 2- مصارع الأمم السابق بسبب ذنوبها.
3- في حوادث ومصائب الأمم المجاورة عظة وعبرة لنا. 4- مسؤولية كل في بابه وعمله.
5- فشو المنكرات سبب في حلول العقوبة الإلهية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
معشر المسلمين: إن المصائب لا تقع إلا بإذن الله تعالى قال الله عز وجل: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم. وإن المصائب بمثابة الإشارات والتنبيهات من الله تعالى لعباده المخالفين ،وهي آيات للتخويف أيضاً ،قال تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً.
لذا يجب على العباد الرجوع والامتثال والاستقامة قبل فوات الأوان قال تعالى: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون.
أيها المسلمون: إن الله تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يجلبه ، وآفة تذهبه ، فطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم سبب لجلب النعم المفقودة ، وحفظ النعم الموجودة ، أما المعاصي فهي سبب لذهاب النعم ،وحلول النقم ،إذ هي تزيل النعم الحاصلة ، وتقطع النعم الواصلة.
أيها المسلمون: احذروا المعاصي والذنوب ، واتقوا خطرها على الأبدان والقلوب ، وانظروا وتفكروا في ظهور أثرها على الأوطان والشعوب ، فإنها سلاّبة للنعم جلاّبة للنقم ، تورث أنواعاً عظيمة من الفساد ، وتحل أنواعاً من الشرور والفتن والمصائب في البلاد. إن ضررها على الأفراد والمجتمعات، أشد وأنكى من ضرر السموم على الأجسام ، إنها لتخلق في نفوس أهلها التباغض والعداء ، وتنزل في قلوبهم وحشة وقلقا ، لا يجتمع معها أنس ولا راحة.
قال الله: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
أيها المسلمون: إن المعاصي والذنوب هي أصل كل بلاء ، ومصدر كل شقاء ، ومنبع كل غضب وانتقام ، فما نفرت النعم ولا حلت النقم ، ولا تسلط الخصوم والأعداء ، ولا حلت الأدواء، ولا هجمت المصائب والنكبات إلا بشؤم الرذائل والمنكرات.
عباد الله: ليس في الدنيا ولا في الآخرة شر ، ولا داء ، ولا بلاء ، إلا وسببه الذنوب والمعاصي ، وما عذبت أمة من الأمم إلا بذنوبها ، ففي كل آية عبرة ، وفي كل مثل من الأمم السابقة بلاغ وذكرى ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وقال تعالى مبيناً سبب أخذ المهلكين وعقابهم: فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
كل هذا كان فيمن قبلنا لكن الذنوب هي التي تهلك الأمم اللاحقة أيضاً ، فقال تعالى: ألم نُهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين. ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها ، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، بها تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويستجلب سخط الله.
أيها المسلمون: ما نزل بالأمم والشعوب من ذل وهوان ، وآلام وعقوبات وفتن وزلازل ، وما سُلط الأشرار ، وسيطر الفجار وغلت الأسعار وشحت الوظائف ، وكثرت الجرائم ، إلا بسبب الذنوب والمعاصي ، والمجاهرة بذلك من الداني والقاصي وترك الأوامر والنواهي ، فاعتبروا يا أولي الأبصار. قال تعالى: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين. فما الذي سبب إخراج الأبوين عليهما الصلاة والسلام من الجنة ، دار اللذة والنعيم إلى هذه الدنيا دار الآلام والأحزان؟ وما الذي سبب إخراج إبليس من ملكوت السماء ، وصيره طريداً لعيناً مصدراً لكل بلاء في الإنسانية؟ لماذا عم الغرق قوم نوح حتى على الماء رؤوس الجبال؟ ولماذا سُلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم كأنهم أعجاز نجل خاوية؟ وما السبب في إرسال الصيحة على ثمود حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم؟ ولماذا قلب قرى قوم لوط بهم فجعل عاليها سافلها وأتبعهم بحجارة من سجيل؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه ، وخسف بقارون الأرض ، وما الذي هد عروشاً في ماضي هذه الأمة وحاضرها طالما حُميت.إنه الذنوب والمعاصي.
أيها المسلمون :اعتبروا بالمصائب التي تحصل في معظم الأوطان من الفيضانات والطوفان ، والأعاصير التي تهلك الحرث والنسل في بعض الجهات ، والجدب والجفاف وكثرة المجاعات وانتشار الأوبئة والأمراض في كثير من المجتمعات ، وحوادث السيارات والقطارات المهلكة والبواخر المغرقة والطائرات المحرقة ، والزلازل المروعة التي تأتي على البنيان من القواعد. فخر عليهم السقف من فوقهم. كل ذلك يا عباد الله بسبب كفر النعم والظلم وكسب السيئات قال تعالى: فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين. وقال تعالى: أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم.
وقال سبحانه مبيناً عاقبة الظالمين الذين يكفرون نعم الله ولا يشكرونها قال تعالى: وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور. وقال تعالى مبيناً للذين شاهدوا المصائب أن يأخذوا العبرة من ذلك قال تعالى: ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون.
أيها المسلمون: إن المصائب سببها ما تكسبه أيدي الناس من الذنوب ، قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. فمن رحمة الله تعالى أنه لا يؤاخذ العبد بكل ذنب يكسبه، ولكنه يعفو عن كثير ، وكما قال سبحانه: فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم.
أيها المسلمون: إن معصية الله تعالى والمجاهرة بذلك كفر بالنعم، وإن الكفر بالنعم سبب للعذاب والعقاب ، قال الله عز وجل: ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.
وقال سبحانه: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذين عملوا لعلهم يرجعون.
أيها المسلمون: إن المصائب والأحداث ما هي إلا نذر للمسلمين لكي يعودوا ويرجعوا إلى تصحيح أعمالهم ورفع المظالم وإقامة العدل في بلادهم ، فالظلم والبعد عن شرع الله تعالى سبب للهلاك ، قال تعالى: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون.
فاتقوا الله أيها المسلمون وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ، واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وقد وعد سبحانه ووعده الحق أن لا يعذب المستغفرين ، قال تعالى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ، واجعلنا من الصابرين والصادقين والقانتين والمستغفرين بالأسحار ، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: يقول الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. فعلى المسلم والمسلمة أن يتقي الله تعالى ويسعى للإصلاح وأن يحفظ الثغر الموكل إليه حتى لا يتسرب الفساد من بين يديه ، وكل بحسبه ، فالسلطان في البلاد على ثغر من ثغور المسلمين، فلا يجوز له أن يسمح للفساد أن يدخل سلطانه ، والوزير على ثغر من ثغور الإسلام ، فلا يجوز له أن يترك الفساد يتسرب إلى أجهزة وزارته ، ومدير المكتب أو المدرسة على ثغر من ثغور الإسلام ، فلا يجوز له أن يسمح للفساد أن ينتشر في صفوف منسوبيه أو تلاميذه ، وموظفوا الجمارك خاصة والدولة عامة ورجال الأمن على ثغر من ثغور الإسلام فلا يجوز لهم أن يسمحوا بدخول الفساد إلى البلاد أو يتساهلوا فيما أوكل إليهم من أعمال والرجل في بيته ومع أفراد عائلته على ثغر من ثغور الإسلام فلا يجوز له أن يترك الفساد يدخل بيته. والفرد لو كان لوحده على ثغر من ثغور الإسلام ينبغي له أن يحرص من دخول الفساد إلى قلبه.
أيها المسلمون: فإذا تخلى المسلم عن مسئوليته وألقى باللائمة على غيره ، عندها يدب الفساد ، ويتسلط الأعداء على البلاد ، وتحل النقم ، وتسلب النعم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون: إن حصول المصائب لا تكون إلا بسبب ما تكسبه أيدي الناس من المعاصي والمخالفات ، والتي منها أكل السحت ، والربا وانتشار الفواحش ، والزنا ، وإكرام الكفار والفجار ، وإهانة الصالحين والأخيار ، ونبذ الأحكام الشرعية ، وتضييع الصلاة ومنع الزكاة ، واتباع الشهوات وارتكاب المنكرات ، ومعاداة أولياء الله وانتشار الغش والظلم، لقد أدمنت المخدرات وكثر أكل الحرام ، وتنوعت فيه الحيل ، شهادات باطلة ، وأيمان فاجرة ، وخصومات ظالمة ، لقد ارتفعت أصوات المعازف والغناء المحرم ، ودخل أغلب البيوت ، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام ، وتساهل الناس في شأن الدشوش ، لقد فشت رذائل الأخلاق ، ومستقبح العادات في البنين والبنات تسعكت النساء في الشوارع والأسواق ، كثرة مشاكل المغازلات والمعاكسات إلى غير ذلك من المنكرات والمعاصي والمخالفات ، التي لا عد لها ولا حصر في سائر مجتمعات المسلمين ، التي لا يكاد يسلم منها مجتمع ، فإلى متى الغفلة عن سنن الله ، ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله ، ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
إن المجتمع حين يغفل عن سنن الله ، فتغرق في شهواتها ، وتضل طريقها ، وتنكب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها ، إنها سنة الله ، حين تفشوا المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام ، إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة ، وسلوك مسالك اللهو والترف طريق إلى عواقب السوء ، إذ تترهل النفوس ، وترتع في الفسق والمجون ، وتستهتر بالقيم ، وتهين الكرامات ، فتنتشر الفواحش ، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة ، وتسترخي وتفقد قوتها وعناصر بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها ، نعم ، إن الاستمرار في محاداة أمر الله وشرعه ، والاستمرار على الذنوب والخطايا وعدم الإقلاع ، ليهدم الأركان ، ويقوض الأساس ويزيل النعم ، وينقص المال ، وترتفع الأسعار ، ويغلو المعيشة ، وتحل الهزائم الحربية ، وقبلها الهزائم المعنوية. ولقد أصابنا أيها الأحبة من ذلك الشيء الكثير. قال الله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.
فاتقوا الله تعالى واحذورا مكره وبأسه إن كنتم تسمعون قال الله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون. تلك القرى نقص عليك من أنبائها.
قال بعض السلف: بغت القوم أمر الله ، وما أخذ الله قوماً إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم فهل من مدكر. فنسأل الله جل وتعالى.
أيها المسلمون: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1260)
عمر بن عبد العزيز
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/7/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدون. 2- ذكر بعض العلماء الذين قاموا بالإصلاح
في تاريخنا الإسلامي. 3- بيان عمر لأخطاء مجتمعه ومظالم سابقيه. 4- عمر في أول يوم من
خلافته. 5- تتبع عمر لمظالم بني أمية فردها. 6- موقف لعمر مع أحد أمراء بني أمية.
7- مواقف أخرى في عدل عمر وورعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد ذكرت لكم من قبل بأن الحركات الإصلاحية في الأمة ، لابد أن يقودها علماء. النقلة القوية، وتغيير الواقع ، ورد الأمور إلى نصابها ، هذه القفزات في حياة الأمة لابد أن يكون في مقدمتها علماؤها. وهذا الكلام لا يعني التنقيص من قدر الدعاة والوعاظ والخطباء ، وشباب الصحوة ، أبداً.
فهؤلاء هم خير المجتمع ، وهم الصفوة ، وعلى يدهم ينتشر الخير ، وبسببهم يهتدي الناس ، فالشباب الصالح هم الأمل بعد الله عز وجل ، وهم الروح الذي يسري في بدن الأمة ، فالأمة الإسلامية ، تنتظرهم ، وتأملُ فيهم الشيء الكثير ، لكن هؤلاء دورهم محدود ، هم بإمكانهم أن يوصلوا الأمة إلى مقدار معين ،لكن التحول النهائي ، ونزع الأمة ، تلك النزعة القوية ، هذه لابد لها من علماء ، لأن قناعة الناس دائماً بالعلماء أكثر من غيرهم.
أيها المسلمون: تكلمت معكم في جمع مضت ، عن بعض هذه الشخصيات ، وعن بعض هذه النماذج التي كان لها دور جبار في فترة من فترات التاريخ وفي الأماكن التي وجدوا فيها ، فكانت خطبة عن عمر المختار ، وأخرى عن عز الدين القسام ، وها نحن نقف معكم اليوم ، مع المجدد الأول لهذه الأمة ، خليفتها الراشد الخامس ، عمر بن عبد العزيز ،وكيف أنه نقل الناس من ذلك الوضع المتردي الذي كانوا يعيشونه ، إلى تلك القمة السامقة في فترته التي حكم بها المسلمون.
أيها الأحبة في الله: إن في عرض قصص هؤلاء الرجال ليبعث الأمل في النفوس ، ويشحذ الهمم ، لأن قلوب الناس قد أصابها اليأس ، وأصابها الوهن ، والمسلمون ، فقدوا كل أمل ، لأنهم يرون بأعينهم ، ويسمعون بآذانهم ، أخبار الأمة ، وما يجري بها ، وما يُفعل بها ، ولا يرون تقدماً. فنقول ، بأن الأمل كبير ، وإن حركات التجديد والإصلاح قادمة ، والله جل وتعالى لن يترك دينه ولن يتخلى عن أوليائه. فالأمة الإسلامية ، مر بها فترات عصيبة جداً في تاريخها وفي أماكن متعددة من أراضيها ،فأوجد الله جل وتعالى أمثال شيخ الإسلام ، والإمام أحمد ، والعز بن عبد السلام ، وصلاح الدين ، وعمر المختار ، ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.
فأنقذ الله بهم الأمة ، وأعزَّ الله بهم الدين ، فرفع الناس رؤوسهم ، وشعروا بكرامتهم ، وسيوجد الله تعالى غيرهم وغيرهم ، وستكون حركات الإصلاح على أيديهم بإذنه سبحانه وتعالى. لكن كما قلت بأن في عرض سير وقصص هؤلاء إيضاح لبعض المعالم ، فإن الناس أحياناً لا تعرف الخطأ حتى تسمع الصواب ، ولا ترى الظلم حتى تسمع ببعض صور العدل ، وبضدها تتبين الأشياء:
كأنني راهب يغشى مصلاه
يوماً وأخطأ دمع العين مجراه
إني لأشعر إذا أغشى معالمهم
الله يعلم ما قلّبتُ سيرتهم
أيها المسلمون: لنعد بعد هذه المقدمة إلى عرض شيء يسير من سيرة الإمام العادل ، والحاكم الزاهد ، والخليفة الورع ، أمير المؤمنين عمرُ بن عبد العزيز ، ولا حاجة لي أن أفصّل معكم في ولادته ونشأته وزواجه ، فهذه مجالها كتب التراجم والتاريخ ، ولا تستوعبها خطبة قصيرة كهذه ، لكننا نختار لكم نتفاً من سيرته رحمه الله ، فإنه ضرب أروع الأمثلة في الحكم ، وفي رفع الظلم عن الناس وفي الزهد والورع والخوف من الله. كم نحن بحاجة إلى سماع مثل هذه الأخبار في واقع تغيب عنه هذه القضايا أحياناً.
أيها الأحبة في الله: هناك قضية مهمة جداً أراد تأصيلها وتوضيحها هذا الحاكم الورع ، وهي أيضاً غائبة عن ذهن كثير من المسلمين ، في شتى بقاع العالم الإسلامي ، كما كانت غائبة عن ذهن البعض تلك الأيام. هذه القضية ، هي أن عمر بن عبد العزيز أراد أن يبين للناس أن الوضع الذي كنتم عليه قبل أن أُولي الخلافة ، لم يكن وضعاً إسلامياً كاملاً كان يريد رحمه الله أن يوضح للناس بأن الذي كنتم ترونه وتشاهدونه ، وهذا الذي يحصل في الدولة ليس شرعياً كله ، فإن هناك ظلم حاصل ، وهناك أبرياء أكلت حقوقهم ، وهناك تجاوزات كان يفعلها الأمراء والولاة ، ولهذا من أول يوم تولى فيه الخلافة رضي الله عنه بدأ بهذه القضية الأساسية ، كما سيتضح بعد قليل.
فنقول نعم ، إن هذه الحقيقة غائبة عن تصورات كثير من العوام ، بل وحتى كثير من المثقفين في بقاع شتى من العالم الإسلامي ، ذلك أنهم يظنون بأن الوضع الذي هم فيه هو الوضع الصحيح ، بل إن البعض يظن أن هذا هو الوضع الشرعي ، والأمر في حقيقته ليس كذلك.
أحياناً تكون هناك أمور ، وتكون هناك أوضاع ، لا نقول: تخالف الشرع بل تناقض وتضاد الشرع والدين ، ويظن الناس بأن هذا هو الإسلام.فهؤلاء كيف يفهمون بأن الوضع الفلاني ، ليس وضعاً شرعياً ، كيف يبين لهؤلاء بأن الحال الذي ترونه ، ليس إسلامياً.هذا هو الدور الكبير الذي وضح معالمه ، وبين قواعده ، أمير المؤمنين الحاكم الراشد عمر بن عبد العزيز.
أيها المسلمون: توفي سليمان بن عبد الملك ، وهو الذي كان قبل عمر ،فلما دفن سليمان بن عبد الملك وخرج عمر من قبره سُمع للأرض هدَّةٌ أو رجة فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة قُربت إليك لتركبها ،فقال: مالي ولها ،أبعدوها عني وقربوا لي دابتي فقُربت إليه فركبها ،فجاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة جرياً على عادة الخلفاء قبله. فقال: تنحَّ عني مالي ولك إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار مختلطاً بين الناس حتى دخل المسجد ،وصعد المنبر ،واجتمع الناس إليه ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال أيها الناس: إنما بُليت بهذا الأمر من غير رأيٍ مني ولا طِلبةٍ ولا مشورة ،وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعة فاختاروا لأنفسكم غيري ،فصاح المسلمون صيحةً واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضيناك فلي أمرنا باليمن والبركة. فلما سكتوا حمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء ،وليس من تقوى الله خلف ،وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم وأكثروا ذكر هادم اللذات الموت ،وأحسنوا له الاستعداد قبل أن ينزل بكم. وإن من لا يذكر من آبائه الذين ليس بينهم وبين آدم أباً حياً لمعرق في الموت ،وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في نبيها ولا في كتابها ،إنما اختلفوا في الدينار والدرهم وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً ولا أمنع أحداً حقاً.
أيها الناس: من أطاع الله تعالى وجبت طاعته ، ومن عصى الله فلا طاعة له ، أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم ، ثم نزل رحمه الله ، ودخل دار الخلافة وأمر بالستور فهتكت ،وبالبسط فرفعت ،وأمر ببيع ذلك وإدخال أثمانها بيت مال المسلمين.
إن أوضاع بني أمية كانت أوضاعاً سيئة قبل أن يتولى عمر ، كثر في أمرائها ظلم الناس واقتطاع أراضيهم ، وأخذ أراضي واسعة بغير حق ، وبدون ثمن ، كما أنه كثر في عهد بني أمية تلك الفترة ، وقبل تولى عمر الخلافة الأخذ من بيت المال ، وصارت الأسرة الحاكمة تنفق على نفسها بشكل واسع ، وبذخ عجيب ، فبمجرد أن تولى عمر الحكم احتجب عن الناس ثلاثة أيام متواليات ، لا يخرج إلا للصلاة ، ولا يدخل عليه أحد ، إلا وزيره مزاحم ، وكان عمر خلال هذه الأيام يعمل ليل نهار مع وزيره في فرز سجلات أراضي الأمراء ، وفي استخراج العطايا والأموال التي كانوا يأخذونها ، فجلس هذه الأيام الثلاث رحمه الله يدرسها دراسة دقيقة ، وكم كان عجب عمر كبيراً عندما أحصى مجموع القطائع والأراضي والأعطيات والأموال التي أخذها أمراء بنو أمية ، فبلغت عنده نصف ما في بيت مال المسلمين أو ثلثيه. فما كان منه إلا أن نادى: الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فخرج إليهم ، وقبل أن يخرج ، كان بنو مروان ، وبنو أمية ، لا يدرون كيف يتصرف عمر ، فكانوا هم وأشارف الجند ببابه ، ينتظرون خروجه ، فخرج ، وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد: فإن هؤلاء - أي الخلفاء قبله - أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها ،وما كان ينبغي لهم أن يعطونا ، وإني قد رأيت ذلك ليس علي فيه دون الله محاسب ، وأني قد بدأت بنفسي وأهل بيتي ، اقرأ يا مزاحم ، فجعل مزاحم يخرج سجلاً سجلاً وعهداً عهداً وكتاباً كتاباً ثم يقرؤه ، فيأخذه عمر ، وبيده آلة حادة فيمزقه ، وما زال حتى حان وقت صلاة الظهر ، ونادى المؤذن بالصلاة ، ورد جميع هذا إلى بيت مال المسلمين ، كان يأخذه من الأمراء بالقوة الذي لا يرده باختياره ، رده بالعنوة ، رحمه الله تعالى. وبدأ بحلي زوجته ، فاطمة بنت عبد الملك ، أخت سليمان ، فقد كان أخوها يعطيها من الهدايا والأعطيات ، فأخذ كل جواهرها وأرجعه إلى بيت مال المسلمين ، ولا شك أن هذا الفعل ، ضايق كثيراً من الأمراء لكن رحمه الله كان لا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم صار يُنادي في الأمصار أن كل من له مظلمة ، أو أن هناك والياً أو أميراً ظلمه أو أخذ من أجره فليأتنا أو ليكتب لنا ، فنرد مظلمته.
استمعوا رحمكم الله إلى هذه القصة العجيبة: قدم ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال: وما ذاك؟ قال: إن العباس بن الوليد اغتصبني أرضي والعباس حاضرٌ فقال عمر رضي الله عنه: ما تقول يا عباس؟ قال: إن أمير المؤمنين الوليد أقطعني إياها ،وهذا كتابه أي صك الأرض. فقال عمر رضي الله عنه ما تقول يا ذمي قال أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى: فقال عمر رضي الله عنه: كتاب الله أحقُ أن يتبع من كتاب الوليد ، فاردد عليه أرضه يا عباس ،فردَّها عليه. ولما بلغ الجبار العنيد عمر بن الوليد أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله رد الضيعة على الذمي كتب إلى عمر بن عبد العزيز يعترض على عدله ويزعم أنه جور ، فقال في كتابه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء ، وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضاً لهم وشيناً لمن بعدهم من أولادهم.قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها بيت المال جوراً وعدواناً ، ولن تُترك على هذه الحال ، والسلام.
فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه كتب إليه (بسم الله الرحمن الرحيم)من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. أما بعد: فقد بلغني كتابك ، أما أول شأنك يا ابن الوليد فأمَّك بنانةُ السكون ، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل في حوانيتها ،ثم الله أعلم بها. ثم اشتراها ذُبيان من مال المسلمين فأهداها لأبيك ، فحملت بك ، فبئس المولود ، ثم نشأت ،وكنت جباراً عنيداً ،تزعم أني من الظالمين ، إذ حرمتك وأهل بيتك مال الله تعالى ، الذي هو حق القرابات والمساكين والأرامل. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين ، تحكم فيهم برأيك ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده ،فويلٌ لأبيك ما أكثر خصماؤه يوم القيامة ، وكيف ينجو أبوك من خصمائه. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج لسفك الدماء ويأخذ المال الحرام. وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل "قُرة" أعرابياً جافياً على مصر وأذن له في المعازف واللهو وشرب الخمر. فرويداً يا ابن بنانة لو التقتا حِلق البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك ، فوضعتهم على المحجة البيضاء ، فطالما تركتم المحجة البيضاء ، فطالما تركتم الحق وأخذتم الباطل ، ومن وراء ذلك ما أرجو أن أكون رأيته من بيع رقبتك وقسم ثمنك على الأرامل والمساكين واليتامى ، فإن لكل فيك حقاً ،والسلام على من اتبع الهدى ،ولا ينال سلام الله القوم الظالمين.
هكذا كان عمر ، وبهذه القوة رد المظالم إلى بيت مال المسلمين ، حتى إن الخوارج ، الذين من عقيدتهم الخروج على الحاكم ، لما رأوا من سيرة عمر رد المظالم ، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل.حتى قال شاعرهم كثير بن عزة:
برياً ولم تقبل مقالة مجرم
أتيت فأمسى راضياً كل مسلم
مناد ينادي من فصيح وأعجم
بأخذك ديناري ولا أخذ درهم
وأكرم بها من بيعة ثم أكرم
وليت ولم تسبب علياً ولم تخف
وصدقت بالقول الفعال مع الذي
فما بين شرق الأرض والغرب كلها
يقول أمير المؤمنين ظلمتني
فاربح بها من صفقة لمبايع
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ونفعني وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن المواقف العجيبة أيضاً في سيرة هذا الإمام الفاضل ، قصة حصلت له مع عمته ، تتعلق أيضاً في رد المظالم ، ولعلنا نركز على هذا الجانب في سيرته في هذه الخطبة ، وتكون لنا عودة ثانية إن شاء الله تعالى إلى زهده ، وورعه ، وعلمه ، وجوانب أخرى من حياته رحمه الله.
جاءت عمته تريد أن تكلمه فيما كان يجري لها في عهد الخلفاء الذين قبله ، وذلك أن بعض الخلفاء كانوا يصرفون مخصصات شهرية لأقاربهم وللأسرة الحاكمة بشكل عام ، فلما تولى عمر الخلافة أوقف هذه التلاعبات كلها ، ومن ضمنها ما كان يجري لعمته، فجاءته فدخلت عليه، فإذا بأمير المؤمنين بين يديه أقراص من خبز وشيء من ملح وزيت وهو يتعشى. فقالت له: يا أمير المؤمنين أتيت لحاجة لي ، ثم رأيت أن أبدأ بك قبل حاجتي ، قال: وما ذاك يا عمة؟ قالت: لو اتخذت لك طعاما ألين من هذا ، قال ليس عندي يا عمة ، ولو كان عندي لفعلت. قالت: يا أمير المؤمين ، كان عمك عبد الملك يجري عليّ كذا وكذا ، ثم كان أخوك الوليد فزادني ، ثم كان أخوك سليمان فزادني ، ثم وَليت أنت فقطعته عني ، قال: يا عمة ، إن عمي عبد الملك وأخي الوليد وأخي سليمان كانوا يعطونك من مال المسلمين ، وليس ذلك المال لي لكي أصرفه لك، ولكن إن شئت أعطيتك من مالي ، ولا أملك غيره ، فانصرفت عنه.
ونختم بهذه القصة ، خشية الإطالة، وإلا فقصصه كثيرة رحمه الله.
كان سليمان بن عبد الملك الخليفة قبله ، كان قد أمر لرجل يسمى "عنبسة بن سعد بن العاص" أمر له بعشرين ألف دينار من بيت المال ، فدارت المعاملة في الدواوين ، حتى انتهت إلى ديوان الختم ، فلم يبق إلا ختمها من الأمير حتى يقبضها من الخزينة ، فتوفي سليمان قبل أن يقبضها ، وكان عنبسة صديقاً لعمر بن عبد العزيز منذ القدم ، فذهب يطلب من عمر ما أمر له به سليمان ، فوجد بني أمية حضوراً بباب عمر يريدون الإذن عليه ليكلموه في أمورهم ، فلما رأوا صديق عمر عنبسة قادماً قالوا: ننتظر ماذا يعمل معه قبل أن نكلمه ، فدخل عنبسة عليه فقال: يا أمير المؤمنين ، إن أمير المؤمنين سليمان كان قد أمر لي بعشرين ألف دينار ، حتى وصلت إلى ديوان الختم ، ولم يبق إلا أن أقبضها، فتوفي قبل أن أقبضها، وأمير المؤمنين أولى بإتمام الصنيعة عندي ، وما بيني وبينه أعظم مما كان بيني وبين سليمان - يعني من الصداقة - فقال له عمر كم ذلك؟ قال عشرون ألف دينار ، قال عمر عشرون ألف دينار تُغني أربعة آلاف بيت من المسلمين ، وأدفعها إلى رجل واحد ، والله مالي إلى ذلك من سبيل.قال عنبسة ، فرميت بالكتاب ، الذي فيه الصك ، وهي الورقة التي أمر له بها سلميان بصرف هذا المبلغ. فقال له عمر ، لا عليك أن تبقى معك ، فلعله أن يأتي بعدي من هو أجرأ على هذا المال مني ، فيأمر لك به ، فأخذ عنبسة صكه ثم خرج.
فلما توفي عمر ، وآل الحكم إلى يزيد بن عبد الملك جاءه عنبسة بكتاب سليمان فأنفذ له ما كان فيه.
رحم الله عمر رحمة واسعة ، وجزى الله عمر عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، كما نسأله جل وعلا أن يجعل فرج هذه الأمة ، بأمثال عمر :
كادت تموت وأخرى منك تنتظر
على الحبيب الذي يُسقى به المطر
تضم أعظمهم في المسجد الحفر
مشى على المنهج المرسوم يعتبر
للحق والأمر بالمعروف تبتدر
فيمن يموت وفي أنبائه عبر
على البرية وازدانت به السير
وخير من شرفت من أجله مُضر
كم من شريعة حق قد بعثت لها
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي
ثلاثة ما رأت عيني لها شبهاً
وعثمان ذي النورين رابعهم
وأنت رابعهم إذ كنت مجتهداً
وفي مصاب رسول الله تسلية
هو الرسول الذي مَنَ الإله به
وخير من ولدت عدنان قاطبة
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..
(1/1261)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/10/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصديق واستخلافه عمر. 2- الشيطان يفر من عمر. 3- الفتوحات في عهد عمر.
4- أمر عمر الكافرين بالتميز عن المسلمين في لباسهم وهيئتهم. 5- تقليد المسلمين للنصارى
وتعظيمهم. 6- منع عمر لاتخاذ الكفار بطانة. 7- تحذير عمر عماله من الإسراف والكبر.
8- ورع عمر بن الخطاب وتحسسه أخبار رعيته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كان حديثي معكم في الجمعة الماضية، هو مواقف مختارة من حياة صديق هذه الأمة، أبو بكر رضي الله عنه، ومحاولة الاستفادة والاتعاظ وأخذ الدروس والعبر من حياته رضي الله تعالى عنه. وسوف نقف في هذه الجمعة، بعد توفيق الله عز وجل، مع فاروق هذه الأمة، عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، نتلمس بعض الفوائد من بعض المواقف من حياته.
عباد الله:
اعلموا رحمكم الله، أن الله عز وجل، اختار نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل، لينشره بين العالمين، واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقومها عملا، وأقلها تكلفا، جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم هذ الدين، ونصرهم به وأظهرهم على الدين كله ولو كره المشركون.
وكان منهم الخلفاء الراشدون، الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، فكانت خلافتهم أفضل خلافة، وحكمهم أحسن حكم، ولن يظهر حكم على وجه الأرض، كحكمهم، تشهد بذلك أفعالهم، وتنطق به آثارهم، أبو بكر الصديق، عبد الله بن عثمان، وأبو حفص الفاروق، عمر بن الخطاب، وأبو عبد الله ذو النورين عثمان بن عفان، وأبو الحسن ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.
وكان أفضلهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفيقه في الغار، الذي نطق بما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام الحديبية، حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار، وثبت الله به المسلمين يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصر الله به الإسلام حين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من بركته على هذه الأمة، ونصحه لها، ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)) وقال صلى الله عليه وسلم يخاطب عمر: ((والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكاً فجاً قط، إلا سلك فجاً غير فجك)) وسأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الرجال إليه فقال: ((أبو بكر، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب)) وعد رجالاً. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان ينزع من بئر، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين. قال ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر، فاستحالت في يده غرباً، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه، حتى ضرب الناس بعطن، ولقد صدق الله رسوله الرؤيا، فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وقوى سلطان الإسلام، وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر، وأرمينية، وفارس، حتى قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفاً وستاً وثلاثين مدينة مع سوادها، بنى فيها أربعة آلاف مسجد، وكان رضي الله عنه مع سعة خلافته مهتماً برعيته، قائماً فيهم خير قيام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الله أعز به الإسلام، وأذل به الشرك وأهله، وأقام شعائر الدين الحنيف، ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام، مطيعاً في ذلك الله ورسوله، وقّافاً عند كتاب الله، ممتثلاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محتذياً حذو صاحبيه، مشاوراً في أموره السابقين الأولين، مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم ورأي، أو نصيحة للإسلام وأهله، حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه، فقد شرط رضي الله عنه على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين، والتميز عنهم في اللباس والأسامي وغيرها، وأن لا يُظهروا الصليب في كنائسهم، ولا في شيء من طرق المسلمين، وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين". انتهى.
فتأملوا رحمكم الله، كيف وصل الحال الآن بمجتمعات المسلمين. فأقول رحم الله عمر بن الخطاب، وجزى الله الإسلام والمسلمين عنه خير الجزاء، كيف بالتميز بين المسلمين وغيرهم من ملل الشرك والكفر حتى في اللباس والأسماء، لكي يتميز المسلم عن غيره، فوصل الحال ببعض المسلمين، أن يسموا أولادهم بأسماء الكفار.
أما اللباس، فحدث ولا حرج، بل صار التحلي بلباس الكفار موضع افتخار واعتزاز من بعض المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إنك تجد أن كل من أراد السفر إلى بلاد الكفار، أول ما يبدأ به، هو خلع ملابسه الإسلامية، ويلبس ملابسهم، هذا إن كنا نقبله من بعض جهلة وعوام المسلمين بعض الشيء. لكن أن يكون هذا العمل، حتى ممن يذهبون إلى بلاد الكفار بصفات رسمية فهذا الذي لا يليق، وليس له مبرر إلا التقليد الأعمى والتأثر بهم، فإن كان هذا تحول الظاهر، فما بالكم بتحول الباطن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأقول رحم الله عمر، لقد نهى رضي الله عنه أن يرفع الصليب على كنائسهم وفي طرقات المسلمين، لقد رفعت، بل ونصبت الصلبان في ديار المسلمين، وفي طرقاتهم علناً، بل ويأخذون الموافقة عليها، ولقد نهى رضي الله عنه عن نشر كتبهم أو ظهورها في أسواق المسلمين، فكيف لو رأى أن الكتب المنحرفة والمجلات الخليعة التي تدعوا إلى الفاحشة والشر والفساد علانية هي التي طغت أسواق المسلمين، وهي التي يسهل أمر طبعها ونشرها وبيعها، وغيرها يضيق عليها.
ويقول شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله تعالى، أيضاً، يذكر جوانب ومآثر أخرى من حياة هذا الرجل العظيم، فيقول رحمه الله تعالى: "ولقد كان رضي الله عنه، يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة، أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله، قال أبو موسى الأشعري، قلت لعمر رضي الله عنه، إن لي كاتباً نصرانياً، فقال: مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفاً - يعني مسلما - قال قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله.
وكتب إليه خالد بن الوليد يقول: إن بالشام كاتباً نصرانياً لا يقوم خراج الشام إلا به، فكتب إليه عمر: لا تستعمله، فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غنى بنا عنه، فرد عليه عمر: لا تستعمله، فكتب إليه خالد: إذ لم نستعمله ضاع المال، فكتب إليه عمر مات النصراني والسلام.
فأقول أيها الأخوة، ماذا يقول عمر لو نظر إلى أحوال بلاد المسلمين، وتسلط الكفرة عليها، بل وتمكين المسلمين لهم، بالتدخل في جميع شئونهم، كان عمر رضي الله عنه، ينهى حتى عن الكاتب، فما بالكم بالمستشارين لو كانوا من اليهود والنصارى، وماذا نتوقع أن تكون مشورتهم، والله عز وجل يقول في كتابه: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وقال سبحانه: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وقال عز وجل: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار.
لقد وصل الحال ببعض الدول الإسلامية إنك تجد حتى في النواحي العسكرية التي يقوم عليها أمن البلد، يولي وينصب من غير المسلمين، فماذا نرجو بعد هذا يا عباد الله.
ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين، وإن كانت شيئاً بسيطاً، كانت هذه السياسة، مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لحقه مشرك ليقاتل معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا أستعين بمشرك)). هذا أيها الأخوة على المستوى العام.
أما على مستوى الأفراد، وثقة المسلمين بالكفار فإنها مصيبة وبلية نزلت بالمسلمين، فإننا نجد ارتياح الناس وثقتهم بالسائقين والخدم من غير المسلمين أكثر، وأصحاب المحلات التجارية، يولون أمورهم وأموالهم لغير المسلمين، ويثقون فيهم أكثر. اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
لقد ضرب الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أروع الأمثلة، وقدم أحسن النماذج، التي يمكن أن يتمثل بها كل حاكم، وكل والٍ إلى قيام الساعة. فمن ذلك أنه كان رضي الله عنه مع هذا الحزم والحيطة والغلظة عليهم، كان يكتب إلى عماله، يحذرهم من الترفع والإسراف، وهذا الذي يجب على كل من تولى أي أمر من أمور المسلمين، أن يتابع عماله ووزرائه ومعاونيه، كتب مرة إلى عتبة بن فرقد، وكان قد ولاه على أذربيجان فقال له يا عتبة: إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك. أي أن هذا الذي تأخذه من بيت مال المسلمين ليس من كد أبيك ولا من كد أمك، ثم قال له: فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك، ولباس الحرير.
وكان رضي الله عنه، عندما يوجه عماله ووزرائه بهذا كان هو التطبيق العملي لكلامه، فيطبق على نفسه قبل أن يطبق على غيره.يروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء، جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، والله لا أجد أحداً منكم فعل ما نهيت عنه، إلا أضعفت عليه العقوبة. وكان رضي الله عنه يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول: إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم، ويحكموا فيكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن فُعل به سوى ذلك، فليرفعه إليّ.
وأخرج ابن سعد عن البراء بن معرور، أن عمر خرج يوماً حتى أتى المنبر، وكان قد اشتكى شكوى، فنعت له العسل، وفي بيت المال عُكة، فقال إن أذنتم لي فيها أخذتها، وإلا فهي عليّ حرام، فأذنوا له.
وكان رضي الله عنه يخاف من الله عز وجل أن يسأله حتى عن البهائم التي في حدود ولايته، فقد أخرج ابن سعد أيضاً عن سالم بن عبد الله، أن عمر كان يُدخل يده في دبر البعير، وذلك أن البعير يصاب بنوع من المرض، يحتاج إلى إخراج ما في دبره، وكان يقول: إني لخائف أن أُسأل عما بك.
وخرج ذات ليلة إلى الحرة، ومعه مولاه أسلم، فإذا نار، فقال يا أسلم: ما أظن هؤلاء إلا ركباً قصر بهم الليل والبرد، فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان، يتضاغون من الجوع، قد نصبت لهم قدر ماء على النار، تسكتهم به ليناموا، فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء - وكره أن يقول: يا أهل النار - ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية؟ قالت المرأة: يتضاغون من الجوع، قال فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به، أوهمهم أني أصنع طعاماً حتى يناموا ، والله بيننا وبين عمر، فقال: يرحمك الله وما يُدري عمر بكم، قالت: أيتولى أمرنا ويغفل عنا، فبكى عمر رضي الله عنه، ورجع مهرولاً، فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم، وقال لأسلم: احمله على ظهري، قال: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين، فقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة فحمله حتى أتى المرأة، فجعل يُصلح الطعام لها، وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته، حتى نضج الطعام، فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة لها، فأكل الصبية حتى شبعوا، وجعلوا يضحكون ويتصارعون، فقالت المرأة: جزاك الله خيراً أنت أولى بهذا الأمر من عمر، فقال لها عمر قولي خيرا.
أيها المسلمون: هكذا كانت ولاية عمر رضي الله عنه لرعيته بهذه العدالة، وبهذا الورع ومع هذا فقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس، أن العباس قال: سألت الله حولاً بعدما مات عمر أن يرينيه في المنام، فرأيته بعد حول وهو يسلت العرق عن جبينه، فقلت: بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين، ما شأنك؟ فقال: هذا أوان فُرغت - أي الآن قد انتهيت من الحساب.
وأخرج نحوه ابن سعد، عن سالم بن عبد الله بن عمر، قال سمعت رجلاً من الأنصار يقول: دعوت الله أن يريني عمر في المنام، فرأيته بعد عشر سنين، وهو يمسح العرق عن جبينه، فقلت: يا أمير المؤمنين ما فعلت؟ قال: الآن فرغت- ولولا رحمة ربي لهلكت.
أيها المسلمون: هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله، خائفة من عقابه، راجية لثوابه، فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها، تبدلت أحوال الرعاة، وكما تكونوا يولى عليكم.
أيها المسلمون: مع هذه السيرة العظيمة فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قتل شهيداً في آخر شهر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة، فقد خرج لصلاة الصبح، وكان إذا مر بين الصفين قال استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً، تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فطعنه غلام مجوسي، فتناول عمر رضي الله عنه، يد عبد الرحمن بن عوف، فقدمه في الصلاة، فرضي الله عن عمر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، لقد كان من خيرة الصحابة، الذين قال الله تعالى فيهم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم.
(1/1262)
عام دراسي جديد
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/5/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأيام وانصرامها وضرورة المحاسبة. 2- نصيحة لأولياء الأمور بالرفق
والحذر من رفقة السائق للبنات. 3- نصيحة للمدرس بحسن القدوة للطلاب وملازمة النصيحة
والإجابية. 4- نصيحة لولي الأمر بحسن رعاية ابنه. 5- حفز الأغنياء على مساعدة الفقراء في
تأمين لوازم المدرسة. 6- الهدف من التعليم رفق المنظور الإسلامي. 7- لم لا يتحقق هذا
الهدف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فهذه ست برقيات سرية عاجلة أرسلها لمن يهمه الأمر بمناسبة العام الدراسي الجديد. أما إنها سرية فلأنها بيني وبينكم، وكونها عاجلة فلأنه لم يبق على فتح المدارس إلا ساعات قليلة.
البرقية الأولى : انتهاء إجازة الصيف.
بالأمس بدأنا عطلة الصيف، واليوم نحن نودعها، وسبحان الله كأنها ثلاث أو أربع ساعات. هكذا يا عبد الله سرعة انقضاء الأيام بل الشهور والسنين، سرعة في الزمن بشكل عجيب. بالأمس ولد لك مولود، واليوم قد انتهى من المرحلة الابتدائية بالأمس أدخلته المدرسة، واليوم تخرج من الجامعة سرعة وحركة في الزمن، وهو سرعة وحركة في عمرك ودنو أجلك يا عبد الله، قف يا أخي الحبيب هذه الوقفة، واستقبل مني هذه البرقية السرية العاجلة، استرجع العام الدراسي المنصرم، بحلوه ومره، بأفراحه وأتراحه. بنجاحه ورسوبه، استرجع ذلك كله، وراجع سجلاتك ودفاترك وأنت تستقبل عاما دراسيا جديدا، ماذا قدمت؟ وماذا أخرت؟ ماذا لك؟ وماذا عليك؟ فإن كنت من الراسبين فتصحح ذلك الرسوب بتوبة نصوح وتعود إلى ربك، وإن كنت من الناجحين وظني بك كذلك فازدد من العمل وواصل المسير.
البرقية الثانية : حركة الشوارع ستشهد الشوارع غدا حركة مرورية غير طبيعية قياسا على الأيام القريبة الماضية، زحمة في حركة السيارات في إيصال الأولاد والبنات إلى مدارسهم وحافلات المدارس تسير هنا وهناك. ومن هذه البرقية يا أخي ولي أمر الطلاب والطالبات أقرأ عليك بعض ما ورد فيها:
أولا : ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، فإياك ثم إياك والعجلة، والتهور في إيصال الأولاد في وسط هذا الزحام. كثير من حوادث المرور يقع في صبيحة المدارس بسبب عجلة الناس في إيصال أولادهم ثم إدراكه لعمله دون تأخير، فقليل من التبكير توصل وتصل وأنت مطمئن. ثم لماذا لا يراعى من قبل من يضعون أوقات الدوام الرسمية هذه القضية حفاظا على سلامة الناس.
ثانياً : أقرأ عليك يا ولي الأمر من هذه البرقية كلمات التحذير بعد التحذير من التساهل في مسألة السائقين وخلوتهم ببناتك. السائق لا يترك لوحده في إيصال الطالبات إلى المدارس خصوصا طالبات المتوسط والثانوية، فإن في هذا خطراً كبيراً على العرض، والتساهل في هذه المسألة والثقة المفرطة في السائق تأتي علينا بمشاكل قد لا نحسب حسابها، والغرائز لا ينكرها عاقل، فإذا تحركت فإنها لا تعرف التوسط والاعتدال، ولا تفرق بين هندي أو فلبيني، ولا بين سعودية ولا غيرها، وأيضا مسألة الحجاب له تأثير كبير في مشاكل السائقين تجد بأن البنت بل الأسرة كلها يتساهلون في مسألة الحجاب مع السائقين، ومنها تبدأ المشكلة ثم الطامة، فعلى كل ولي أمر أن يأمر بناته الطالبات بل ويلزمهن بالحجاب من خروجها من المنزل حتى العودة من المدرسة.
البرقية الثالثة : أوجهها لكل مدرس، أي خطأ يرتكبه ذلك المدرس الذي يظن أن وظيفته رسمية فحسب، وأي ظلم وإهانة للجيل الناشئ سيحصل لو ظنه المدرس ذلك، فيا أخي المدرس: أنت على ثغرة عظيمة، أنت الذي وثق آلاف وآلاف أولياء الأمور عندما سلموا لك أولادهم، وعلقوا برقبتك هذه الأمانة، فذاك الرجل الطاعن في السن وتلك المرأة الضعيفة قد علقوا آمالهم بعد الله عليك أيها المدرس.
إن وظيفة التعليم أسمى وأعلى من أن تكون وظيفة رسمية أو مصدراً لكسب الرزق إنها إعداد للأجيال وبناء للأمة هل تعلم أخي المدرس أن العالم الداعية الذي يحمل هم دينه أو ذلك القاضي الذي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم أو ذلك الجندي الذي يقف في الميدان حاميا لعرين الأمة وحارسا لثغورها هل تعلم بأن كل هؤلاء وغيرهم وغيرهم إنما كانت بداياتهم هو أنت وكل هؤلاء قد عبروا بوابة المدارس.
إن عظماء العالم وكبار الساسة وصناع القرارات الخطيرة كل هؤلاء بالتأكيد قد مروا عليك أنت أيها المدرس أولاً. وإن بصماتك بالتأكيد قد أثرت في ناحية من نواحي تفكيرهم أو على جانب من جوانب شخصياتهم.
إنه ليس بلازم أن يكون قواد الأمة ومصلحيها قد مروا على عيادات الأطباء أو على مكاتب المهندسين أو المحامين، بل إن العكس هو الصحيح، إذ لا بد أن يكون كل هؤلاء الأطباء والمهندسين والصيادلة والمحامين والمحاسبين وغيرهم، لا بد وأن يكونوا قد مروا من تحت يد مدرس، لأنهم من ناتج عمله وجهده وتدريبه.
إن المعلمين يخدمون البشرية جمعاء ويتركون بصماتهم واضحة على حياة الأفراد ومستقبلهم يستمر مع هؤلاء الأفراد السنوات وقد تمتد معهم ما امتد بهم العمر. إنهم يتدخلون في تشكيل حياة كل فرد حر من باب المدرسة ويشكلون شخصيات رجال المجتمع من سياسيين وعسكريين ومفكرين وعاملين في مجالات الحياة المختلفة، فهو أنت أيها المدرس، الذي تدرس الصغير والكبير وتعد الجميع وتهيئهم ليصل بعضه إلى ما لم تصل إليه أنت. لكنك صاحب اللبنة الأولى وحجر الأساس. فهل أدركت موقعك من المجتمع وعلمت مكانك بين الناس، وهل أدركنا نحن الآباء الآن دور المدرس؟ فهذه بعض لفتات أقرأها عليك أخي المدرس من هذه البرقية:
أولاها : لا تهمل النصيحة ولو لبضع دقائق، وإن لم تكن مدرس دين، فليس شأنك أن تدرس الفاعل والمفعول أو توضح المركبات الكيميائية أو تحل المعادلات الرياضية لكن مهمتك مع كل هذا التربية، فخصص وقتا ولو يسيرا لذلك.
ثانيها : مساهمتك أيها المدرس في إصلاح نظام التعليم، إن دورك لا يقف على ما تقدمه في الفصل الدراسي. فأنت أدرى من غيرك بالإيجابيات والسلبيات فساهم في اقتراح بناء على إدارة المدرسة أو تنبيه على ملحظ أو مناقشة هادئة لقرار، ولا بأس أن تطرح فكرة بناءة فتكتب عنها إلى من يهمه الأمر أو تسعى لدارسة ظاهرة من الظواهر السلبية في نظام أو مادة فتكتب عنها، والمهم أن لا تكون سلبيا.
البرقية الرابعة : إنها برقية سرية وعاجلة أيضا لكنها لك أنت أيها الأب ولي أمر الطالب والطالبة، اعلم رعاك الله بأن البيت هو الدائرة الأولى من دوائر تنشئة الولد وصيانة عقله وخلقه ودينه. فماذا يصنع المدرس؟ أو ماذا تستطيع أن تعمل إدارة المدرسة؟ بل حتى وزارة المعارف لطالب نشأ في بيت بعيد عن الأجواء الشريعة المنضبطة، وآخر تربى على استنكاف العبادات الشرعية، وثالث نشأ في جو موبوء بالمنكرات، ورابع ركب أبوه الدش فوق رأسه، فقد يستطيع الأستاذ أن يقطع خطوات في تربية الطالب وتوجيهه، لكنه جهد غير مضمون الثمرة، لأن تأثير البيت المعاكس يظل دائما عرضة لإفساد ما تحاوله المدرسة. وإن من أكبر التناقضات التي يعيشها الطالب والتي تكون سببا في انحرافه سلوكياً وسقوطه دراسيا هو التناقض الذي يعيشه بين توجيهات مدرس صالح ومتابعة إدارة جيدة وبين بيت موبوء بوسائل الإعلام المخالفة والمصادمة لتوجيهات المدرسة.
كيف سيتفوق طالب يقضي كل يوم أربع أو حتى خمس ساعات بين أفلام ساقطة وبرامج هدامة تهدم كل يوم لبنة من لبنات الفطرة السليمة في شخصية هذا الطفل؟ ماذا تتوقع من طالب في سن المراهقة يعكف على مسلسلات قاعدتها الأساسية مظاهر الحب والغرام والعشق بين الجنسين ومسرحيات وتمثيليات تظهر مفاتن المرأة ومحاسنها؟ ثم يتمنى الأب أن يكون ولده في المرتبة السامية العليا من الأخلاق والأدب ومن السلوك الطيب. ويكون متفوقا في دراسته هذا لا يمكن أبدا.
فاتقوا الله أيها الآباء واتقوا الله يا أولياء أمور الطلبة والطالبات، كونوا عونا وسندا لتوجيهات المدرس، ولا تكونوا سببا في انحراف أولادكم بسبب محرمات أدخلتموها في بيوتكم ثم بعده فشل هذا الطالب في دراسته وحياته كلها.
البرقية الخامسة : أرسلها للأغنياء. نعم الأغنياء، فتسألني ما علاقة الأغنياء بدخول عام دراسي جديد. العلاقة أخي الحبيب: الأسعار المرتفعة للأدوات المدرسية ماذا يفعل موظف راتبه ثلاثة أو أربعة آلاف ريال وله اثنان أو ثلاثة من الأولاد في المدارس. ماذا يعمل وكيف يواجه أسعار أدوات المدارس المرتفعة إذا كانت الشنطة العادية يتراوح سعرها بين ال 50 و75 ريالا فكيف بباقي الطلبات ثم كيف وكيف بطلبات البنات فذاك أمر عجيب.
فيا أصحاب القرطاسيات المدرسية رحمة وشفقة بفقراء المسلمين هل فكرتم أن تجعلوا شيئا من صدقاتكم بعض أدوات يحتاجها فقير في حي؟ أو أرملة مات زوجها وأولادها في المدارس، تصدقوا في هذه الأوقات يبارك الله لكم في تجارتكم.
ثم يا أيها المدرسون والمدرسات: رحمة وشفقة بفقراء المسلمين، لا تطلبوا ولا تلزموا الطلاب مالا حاجة ملحة له، وما يمكن الاستغناء عنه فليلغى، ولا يكن مقاييسكم طلبات متوسطة الدخول الشهرية. بل ما دون المتوسط مراعاة لنفسيات فقراء الطلبة والطالبات.
وأخيرا يا أيها الأغنياء، يا من وسع الله عليكم هذا وقت مناسب للصدقات والتبرعات، تلمسوا البيوت الفقيرة حولكم، واعرفوا ما ينقص أولادهم من طلبات المدارس، فسددوا هذا النقص يؤتكم الله أجرا عظيما. ويا حبذا لو تعرف المدرسون والمدرسات على محاويج الطلبة عندهم ثم قاموا هم بتشكيل لجنة، وجمعوا من بعض التجار، وتولوا هم هذا الأمر لأنهم أعرف بطلابهم وحاجياتهم.
نسأل الله جل وتعالى أن يستعملنا في طاعته وأن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
البرقية السادسة : لو سألنا سؤالا وقلنا، ما هو الهدف من العملية التعليمية كلها؟ ما هو الهدف من فتح المدارس ووضع المناهج وطبع الكتب وتوظيف هذا الكم الهائل من المدرسين وصرف هذه المرتبات لهم وبناء المدارس والأبنية والأثاث إلى ما لا عد له ولا حصر؟ ما هو الهدف من ذلك؟
لا شك عندنا والجواب واحد من الجميع بأن الهدف هو هذا الطالب. الهدف من المؤسسة التعليمية بقضها وقضيضها هو الطالب، لكن هل أن يخرج عجلا آدميا؟ بالتأكيد لا.
الهدف هو أن نعد هذا الطالب إعدادا صحيحا يتخرج هذا الطالب وهو يملك عقلا واعيا وخلقا رفيعا وعقيدة صحيحة، وكل هذا لا بد أن يثمر العمل. يثمر محبة الله وخوفه ورجاءه ثم يثمر الاعتدال في الحكم على الأمور، يثمر الاستعداد لله وللدار الآخرة.
الهدف من المؤسسة التعليمية في شريعة الإسلام هو إعداد ذلك الإنسان الصالح النافع لنفسه وأبويه ومجتمعه وأمته.
الهدف من التعليم هو تخريج أجيال مؤمنة تربت على الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعلم والتعلم والصبر، وإذا لم نخرج في النهاية بهذا فعملنا ضائع لا جدوى له، ضائع في الدنيا قبل الآخرة.
عليك أيها الأب وأنت أيها المدرس وقبلهم أنت أيها الطالب وبعدهم نحن جميعا ونحن نستقبل عاما دراسيا جديدا أن نستحضر هذه المعاني، وأن ندرك بأن هدف التعلم هو هذا، وما جعل العلم والتعليم في الإسلام إلا لهذا، وإذا ما رأيت أيها الأب غير هذا سواء في ولدك بعد التخرج أو حتى وهو يتنقل في مراحله التعليمية أو حتى في أولاد غيرك فاعلم بأن خطة التعليم التي يسير عليها ولدك غير صحيحة وأنه هناك نقصاً. فإما أن يكون النقص والقصور فيما يأخذ فهي ليست كاملة ومستوفاة، فاحرص أن تكلمه أنت في البيت أو إدخاله في حلقات التحفيظ في العصر أو إلحاقه بإحدى المكتبات الخيرية، أو أن الخلل يكون في المعلمين والمدرسين الذين يتلقى عنهم ولدك، فهم إما أنهم ليسوا على مستوى التدريس والتعليم أو أن هذه المعاني غائبة عن أذهانهم أصلا، وهذه مشكلة كبيرة في حد ذاتها.
وهذا هو النقص الحقيقي الموجود في طاقم التدريس، فمثلا مدرس الرياضيات يظن أن عمله والمطلوب منه هو تقديم هذه المادة الجافة وشرحها، وأن يفهمها الطلاب ثم يخرج، وقل مثل هذا الكلام على مدرس الفيزياء والتاريخ والجغرافيا والنحو وغيرها كثير.
طيب الخلق والأدب والتوجيه والإرشاد وصياغة عقل الطالب وخلق الطالب، كل هذا من أين يتلقاه الطالب؟ ومن أين يأخذه؟ من البيت؟ الأب أدخل ولده المدرسة وهو يتصور أن المدرسة تقوم بشيء من الدور، وفي المدرسة يوجد هذا التصور الكبير في طاقم المدرسين وهذا الانشطار في الفهم، لأن مدرس الرياضيات يظن بأن هذا مهمة مدرس الدين وإذا ما أتيت إلى مدرس الدين وجدته أنه ملتزم بمنهج محدد لا بد أن ينهيه وهو أصلا لا يلتقي بالطلاب إلا سويعات في الأسبوع، فلا يجد فرصته أصلا للتوجيه.
لا بد أن يشارك الجميع في قضية التوجيه والإرشاد وصيانة خلق الطالب وأدبه، وعقله ودينه، وهذه ليست مهمة مدرس الدين فقط. بل كل مدرس هو مسؤول عن هذا الجانب ثم ما لا يكتمل فإنه يكمل في البيت، حتى يخرج في النهاية ذلك الإنسان المسلم الصالح النافع لأمته.
وإذا أهملنا هذا الجانب فإن الخسارة نتحملها نحن، تصرف أموال بالملايين على التعليم ثم لا يؤدي هذا التعليم ما هو مطلوب منه، فيتخرج المهندس، ويتخرج الطبيب، ويتخرج الفني، لكن ما الفائدة عندما يكون مهندسا فاجرا أو طبيبا فاسقا أو موظفا خائنا؟ كم تخسر الأمة من تخريج أمثال هؤلاء؟ السبب: هو أن المؤسسة التعليمية لم تكمل من كل جوانبها، حتى يتخرج ذلك الإنسان المؤمن العاقل الناضج الذي يخاف الله والذي يراقب الله قبل أن يراقب مديره ومسؤوله في العمل.
فهل هذه المعاني واضحة في أذهاننا؟ ونحن نستقبل عاما دراسيا جديدا؟ آمل ذلك.
الله رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، يا حي يا قيوم.
(1/1263)
فن الاصغاء
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/11/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الحوار بين النبي وعتبة بن ربيعة. 2- حاجتنا إلى أدب الإصغاء وفن الإصغاء.
3- عشر تنبيهات في فن الإصغاء وفوائده للمستمع. 4- محاولة قريش حجب الدعوة بالإغراء.
5- أثر القرآن في الأسماع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اسمع أخي المسلم لهذه القصة التي حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، في مكة مع أحد كفار قريش وهو عتبة بن ربيعة.
قال عتبة يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا. فقالوا: بلى يا أبا الوليد. قم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أسمع. قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رُؤاً تراه لا تستطيع رده عنك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (أي الصاحب من الجن) على الرجل حتى يُدَاوى منه، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال فاسمع مني. قال: أفعل)).
وفي رواية أن عتبة لما أتاه قال له: يا محمد أنت خيرٌ أم عبد الله (يقصد أباه)؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: أنت خير أم عبد عبد المطلب (أي جده) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أيَّ نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا. وإن كنت إنما بك الرياسة، عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال فاسمع مني: بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنزيلٌ من الرحمن الرحيم كتابٌ فصلت آياته قرءاناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فأعَرَضَ أكثرُهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إلهٌ واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواءً للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخانٌ فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، وعتبة منصت أصابته الدهشة من هول ما يسمع، وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليها يسمع، وقيل: أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود ما تحمّل عتبة، فقام وأمسك على فم الرسول صلى الله عليه وسلم وناشده الرّحم أن يكفّ عنه. مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عليه هذه الآيات حتى انتهى إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك)).
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد، بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي، إني سمعت قولاً، والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه مُلكُكُم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
هذه هي القصة، وهذا هو الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين عتبة بن ربيعة.
ولنا مع هذه القصة عدة وقفات:
أولاً: أدب وفن الإصغاء:
إن الإصغاء إلى المتكلم أدب وفن، فبعض الناس قد يحسنه أدباً ولا يحسنه فناً، وكثير من الناس والعوام لا يحسنونه أدباً ولا يعلمون أنه فن.
تأمل في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام رجل مشرك، محارب لله ولرسوله، يأتي ويتكلم بألفاظٍ ساقطة، ويبدأ يساوم النبي صلى الله عليه وسلم، على ماذا؟على الدين وعلى الدعوة، ويعرض عليه شيء من حطام الدنيا مقابل التنازل عن الدين، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يستمع بكل أدب، مع أن كلام الرجل لا يعجبه، ويعلم أنه باطل، ومع ذلك يقف يستمع، وينتظر حتى يكمل الرجل كل ما عنده، ثم يسأله بعد ذلك، ((أوقد فرغت يا أبا الوليد، فقال: نعم، عندها قال له: إذاّ فاسمع مني)).
أدب عظيم، وخلق كريم، نفقده في واقعنا ومجالسنا ومنتدياتنا، واجتماعاتنا العامة والخاصة.
أدب الإستماع للطرف الآخر، أدب الإصغاء للمتكلم. ادخل أحد المجالس، تجد أن الذين يتحدثون أحياناً عشرة.هذا يتكلم من هنا، وذاك يعلق من هناك، والمجلس فوضى، ما تأدب الناس بعد، بهذا الأدب، ثم لو قدّر بأن المتحدث شخص واحد، وكان يتكلم في موضوع معين، تجد بأن المستمعين له، لا يتركون له مجالاً لكي يكمل حديثه، بعد كل لحظة يقاطعه أحد، أو يعلق على كلامه آخر، هذا في حالة ما إذا كان الكلام يعجبهم، أما إذا كان حديث هذا المسكين لا يعجب الحضور، فالله المستعان، تجد أنه يقاطع، وبدون أدب، بل ربما يُسكت ولا يترك له مجال، ليكمل حديثه.مع أن الرجل لم يقل كفراً، ولم يطعن في دين.
عودة إلى موقف الرسول مع عتبة كلام عتبة، كان باطلاً وكفراً، ومع ذلك يستمع له المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل أدب، ((أو قد فرغت يا أبا الوليد؟)).
فلو كان في خاطرك كلام آخر فقله، تأكد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الرجل قد انتهى تماماً. ((إذاً فاسمع مني)).
فهل لنا أن نأخذ هذا الأدب، فإن الله جعل لنا أذنان ولساناً واحداً، لنصغي ونسمع أكثر مما نتكلم. هذا عن أدب الإصغاء.
أما فن الإصغاء، فالإصغاء فن يحتاجه الدعاة ويحتاجه المصلحون، ويحتاجه كل من له اهتمام بطرف مقابل، فقد يكون طبيباً أو مديراً أو تاجراً.
إن عملية الإتصال كما نعلم طرفان، هما المرسل والمتلقي، وخلال أي حوار أو محادثة يتبادل الطرفان هذين الدورين، من هنا يشكل الإصغاء، عنصراً حيوياً في معادلة الحوار، سواء كان ذلك الحوار اجتماعياً على مستوى الأحاديث اليومية، أو إدارياً على صعيد المهنة والعمل، أو فكرياً تدور أطرافه في منتديات الثقافة والأدب.
خذ هذه الأمثلة لتدرك أهمية الإصغاء الجيد والاستماع الجيد في مسار حياتنا اليومية.
إن الطبيب قد يشخّص المرض خطأَ إذا لم يكن مستمعاً جيداً لمريضه، ويصغي تماماً حتى ينتهي المريض من كل حديثه.
والتاجر قد يخسر زبونه، إذا كان يستمع لنفسه بدلاً من الإستماع لطلبات الزبون.
والمسؤول الإداري قد يخسر قدرات الموظفين وانتاجيتهم إذا كان لا يجيد فن الإصغاء.
أما المصلحون، والذين يحرصون على هداية الناس، فإنهم أحوج ما يكونون، أن يتعلموا فن الإصغاء حتى لا يخسروا مدعويهم، فإليك أخي الداعية عشرة تنبيهات، أقدمها لك حول فن الإصغاء:
أولاً: الإصغاء ينبئك بما يجري حولك:
فالحياة مدرسة نتعلم من تجاربها، فأشياء كثيرة تحدث من حولك طوال الوقت ، وكلما كنت مصغياً جيداً إلى هذه الأشياء وفهمتها بصورة أكثر ازدادت حصيلتك الشخصية بما حولك، وأصبحت مدركاً لما يدور حولك، وهذه مهمة جداً للداعية.
ثانياً: الإصغاء يساعدك على النفاذ إلى نفوس الآخرين:
إن إصغاءك للآخرين يجعلهم يتجاوبون معك، لأنك تحقق رغبتهم في وجود من ينصت لهم ، فإذا أردت أن تعرف السر في كسب بعض الدعاة لمدعويهم، فاعلم بأن من الوسائل أن تصغي لما يقولون.
ثالثاً: الإصغاء يمتص غضب الآخرين:
إن أول استجابة للإنفعال تكون عن طريق الأذن، فعندما تصغي لشخص غاضب، فإننا نتعرف على سبب غضبه، فنظهر تعاطفنا معه، ونجعله ينفس عن غضبه ويعود إلى تعقله.
رابعاً: الإصغاء يعزز مكانتك عند الآخرين.
فعندما تتوقف عن عمل تعمله لتستمع إلى شخص ما فكأنما تقول له: "أنا أحترمك وأقدر ما تقول" وهذه أحد الطرق لتعزيز مكانتك عند من تدعوهم بل عند أي شخص آخر في حياتك.
خامساً: الإصغاء يجلب محبة الآخرين لك:
فالناس لا يحبون من لا يصغي لهم، إن أكبر تعبير عن الإهتمام بالطرف المقابل هو هدية الإصغاء تقدمها له.
سادساً: عليك أن تدرك أن في إصغائك نجاحك:
إنك لا تصغي لكي تكون لطيفاً في نظر الآخرين فقط، بل الإصغاء يكسبك القوة والاحترام، وتحصل على ما تريده من معلومات، ممن تتعامل معه.
سابعاً: أصغي بفهم: اعتبر أن الإصغاء هو استثمار صغير للوقت والطاقة، وأنه سوف يعود عليك بعوائد جمة من الفهم.
ثامناً: قل لنفسك: إنك تريد معرفة شخصية المدعو، وتريد أن تغوص في أغوار نفسه، وهذا سيجعلك تركز أكثر في الاستماع لكل كلمة يقولها، وبذا تكون قد أحسنت الإصغاء.
تاسعاً: تجنب كل ما يصرفك عن الانتباه:
تجاهل ما قد يحيط بك من ضوضاء، وحاول أن تتغلب على ما قد يشتت إصغائك.
عاشراً: تعلم انتبه وأحذرك لا تحكم على الأشخاص أو الأحداث إلا بعد فهمها جيداً، وهذا سيضطرك إلى حسن الإصغاء.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الوقفة الثانية: مما يؤخذ من ذلك الحوار، هو أن عتبة كان يتحدث مع النبي عليه الصلاة والسلام باسم قريش، وملخص كلامه كله هو أنهم كانوا يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوقف عن الدعوة، أنت اترك التأثير على الناس، ونحن مستعدون أن نعطيك المال والملك والجاه، لأن قريش تعلم بأنه لو صلح أمر الناس، وتقبلوا الدين عرفوا حقيقة وضع حكومة قريش وأنها غير شرعية، وتخالف الإسلام، فتسقط تلقائياً، لذا لا حيلة إلا بأن يتوقف محمد عن الدعوة، وعن تبليغ هذا الدين للناس، ألا ما أغربه من طلب.يُطلب من صاحب الرسالة أن يترك رسالته، ويتنازل عن دعوته.
إنهم يظنون بأن الدعوة تشترى بالمال، أو بالنساء أو بالجاه، أو حتى بالملك، وجهلت قريش بأن الدين لا يساوم عليه، ولو كلف صاحبه رقبته، لأن أصحاب الرسالات، يعلمون ما الحياة تصير إليه، لو منع ضوء الشمس عن الأرض، في خلال أيام قليلة، يتعفن الأرض وكذلك نور الوحي، لو حُجب عن الناس، لتعفن الناس بسبب قاذوراتهم وشهواتهم، وذنوبهم ومعاصيهم، إن الهواء يتعفن بسبب ذنوب الناس، ولا مطهر ولا حيلة لتنقية المجتمع إلا بأن يترك بين الدعاة وبين الناس.
الوقفة الثالثة: لما سمع عتبة شيئاً من القرآن، وهزّت تلك الآيات قلبه، تأكد لديه بأن محمداً رسول الله إلى الناس، ورأى من واجبه أن ينصح قومه بالكف عن محمد وإفساح المجال له ليدعو من يشاء وكيف يشاء، فإن ثار عليه العرب وقتلوه فقد كُفي قومه شره، وإن علا شأنه وانتشرت دعوته فهو واحد منهم، وعزه عزهم.
لقد أدرك هذا الرجل وهو على كفره أنه لا يمكن الوقوف في وجه هذه الدعوة، وأدرك جيداً بأن الأسلم لقريش أن تفسح المجال للدعوة، وأن يتركوا محمداً يدعوا الناس وكيفما شاء، لأنه لا حيلة للحيلولة دونه ودون الناس، علم هذا الرجل وهو على كفره، بأن محمداً مرسل من ربه، إذاً هو رسول، لكن الدين هو دين الله، ولا يمكن لقريش مهما أوتيت من قوة أن تمنع دين الله عز وجل من الانتشار والتمدد.
لذا قدم لهم هذه النصيحة، لكن هل استجابت قريش للنصيحة؟ لم تستجب من جهة، ومن جهة أخرى أخفق الإغراء في تفريق الدعوة، وأدركت قريش بأن ما تصبوا إليه بعيد المنال، فعادت سيرتها الأولى تصب جام غضبها على عباد الله المؤمنين، وتبذل آخر ما في وسعها للتنكيل بهم، ومحاولة فتنتهم عن دينهم، وهذه سنة الدعوات، الفتنة والابتلاء في سبيلها.
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين.
(1/1264)
فضائل شعبان وبعض أحكامه
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/8/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غفلة الناس عن شعبان. 2- عبادة النبي في شعبان. 3- الحكمة من وصاة النبي بشعبان.
4- ذكر الله في أوقات الغفلة. 5- العبادة في زمن الفتن والملاحم. 6- ليلة النصف من شعبان.
7- التحذير من الخصومة والشحناء. 8- صيام يوم الشك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن المؤمن ليتقلب في هذا الزمان، ويمد الله له في الأجل، وكل يوم يبقاه في هذه الدنيا هو غنيمة له ليتزود منه لأخرته، ويحرث فيه ما استطاع ويبذر فيه من الأعمال ما استطاعته نفسه وتحملته.
وها قد مضى أيها الأحبة شهر رجب، ودخل شعبان، وفاز من فاز بالتقرب والاستعداد في رجب لرمضان، ودخل شعبان والناس عنه غافلة. ولنا مع هذا الشهر المبارك وقفات ننظر فيها حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال سلف الأمة، الذين أمرنا بالاقتداء بهم، مع ذكر بعض فضائله وأحكامه.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال : ((ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) [رواه النسائي]. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله يصوم ولا يفطر حتى نقول: ما في نفس رسول الله أن يفطر العام، ثم يفطر فلا يصوم حتى نقول: ما في نفسه أن يصوم العام، وكان أحب الصوم إليه في شعبان، [رواه الإمام أحمد].
ومن شدة محافظته صلى الله عليه وسلم على الصوم في شعبان أن أزواجه رضي الله عنهن، كن يقلن أنه يصوم شعبان كله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر غير رمضان، فهذه عائشة رضي الله عنها وعن أبيها تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. [رواه البخاري ومسلم]. وفي رواية عن النسائي والترمذي قالت: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شهر أكثر صياما منه في شعبان، كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله، وفي رواية لأبى داود قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان.
وهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان)). ولشدة معاهدته صلى الله عليه وسلم للصيام في شعبان، قال بعض أهل العلم: إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور، وإن كان قد ورد النص أن شهر الله المحرم هو أفضل الصيام بعد رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) [رواه مسلم].
وعند النسائي بسند صحيح عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم)). وذكر أهل العلم حكما في تفضيل التطوع بالصيام في شعبان على غيره من الشهور: منها: أن أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان، لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالنسبة للصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ولذلك فإنك تجد رمضان يسبق بالصيام من شعبان والاستكثار منه ثم بعد انقضاء رمضان يسن صيام ست من شوال، فهي كالسنن الرواتب التي قبل وبعد الصلاة المفروضة.
ومن الحكم كذلك في الإكثار من صيام شعبان: ما تضمنه حديث أسامة بن زيد المتقدم ذكره وفيه قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فبين له صلى الله عليه وسلم سبب ذلك فقال له: ((ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان)) وماذا أيضا؟ قال: ((وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)).
إن هذا الحديث تضمن معنيين مهمين:
أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان.
وثانيهما: أن الأعمال ترفع وتعرض على رب العالمين، فأما كون شعبان تغفل الناس فيه عنه، فإن ذلك بسبب أنه بين شهرين عظيمين، وهما الشهر الحرام رجب، وشهر الصيام رمضان، فاشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر محرم، وهذا ليس بصحيح، فإن صيام شعبان أفضل من صيام رجب للأحاديث المتقدمة.
وفي قوله: ((يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان)) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو حتى الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو الخصوصية فيه، لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عندهم عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم، ولما كان الناس يشتغلون بغير شعبان عن شعبان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمره بالطاعة وبالصيام، ويقول لأسامه لما رآه مستفهما عن سبب الإكثار من الصيام في شعبان، ذاك شهر يغفل الناس فيه عنه بين رجب ورمضان، ولذلك قال أهل العلم: وهذه لفتة فتنبه لها يا عبد الله قالوا: هذا فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عز وجل، ولذا كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم فضل القيام في وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر كما قال: ((إن افضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل)) ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤخر العشاء لنصف الليل، وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهل، أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: ((انكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة)) [رواه مسلم]. وفي رواية: ((ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم)) وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بالذكر في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر ولاستيلاء الغفلة على الناس، ولهذا لو نظرت إلى الفضائل والدرجات التي منحت للذاكرين في وقت غفلة الناس تجد شيئا عجبا، فهذا الرجل الذي يدخل السوق فيذكر الله، له أجر عظيم لأنه ذكر الله في مكان غفلة الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((من دخل السوق فقال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبني له بيتا في الجنة)) ومما يؤكد هذا المعنى ما دار بين طارق بن شهاب وسلمان الفارسي رضي الله عنه عندما بات طارق عند سلمان لينظر اجتهاده، قال: فقام يصلي من آخر الليل، فكأنه لم ير الذي كان يظن، فذكر ذلك له، فقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجراحات ما لم تصب المقتلة، فإذا صلى الناس العشاء صدروا عن ثلاث منازل، منهم من عليه ولا له، ومنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس، فركب فرسه في المعاصي فذلك عليه ولا له [ هؤلاء الذي يغتنمون غفلات الناس عنهم فيعبون من الفواحش عبا ] ومن له ولا عليه: فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلي، فذلك له ولا عليه، ومن لا له ولا عليه: فرجل صلى ثم نام فذلك لا له ولا عليه، إياك والحقحقة، وعليك بالقصد وداوم " والحقحقة: هو أن يجتهد في السير ويلح فيه حتى تعطب راحلته أو تقف.
والأجور المترتبة على الاشتغال بالطاعات وقت غفلة الناس كثيرة ومتنوعة، فتعرضوا لنفحات الله، أيها الأحبة، وتلمسوا مرضاته.
ثم اعلم يا عبد الله أن إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فيه فوائد:
1- إن فعلك لهذه الطاعة يكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لاسيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء، وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما في سوقه، ويظن أهل سوقه أنه أكلها في بيته.
2- الفائدة الثانية في إحياء وقت غفلة الناس بالطاعات أنه أشق على النفوس، وأفضل الأعمال أشقها على النفوس إن كان على السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((الأجر على قدر النصب)).
والسبب في أن الطاعات في وقت غفلة الناس شاقة وشديدة على النفوس، هو أن النفوس تتأسى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم، كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين لهم، فسهلت الطاعات، وتأمل كيف أن كثيراً من الناس يشق عليهم الصيام في غير رمضان: فإذا جاء رمضان سهل عليهم الصيام ولم يجدوا مشقة في صيامه، وذلك لأن الناس من حولهم يؤدون هذه العبارة الجليلة، والناس كأسراب القطا يتبع بعضهم بعضا، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الناس أشبه بأهل زمانهم منهم بآبائهم.
وأما إذا أكثرت غفلة الناس تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المتيقظين والطالبين لمهر الجنة تشق عليهم طاعاتهم، لقلة من يقتدون بهم في هذه الأوقات المغفول عنها، ولهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم في حال الغرباء في آخر الزمان: ((للعامل منهم أجر خمسين منكم – أي من الصحابة – إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون)) [وفي مسلم] ((فطوبى للغرباء)) ولهذا جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العبادة في الهرج كالهجرة إلي)) وعند الإمام أحمد بلفظ: ((العبادة في الفتنة كالهجرة إلي)) وسبب ذلك أن الناس في وقت الفتن تستولي عليهم الغفلة، ويتبعون أهوائهم ولا يرجعون إلى دين، وينشغلون عن عبادة ربهم بهذه المحدثات والمضلات من الفتن، ويكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، متبعاً لأوامره مجتنبا لنواهيه، محافظا على سنته وهديه وطريقته صلى الله عليه وسلم، في كل زمان ومكان، والفوائد في هذا الباب والمعنى كثيرة لمن تأملها ووقف معها واستزاد منها.
ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القران، ليحصل التأهب لتلقي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، ولهذه المعاني المتقدمة وغيرها كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام في هذا الشهر المبارك، ويغتنم وقت غفلة الناس وهو من؟ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولذلك فإن السلف كان يجدّون في شعبان، ويتهيأون فيه لرمضان قال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء. وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القران، قال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع، وقال أيضا: مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان، وها قد مضى رجب فما أنت فاعل في شعبان إن كنت تريد رمضان، هذا حال نبيك وحال سلف الأمة في هذا الشهر المبارك، فما هو موقعك من هذه الأعمال والدرجات:
مضى رجب وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلا بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهرا ويخلى الموت قهرا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم فخير ذوي الجرائم من تدارك
أقول قولي هذا واستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) [رواه الطبراني وابن حبان وهو حديث صحيح].
ولنا مع هذا الحديث الذي يتعلق بالنصف من شعبان أربع وقفات مهمة:
الأولى: أن الله يغفر فيها لكل عباده إلا المشرك فتفقد نفسك يا عبد الله، وفتش باطنها، فلعلك أن تكون مبتلى بشيء من هذه الشركيات المنتشرة في الأمة، ولا تظنن بنفسك خيرا بل فاتهمها في جانب الله وفي تقصيرها، ولا تقل أني بريء من الشركيات، ولا يمكن أن أقع فيها، ويكفى أنني أعيش في بلد التوحيد، فإن هذا غرور وجهل منك، إذا كان أبو الأنبياء وإمام الحنفاء خليل الرحمن يخشى على نفسه الشرك، بل يخشى على نفسه وعلى بنيه عبادة الأصنام، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام وقد بين إبراهيم ما يوجب الخوف من ذلك فقال: رب انهن أضللن كثيراً من الناس.
قال إبراهيم التيمي: من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به، وبما يخلصه منه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه؟ فقال: الرياء)) ومن عظيم فقه الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد أن جعل بابا بعنوان: باب الخوف من الشرك ثم ساق الآيات والأحاديث في هذا المعنى، والله عز وجل قد حذر نبيه بل وكل الأنبياء من الشرك، وأوصي إليهم بأن أعمالهم تحبط إن أشركوا، وهم الصفوة من الخلق فقال تعالى: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ثم يقول له: بل الله فاعبد وكن من الشاكرين.
الوقفة الثانية: خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنين، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بغضا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي ومندوحة دينية، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه مرفوعا: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا)) ، وقد وصف الله المؤمنين عموما بأنهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، فأقِل يا عبد الله حتى تُقال.
الوقفة الثالثة: إحياء بعض الناس لليلة النصف من شعبان، وبعضهم يصليها في جماعة ويحتفلون بأشياء وربما زينوا بيوتهم، وكل هذا من البدع المحدثة التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحبه ولا تابعوهم، وهم الحجة لمن أراد سواء السبيل وما ثبت في هذه الليلة من فضل هو ما قدمناه من أنك يجب عليك أن تحقق التوحيد الواجب، وتنأى بنفسك عن الشرك، وأن تصفح وتعفوا عمن بينك وبينه عداوة وشحناء، أما إحداث البدع في هذه الليلة فإن أهلها هم أولى الناس بالبعد عن رحمة الله، وأن ينظروا هم حتى يتوبوا من بدعتهم.
الوقف الرابعة: أن لا يصوم الإنسان بعد منتصف شعبان بنية استقبال رمضان وحتى يحتاط لشهر رمضان بزعمه فإن هذا من التنطع والغلو في الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان)) فهذا الحديث وما في معناه للمتنطعين والمتشددين الذين يستقبلون رمضان بالصيام بنية الاحتياط لرمضان، فهذا منهي عنه، ولا يدخل في هذا أن يصوم الإنسان ما كان معتادا له من صيام الاثنين والخميس مثلا، أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو القضاء، أو النذر.
وما له تعلق بهذا أيضا، حرمة صيام يوم الشك قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم. ويوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو من شعبان وهو يوم الثلاثين، فيحرم صومه بنية الاحتياط قال: صلى الله عليه وسلم: ((لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه)) فهذا في الرجل الذي له عادة ويصومه بنية التطوع لا بنية الفرض، وأنه من رمضان أو بنية الاحتياط، فالنية هي الفيصل هنا، ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).
اللهم إننا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا..
(1/1265)
قتل أبي رافع
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/10/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنافس الأوس والخزرج في الجاهلية والإسلام. 2- إيذاء أبي رافع للنبي ، وصور كيده
للإسلام. 3- قتل عبد الله بن عتيك لأبي رافع. 4- عودة ابن عتيك إلى المدينة ظافراً. 5- أدب
ابن عتيك في نسبة النصر لله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كان حديثي إليكم في الجمعة الماضية عن حادثة من حوادث غدر اليهود ، تمثلت في مقتل زعيم من زعمائهم وهو كعب بن الأشرف ، ذلك اليهودي الذي آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذكرت هناك أنه كان يحرّض مشركي مكة على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى مكة بنفسه عندما أغاظه خبر انتصار المسلمين يوم بدر.
وتعلق هناك بأستار الكعبة وتحالف معهم للوقيعة بالرسول صلى الله عليه وسلم. ويكون بصنيعه هذا قد أعلن الحرب على المسلمين ثم عاد إلى المدينة ، وصار يقول الأشعار يتغزل بنساء المسلمين ، ولم يسلم من شعره أحد ، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عندها أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه ، فشكلت على إثرها فرقة ، للتخلص من هذا اليهودي، وإراحة المجتمع المسلم من شره ، فحصل ما حصل مما سمعتموه في الأسبوع الماضي تفصيلاً.
أيها المسلمون: لم يكن كعب هو اليهودي الوحيد المحارب لله ورسوله بل كان هناك غيره ممن أعلن الحرب أيضاً ، وخانوا وغدروا بكل المواثيق التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم. وقلنا هناك بأن العقد قد انقطع ، والذي تسبب في قطعه هم اليهود ، فسقطت أول خرزة منه ، فكان رأس كعب بن الأشرف.
وها هي قصة أخرى في قطع خرزة أخرى ، رجل يهودي آخر لا يقلّ خبثاً ومكراً عن كعب هو: أبو رافع سلاّم بن أبي الحُقيق اليهودي ، وكان في حصن له بعيد عن المدينة بالقرب من خيبر من أرض الحجاز.
قال الزهري: عن كعب بن مالك قال: كان مما صَنَعَ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين ، لا تصنع الأوس شيئاً إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا ، وكذلك كان الأوس ، لا تفعل الخزرج شيئاً حتى يفعلون مثله. كانت تصرفات الأوس والخزرج قبل دخولهم في الإسلام ، تمثل صورة من صور أخلاق العرب الجاهلية، تنافس على أدنى شيء وأحقره. وحروب تقوم بينهم من أجل ناقة ، أو شبر من أرض ، وتسفكُ في سبيل ذلك دماء ، وتزهق أرواح ، وتفنى أموال ورجال. علم اليهود هذه الأشياء التي كان يتصف بها الجاهليون من العرب ، فاستغلوها وفرقوا بينهم كما يفعلون الآن تماماً ببعض الكيانات الموجودة، وتحالفت كل طائفة من اليهود مع طائفة من العرب، فتحالفت بنو النضير وبنو قريظة وكلهم يهود مع الأوس. وتحالفت بنو قينقاع مع الخزرج، واليهود بمكرهم وخبثهم أقاموا بين هاتين القبيلتين من العرب حروباً طاحنة قضت على الأخضر واليابس ، وكان آخرها يوم بعاث ، يوم شديد ، هلك فيه جماعة كبيرة من الأوس والخزرج بتدبير يهود.
أيها المسلمون: جاء الله بهذا الإسلام ، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم ، هادياً ومبشراً ونذيرا ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا. ودخل الأوس والخزرج في الإسلام وزال من قلوبهم ذلك التنافس والحسد لبعضهم البعض ، ووجهوا تلك الطاقات التي كانت عندهم لخدمة هذا الدين ، وتنبه الأوس والخزرج لعمل يهود بعد مجيء النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، وأصبح ذلك التنافس بينهم ، والذي كان فيما مضى في أمور جاهلية ، صار في سبيل هذا الدين ، وفي مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. فلما قتل الأوس كعب بن الأشرف ، قالت الخزرج: والله لا تذهبون بفضل هذه علينا أبداً. فتذاكر الخزرج من رجلٌ له من العداوة لله ولرسوله كما كان لكعب بن الأشرف؟ فما وجدوا إلا ذلك اليهودي أبي رافع سلاّم بن أبي الحُقيق. فذهب الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إئذن لنا في قتل أبي رافع ، فأذن لهم في قتله.
روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار ، وهم من الخزرج ، فأمّر عليهم عبد الله بن عَتِيكْ ، وكان أبو رافع اليهودي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعين عليه.
قال عروة: كان ممن أعان غطفان ومشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يذهب إلى غطفان ويقول لهم: تعالوا نقاتل محمد ، فيقولون: لا مال عندنا ولا زاد ، فيقول: أنا أتكفل بهذا كله لكم.
ثم يذهب إلى مشركي مكة ويقول لهم: تعالوا إلى محمد ، إنكم أولي بأس وقوة. ثم تتركون هذا الرجل، وكان هذا اليهودي له اليد الطولى في جمع الأحزاب في غزوة الخندق. فهو الذي جمع كل المشركين ، وجاء بهم صوب النبي صلى الله عليه وسلم. يتمنى هزيمتهم والقضاء على المسلمين، وهو الذي أغرى بني قريظة بأن يخونوا المواثيق والعهود مع النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا هو أبو رافع وهذه بعض إنجازاته. عندها شكلت فرقة بقيادة عبد الله بن عتيك ومعه عبد الله بن عتبة ، وعبد الله بن أُنيس كلهم عبادلة وانطلقوا من المدينة قبل غروب الشمس يريدون قتل عدو الله. وكان أبو رافع في حصن له بأرض الحجاز، بالقرب من خيبر ، فلما دنوا منه وقد غربت الشمس ، وراح الناس بمواشيهم ودوابهم وأدخلوها إلى حصونهم وعادوا من الرعي ، فقال عبد الله بن عتيك لأصحابه رضي الله عنهم ، اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطّف للبواب لعلّي أن أدخل ، فأقبل عبد الله حتى دنا من الباب ، وههنا فقد بعض اليهود من أهل الحصن حماراً لهم. قال عبد الله ، وكان قريباً من باب الحصن ، فخرجوا بقبسٍ، وهذا بعد غروب الشمس يطلبون ذلك الحمار. قال عبد الله: فخشيت أن أُعرف قال فغطيب رأسي كأني أقضي حاجة ووجد اليهود حمارهم فعادوا إلى حصنهم ثم نادى البواب:من أراد أن يدخل فليدخل ، فهتف البواب بعبد الله يحسبه منهم ، إن كنت تريد أن تدخل فادخل ، فإني أريد أن أغلق الباب. فقام عبد الله ودخل حصن اليهود ، ثم نظر في الداخل يريد مكاناً آمناً له يختبئ فيه ، فوجد مربط حمارٍ عند باب الحصن فاختبأ فيه.
ولما دخل الناس من اليهود لحظ عبد الله أين سيضع البواب المفاتيح التي للحصن ، فانتهز فرصة فقام فأخذها وفتح أبواب الحصن من الداخل. وعندها تمكن عبد الله من كل منافذ الحصن وأبوابه. إذ أن كل المفاتيح معه ، بقي عبد الله في مخبئه حتى هدأت الأصوات ولم يسمع حركة، فخرج وكانت ليلة مقمرة ، وصار يغلق أبواب بيوت اليهود من الخارج. حتى وصل إلى بيت أبي رافع وكانت بيته في مكان مرتفع لا يوصل إليها إلا بسلم ودرج ، فسمع عبد الله صوت أبي رافع وكان يسمر مع عدد من أصحابه يخططون ويمكرون ويتشاورون في أمر المسلمين ، وكيف يتخلصون منهم. فجلس عبد الله في مكان لا يرونه ينتظر ، يقول: فتحدث أصحابه معه حتى ذهبت ساعة من الليل ثم رجعوا إلى بيوتهم ، فلما ذهب عنه أهل سمرة ، صعدت إليه ، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت عليّ من الداخل ، يقول: حتى إن القوم إذا علموا بي يتأخر وصولهم إليّ حتى أقتله. صعد عبد الله السلم ، فلما جاء عند باب دار أبي رافع ، حاول فتح الباب فوجده مغلقاً ، فتكلم بلسان اليهود ، وكان يجيدها ، فقال لامرأة أبي رافع: افتحي الباب. قالت: من أنت؟ وأبو رافع كان يغطّ في نومه. فقال عبد الله بن عتيك ، جئت أبا رافع بهدية. فتحت المرأة له الباب ، فدخل فوجد البيت مظلماً وقد طفئ سراجه ، يقول ، فلم أدر أين الرجل يقول: فناديت أبا رافع ، فتنبه وقال من هذا؟ وكان عبد الله يريد أن يعرف مكانه تماماً ، يخشى أن يقتل غيره من صبيانه أو بناته ، فلهذا ناداه حتى يحدد مكانه ويعرف مصدر الصوت. فلما ناداه استيقظ أبو رافع ، تأكد عبد الله من موقعه ، انطلق نحوه ، وضربه ضربة بالسيف ، فدهش الذي كفر ، لكن سيف عبد الله لم تصب الهدف تماماً ، فلم تقتله ، فصاح أبو رافع ، وفشلت المحاولة. يقول عبد الله ، فخرجت من البيت ، فمكثت غير بعيد ، ثم رجعت إليه مرة أخرى ، كأني أحد أصحابه جئت لأغيثه. يقول فغيّرت صوتي فقلت: مالك يا أبا رافع؟ فقالت زوجته ، هذا صوت عبد الله بن عتيك ، وكانت أنبه منه فقال لها: وأين عبد الله لقد هرب.
فقال أبو رافع هذا الذي يظنه سيغيثه: إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف.
يقول عبد الله ، فانطلقت نحوه ، فغمدت إليه بضربة أخرى أثخنته، ولكن لم تقتله أيضاً عندها صاحت المرأة ، قال عبد الله فرفعت السيف عليها ، فتذكرت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء ، فتركتها ، ثم رجعت إلى عدو الله ، فوضعت السيف في بطنه حتى خرج من ظهره ، فسمعت صوت العظم ، فعرفت أني قتلته ، نجح عبد الله رضي الله عنه ، في هذه المرة ، وأراح المسلمين من مجرم آخر كان له دور بارز في الأذية والإفساد.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأرحنا منه ، اللهم من كاد للإسلام والمسلمين ، فاجعل اللهم كيده في نحره ، وتدبيره تدميراً عليه.
اللهم عليك بأعداء دينك ، الذين آذوا الله ورسوله. يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود ، وأعوانهم وأشياعهم، اللهم وطهر المسجد الأقصى من دنسهم واجعلهم عبرة للأولين والآخرين.
أقول هذا القول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
يقول عبد الله بن عتيك رضي الله عنه. وقد تأكد بأن عدو الله قد هلك ، يقول فخرجت مسرعاً من داره فجعلت أفتح الأبواب ، باباً باباً ، حتى أتيت السُلّم ، فوضعت رجلي وأنا أظن أني قد انتهيت إلى الأرض ، فوقعت فانكسرت ساقي ، فعصبتها بعمامة ، وقد ذكر ابن اسحاق رحمه الله أن عبد الله بن عتيك كان ضعيف البصر. وفي رواية عند البخاري: "فانخلعت رجلي" ، انطلق رضي الله عنه حتى جلس عند باب الحصن وهو يعرج من ساقه ، لكن مع ذلك لم يخرج رضي الله عنه ، أتدرون لماذا؟ يقول: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته أم لا؟ يريد أن يتأكد 100 أنه قد أفنى عدو الله ، وإن أمسك به اليهود وقتلوه ، لا يهم.
وههنا خرج اليهود من دورهم التي أغلقها عليهم عبد الله بن عتيك وأوقدوا النيران ، وذهبوا في كل جهة يطلبون عبد الله ، وهو بالقرب منهم ، فلما أيسوا منه رجعوا إلى صاحبهم أبي رافع فوجدوه قد مات وهلك.
خرج عبد الله من الحصن وهو يعرج ، فوصل إلى أصحابه وقال لهم ، انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإني لا أبرح مكاني هذا حتى أسمع الناعية. فلما كان في وجه الصبح صعد الناعي على السور ، وعبد الله بن عتيك ينظر إليه من خارج الحصن ، فقال الناعي ، أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز ، قال عبد الله ، فقمت بعدها أمشي فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: النجاء النجاء ، فقد قتل الله أبا رافع.
تأمل: قتل الله أبا رافع. لم ينسب القتل لنفسه ، ولم ينسب هذا الإنجاز لنفسه مع أنه إنجاز عظيم وجهد غير قليل بذله عبد الله ، وعرّض نفسه لمخاطر ومهالك ، تضحية في سبيل الدين مابعدها تضحية. ومع ذلك نسب الفضل لله عز وجل.
فهل نستفيد من هذا الدرس. وننسب كل عمل نقوم به للإسلام نقول إنه من الله. ونحتقر أنفسنا وذواتنا وشخصنا. أما أولئك الذين لا يقدمون شيئاً أصلاً ثم ينسبون ذلك كل الطاقات. ليقنعوا الناس بأن هذه إنجازات فلان فقط. فلان لوحده.
فهذا الصنف لا حديث لنا معهم. فرأى النبي عليه السلام رجل عبد الله وساقه مكسورة فقال له: ابسط رجلك ، يقول فبسطت رجلي فمسحها ، فكأنها لم أشتكها قط ". ولما ظهر أمر قتله ، قام حسان بن ثابت رضي الله عنه ، شاعر الإسلام فقال:
يا ابن الحُقيق وأنت يا ابن الأشرف
مرحاً كأُسد في عرين مُغرّف
فسقوكم حتفاً ببيضٍ ذُفَّفِ
مستصغرين لكل أمرٍ مُجحِفِ
لله در عصابة لاقيتهم
يسرون بالبيض الخفاف إليكم
حتى أتوكم في محل بيوتكم
مستنصرين لنصر دين نبيهم
أيها المسلمون: إن الله جل وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
إن لكل محارب لدين الله نهاية ، إن لكل عدو لله ورسوله خاتمة سيئة ، إما في الدنيا وإما في الآخرة. إن الله يمهل ولا يهمل.
فهناك من يحارب الله ورسوله ، تكون نهايتهم كأمثال كعب بن الأشرف وأبي رافع ، وهناك من المحاربين لله ورسوله ، من تكون نهايتهم الهلاك بالغرق كفرعون ، وهناك من يبتليه الله بمرض في آخر عمره ، يجعله يبتلى بنفسه ، لا يحرك ساكناً ، وهناك من يموت غماً وهماً. وهناك من يبقى إلى آخر عمره ، وهو معادٍ لدين الله ، لا يحصل له شيء ، لكن المولى يجمع له ذلك كله ليوم القيامة ، ليزداد عليه العذاب والمحاسبة. وهناك وهناك ، وفي كل ذلك حكم لله عز وجل هو أعلم بها. لكن الذي يهمنا من ذلك كله ، أن هذا دين الله ، وأن هؤلاء وأولئك محاربين لدين الله ، والله سيتولى أمرهم كل بما يناسبه ، وفي النهاية سيكون النصر والتمكين لدينه وأولياءه ، وستكون الحسرة والندامة والخزي لأعداءه.
(1/1266)
قتل كعب بن الأشرف
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/10/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعاون الكفار على اختلاف مللهم في كيدهم للإسلام. 2- التحالف بين اليهود ومشركي مكة.
3- مواقف كعب بن الأشرف من الإسلام والنبي. 4- محمد بن سلمة وأصحابه يقتلون كعب.
5- استقبال النبي لأصحابه بعد قتلهم كعب بن الأشرف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، وبدأ في وضع قواعد الدولة الجديدة ، وكان أهل المدينة عندما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: المسلمون من الأنصار ، والمنافقون ، واليهود، وكان المنافقون واليهود لا يعنيهم شأن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلقون له بالاً ، ويظنون أنه عما قريب سيُقتل ويهزم وينتهي أمره.
مضى الشهر الأول ، ثم الثاني ، ثم الخامس، ثم العاشر ، ثم انتهت السنة الأولى ، ودخلت السنة الثانية، وحدث ما لم يكن في الحسبان ، حدث ما لم يتوقعه المنافقون واليهود ، التقى المسلمون مع كفار قريش من غير ميعاد ، فكان يوم الفرقان ، غزوة بدر ، وانتصر النبي صلى الله عليه وسلم على من آذوه وأخرجوه ، فتبعثرت أوراق اليهود المنافقين في المدينة ، وحصلت ربكة غير طبيعية ، وبدأت الجلسات السرية ، والمباحثات حول هذا الحدث ، وشعروا منذ تلك اللحظة، بخطورة هذا الكيان الجديد ، وبدأت العداوة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في المدينة.
بدأ معسكر الكفر ، وقد اجتمعت أجنحة المكر الثلاثة اليهود والمنافقون ومشركو مكة ، وأظهروا عداوتهم الشديدة بعد غزوة بدر ، قال الله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا وانبرى شعراء اليهود في هجاء المسلمين والوقيعة في أعراضهم ، وهو ما نسميه اليوم الحرب الإعلامية على الدعوة.
ولم يسلم حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على رأس هؤلاء اليهود رجل يسمى كعب بن الأشرف، هذا اليهودي لما بلغه خبر غزوة بدر، وعلم بهزيمة المشركين قال: والله لئن كان محمدٌ أصاب القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر ، خرج إلى مكة بنفسه ليواسيهم في مُصابهم، فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي ، وكانت زوج المطلب السهمي هي عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية.فأنزلته وأكرمته ، فجلس عندهم يقول الأشعار وينوح على قتلى المشركين ببدر ، ومن ذلك قوله:
ولمثل بدر تستهل وتدمع
طحنت رحى بدر لمهْلكِ أهله
وأنشد الكثير من شعره يحمس أهل الكفر ويؤلبهم على النبي صلى الله عليه وسلم،. فبلغ ذلك شاعر الإسلام حسان بن ثابت رضي الله عنه ، فانبرى له حسان فهجاه وهجى المطلب وزوجته عاتكة ، فلما سمعت عاتكة بأبيات حسان طردت كعب من بيتها. وكان ممن رافق كعب إلى مكة شيطان خيبر حيي بن أخطب فقال أهل مكة لحيي وكعب: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا نحن نصل الأرحام وننحر الإبل ونسقي الماء على اللبن ، ونفك الأسير، ونسقي الحجيج. أما محمد فصنبور ، قطع أرحامنا واتّبعه سرّاق الحجيج ، فنحن خير أم هو؟ فقالا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى قوله: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا.
وقد بذل كعب بن الأشرف قصارى جهده في تحميس المشركين لقتال المسلمين مرة أخرى ، حتى إنه كان يحالفهم عند أستار الكعبة (الفتح7/337). ورجع بعد ذلك إلى المدينة ، وأخذ يقول الشعر يتغزل بنساء المسلمين ، وأمعن هذا اليهودي الخبيث - وكل اليهود خبثاء - في هجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما فاض الكيل ، وطغى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله. فقام محمد بن مسلمة من بين الصحابة فقال يا رسول الله: أتحب أن أقتله؟ قال: نعم)). وإنما أحب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأمرين: أولاهما: لأنه قد آذى الله ورسوله. وكل من يؤذي الله ورسوله فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يحب قتله.
الثاني: لأن كعب خالُ محمد بن مسلمة.
وكعب بن الأشرف عربي النسب من قبيلة طئ، قبيلة مشهورة ، لكن أباه تزوج بيهودية في المدينة ، فأنجبت له كعباً ، ونشأ في حجر اليهود ، ظاهره عربي أصيل، لكن قلبه يركع تحت عرش اليهود.
رجع محمد بن مسلمة ، ومكث ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، ويفكر في كيفية إراحة المجتمع من هذا العنصر السيء المخرب المفسد.
رجع محمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يستشيره في الأمر ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم لا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ. وكان سعد منظراً ذكياً ، فقال سعد لمحمد: اذهب إليه واشتكي إليه الحاجة ، وسله أن يسلفكم طعاماً.ثم قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله فأذن لي أن أقول فيك شيئاً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((قل ما بدا لك فأنت في حل من ذلك)).
تأمل هذه النفسية العالية من محمد بن مسلمة ، يجد الحرج من أن ينال من الإسلام وأهله وهو في حالة حرب، وفي موطن خداع، وقد أباحت له الشريعة ذلك. أفلا يتقى الله أولئك الذين صار دينهم هو الطعن في الناس ، واتهام الآخرين ، واتهام النيات ، والنيل من أهل الإسلام ودعاته، ويدّعون التقرب إلى الله بهذا الصنيع. فإنا لله وإنا إليه راجعون. انطلق محمد بن مسلمة وذهب معه أبو نائلة وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاع. فأتى ابن مسلمة إلى كعب في حصنه، فقال له: إن هذا الرجل (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ) قد سألنا صدقةً ، ونحن لا نجد ما نأكل، وإنه قد أتعبنا وشق علينا ، وإني قد أتيتك أستسلفك ثم تكلم أبو نائلة فقال: لقد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً ، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال ، وجهدت الأنفس ، فقال كعب: لم تروا شيئاً كثيراً بعد ، وهذا قليل من اتباع هذا الرجل.
فلما رأى ابن مسلمة أن الحيلة قد انطلت على كعب. قال: إنا قد اتبعناه ولا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين. فقال كعب: وأين طعامكم؟ قالا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه. فقال كعب: أسلفكم ولكن ارهنوني.قالوا وأي شيء تريد؟ قال: ارهنوني نساءكم قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب تُعجب بك النساء. فانتشى لسماع هذا الكلام وأعجبه هذا المديح. فقال: فارهنوني أبناءكم قالوا: كيف نرهنك أبناءنا؟ وفي هذا عار علينا ، وستتكلم العرب ، لكن نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه. قال: نعم ، وهذه الحيلة أيضاً انطلت عليه. فقال أبو نائلة ، إن معي أصحاباً لي على مثل رأيي إن أردت آتيك بهم. أراد أبو نائلة ألا ينكر كعب السلاح إذا جاءوا به.
تم الاتفاق بين الطرفين على أن يأتوه بالسلاح ليأخذوا منه الطعام. رجعا إلى المدينة رضي الله عنهما وأخبرا الرسول صلى الله عليه وسلم بما جرى ثم أخذوا ما أرادوا من السلاح والرجال فلما أرادوا الرجوع إلى كعب قام معهم النبي ومشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: ((انطلقوا على اسم الله ، ثم دعا لهم: اللهم أعنهم)).
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته وكانت ليلة مُقمرة ، فانطلقوا حتى أتوا حصنه.وكان معهم عباد بن بشر والحارث بن أوس ، وأبو عبس بن جبر ، رضي الله عن الجميع، فرقة لمكافحة وإبادة العناصر الشريرة في البلد، فهتف أبو نائلة وصاح من تحت الحصن: يا أبا سعيد كنية كعب بن الأشرف. فقال: سامعاً دعوت.وكان كعب حديث عهد بعرس فوثب لما سمع النداء من تحت ملحفته ، فدعاهم إلى الحصن ونزل إليهم ، فقالت له امرأته ، أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة. فقالت له: انت امرؤ مُحارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ، فقال كعب: إنه أبو نائلة لو وجدني نائماً ما أيقظني فقالت المرأة: والله إني لأعرف في صوته الشر، وإني أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. فتعلقت به الزوجة ، لكن مع كل هذه النذر نزل إليهم في ظلام الليل ، ليقضي الله أمراً كان مفعولا، وجلست المرأة ترقب ما عسى أن يكون ، فلما نزل إليهم ، جلس وتحدث معهم ساعة ، وكان قد نزل إليهم متوشحاً بوشاح ، وهو ينفح منه رائحة الطيب.ولما إطمأن إليهم ، قالوا له: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم فخرجوا ومشوا ساعة. وهذه أيضاً انطلت عليه.
وهكذا أيها الأحبة ، لو كتب الله شيئاً ، وأراد المولى حدوث شيء فإنه يهيئ لها الأسباب. وتفوت أتفه الأشياء على أكابر الرجال والعقول، وتتعجب كيف انطلت كل هذه الأمور على مثل كعب.
إنها إرادة الله وتسخير جنوده لحفظ دينه. إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمسك أبو نائلة برأس كعب ليشم رائحة الطيب، فإذا استمكن منه ومن رأسه علاه بقية أصحابه بأسيافهم وأسلحتهم.فأولاً مسك أبو نائلة يد كعب بن الأشرف وشمها ثم قال: ما رأيت كالليلة طيباً أعطر من هذا. قال كعب عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب ، فقال له: أتأذن لي يا أبا سعيد أن أشم رأسك وأمسح به عيني ووجهي ، قال الغبي: نعم. فمكنه من رأسه.ثم مشى معه ساعة ، وأصحابه حوله رضوان الله عليهم ، فعاد لمثلها وشم رأسه ثم مشى معه ساعة حتى اطمأن كعب تماماً ثم قال له: أتأذن لي؟ قال: نعم ، فلما تمكن منه ، صاح أبو نائلة بأصحابه ، وقال دونكم اضربوا عدو الله ، فاختلفت أسيافهم عليه، فأخذ محمد بن مسلمة بقرون شعره وقال: اقتلوا عدو الله ، فالتفت عليه السيوف ، وأصاب حدّ بعض السيوف الحارث بن أوس رضي الله عنه ، في ظلمة الليل.فنزف دمه ، عندها صاح كعب بن الأشرف صيحة لم يبق حصن من حصون اليهود إلا أوقدت عليه نار ، لينظروا ما الخبر ، فصاحت امرأة كعب، وكانت ترقب ما يحدث تحت ضوء القمر وصاحت يا آل قريظة والنضير، يا آل قريظة والنضير.
فأخرج محمد بن مسلمة سيفاً صغيراً فوضعه في سرة كعب واتكأ عليه حتى انتهى إلى عانته ، ثم احتزوا رأسه وأخذوه معهم ، وبدأ اليهود في هذا الوقت بالخروج من حصونهم لرؤية ما حدث، ولعلهم يمسكون بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن محمد بن مسلمة وأصحابه قد خرجوا وتركوا تلك المنطقة إلى مناطق مجاورة ، فخرجوا من حرة إلى حرة ، ومن شعب إلى آخر حتى بلغوا حرة العريض.
وعندما وصلوا إليها افتقدوا الحارث بن أوس ، فإن السيف الذي أصابه أثر فيه فصار ينزف دماً ، فوقفوا ينتظرون ساعة ، حتى وصل رضي الله عنه وهو في جهد جهيد فاحتملوه ، ثم أقبلوا سراعاً حتى دخلوا المدينة.
واجتمعت يهود ، وأخذوا يبحثون عن أحد يرونه فلم يعثروا على أحد ، ولا أثر.
ولما بلغ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد كبّروا ، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي ، فلما سمع تكبيرهم كبر ، وعرف أنهم قد قتلوه ، فانتهوا إليه.
فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه ، فقالوا: ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه ، فحمد الله على قتله. وأصبحت يهود مذعورين ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: قتل سيدنا غِيلة، فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يحرض عليه ويؤذي المسلمين به. فخافوا فلم ينطقوا ، وقال أبو نائلة:فأصبحنا وقد خافت يهود بوقعتنا بعدو الله ، فليس بها يهودي إلا وهو خائف على نفسه. فصاحب الشر والفساد إذا كان يعلم بأن هناك جهة ستؤدبه ارعوى ، ولو صنعنا ذلك ، لدخل كثير من المفسدين والشهوانيين وأصحاب الأفكار المنحرفة إلى جحورهم، لكن في حالة غياب المؤدب تلعب الفئران كيفما شاءت. قال كعب بن مالك رضي الله عنه ، في قتل بن الأشرف:
فذلت بعد مصرعه النضير
علته بأيدينا مشهرة ذكور
إلى كعب أخا كعبٍ يسير
ومحمود أخو ثقةٍ جسور
فغودر منهم كعب صريعاً
على الكفين ثم وقد
بأمر محمد إذ دسّ ليلاً
فما كره فأنزله بمكر
لقد كانت حادثة قتل كعب بن الأشرف بداية سلسلة المواجهة مع اليهود بالمدينة. وكانت غزوة بدر هي التي أخرجت كوامن نفوسهم ، يزعجهم جداً أن يروا التمكين للإسلام وأهله ، وللإيمان ودعاته، فغلت قلوبهم بالحقد ، فكانت بداية تناثر الخرز المهين من عِقد الحقد اليهودي على المسلمين ، وكانت أول خرزة تغادر هذا العقد بغير رجعة ، هي خرزة ، كعب بن الأشرف ، ثم تلتها باقي المنظومة تتهاوى وتتساقط أمام سيوف لا إله إلا الله.
لقد أتعب كعب نفسه كثيراً بمكره وخداعه وشعره ، سافر إلى مكة ليواسي المشركين وليحرضهم ويحمسهم على قتال المسلمين ، وعقد هناك اجتماعات سرية وعلنية مع كبراء قريش لكن ماذا كانت النتيجة؟ حُز رأسه ، ومات كافراً ، خالداً مخلداً في نار جهنم ، القضية ليست قضية قصيدة قالها ، وهجى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، القضية قضية محاربة للدين ، فهذا الرجل تبنى قضية حرب الإسلام وأهله، واستفرغ كل طاقته ، لكن ما علم الغبي أن هذا الدين هو دين الله عز وجل ، والله حافظ دينه ، وناصر لعباده ، وسيبقى هذا الدين في الأرض إلى آخر الزمان ، يذهب فلان ويجيء فلان ، يموت هذا ويولد هذا، فالقضية غير متعلقة بأشخاص يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. يخططون ، ويسهرون ، ويجتمعون ، ويتفقون ، ويكتبون ، ويوقعون ، ويمكرون ، وفي النهاية ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
اللهم أعز الإسلام اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز.. اللهم آمنا في أوطاننا.
(1/1267)
محمد رسول الله
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/10/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر بعض خصائص النبي. 2- حقوق النبي علينا. 3- من حقوقه علينا تحقيق محبته
اعتقاداً وقولاً وعملاً. 4- محبة الصحابة للنبي. 5- علامات محبة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
حديثي معكم أيها الأخوة ، في هذه الجمعة يكون عن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن الحديث عن الرسول عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم حديث تنشرح له صدور أهل الإيمان ، وتتشوق له نفوس الصالحين ، ويدفع العالمين إلى الاستقامة على الصراط المستقيم.
كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ، وخاتم النبيين ، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قد خصه الله تعالى بخصال رفيعة وكثيرة ، انفرد بها عن بقية الأنبياء السابقين عليهم السلام ، فهو أول من يعبر على الصراط يوم القيامة ، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها.
وله المقام المحمود ولواء الحمد ، وهو أول شافع ومشفع ، إلى غير ذلك من الخصال والفضائل.
أيها المسلمون: إن علينا تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم حقوقاً واجبة ، لابد أن نؤديها، ولأهمية مثل هذا الموضوع ، وغفلة كثير من المسلمين عن الحقوق الواجبة عليهم تجاه نبيهم. أحببنا أن تكون هذه الكلمات.
فأول هذه الحقوق: هي العبارة الجامعة المانعة التي سطرها الشيخ المجدد ، محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله تعالى رحمة واسعة-قائلاً:ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، وأن يُعبد الله إلا بما شرع.
فتأملوا رحمكم الله في هذه العبارة التي تستحق كما يقال أن تكتب بماء الذهب طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب ما نهى عنه وزجر.وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فطاعته فيما أمر: تشمل جميع الأوامر التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نطيعه فيها ، وهذه تشمل جميع الأوامر دون استثناء وتصديقه فيما أخبر: كل ما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم يجب علينا ، وحق له علينا أن نصدقه بها ، من الأمور الغيبية وغيرها ما لم نشاهدها ، وما لم تقع بعد.
فلابد من التصديق بخبر الدجال وعلامات الساعة الصغرى والكبرى ، وتفاصيل أمور الجنة والنار ، وأحوال يوم القيامة ، وأحوال القبر وما قبله من سكرات الموت، وما بعده من البعث والنشور ، وقضايا كثيرة أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كبعض قصص وأخبار من قبلنا من الأمم ، فإن كل هذه الأمور التي أخبر بها عليه الصلاة والسلام من الحقوق الواجبة علينا. وداخل تحت عبارة الشيخ - وتصديقه فيما أخبر.
أما قوله: واجتناب ما نهى عنه وزجر ،فتشمل كل ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اجتنابه ، وهذا أيضاً باب واسع يصعب حصره والتفصيل فيه في هذه العجالة.
لكن لابد أن تعلم أن كل مخالفة ترتكبها ، وكل منهي عنه تفعله ، فلابد أن تعلم بأن حقاً من الحقوق الواجبة عليك تجاه نبيك قد أخللت به وعملت بضده ، وأنت محاسب بقدر هذا المنهي الذي ارتكبته.
أما قوله: وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.فإن الإخلال ومخالفة هذا الحق ، من أعظم المنكرات ، فإن الله عز وجل لا يجوز أن يُعبد إلا بما شرعه سبحانه أو شرعه رسوله ، وأي بدعة يأتي بها الإنسان من عند نفسه ، فهي طعن في شرع الله من جهة، ونقض لحق المصطفى صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى. فتأملوا يا عباد الله في مضمون هذه العبارة الجامعة وما أوجبت على المسلمين من حقوق ، ثم تأملوا في واقع الناس في تطبيق هذا المضمون على أنفسهم.كم من أمور ، أمرنا بها رسولنا صلى الله عليه وسلم فخالفناه ، كثير من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام تذبح في الليل والنهار، وكأنها ليست حقوقاً واجبة علينا ، كم من أمر نهانا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتوعد مرتكبه وزجر عنه ، أصبحت من أساسيات حياة الناس اليوم ، والتي لا غنى لهم عنها.
إننا مقصرون أيها الأخوة كثيراً وكثيراً في حق نبينا.ولو قصر ولدك في حقك ما رضيت بهذا ، فلو قصر ولدك في حقك أيها الوالد من الطاعة والإحترام ، لأقمت الدنيا وأقعدتها ، بل ربما طردت هذا الولد من بيتك لقلة أدبه وعدم احترامه وتقديره لك، وتقصيره في حقك، ولو قصرت الزوجة ببعض حقوقك ، ولو عن طريق الخطأ أو النسيان لما قبل غالب الأزواج هذا العذر منها ، بل ربما سبب ذلك طلاقها أو ضربها ، أو على أقل تقدير سبها وشتمها ، كل هذا لأنها قد قصرت في حقك أيها الزوج.
وقس على هذا سائر الحقوق بين الناس. لن يرضى ولن يقبل أحد بالتقصير في حقه.فهلا حاسبت نفسك يا عبد الله، ووزنت نفسك بهذا الميزان الذي تزن به الآخرين ، وأديت حقوق رسولك صلى الله عليه وسلم، أفضل من عبد الله تحت أديم السماء.
تشاجرت الأحياءُ في فضل خطةٍ
تراقوا بها بالغض بعد مودة
فلما رأينا الأمر قد حان جده
ففاجأنا هذا الأمين محمدٌ
بخير قريش كلها أمسو شيمة
فجاء بأمرٍ لم ير الناس مثله
وكل رضينا فعله وصنيعه
وتلك يدٌ منه علينا عظيمة
جرت طيرهم بالنحس من بعد أسعد
وأوقد ناراً بينهم شر مُوقد
ولم يبق شيء غير سل المهند
فقلنا رضينا بالأمين محمدِ
وفي اليوم مع ما يحدث الله في غد
أعم وأرضى في العواقب والبدي فأعظم به من رأي هادٍ ومُهتدِ
يروح بها هذا الزمان ويغتدى
الحق الثاني من حقوق نبينا علينا ، أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً ، ونقدمها على محبة النفس والولد والناس أجمعين. قال الله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى عن هذه الآية: "فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجةً على إلزام محبته ، ووجوب فرضها وعِظم خطرها ، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم ، إذ قرّع سبحانه من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى: فتربصوا حتى يأت الله بأمره ثم فسَّقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) [رواه البخاري ومسلم].
ورويا أيضاً عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)) - وذكر منها - ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في صدق وتمام المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للعباس: أن تُسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب ، لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسُئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وآبائنا وأمهاتنا ، ومن الماء البارد على الظمأ ، وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: ما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجلّ في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت ، لأني لم أكن أملأ عيني منه.
أيها المسلمون: ولو سألت أي أحدٍ من أبناء هذه الأمة عن حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأجابك بنعم ، وقد يغضب عليك لو قلت له: إنك لا تحب رسول الله.
لكن كما يقال لكل شيء علامات ، فلا شك بأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك لها علامات. وسأعرض لكم بعض العلامات التي لو توفرت في أحد منا ، لكان ذلك دليلاً على محبته للرسول صلى الله عليه وسلم اعتقاداً وقولاً وعملاً. لا قولاً فقط.
وكل فرد منا يقيس نفسه بعد ذلك بحسب قربه وبعده من هذه العلامات.
فمن هذه العلامات: كثرة ذكره له ، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره ، فهل أنت تكثر من ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ، في قيامك وقعودك ، في دخولك وخروجك ، في بيعك وشرائك.في سفرك وحال إقامتك أم يمر عليك الساعات الطوال من يومك وليلتك وأنت لا تذكره ولا تتذكره.
فقط تقول: صلى الله عليه وسلم ، إذا سمعت حديثاً أو ذكر اسمه في مناسبة تذكرته، هذا لا يليق بك يا عبد الله ، أن تذكر وتتذكر غيره أكثر منه.وأنت تزعم أنك تحبه أكثر من غيره.
ومن علامات محبته أيضاً:كثرة شوقك إلى لقائه ، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه ، فهل كلما تذكرته خفق قلبك شوقاً إلى لقائه، وزادت نبضات قلبك كما يخفق قلبك عند ملاقاة عزيز عليك.أم هي دعوى أكثر من أن تكون واقعاً.
ومن علامات محبته أيضاً أيها الأخوة المؤمنون محبة المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحبهم ، فمن أحب أحداً أحب من يحبه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين: ((اللهم إني أُحبهما فأحِبهما)) وكذلك بغض من أبغض الصحابة أو سبهم أو نال منهم من الرافضة وغيرهم، فمن رأيناه يتعاون معهم ويقيم علاقات معهم ، فهذا لم يبغضهم ، وكل هذا منافٍ لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن علامات محبته أيضاً: الشفقة على أمته ، والنصح لهم ، والسعي في مصالحهم ، ورفع المضار عنهم ، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فاسأل نفسك يا عبد الله ، يا من تدعي محبة رسول الله ، هل أنت تشفق على أمته ، وتنصح لها وتسعى في مصالحها ورفع الضر عنها ، ويسوءك ما يسوء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، أم أنت لا تدري ما يحصل للمسلمين حتى في البلد الذي تعيش فيه ، ولا تشفق ولا تسعى إلا في مصالح نفسك.
المُحب للنبي صلى الله عليه وسلم يشفق على أمته ، المدعى حب الرسول صلى الله عليه وسلم يسعى في تحقيق ما كان يسعى الرسول صلى الله عليه وسلم لتحقيقه ،نحن لا نريد منك يا أخي أن تكون سفارة في كل بقعة من العالم فيها مسلمون ، لكن نريد منك أن تبذل فقط ربع ما عندك من طاقة ، وربع ما في استطاعتك في خدمة المسلمين فقط. مع أن الله عز وجل سوف يحاسبك ، وهذا أمر لابد أن تعلمه جيداً ، أنك سوف تحاسب على كل طاقة أُعطيتها، وكل نعمة وُهبتها ولم تستعملها في طاعة الله والبذل في سبيل دينه، ووالله الذي لا إله إلا هو لو بذل المسلمون أقل ما في وسع كل واحد منهم للإسلام لتغيّر واقع الدنيا ،لكن المصيبة أن المسلمين بخلوا حتى على أنفسهم، وبخلوا عن نفع دينهم ودنياهم.
فمتى يفيقون من غفلتهم ، ومتى تتحرك هممهم.
أيها الأخوة المؤمنون: إن هناك من البلاد والتي ليست بعيدة عن هذه البلاد ، يحصل فيها من الظلم والاضطهاد ، بل حتى التقتيل والإيذاء ، في الأبدان والأعراض للمسلمين ما الله به عليم، لا يرقب الأعداء في مؤمن إلاً ولا ذمة، وهؤلاء الضعفاء من المسلمين يصرخون ليل نهار ، ويطلبون النُصْرة والمساعدة منكم ومن غيركم.فاسأل نفسك يا من تدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ماذا قدمت لهؤلاء المنكوبين المعذبين ، ماذا قدمت لهؤلاء الضعفة من النساء والولدان والشيوخ والعجائز ، إن كونك مسلماً فقط ، هذا يوجب عليك وجوباً أن تقدم النصرة والمساعدة لهم.
أيها المسلمون: إن الدنيا لا تبقى على حال ، والأوضاع لا يمكن لها أن تستمر على وتيرة واحدة ، ومن يعيش في أمن ورخاء واستقرار اليوم ، ربما يعيش في خوف وفقر وجوع واضطراب في الغد ، ومن أعطاه الله الملك اليوم ربما يُنزع منه ملكه في الغد.
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
أخشى أن يتبدل حالنا من أمن ونعمة وملك إلى خوف ونقمة وزوال ، فنطلب العون والمساعدة ، ونطلب النصرة من إخواننا المسلمين في كل مكان ، فلا يمد لنا أحداً يده، والعاقل لا بد له أن يضع كل احتمال في باله.
أيها الأخوة المسلمون: قد يسأل بعضنا: وكيف نساعدهم؟ وبماذا نساعدهم؟ وماذا أقدم لهم؟.
بإمكانك أن تقدم لهم الكثير: الدعاء ولو أخذت على نفسك أن تقطع من مرتبك ودخلك الشهري مبلغ خمسون ريالاً ، نحن لا نقول ألف ريال ، فقط خمسون ريال ، مبلغ زهيد جداً بالنسبة للأحوال والنعمة التي نعيشها ، كم من نفس منفوسة ، سوف تسد حاجتها ويسد رمقها ، وتفرج كُربها.
عود نفسك يا أخي على فعل الخير وبذل الخير ، ولو بشيء يسير لكنه متواصل ، شارك المسلمين في همومهم ومصائبهم.
ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أن امرأة بغية دخلت الجنة في كلب ، كان عطشاناً فسقته ، ((في كل كبد رطبة أجر)).
وأخبر عليه الصلاة والسلام عن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
فتأمل وقف أخي المسلم مع هذين الحديثين ثم تأمل وانظر في واقعك ، وتفاعلك مع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
امرأة تدخل النار في هرة ، وأخرى باغية زانية تدخل الجنة في كلب.
وألوف مؤلفة من المسلمين يموتون جوعاً وعطشاً ، ثم لا يتحرك قلبك كما تحرك قلب تلك المرأة على الكلب.
إن ادعاء محبة الرسول صلى الله عليه وسلم له مظاهر كما قلت ، وهذا أحدها فنسأل الله عز وجل أن يبصرنا بواقعنا ويفتح قلوبنا لغيرنا ، وأن يستعملنا عز وجل في طاعته.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يغير حالنا إلى أفضل منه. وأن يبقي علينا نعمة الإيمان والأمان.
كما نسأله عز وجل أن يفرج هموم المسلمين في كل مكان ، وينفس عنهم ، وأن يظهر دينه ، ويعلي كلمته.
إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أهم وأكثر علامات محبته صلى الله عليه وسلم :متابعته والاقتداء به ، يقول القاضي عياض - رحمه الله تعالى -: اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ، وكان مُدّعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه ، وأولها الإقتداء به ، واستعمال سنته ، واتباع أقواله وأفعاله ، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ، ومنشطه ومكرهه ، وشاهد هذا قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
لو كان حبك صادقاً لأطعته
هذا لعمري في القياس شنيع
إن المحب لمن يحب مطيع
فلا داعي أن تسأل أحداً هل أنت تحب رسول الله؟ فقط انظر في متابعته له والاقتداء به ، وتطبيق السنة على نفسه يتبين لك المُحب من نصف المحب منه ومع المحب من المُدعي فقط.
(1/1268)
كيف أكون مسلماً؟
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصوم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/8/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المقصود من السؤال المطروح. 2- الأمر بالالتزام بجميع أوامر الإسلام وهجر جميع
مناهيه. 3- الفرح المذموم والفرح الممدوح. 4- عبادة السلف في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
سؤال أود أن أطرحه عليكم ، لأجعل منه موضوعاً لخطبتنا في هذه الجمعة. ولعل أغلبكم سوف يستغرب من السؤال ويقول بأن الإجابة معروفة وسهلة ، ولماذا طُرح هذا السؤال ، وهل يستحق هذا السؤال بأن يكون موضوعاً لخطبة جمعة؟ كيف أكون مسلماً؟ نعم هذا هو السؤال ، كيف أكون مسلماً؟ وفي الحقيقة الإجابة على هذا السؤال لا تستحق خطبة جمعة ، بل خطب متتابعة ، وسوف يزول غرابة من استغرب ، عندما يعلم بأننا لا نقصد الإسلام ، الإسلام الضروري التوثيقي ، ونقصد بالتوثيقي بأن معه وثيقة تثبت إسلامه لكننا نريد الإسلام الحقيقي الواقعي ، ولعلنا ومن خلال طرحنا لثنايا هذا الموضوع ، يتضح البعد الشاسع بين أغلب المسلمين وإسلامهم.
أيها المسلمون: كيف أكون مسلماً؟ إن إجابة هذا السؤال أيها الأخوة تحتاج إلى شرح طويل ، وذلك لأن الشخص حتى يحقق إسلامه ينبغي عليه تطبيق جميع أحكام الإسلام على نفسه، وهذه قضية يطول شرحها.
لكننا نختار بعض القضايا ، واختيارنا لهذه القضية يكون من خلال طرح بعض النصوص ، ثم لينزل كل منا نفسه وحاله وواقعه على هذه النصوص ، ثم ليرى وليجب نفسه بعد ذلك ، هل حقق الإسلام كما ينبغي أم أن البون مازال شاسعاً بينه وبين شريعة الله.
وسوف اختار هذه النصوص من كتاب الله عز وجل ، لأنه لا خلاف بين المسلمين بأن القرآن ما أنزل إلا ليعمل به ويُطبق ما فيه.
أيها المسلمون: لا نقصد بسؤالنا كيف أكون مسلماً طريقة ووسيلة الدخول في هذا الدين؟ فإنه لا خلاف بأن النطق بالشهادتين هو الذي يدخل المرء في الإسلام ، ولا يكون مسلماً إلا بالنطق بهما.فإنا لا نقصد هذا بل نقصد تمثل الإسلام حقيقة وواقعاً وسلوكاً في حياة الناس ، نقصد بالسؤال أن يتمثل الإنسان أخلاقيات الإسلام منهجاً وتصوراً وسلوكاً.فكم من الناس قد نطق بهذه الكلمة ، وربما من المحافظين على بعض شعائر الإسلام ، لكن واقعه وتصرفاته بعيد كل البعد عن هذا الدين.
فلنمر أيها الأخوة على بعض الآيات ، ثم نرى حالنا وواقعنا منها ، وليست هذه الآيات مقصودة بعينها فحسب ، بل هي أمثلة ، ثم ليستعرض المسلم كتاب الله بعد ذلك وليرى حاله وواقعه منه.
الآية الأولى: كيف أكون مسلماً: قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين.
يا عبد الله: إذا قرأت في كتاب الله يا أيها الذين آمنوا ، فأرعها سمعك ، فإما أمر تؤمر به أو نهي تنهى عنه ، وفي هذه الآية يأمرنا الله عز وجل بأن ندخل في السلم كافة ، والسلم هو الإسلام أي ادخلوا في الدين بكافة أنفسكم ، وبكافة نفس كل واحد منكم ، فإن أي جزئية منكم لا تدخل في الدين فإنما هي صيد يتصيده الشيطان ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين. فلكي تكون مسلماً لابد أن تدخل في هذا الدين بكافة نفسك ، لا يصلح أن تكون مسلماً في جزئية وتخالف تعاليم الإسلام في جزئية أخرى.
وعلى الرغم من بساطة هذه الحقيقة وكونها أشبه بالبدهيات ، فقد صارت عند كثير من الناس أمراً مستغرباً يحتاج إلى كثير من البيان والشرح.
فلا يصلح أن تكون مسلماً في الصلوات فتحافظ عليها ، وتخالف تعاليم الإسلام ، فترابي مثلاً. لا يصلح أن تحافظ على بعض شعائر الإسلام الظاهرة ، وأنت تغش أو تكذب في تعاملك مع الناس ، لابد من الدخول في السلم كافة ، لا يصلح أن تحافظ على بعض الصلوات في المسجد وتترك بعضها الآخر خصوصاً الفجر ، لابد أن تدخل في السلم كافة ، لا يصلح أن تكون حريصاً على أداء العمرة والحج مرات ومرات ، ولا تحرص على تنقية أموالك من أكل الحرام مثلاً.
وهذه التناقضات أيها الأخوة موجودة وبكثرة بين المسلمين ، فقلَّ ما تجد من دخل في السلم كافة ، بل صارت لا إله إلا الله ، وصار الدخول في الدين بالكلية على بساطتها وبداهتها أمراً لا يستوعبه كثير من الناس إلا بالجهد الجهيد ، بل صار قوم من الناس يجادلون في شأنها كما كان قوم شعيب يجادلونه ، كما قال تعالى: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهذا كلام كثير من الناس اليوم أيضاً ، هل هذه الصلاة تأمرنا أن لا نتصرف في أموالنا وحلالنا كما نشاء ، ولماذا هذه القيود حتى في التصرفات الشخصية؟ الذي يقول مثل هذا الكلام ويفكر هذا التفكير لم يدخل في السلم كافة ، ويحتاج أن يردد على نفسه كثيراً هذا السؤال: كيف أكون مسلماً؟
الآية الثانية: قول الله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون. الفرح هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب. وقد ذم الله الفرح في مواطن من كتابه وجوزه في مواطن ، ذم الفرح الذي يكون بشهوات الدنيا ولذاتها أو الفرح بالباطل كقوله عز وجل: لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وجوزه في مواطن كقوله عز وجل: فرحين بما آتاهم الله من فضله. فلكي تكون مسلماً كما ينبغي ، لابد أن يكون ميزان الفرح عند هو هذا. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده ، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان ، فبذلك وحده فليفرحوا ، فهذا هو الذي يستحق الفرح لا المال ولا أعراض هذه الحياة ، فهل نحن بلغنا بإسلامنا هذا المستوى ، أما مازالت عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة تجذبنا ونفرح بها أكثر مما نفرح بفضل الله ورحمته.
عن عقبة بن الوليد ، عن صفوان بن عمرو: سمعت أينع بن عبد الله يقول: لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه ، خرج عمر ومولى له ، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل يقول:الحمد لله تعالى ، ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته ، فقال عمر:كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
هكذا كان الرعيل الأول ينظر إلى قيم الحياة كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى ، فأما المال وأما الثراء فهو تابع ، لذلك كان المال ينثال عليهم ، وكان الثراء يطلبهم.
إن طريق هذه الأمة أيها الأخوة واضح ، إنه في هذا الذي يسنه لها قرآنها ، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها.
إن الأرزاق المادية ، والقيم المادية ، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض، في الحياة الدنيا ، فضلاً عن مكانهم في الحياة الأخرى ، إن الأرزاق المادية والتيسيرات المادية والقيم المادية ، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية ، لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة ، كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة.
إنه لابد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية، وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطى للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس ، وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان.
إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء، ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله: يا أيها الناس قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا، فيقول عمر رضي الله عنه عن المال والأنعام: ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى.
لقد كان عمر يفقه دينه، كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم ، موعظة من ربهم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق.
فنسأل الله عز وجل ، أن ندرك الفرح بهذا المفهوم وأن يكون فرحنا فيما يتعلق بهذا الدين من أي جوانبه أشد من فرحنا بمصالحنا الشخصية إذا تحققت، ولعل هذا المفهوم للفرح هو جزء من إجابة السؤال: كيف أكون مسلماً؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الآية الثالثة: قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
إن شهر الصيام أيها الأخوة على الأبواب ، وسيحل ضيفاً كريماً علينا ، ومن حق الضيف أن نكرمه ، فهل نكون مسلمين حقاً في هذا الشهر، ونحقق الصيام كاملاً صيام الجوارح كلها.
كثير من الناس لا يعرف هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب ، والنوم طوال النهار والبطالة ، وفي الليل فوازير رمضان ، والسهر باللهو واللعب والغفلة حتى السحور ، فاحرصوا حفظكم الله ألا تكونوا مثل هؤلاء ، واجتهدوا في هذا الشهر، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيه مالا يجتهد في غيره ، وكان السلف الصالح يهتمون بهذا الشهر غاية الاهتمام، ويتفرغون فيه للتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة.
كانوا يجتهدون في قيام ليله وعمارة أوقاته بالطاعة - قال الزهري رحمه الله: إذا دخل رمضان ، إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكانوا يحرصون على الجلوس في المساجد، ويقولون: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً ، وكانوا يحرصون على صلاة التراويح ولا ينصرفون منها حتى ينصرف الإمام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) [رواه أهل السنن]. فاتقوا الله أيها المسلمون وحافظوا على شهركم وأكثروا فيه من طاعة ربكم لعلكم تكتبون فيه من الفائزين.
حافظوا على صيامكم مما يخل به أو يفسده من الأعمال السيئة والأقوال الآثمة ، فاحفظوا أسماعكم عن سماع ما حرم الله من الأغاني وقول الزور والغيبة والنميمة ، واحفظوا أبصاركم عن رؤية ما حرم الله عليكم من المناظر الفاتنة ، فإن النظر سهم مسموم من سهام إبليس ، واحفظوا ألسنتكم من قول الزور وشهادة الزور والغيبة والنميمة والشتم والسباب ، فإن سابك أحد فلا ترد عليه بالمثل بل قل إني صائم ، فليس الصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب فقط، بل هو إمساك كذلك عن كل ما حرم الله.
أيها المسلمون: استقبلوا شهركم بارك الله فيكم بالتوبة والفرح بإدراكه ، واجتهدوا في استغلال أوقاته الشريفة مما ينفعكم: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم اجعلوه منطلقاً لكم من أسر الشهوات والغفلة إلى نور الطاعة والتقوى لعله يكون منبهاً لكم على تفريطكم فيما مضى لتستدركوا ما تبقى من أعماركم ، فإنه ليس لكم من أعماركم إلا ما عمرتموه بالطاعة، وما ضيعتموه فإنه يكون حسرة عليكم.
(1/1269)
قيمة المؤمن
الإيمان
فضائل الإيمان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/6/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة المؤمن عند الله عز وجل وملائكته. 2- المعاصي تنقص من قيمة المؤمن والطاعات
تزيده. 3- انتشار الصحوة المباركة. 4- تحذير أعداء الصحوة من التعرض لأولياء الله
وخيرته من خلقه. 5- ثمرات الإيمان والعمل الصالح كما ذكرتها آيات القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول ربنا عز وجل وتعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً ويقول جل وعز: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
أيها الأحبة في الله: إن المؤمن له قيمة خاصة عند الله عز وجل، إن المؤمن ذا قيمة ومكانة وتقدير واعتبار واحترام لا في عالم الدنيا فحسب، ولكن في عالم الدنيا والآخرة، لا في عالم الجنس البشري فحسب، ولكن في عالم الغيبيات في عالم الجن، حتى الجن تميز وتقدر المؤمن من غيره، لذا تجد أن أغلب تلبس الجن يكون بمن ضعف إيمانه، وكثرت آثامه.
إن المؤمن له ميزان ومعيار خاص عند الله، يقوم عليها هو سبحانه وتعالى بنفسه، علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا هو بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
أيها الأخ المؤمن: ويا أيها الأخ المسلم: هل تريد أن تدرك شيئاً من قيمتك ومكانتك ومنزلتك، فأرعني سمعك واستمع إلى هذه الآيات الكريمات، يقول الله تعالى: هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً.
الله جل وتعالى هو الذي يصلي عليك أيها المؤمن وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
ويقول عز وجل: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات
ما أجمله من دعاء، وممن؟ من الملائكة وهم يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرن لمن؟ ويستغفرون للذين آمنوا.
فماذا يقولون في دعائهم واستغفارهم؟ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات.
هذا هو قيمتك أيها المؤمن، وهذه منزلتك ومكانتك، فلا ترض بأقل منها، ليختلط الإيمان بلحمك وعظمك، وليجرِ في عروقك مع الدم، وليصبح الإيمان سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به، ولسانك الذي تنطق به، ويدك التي تبطش بها، ورجلك التي تمشي بها. قل إن صلاتي وتسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
وحذار ثم حذار أيها المؤمن أن تمد يدك أو عينك إلى شيء ينقصك أو ينزلك عن هذه المرتبة، وعن هذه الدرجة، مما يتمتع به أحد من أهل هذه الحياة الدنيا وما عند الله خير وابقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. قال الله تعالى: ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى.
فقيمة المؤمن وآماله وروحه وتطلعاته أجلُّ وأكبر وأعظم من أن نتطلع إلى الأرض دون السماء، أو أن يتعلق المؤمن بما وصف بالفناء دون ما وصف بالبقاء.
إن قيمة المؤمن أجل وأكبر وأعظم من أن يرتبط بجوانب مادية وقيم فانية.
إن قيمة المؤمن ليست عند من يمنحون ما يسمى بالأوسمة والدروع والنياشين التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وليست قيمة المؤمن عندما يُعطى منصباً أو مالاً أو جاهاً، ولكن قيمته الحقيقية عند من عنده الدنيا كلها، وعنده الآخرة الممدودة الباقية.
إن قيمة المؤمن لا فيما يلبس ولا فيما يأكل ولا فيما يركب، لكن قيمته بما يحمله في قلبه من حب الله ورسوله، قيمته في موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله.
إن قيمة المؤمن الحقيقية بمقدار ما يبذله ويعطيه ويمنحه خدمة لهذا الدين، وعملاً بهذه الشريعة، وتبليغاً ودعوة لهذا الإسلام ولهذا الإيمان الذي يحمله.
فيا أيها المؤمنون: شباباً وشيوخاً، نساءً ورجالاً، اعتمدوا على الله، وارتبطوا بالله، وتعاملوا مع الله، وتوكلوا على الله، واصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
فهل عرفت قيمتك أخي المؤمن؟إنك أغلى جوهرة في هذا الوجود، وأثمن كنز في هذا الكون، بما تحمل في قلبك من إيمان.
دع الدنيا لأهل الدنيا، ليلعبوا ما شاء لهم أن يلعبوا، وليجمعوا ما طاب لهم أن يجمعوا، أما أنت أيها المؤمن، فشعارك أن تردد قول الله جل وتعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
فهنيئاً لمن اتصف بصفات الإيمان، وهنيئاً لمن لبس حلة الإيمان، وهنيئاً لمن تزين بزينة الإيمان.
وإنه لمن نعم الله الكبرى على هذه الأمة، ونعمه سبحانه لا تعد ولا تحصى، أن هناك عدداً كبيراً من شباب هذه الأمة، ذكوراً وإناثاً، بدءوا يتجهون للإسلام الذي أنزله الله.
فما تكاد تمد عينيك في أفراد جمعية من بعض جمعيات العالم الإسلامي، أو تنظر في مصلين في مسجد من مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وشماليها وجنوبيها، إلا وترى شباباً يمثلون هذه الصحوة المباركة، وترى كثيراً من تعاليم الإسلام ظاهراً في محياهم، وكثيراً من محاسن وفضائل الشرع بادياً في وجوههم، فالكثير منهم ولله الحمد والمنة صدورهم أوعية لكتاب الله، وعقولهم مليئة بتصورات الإسلام الصحيحة وعبادتهم ترجمة عملية لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقاءاتهم معمورة بما يزيد في إيمانهم ويرسخ يقينهم، يحبون ما أحب الله، ويبغضون ما أبغض الله، ويرضون ما رضيه الله، ويُسخطون ما يسخطه الله، مما يشعر في الجملة، بتأهيلهم لولاية الله لهم.
أيها المؤمنون: إن فيما سمعتم من جمل في قيمة المؤمن، وفيما بشرتم به من انتشار هذه الأوصاف الإيمانية، في صفوف كثير من شباب وشابات المسلمين، أقول: إن هذا وغيره ليدعو كل أب وكل أم، وكل من في قلبه شعلة من مشاعل الإيمان، حاكماً أو محكوماً، أميراً أو مأموراً، وجيهاً أو وضيعاً، ما دام أنه يشهد أن لا إله إلا الله، فإن هذه الشهادة تدعوه، وتدعو كل فرد من أفراد المسلمين أن يُسّر ويستبشر بهذا النوع.
لابد أن نفرح أيها الأحبة، لو كثر هذا الشباب المؤمن بيننا، بل ينبغي لكل أب أن يتمنى أن يكون أولاده مشاعل إيمان، يحملون كتاب الله، ويعبدونه حق عبادته ويدعون لعبادة الله حق عبادته، وحذاري ثم حذاري من إغضاب هؤلاء المؤمنين، أو إيذاء هؤلاء المؤمنين. فمن آذاهم فقد آذى الله ، ومن أغضبهم فقد أغضب الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) وفي صحيح مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمر المزني رضي الله عنه أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر رضي الله عنه أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ((يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك)) ، فآتاهم فقال: يا إخوتاه أأغضبتكم؟ قالوا: لا يغفر الله لك يا أخي.
وإنه لمن العجب، بل إنه لمن السفه وعدم إدراك عواقب الأمور أن بعض الآباء وبعض أولياء الأمور لا يريدون من أولادهم أن يظهروا بمظاهر الإيمان، يرضون لهم الفساد، ولا يرضون لهم الصلاح، يزعجهم أن يروا بوادر الخير على الناشئة من أولادهم. بل قد يتعرضون لهم ويؤذونهم، ويقاومون الخير والاستقامة الذي يحملونه.
فيا أيها الآباء، ويا أولياء الأمور إن نذر الله واضحة معلومة من التعرض لهم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ويقول: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)).
فلنتق الله أيها المسلمون المؤمنون.
نوالي من والى الله، ونعادي من عادى الله، بل ونحرص ونجتهد أن نكون نحن من أهل ولايته الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وأن يدرك كل مؤمن قيمة نفسه، والقيمة الحقيقية للإيمان الذي يحمله، وبذلك يستطيع المؤمن أن يقدم الدور، ويؤدي الدور الذي يريده منه رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الأخ المؤمن: وبعد أن عرفت شيئاً من قيمتك الحقيقية، وبعد أن أدركت منزلتك عند الله، وأن الله سبحانه وتعالى، وهو مستوٍ على عرشه، عالِ على خلقه، ويغضبه لو اعتدى عليه بدون وجه حق، إما بسب أو شتم أو ضرب أو ظلم، أو غير ذلك.
أقول إذا علمت شيئاً من هذا أخي المؤمن، فإنه لا يبقى أمامك الآن إلا أن تتمسك بهذا الإيمان، ثم تدفع زكاة هذا الإيمان بالعمل، لكي ينفع، وليس أي عمل، بل بصالح الأعمال، فإن الإيمان بلا عمل، كالروح بلا جسد.
إنه ينبغي لكل مؤمن أدرك هذه الحقيقة أن يتفاعل معها، ويستثمر هذه المعرفة بالأعمال الصالحة، وفي مقدمتها بعد الأركان الخمس: الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكلما أدرك العبد المؤمن الثمرات التي سوف يجنيها نتيجة الإيمان والعمل الصالح مع الإخلاص لله عز وجل، زاده ذلك عملاً وجهداً وبذلاً وتضحية.
استمع أخي المؤمن، معي إلى هذه الآيات الكريمات، فارعني سمعك وقلبك، وأنا أقرؤها عليك لتدرك قيمة المؤمن عند الله.
ولتدرك شيئاً من ثمرات الإيمان والعمل الصالح، ولا أظن أن هذه الآيات تحتاج إلى تعليق أو تفسير أو بيان.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها.
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم.
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم في الجنة غرفاً.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون.
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون.
الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات.
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته.
ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية.
ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً.
فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه.
ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فنسأل الله جل وعز أن يستجيب لنا
(1/1270)
قيادة المرأة للسيارة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تظاهرة النساء الأولى المطالبة بالسماح لهن بقيادة السيارة. 2- تكرر الحدث بعد سبع سنين
. 3- أسئلة يفرضها الحدث عن خلفياته – والجهات الداعمة له. 4- موقف المسلم في هذه
القضية. 5- المفاسد المترتبة على قيادة المرأة للسيارة. 6- شبه يدعيها الأدعياء للتمكين لهذه
المؤامرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: إنا نعوذ بالله من الفتن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
يقول الله تعالى: واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب إن الفتن أيها الأحبة لو نزلت فإنها لا تخص صاحبها بل قد يُخشى عليه وعلى غيره منها، وهل هناك فتنة أشد وأخطر من فتنة النساء، وما أدراكم ما فتنة النساء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).
إن المرأة إذا فسدت وانحرفت فقل على ذلك البيت أو على ذلك المجتمع: السلام.
أظن أن الجميع قد سمع بالمظاهرة النسائية التي قامت بها بعض النساء في مدينة الرياض بالأمس يطالبن فيها بقيادة المرأة للسيارة، وقد خرجن قرابة 300 امرأة يقدن السيارات في بعض شوارع الرياض.
عجيب هذا الحدث الذي قد حصل مثله قبل سبع سنوات، وقد جاء المنع بعده من هيئة كبار العلماء، وأيضاً خرج بيان من وزارة الداخلية تمنع مثل هذا الأمر، وفي وقتها أُدب غالب النسوة، وقد فُصل بعضهن من وظائفهن، وبعد مرور سبع سنوات يعدن الكرّة مرة أخرى.
انه لينقدح في الذهن عدة أسئلة تحتاج إلى جواب تجاه هذا الحدث:
س1: هل يمكن أن يجرؤ نساء على القيام بمثل هذا العمل، ونحن نعلم أن من طبيعة المرأة أنها ضعيفة، وأنها تخاف أحياناً حتى من ظلها؟.
س2: أين أولياء أمور هؤلاء النسوة، أين أبوها وأين أخوها بل وأين زوجها، لأن عدداً من الذين خرجن في المظاهرة متزوجات، هل عندهم علم بالموضوع؟ وهل هم من الذين شاركوا في ترتيب هذه المظاهرة؟ وإن لم يكن عندهم علم فهل هم الآن راضون بما فعلن بناتهن وزوجاتهن؟ ثم ما هي حال هذه الأسرة من المحافظة والحشمة والطهر حتى تتجرأ المرأة وتخرج وتقوم بمثل هذا العمل والزوج أو الأب لايدري ؟.
س3: هل تعودنا نحن في هذا البلد أن يقام عندنا مظاهرات؟ إنها المظاهرة الثانية من نوعها ومن نفس الفئة ولنفس المطالب، وإلا فلا نعلم أن بلدنا بلد مظاهرات ولله الحمد، ما هي حالات وأوضاع البلاد التي ابتلوا بالمظاهرات، إن أوضاعهم لسيئة، يصل الحال في بعض الحالات إلى فقدان الأمن واختلال التوازن في الحكومات، ويحصل بسببها أضرار وخسائر، بل ربما ضحايا.
وأظن أنكم سمعتم قبل أيام بالمظاهرات التي حصلت في بنجلادش، بسبب انقطاع الإرسال عن البث المباشر، والناس كانت تتابع مباريات كأس العالم، ماذا حصل؟ تضجر الناس وخرجوا بمظاهرة، وقاموا بتكسير وتحطيم محطة التلفزيون. هكذا تعودوا، وهذا وضع غالب البلدان إلا قليلا، ونحن من هؤلاء القليل، فيجب أن نحمد الله على هذه النعمة، وأن يوقف هذا التجاوز ولا يسمح له بأي حال من الأحوال، وإلا لو انفرط العقد فتلك هي المصيبة، وإنه لبداية لاختلال الأمن نسأل الله جل وتعالى أن لا يكون.
س4: هل كل من له مطالبة ويريد تحقيق أمر ما يخرج بمظاهرة؟ مصيبة !!. تخيلوا بعض العمال في أية شركة كانت لهم مطالب ثم لم يتمكنوا من تحقيقه، فخرجوا بمظاهرة، أو هناك بعض المدرسين كانت لهم بعض الاقتراحات فلم يُسمع لهم فخرجوا بمظاهرة، وهناك بعض طلاب الجامعات كانت لهم آراء معينة فخرجوا بمظاهرة، وهكذا، فوضى، لصار البلد فوضى، ونحن نعلم أن أبواب المسئولين مفتوحة لكل شكوى أو رأي أو اقتراح، ثم هناك وسائل ووسائل كثيرة جداً لايصال الرأي أو الاقتراح، فهناك الكتابة للمسئولين، وهناك الحديث المباشر، وهناك الهاتف، وهناك البرقيات، وهناك وهناك، فلم يبق وسيلة من هؤلاء النسوة إلا الخروج بمظاهرة.
س5: هل القيام بمثل هذه الأعمال يعتبر وسيلة ضغط على الدولة لكي تغير قراراتها نعلم جميعاً بأنه قد صدر بيان من وزارة الداخلية عام 1411هـ بمنع جميع النساء من قيادة السيارات في المملكة، وإليكم البيان السابق (ثم يقرأ البيان).
فماذا يعني القيام بمثل هذه المظاهرات، والجميع رجالاً ونساءً يعلمون موقف الدولة من هذا الأمر؟.
س6: هل اللاتي خرجن في هذه المظاهرة وهنّ يطالبن بقيادة المرأة للسيرة ممن يشهد لهنّ بالصلاح والاستقامة؟ وهل هنّ معروفات في البلد بالدين وحضور المحاضرات والدروس؟ وهل هن ممن يشاركن في الدعوة الى الله وحب الخير والسعي والبذل من أجله؟ أم أن الشريحة التي خرجت يعرفن بغير ذلك، وربما كانت الواحدة منهن مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير؟
س7: هل هؤلاء النسوة ممن شاركن في هذه المظاهرة يمثلن المجتمع كله؟ وهل هذا هو رأي الجميع؟ بمعنى أنهنّ عملن استفتاء وكان رأي الغالبية هو هذا؟ أم أن هذا يمثل شريحة شاذة لا تمثل إلا نفسها، والمعروف عن مجتمع هذا البلد هو عكس هذا، وأنه على رأي علمائه وولاته ومسؤوليه، وأنه ما يزال هو المجتمع المحافظ من بين كل المجتمعات، وأنه يفتخر بهذا بعد حمد الله وشكره على هذه النعمة، بل ولا يرضى مجتمعنا أن يكون سقوطه وتدهوره على أيدى نسوة أقل ما يقال فيهن السفه والفسق وقلة الحياء.
س8: ما موقفنا وماذا يجب علينا تجاه ما حصل؟
الجواب: أنه يجب على كل من لديه غيرة أن يستنكر مثل هذا الحدث، وأن لايرضى به، خصوصاً وأن المقصود به هو نساؤنا وبناتنا، إن سكوتنا عن المنكرات يا عباد الله قضية خطيرة، وعاقبتها وخيمة، ولا يجوز لنا أن نسكت عن أي منكر لأن النتيجة هو اللعن من رب العالمين كما لعن بنو إسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون.
إن خروج المرأة وقيادتها للسيارة عندنا ليس في صالح أحد، إلا أصحاب الشهوات والأغراض الدنيئة، والمرأة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) [رواه مسلم في الصحيح].
لكن كما قال الشاعر:
أين القلوب أما تحسّ وتشعر
فتن النساء أشدهن وأخطر
ووراءها سيف الدسائس يُشهر
وقلوبهم بلظى المفاتن تُصهر
بنت المكارم في البيوت وتكسر
إن المبادئ كسرها لا يجبر
بالثوب الطويل زمانها تتستر
فتن البلاء أمامها تستصغر
مما جرى ونخيلها يتذمر
من سوء ما فعل النساء وسطروا
والقدر من فوق الأثافي يطفر
بالدين يمنحها الثبات ويعمر
ولقد يحطم أمة متهور
أين العقول أما لديكم حكمة
إن عدت الفتن العظام فإنما
إني لأسأل كيف تبقى أسرةٌ
إني لأسأل كيف تبقى أسرة
يغشون دعوى السافرات تهدماً
نخشى على الأخلاق كسراً بالغاً
ماذا نقول لكعبة الله التي
نخشى على أوطاننا من فتنة
رمل الجزيرة كاد يطحن بعضه
وجبالها الشم الرواسي تشتكى
فالنار تأكل كل شيء حولها
فبلادنا بين البلاد تميزت
قد تهدم السد المشيد فأرةٌ
أيها المسلمون: عباد الله: إليكم بعض المفاسد المترتبة على قيادة المرأة للسيارة:
فمن المفاسد: نزع الحجاب، لأن قيادة المرأة للسيارة سيكون بها كشف الوجه الذي هو محل الفتنة ومحط أنظار الرجال، ربما يقول قائل: إنه يمكن أن تقود المرأة للسيارة بدون نزع الحجاب، وذلك بأن تتلثم المرأة ولا يظهر إلا عينيها، وحتى العينين يمكن أن تلبس عليهما نظارتين سوداوين.
الجواب: هذا خلاف الواقع من عاشقات قيادة السيارة، واسأل من شاهدهن خارج هذه البلاد، وعلى فرض أنه يمكن تطبيقه في ابتداء الأمر، فإن هذا لن يدوم طويلاً، بل سيتحول الأمر في المدى القريب إلى ما كانت عليه النساء في البلاد الأخرى كما هي سنة التطور المتدهور في أمور بدأت هينة مقبولة بعض الشيء ثم تدهورت منحدرة إلى محاذير مرفوضة.
ومن المفاسد: نزع الحياء من المرأة، والحياء من الايمان كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحياء هو الخلق الكريم الذي تقتضيه طبيعة المرأة وتحتمي به من التعرض للفتنة، فإذا نزع الحياء من المرأة فلا تسأل عنها.
ومن المفاسد أيضاً: أنها سبب لكثرة خروج المرأة من البيت، والبيت خير لها كما قال ذلك أعلم الخلق بصالح الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، لأن عاشقي القيادة يرون فيها متعة، ولذا تجدهم يتجولون بسياراتهم هنا وهناك بدون حاجة لما يحصل لهم من المتعة بالقيادة.
ومن المفاسد: أنها سبب لتمرد المرأة على أهلها وزوجها، فلأدنى سبب يثيرها في البيت تخرج منه وتذهب في سيارتها إلى حيث ترى أنها تروح عن نفسها فيه كما يحصل ذلك من بعض الشباب وهم أقوى تحملاً من المرأة.
ومن المفاسد: أنها سبب للفتنة في مواقف عديدة: في الوقوف عند إشارات الطريق في الوقوف عند محطات البنزين، في الوقوف عند نقط التفتيش، في الوقوف عند رجال المرور عند التحقيق في مخالفة أو حادث، في الوقوف عند خلل يقع في السيارة في أثناء الطريق، فتحتاج المرأة إلى إسعافها فماذا تكون حالها حينئذ؟ ربما تصادف رجلاً سافلاً يساومها على عرضها في تخليصها من محنتها لاسيما إذا عظمت حاجتها حتى بلغت حد الضرورة.
ومن المفاسد: كثرة الزحام في الشوارع، فنحن نعاني من الزحام، والمرأة لم تمكن بعد فكيف لو زاد عدد السيارات إلى الضعف أو أكثر من ذلك.
ومن المفاسد: كثرة النفقة، فإن كثيراً من الأسر تعاني اليوم من ارتفاع في مستوى المعيشة مع بقاء الراتب على ما هو عليه، وآلاف من الأسر يعانون من الديون والأقساط الشهرية، فكيف الحال لو زاد الأمر على ذلك بشراء سيارات لنساء وبنات البيت الواحد.
ومن المفاسد: كثرة الحوادث لأن المرأة بمقتضى طبيعتها أقل من الرجل حزماً وأقصر نظراً وأعجز قدرة في التصرف عند مداهمة الخطر.
ومن المفاسد: فتح أبواب أخرى من الفساد تصب في خانة إخراج المرأة من بيتها ومخالطة الرجال، إذ يستلزم ذلك الانتقال للمرحلة التالية وهي قولهم: فإذا قادت المرأة قالوا: ألا يكون هناك شرطيات أيضاً ونساء مرور ونحوها من الدوائر ذات العلاقة ليُفتح بذلك أبواباً مغلقة لم تكن تخطر لأحد على بال، وإذا صارت المرأة شرطية فلا بد أن تعرف بذلك وهذا سيدعو قطعاً إلى كشف وجهها، إذ كيف يعرف الناس أنها شرطية إلا بما يدل على ذلك من لباس وبطاقة ونحوها، ولنا في جيراننا عبرة لمن أراد أن يتذكر.
ومن المفاسد: أن يتوسع بعد ذلك في القطاع الخاص، فتنشأ ورش السيارات الخاصة بالنساء، ويتطلب ذلك تدريب كوادر وطنية للقيام بمهنة الميكانيكا والسمكرة والكهرباء، كما يتطلب ذلك فتح محلات لتأجير السيارات للنساء ومحلات لقطع الغيار، فيتسع الخرق على الراقع ويصعب التحكم فيه وضبطه، كما أن كل مجال يفتح يحتاج إلى عاملات، وبهذا يتحقق هدف أهل الشر في إخراج المرأة من بيتها وتدمير الأسرة المسلمة وإهمال البيت والأطفال وفتحهم على أبواب الضياع كما هو حاصل في الغرب.
ومن المفاسد: تهيئة الجو للفساد الأخلاقي الذي عم وطم وبدا يتطاير شرره، فتزداد معاكسة النساء بصورة لم يسبق لها مثيل، وتتيسر سبلها أكثر، وإذا كانت المعاكسات تحصل للمرأة مع وجود والدتها معها بل ومع زوجها أحياناً، فما بالك إذا انفردت لوحدها، هذا إذا كانت المرأة صالحة، أما المرأة الفاسدة فيتيسر لها ما كان صعب المنال بلا رقيب ولا حسيب، وما أكثرهن للأسف الشديد.
ومن المفاسد: تعريض المرأة للمخاطر العظيمة من المساومة على العرض ممن قل دينه إذا تعطلت في الأماكن النائية، والمرأة ضعيفة الشخصية.
ومن المفاسد: أنها سبب لسفر المرأة بدون محرم، وحينئذ تقع الطامة الكبرى، حيث المخاطر الكبيرة، وإذا كن اليوم يسافرن في الطائرات والقاطرات والحافلات بدون محرم، فماذا يمنعها من السفر بالسيارة؟!، والسفر مُحرّم بدون محرم ولو لليلة ولو لعمل ووظيفة، فعن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يَحِلُّ لِإمْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُسَافِرُ مَسيِرَةَ لَيْلَةٍ إلا وَمَعَهَا رَجُلٌ ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا)) [رواه مسلم].
ومن المفاسد: أن من رأى جرأة النساء في الركوب مع سيارات الليموزين الآن لوحدهن مع علمهن بحوادث الاغتصاب، علم أنهن لو قدن السيارات لفعلن الأفاعيل ثم الفتنة ليست خوفاً على المرأة فقط بل يخشى على الرجال من الوقوع في المحرم بكثرة النساء في الشوارع والطرقات.
وأخيراً تخيل معي يا أخي الحبيب هذا المنظر: تأتي الأم إلى مدرسة ثانوية لتأخذ ولدها الذي لم يصل إلى سن القيادة من المدرسة حيث الرجال يحيطون بها من كل جانب، أو تمر على زوجها في العمل لتأخذه معها إلى البيت.
فهل بعد ذكر هذه المفاسد وهي على سبيل المثال لا الحصر يشك مسلم في حرمة قيادة المرأة للسيارة.
وختاماً ينبغي أن تعلم يا عبد الله بأن هذا الحكم وهو الحرمة هو الذي يفتي به علماء هذه البلاد، وعلى رأسهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي عام المملكة.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
هناك بعض الشبه يطرحها أولئك الذين يسعون لتمكين المرأة أن تقود السيارة في هذه البلاد، وقد سبقت لهم بعض الكتابات في الآونة الأخيرة في هذا الموضوع.
فمن شبههم أن الأصل في قيادة المرأة للسيارة الإباحة، وقد كان نساء الصحابة يركبن الدواب بلا نكير فأي فرق بين الحالين؟
الجواب: أن كل وسيلة تفضي إلى محرم فإنه يحرّم سداً للذريعة، وأيضاً ما كانت مفاسده غالبة على مصالحه فإنه أيضاً يحرّم من هذا الباب، ومن تأمل في المفاسد التي ذكرناها في الخطبة الأولى يدرك سبب تحريم العلماء قيادة المرأة للسيارة.
وأيضاً من الشبه التي تتطرح: أن قيادة المرأة للسيارة خير من ركوبها مع السائق الأجنبي بدون محرم.
الجواب: أن كلا الأمرين خطأ، والخطأ لا يعالج بالخطأ.
لاشك عندنا جميعاً أن المخدرات ضررها وخطورتها أشد بكثير من الخمر، بل إنها فتكها بالمجتمعات أشد من الخمور، فإذا قال قائل: بما أن المخدرات قد انتشرت في أوساط الشباب فالحل هو أن نسمح بالخمور وأن يرخص لها. الجواب أن كلا الأمرين خطأ، والخطأ لا يعالج بالخطأ. ومثل هذا يقال أن قيادتها لوحدها خير من ركوبها مع السائق الأجنبي بدون محرم.
ثم يقال أيضاً بأن قيادة المرأة للسيارة ضررها عام عليها وعلى سائر من تقابله من الرجال للفتنة بها، أما السائق فضرره على أهل البيت الواحد، والضرر العام مقدم على الضرر الخاص.
ثم لو سلمنا بأن قيادة المرأة لوحدها خير من ركوبها مع السائق الأجنبي بدون محرم، فمن الذي يضمن لنا أنه في اليوم الثاني من صدور الأمر بالسماح للمرأة بالقيادة سيصدر الأمر بمنع اقتناء أية أسرة لسائق أجنبي، ولنا في جيراننا عبرة، فالأب يملك سيارة، والأم تملك سيارة، والابن يملك سيارة، والبنت تملك سيارة، وفي البيت أيضاً سائق أجنبي ويركبن معه وبدون محرم.
أيها المسلمون: إن الأصل في المرأة القرار في البيت وعدم الخروج، قال الله تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً إذا كان هذا أيها الأحبة في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهنّ من هنّ في الطهر والعفاف، فغيرهنّ أولى.
(1/1271)
هكذا كان الصحابة
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/6/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سمى الصحابة ببذلهم وإخلاصهم لله. 2- بذل صهيب الرومي. 3- بذل الصحابة في
الخندق ، وعظيم استجابتهم في بدر. 4- محبة زيد بن الدثنة لرسول الله. 5- تضحية خبيب بن
عدي. 6- امرأة من بني دنار تفقد زوجها وأباها وأخاها ثم تقدم محبة رسول الله على ذلك كله.
7- تآخي المهاجرين والأنصار. 8- حقد الرافضة على الصحابة طعن في أصول الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الصحابة رضي الله عنهم، هم صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل، تحقق فيهم رضي الله عنهم ما لم يتحقق في غيرهم من بدء الخليقة، ولن يتحقق في غيرهم حتى قيام الساعة. إن عوامل الخير تجمعت فيهم ما لم يتجمع في جيل قبلهم ولن يتجمع في جيل بعدهم، فهم بحق كما وصفهم صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه في معالمه، جيل قرآني فريد.
كان لهم من الشرف والكرامة عند الله جل وعلا ما ليس لغيرهم، لماذا هذا الشرف؟ ولماذا هذه الكرامة؟ هل تدرون لماذا أيها الأحبة: لأنهم أخلصوا دينهم لله، وجردوا متابعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم على التمام والكمال ودافعوا عنه في جميع الأحوال، لقد هان عليهم في سبيل هذا الدين الأموال والأرواح والدماء، غادروا الأوطان وهي عزيزة عليهم، راضين مختارين، تاركين ورائهم كل شيء، والعجيب في تضحية أولئك الرجال، أن مغادرتهم وذهابهم كان إلى أراضيٍ لا عهد لهم بها، لا يعرفون شيئاً عن تلك البلاد التي ذهبوا إليها، ذهبوا إلى أمم لا نسب لهم بها، ولا ألفة بينهم وبين أهلها ومكثوا وراء البحر في بلاد الحبشة، سنين وأعواماً حتى أعز الله دينه، ونصر جنده، وأعلى كلمته خرجوا من مكة مهاجرين إلى المدينة، كل على قدر حاله وقوته، إما سراً وإما إعلاناً، وكان من جملة المهاجرين من مكة صهيب الرومي رضي الله عنه، تبعه نفر من قريش فقالوا له: أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا، فبلغت ما بلغت ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك. فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي، وخليتم سبيلي قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع)) فنزل قول الله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد. هكذا كانوا رضي الله عنهم إذا طمع غيرهم في المال والمتاع، جعلوه فداءً لعقيدتهم.
وأما دفاعهم وذبهم رضي الله عنهم، عن نبيهم، واسترخاصهم كل شيء في سبيل ذلك فقد نوه الله عز وجل بذلك، وسجله لهم في كتابه العزيز بقوله: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
لقد حفظت لنا كتب السيرة والتواريخ ما أجاب به المهاجرون والأنصار النبي صلى الله عليه وسلم، من القول الدال على عظيم استجابتهم لله ولرسوله في غزوة بدر لما لاقوا العدو على غير ميعاد وغير استعداد، قام فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: ((أشيروا عليّ أيها الناس، فقام الصديق فقال وأحسن القول، ثم قام عمر فقال وأحسن القول، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله: امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لوسرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه ثم قام سعد بن معاذ، فقال، والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر بنا على بركة الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)).
وإذا تأمل الإنسان مساومة قريش لزيد بن الدثنة، عندما أخرجته قريش من مكة لتقتله في الحل، بعد أن أسر هو وخبيب بن عدي يوم الرجيع، أي رأى صلابة الصحابة في الدين، وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولتملّكه العجب كما تملّك أبا سفيان بن حرب، فإنه قال لزيد بن الدثنة عندما قُدّم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي، قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً.
أما خبيب بن عدي رضي الله عنه ، فعندما أراد مشركو مكة قتله، سطر أبياناً تكتب بماء الذهب، طلب منهم أن يصلي ركعتين، فعندما صلى التفت إليهم قائلاً:
واستجمعوا كل مُجمعِ
علىّ لأني في وصالٍ بمضبع
وقُربت من جذع طويل ممنع
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطمعي
وقد هملت عيناني من غير مجزع
ولكن حذاري جسم نار ملفح
على أي جنب كان في الله مصرعي
يبارك لي أوصال شلو ممزع
ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم
وكلهم مبدي العداوة جاهدٌ
وقد جمعوا أبنائهم ونسائهم
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
فيارب صبرني على ما يراد بي
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وما بي حذار الموت إني لميت
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
ولست بمبد للعدو تخشعاً
أيها الأحبة: وليس هذا التفاني والإخلاص أحرزه الرجال دون النساء، بل كانوا جميعاً سواء، يتسابقون في مرضاة الله ورسوله، ويتهافتون على حياض الموت في سبيل الله، وما قصة تلك المرأة من بني دينار التي أصيب زوجها وأخوها وأبوها في غزوة أحد، فلما جاءها نعيهم، ماذا فعلت، وماذا قالت؟ قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه لا يهمها زوجها ولا أخوها ولا أبوها، إنها لا تسأل إلا عن رسولها صلى الله عليه وسلم. فطلبت أن تراه لكي تطمئن، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، أي لا شيء. أي بشر كان هؤلاء، أنهم ولا شك بشر لكن عجبٌ من البشر.
وأما بذلهم للمال والمتاع، فوالله الذي لا إله إلا هو لم تشهد الأرض في مسيرة بني آدم الطويلة عليها أن توارث قوم فيما بينهم من غير قرابة ولا رابطة دم، وعن طواعية واختيار إلا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تتفجر ينابيع السخاء والكرم في أمة من الأمم، كما تفجرت في جيل الصحابة، ولذلك استحقوا ثناء الله عز وجل عليهم، الذي تتلوه الألسنة على الدوام وعلى مر السنين والأعوام: والذين تبوأو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
إن الصحابة رضي الله عنهم هم أعلام الفضيلة، ودعاة الهداية، هم الذين حملوا نور الإسلام في أنحاء المعمورة، بهم أنقذ الله البشرية من أغلال الوثنية، أرسوا قواعد الحق والخير والعدل، نشروا كلمة الله حتى علت في الأرض، ورفرف علم الإسلام في الآفاق. لقد بذلوا في سبيل ذلك قصارى جهدهم، سهروا من أجل تبليغ كلمة الله، ونشرها ليلاً ونهاراً، دون ملل أو كلل، بل كانوا كما أخبر الله عنهم: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا. لم يميلوا إلى دعة ولا أخلدوا إلى راحة، ولم تغرهم الحياة الدنيا بزخارفها، وبهرجها، ضحوا بكل غال ورخيص لكي يخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
هؤلاء هم الصحابة أيها الأحبة، بشر كما قلت لكن عجب من البشر، قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه، وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله، واستقر دينه، ووضحت أعلامه، فأذل الله بهم الشرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، حتى صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فرضوان الله ورحمته على تلك النفوس الزكية، والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم. ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وكانوا على الهدى المستقيم.
اللهم صل على محمد، وارضى الله عن خلفائه الأربعة أبو بكر..
وعن سائر الصحابة والتابعين.
أقول هذا القول..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الصحابة هم علماء الأمة، وهم أعلم الناس، بل إن من جاء بعدهم من علماء الأمة تلاميذهم، فهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم الأرض شرقاً وغرباً هم تلاميذ تلاميذهم، لأنهم حرصوا على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذوا عنه الكتاب والسنة، ثم بلغوهما إلى من جاء بعدهم، من غير زيادة ولا نقصان، إذاً هم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كل الأمة ممن جاء بعدهم. فمن قدح في تلك الواسطة فقد قدح في الدين، إذ القدح في الناقل قدح في المنقول، ما بالكم إذا تعدى الأمر إلى السب والتفسيق بل والتكفير يقول عليه الصلاة والسلام كما في البخاري: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه)) ثم يأتي من دينهم سب الصحابة، وعقيدتهم الطعن في الصحابة، وملتهم أن يجعلوا الصحابة غرضاً لمطاعنهم القبيحة، فامتلأت قلوبهم بالغل والكراهية والحقد لهم، وترتب على هذا أنهم لم يقبلوا أي شيء جاء عن طريقهم، فتكون النتيجة الطبيعية أن يخترعوا لأنفسهم ديناً جديداً من عقولهم، بعيداً كل البعد عن الإسلام الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
عجبٌ والله، كيف يطعن في أناس اختارهم الله أن يكونوا هم جلساء الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم ثلته وجماعته. الذين يرافقونه في سفره وإقامته، وفي ذهابه ومجيئه.
إن هؤلاء القوم وصل بهم القبح والوقاحة والبعد عن الإسلام أنهم طعنوا حتى في زوجته.
هل تدرون أيها الأحبة ما يعني هذا؟ إنه طعن في الرسالة نفسها، وطعن ومسبة للرسول صلى الله عليه وسلم نفسه.
ولنا عودة إلى هذا الموضوع، وإلى هذه الطائفة بشيء من التفصيل من تاريخهم الأسود، ومواقفهم السفيهة ومعتقداتهم الباطلة.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وبالأخص منهم أبو بكر وعمر..
(1/1272)
موعظة عن الآخرة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, الموت والحشر, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كربات الموت وأهواله. 2- الخروج من القبر يوم القيامة. 3- هول المطلع. 4- أهوال
القيامة (الميزان – الحساب – الصراط – النار).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقال سبحانه: وذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى. فهذه خطبة تذكيرية، مادتها معروفة، لكننا ننشغل فننسى، فنحتاج إلى محطات نقف فيها مع أنفسنا، فأذكر نفسي المقصرة أولاً ثم أذكرك أخي المسلم.
أذكرك بصرعة الموت لنفسك، ونزعه لروحك، وكربه وسكراته، وغصصه وغمه، أذكرك يا أخي إذا جاءك ملك الموت، لجذب الروح من قدميك، ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك، حتى إذا بلغ منك الكرْب والوجع منتهاه، وعمت الآلام جميع بدنك، وقلبك وجل محزون، منتظر إما البشرى من الله بالرضا، وإما بالغضب.. فبينما أنت في كربك وغمومك، وشدة حزنك لارتقابك إحدى البشريين، إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك، وأذكرك يا أخي بنزولك القبر، وهول مطلعه، ومجيئ الملكين منكر ونكير، وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك ؟.. تصور أصواتها عند ندائهما لك، لتجلس لسؤالهما لك، وتصور جلستك في ضيق قبرك، وقد سقط الكفن عن حقويك، والقطن من عينيك وأذنيك، ثم تخيّل شخوصك ببصرك إليهما، وتأملك لصورتيهما، فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور، وإن رأيتهما بأقبح صورة، أيقنت بالخسارة والهلاك.
تفكر في مشيبك والمآب ودفنك بعد عزك في التراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه تقيم به إلى يوم الحساب
وفي أوصال جسمك حين تبقى مقطعة ممزقة الإهاب
خلقت من التراب فعدت حياً وعُلمت الفصيح من الخطاب
وعدت إلى التراب فصرت فيه كأنك ما خرجت من التراب
أخي المسلم: كيف يكون شعورك، إذا ثبتك الله جل وعلا ونظرت إلى ما أعدّ الله لك، تصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم، وبهجة الملك، وإن كانت الأخرى، نسأل الله السلامة والعافية، فتصور ضد ذلك من انتهارك، ومعاينتك جهنم، وقولها لك، هذا منزلك ومصيرك، فيا لها من حسرة، ويا لها من ندامة، ويا لها من عثرة لا تقال. ثم بعد ذلك الفناء والبلاء، حتى تنقطع الأوصال، وتتفتت العظام، حتى إذا تكاملت عدة الأموات، وقد بقى الجبار منفرداً بعظمته وجلاله وكبريائه، ثم لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جل وعلا: واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج. عندها يأمر الله ملكاً أن ينادي أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.. تصور وقوع الصوت في سمعك ودعائك للعرض على مالك الملك، فيطير فؤادك، ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جل وعلا: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة فبينما أنت في فزع من الصوت، إذ سمعت بانشقاق الأرض، فخرجت مغبراً من غبار قبرك قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً وقال تعالى: خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع.. فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك، في زحمة الخلائق، خاشعة أبصارهم, وأصواتهم ترهقهم ذلة وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً ثم تصور إقبال الوحوش من البراري، منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة، فبعد توحشها من الخلائق، ذلت ليوم النشور وإذا الوحوش حشرت وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق، مع كثافة سمكها، والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء، كما قال تعالى: وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها وقال جل جلاله: فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدِهان فتصور وقوفك منفرداً عرياناً حافياً، وقد أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال، اشتد الكرب، واشتد الوهج من حر الشمس، ثم ازدحمت الأمم، وتدافعت وتضايقت، واختلفت الأقدام، وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف، وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام، ولا نوم ولا راحة، وفاض عرقهم إلى الأرض حتى استنقع ثم ارتفع إلى الأبدان، على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم، بالسعادة والشقاوة.. ثم جيئ بجهنم تقاد، ولها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها وجيء يومئذٍ بجهنم يومئذٍ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبته، يقول: يا رب نفسي نفسي، فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع، الذي قد ملأ القلوب رعباً وخوفاً، وقلقاً وذعراً، يا له من موقف ومنظر مزعج.. وأنت أخي المسلم بالتأكيد تكون أحدهم، فتوهم نفسك لكربك، وقد علاك العرق والفزع، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، تصور هذه الخلائق وهم ينادون، كل واحد بنفسه يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وقال سبحانه: يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه.
تصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد، والأخ والصاحب، لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل، ولولا هول ذلك اليوم، ما كان من الكرم والمروءة، أن تفر من أمك وأبيك، وأخيك وبنيك، لكن عظم الخطر وشدة الكرب، اضطرك إلى ذلك إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فبينما أنت في تلك الحالة، مملوء رعباً، وقد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال، إذ ارتفع عنق من النار، يلتقط من أمر بأخذه، فينطوي عليهم، ويلقيهم في النار، فتبتلعهم.
ثم تصور الميزان وعظمته، وقد نصبت لوزن الأعمال، وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل، وقلبك مملوءً خوفاً، لا تدري أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ويصلى سعيراً. فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية. وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه. ماذا فعل؟ وما كان جرمه ؟.. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال، والله أيها الأحبة مجرد تصور هذه الأمور يبكي المؤمن منها حقاً.. عن الحسن رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه في حجر عائشة رضي الله تعالى عنها، فنعس، فتذكرت الآخرة فبكت، فسالت دموعها على خد النبي صلى الله عليه وسلم، فاستيقظ بدموعها، فرفع رأسه فقال: ((ما يبكيك، فقالت: يا رسول الله، ذكرت الآخرة، هل تذكرون أهليكم يوم القيامة، قال: والذي نفسي بيده، في ثلاثة مواطن فإن أحداً لا يذكر إلا نفسه، إذا وضعت الموازين، ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط)).
تصور أخي المسلم، بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا وتقدس، إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله عز وجل.. فقمت أنت لا يقوم غيرك، فقمت ترتعد فرائصك، وتضطرب رجلاك، وقلبك مرتفعاً إلى الحنجرة وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين فيا له من يوم قال الله جل جلاله عنه: فكيف تتقون إن كفرتم يوم يجعل الولدان شيباً. تصور نفسك وبيدك صحيفة، مُحّص فيها الدقيق والجليل، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر، وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله، فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك، وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غداً بين يديه وبأي طرف تنظر إليه، وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم وتوبيخه. فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك، وكم من بلية أحدثتها فذكرتها، وكم من سريرة قد كنت كتمتها، قد ظهرت وبدت، فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وإن كنت لمن الساخرين وقال تعالى: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليقفنّ أحدكم بين يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبينه حجاب يحجبه، ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه، فيقول: ألم أنعم، ألم آتك مالاً، فيقول: بلى، فيقول: ألم أرسل إليك رسولاً، فيقول: بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار، فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) [رواه البخاري].
فأعظم به من موقف وأعظم به من سائل.
أيها المسلمون: ثم هناك الصراط، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم، أدق من الشعر وأحدُّ من السيف، فكيف بك يا أخي لو نظرت إليه بدقته وجهنم تضطرب وتتغيض بأمواجها من تحته، فياله من منظر ما أفظعه، ويا له من مشهد ما أهوله، ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر: اركب يا فلان بن فلان، فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك، ولما قيل لك: اركب، طار عقلك رعباً وخوفا، ثم إذا رفعت رجلك وأنت تنتفض لتركب الصراط فوقع قدمك على حدته ودقته، فازداد فزعك، وازداد رجفان قلبك، ورفعت رجلك الأخرى وأنت مضطرب وقد أثقلتك الأوزار وأنت حاملها على ظهرك وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون في النار من بين يديك ومن خلفك، فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك، وقلة حيلتك، وأنت مندهش مما تحتك وأمامك، ممن يسقطون وقد تنكّست هاماتهم وارتفعت أرجلهم، وآخرون يُتخطفون بالكلاليب وتسمع العويل والبكاء بأذنيك، والأصوات المزعجات بين ناظريك، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقىً ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكان ما أهوله، وموقف ما أعظمه، تفكر في حالك يا أخي بعقلك ما دمت على قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه، لعلك أن تتلافى تفريطك، وكلنا مفرط، وتحاسب نفسك، وكلنا مقصر، فيفوت الأوان، وتبوأ بالخيبة والحرمان، فكيف بك إذا بؤت بالخسران، وزلّت رجلك عن الصراط، ووقعت فيما كنت تخاف منه، فلم تشعر إلا والكلاليب قد دخل في جلدك ولحمك، فجذبت به، وسمعت لنداء النار بقوله عز وجل: هل امتلأت وسمعت إجابتها له: هل من مزيد وهي تلتهب في بدنك، لها قصيف في جسدك، ثم لم تلبث أن تمزق جسمك وتساقط لحمك، وبقيت عظامك، ثم كيف بك إذا سقيت من شراب أهل النار والعياذ بالله، كلما قربته إلى فمك لتشرب فيه، شوى وجهك، وتساقط لحمه، ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك، فقطع أمعاءك، كما قال سبحانه: وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم وقال تعالى: ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ.
تصور هذه حالتك، وتزداد عذاباً لو تذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم، فهاجت غصة في فؤادك على ما فاتك من رضي الله عز وجل، وحزناً على نعيم الجنة.
فكيف بك لو تذكرت بعض أقاربك وأصدقائك وقد منّ الله عليهم بدخول الجنة، فزادك ذلك حسرةً وأسفا، قال الله تعالى: ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين فيا خيبة من هذا حاله وهذا مآله، تصور نفسك كلما أردت أن تنطق بكلمة جاءك الجواب: اخسئوا فيها ولا تكلمون وأشد منها حسرة حين تسمع وقع أبوابها قد أطبقت على أهلها إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة عند ذلك يعلم أهل النار أن لا فرج ولا مخرج ولا محيص لهم من عذاب الله، خلود فلا موت، وأحزان لا تنقضي، وهموم لا تنتهي، وسقم لا يبرأ، وقيود لا تُحل، وأغلال لا تُفك، كما قال تعالى: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون وقال تعالى: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق لا يرحم بكاؤهم، ولا يجاب دعاؤهم، ولا تقبل توبتهم، ولا تقال عثرتهم، وهم ينادون بالويل والثبور، ويصرخون بالبكاء والعويل، كما قال سبحانه: وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل وقال تعالى: وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً فنظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك، تدخل أذنيك وعينيك، ولا تقدر على إبعادها عنك إن عذابها كان غراماً إنها ساءت مستقراً ومُقاماً.
فاتقوا الله أيها المسلمون، ضعوا في بالكم هذه الأهوال والعظائم بعقل واعٍ وعزيمة صادقة فإنها حقائق لا خيال، وراجعوا أنفسكم ما دمتم على قيد الحياة، وتوبوا إلى الله توبة نصوحا، وابكوا من خشية الله لعله يرحمكم، ويقيل عثرتكم، فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف، والنار محرقة، والموت قريب.
مثل لنفسك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة وتلق الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ وانظر إليه ترى هل كان ما كانا
لمّا قرأتُ كتاباً لا يغادر لي حرفاً وما كان في سرٍ وإعلانا
قال الجليل خذوه يا ملائكتي مرّوا بعبدي إلى النيران عطشانا
يا رب لا تخزنا يوم الحساب ولا تجعل لنارك فينا اليوم سلطانا
(1/1273)
من خصائص هذه الأمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/5/1412
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب ذلة المسلمين البعد عن دينهم. 2- الغزو الفكري يؤتي ثماره في أمة الإسلام.
3- أمتنا خير الأمم حين نقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- واجبات يطيعها كل
أحد تجاه الأمة المسلمة. 5- رحمة الله بهذه الأمة وعقوبة الأمم السابقة. 6- الاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن من تمام نعمة الله على البشرية أن ختم الديانات السابقة ، بالحنفية السمحة ، بملة الإسلام قال الله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.
وإن من تمام نعمة الله على هذا الدين ، أنه خصه عز وجل بخصائص عظيمة جليلة ، وأفرده سبحانه وتعالى بخيرات لم تكن في الأديان السابقة كاليهودية والنصرانية ، نحب أن نقف مع شيء منها في جمعتنا هذه.
والمتأمل لهذه الخصائص يجد العجب العجاب من عظمة الإسلام وبهائه ورونقه وسموه مما لا تزيد المسلم إلا تمسكاً بها ، وارتباطاً واعتزازاً أيماً اعتزاز.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
أيها المسلمون: ومما لابد من معرفته في هذا الصدد ، أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ومسكنة ، إنما سببه هو الابتعاد عن الدين ، وأننا قد قلبنا له ظهر المجن، واستبدلناه بنفايات الغرب حثالة أفكار المشركين وزبالتهم ، التي لم تزدنا إلا ضعفا ، وقد نجح الغزو الفكري النصراني بالتأثير على الكثرة الكاثرة من المسلمين ، وأدى ذلك إلى انسلاخهم عن الإسلام.
وأثار هذا الغزو الفكري القبيح أشهر من أن تذكر ، وحسبك من ذلك أنك تجد أكثر شبابنا وأبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا ، قد أقبلوا بوجوههم شطر الحضارة الغربية ، بل قل الحظيرة الغربية ، وأشربت أعناقهم إليها ، وتاقت نفوسهم إلى الإنكباب عليها ، ساعدهم في ذلك هوى متبع ، وجهل عميق بالإسلام ، وثمن بخس زهيد في طلب متاع الدنيا الفانية ، الذي باعوا به عزتهم وكرامتهم وأمتهم.
ومع الأسف الشديد ، فإن طلائع هذا الغزو وصل إلى مناهج التعليم في البلاد الإسلامية، وبدأ هذا الأخطبوط في مد أذرعه إلى هذا المعقل الحصين ، فأفسد وأتلف ، ويجب على الأمة الإسلامية وهي مسئولة ومحاسبة على ذلك عند الله سبحانه أن تحفظ هذا المعقل من السقوط والتردي وأن تبرز للمسلمين حقيقة الإسلام وخصائصه ، وكم هو غنيٌ بالحقائق والخصائص.
أيها المسلمون: ومع كل هذا المكر وهذا الكيد ، فإن الله عز وجل حافظ دينه ، ومعليٌ كلمته ، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.
وإن المتأمل في بعض خصائص هذه الأمة ، يجد الروح والإطمئنان ، وهذا هو المطلوب عند التعرض لبعض هذه السمات.
فأول سمات هذه الأمة ، الخيرية قال الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف والتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
فهذه الأمة ، هي خير الأمم ، وأكرم الأمم قاطبة عند الله عز وجل ، كما جاء في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً: ((إنكم تتمنون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) وفي رواية: ((نُكمل يوم القيامة سبعين أمة ، نحن آخرها وخيرها)) فالله عز وجل ، قد أكرمنا وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم. خير الأمم في أعمالها خير الأمم في أخلاقها ، في منازلها في الجنة في مقامها في الموقف ، وهذه الخيرية ما جاءت إلا عن طريق الدين والشرع ، فلأن دين هذه الأمة وشريعتها أكمل الشرائع ، اكتسبت هذه الأمة هذه الخيرية.
فلهذا لا غرابة من محاولة أعداء الدين من الخارج وأذنابهم العلمانيين من الداخل ، أن يضعفوا تمسك الناس بالشريعة ، عن طريق بث سمومهم وزبالة أفكارهم.
ثم إن خيرية هذه الأمة جاءت من تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. فاكتساب الأمة للخيرية ، لأنها أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.فكما قوى هذا الجانب في الأمة ، وحرصت الأمة على زيادة ودعم هذا الأمر ، زاد ذلك وقوى من خيريتها على باقي الأمم ، لكن إذا فرطت الأمة في الأمر بالمعروف وفرطت في النهي عن المنكر ، حتى أدى ذلك إلى انتشار الرذيلة ، وتفشي الأخلاق السيئة ، فأين الخيرية على من سواهم. إذا صارت شوارعنا ومناهجنا وإعلامنا وأسواقنا وأخلاقنا واقتصادنا ، كله يستقي من نتن الغرب والشرق. فأين الخيرية إذن.
ولهذا يعلم المنافقون والعلمانيون الذين يندسون في صفوفنا ، يعلمون جيداً ، بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا مارس دوره الطبيعي ، وبشيء من الحرية ، فإنهم يعلمون جيداً أنه لا مُقام لهم في هذه الأرض، ولهذا يسعون جادين في التضييق على هيئاته وأصحابه ، بكل سبل التضييق وسحب صلاحياتها، كل هذا من جانب، ومن جانب آخر يترأسون هم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
فخيرية هذه الأمة ، بدينها وشرعها ، وإلا لو تساوينا معهم في المعصية ، لكانت الغلبة لهم علينا بالقوة.
أيها المسلمون: ومن سمات هذه الأمة ، أنها أمة الغيث كما وصفها وشبهها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمطر الذي ينتفع به الناس ، قال عليه الصلاة والسلام من حديث أنس عن الترمذي وغيره: ((ومثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خيرٌ أم آخره)) فهذه الأمة ، أمة الغيث لا يدري أوله خير أم آخره ، لأن الغيث كله خير ، وفي كله خير ، في أوله وفي وسطه وفي آخره ، فكل نوبة من نوبات المطر لها فائدة في النماء لا يمكن إنكارها، والحكم بعدم نفعها بل إن كل حبة من حبات المطر له فائدته. فكذلك هذه الأمة ، كل فرد من أفراد هذه الأمة. ينفع ، وكل إنسان بمقدوره أن يقدم الكثير لأمته ولدينه ، لكن المشكلة أن هذا الشعور مفقود بين الناس اليوم. كل يقول: أنا فرد واحد ، وأنا ضعيف الإمكانات ، وماذا عساي أن أقدم ، أمام قوى الشرق والغرب. ثم إني مشغول جداً بأعمال ولدي أطفال ، وزوجة مريضة، وأنا الوحيد لوالدي ، فما إن أنتهي من مشكلة إلا وتتبعها أخرى ، فنقول لك أيها المسلم: مع وجود كل هذه الأمور فيك ، ومع قلة إمكاناتك وضعفها ومع وجود المشاكل عليك، فأنت فرد في أمة الغيث، وأنت أحد حبات المطر ، وبإمكانك أن تقدم لا القليل بل الكثير، وسأضرب لك الآن بعض الأمثلة وبعض الأشياء التي يمكنك أن تقدمها للأمة ، لكن أولاً لابد من وجود هذا الشعور عندك ، وأنك فرد مهم، ولك دورك، وبإمكانك أن تقدم.
فمقدورك أيها المسلم أن تقدم الدعاء ، وهل يعجزك دعاء مخلص تطلقه في أي ساعة من ليل أو نهار مع وجود المشاكل عندك ، ومع كثرة أعباءك وأولادك وأمراضك. لا أظن أن أحداً لا يمكن أن يقدم الدعاء للمسلمين ، تدعوا الله عز وجل بإخلاص وجد وحرص ، أن يفرج هم الأمة وأن ينقذها مما هي فيه.
تخيل أن كل مسلم قدم هذا العمل تخيل أن غالبية المسلمين رفعوا أيديهم إلى الله تعالى ، وهم يجأرون إلى الله ، بتضرع وتذلل أن ينقذ المسلمين من إعتداءات الصرب النصارى مثلاً ، أو من عدوان اليهود ، أو من أية بلية حالة بالمسلمين. ألا يمكن أن يوجد في هذه الملايين من هو مستجاب الدعوة ، فتلقى دعائه باباً مفتوحاً في السماء فيكون فرج طائفة من المسلمين بسبب دعائه. يمكن هذا ، لكن أين الأدعية المخلصة ، ليل نهار.هذا عمل يمكنك أن تقدمه أيها المسلم.
عمل آخر: أن تكف نفسك عما حرّم الله ، هذا عمل لو قدمه كل مسلم للأمة فكم من الخير سوف يعم ، تخيل أن كل مسلم ، وكل صاحب القدرات والإمكانيات كما يقول هو ، تكفل لنا أن يحفظ نفسه عن فعل الحرام، فهذا ترك الزنا ، وذلك ترك شرب الخمر ، والجميع ترك الكذب والغش والسرقة والإعتداء على الآخرين إلى غير ذلك مما حرم الله ، كم تحصل الأمة ، على خير لو كفّ كل مسلم شره عن الآخر.
هذا العمل ، أتعجز عنه أيها المسلم أن تقدمه لأمتك ، هذا العمل ينفعك أنت أولاً ، ولا يحملك وزره يوم القيامة ، إضافة إلى الخير الذي سوف يعم ، فمن الذي لا يستطيع أن يقدم هذا لدينه وأمته ولنفسه.
نريد منك أيها الأخ الكريم أن تؤيد المسلمين في قضاياهم العامة ، تقف في صف مصالح الأمة ، ولا تقف ضدها ، كما يقف الآن ، عدد غير قليل من المنافقين والعلمانيين لصالح أسيادهم من دول الغرب الكافرة، وهم يحسبون على هذه الأمة عندما يعدون إحصائيات السكان، هل وأنت مشغول في قضاياك الخاصة وهمومك الداخلية ، هل يمنعك هذا من أن تقف مع العلماء المخلصين ، والدعاة الناصحين وهم يقدمون النصح للأمة ، لا نريدك أن تفعل شيئاً إذا كنت تقول لا أقدر على شيء ، فقط أيد كلام العلماء ، وقف في صف الدعاة والمصلحين ، ولا تقف ضدهم ، فهذا عمل كبير، فهذا عمل كبير، يمكنك أن تقدمه للأمة.
فلو أفتى العلماء بحرمة التصالح مع اليهود ، نريدك أيها المسلم الذي تقول عن نفسك أنك ضعيف أن تقف في صف هذه الفتوى لا ضدها.
لو تكلم الدعاة وتحرك المصلحون ، وقدموا عملاً طيباً للأمة ، أما جمع تبرعات أو توزيع كتيبات ، أو أي عمل آخر ، لا نريدك أن تتبرع ، نريدك أن تؤيد هذه الأفكار الطيبة وتشجع عليها ، ولا تقف ضدها أو تعترض عليها ، أو تشوش عليها ، وأبقى بعد ذلك مشغولاً في همومك ومشاكلك الخاصة وأعمالك الخاصة.
فهل وعينا هذه القضية أيها الأخوة ، فأنت أيها الأخ الكريم ، قطرة من غيث هذه الأمة ، وكل قطرة كما أسلفنا تنفع بإذن الله ، وبمقدورك أن تقدم الكثير ، ولو أن تشارك المسلمين بمشاعرك الطيبة. فلا تحتقر نفسك ، ولا تنقص من قيمتك ، فكونك مسلماً ، هذه لوحدها أكبر نعمة ، وفائدة عظيمة جداً لك ولغيرك ، فما بالك لو أضيف معها القليل من العمل لخدمة هذا الدين.
فنسأل الله عز وجل أن يستعملنا في طاعته ، وأن يجعلنا جنوداً لخدمة دينه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول ما سمعتم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
روى مسلم في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى إذا أراد رحمة بأمةٍ من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره)). انظروا إلى رحمة الله جل وعز بنا هذه الأمة.
الأمم السابقة كانت إذا خالفت أمر الله ، وخالفت وعصت الرسول الذي أرسل إليها أهلكها الله عز وجل وعذبها ونبيها ينظر إليها أما هذه الأمة ، فمن رحمة الله بنا أن قبض رسوله صلى الله عليه وسلم.
وانظر الآن إلى المخالفات التي تخالفها هذه الأمة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفات على مستوى الأفراد ، مخالفات على مستوى الشعوب ومخالفات على مستوى الدول ومخالفات على مستوى الأمة.
إنه ما من نبي من الأنبياء إلا ورأى عذاب قومه بعينه أو حصل لهم عذاب وهو حي بين ظهرانيهم.
فنوح عليه السلام قد دعا على قومه قال تعالى: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فاستجاب الله له فأهلكهم جميعاً حتى ولد نوح قال سبحانه: ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين وقال سبحانه عن قوم هود: فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين وقال جل وعلا عن قوم صالح: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا يقوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين.
وقال سبحانه عن قوم لوط: فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وقال تبارك وتعالى عن قوم شعيب: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
أما هذه الأمة: فمن تمام رحمة الله بها أن قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها. جاء ملك الجبال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك - وذلك عندما لم يقبلوا دعوته - وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)). قال الله تعالى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون.
قال ابن عباس كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره قال: كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. الرسول صلى الله عليه وسلم قبض ، وكان هو الأمان الأول لهذه الأمة من أن يعذبها الله وبقي الثاني معنا ألا وهو الاستغفار.
فلو قصرنا في هذا، فنسأل الله السلامة والعافية. فنسأل الله عز وجل ، أن يوفق الأمة إلى الاستغفار مما هي واقعة فيه ، أن تستغفر من ولاءها لغير الله ، أن تستغفر من الربا الذي ينخر في اقتصادها ، أن تستغفر من التقريب الذي يهدد مجتمعاتها ، أن تستغفر من الظلم الواقع في غالب أرضها. رفع الأسعار، وهضم الحقوق. إسكات القول الحق أن يظهر للناس، مطاردة الصالحين في كل مكان. وإلا فعذاب الله لا محالة. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا.
(1/1274)
مقتل الحسين
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/1/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نشأة الحسين رضي الله عنه. 2- أهل العراق يبايعون الحسين بعد وفاة الحسن. 3- أهل
العراق ينكثون في بيعتهم. 4- خروج الحسين ونصح الصحابة له بعدم الخروج. 5- محاولات
لمنع القتل والقتال. 6- شجاعة الحسين في القتال ومقتله رضي الله عنه. 7- حمل رأس الحسين
إلى ابن أبي زياد ، وترحم يزيد عليه. 8- الإمساك عما شجر بينهم الفتن. 9- صيام عاشوراء
لا علاقة له بمقتل الحسين. 10- بدع الرافضة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت محمد، ولد بعد أخيه الحسن، في شعبان سنة أربع من الهجرة، وقتل يوم الجمعة يوم عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين رضي الله عنه وأرضاه.
أدرك الحسين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم خمس سنين، وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ولكنه كان صغيراً، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان، وصحب أباه وروى عنه، وكان معه في مغازيه كلها، وكان معظماً موقراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، فلما آلت الخلافة إلى أخيه الحسن، وتنازل عنها لمعاوية لم يكن الحسين موافقاً لأخاه لكنه سكت وسلّم.
ولما توفي الحسن كان الحسين في الجيش الذي غزا القسطنطينية في زمن معاوية، ولما أخذت البيعة ليزيد بن معاوية في حياة معاوية امتنع الحسين من البيعة لأنه كان يرى أن هناك من هو أحق بالخلافة والبيعة من يزيد.
فخرج من المدينة إلى مكة، ولم يكن على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساويه في الفضل والمنزلة.
ثم صارت ترد إليه الكتب والرسائل من بلاد العراق يدعونه إليهم ليبايعونه للخلافة، فعند ذلك بعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى العراق ليكشف له حقيقة الأمر، فإن كان متحتماً وأمراً حازماً محكماً بعث إليه ليركب في أهله وذويه.
فلما دخل مسلم الكوفة تسامع أهل الكوفة بقدومه، فجاءوا إليه فبايعوه على إمرة الحسين، فاجتمع على بيعته من أهلها اثنا عشر ألفاً ثم تكاثروا حتى بلغوا ثمانية عشر ألفاً فكتب مسلم إلى الحسين ليقدم عليها فقد تمت له البيعة، فتجهز رضي الله عنه خارجاً من مكة قاصداً الكوفة.
فانتشر الخبر فكتب يزيد بن معاوية لعامله على الكوفة ابن زياد بأن يطلب مسلم بن عقيل ويقتله أو ينفيه عن البلد.
فسمع مسلم الخبر فركب فرسه واجتمع معه أربعة آلاف من أهل الكوفة وتوجه إلى قصر ابن زياد، فدخل ابن زياد القصر وأغلق عليه الباب، فأقبل أشراف وأمراء القبائل بترتيب من ابن زياد في تخذيل الناس عن عقيل ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت والناس يكفونك، كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟ فتخاذل الناس حتى لم يبق معه إلا خمسمائة نفس ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثمائة، ثم تناقصوا حتى بقي معه ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب ثم انصرفوا عنه فلم يبق معه أحد، فذهب على وجهه واختلط عليه الظلام يتردد الطريق لا يدري أين يذهب، فاختبأ في خيمة، فعلموا بمكانه فأرسل ابن زياد سبعين فارساً فلم يشعر مسلم إلا وقد أحيط به فدخلوا عليه فقام إليهم بالسيف فأخرجهم ثلاث مرات وأصيبت شفته العليا والسفلى ثم جعلوا يرمونه بالحجارة فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه أحدهم الأمان فأمكنه من يده وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا عنه سيفه، فالتفت إلى رجل يسمى محمد بن الأشعث فقال له: إن الحسين خرج اليوم إليكم فابعث إليه على لساني تأمره بالرجوع، ففعل ذلك ابن الأشعت، لكن الحسين لم يصدق ذلك، فأتوا بمسلم بن عقيل فأُدخل على ابن زياد، فأمر بأن تضرب عنقه فأُصعد إلى أعلى القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر، فقام رجل فضرب عنقه وألقى برأسه إلى أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده. وكان قتله رضي الله عنه يوم التروية الثامن من ذي الحجة.
ثم إن ابن زياد قتل معه أناساً آخرين وبعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية إلى الشام.
خرج الحسين من مكة قاصداً أرض العراق ولم يعلم بمقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وقبل خروجه استشار ابن عباس فقال له: لولا أن يزرى بي وبك الناس لشبثت يدي في رأسك فلم أتركك تذهب. فقال الحسين: لأن أُقتل في مكان كذا وكذا أحب إلي من أن أُقتل بمكة.
فلما كان من العشي جاء ابن عباس إلى الحسين مرة أخرى فقال له يا ابن عم! إني أتصبر ولا أصبر إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر فلا تغتر بهم، أقم في هذا البلد وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً وكن عن الناس في معزل، فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونساءك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
وكان ابن عمر بمكة فبلغه أن الحسين قد توجه إلى العراق فلحقه على مسيرة ثلاث ليال فقال له: أين تريد؟ قال: العراق، وهذه كتبهم ورسائلهم وبيعتهم، فقال ابن عمر: لا تأتهم، فأبى، فقال له: إني محدثك حديثاً، إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل.
فخرج متوجهاً إليهم في أهل بيته وستون شخصاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الاثنين العاشر من ذي الحجة. يقال أن الحسين لقي الفرزدق في الطريق فسلم عليه وسأله عن أمر الناس وما وراءه فقال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية. ثم أقبل الحسين يسير نحو الكوفة ولا يعلم بشيء مما وقع من قتل ابن عمه مسلم بن عقيل وغيرها من الأخبار، وكان لا يمر بماء من مياه العرب إلا اتبعوه، فوصل كربلاء، فقال: ما اسم هذه الأرض؟ فقالوا له: كربلاء، فقال: كرب وبلاء. فلما كان وقت السحر قال لغلمانه: استقوا من الماء وأكثروا، فأقبلت عليهم خيول ابن زياد بقيادة الحرّ بن يزيد وكانوا ألف فارس، والحسين وأصحابه معتمون متقلدون سيوفهم، فأمر الحسين أصحابه أن يترووا من الماء ويسقوا خيولهم وأن يسقوا خيول أعدائهم أيضاً.
فلما دخل وقت الظهر أمر الحسين رجلاً فأذن ثم خرج في إزار ورداء ونعلين، فخطب الناس من أصحابه وأعدائه واعتذر إليهم مجيئه هذا، ولكن قد كتب له أهل الكوفة أنهم ليس لهم إمام، ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحرّ بن يزيد تريد أن تصلي بأصحابك؟ قال لا! ولكن صل أنت فصلى الحسين بالجميع ثم دخل خيمته حتى العصر فخرج وصلى بهم، فسأله الحرّ عن هذه الرسائل التي أرسلت له فأحضر له الحسين كتباً كثيرة فنثرها بين يديه وقرأ منها طائفة، فقال الحرّ: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا لك في شيء، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك على ابن زياد فقال الحسين الموت أدنى من ذلك. فقال له الحرّ فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين: أفبالموت تخوفني؟:
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما
وآسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق خوفاً أن يعيش ويرغما
عندها تزاحف الفريقان بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام خيمته محتبياً بسيفه ونعس فخفق برأسه وسمعت أخته الضجة فأيقظته، فرجع برأسه كما هو وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ((إنك تروح إلينا)). فتقدم عشرون فارساً من جيش ابن زياد فقالوا لهم: جاء أمر الأمير أن تأتوا على حكمه أو نقاتلكم. فقال أصحاب الحسين: بئس القوم أنتم تريدون قتل ذرية نبيكم وخيار الناس في زمانهم؟ فقال الحسين: ارجعوا لننظر أمرنا الليلة وكان يريد أن يستزيد تلك الليلة من الصلاة والدعاء والاستغفار وقال: قد علم الله مني أني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه والاستغفار والدعاء، وأوصى أهله تلك الليلة، وخطب أصحابه في أول الليل، فحمد الله وأثنى عليه وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله في ليلته هذه فقد أذنت له، فإن القوم إنما يريدونني، فاذهبوا حتى يفرج الله عز وجل فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره فقال الحسين: يا بني عقيل حسبكم بمسلم أخيكم، اذهبوا فقد أذنت لكم، قالوا: فما تقول الناس أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا، لم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف رغبة في الحياة الدنيا , لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
وبات الحسين وأصحابه طول ليلهم يصلّون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون، وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم. فلما أذن الصبح صلى رضي الله عنه بأصحابه صلاة الفجر وكانوا اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً وأعطى رايته أخاه العباس، وجعلوا الخيام التي فيها النساء والذرية وراء ظهورهم، فدخل الحسين خيمته فاغتسل وتطيب بالمسك ثم ركب فرسه وأخذ مصحفاً ووضعه بين يديه ثم استقبل القوم رافعاً يديه يدعو ثم أناخ راحلته وأقبلوا يزحفون نحوه، فترامى الناس بالنبل، وكثرت المبارزة يومئذٍ بين الفريقين والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وأنهم مستميتون لا عاصم لهم إلا سيوفهم، فأرسل أصحاب ابن زياد يطلبون المدد فبعث إليهم ابن زياد نحواً من خمسمائة. دخل عليهم وقت الظهر، فقال الحسين مروهم فليكفوا عن القتال حتى نصلي، فقال رجل من أهل الكوفة: إنها لا تقبل منكم، فصلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديداً، فتكاثر القوم حتى يصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحابه ذلك تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فقتل عبدالله بن مسلم بن عقيل، ثم قتل عون ومحمد ابنا عبدالله بن جعفر، ثم قتل عبدالرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبي طالب، ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم قتل عبدالله والعباس وعثمان وجعفر ومحمد إخوان الحسين أبناء علي بن أبي طالب، حتى بقي الحسين لوحده ومكث نهاراً طويلاً وحده لا يأتي أحدٌ إليه إلا رجع عنه لا يحب أن يقتله هيبةً من مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أحاطوا به فجعل رجل يدعى شمّر يحرضهم على قتله، فرد آخر وما يمنعك أن تقتله أنت؟ فاستبا فجاء شمّر مع جماعة من أصحابه وأحاطوا به فحرضهم على قتله: اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى، فجاء سنان بن أبي عمرو فطعنه بالرمح فوقع ثم نزل فذبحه وحز رأسه. ثم أخذ الجيش النسوة والأطفال إلى الكوفة، فأتوا ابن زياد أمير الكوفة برأس الحسين وجعل في طست، فأمر ابن زياد فنودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر وذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين، فقام إليه عبد الله الأزدي فقال: ويحك يا ابن زياد! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين.
فجاءت الرواحل بالنساء والأطفال وأُدخلوا على ابن زياد، فدخلت زينب ابنة فاطمة فقال من هذه؟ فلم تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة، فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، فقالت: بل الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وطهرنا تطهريا لا كما تقول، وإنما يفتضح الفاسق ويكذِب الفاجر. قال: كيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتكم؟ فقالت: كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فيحاجونك إلى الله.
قال عبد الملك بن عمير: دخلت على ابن زياد وإذا رأس الحسين بن علي بين يديه على ترس، فوالله ما لبثت إلا قليلاً حتى دخلت على المختار بن أبي عبيد وإذا برأس ابن زياد بين يدي المختار على ترس.
ثم أمر برأس الحسين وأرسل إلى يزيد بن معاوية بالشام فلما وضعت بين يديه بكى ودمعت عيناه وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبك ما قتلتك.
وكان مقتله رضي الله عنه يوم الجمعة يوم عاشوراء من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق وله من العمر ثمان وخمسون سنة. [1]
طريقان شتى مستقيم وأعوج
بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا
ذكيٌ بالدماء مُضرّج
ولا خائفٍ من ربه يتحرج
تضيء مصابيح السماء فتُسرج
له في جنان الخلد عيش مُخرفج
لدى الله حيٌ في الجنان مُزوج
يؤم بهم وِرد المنية منهج
عليك وممدود من الظل سجسج
يرف عليه الأقحوان المفلج
أحرّ البكائين البكاء المولج
وأنت لأذيال الروامس مدرج
فليس بها للصالحين مُعرّج
أبي حسنٍ والغصن من حيث يخرج
وعُفّر بالترب الجبين المُشجج
هنالك خَلخالٌ عليه ودُملج
ولله أوسٌ آخرون وخزرج
تماماً وما كل الحوامل تُخدج
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج
ألا أيها الناس طال ظريركم
أكلُ أوانٍ للنبي محمدٍ قتيلٌ
أما فيكم راعٍ لحق نبيه
أبعد المسمى بالحسين شهيدكم
وكيف نباكي فائزاً عند ربه
فإلا يكن حياً لدينا فإنه
مضى ومضى الفُرّاط من أهل بيته
سلام وريحان وروح ورحمة
ولا بَرح القاع الذي أنت جاره
وليس البكا أن تسفح العين إنما
أتمنعني عيني عليك بدمعةٍ
عفاءٌ على دار رحلت لغيرها
كدأب عليّ في المواطن قبله
كأني أراه إذ هوى عن جواده
يود الذي لاقوه أن سلاحه
فيدرك ثأر الله أنصار دينه
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، واتباع النبي المجاب، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
بارك الله..
[1] البداية والنهاية 8/149 - 212
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ولنا مع قصة مقتل الحسين عدة وقفات:
أولاً: إن ما حصل بين المسلمين من المعارك والحروب إنما هي فتنة ابتلى الله بها هذه الأمة، وإن من منهج أهل السنة والجماعة هو الإمساك عما شجر بين الصحابة. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم.. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور. انتهى.
فنمسك ألسنتنا عن الخوض في الفتن التي حصلت بين المسلمين، ونكل أمرهم إلى الله. وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة خلافاً لغيرهم من أهل البدع.
ثانياً: إن صيام المسلمين ليوم عاشوراء لا علاقة له بمقتل الحسين أبداً كما يدعي بذلك بعض الفرق الضالة المنحرفة عن منهج أهل السنة، وإنما صيامنا ليوم عاشوراء هو لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)).
ثالثاً: إن كل مسلم ينبغي أن يحزنه مقتل الحسين أو حتى غير الحسين من عامة المسلمين فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة، وكيف إذا كان من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رضي الله عنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عابداً شجاعاً سخياً، ولا يجوز إقامة المآتم في يوم قتله أو لطم الخدود أو شق الثياب كما تفعل الرافضة يوم عاشوراء، والعجيب من أمر الرافضة أن أباه كان أفضل منه، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، ولا يتخذون مقتله مأتماً، وكذلك عثمان بن عفان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الفاروق عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، وقتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، كما يفعل هؤلاء الجهلة يوم مصرع الحسين.
وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها)) [رواه الإمام أحمد وابن ماجة].
رابعاً: لقد بالغ الرافضة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً من كون الشمس كسفت يوم قتله حتى بدت النجوم، وما رفع حجر إلا وجد تحته دماً، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضاً، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم، إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: فصارت طائفة جاهلة ظالمة إما ملحدة منافقة وإما ضالة غاوية تظهر موالاته وموالاة أهل بيته تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة وتظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية، والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع [1].
وقال ابن رجب رحمه الله: "وأما اتخاذه مأتماً كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن دونهم" [2].
خامساً: ادعت الدولة الفاطمية التي حكمت الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستمائة وستين، أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر الذي يقال له تاج الحسين، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك، وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف وهم في ذلك كذبة خونة.
سادساً: روى مسلم في صحيحه حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضية)) وفي رواية: ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)). قال البيهقي رحمه الله: "وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفرها، فإن صادف صومه وقد كُفّرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته" [3].
ولما عُرف من فضل صوم عاشوراء فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه حتى كان بعضهم يصومه في السفر خشية فواته، كما نقله ابن رجب عن طائفة منهم ابن عباس وأبوإسحاق السبيعي والزهري وقال: رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر [4].
[1] الفتاوى 25/307
[2] لطائف المعارف 113
[3] فضائل الأوقات 439
[4] لطائف المعارف لابن رجب 110
(1/1275)
مقاييس الظاهر والباطن
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, اللباس والزينة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غنى الإسلام بالظاهر والباطن ، وقوم الباطن في الأهمية. 2- الباطن محل نظر الله.
3- صور في حياتنا لاهتمامنا بالمظهر دون المخبر. 4- اهتمامنا مظهر العبادة دون روحها
ودروسها. 5- الرسول يعلم الصحابة قياس الناس بباطنهم دون ظاهرهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد عني الإسلام بظاهر المسلم وباطنه، وإن كانت عنايته بالباطن أكثر، لأن الباطن هو الأساس وهو المقصود، فالإنسان في نظر الإسلام مظهر ومخبر، صورة وحقيقة.
وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
لكن مع كل أسف أصبحنا في هذا الزمان، نعتني بالمظهر وأهملنا المخبر، نهتم بالصورة وأغفلنا الحقيقة، واختلال مفهوم الظاهر والباطن يعد من جملة المفاهيم والأشياء التي اختلت في دنيا الناس.
لقد تبدلت موازين الناس، واختلفت الأفكار، لقد أقبل الناس على المسيء وأعرضوا عن المحسن، لقد أنكر الناس المعروف وألفوا المنكر، لقد بالغ الناس بالزينة والمظهر والخارج في كل شيء، وأهملوا الباطن والداخل والأساس، لقد اعتنينا كثيراً بالصورة وأغفلنا الحقيقة، قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) نعم، إن النظر والمقياس والمحاسبة لا يكون على الصورة، وإنما لما بداخل هذه الصورة من قلب وعمل.
إننا مع الأسف أيها الأحبة قلبنا هذه الحقيقة الشرعية، وصرنا نزن الأشخاص والأشياء والهيئات والأمور بل الدول والمجتمعات، أصبحنا نزنها بالصور لا بالأعمال، وصار هذا الاختلال في المقاييس من السمات البارزة، لما يسمونها بدول العالم الثالث، سمة بارزة على مستوى الأفراد والشعوب والمجتمعات.
وإليكم أيها الأحبة بعض الأمثلة الحية والواقعية من حياتنا لتدركوا أن مقاييسنا إنما هو الصور والمظاهر، لا على الحقائق والمخابر، فلنأخذ مثلا الأرقام هناك تقارير وإحصاءات ونتائج رقمية ترفع عن وضعية مؤسسة ما، أو شركة معينة، بل قل أو دولة معينة عن إيراداتها وصادراتها، وأرباحها وخسائرها، ومداخلها ومخارجها، وغالبا ما تكون هذه الأرقام الموجودة على هذه الأوراق المرفوعة، وفي هذه التقارير ،أرقام جميلة وبراقة، ومع الأسف إننا نقف عند هذه الأرقام ونقتنع بها، وربما يكون الواقع والأساس والمخبر والباطن خلاف ما زينت به التقرير والإحصاءات من أرقام، هذا مثال على وقوفنا عند الصورة وعدم عنايتنا بالحقيقة.
لأضرب لك مثلا آخر من واقع كل واحد منا، لتتضح الصورة أكثر، ويعرف المراد من الكلام، شهادات الأولاد المدرسية، انتهت الاختبارات وأغلبنا الحمد لله نجح أولاده وأحضروا لنا شهادات طيبة وجميلة ونتائج وعلامات وأرقام ممتازة، أغلبنا إن لم يكن كلنا وقف عند هذه الشهادات فقط عند أرقامها وأن الولد حصل في الرياضيات على كذا، وفي التاريخ على كذا، وفي العلوم على كذا، والمجموع كذا ناجح وممتاز هذا طيب، وينبغي الاهتمام به وحرص الآباء عليه وفرحهم بنجاح أولادهم، كل هذا لا مطعن فيه ولا إشكال، لكن الإشكال والنقص والعيب هو أن نقف عند هذه الأرقام فقط أو قل عند هذه الصورة الجميلة للشهادة، أو قل عند هذا الظاهر، ولا نلتفت للباطن، والباطن الذي أعنيه كم واحد منا يسأل أو يهتم أو يحاول ان يعرف مقدار النمو العقلي لولده طوال هذا لعام الدراسي، مامدى ارتقاء الولد أخلاقيا، مامدى تقدمه في النواحي السلوكية؟ كم هو جميل أن يأخذ ولدك في الرياضيات درجة الامتياز، لكن الأجمل منه أن يتحسن أخلاقه- دينه- وأن تنمو قدراته العقلية ومواهبه.
فالسؤال الآن مرة أخرى، كم واحد منا يقف عند الظاهر والصورة، وكم واحد يتفطن أساسا للباطن والحقيقة؟ كم هو الغبن والخسارة من هذا الجهد الضخم الذي يبذله الأولاد طوال العام من الاستيقاظ من السادسة صباحا ثم ذهاب وإياب ومراجعة ودراسة واختبارات وجهد ومتابعة وعناية سنة كاملة، ثم نقف بعد هذا كله عند أرقام براقة في شهادات ورقية، ولا نلتفت إلى الحقائق والبواطن والمخابر.
ومثال آخر من وقوف الناس واهتمامهم بالمظاهر فقط، تزور أحد أقاربك أو زملائك، فتشاهد أنه زين مجلسه بالشهادات التي حصل عليها والدورات، ووضعها في براويز جميلة، ثم تأتي لصاحب هذه الدورات والشهادات، وتريد أن تستفيد منه علما أو خلقا أو تعليما، فلا تجد شيئا، لأنه مظهر لا مخبر، واكتفى من دراسته بالأوراق التي علقها وزين بها الجدران - نحن نقيس الناس بالشهادات -.
مثال ثالث: قضية الحضور والانصراف في الدوام الرسمي، كم هو جميل أن ينضبط الموظفون في حضورهم وانصرافهم بالمواعيد الرسمية والمحددة، لكن من الظلم والغبن أن نقف عند ظاهر الحضور والانصراف فقط، ويكون تقييم الموظف في نهاية العام من خلال دفتر الحضور والانصراف.
ولا نلتفت إلى فاعلية الموظف ولا إلى إنتاجه وعمله، كم من الموظفين إربما تأخر بعض الوقت أحيانا لكن إنتاجه أضعاف أضعاف من يحضر أولا وينصرف آخراً، ووجوده كعدمه أثناء العمل، فالعبرة بالحقيقة لا بالصورة، والعبرة بالباطن لا بالظاهر.
مثال رابع: حرفية النظام، الأنظمة والتعليمات لماذا توضع؟ توضع لتسهيل أمور الناس، لكن مشكلتنا نحن دول العالم الثالث أننا نقف عند حرفية النظام وحرفية التعليمات، فنعقد أمور الناس، بمعنى أننا نأخذ الظاهر، ظاهر النظام، ويغيب عنا المقصود من النظام والهدف من إصدار التعليمات، ألا وهو تسهيل أمور الناس، وإلاّ فنظام المرور ونظام الشرطة ونظام الجمارك، ونظام الأحوال المدنية وغيرها من عشرات الأنظمة ما وضعت إلا لحل مشاكل الناس وتسهيل أعمالهم، ومن طريف ما قرأت وأنا أعد لهذه الخطبة كنت اقرأ في كتاب المظهرية الجوفاء وأثرها في دمار الأمة، فضرب الكاتب مثلا على حرفية النظام والوقوف عند الظاهر وعدم الالتفات للهدف والغاية فيقول صاحب الكتاب: كنت مسافراً بسيارتي عبر بعض البلاد الإسلامية يقول فلما أن رجعت من السفر، ذهبت لكي أعيد دفتر السيارة والتحلل من ارتباطاته، يقول فذهبت إلى الجهة الرسمية عند ذلك وقدمت لهم أوراقي وكامل المعاملة فقالوا لي: هناك توقيع ناقص. يقول: فكملت التوقيع الناقص فقالوا أحضر وثيقة من دائرة المرور لكي تثبت وجود السيارة، قلت: ماذا؟ قالوا: لكي تثبت وجود السيارة فقلت لهم: السيارة هي معي الآن وموجودة في الخارج. قالوا: وان كانت هي معك الآن النظام إثبات وجودها عند المرور. قلت: هذا جوازي، وفيه ختم دخول البلاد، وهذه أوراق دخولي بهذه السيارة للبلاد، ألا يكفي هذا لإثبات وجودها؟ قالوا: كل هذا لا يجدي لا بد من ورقة من دائرة المرور يقول: فذهبت للمرور بسيارتي وقلت لهم: أعطوني ورقة لإثبات وجود سيارتي هذه التي هي معي الآن قالوا: لا نعطيك الورقة إلا بعد الفحص فقلت أنا لا أريد الفحص فقط أريد ورقة لأثبت وجودها قالوا فلماذا نحن قد فتحنا قسما للفحص الفني لابد من الفحص أولا ثم بعدها يكون ورقة الإثبات، قلت: تفضلوا وافحصوها يقول ففحصوها فوجدوها سليمة لكن قالوا: هناك بعض القطع الداخلية قد زال عنها الصبغ فلابد من صبغها وهذا يحتاج لبعض الوقت فقلت: أنا متأهب للسفر وليس لدي وقت لكل هذه الإجراءات، قالوا: لابد أن تصلح المواطن المطلوبة لتعطى الوثيقة قلت: سبحان الله أنا لا أريد إلا ورقة تثبت وجود السيارة فلماذا تجعلون من هذا قصة؟ قالوا: هذا النظام.
أيها المسلمون: لا أريد ان استرسل في ضرب الأمثلة فنقع مما نحذر منه فنستمتع بالأمثلة ونقف عند ظاهرها ونغفل عن المضمون، خلاصة الكلام أننا نعيش زمن الظواهر والصور وغاب عنّا البواطن والحقائق، والأمر يعد أكثر إشكالا وأكثر حساسية إذا تعدى ذلك إلى الأشخاص والأفراد، وهذا ما سيتم التعليق عليه في الخطبة الثانية إن شاء الله وأخطر منه موضوع الأشخاص إذا وصل الأمر إلى العبادات، وقد وصل ووصل أصبحت عباداتنا ظواهر صور أشكال، أما لب العبادة ومقصو دها وحقيقتها، فهذا بعيد والله المستعان عن أذهان الناس.
تجد الواحد منا يقبل على صلاته ويحافظ عليها ويهتم بحركاتها ومظهرها وفي المسجد، وهذا محمود على كل حال، لكن الأهم منه هل يخشع في صلاته هل يقبل على ربه، هل يبكي، هل تدمع عينه عند سماع الآيات، هذا قليل، وقُلْ مثل ذلك في صيام الناس، في زكاتهم، في حجهم في عمرتهم، العمرة مثلا اعتاد البعض أن يذهب إلى مكة في كل رمضان وهذا طيب مع القدرة والاستطاعة، بل البعض يذهب بأولاده، لكن السؤال ما هو حالهم هناك هل فعلا تفرغ هو والأولاد للعبادة والانقطاع شهرا كاملا بإقبال وتذلل واعتكاف ليحصل اللب والمقصود أم أن الواقع جلسات وسمر وأنس وحديث وزائر ومزور وسواليف وعزا يم وولائم، فأصبحت أسفارا عادية أكثر من أن تكون أسفاراً لقصد التقرب إلى الله، فسيطر الظاهر على الباطن، وظهرت الصورة وغابت الحقيقة وإلا كيف يعقل رجل يقضي قرابة الشهر عند الكعبة في حرم الله في صيام وصلاة وتراويح وتهجد ثم يرجع بنفس المستوى الإيماني يرجع كما ذهب تماما، إنه المرض أيها الأحبة تعدى العامة إلى الخاصة، إلى الدعاة وطلاب العلم، قد يحرص البعض على جمع الكتب والكثرة لما يقرأ والكثرة لما يحفظ ما يحضر من دروس ومحاضرت ويكثر جلوسه إلى العلماء وما أشبه ذلك لكن قلَّ أن ينظر إلى أثر هذا في قلبه وتأثيره في نفسه ومدى عمله بما علم ومدى زيادة ديانته بكل ذلك، نحرص نحن معاشر الدعاة على هداية الناس ونفرح كثيرا إذا انضم عنصر جديد إلينا، ونفرح أكثر إذا شاهدنا ملامح التغيير بدأت تظهر على من دعوناه من إطلاق لحيته وتقصير ثوبه، لكن مع الأسف قد نقف عند هذا، ولا نحرص على تغيير الصمام الذي بداخله كم ممن تغير ظاهره فعلا يكون في قلبه إشراق ونور كم ممن غير ظاهره، فعلا لامست حقيقة الإيمان قلبه كم ممن تغير ظاهره، تغير باطنه، وخطأ وألف خطأ إذا ظن الدعاة أن مهمتهم تنتهي إذا التزم الناس ظاهريا، إن مهمة الدعاة معالجة البواطن وتغيير الحقائق وعدم الوقوف عند الظواهر والصور، فالذي قد نفرح به اليوم قد نحزن عليه غدا إذا ترك وانتكس، والسبب نحن الدعاة عالجنا الظواهر وأهملنا البواطن.
فنسأل الله عز وجل وتعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا، أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن الناس يقاسون ويوزنون ببواطنهم لا بمظاهرهم ،بحقائقهم لا بصورهم، عن سهل الساعدي رضي الله عنه أنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إذا خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل فقال له رسول صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من مل ء الأرض من مثل هذا)).
هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا، هذا هو المقياس أيها الأحبة، هذا الصحابي الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم قاس الأمور بما نقيس نحن الناس عليه اليوم، الذي يقدم الرجل الشريف صاحب المال والجاه والمركز، هو الذي ينكح وهو الذي يسمع له وهو الذي يلفت الأنظار وأما ذلك الفقير الصعلوك المعدم لا يأبه له، ولا ينكح ولا يزوج ولا يسمع له.
فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغير المفاهيم وأن يصحح الأفكار فقال: ((إن هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)).
تبا لأمة لا تعرف لمن تسمع، ولا تعرف لمن تنصت، وتبا لمجتمع تسمع لمن لا يحسن القول وتعرض عن أهله وأربابه.
إنها كلمات النبوة في حروف من نور، تحرق ظلمات وموازين الجاهلية الفاسدة.
فليست القضية أن تجعل حولك هيلمان وصولجان وفخفخات وخدم وحشم، فربما كل هذا وما تملك وعشرات أضعافه لا يزن عند الله نفس رجل فقير تقي طائع لله.
ثم هل نعلم بأن نصر هذه الأمة مرتبط بالضعفاء وبالفقراء، وبمن لا يأبه لهم حسب موازين الناس الظاهرية اليوم.
نعم إن نصر هذه الأمة ليس بأغنيائها ولا بأقويائها ولا بزعمائها ولا بسلاطينها، إنما نصرها كما أخبر الصادق المصدوق بضعيفها.
روى النسائي بسند صحيح عن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)).
وهل جر علينا ما نحن فيه من الهزائم والويلات والكوارث والمصائب إلا غياب تعظيم دعوة وصلاة وإخلاص الضعفاء.
وهل جر على الأمة ما هي فيه من ذلة ومهانة إلا بعد ما انقلب في حسها موازين الظاهر والباطن، مقاييس الصورة والحقيقة، أصبحنا نقوم الرجال بغير مقاييس الشرع، ونقدم الناس بغير تقديم الشرع لهم، إذا فلنذق ما عملته أيدينا.
لقد تنبه الشاعر الجاهلي لهذا قديما أكثر مما تنبه له بنو قومي الآن، فقال عباس بن مرداس قديما:
ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير
فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير
بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور
ظعاف الطير أطولها جسوما ولم تطل البزاة ولا الصقور
لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير
يصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
فإن أك في شراركم قليلا فإني في خياركم كثير
هذه هي الموازين الحقيقية، إنها ليست بشيء إلا بما في داخل قلب العبد حتى الكثرة التي يظنها بعض الناس مقياسا في المجالات العسكرية ليس بصواب قال الله تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين لقد اختل هذا الميزان عند الصحابة وقاسوا الأمور بظواهرها وذلك في غزوة حنين ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فأدبهم الله عز وجل وصحح هذه القضية لديهم، فهزموا في أول الأمر وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وولوا مدبرين، فثبت القلة وصمد أمام العدو، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين، هذه هي الحقائق والبواطن أيها الأحبة وتلكم كانت الصور والظواهر فنسأل الله جل وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا.
(1/1276)
مسؤولية الكلمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/6/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد جارحة اللسان. 2- تنزيه اللسان والأسماع عن الكلمة الباطلة واللغو. 3- أعظم
الكلام كلمة التوحيد. 4- خطورة الكلمة والتحذير من إطلاق اللسان. 5- القول على الله بغير
علم. 6- ذكر بعض آفات اللسان. 7- القول الحسن. 8- مقالات خبيثة في بعض الصحف
المحلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الكلمة أيها الأخوة وما أدراكم ما الكلمة.
فإن الكلمة هي تلك الحروف والأصوات ، التي تنطق بها الألسن ، وتتحرك بها الشفاة ، لكنها كلمة وكلمة، فكم من كلمة أفرحت ، وأخرى أحزنت ،وكم من كلمة فرقت وأخرى جمعت، وكم من كلمة أقامت ، وغيرها هدمت، وكم من كلمة أضحكت، وأخرى أبكت ،فكم من كلمة انشرح لها الصدر وأنس بها الفؤاد وأحس بسببها سعة الدنيا ، وأخرى انقبضت لها النفس واستوحشها القلب وألقت قائلها أو سامعها في ضيق أو ضنك، فضاقت الدنيا على رحبها والأرض على سعتها. فكم من كلمة واست جروحاً ، وأخرى نكأت وأحدثت حروقاً.
وقديماً قيل: في اللسان عشر خصال: أداة يظهر بها البيان ، وشاهد يخبر عن الضمير ، وحاكم يفصل به القضاء ، وناطق يرد به الجواب، وشافع تقضى به الحوائج ، وواصف تعرف به الأشياء ، وواعظ ينهي به عن القبيح ، ومعز تسكن به الأحزان ، وملاطف تذهب به الضغينة ومونق يلهي الأسماع.
أيها المسلمون: باللسان تتبادل المعرفة ، ويحصل التعليم ، وتزكو المعارف ، وبه يدعو الأقوام إلى عقائدهم ونحلهم ، ويُحسّنون في أعين غيرهم طبائعهم وعاداتهم. ومن هنا ذكر الله عباده بمنته عليهم بخلق وسيلة الكلمة حيث قال: ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وقديماً قال موسى كليم الرحمن عليه السلام: واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وقال: وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني. نظر معاوية إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، فأتبعه بصره ثم قال متمثلاً:
مصيب ولم يثن اللسان على هُجر
وينظر في أعطافه نظر الصقر
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
يصرف بالقول اللسان إذا انتمى
أيها الأخوة في الله: لا عجب بعد هذا أن نجد الأمم كلها تعتني بلسانها وتهذب بيانها وتنشر لغتها هنا وهناك ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. بل إن اهتمام الأمة بلغتها قرين ملازم لإحساسها بعزها وكرامتها وشعورها بقيمتها وأهميتها ، وما ماتت لغة إلا بعد أن ماتت غيرة ناطقيها ، وانمحت شخصية متكلميها. ولئن كان للأمم كلها اهتمام بهذا فلأمة الإسلام في ذلك القدح المعلى، وإذا كان الناس يعتنون بكلماتهم من منطلق النفع الدنيوي وحيازة الشرف ، فإن المسلم يعتني بكلماته من منطلق الاستجابة الإيمانية لأوامر دينه وتوجيهات شريعته.
فليست الكلمة في الإسلام حركات يؤديها المرء دون شعور بتبعتها ، بل إن الإنضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين ، قال الله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون.
ولئن كان المسلم ينزه نفسه عن شغل هذا اللسان بالكلمة الباطلة ، فإنه يجب عليه أيضاً أن ينزه سمعه عن استماع الكلمة الباطلة انطلاقاً من قول الله جل وعلا: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
إذا هو أبدى ما يقول من الفم
زيادته أو نقصه في التكلم
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ألم تر مفتاح الفؤاد لسانه
وكائن ترى من ساكت لك مُعجبٍ
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
أيها الأحبة في الله: قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما. قال ابن كثير في تفسيره رحمه الله تعالى - يقول الله تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولاً سديداً ، أي مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية ، وما قد يقع في المستقبل يلهمهم التوبة منه.
أيها المسلمون: عباد الله: أرأيتم بوابة الإسلام ، ومفتاح الدخول في رضوان الله، إنها كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قاتل من أجلها المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، وجاهد الناس من أجل النطق بهذه الكلمة: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)) [رواه مسلم]. وهي مفتاح الدعوة إلى هذا الدين ، علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معاذاً حين أرسله إلى اليمن فقال له: ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله..)).
وقد ضرب الله عز وجل مثلاً في كتابه يستحق أن نقف معه ، لندرك أهمية الكلمة سواءً كانت طيبة أم باطلة ، قال الله تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء. يقول صاحب الظلال ، سيد رحمه الله تعالى: إن الكلمة الطيبة كلمة الحق كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة ، ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل ، ولا تقوى عليها معاول الطغيانـ وإن خُيّل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان سامقة متعالية تطل على الشر والظلم والطغيان من علٍ وإن خيل إلى البعض أحياناً أن الشر يزحمها في الفضاء مثمرة لا ينقطع ثمرها لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آناً بعد آن.
وإن الكلمة الخبيثة كلمة الباطل كالشجرة الخبيثة قد تهيج وتتعالى وتتشابك، ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء.
أيها المسلمون: إن الكلمة لها شأن عظيم ، فلربما كانت سبب الرضوان أو كانت سبب الحرمان ففي حديث أبي هريرة المتفق عليه: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم)) وفي لفظ: ((يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) وإليكم قبساً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لبيان شأن الكلمة، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) [متفق عليه]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة].
وفي البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) وفي بيان خطر الكلمة على المرء ما لم يضبطه ، يخاطب عليه الصلاة والسلام ثلاثة من أصحابه وهم سفيان بن عبد الله الثقفي ، وعقبة بن عامر ، ومعاذ بن جبل ، فيقول لسفيان حين سأله - يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به ، قال: ((قل ربي الله ثم استقم ، قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا)). وقال عقبة بن عامر: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: ((أمسك عليك لسان وليسعك بيتك وابك على خطيئتك)). ولما دلّ معاذاً على خصال الخير - الصلاة والزكاة والصوم والحج والصدقة وقيام الليل والجهاد - قال له: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا ، قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)).
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال)).
أيها المسلمون: وإذا كانت الكلمة هي مفتاح الدخول في الإسلام ، فإن الكلمة من أكثر أسباب الخروج من الدين والعياذ بالله والتردي في حفرة الكفر ، فالإنكار والجهود والاستهزاء بدين الله ، والسب لله ولرسوله والتنقص للدين والتصريح بأفضلية النظم الوضعية والشرائع الأرضية ، سيئات كفرية تتعلق بالكلمة.
بل إن الفعل المجرد أوسع من الكلمة ، فلو فعل العبد فعلاً كفرياً ، فإنا لا نحكم بكفره بمجرد الفعل ، بل نحتاج قبل الحكم عليه إلى تعريفه وتعليمه وبيان خطورة فعله عن طريق الكلمة ، فإن عاند وأمر بكلامه فقد قامت عليه الحجة وانتفت المعذرة.
إن أصل البدع والضلالات وأُسَّ الكفر والشرك مبني على الكلمة- القول على الله بغير علم - قال الله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال جل وعز: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فحذاري حذاري أيها المكلف من زلة لسانك.واحذر خطورة الكلمة.
إنك بالكلمة بإمكانك أن ترضى الله أو الناس وتحببهم فيك، وبالكلمة تسخط الناس وتنفرهم منك.
وكل امرئ ما بين فكيه مقتلُ
إذا لم يكن قفلٌ على فيه مُقفَلُ
فذاك لسانٌ بالبلاء موكل
فدبر وميز ما تقول وتفعل
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهل
وكم فاتح أبواب شر لنفسه
إذا ما لسان المرء أكثر هذره
إذا شئت أن تحيا سعيداً مُسّلَّماً
اللهم إنا نعوذ بك من شر كلامنا.. وشر ألسنتنا.. وشر ما نقول ونفعل. إنك ولي ذلك
أقول ما سمعتم واستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن الكلمة الطيبة والكلمة السيئة ، مخرجهما واحد ، وبإمكانك أيها المسلم ، أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، قال الله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي أحسن وإليك أخي المسلم نماذج متفرقة من سيء الكلمة نحذرك منها.
القذف: جرم لساني عن طريق الكلمة ، يعاقب عليها القاذف ، بثمانين جلدة تلهب ظهره ، وتقوم كلمته قال الله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون.
الحلف: كلمة ولو خالف الإنسان ما حلف عليه قصداً لزمته الكفارة ، قال الله تعالى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون.
الطلاق: يقع بكلمة ، وكذلك العتق والرجعة ولو كان الرجل مازحاً في قولها: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة)) [رواه الترمذي وغيره].
الكذب ، لا يكون إلا بالكلمة ، وهي رذيلة خلقية. ((إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).
الغيبة والنميمة: وهل هي إلا كلمة قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ولما عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم مر بأقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فسأل عنهم: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة نمام)) [متفق عليه].
اللعن: كلمة يطلقها الرجل ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)) [رواه مسلم]. وفي حديث أبي الدرداء مرفوعاً: ((إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض ، فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها)).
إفشاء السر:خيانة بالكلمة ، حدث جابر مرفوعاً: ((إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة)).
السخرية والاستهزاء: وسيلتها الكلمة، وبالكلمة قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن.
المراء والجدال والخصومة: نوع من إضاعة الجهد والوقت فيما يوغر الصدور ويولد الأحقاد عن طريق الكلمة ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) وفي البخاري: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)).
كل هذه وغيرها أخي المسلم كلمات نحذرك منها تصب كلها في واد واحد ، الكلمة الباطلة ، فعليك يا عبد الله بالكلمة الطيبة ما دام مخرجهما واحداً كما أسلفنا ، فعليك بالذكر والاستغفار وقراءة القرآن ، والتسبيح ، ورد السلام ، وتشميت العاطس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وإرشاد الناس عن طريق الكلمة الطيبة الهادفة.
ليكن أخي المسلم اختيارك للكلمة الاختيار الحسن كما قال تعالى: وقولوا للناس حسنا وكما في حديث أبي مالك الأشعري المرفوع: إن في الجنة غرفاً يرى من في باطنها من ظاهرها، ومن في ظاهرها من باطنها، هي لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)).
وإن المشكلة التي تعانيها مجتمعاتنا القريبة والبعيدة ، هو عدم سماع الكلمة الحسنة الهادفة إلا فيما ندر ، وغالب ما يبث على الناس ، الكلمة السيئة.
افتح المذياع واستمع لأية محطة في العالم الإسلامي كله ، لمدة أربع أو خمس ساعات ، كم كلمة طيبة تسمعها مقارنة لهذا الهراء من الكلمات، لا أقول السيئة ، بل القبيحة والنتنة في الغالب ، من الأغنية العارية والشعر البذئ ، ناهيك عن كلمات الشرك والإلحاد ، وبث الأفكار الدخيلة، وناهيك عن كلمات تبجيل الكفار ، وتعظيم خضيرة الغرب ، ووصف الرجل الكافر الذي قد حكم الله عليه بأنه خالد مخلد في نار جهنم إذا لم يسلم بأنه الرجل المخلص ، وغيرها من الكلمات التي تمرض من يسمعها.
واقرأ إن شئت بعض هذه الأطنان من الكلمات التي تطبع يومياً على صحف ومجلات العالم الإسلامي كله ما بين جريدة ومجلة وصحيفة ، كم من كلمة طيبة تقرأها وتستفيد منها في الدنيا والآخرة ، مقابلة بما يكتب من خلاعة ورذيلة ، بل ودعوة إلى العلمنة وإلى العقائد الفاسدة ، بل وصل الأمر إلى أدهى من ذلك، وخذوا هذا النموذج:
جريدة البلاد نشرت يوم السبت الماضي مقالاً طويلاً لرجل منحل بعنوان " خصوصيتنا في عصر العولمة " يقول في ثنايا كلامه العفن والذي قد تشم منه رائحة الردة: فليس هناك في نهاية التحليل ما يمكن أن يطلق عليه اسم ثقافة صافية أو نقية بالكامل ولا هدية مكتملة ثابتة الأركان.
يا مجرم إذا لم تكن ثقافة الإسلام وعقيدته هي الصافي الناقي الكامل فماذا يكون؟
وبعد أسطر صرح وقال: فإنه ليس لثقافتنا عقيدة واحدة ولا عقل واحد ولا ذهن واحد ولا تطلعات واحدة ، بل هذه الأمور تختلف من عصر إلى عصر وتتجاوب مع ظروف البيئة الجبلية والسهلية والفلاحية والصناعية. إلى أن قال: وأنماط مشتركة في الثقافات المتوسطية وغيرها والمتعلقة بالبني العائلية والقواعد المطبخية والفنون الشعبية وغيرها.
ويقول أيضاً في نفس المقال:
"فالحداثة الغربية وما أنتجته من ثقافة علمية وتقنية في طريقها لأن تكون ثقافة عالمية بكل ما في الكلمة من معنى، وبغض النظر عن موقفنا الوجداني منها، سواء كان بالرفض المطلق أو الإيجاب المطلق، فالثورة التاريخية الثالثة للإنسان ثورة المعلومات والإتصالات وتقنية الشريعة والإليكترون في طريقها لأن تقلب كل ما عرفه الإنسان من أوضاع اقتصادية واجتماعية وثقافية عرفها في الماضي القريب أو البعيد.ولن تستطيع الثقافات التقليدية المتشبثة بوهم الخصوصية المطلقة وهوس التفرد الثقافي المميز أن تفعل شيئاً تجاه هذه الثورة العالمية التاريخية المكتسحة لكل أنماط التفكير المعتادة".
وأظنك تتحدث عن نفسك ومن هم على شاكلتك ممن لم يفعلوا شيئاً تجاه ما أسميته بالثورة العالمية التاريخية.
أما المسلمون الصالحون من هذه الأمة فإنهم يقولونها وبملىء أفواههم أن لهم ثقافتهم الخاصة ولهم تميزهم المتفرد شئت أنت وأمثالك أو أبيت.
فهذا أيها الأحبة نموذج قريب من الكلمة الخبيثة والتي يدعو بها كاتبها لفكر الحداثة والعلمنة وينتقد أن يكون للمسلمين ثقافتهم الخاصة بهم.
جريدة البلاد - السبت 15/6/1420هـ - السنة 69 العدد 15772
إلى كتابه الكفر والشرك والإلحاد والعياذ بالله وغالبه مدح وثناء على الفسقة والمنافقين. وإذا كتب كلمة حق ، فإنه يحجز في زاوية ضيقة ، أو في عمود لا يكاد يرى إلا بالمكبر.
إن الكلمة شأنها خطير أيها الأخوة ، فما غُزي العالم الإسلامي إلا عن طريق الكلمة ، وما غُرر بهؤلاء الشباب والشابات إلا عن طريق الكلمة ، وما رُوَّج للفساد والإنحلال إلا بالكلمة.وما فسد المجتمع إلا بيت الفكر الدخيل ، والعادات السيئة بواسطة الكلمة ثم وما تخاصم رجلان إلا بكلمة
وما تنافرت العائلات وانتشر الحسد والبغض في بعض الأسر إلا عن طريق الكلمة.
فالله الله أيها الأخوة ، فيما تقولون وما تتكلمون، لتكن كلماتكم لكم، ولا تكن عليكم.
لتكن كلماتكم كلمات جمع ومحبة وائتلاف، ولا تكن كلمات فرقة وبغض وتحاسد
اللهم احفظ ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وقلوبنا من النفاق ، وجوارحنا من المعصية.
(1/1277)
واجبك الآن
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/11/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذلة المسلمين وهوانهم في هذا الواقع المرير. 2- للفرد المسلم دور في رفع الحمل عن
كاهل الأمة المسلمة. 3- كف الأذى عن المسلمين واجب على كل أحد. 4- القرآن يكشف لنا
أعداء الأمة المسلمة. 5- دعوة لمقاطعة سلع وبضائع الدول المعادية للإسلام. 6- دور الفرد
في نشر العلم والخير. 7- التفاعل مع قضايا الأمة وهمومها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لا أظن أن مسلماً يشك في أن أمتنا تمر بمرحلة من الذل والهزيمة ، لم تبلغها في أي حقبة من حقب التاريخ الإسلامي. فقد اجتمعت عليها قوى الشر من يهود ونصارى وشيوعيين وملحدين وزنادقة وعلمانيين ، وأصحاب بدع وأصحاب أهواء وشهوانيين ، وغيرهم. فرمت بسهامها عن قوس واحدة ، فأصابت الأمة في مقاتل عدة.
ومن المقاتل التي أصابت الأمة ، التخلخل ، والنكوص ، والانهزام ، والاستسلام لرغبات العدو ، والإذعان بتنفيذ أوامره ، وانتشار الفساد الخلقي ، والفساد الإداري ، وغيرها من المصائب ، حتى أصبحت الأمة لا تملك من أمرها شيئاً. فالجهاد ومقاتلة العدو الكافر الذي هو ذروة سنام الإسلام قد تعطل ، إلا في نتف يسيرة من الأرض ، بل إن الدعوة إلى الله أصبحت أمراً نشازاً حتى في بعض الأقطار الإسلامية.وأصبحت عملية ترويض الشعوب ، وإخضاعها لعدوها ، والاستسلام لها ، وبذل كل ما يطلبها منها ، هي النغمة التي تردد صباح مساء حتى تقتنع هذه الشعوب بأنه لا جدوى ولا حيلة.
أيها المسلمون: وبعد هذه المقدمة التي لا جديد فيها بالنسبة لمعلوماتكم ، فالجميع يعلم ، بل يشاهد ويرى مآسي في أمتنا.
لكن السؤال الذي ينبغي طرحه ومناقشته ، هو: ما هو دور الفرد المسلم في مجابهة هذا الواقع المؤلم؟ وأنا فرد مسلم ولوحدي ، ما الذي يمكن أن أعمله في مواجهة كل هذه القوى. إن الغارة قد تعددت أشكالها ، واختلفت أنواعها ، وإن القصف بدأ من كل ناحية ، فهل يمكن للفرد المسلم أن يمارس دوراً ويكون هذا الدور دوراً مؤثراً ، وفعالاً في ظل هذا الواقع؟ الجواب لاشك أنه نعم، وهذه الخطبة بحوله وقوته ، جواب على هذا السؤال.
أولاً: إن إحداث التغيير من الأسوأ إلى الأحسن يرتبط بمدى فهم الفرد المسلم لأهمية دوره في إحداث التغيير ، وإن الدور السلبي الذي يمارسه كل فرد من أفراد المسلمين ، إنما يعود في أساسه إلى الجهل المطلق ، لما يوجبه الإسلام على الفرد المسلم من مسؤولية تجاه مجتمعه.
أيها المسلمون: لقد وردت أحاديث كثيرة تحدد دور الفرد المسلم ، في وسط المجتمع المسلم. وترتبط معرفة هذا الدور بفهم هذه الأحاديث ، وربطها بالواقع ، والتفاعل مع مدلولها العام الشامل. ثم إنزالها على حال الأمة في هذا الزمان.
اسمع أخي المسلم إلى بعض ما خرج من مشكاة النبوة ، وهي أحاديث ، لكنها في نفس الوقت دواء لعلاج هذا المرض الذي نتحدث عنه: روى الترمذي في كتاب الفتن حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على ناس جلوس فقال: ((ألا أخبركم بخيركم من شركم؟ قال: فسكتوا ، فقال ذلك ثلاث مرات ، فقال رجل: بلى يا رسول الله ، أخبرنا بخيرنا وشرنا ، قال: خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره)) وعن أبي هريرة أيضاً فيما رواه البخاري في الأدب المفرد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن مرآة أخيه ، والمؤمن أخو المؤمن ، يكف عليه ضعفه ويحوطه من ورائه)) وروى النسائي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)).
أيها الأحبة: إن المعنى العام لهذه الأحاديث وغيرها ، يؤكد أن دور الفرد المسلم دور إيجابي يتفاعل مع قضايا المسلمين ، ويكون عوناً للمسلمين. فيعمل بكل جهده على تقوية ومساندة إخوانه ، ممن يعانون الظلم والاضطهاد، فعلى المسلم أن يُؤمَنَ شره عن المسلمين.وأن يحيط إخوانه ، ويكف عن مساعدة أعدائهم ، وكف اللسان واليد.
أيها الأخوة: يأخذ أشكالاً عدة إذا أحسن المسلم استعمالها فإن تأثيرها على الأعداء كبير من جهة ، كما أنها نصرة للمسلمين من جهة أخرى.
والسؤال هنا مرة أخرى: كيف يمكن للفرد المسلم أن يمارس هذا الدور المؤثر لصالح المسلمين في هذا العصر الذي أصبحت المناصرة الجهادية باليد والمال محظورة ، وباللسان ممنوعة في معظم الأقطار إلا ما رحم ربي. فنقول: بأن الفرد المسلم الواعي قادر على ممارسة الدور ، إذا استشعر المسؤولية تجاه أمته ، ثم عزم على أن يمارس دوره الفردي ، وإن كان مجرداً من أشياء كثيرة ، يظن الكثيرون أنها بدونها لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
إن أول خطوة لممارسة هذا الدور يتمثل في معرفة أعداء الأمة الحقيقيين ، الذين يحملون الحقد والضغينة على الدين وأهله. إن هذه المعرفة وتعمقها في نفس الفرد تمثل الخطوة الأولى في ممارسة الدور. ولهذا نجد أن من ركائز الإيمان الولاء والبراء.
ومن رحمة الله بالمسلمين أنه لم يدع أمر اكتشاف أعدائهم لقدراتهم ، ولكنه سبحانه أوضح أولئك الأعداء بجلاء ووضوح لا لبس فيهما ، فقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بصريح العبارة في قوله تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا وقوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وقوله سبحانه: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً فاليهود وأنصارهم والنصارى وأذنابهم الذين تتركز قوتهم المعاصرة في دول الغرب الكافرة ، عموماً ، هم الأعداء الذين حذر القرآن منهم ، والذين ينبغي على كل فرد مسلم أن يحذرهم على أساس أنهم أعداء، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة. وأيضاً لا يُنسى دور الفرق الباطنية.ثم إن التاريخ القديم والمعاصر أكبر شاهد على ذلك ، بل إن المصائب المعاصرة التي حلت بالمسلمين من احتلال لأراضيهم ، وانتهاك لحرماتهم ، ونهب لخيراتهم ، وتوجيه لولائاتهم، ومساندة لأعدائهم ، والسعي بكل جهد على إيجاد الظروف السياسية والاقتصادية ، لتمكين بلاد المسلمين من قبضتهم. وذلك من خلال تمكين شرذمة من المنافقين المرتزقة الذين تربوا في أحضانهم ، ورضعوا من لبانهم ، للقيام بأدوار في بلاد المسلمين ، عجزوا هم عن القيام بها مباشرة. من خلال القضاء على كل روافد ومنافع الخير للأمة الإسلامية.
أضحى لنا اليوم بين الناس من شان
كي يطرد النوم عنه كل وسنان
ولوعة عمت القاصي مع الداني
تمزقت إرباً في أرض بلقان
في أذربيجان أو في طاجكستان
وفرقة فتكت فتكاً بأفغان
أخسة أهل أصنام وأوثان
وبددت ود أصحاب وجيران
أيدي إليهود على أرجاء لبنان
وما يلاقيه من جوع وحرمان
في الهند عباد أبقار وثيران
رؤوسنا اليوم في ذل وإذعان
وبدلت حينما نامت بغربان
بحبله واحذري من كل فتان
أما التفرق يصلاها بنيران
بفرقة واختلافات وأضغان
وعلام ناصح بالحق رباني
الخير في سنة مُثلى وقرآن
تجلو الهموم وتروي صدر هيمان
سلطانه يتحدى كل سلطان
نبكي فليس لنا إلا البكاءُ فما
نبكي بكاءً يهز النفس يشعلها
نبكي جراحاتنا في كل ناحية
نبكي فلسطين أم نبكي على جثث
نبكي على الأهل ، في السوفيت كم ذبحوا
نبكي المذابح في ألبانيا علناً
نبكي على العرض في كشمير دنسه
نبكي من الحرب في الصومال قد نشبت
نبكى على الجنة الخضراء تحرقها
نبكي لشعب العراق الحر محنته
نبكي منابرنا أمس يحطمها
يا للفضيحة كم نمشي منكسة
باتت نسيور بني الإسلام خانعة
يا أمتي أمّلي في الله واتصلي
يا أمة باتحاد الصف رفعتها
والله لا عزة ترجى ولا أمل
تشبثي أمتي في كل داعية
الخير في عودة لله صادقة
نهر الهداية لا زالت منابعه
والله ما خاب من يرضى به حكماً
وإليك أخي المسلم بعض الأدوار التي يمكنك أن تقوم بها وأنت فرد في وسط هذه الأمواج الملاطمة:
أولاً: هناك دور يمكنك أن تقوم به ، تسميه الدور الاقتصادي ، من الذي يجبرك أن تشتري السلعة الفلانية ، لا أظن أحداً يُلزمك بذلك لو احتسب كل فرد مسلم ، وقام بمقاطعة بعض السلع التي تصدرها بلاد عدائها مكشوف لنا ، ومحاربتها للدين معلن وليس مخفى ، ألا تتوقعون أن هذا يؤثر ، بكل تأكيد أنه يؤثر.
إن هذه المقاطعة لمنتجات الدول المعلنة لمحاربة الإسلام ، وحتى مقاطعة سلع بعض أصحاب الفرق الباطنية ، لا يكلف الفرد المسلم أي جهد ماعدا تغيير نمط الاستهلاك. وإحلال سلعة مكان سعلة ، قد يكون البديل أقل جودة ، لكن هنا يظهر قوة الإيمان ، ومدى التفاعل مع قضايا الأمة ، والاحتساب ، لكن المشكلة أن كل واحد منا ، يقول: أنا فرد واحد ، وما يضر ، وما مدى التأثير لو امتنعت لوحدي ، ولو كل واحد فكر بهذه الطريقة لما تغير واقع ، ولما صلح وضع.
قضية أخرى: أصحاب الشركات والمؤسسات التي تمارس الأعمال التجارية.لو امتنعوا عن استقدام الأيدي العاملة من الجنس الكافر الحاقد ، كالهندوس مثلاً أو غيرهم ، ممن لهم مواقف معلنة ، وفي المقابل حاول أن لا يدخل بلاد المسلمين إلا المسلمين، ويستثنى من هذا ، بعض الكوادر التخصصية النادرة ، أما العمالة العادية فإنه يمكن الاستغناء عنه. وبهذا تكون قد أديت دوراً عظيماً لدينك وأمتك وأنت فرد. وإذا أضفت إلى هذا أنك امتنعت أيضاً عن الاستيراد من بعض الدول بضائعها ، ممن أعلنوا الحرب على الله ورسوله ، فإن هذا يعد عملاً جباراً منك.
أيها المسلمون: هذا دور بسيط ، لا يحتاج إلى كبير تخطيط ، ولا يحتاج إلى أن تتكاتف أنت ومجموعة للقيام بهذا الدور ، إنه من الأدوار الفردية والتي بمقدور كل مسلم أنه يقوم به.
أما إذا حصل نوع من التواصي وتكاتف الجهود وتوحيد الطاقات ، فهذا خير كبير ، ونفع عظيم للأمة ، في مواجهة ما يُدبّر لها.
نسأل الله جل وتعالى أن يبصرنا في ديننا ، وأن يعيننا على أنفسنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن الأدوار التي يمكن أن تقوم بها أخي المسلم وأنت فرد ما يمكن أن نطلق عليه بالدور التعليمي. وهذا الدور يمكن أن نلخصه لك في عدة نقاط:
أولاً: أغلب الآباء يشتكي من ضحالة تحصيل ولده فكرياً وثقافياً بل وحتى سلوكياً. بعد تخرجه من بعض المراحل المتقدمة في الدراسة. حتى إنك لتشاهد الشاب وقد تخرج من الثانوية بل وحتى الجامعة ، ولم ينصبغ بعد بالصبغة الإسلامية ، وليس له تلك الشخصية السوية القوية.
إذاً أتفق معك الآن ، بأن ما يأخذه الولد في مراحله الدراسية ، لا يكفي بل يجب على كل أب أن يكمل النقص وأن يسدد الخلل. المشكلة أن الغالب يظن بأن التعليم المدرسي يكفي ، وأن الإدارة المدرسية مكلفة بكل شيء ، وهذا إحسان ظن في غير محله. إذاً يجب عليك أيها الأب أن تقوم بهذا الدور التعليمي في منزلك ، وتعلم أولادك كل ما يحتاجونه من أمور دينهم ، لأن التعليم المدرسي لوحده لا يكفي.
وإذا أردت برهان على ما أقول ، فإذا رجعت لبيتك الآن ، وبعد هذه الصلاة اسأل ولدك الذي في المرحلة الثانوية أو ما بعدها عن بعض أحكام الغسل من الجنابة ، أو صفة التيمم ، أو كيفية طهارة المريض ، وستدرك صحة ما أقول. وهذه أسئلة وقضايا أساسية ، ناهيك عن تفاصيل بعض الأحكام.
ولنكن واقعيين ، فليس كل الآباء يستطيع أن يقوم بهذا الدور ، فاحرص إذن على أن يلتحق ولدك بأحد حلق تحفيظ القرآن الكريم ، أو مكتبة أحد المساجد القريبة منك ، أو تشجعه على المشاركة في إحدى اللجان الثقافية في المدرسة أو غيرها لسد هذا النقص ، وجبر هذا الخلل.
ثانياً: دور آخر من الأدوار التعليمية والتي بمقدور كل فرد أن يقوم به. استغل أي تجمع ولو بسيط ، كتجمع العائلة أو جلسات العمل الوظيفي أو غيرها وهي كثير ، أن تتكلم بكلام مفيد طيب.ولو كان بسيطاً ، فهذه المرة حكم ثم مسألة ، ثم طرح قضية ، ثم معالجة مشكلة ، ثم إزالة شبهة، ومع مرور الزمن تجد أن الوسط الذي تجتمع معه بدأت تدخل عليهم الأفكار الطيبة ، والتصورات الصحيحة.
ولنكن واقعيين أيضاً في هذه النقطة ، فليس كل أحد يستطيع أن يتكلم وينصح ويُرشد ، بإمكانك أن تقوم بالدور التعليمي بشكل آخر ، وهو أن تنقل كلام غيرك إذا كنت عاجزاٌ أنت عن الكلام. بمعنى: ما الذي يمنع أن تخصص كل شهر مبلغ عشرين أو ثلاثين ريال فقط للقيام بهذا الدور، تشتري بها كتيبات نافعة سعر كل كتيب ريال أو ريالين. وتضع مجموعة منها على طاولة عملك، وكلما دخل زميل أو صديق أو حتى مراجع تهديه كتيباً أو شريطاً، كم يكلفك هذا العمل ، وما مقدار الجهد الذي تبذله في ذلك. إنه لا شيء ، لكن في المقابل كم من الخير ينتشر ، والفوائد تعم وهو دور جبار وعظيم قمت به وأنت فرد وحيد.
أيها الأحبة: هذه مجرد خواطر وأفكار بسيطة جداً أطرحها لك ، ولو فكر كل واحد منا لوحده لتوصل إلى عشرات الأفكار ، وعشرات القنوات التي يمكن من خلالها إحداث شيء ، وتقديم شيء لهذه الأمة المغلوبة على أمرها، حتى ولو كنا أفراداً معدودين لوحدنا. المشكلة أن كل فرد منا ، يحتقر أعماله ، ويرى أنها لا شيء. مقابل هذا الركام.
وفي المقابل، هناك جهود جبارة من أعداء الشريعة ومن خصوم الملة تسعى إلى طمس الهوية الإسلامية وقد تكالبوا وسخروا جميع الإمكانيات من أجل هدم مقومات الأمة ، من خلال إضعاف مفهوم الولاء والبراء ، ومن خلال نشر الرذيلة في بلاد المسلمين وفي أوساط شبابها. ومن خلال نشر المخدرات وتسهيل طرق الزنا والفاحشة. ونشر الأفلام الخليعة وبث سموم الأفكار والعقائد والتصورات في الصحافة والمجلة وغيرها من وسائل الإعلام ، ثم جاءتنا الآن هذه الأقراص الهوائية. التي ما من رذيلة ولا فاحشة ولا منكر ، إلا أدخلته بيوت المسلمين وعلى الهواء مباشرة. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ونحن نعجز ونحتقر هذه الأدوار البسيطة ، وغيرها أكثر والتي سيكون لها دور بإذن الله عز وجل لو فكرنا واجتهدنا وعملنا.
أيها المسلمون: إن للفرد دوراً كبيراً في محاربة أعداء الدين وإفشال خططهم. وبالتالي فالجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام لا يقتصر على حمل السلاح فقط. بل يشمل جميع أوجه الجهاد ، فالتفاعل مع هموم الأمة وقضاياها يمثل لوناً مهماً من ألوان الجهاد. فالمسؤولية الفردية هي مناط التكليف في الشريعة الإسلامية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)). ويؤكد هذا المفهوم حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في صحيحه: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا)). وإذا لم يكن الاستنفار في هذا الوقت فمتى يكون. والاستنفار يتمثل في قيام كل فرد بواجبه الفردي تجاه حماية الأمة بممارسة دوره الفعال ، ودعوة الآخرين للاقتداء به.
(1/1278)
وقفات مع استقبال الدراسة
الأسرة والمجتمع
الأبناء
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/5/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور في ضياع الأبناء وتقصير الآباء في الإجازة. 2- صور أخرى لأبناء أقبلوا على الله
خلال إجازة الصيف. 3- تقديم البعض الدراسة على فروض الله. 4-منكرات يجب تداركها في
بداية العام الدراسي الجديد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
تعيش قطاعات كبيرة من مجتمعنا هذه الأيام حالة استنفار ملحوظة حيث يستقبل الناس العودة الى المدارس والكليات والمعاهد والجامعات، وهذه الظاهرة تتكرر كل عام، ولا بد لنا أن نقف معها وقفات:
الوقفة الأولى: ماذا حدث في الإجازة؟ وكيف قضاها أبناؤنا وبناتنا؟
اعلم أيها المسلم أنه قد سُجّل في صحائف أعمالك نتائج المسؤلية الملقاة على عاتقك من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) فتأمل أيها المسلم أيّ رصيد من الخير جنته رعيتك؟ أم أن الأمر خلاف ذلك كما حدث مع الأسف الشديد حيث كان يعيش كثير من الشباب والشابات في الإجازة حياة بائسة، سهر في الليل ولا ينامون إلا بعد طلوع الشمس، وياليته سهر على مباح، ولكنه سهر على القنوات الفضائية التي تفسد القلوب وتلوث الأخلاق. كان نتاجه على مستوى الشباب مجموعةً من الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، كقصات الشعر القبيحة، التخفيف من الأطراف السفلية، والتكثيف من الأعلى، ولبس بعض الأشياء التي يستحي المسلم من وصفها، مقلدين في ذلك أقواماً من الكفرة الذين لايحسنون إلا خداع هؤلاء الشباب المساكين الذين رضوا بأن يكونوا أذناباً لأولئك المنتكسين.
وأما على مستوى البنات فالهمّ أعظم، والخطب أخطر، حيث صارت كثير من البنات لايفكرن إلا في تقليد الكافرات والعاهرات والممثلات والراقصات، ووالله لولا أن مجتمعنا فيه بقية من حياء لرأينا ما يجعل الحليم حيرانا.
وإن نظرة واحدة على البضائع النسائية في سوق الألبسة يعلمك أيها المسلم أيّ مدى وصل إليه نساؤنا وبناتنا، فأكثر السلع الآن في الأسواق هي من القصير الذي ربما لم يصل إلى الركبة، وبعضها أسفل الركبة بقليل، وصارت الفتحات ذات اليمين وذات الشمال في أكثر الملبوسات، أما البنطلونات للنساء فحدث ولا حرج مما يتعجب منه المسلم ويستغرب حدوثه في مثل هذا المجتمع، والأغرب منه هو رضى كثير من أولياء الأمور الطيبين الصالحين المصلين من لبس نسائهم وبناتهم البنطلونات.
وأما العباءات التي هي أصلاً للستر صار الباعة يتفننون في تطريزها واختراع الموديل الجديد لها، فأي ستر يُبحث من وراء عباءات الكتف وغيرها، التي ربما زادت المرأة فتنة على فتنة، والأمر قد يزيد خطره ما دام أولياء الأمور مشغولين بل أقول ممسوخين لأنهم لايعرفون عن بناتهم شيئاً إلا أنها تخرج مع السائق وإلى الله المشتكى.
أيها المسلمون: هنيئاً لكل أب وأم ممن رزقهم الله أولاداً صالحين وبنات صالحات، فقد سُجّلت الحسنات في صحيفة كل والدين إن شاء الله تعالى كان ولدهما ممن يثني ركبتيه في حلقات العلم، لاسيما الدروس العلمية التي أشرف عليها مركز الدعوة والارشاد مشكورةً، فكان مجموعات من الشباب المقبل على الله يتزاحمون على أبواب المساجد راغبين في العلم والأجر، مهدين لأهليهم ووالديهم مثل أجورهم، فشكر الله لهؤلاء الشباب صنيعهم. وشكر الله للمشايخ المشاركين جهدهم وعنائهم.
ويا خسارة كل أب وأم ممن رزقهم الله أولاداً وبناتاً على عكس ما ذُكر، فقد يكون قد سجلت السيئات في صحيفة كل والدين ممن كان أولادهم ممن يسهرون حتى الصباح، ومعظم ليلهم في المطاعم والأسواق وأماكن الفساد، محمّلين أهليهم مثل أوزارهم.
أيها الأخوة في الله: قد لا ينفع الآن التحسر على ما مضى من الإجازة، والمقصود لنا جميعاً أن يحاسب كل واحد منا نفسه ماذا صنع في الإجازة؟ وماذا صنع أهله وأولاده؟ وليس المراد هو مجرد المحاسبة، ولكن المراد هو الاستفادة من الأخطاء وتدارك المستقبل وتصحيح الأوضاع.
الوقفة الثانية: مع صبيحة أول يوم من الدراسة تزدحم الشوارع بالسيارات التي يقودها في الغالب السائقون، وربما قادها ولي الأمر نفسه، وسيحدث استنفار عام في المملكة غداً صباحاً، ويتساءل المسلم كيف استيقظ هؤلاء؟ ومن أجل ماذا ؟
نعم: لقد استيقظوا رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً وأطفالاً من أجل الدراسة. وهذا في حد ذاته أمر حسن، ولكن أين هؤلاء الشباب والرجال عن حضور الصلوات، لقد كان كثير من الآباء والأمهات إلى هذا اليوم، وهو آخر يوم من الاجازة، يشتكون من أولادهم أنهم لايستيقظون إلاّ - وبدون مبالغة - قرب العصر أو بعد العصر أحياناً، فكيف سيستيقظون غداً؟ وماذا سيفعل الآباء والأمهات؟ سيتغير الحال في يوم وليلة.
فما هو السر؟ إنه ليس سر، وليس هناك أسرار، إنه الحرص والحرص على الدنيا، لقد قدّس بعض المسلمين الدراسة أكثر من تقديسهم للصلاة، التي هي فرض بإجماع المسلمين، هذا هو السر. أيّ معنى أيها المسلم للإسلام الذي تدعيه وأنت لم تتكدر طوال الإجازة عندما كان أولادك البالغين ينامون عن صلاة الفجر ويتخلفون عن غيرها عن المساجد، وأنت أنت بنفسك غداً ستعمل المستحيل حتى توقظهم من أجل المدرسة.
نقولها أيها الأخوة بكل صراحة ووضوح ولا أحد يزعل: أن الدراسة أصبحت عند من هذا حاله مقدمة على طاعة الله جل جلاله. لكن الذي قد يخفى على البعض، هل تدرون ما حكم هذا في الشرع؟ حكمه: أن الدراسة إذا قدمت على طاعة الله واحتلت المرتبة الأولى في اهتمام المسلمين على حساب أعظم شيء من الأعمال، وهو الصلاة كما هو واقع اليوم، فإن الدراسة حينذٍ ستكون طاغوتاً يعبد من دون الله.
إن الأمر أيها الأحبة يحتاج منا إلى تفكر وتأمل، فإن الله يمهل ولا يهمل، والعاقل من وعظ بغيره، فلماذا لا نحرص على الدين وعلى طاعة الله وعلى إصلاح أبنائنا كما نحرص من أجل الدراسة؟ ولماذا يتغير وجه ولي الأمر إذا جاءه الخبر أن أحد أولاده قد رسب في أحد المواد، ولا يتغير وجهه بل ولا يهمه أن يرى أبناءه يشاهدون فلماً خليعاً أو مسلسلاً ماجناً أو حتى يشاهدون مباراة لكرة القدم، فيؤذن المؤذن للصلاة ويصلي المسلمون، بل ربما خرج الوالد بنفسه وصلى مع الناس، ويخرجون من المسجد وأولاده كالأصنام لم يتحركوا؟ لماذا لم يتغير الوجه هنا وتغير هناك؟ الجواب أتركه لك أيها الوالد الكريم. لكن أنا متأكد أني أتفق أنا وأنت بأن هذا الأمر لا يرضى به إلا من ضعف يقينه بالله، واستهان بمحارم الله، كما أتفق معك بأن باب التوبة مفتوح، وأن التوبة تلغي ما قبلها من السيئات. إن الحسنات يذهبن السيئات.
أيها المسلمون: يجب علينا تدارك المنكرات الآتية: ونحن نستقبل عاماً دراسياً جديداً:
أولاً: عدم الاستيقاظ لصلاة الفجر والتفريط في ذلك من قبل بعض الطلاب والطالبات، وقد ورد من الوعيد للذي يترك صلاة الفجر في وقتها ما تقشعر منه الأبدان، وتخافه القلوب المؤمنة.
ثانياً: يجب على أولياء الأمور أن يتابعوا أولادهم في أثناء الدراسة وأن يحرصوا على الصحبة الطيبة لأولادهم وبناتهم، فمن الإهمال الذي يأثم صاحبه أن لا يسأل الأب ولا الأم أولادهما عن أسماء أصحابهم ومع من يجلسون.
ثالثاً: من المنكرات التي يجب على المسلمين الإقلاع عنها ركوب الفتاة الطالبة مع السائق لوحدها، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) فيجب على المسلم أن يتقي الله ما استطاع، ومن استعان بالله أعانه الله.
رابعاً: من المنكرات وهذا يجب أن يشدد فيها الآباء بل ويتأكد منه بنفسه عدم خروج الطالبة متعطرة إلى المدرسة، وهذا أمر قد شاع وانتشر ولا حول ولا قوة إلا بالله، مع علمنا بأن المتعطرة إذا خرجت وشمها ولو رجل واحد فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدها زانية نسأل الله العافية، والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة.
خامساً: من المنكرات المتكررة تسكع بعض البطالين من الشباب المشكوك في رجولتهم، يتسكعون عند مدارس البنات، وهذه الظاهرة تدل على تخلف المجتمع، وعلى غياب الرقابة، وعلى ضعف الدين والخلق، وعلى الفراغ الذي يعيشه هؤلاء الشباب إما لعدم الدراسة أو عدم الوظيفة. فيجب علينا جميعاً التعاون في إزالتها بنصح هؤلاء الجهلة وبحفظ بناتنا من التبرج وتحذيرهن باستمرار من هؤلاء، بالإضافة إلى التعاون مع رجال الهيئة وفقهم الله لإزالة هذا المنكر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله ان الله عزيز حكيم.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل في كتابه: وما تنفقوا من خير فان الله به عليم وأشهد أن لااله الا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا)) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
الوقفة الثالثة: ومع استقبال عام دراسي جديد، فإن قرطاسية جامع النور، هذا المشروع الخيري الذي بدأناه قبل سنتين، وها نحن ولله الحمد ندخل عامنا الثالث، خلاصة المشروع هو تأمين حاجيات الطلاب المدرسية للأسر الفقيرة في الحيّ.
لا يخفى على أحد الأوضاع الاقتصادية الحالية، وهناك عشرات الأسر في كل حي وبعضها مئات لا يجدون الحاجات الأساسية، فماذا يفعل الأب الذي راتبه ثلاثة آلاف هذا إذا كان يحصل على ثلاثة آلاف ولديه ثلاثة أو أربعة من الأبناء في المدارس، ولا أظن يخفاكم أسعار قرطاسيات الطلاب. بدأ المشروع من هذه النقطة.
ولو أن كل إمام في حيّه أو حتى بعض الطيبين اعتنى بهذا الجانب واستحث الموسرين في الحي وسدوا النقص عند الفقير فإن هذا عمل نبيل، وقد تعاون معنا أغنياء الحي والموسرين منهم مشكورين، وأنا أعلم أنهم لا يريدون الشكر من أحد، وإنما ساهموا معنا إحتساباً عند الله عز وجل، أسأل الله جل جلاله أن لا يحرمهم الأجر والمثوبة. وسنحاول إن شاء الله تعالى أن نصرف اللوازم المدرسية من الغد إن شاء الله تعالى، ومن أراد المشاركة والمساهمة فالباب مفتوح للجميع.
(1/1279)
وقفات مع سورة الإنسان
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/8/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القرآن كتاب هداية للبشر. 2- موضوعات سورة الإنسان. 3- خلق الله الإنسان من العدم
برحمته. 4- الحكمة من خلق الله للإنسان الابتلاء. 5- أعطى الله الإنسان القدرات التي تعينه
في هذا البلاء. 6- الجزاء الأخروي لكل من البر والكافر. 7- صفات الأبرار الناجين يوم
القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون ويقول: ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً أنزل الله القرآن لسعادة النفس وطمأنينتها ، ولم ينزله لشقائها طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أنزله الله لتهتدي نفس الإنسان ، قال سبحانه: إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً وافترق الناس في اتباع هذا القرآن فمنهم من آمن به وصدق بما فيه وعمل به ، ومنهم من كفر به وكذب ما فيه وجحد. المؤمنون آمنوا به فكان لهم شفاءً قال سبحانه: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، والكافرون كفروا به وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ، وإذا قرئ القرآن لا يسجدون.
أيها الأخوة: المؤمنون في هذه الدنيا لهم أحوال وأحوال مع هذا القرآن العظيم. لهم منال عالية وأحوال زاكية ، زكوا أنفسهم بتلاوته ، وعطروا أفواههم بقراءته ، نظروا فيه فتدبروا وعملوا بما فيه وتفكروا، وقد نهى الله على من لم يتدبر فيه فقال: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها. وكم من قلب عليه قفل لا يفتح إلى يوم القيامة ، وكم من قلبٍ امتلأ بالتدبر فيه ، والتأمل في آياته والاعتبار بعظاته. أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد.
أيها الأخوة: لنا وقفات مع سورة عظيمة ، فيها لفتات وعظات ، وتذكير بآيات ، سورة مكية نزلت على فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحركت قلبه ، وربطت جأشه، سورة اهتمت بشأن الإنسان من حيث هو إنسان ، ولهذا لم يكن لها اسم إلا "سورة الإنسان". سورة الإنسان سورة عظيمة ، فيها عبرة وفكرة ، فيها ذكر خلق الإنسان ، وفيها أحوال الناس وتمايزهم لكافرٍ ومؤمن ، وفيها صفات الكفار والمؤمنين ، وفيها أمر المعاد وحشر العباد ، وفيها التثبيت للمؤمنين ، سورة في مجموعها هتاف إلى الطاعة والإيمان وترك الكفر والخسران.
أيها الإنسان لهذا ولغيره كان يقرأها عليه الصلاة والسلام في فجر الجمعة لما فيها من هذا التذكير ولما فيها من ربط القلب بأحوال اليوم الآخر ، وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين. وما ألذ سماع هذه السورة من لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ما أعظم الأثر الذي يحصل على قلوب الصحب الكرام وهم يستمعون في كل فجر جمعة إلى هذه السورة ، وهو يرتلها ويتغنى بها ، تخرج الآيات من قلبٍ امتلأ بالإيمان واليقين ، تخرج الآيات من قلب نزل عليه القرآن المبين ، كانوا يسمعون لصوته أزيز كأزيز المرجل والقدر إذا استجمعت غلياناً ، يقرأها في صلاة فجر الجمعة والملائكة شهود وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ومع هذا الجو الإيماني العظيم ، ترتفع أحوال الصحب وكأنهم يرون الجنة عياناً ، ينظرون ما فيها ، ويتأملون كيف أمرها وشأنها.
فيا أيها الإنسان: لهذا ستكون لنا وقفات مع سورة الإنسان. ففيها تذكير وعظات ، وتخويف وذكر للجنات. يقول الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنَّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً. هذه السورة شأنها الإنسان تذكر حاله ومآله ، وكيف كان وأين كان يقول سبحانه: هل أتى على الإنسان.. أجاء هذا الوقت ، أكان الإنسان في وقتٍ من الإوقات معدوماً ، غير مذكور ، كان عدماً محضاًً ليس بشيء ، أجاء هذا الوقت عليه ، نعم جاء، فلقد كان الله ولا شيء معه ، كان الله ولم يكن قبله شيء ، هو الأول والآخر ، وأنت أيها الإنسان كنت عدماً في ذلك الوقت ، لم تكن شيئاً مذكوراً ، ولهذا الاستفهام ههنا: هل أتى على الإنسان.. قال العلماء: هل ههنا بمعنى: قد ، يعني أنه قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، قل لي بربك أنت ، أنت أيها الإنسان الذي أمامي الآن إذا كنت عدماً ولم تكن شيئاً في ذلك الزمن ، فقل لي: من شفع لك عند الله في ذلك الزمن - قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - عندما كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم ويوجدهم ، قل لي بربك:من شفع لك في ذلك الزمن حتى يكتبك الله في أهل الإيمان والإسلام ، ولم يقدر عليك الكفر والضلال ، وفقك للسنة وأبعدك عن البدعة ، جعلك من أهل التوحيد ولم تكن من أهل الشرك.
أيها الإنسان - يا من كنت عدماً - من شفع لك وأنت غير مذكور ولم تكن بعد شيئاً ، إنها رحمة الله بعبده ، قال صلى الله عليه وسلم: ((وإن الله خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور يومئذٍاهتدى ، ومن أخطأه ضل)) [رواه الحاكم وسنده صحيح].
وهذا لعلمه بهم سبحانه وتعالى وقدرته بخلقه. ثم بعد ذلك خلقك؟ وبم خلقك؟ ولماذا خلقك؟ وماذا جعل لك من الأدوات حتى تحقق غاية الخلق؟ قال: إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً خلقك من نطفة ، وكثيراً ما يذكر الله الإنسان بأنه خلقه من نطفة بعد أن لم يكن شيئاً ، حتى يتذكر ويعلم لماذا خلق ولماذا أوجده الله أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى وهل من نطفة فحسب؟ لا ، بل من نطفةٍ أمشاج: يعن أخلاط ، من نطفة الذكر والأنثى ، ولماذا هذا الخلق من نطفةٍ أمشاج. قال: نبتليه إذن خلقك وأوجدك ليبتليك بالعبادة والطاعة والمعصية. ليس للابتلاء بهموم المعاش وهموم وغموم الدنيا ، لا ، فإن هذا تشترك فيه كل المخلوقات ، أمَّا الإنس والجن فخلقهم الله للابتلاء بعبادته ، ليعلم من يعبده ممن لا يعبده نبتليه نختبره ولهذا قال: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وبين الغاية من الخلق ووضحها وأنها للعبادة فقال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون قال سبحانه: يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا (يعني: حقاً) بل تكذبون بالدين.
فيا أيها الإنسان: لمَّا خلق الله الخلق لغاية كان لابد أن يرسل إليهم رسلاً وأنبياء ، لابد من نزول الوحي ، ولابد من تفصيل الشرائع والأحكام!! وكيف يعلم الإنسان هذه الأمور؟ إنه عدم محض ، ليس شيء ولا شيء ولا فيه ولا منه شيء ، لهذا قال الله: نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً جعل له السمع والبصر حتى يهتدي بهما حتى يعبد الله بهما لا يعبد الشيطان والهوى بهما ، فمن الناس من سخر هذه الأدوات: السمع والبصر ، الأيدي والأرجل ، التفكير والعقل ، الأحساسيس والمشاعر ، منهم من سخرها لعبادة هواه لا لعبادة الله ، فلا يقرأ القرآن ، وتجده يتلو قرآن الشيطان الغناء ، ولا ينظر في المصحف ببصره ، وينظر في الحرام ببصره ، ولا يسمع الهدى وكلام الرحمن ويسمع مزمار الشيطان ، فيا أيها الإنسان: أنت أنت يا من تسمع وتبصر ، في ماذا تستخدم سمعك وبصرك في يومك وليلتك. هل انتبهت لماذا أعطاك الله السمع والبصر ، هل عبدت هواك بهما أم عبدت الله بهما. فيا أيها الإنسان: الذي حرم الآخرين من السمع والبصر أليس هو قادراً أن يحرمك أنت أيضاً وتحاربه فاتق الله يا عبد الله.
ثم يقول سبحانه عن هذا الإنسان: إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كافوراً هديناه هداية الدلالة والارتقاء والتبيين ، وضح له من حيث هو إنسان ، فلم يمنع الله الإنسان من الهداية:هداية الدلالة والتبيين والتوضيح ، وضح له السبيل ، وطريق الجنة والنار. إنا هديناه السبيل إما شقي وإما سعيد ، إما شكور وإما كفور ، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو ، فبايع نفسه فموبقها أو معتقها)) كل الناس - وأنت منهم - أيها الإنسان يغدو في دنياه يحيى ويعيش ويتمتع ويلهو ، يغدون ويروحون ولكن هم قسمين:فبايع نفسه فموبقها، يعني مهلكها بأن يختار الضلال على الهدى ، وقسم يغدو ولكن: يعتق نفسه ، يعتق نفسه من عبادة هواه ويعبدها لله ، ويختار الهدى على الضلال ، فهو يرى الرسل قد أرسلت ، والجنة والنار قد خلقت ، والجحيم سعرت، والجنة أزلفت والناس درجات في الجنة أو دركات في النار ، فيتأمل في غدوه ورواحه فلا يختار إلاّ الهدى والإيمان.
أيها الإنسان: وبعد هذه اللفتات في أول السورة ، يبدأ في بيان أحوال الشاكرين المؤمنين من الناس ، ويبين أحوال الكافرين الضالين. ويبين الله ما لكل فريق من الناس من الجزاء ، ومن النعيم أو العذاب ، فهم ما بين درجات الفردوس الأعلى ، ودركات في النار السفلى. يقول بعد ذلك سبحانه: إنا أعتدنا (أي أعددنا) للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً وبعد هذا يذكر حال ذلك الإنسان الذي آمن واهتدى وأعتق نفسه من رق العبودية لغير الله فيقول سبحانه: إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً متكئين فيها على الآرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً ويطاف عليه بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضة قدروها تقديراً ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً عيناً فيها تسمى سلسبيلاً ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثَمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إنَّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً. شتان بين مصير ذلك الإنسان الذي اختار الضلال وبين ذلك الإنسان الذي اختار الهدى ، شتان بين من اتبع الهوى وختم الله على قلبه وسمعه وبصره وبين من كان على نور من ربه ، بربه يسمع وبه يبصر ، وإليه يسعى ويحفد يرجو رحمته ويخشى عذابه.
أيها الإنسان:انظر إلى عذاب الكافر: إنَّا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً أعد الله لهم سلاسلا ، يسحبون بها في النار. إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الحميم ثم في النار يسجرون. قال تعالى: وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه (إن هذا الإنسان) إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. قال تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق ذق أيها الإنسان يا من كفرت وتجبرت ، يا من لا تصدقت ولا صليت ، ولا حججت ولا تزكيت ، ذق أيها الإنسان يا من سمعت بالهدى، فاستحببت العمى. الأمر كأنه لا يعنيك وترى حالك التي أنت فيها أنها تكفيك... ويلك آمن أيها الإنسان فإن الأمر إما جنة نعيم أو نارٌ وجحيم ، اللهم اجعلنا ممن تبع هداك وآمن بك وقدم لنفسه وآخر ، وممن تعلم وتعبد وسعى وأحفد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فهذا هو حال الإنسان الكافر ، جحيم ونار من حميم ، وسلاسل وأغلال وعذاب ووبال. وأمَّا حالُ الإنسان المؤمن ، فهو فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً يشربون من كأس خمر لذةٍ للشاربين. هل تعلمون ما معنى: يفجرونها تفجيراً عجب وأي عجب: يعني يفجرونها إلى حيث يريدون وينتفعون بها كما يشاؤون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكانٍ يريدون وصوله إليه. قال مجاهد: يفجرونها تفجيراً يعني يقودونها حيث شاؤوا حيث مالوا مالت معهم. هذا شيء من نعيم الأبرار ، شيء من نعيم ذلك الإنسان الذي سمع الهدى فاهتدى، والتزم به وترك الضلال ، هذا شيء من نعيم ذلك الإنسان الذي علم لم خلق؟ وما هي الغاية من ذلك؟ فالتزم واهتدى بهدى الله ونوره ، ويهدي الله لنوره من يشاء ، ما هي صفات هؤلاء الأبرار ما هي صفات هؤلاء الناس في الدنيا التي بها فازوا حيث خسر بقية الناس يوم القيامة؟ تعال وردد الآيات واستمع لها حتى تعلم أيها الإنسان أأنت منهم ، أم أنك مخدوع في نفسك؟ يقول سبحانه: يوفون بالنذر (هذه واحدة) ويخافون يوماً كان شره مستطيرا (هذه الثانية) ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً (هذه الثالثة).
يوفون بالنذر مع أن النذر هم أوجبوه على أنفسهم ، النذر ليس واجباً عليهم، ولكنهم إذا نذروا وفوا ، وإذا كان هذا في الواجبات التي ألزموا أنفسهم بها فكيف بالواجبات التي افترضها عليهم ، كيف بالصلوات ، كيف بالأوامر الشرعية ، كيف امتثالهم للآمر والناهي سبحانه وتعالى، هذا من باب أولى أنه عظيم ، بل إنهم ليجيئون بهذه الأوامر ويتركون النواهي وهم يخشون ألا يقبل الله منهم شيئاً ، لم يحسنوا الظن أبداً في أنفسهم. قال سبحانه: والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون قالت عائشة: يا رسول الله الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة: هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف ألا يقبل الله منه)).
ومن صفاتهم المذكورة في الآيات: ويخافون يوماً كان شره مستطيراً شره منتشر مستيطر ، لا يسلم منه أحد. إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم فمن رحمة الله في ذلك اليوم وقاه الله شر ذلك اليوم.
ولهذا قال الله عن المؤمنين لما خافوا ذلك وأصابتهم الخشية والوجل منه فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً بينما ذلك الإنسان الذي لم يتبع الهدى يوم يرى الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقراً وأحسن مقيلاً ويوم تشقق السماء بالغمام (بالسحاب) ونزل الملائكة تنزيلاً الملك يومئذٍ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً وأمَّا من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبوراً ويصلى سعيراً إنه كان في أهله مسروراً. ألهته الدنيا فعبد نفسه وهواه ، وترك عبادة الله.. وصلِ الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
(1/1280)
وممن خلقنا أمة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/12/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوحي والنبوة سبيل جعله الله لهداية البشرية. 2- مصيبة انقطاع الوحي بوفاة النبي.
3- العاملون للإسلام أمة ، ولا ينحصر هذا الأمر بفرد أو عالم. 4- لا يستطيع فرد أو أصحاب
منهج معين أن يدعو العصمة لأنفسهم. 5- بشارة النبي بالطائفة المنصورة. 6- من
خصائص الأمة المسلمة الطائفة المنصورة الباقية إلى قبيل قيام الساعة. 7- أعداء الطائفة
المنصورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بدهية لا يجادل فيها مسلم، وهو أن القرآن ما أُنزل إلا ليُعمل به.قضية على حسب ما أظن أنه لا خلاف فيها من الجهة النظرية، القرآن لم يُنزل إلا ليعمل به ويطبق في واقع الناس، لكي يأتمر الناس بأوامره، وينتهوا عن زواجره.
إذاً فالقرآن لم ينزل للتراويح في رمضان فحسب، وإنما ليمتثل الناس آياته، فينصلح اعتقادهم وأخلاقهم وسلوكهم، وما هذا الانحراف الذي نراه في دنيا الناس خلقاً وسلوكاً بل واعتقاداً إلا لبعد هؤلاء عن كتاب الله، وإن كانوا في الجملة مسلمين.
ولهذا فمن حكمة الله عز وجل أن الكتاب الذي يُنزل على قوم، يتمثل به بشر من الناس لكي يدرك الناس أنه واقع وممكن التطبيق على مدار التاريخ كله، لم يحدث قط أن أنزل الله تعالى على الناس كتاباً مسطوراً يقرؤونه دون أن يكون ثمة رسول من البشر يحمله ويبلغه للناس. فيقوم هذا الرسول البشري بتبليغ وحي الله جل وتعالى لقومه، ويكون هو أول الممتثلين لأوامره وزواجره، ولذلك كان شعيب عليه السلام يقول لقومه: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه وقد خُتم المرسلون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كان مسك الختام، وواسطة عقد النظام، وكان موته صلى الله عليه وسلم يعني، نهاية تنزل الوحي على بشر، لقد انقطع بموته خبر السماء، ولهذا كان من عظيم فقه تلك المرأة، أم أيمن كما جاء خبرها في صحيح البخاري، أنها بكت عندما استشعرت هذه الحقيقة.
ففي صحيح البخاري أن أبا بكر قال لعمر رضي الله عنهما، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما جاءا إليها بكت، فقالا لها، ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما أني لا أبكي إني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء.فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها.
إنها امرأة فقيهة حقاً، إن فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن سهلاً عليها، كيف وهي حاضنته، ومن أقرب الناس إليه، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويتلطف معها، وكان ابنها أسامة وزوجها زيد من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن صلى الله عليه وسلم، بالذي يهون فقده، لكن هذه الفقيهة والتي قليل من الرجال يتنبه إلى ما تنبهت إليه هذه المرأة. وهو الجانب الآخر من موته صلوات ربي وسلامه عليه، وهي قضية انقطاع الوحي من السماء، واستمرارية تنزل هذا الفيض الإلهي.
لكن الله عز وجل بحكمته وعلمه جل وعز، يعلم ما يختار لهذه الأمة، ويعلم سبحانه بأن الخير لن ينقطع بموت المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولن يتوقف المد الإسلامي إلى قيام الساعة، ومن فضل الله جل وتعالى، على هذه الأمة، أن جعل هناك ورثة يخلفون الأنبياء في العلم والدعوة، والتربية، ويأخذون بأيدي الناس إلى الحق والعدل، قال الله تعالى: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
ولنا مع هذه الآية وقفة تأمل:
الوقفة الأولى: إن هؤلاء الذين يهدون الناس بالحق وبه يعدلون، هؤلاء الذين سخروا وبذلوا كل ما يملكون في سبيل خدمة هذا الدين، هؤلاء أمة، وممن خلقنا أمة.فهم ليسوا آحاداً معدودين، وليسوا أفراداً محدودين، إنهم أمة.
فليس دين الله عز وجل كله منحصر في رجل أو في عالم، أو في شيخ، بحيث أن هذا العالم، لو أسكت، أو قُتل أو حتى مات، ضاع الناس، وتاهت الأمة أبداً، إنهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
فكم في هذه الآية لمن تأملها من البشرى والاطمئنان لأولئك الذين يصيبهم الخوف والذعر، بل ربما اليأس والإحباط، لو سمعوا بموت عالم، أو بفقد إمام، أو إسكات شخص صحيح إن كل له وزنه وله ثقله، وصحيح أن الناس تتأثر، ولابد لها أن تتأثر لو خسروا شخصاً مبرزاً في جانب، لكن هذا لا يعني توقف الإسلام، أو موت الدين، لأن فلان قد مات، أو فلان قد قتل أو نحو ذلك.
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
إن من الخطأ أن نربط مستقبل الإسلام، أو مستقبل الدعوة، أو مستقبل الصحوة بفرد، أو رجل، أو بشيخ، نعم، هناك رجال لا شك أن لهم تأثيراً واضحاً في دفع عجلة المسيرة، لكن هم أشخاص، قد يقوم غيرهم مقامهم.
وقد يموت شخص فتحيا أمة، أو يبدل الله الناس خيراً منه.وكل شيء عنده بمقدار.
فهم إذن أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وليسوا آحاداً من البشر، فكم لله من خطيب، وكم لله من داعية، وكم للخير من أبواب وأسباب.
نعم، ليس عليك من حرج أن تحزن لغلق باب من أبواب الخير، ولكن الحرج أن تعتبر أن مصير الأمة، ومستقبل الإسلام مرتهن بهذا الباب، فاعلم أخي المسلم أنها أبواب. أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
الوقفة الثانية: أن هؤلاء الثلة الذين أخذوا على أنفسهم هداية الناس بالحق، وهم أصحاب حق وعدل، ليسوا منحصرين في زاوية ضيقة من الأرض، أو في بقعة محدودة من المكان، أو تحتويهم جنسية معينة، أو بلد معين.
من الذي قال أو يستطيع أن يقول بأن العلم كله عند فئة معينة، منحصر فيهم، وجميع الدنيا لابد أن يكونوا تبعاً لهم.
ومن الذي يستطيع أن يقول بأن الصواب في كل مسألة، وفي كل فتوى، عند فئة معينة من العلماء، لا يعرف الصواب غيرهم، من الذي يستطيع أن يقول بأن الجهاد، والقتال، ومنازلة الأعداء، منحصر في الشعب الأفغاني مثلاً، لا يجيده غيرهم.
الله جل وتعالى يقول إنهم أمة وممن خلقنا أمة ، ولم يحدد سبحانه وتعالى مكان هذه الأمة، فلم يقل سبحانه: إنهم محصورون في الجزيرة دون غيرهم، أو أنهم في الشام دون غيرهم.لكن ذكر سبحانه أوصافاً لهم: يهدون بالحق وبه يعدلون.
فمن أخلص لله جل وتعالى، وعمل بهذه الصفات فهو من ضمن هذه الأمة المعينة.
أما أننا نسمع أحياناً، بأن الحق كله، والعلم كله، والصواب في كل فتوى، منحصر في جهة معينة أو هيئة معينة، فهذا غير صحيح.
الله عز وجل أنزل كتابه - وهو هذا القرآن - على العرب، ونزل بلسانهم، فكانوا هم الحفظة لهذا الكتاب.ثم لما تغافلوا في بعض فترات التاريخ إما بسبب الاستعمار في بعض الدول، أو بأسباب أخرى في غيرها من الدول، قيض الله عز وجل، لحفظ كتابه، أعاجم، لا ينطقون بالعربية حرفاً واحداً، فظهر حفظه لهذا الكتاب على يد متقنين، لكتاب الله وبالأحرف السبعة، في دول شرق آسيا، كالهند وباكستان وبنغلاديش وغيرها، من تلك البلاد.
فالقضية ليست مُنحصرة على أحد، والدين ليس ملكاً أو حكراً على أحد، كل من أخلص وجهه لله، وبذل الأسباب وفقه الله عز وجل، والقضية ليست بالدعاوى، وإنما بالحق والعدل كما نصت الآية. قال الله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
الوقفة الثالثة: إن هذه الآية والتي نحن بصدد التأمل فيها، هي بمعنى ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر حيث قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلا ما يصيبهم من اللأواء حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس)).
إذاً هم أمة – وممن خلقنا أمة - وهم طائفة هذه الأمة أو الطائفة المنصُورة، لماذا؟، لأنهم يهدون بالحق وبه يعدلون، هذه الطائفة وهذه الأمة من هذه الأمة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، فمهما خالفهم الناس ومهما خذلتهم الأوضاع، فهذه الطائفة منصورة، ثم ختم المصطفى صلى الله عليه وسلم، صفاتهم بأن قال: ((وهم ظاهرون على الناس)).
وهنا لفتتان: الأولى: أنهم ظاهرون على الناس، فهم منارات بين الناس، أعلام في الواقع، ظاهرين بارزين واضحين بين الناس، لا يمكن أن يغيب نورهم مهما ادلهم الظلام، واحلولك الليل، فمهما بذلت من محاولات ومن جهود لطمس شخصية هؤلاء الرموز، أو حجب أنظار الناس عنهم، أو توجيه قلوب العامة إلى غيرهم، فهذا مستحيل، لأنهم ظاهرون على الناس، فمهما حاول هذا المسكين أو ذاك أن يحجب نور الشمس بيده عن الناس، كيف أن العامة تضحك من عقله. فكذلك كل محاولة لحجب نور هذه الطائفة وهؤلاء الأعلام عن الناس، تعتبر كتلك المحاولة.
اللفتة الثانية، في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: - ((ظاهرين على الناس)) - هو أنه يمتنع منعاً باتاً أن تهيمن هذه الجاهلية، هيمنة مطلقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا شيء من معنى الظهور على الناس، نعم إن أعداء هذا الدين وخصوم هذه الشريعة والحاقدين على هذه الملة قد يتمكنون من السيطرة على بلد أو حزب أو فئة، أو قد يتمكنون من التقتيل والتشريد في بعض الأماكن، أما أن يتمكنوا من سحق هذا الدين كاملاً، ومحور وجوده من الأرض، فإن هذا يستحيل وهذا يتعارض مع – ((ظاهرين على الناس)) - التضييق يمكن، والحد من الإنتشار يمكن، وتأخير التمكين يمكن، لكن الهيمنة المطلقة على هذه الأمة فيستحيل، فإن هذه الطائفة ظاهرين على الناس.
ومن معاني الظهور بقاؤها إلى قرب قيام الساعة، ولا يستثنى من هذا الظهور إلا الفترة اليسيرة التي تسبق قيام الساعة، حين يدرس الإسلام كما يدرس وش الثوب، حتى لا يُدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك كما جاء في حديث حذيفة عند الحاكم وغيره بسند صحيح.
فنسأل الله جل وعلا أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الوقفة الرابعة مع آية الأعراف: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. أن البشرية لم تكن لتستحق التكريم، لولا وجود هذه الطائفة التي سماها الله في هذه الآية بالأمة استمع إلى الآية التي تلي هذه الآية مباشرة: والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين.
فالناس الآن والمجتمعات والطوائف، بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن يكونوا في صف هذه الطائفة التي تناصر الحق والعدل، وترفع راية الإسلام خفاقة واضحة لا لبس ولا التواء فيها، وإما أن يكونوا من أصحاب تتمة الآية من الذين كذبوا بآياتنا، فتكون العقوبة سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين.
يقول الأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله في ظلاله: إن صفة هذه الأمة، التي لا ينقطع وجودها من الأرض، أياً كان عددها، إنهم يهدون بالحق، فهم دعاة إلى الحق، لا يسكتون عن الدعوة به وإليه، ولا يتقوقعون على أنفسهم ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه، ولكنهم يهدون به غيرهم.
إلى أن قال: فما جاء هذا الحق ليكون مجرد علم يعرف ويدرس، ولا مجرد وعظ يُهدى به ويعرّف، إنما جاء هذا الحق ليحكم أمر الناس كله، يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وقفة، ويحكم شعائرهم التعبدية فيجعلها ترجمة عنه في صلة العبد بربه، ويحكم حياتهم الواقعية، فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه، ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة ويحكم عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم، فيقيمها كلها على التصورات الصحيحة المستمدة منه، ويحكم مناهج تفكيرهم وعلومهم وثقافتهم كلها ويضبطها بموازينه، وبهذا كله يوجد هذا الحق في حياة الناس، ويقوم العدل الذي لا يقوم إلا بهذا الحق، وهذا ما تزاوله تلك الأمة.
إلى آخر كلامه رحمه الله، وكلامه لها تتمة مهمة، تركتها خشية الإطالة، فمن أرادها رجع إليها.
الوقفة الخامسة: أن قول الباري جل وتعالى، من باب الإخبار بالأمر القدري الذي لابد وأن يحصل وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهو أمر حاصل لا محالة، مهما أرجف المرجفون ومهما شكك المرتابون، ومهما حاول المنافقون من الحيلولة دونه، فهو أمر قطعي لابد من حصوله، لكن هناك جانب آخر في تحقيق وحصول هذه الطائفة، وتمكنها من الهداية والدعوة بالحق والعدل، وهو أن في الآية، تكليف شرعي للأمة كلها أن يكون فيها هذه الطائفة، فهي مثل قوله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
فالأمة مطالبة شرعاً بتكوين هذه الطائفة بل وتمكينها من القيام بعملها مباشرة، وتكون مهمتها مهمة ربانية.
فهل الأمة عملت هذا؟وسعت إلى تكوين وإيجاد هذه الطائفة؟
أم أن هناك في الأمة من يريد الحيلولة دون هذه الطائفة، وفي الأمة من يبني السدود والحواجز، لكي لا يصل صوت هذه الطائفة إلى الكافة، بل وهناك في الأمة من يسعى بكل ما أُوتي من مال وجاه وقوة وسلطان في تشويه صورة هذه الطائفة من الأرض.
لكن أنى لهم ذلك، وهذا قدر الله، وهل هناك من يستطيع أن يغالب قدر الله، والله لو اجتمع أهل الأرض كلهم، بل ومعهم أهل السماء، فإن إرادة الله هي النافذة، ومشيئته هي الغالبة، ووعده هو المتحقق.رضي من رضي، وسخط من سخط. فقال وهو أصدق القائلين، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين.
الوقفة الأخيرة: استدل بعض أهل العلم بهذه الآية على أن الإجماع حجة في كل عصر، وعلى أنه لا يخلو عصر من مجتهد إلى قيام الساعة.
(1/1281)
التلفزيون في رمضان
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الإقبال على الطاعات في رمضان. 2- نشاط برامج التلفزيون في رمضان. 3- ذكر
بعض الحرام الذي يعرض على الناس في التلفاز. 4- التقوى هي الهدف من تشريع الصيام.
5- خطر النظرة الحرام على قلب الصائم. 6- أثر التلفاز في حياتنا الاجتماعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ها نحن أيها الأحبة ، نعيش هذه الأيام أياماً مباركات ، صيام وتراويح قرآن وتسابيح صدقة ودعاء ، وبر وإحسان ، وغيرها كثير مما يتقرب بها المسلمون إلى ربهم في هذا الشهر ، لقد ازدحمت المساجد ، وكثر المصلون ، وهذا أمر طبيعي نشاهده في كل رمضان ، وأقبلت الأسر على ربها ، ويحرص كثير من الناس على العمرة في رمضان ، وكل هذا وغيره أمر طيب يحبه الله عز وجل.
لكن ثمة أمر آخر يتناقض مع كل ما سبق ذكره ، يقع أيضاً من الكثيرين في رمضان ، وهذا الأمر يعكس الأمور السابقة يبغضها المولى جل وتعالى. وأظن أنه لا بد من المصارحة بالحديث فيه. وهو قضية التلفاز في رمضان.
أيها المسلمون الصائمون: إن البرامج التلفزيونية كما هو مشاهد أنها تنشط في رمضان بشكل عجيب ، ويتضاعف جهود المحطات وقنوات البث.وهذا لا يتعارض مع حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين)). وفي رواية مسلم: ((وصفدت الشياطين)) لأن الذي يسلسل هو الشياطين من الجن كما جاء في رواية الترمذي وابن ماجه-ومردة الجن-، لكن الذي وراء هذه البرامج هم مردة شياطين الإنس.
وكأنه والله أعلم أن هذا النشاط المكثف لأمر مقصود ، وهو إزالة الأجر والثواب الذي حصل عليه العبد في نهار رمضان فتأتي هذه البرامج وتقضي عليه بالليل.
لكن هؤلاء الشياطين لم يدعوا الصائمين من جمع الحسنات حتى في النهار ، فالتلفاز يعمل طوال ساعات الليل والنهار ، فانشغل الكثيرون حتى في نهار رمضان عن الذكر والاستغفار وقراءة القرآن ، وجلسوا أمام هذا الجهاز ، واكتفوا من الصيام بالإمساك عن الطعام فقط.
أيها المسلمون: هل ينكر أحد منا أن الله حرم علينا معاشر الرجال النظر إلى المرأة الأجنبية ، ولا أتكلم عن الخلاف المعروف بين الفقهاء في وجه المرأة ، لأن الذي يعرض في التلفاز وجه المرأة وشعرها وصدرها وذراعيها ، وساقيها وربما أعظم من هذا هل ينكر أحد منا أن الإسلام قد حرم علينا الاستماع إلى الغناء وآلات الطرب واللهو. ولا يمكن أن يخلو برامج التلفاز من أصوات الموسيقى المحرمة.
كل هذا أيها الأحبة ، لو سلّمنا بأن ما يعرض على الناس هو النساء والموسيقى ولكن الواقع أن الأمر أعظم من هذا.
إن الذي يعرض على الناس الآن الشرك والكفر بالله تعالى ، يعرض على الناس السحر والشعوذة والزندقة ، يعرض على الناس تمثيليات الجنس ومسلسلات العشق والغرام ، يعرض على الناس الزنا الصريح ، يعرض على الناس صور الجريمة وأساليب النصب والاحتيال ، يعرض على الناس برامج منتجة في بلاد عربية ، مثل ، وأغلب القائمين على الإنتاج اللبناني نصارى ، يحاربون الله ورسوله ، يعرض على الناس الخمر والمخدرات.
لقد تبلد أحاسيسس الناس ، وماتت الكثير من الفضائل الإسلامية في نفوسهم حتى صاروا يتقبلون أن ينظروا في الشاشة رجلاً يحتضن بنتاً شابة ، لأنه يمثل دور أبيها ، ونحن مطالبون أن نأخذ الأمر بعفوية وطبيعية.
وصرنا لا ننكر وجود رجل وامرأة في وضع الزوجين ، ونصف الرجل بأنه ممثل محترم وأنها ممثلة قديرة ، وصرنا لا ننكر على أن تظهر المرأة حاسرة الرأس ، كاشفة الشعر والرقبة، والذراعين والساقين.
تعودنا مناظر احتساء الخمور والتدخين والاغتصاب والسرقات والقتل والسباب بأقذع الألفاظ ، وتقبلنا كل هذا على أساس أنه تمثيل. وكل هذا متفقون جميعاً على أنه حرام ، مصادم لأمر الله عز وجل.
أيها الصائمون: أسألكم وأنتم تعرفون الجواب ، هل يتناسب كل ما ذكر مع رمضان ، شهر جمع الحسنات ، وشهر نزول الرحمات والبركات كيف تنزل الرحمات على البيوت؟ ما هذه التناقضات التي نعيشها. نمسك عن الطعام والشراب ، ولا نمسك عن النظر والاستمتاع، هل الصيام فقط الامتناع عن الأكل والشرب؟ من كان لا يعرف الصيام إلا بهذه الصورة مخطئ وجاهل ، الصيام هو صيام الجوارح كلها لكي يخرج في النهاية – لعلكم تتقون.
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
وهل مشاهدة هذه البرامج تكسب التقوى ، إنها تقضي على البقية الباقية من إيمان العبد ، كيف نرضى لأنفسنا أن نرتكب المحرم ونحن صائمون كيف نرضى أن نخالف ونطيع في نفس الوقت ، إنها لمن المتناقضات العجيبة.
إذا كان لابد من التلفاز في حياتك أخي المسلم ووصلت إلى قناعة ، أنك لا يمكنك الاستغناء عنه ، وهو في حياتك بمثابة الهواء والماء ، فلا أقل من أن تتركه في رمضان ، لكي لا تجرح صيامك وتنقص الأجر.
فاتقوا الله أيها الصائمون ،إننا نخاطب الإيمان الذي في قلوبكم ، ونخاطب الصيام الذي تصومون ، أن تتقوا الله جل وتعالى وأن يستحي الواحد منا من ربه ، فلا يعصيه ويخالفه وهو صائم ، ولا يعصيه بنعمه التي أنعمها عليه.
يا عبد الله ، يا من أيام عمره في حياته معدودة ، يا من عمره يُقضى بالساعة والساعة فيما لا فائدة منه ، يا كثير التفريط في قليل البضاعة ، يا شديد الإسراف، يا قوي الإضاعة ، كأني بك عن قليل تُرمى في جوف قاعة ، مسلوباً لباس القدرة ، وبأس الاستطاعة وجاء منكر ونكير في أفظع الفظاعة ، كأنهما أخوان من الفظاظة من لبان الرضاعة ، وأمسيت تجني ثمار هذه الزراعة ، وتمنيت لو قدرت على لحظةٍ لطاعة ، وقلت: رب ارجعون ، ومالك كلمة مطاعة ، يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تحلق الجماعة.
أيها المسلمون الصائمون: إننا نخاطب الإيمان الذي في قلوبكم أن تحفظوا نعمة البصر ، ولا تطلقوها في النظر إلى ما حرم الله، فإن النظر سهم من سهام إبليس. إن النظر بمنزلة الشرارة في النار ، تُرمى في الحطب اليابس ، فإن لم تحرقه كله ، أحرقت بعضه ، وكما قيل:
ومعظم النار من مستصغر الشرر
فعل السهام بلا قوس ولا وتر
في أعين الغيد موقوف على خطر
لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
كل الحوادث مبدؤها من النظر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
يسر مقلته ما ضرّ مهجته
إن من غضّ بصره عما حرم الله عليه ، عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه ، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره في محارم الله ، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه ، فإن القلب كالمرآة ، والذنوب كالصدأ فيها. فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي. وإذا صدأت لم تنطبع فيها صور المعلومات ، فيكون علمه وكلامه من باب الخوض والظنون.
ثم بعد هذا كله أيها الآباء ما ذنب الأبناء أن نربيهم منذ الصغر ، وفي هذا الشهر على مسلسلات الخلاعة والمجون ، ويكبرون على التناقضات ، فيتربى منذ الصغر في نفسه أن لا مانع من النظر في النساء ، ولا مانع من رؤية الفواحش ، ولا مانع من رؤية مناظر الخمور والدعارة ، ومع هذا كله لا مانع أن يصوم ويمسك عن الطعام والشراب ، لكنه لا يطلق بقية جوارحه. والله المستعان.
ما ذنب الأبناء؟ ثم يشتكي الواحد منا بعد ذلك من ولده أنه يدخن أو..
أيها المسلمون: إن التلفاز في حياة الناس تدخل في كل شيء، إن التلفاز غيرّ ترتيب وجبات الطعام عند الناس فصارت الوجبات ملتزمة بمواعيد البرامج ، وأحياناً يأتي موعد الوجبة الغذائية ويمضي ، والمشاهدون مشدودون للتلفاز دون اهتمام بحاجة الجسم للطعام ودون شعور بالجوع في بعض الأحيان وذلك عندما يبلغ سكر الفم منتهاه.
لقد غيرّ التلفاز طريقة تجمع الناس ، لقد كان هناك تزاور بين الجيران في السابق وكانت هناك أحاديث جميلة وتسامر نظيف واهتمام بمشاكل بعض ، أما الآن ، فكل ليل الأسر مشغول بمتابعة الأفلام، وتعدى الأمر حتى إلى العجائز والله المستعان.
بل إن الأسرة الواحدة اسأل نفسك أيها الأب ، كم مرة تلتقي في الأسبوع بكامل أفراد البيت على غير الطعام والتلفاز ، لتتحدثوا حول موضوع معين ، أو على الأقل تجلس معهم أيها الأب لكي يكتسبوا من أخلاقك ، ومتى سوف يتعلمون منك التعقل والحكمة والاتزان ، ومتى يقتبسون من أفكارك وآرائك أيها الوالد.
إذا كنت الآن وفي هذا السن لا تجلس معهم فمتى يكون إذن ، فبعد أن يكبر الأولاد، الالتقاء معهم يكون في المناسبات ، فالتلفاز لم يترك وقتاً للالتقاء الأسري ، ولا للتجمع العائلي ، وليس هناك مجال لتبادل الخبرات والتجارب، الجواب أتركه لكل والد.
أين هدوء ليالي رمضان التي كنا نعرفها قديماً، إن ليالي رمضان كان له جوه الخاص ، وشفافيته الفياضة ، وروحانيته الخاصة ، بين قارئ لكتاب الله ، ومستغفر بالأسحار ، وقائم يصلي لصدره أزيز كأزيز المرجل ، الكل في هدوء وسكينة ، فجاء التلفاز في رمضان وحرم الناس تلك السكينة وذاك الهدوء ، بأفلام رعاة البقر ، ومسلسلات العنف والجريمة ، وجولات المصارعة الحرة ، ومباريات كرة القدم. والأدهى من ذلك كله ، أن يُخدع الناس في رمضان ببعض الأفلام التي يسمونها الإسلامية أو (المسلسلات الدينية) ،فالمخنثين من الممثلين الذين كانوا في شعبان يمثلون أفلام الخلاعة والزنا والدعارة ، إذا جاء رمضان ، مثلوا أدوار الصحابة في تمثيلياتهم. والممثلة الساقطة التي كانت في شعبان ، تُقبل على شاشات التلفاز ، ويُمارس معها الخنا والفجور تخرج في رمضان بحجاب وجلباب طويل لتمثل دور الصحابيات ، أو زوجة أحد الشخصيات الإسلامية، أي مغالطة أعظم من هذا ، بل أي منكر أعظم من هذا ونحن ننظر ونتقبل الأمر بشكل طبيعي ، ماتت الغيرة عندنا حتى على أصحاب رسول الله.
فلنتق الله أيها المسلمون ، ولنعرف لرمضان حقه وحرمته ، ولنترك المعاصي والذنوب ، ونتوب إلى الله توبة صادقة في هذا الشهر فإنها والله فرصة، والمحروم من حرم ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً وهو العزيز الحكيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون الصائمون: بقيت كلمة تتعلق بجهاز التلفاز في رمضان. تتعلق بالقنوات الفضائية التي تستقبل عن طريق الأقراص ، التي تسمى بالدش. إن الشر الذي يعرض في المحطات القريبة حولنا ، لكافٍ في هدم دين وأخلاق المجتمع. فما بالكم لو سُهّل للناس رؤية محطات فرنسا وبريطانيا وأمريكا ، وقد سُهّل ذلك ، إنه باب من الشر لا يعلمه إلا الله.
(1/1282)
الملل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/5/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الملل في حياتنا الاجتماعية. 2- خطورة ملل الدعاة على مستقبل الدعوة الإسلامية.
3- عزمة وجدية الصحابة أوصلت الإسلام إلى العز والتمكين. 4- جدية بعض الأمم الكافرة
اليوم أوصلها إلى الرقي في المدنية. 5- علاج الملل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عنوان الخطبة في هذه الجمعة الملل.
يقول أهل اللغة:الملل هو أن تمل شيئاً وتعرض عنه، ومللت الشيء إذا سئمته، وفي الحديث: ((عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه)).
الملل أيها الأحبة من المشاكل المزعجة، ومن الأمراض المهلكة لو أصابت الشخص.هناك بعض الناس يكون الملل سجية فيه، تجد أنه يمل كل شيء، ضعيف صبره، يمل العمل، يمل الأصحاب، يمل الزوجة، يمل الأولاد، ومثل هذا مسكين، إذا لم يحاول أن يعالج نفسه، ويتداركه الله برحمة، فإنه يتعب ويُتعِب. وهناك من الناس من يمل، لكن من أشياء دون أشياء، وهذا أهون من الأول، لكن مصيبته إذا صار يمل من أمور شرعية، كالعبادات، نسأل الله العافية. كأن يتحمس في أول شهر رمضان وبعض النصف منه يمل ويود سرعة زوال الشهر.
أيها المسلمون: هناك مفاسد كثيرة تترتب عن وجود الملل في الأفراد، وهذه المفاسد تختلف بحسب موقع الشخص في المجتمع.
فالرجل الذي يمل الأولاد مثلاً، تجده دائماً في قلق، وتكثر لديه المشاكل الأسرية، بسبب قسوته على أولاده، وكثيراً ما يستخدم الضرب لتهدئة الأوضاع، وربما أدى ملله من أولاده في النهاية إلى تطليق الأم.
والتاجر الذي يمل بسرعة، هذا قليلاً ما يوفق في تجارته، لأن التجارة غالباً تحتاج إلى طول نفس وصبر، وعدم التعجل حتى يفتح المولى جل وعلا على عبده بالرزق، أما سريع الملل، إذا لم يرى النتائج والأرباح بسرعة فإنه يمل ثم يترك، وربما ترتب على ذلك خسائر ثم ديون ثم إفلاس.
والمدرس سريع الملل، هذا لا يمكن له أن يؤدي الدور التربوي والتعليمي المكلف به، لأن الطلبة يحتاجون إلى طول بال، وإلى تحمّل طويل، وصبر على الأخطاء، وتوجيههم بالأسلوب المناسب، لكن المدرس سريع الملل تجد أنه فاشل في رسالته، قليل العطاء، ينفر منه الطلاب، ولا يتقبلون منه.
والموظف الذي يمل بسرعة، هذا لا يصلح أن توكل إليه الأعمال التي تحتاج إلى مقابلة الجمهور، ولهذا ينبغي اختيار العناصر الهادئة والمنضبطة فيمن يوضعون أمام الناس، وعلى مكاتب الاستقبال، أولئك الذين لديهم المقدرة في امتصاص غضب بعض المراجعين، لكن تخيل مراجعاً ساخن الطبع، وموظفاً سريع الملل سريع الاشتعال، النتيجة في الغالب معركة، الخاسر فيها سمعة الوزارة، والضحية المراجع المسكين.
أما الداعية إلى الله والمصلح إذا كان سريع الملل فهذه هي المصيبة، لأن الدعاة إلى الله، وطلبة العلم، هم مشاعل النور والخير في كل مجتمع، وهم القدوات التي يقتدي الناس بها، وبهم يتعلم الناس أحكام الشرع، وعلى أيديهم يتربى الجيل الناشئ، وهم الذين يقيمون حلق العلم والتعليم، ودروس المواعظ والإرشاد.
إن الدعاة إلى الله، وطلاب العلم في كل مجتمع، في الغالب هم أئمة المساجد، وخطباء الأحياء، وهم زبدة الناس، المطلوب منهم أن يأخذوا هم بأيدي الناس، كيف لو كانوا هم في مقدمة الذين يملّون، لاشك بأن النتائج تكون سلبية، والملل عند الدعاة وطلبة العلم على أنواع:
فمنهم من يمل القراءة وكثرة الاطلاع، لا يتحمل المكث مع الكتاب بضع ساعات، فهذا نجد أن خلفيته ضحلة، ومعلوماته بسيطة.فلا يملك ما يعطيه لغيره.
ومنهم من يمل تكثيف الدروس والمحاضرات، فيتحمس في البداية ثم يمّل، وهذا يشاهد في الدورات المكثفة في فصل الصيف، من الحماس وكثرة الحضور في البداية، ثم الملل شيئاً فشيئاً والتفلت في الأيام الأخيرة للدورة.
ومن الدعاة من يمل طول الطريق وبطء النتائج وتدرج الخطوات والمراحل، ويرى مع ذلك شراسة العدو، وكيده للدعوة، وتضييقه على الدعاة، وربما سمع أو قرأ لبعض صور الكيد العالمي، وهذه الهجمة الشرسة على الإسلام في كل مكان، ابتداءً بأرضه، وانتهاءً بأراضي الكفار، كل هذا وغيره إذا اجتمع على هذا الداعية أصابه الإحباط واليأس والفتور وأدى به ذلك إلى الملل وترك العمل.
أيها المسلمون: لو ألقينا نظرة للمجتمع النبوي، ذلك المجتمع الصغير في ذلك الوقت، وأولئك النفر القليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ملتفون حول المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ماذا كان إنجاز ذلك الجيل، مع أنه كان محاطاً بسياج من العدو، وبأشكال متعددة، المنافقون من جهة، واليهود من جهة، وكفار قريش من جهة، هذا عدا دولتي فارس والروم، ماذا حقق ذلك المجتمع من إنجاز وهم قلة في العدد والعدة، في مقابل شراسة العدو وكثرته الذي كان يقابله.
لاشك أنه إنجاز، أبهر عقول العدو قبل الصديق، وحقق أعظم تاريخ عرفته البشرية.
السؤال: هل كان يمكن أن يصل ذلك المجتمع إلى ما وصل إليه من قيام دولة مسلمة وإسقاط دول كافرة، وتربية نماذج فريدة، وإخراج علماء الأمة من فقهاء ومحدثين.
وعلماء في كل فن، هل كان يمكن تحقيق كل ذلك، مع وجود ظاهرة الملك بينهم.
لا يمكن أبداً. ما حُقق ذلك الإنجاز إلا بالجد والمجاهدة والصبر والعزيمة.
وإلغاء ما يسمى بالملل والكسل والعجز من قاموسهم بالكلية.
ولأضرب لكم مثالاً آخر، مثال حيّ من واقعنا لتدركوا إن ما نحن فيه التخلف في كافة المستويات، إبتداءً بالتخلف العبادي وانتهاءً بالتخلف الحضاري، أحد أسبابه وجود الملل بنسبة لا بأس بها بين أبناء الأمة، هذا المثال دولة إسرائيل، هذه الشرذمة القليلة من اليهود، بغض النظر عن كونهم كفاراً ويهوداً، لكن لو نظرت إلى الإنجاز الذي حققوه خلال السنوات القليلة الماضية، لاشك أنه إنجاز ضخم، عددهم لا يزيد على أربعة ملايين يتحكمون بالشعوب الإسلامية والعربية كلها، التي يزيد على ألف مليون نسمة.
هل تعلمون أن في إسرائيل مع هذا العدد القليل مليونين ونصف خط هاتف، وهي رابع دولة في العالم من حيث القيادة.
والأهم من هذا أن معدل إنتاجية العامل فيها يبلغ حوالي 42 ساعة في الأسبوع أصبحت تنافس ساعات العمل للعامل في اليابان وأمريكا، لو كان اليهود يعرفون الملل والسآمة والنوم، هل يحققون كل هذا؟ خضعت لهم دول، وركعت أخرى، واستسلمت ثالثة، بل إن طموحاتهم وأهدافهم، لم تنته بعد، لهم آمال وطموحات أعظم مما هم عليه اليوم نسأل الله ألا يحققوه.
من الطبيعي جداً لو كانت ظاهرة الملل متفشية عندهم، لم يكن بمقدورهم تحقيق كل هذا تقول بعض الإحصائيات أن العامل في اليابان يعمل بمعدل 16-18 ساعة يومياً.
ستة عشر ساعة عمل بجد ونشاط وقوة، وأن معدلات ساعات العمل في الدول العربية تصل إلى ساعتين عمل في اليوم، وفي بعض الدول إلى أقل من هذا.
يقول الله جل وتعالى عن العطاء في الدنيا: كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا في التقدم الحضاري والإنجاز المادي لا فرق بين المسلم والكافر إلا في البركة، فالله جل وتعالى بعدله يعطي هذا وهذا، الذي يجد ويبذل ويعمل، يحصل على ثمرة يده.
فلهذا كان يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إني أعوذ بك من جلد الكافر وعجز الثقة. وهذا هو المشاهد مع كل أسف. الكافر والفاسق تجد لديه من الجلد والمثابرة والعمل ما يبهر العقول أحياناً، والمؤمن الثقة الثبت يكون بعضهم فيه من العجز والكسل والملل ما يؤسف له.
والحق يقال أيها الأحبة أن ما نراه من التقدم التقني والحضاري، وهذا الإنجاز في مجال التصنيع والإنتاج والإدارة والتنظيم والترتيب في دول أوربا وأمريكا، ما هو إلا نتيجة الجهد والجد والعمل الدؤوب المتواصل ليل نهار.
وفي المقابل ما نراه في مجتمعات المسلمين من التخلف في كل شيء والفوضوية واللامبالاة ما هو إلا نتيجة الكسل والعجز والتواكل والملل وحب النوم والراحة واللهو واللعب.
مع أننا أمة رسالة، أمة دعوة، أمة عطاء، والله جل وتعالى لم يوجدنا ويخلقنا لنكون هكذا، بل لنكون خير أمة أخرجت للناس.
لكن هذا نتيجة ما جنته أيدينا من بعدنا عن الإسلام ونبذنا لكتاب ربنا حكماً وتحاكماً وعقيدة وعبادة وضعف صلتنا بالله عز وجل، وتقوية الصلة بهيئة الأمم، والمحافل الدولية وغيرها من المؤسسات الطاغوتية.قال الله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
نفعني الله وإياكم يهدي كتابه واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون واستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
هل للملل علاج، ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه الدواء، علمه من علمه وجهله من جهله، فمن عقاقير علاج الملل.
أن يعرف المسلم قيمة نفسه وأنه أغلى جوهرة على وجه الأرض، وأن له مكانة عالية عند الله تعالى، لابد أن يشعر المسلم بالعزة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
ثم أن يعلم المسلم أن حياته ثمينة، وأوقاته غالية، ولو أدرك المرء منا هذه القضية جيداً، وهو أن حياته ثمينة وأوقاته غالية لما صار للملل في حياته ولا في وقته مجال.
ثم ليحرص المسلم أن يكون له دور في حياته، لا يصلح أن يعيش المسلم سلبياً في مجتمعه إذا شعر الشخص أنه هامشي لا دور له ولا قيمة له، وأنه ليس بإمكانه أن يقدم شيئاً لمجتمعه، كان هذا سبباً في شعوره بالملل ومن العلاج: إدراك حجم التحدي الذي تواجهه الأمة في فترتها الحالية، لا يشك مسلم أنه تحدٍ ضخم قال الله تعالى: ولن ترضى عن اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم وقال: ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة لا أظن الملل يطرأ على أمة أو دولة أو حتى أفراد يدركون جيداً مقدار التحدي الذي يواجهونه.
إن أية دولة تحس بالخطر على حدودها تستنفر جيشها وشعبها لمواجهة الخطر الجديد، بل إن الحيوانات إذا أحست بالخطر استنفرت قواها وتحفزت للدفاع عن نفسها. فكيف بالمسلم الذي يواجه تحدٍ أضخم من هذا بكثير، وهو التحدي لصرفه عن دينه، ثم هو ينام أو يمل الدفاع عن نفسه.
ومن العلاج تأكد الداعية من سلامة منهجه الذي يسير عليه.فإن صحة المنهج في طلب العلم وفي الدعوة، وفي التلقي، وفي العطاء، وفي التربية لا يمكن أن يكون معه ملل.
إن سلامة المنهج يكسب الشخص الطمأنينة والثقة والثبات، وهذا الأمر يدفعه لمزيد من العطاء والبذل والتفاؤل، فلا يمكن أن يعكر صفوه الملل.
ومن العلاج تنظيم الأوقات: أرأيت أخي المسلم الصلوات الخمس لو لم تكن محددة بوقت معلوم، وترك للناس اختيار الوقت الذي يناسبهم، لرأيت الفوضى والعجب، أو لو طُلب من المسلمين صيام ثلاثين يوماً دون تحديد شهر معين، يا ترى كيف تكون حال الناس؟لكن تحديده في شهر معين ثابت يجعل له ميزة، وهو انتظار الناس والشوق واللهفة بقدومه.فإذا نظم المسلم وقته، بورك له فيه، وكلما مضت الأيام يزداد عملاً ونشاطاً، حتى يصبح هذا الأمر إلفة وسجية. فلو ضاعت عليه ساعة من حياته لوجد لها أثراً وحسرة. مثل هذا لا أظن أنه يعرف الملل.
وأخيراً من علاج الملل: التنويع في العبادة وفي الأعمال، فإن النفس تكره الرتابة، وتحب التجديد والتنويع، لكن يكون هذا التجديد وهذا التنويع في حدود ما شرع الله، ولعله - والله أعلم - أحد حكم ورود بعض العبادات على هيئات مختلفة، وأن السنة أن يأتي المسلم بهذا مرة وبهذا مرة، هو كسر الملل عن نفسه.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه عند البخاري، إشارة إلى تنويع الأعمال - قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قال قلت أي الرقاب أفضل، قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، قال قلت يا رسول الله: أرأيت إن ضَعُفت عند بعض العمل؟ قال: تكف شرّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)).
(1/1283)
حديث المجدد
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/1/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من خصائص هذه الأمة ما يجعل الله فيها من التجديد. 2- معية الله لأمة الإسلام تغلب ما
يخططه الأعداء ويكيدونه. 3- البعض يقعد عن العمل والمواجهة بدعوة انتظار المجدد.
4- المجدد لا يعمل وحده. 5- التجديد قدر وتكليف. 6- حاجتنا إلى التجديد في ظل النظام
الدولي الجديد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
ذكرت في الأسبوع الماضي بأن الوحي قد انقطع من السماء بموت المصطفى صلى الله عليه وسلم. فلم تعد تتفتح السماء لنزول الوحي على بشر بعده عليه الصلاة والسلام.
لكن هل يعني هذا بأن الأمة تاهت وضاعت ولا أحد يعرف الحق بعد موته عليه الصلاة والسلام؟ أبداً، فإن رحمة الله جل وتعالى باقية، ودائمة ما بقي الليل والنهار.
فمن رحمة الله بهذه الأمة بأن جعل لها بعد نبيها ورثة، يأخذون بأيدي الناس، ويهدونهم إلى طريق الحق.وقد أوقفوا أنفسهم في خدمة هذا الدين، فكانت خطبة الجمعة الماضية: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون.
وأيضاً: إضافة إلى ما سبق، فمن رحمة المولى تبارك وتعالى بهذه الأمة، التجديد على رأس كل قرن، فإن هذا من المبشرات العظيمة، التي بُشرت بها هذه الأمة ((أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
فحين أغلق باب النبوة فتح باب التجديد لهذه الأمة، وهذا الباب ممتد في شعاب الزمن إلى قرب قيام الساعة.
إنها لبشرى عظيمة، تبعث الأمل، وتحدد الحيوية لمن تأمل واستشعر هذا النص النبوي الكريم. إن هذه الأمة لن تموت أبداً بإذن الله عز وجل.
وكلما بعد الناس عن الدين، وكلما زاد الانحراف هيأ الله عز وجل أحد أسبابه، فأنقذ هذه الأمة من الغرق، ومنها هذا المجدد الذي يبعث على رأس كل مائة سنة، فيحيي ما اندرس من أمر الدين، ويعيد الناس إلى الجادة بعد أن تعرقلت مسيرتهم.
نخلص من هذا بأن التجديد شريعة قائمة، وقدر نافذ لابد أن يقع، ولابد أن يحصل، فإنه خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وكل ما أخبر به الرسول أنه سيقع، فلابد أن يقع.
هذا أيها الأخوة قدر الله عز وجل، ومشيئة الله متحققة وقدره نافذ، فلا يمكن لأية قوة على وجه الأرض أن تحول دون وقوع التجديد.
فمهما حاول أعداء الدين، والحاقدون على هذه الشريعة أن يمنعوا من التزام الناس بالإسلام، ومهما وضعوا من عراقيل في سبيل وصول صوت أهل السنة والجماعة إلى الكافة، وسخروا في سبيل ذلك أموالهم وطاقاتهم، فإن الخير يجد له سبيلا، والدعوة تجد لها نافذاً تنفذ منه بأمر الله جل وتعالى.
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون.
في بعض الأحيان تجد أن أعداء الشريعة، يجلسون سنوات وسنوات، وهم يخططون، في بلد معين، أو في مكان معين، يخططون لنشر فسادهم وخبثهم ونتنهم، ويضعون البرامج.
وفي الغالب تكون لهم شوكة وغلبة وسلطة في تلك الجهة، وقبل أن يضربوا ضربتهم، تجد أن الله عز وجل، يهدم كل ما بنوه فوق رؤوسهم ويخرج أناس كانوا يعدونهم من البلهاء، ولم يحسبوا حسابهم، فإذا بهم هم أصحاب الزمام وهم أصحاب التأثير، كيف حصل هذا، ومن أين خرج هؤلاء ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)).
وتأمل معي أخي المسلم الفارق، تجد أن أصحاب الشر والفساد عندما يخططون لنشر باطلهم وأفكارهم، الغالب أنها شهوات شخصية، تجد أن لكل واحد منهم مطمح يريد أن يصل إليه، إما شهوة عاجلة، أو مركز، أو أي شيء آخر، فهو عندما يفكر للفساد، يفكر لنفسه ولشهوته، ويريد أن ينتشر الباطل والفساد الذي يرغبه هو. فتجد أن المحدودية والأنانية تسيطر على هذا النمط من التفكير.
بينما الذي يعمل لتجديد شيء من الدين تركه الناس، فهو يعمل للأمة، وتفكيره على مستوى الأمة، وهذا هو ما يستوقف المتأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يبعث لهذه الأمة)) ، فهذا المبعوث، أو هذا المغيّر أو هذا الساعي للإصلاح لم يعد همه نفسه فحسب، بل تجاوز ذلك ليعيش لهذه الأمة فهو قد تعدى نطاقه المحدود إلى الأفق الأوسع ليؤثر في مجريات الأمور والأحداث من حوله. وليقود خطوات الأمة المسلمة في معركة الحياة. فهل عرفت الفرق أخي المسلم.
الفرق: أن ذلك الشهواني المفسد، أو العلماني المخرب، أو الشيوعي الملحد، تجده وهو يفكر لنشر مذهبه لا ينسى حظه بالنصيب الوافر، أما المسلم الذي يهمه تجديد ما اندرس من معالم الدين، في حياة الناس، تجد أنه لا يقنع باليسير ولا يرضى بالدون، فيكتفي بحفظ نفسه أو من تحت يده، بل قد تعاظمت همته، واشتدت عزيمته، فصار لا يطيق صبراً على الفساد والانحراف وصار يهمه أمر الإسلام في كل مكان، ونسى نفسه، لم يعد لذاته قيمة لو صلح أمر الدين، مستعد أن يضحي بكل ما يملك من مال وولد في سبيل أن يرى شريعة الله مرفوعة محكمة في رقاب الناس وإن أدى ذلك إلى خسارة نفسه.
لقد أقلق قلب المجددون تسلط الظالمين المفسدين وتوجيههم للحياة وفق ما يريدون، فآلوا على أنفسهم أن يزاحموهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
أيها المسلمون: عندما نقول: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.فإن هذا لا يعني أن يجلس المسلمون ويضعوا خدودهم على أيديهم، وهم ينتظرون المجدد، إن هذا لا يعني أن يرى المسلمون المنافقين وهم يعبثون في بلادهم، ثم هم يتفرجون، ينتظرون الفرج.
إن حديث المجدد لا يعني أن يترك المسلمون الساحة لغيرهم من خصوم الإسلام، من أي ملة كانوا، ومن أي نحلة نبتوا، أن يتركوهم يدغدغون عواطف المرأة من جهة، ويوجهون الإعلام من جهة أخرى، ويهلكون اقتصاد الأمة من جهة ثالثة، ورابعة، وخامسة، وعاشرة، وهم يضعون رجلاً على رجل، ويقولون ننتظر المجدد، المجدد يا أخي، لا يحي الموتى، ولا يحرك الجماد، المجدد ليس خارقاً من الخوارق، يحرك الأمور بأشعة الليزر، أبداً، المجدد بشر من هذه الأمة، لكنه يتزعم تياراً متدفقاً من أهل الإيمان والتقوى وطلبة العلم والعلماء.
المجدد لابد أن يكون وراءه سيل من الفكر الصحيح، والوعي السليم، والنضج المتكامل على وفق منهج أهل السنة والجماعة.
فعمر بن عبد العزيز المجدد الأول لهذه الأمة لم يكن وحده، والإمام الشافعي المجدد الثاني لهذه الأمة، على رأي من قال ذلك لم يكن وحده، وشيخ الإسلام لم يكن وحده، كل هؤلاء وغيرهم من المجددين، كانت الأمة من ورائهم، وكان أهل العلم والدين يؤيدونهم، وكانت عامة الناس تتعاطف معهم.
إذاً مهمتنا عظيمة أيها الأخوة، والدور المطلوب من كل واحد، تجاه رفع الأمة وبإصلاح الأوضاع، وتغيير الواقع، دور عظيم.
لم يقل أحد بأنك أنت - أخي المسلم - أنت المجدد لهذا القرن، فجميعنا قدراتنا محدودة وطاقاتنا محدودة، ولا يمكن لفرد منا أن يصحح ما فسد من أوضاع الأمة، لكن بإمكان كل واحد، أن يكون من وراء المصلحين على أقل تقدير، بإمكان كل واحد منا أن يكون عوناً وسنداً وصفاً للمجدد إذا ظهر أو لغيره ممن يريد الإصلاح للأمة، كن دائماً على استعداد أن تساهم وأن تبذل في كل باب من أبواب الخير إذا جاءك النداء، وفي هذا لا عذر لأحد منا إذا تقاعس عن تقديم ما بإمكانه أن يقدم.
إن حديث المجدد أيها الأخوة، له جانبان:
الجانب الأول: الجانب القدري فهو خبر عن وعد إلهي لابد أن يتحقق، لا يمكن أن يتخلف بأي حال من الأحوال، وهو بهذا الاعتبار من البشارات النبوية العظيمة، فالتجديد قدر، ومن ذا الذي يستطيع أن يرد قدر الله، مسكين هذا الذي يفكر في ذلك فضلاً عن أن يحاول، حاله أشبه ما يكون بالذي يريد أن يفتت الجبل فينطحه برأسه.
الجانب الثاني: الجانب الشرعي، فحديث المجدد حديث تكليف، فهو مع أنه حديث تشريف، وفيه من البشرى ما فيه، لكن بجانب هذا التشريف فهو تكليف، تكليف لهذه الأمة عامة وللقادرين خاصة، من العلماء وطلبة العلم وشباب الدين والإيمان أن يؤدي كل فرد منهم الدور المنوط به.إننا مكلفون جميعاً أيها الأخوة، ومسؤولون أمام الله عز وجل عن هذا الإسلام.
ولعلي أفصل إن شاء الله في مناسبة قادمة ما هي المسئولية الفردية بالتجديد على كل فرد منا.
فأقول بأن حديث المجدد تكليف وطلب لهذه الأمة، فمن كان عنده علم فليظهره ومن كان صاحب قلم فليكتب، ومن كان لديه طاقة فليبذلها، ومن كان صاحب همة ودعوة ونشاط فليعمل، ومن كان له موقع فليستثمر ذلك الموقع في أمر أو نهي أو إصلاح.
ومن لم يكن صاحب هذا ولا ذاك، فعلى أقل تقدير هو صاحب أذنين، فليسمع من غيره من طلبة العلم، وليتبع، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسولُ عليكم شهيدا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إننا أمام وعد مؤكد، لا يتطرق إليه أدنى احتمال أو شك، فلسنا معذورين بحال من الحوال، لأن الحديث يؤكد أن التجديد يتم ويحدث على رأس كل قرن، فمن يستطيع بعد ذلك أن يقول بأن الأمر أكبر من ذلك، من الذي يستطيع أن يقول بعد ذلك، بأن قوة الأعداء كبيرة، والخصم جبل، وهناك النظام الدولي الجديد، وهناك القوى الكبرى، وهناك التحالفات الدولية، وهناك مشروع السلام المتكامل، أين نحن أمام كل هذا، أين إمكانياتنا وقدراتنا أمام هذه الجبال الضخمة العظيمة.
فأقول رداً على هذه الشبهة الضعيفة المهزومة: نعم، إنه حق ما قلت، فهناك تحالف دولي وهناك نظام دولي جديد، وهناك قدرات وطاقات هائلة، فهذه القدرات وهذه الطاقات من الذي أوجدها ومن الذي أعطاهم، أليس الله.
إذا كنت تؤمن بأن الكون كله بيد الله، يصرفه كيف يشاء، وحديث المجدد قدر إلهي لا محالة، فلا تعارض إذن، نحن مطالبون بالبذل أيها الإخوة، ولم نُطالب بالنتائج.الله عز وجل لا يحاسبنا إذا لم نهد البشرية، لكنه سيحاسبنا إذا قصرنا في إيصال الهداية لهم.
ثم ذلك الذي يقول بأن طاقات الغرب جبال ضخمة عظيمة.يُرد عليه، بأن بمقدور الإنسان أن يفتت الجبال، والله إن العالم العامل والداعية الصادق، يفتت الجبل بعزيمته الصادقة وإيمانه العميق.
وكما قيل: همم الرجال تبيد الجبال.
كم من أمة أو ملة أو نحلة أو دولة نازلت وناهضت الإسلام.. كم مرة تآلبت عليها الأحزاب.فذهب كل ذلك، ومازال الإسلام قائماً راسخاً كالجبل.
والله إن هذه الضربات، وهذا الكيد وهذا المكر بالإسلام وأهله، منذ أربعة عشر قرناً من الزمان وحتى الآن، لو كان عشر معشاره بل أقل من ذلك لأي دين أو ملة غير الإسلام لسقط منذ أول ضربة.
والله إن هذا هو الجبل الحقيقي، وما سواه سراب يكاد أن يزول.
إنه الدين الخاتم الذي يتجدد على رأس كل قرن، إنه الأمة الولود إلى قيام الساعة.
إنه دين الله عز وجل الذي سيظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. إنه حديث المجدد، الذي نستبشر به، ونعمل من أجل تحقيقه، ونبذل كل غال ونفيس، لنكون من أحزابه وأعوانه. وعندها ليدخل كل منافق إلى جحره، وليدفن كل مخاصم للإسلام رأسه في التراب. وإن غداً لناظره قريب. وصدق الله العظيم: ولتعلمن نبأه بعد حين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه..
اللهم أقم علم الجهاد..
(1/1284)
الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غرور الدنيا لبني آدم. 2- لم سميت بهذا الاسم. 3- افتتان الناس بالدنيا. 4- تمثيل القرآن
لحقيقة الدنيا. 5- تهوين النبي لشأن الدنيا. 6- أقوال العقلاء في الدنيا. 7- تحذير النبي من
فتنة الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
عشقها العاشقون، وهام بها المحبون، كم لها من عاشق متأوه، ومتيّم متحسر، ومحب متألم؟! ظهرت في زينتها، وعرضت في فتنتها وتبدّت في محاسنها، فخدع بها أُناس، وافتتن بها فئام، ظنوا أنها صادقة في الحب، مخلصة في الشوق، تواقة للغرام، وفيّةٌ للأحباب، ناصحة للأصحاب، فتنافسوا في كسب ودها، واقتتلوا للظفر بقربها، فأردتهم صرعى، وتركتهم هلكى، وذلك جزاء الحمقى. والعجب أن خُطّاب ودها، وطلاب مجدها، لم يعتبروا بإخوانهم من العشاق القدامى، ولم يتعظوا بمن خدعتهم من الندامى فارتموا في أحضانها، وتسابقوا في ميدانها، وهي لا زالت تتفنن لهم في إبداء زينتها، وتتحبب لهم ببعض مباهجها؛ حتى إذا أحكمت الزمام، غدرت وفجرت وفتكت وقتلت، كم لها من محروم يتألم، ومهضوم يتظلم؟! كم ذبحت من فارس على مخدة الترس، وعروس على منصة العرس؟ فمن هي هذه الفاتنة، ومن تكون تلك الخائنة؟!!
إنها الدنيا؛ الدنيا التي لها من اسمها نصيب، الدنيا التي عشقناها، بل همنا في حبها، وتنافسنا في قربها، وأمهرناها أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا، إلا من رحم ربك. لو تأمّلنا أحوالنا بل وأحوال من سبقنا لوجدنا أن الدنيا وحبها، والحياة وطيبها، هي سبب رئيس في كل نازلة، وعنصر مهم في كل قارعة، فما طغى فرعون وأمثاله إلا حينما أخلدوا إلى الأرض ومباهجها، وخدعوا بالحياة وزينتها. وما بغى قارون وأمثاله إلا حينما فتنوا بنعيم الحياة، وغرهم المال والجاه، قال تعالى: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك [القصص:77].
ولقد فُتن عبّاد المادة وعشّاق الحياة الدنيا بما عندهم من المال والزينة، قال سبحانه: فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].
وهكذا على مرّ العصور تجد أن عشق الحياة، والتعلق بأذيال الدنيا، سبب في الشقاء، وطريق للعناء، كم ذهب لأجلها من نفوس؟! وكم تطاير من رؤوس؟! وكم سحق من جماجم؟! وكم أريق من دماء؟! وكم شرّد من أناس؟! وكم عذب من أقوام؟! وما ارتقى المسلمون إلا حينما تجافوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة، وما خفضت رؤوسهم، ونكست أعلامهم، وذهبت عزتهم، إلا حينما رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فأقبلوا عليها، وتنافسوا فيها، وتركوا الجهاد، وأكلوا الربا، وأخذوا بأذناب البقر.
أيها المؤمنون تعالوا بنا نقف وقفة تأمل وعظة، وتفقه وعبرة، مع هذا العدو اللدود، والغاشم الغادر، فقد فنيت أعمار كثير منا، وانصرمت أيام فئام منا، وهم لا زالوا في غمرة الدنيا، وسكرة الحياة، فيا عجباً لمن جاءه العام تلو العام، ومرت به السنة بعد السنة، تذكره بالحياة الآخرة، وتدعوه إلى النعمة الدائمة، وهو في غفلته وشروده، وبعده وجحوده!!. فيا من قضيت العمر وراء شهواتها، ألم يأن لك أن تنظر في أمرك؟! ويا من انصرمت أيامه في الدنيا وملذاتها ألم تبك على عمرك؟! ويا من عشت تبيع دينك بعض من الدنيا قليل ألم تعتبر بالذين مروا من قبلك؟! ويا من عشت تأكل الدنيا بالدين، وتكسب الغٌنْم بالعلم، وتمتهن النفاق لنيل الأرزاق ألم تراقب الخلاق؟! يا من أقبلت على الدنيا بحلالها وحرامها، وفتنت في غرامها، ألم تفكرفي النهاية، وتتأمل في النتيجة؟!.
الدنيا إذا وصلت فتبعات موبقة، وإذا فارقت ففجعات محرقة، ليس لوصلها دوام، وما من فراقها بد. وصفها خالقها، وموجدها بأنها لهو ولعب وزينة، فقال جل وعلا: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد:20].
فالحياة الدنيا حينما تقاس بمقاييسها الدنيوية، وتوزن بموازينها تبدو في العين والحس أمراً عظيماً هائلاً، وشيئاً جميلاً رائعاً، ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود، وتوزن بميزان الآخرة، تبدو شيئاً زهيداً تافهاً؛ فهي لعب وضياع ولهو وتفاخر، وغرور خادع، وأمل كاذب، وظل زائل.
قال تعالى: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً [الكهف:45].
مر بالسوق والناس كنفيه – أي على جانبيه – فمر بجدي أسَكّ ميت فتناوله، فأخذ بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) ، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ ثم قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسّكَ، فكيف وهو ميت؟ فقال : ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) [رواه مسلم].
ويقول : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [رواه الترمذي وابن ماجة].
يقول علي بن أبي طالب : مثل الدنيا مثل الحية ليّنٌ مسّها، قاتل سمها، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما أيقنت من فراقها، وكن أحذر ما تكون لها وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور، أبعده عنها مكروه، وإن سكن منها إلى إيناس، أزاله عنها إيحاش.
فهي لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تُخْلي من محنة، نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى.
قال تعالى: وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خيراً وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين [القصص:61].
قال المسيح عليه السلام: (الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها).
فمن نظر إليها بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء، وعيشتها نكد، وصفوها كدر، وأهلها منها على وجل: إما بنعمة زائلة أو وبلية نازلة، أو منية قاضية ؛ هي دار حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقيٌّ إن ظفر، ومحروم إن خاب. إن أخذ مالها من حله حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن أحبها أذلّته، ومن تبعها أعمته.
لما بلغ أحد الملوك العظماء من الدنيا مراده، ووصل إلى ما سمت إليه نفسه، نبذها وصرخ قائلاً: هذا سرور لو لا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، ومُلْك لولا أنه هُْلك، وغناء لولا أنه فناء، وجسيم لولا أنه ذميم، ومحمود لولا أنه مفقود، وارتفاع لولا أنه اتضاع، وغلاء لولا أنه بلاء، وحُسْن لولا أنه حزن، وهو يوم لو وثق له بغد.
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغِيَر
فلو نلتها بحذافيرها لمُتّ ولم تقض منها الوطر
فهي ظل الغمام، وحلم النيام، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق وحرم التوفيق.
قيل لبعض الزهاد، قد خلعت الدنيا فكيف سخت نفسك عنها؟ فقال: أيقنت أني أخرج منها كارها فرأيت أن أخرج منها طائعاً.
قال : ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالماً ومتعلماً)) [رواه الترمذي وابن ماجة].
عوتب أحد الصالحين في كثرة الصدقة، فقال: لو أن رجلاً أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يُبقي في الأولى شيئاً؟
وقيل لأحدهم: ترك فلان بعد وفاته مائة ألف درهم، فقال: ولكنها لا تتركه.
فالسعيد من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره وبخل على نفسه، وما طلعت شمس إلا وعظت بأمس.
قرأ قوله تعالى: ألهاكم التكاثر ، ثم قال: ((يقول ابن آدم: مالي... مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت)) [رواه مسلم].
إذا اختبر الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق
فالعاقل لا ينخدع بها، بل يعتبر بمن مضى من الأمم السابقة، والقرون الماضية، كيف عفت آثارهم، واضمحلت أنباؤهم.
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وهل من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى جمعوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
يقول : ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)) [رواه مسلم].
وكان يقول: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)) [متفق عليه].
فالدنيا مهلكة، والفرح بها متلفة، والانخداع بها مصيبة وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [الرعد:26]. فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [النازعات:39].
قال : ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) [متفق عليه].
فإن كان قد فتح على الناس من زهرة الدنيا وزينتها فيما مضى فلم تر البشرية زينة ولا فتنة ولا بهرجاً مثل ما عرفه الناس في هذا الزمان، فتنٌ محدقة، وشهواتٌ مغرقة، وقنوات هابطة، وشاشات مدمرة ؛ زُيّنت الشهوات، وقُرّبت الملذات، وأصبح الملتزم بدينه والمحافظ على نفسه وأهله، كالقابض على الجمر، فيا بشرى لمن صان نفسه، وحفظ دينه وطهر بيته، وصدق في تربيته، قال تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [البقرة:45].
أيها الناس لا يقصد بذم الدنيا تركها بالكلية، والتجافي عنها تماماً، وإنما القصد من ذلك ترك بهرجها الزائف، وبريقها الخادع، وعدم الاغترار بها. ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالمؤمن يتخذها طريقاً للجنة، ومزرعة للآخرة، وتزوداً للتقوى.
ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب فقال له: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاح لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ومهبط وحي الله، ومصلى ملائكته، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه، ربحوا منها الرحمة، واحتسبوا فيها الجنة.
قال تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك [القصص:77].
يقول : ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) [رواه البخاري].
فيا من فتنت بالدنيا ألم تعتبر بمن سبقك بها؟ هل خلدوا فيها؟ هل دامت لهم؟ هل راحوا منها بغير الأكفان؟!!.
هل أنت معتبرٌ بمن خربت منه غداة قضى دساكره
وبمن أذل الدهر مصرعه فتبرأت منه عساكره
وبمن خلت منه أسرته وتعطلت منه منابره
أين الملوك وأين عزهم صاروا مصيراً أنت صائره
يا مؤثر الدنيا للذته والمستعد لمن يفاخره
نل ما بدا لك أن تنال من الدنيا فإن الموت آخره
سئل من أكيس الناس؟ فقال: ((أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعداداً له، أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)).
ويقول علي بن أبي طالب: يا أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، وإن أقمتم أخذكم.
فخذ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك، وزد في حسناتك، فإنك راحل لا محالة، وسائر في الطريق الذي سار فيه الآباء والأجداد والأصحاب والأحباب.
ما للمقابر لا تجيب إذا دعاهن الكئيب.
حُفرٌ مسقّفة عليهن الجنادل والكثيب.
فيهن ولدان وأطفالٌ وشبان وشيب.
كم من حبيب لم تكن نفسي بفرقته تطيب.
غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب.
وسلوت عنه وإنما عهدي برؤيته قريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1285)
الشفاعة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حكمة الله تفاوت خلقه في مراتبهم. 2- الدين قيام بحق الله وحق عباده. 3- وجوب
الإحسان إلى الخلق. 4- الربط بين حق الخالق وحق المخلوق. 5- فوائد السعي في مصالح
المخلوقين. 6- آداب وواجبات ينبغي مراعاتها في الشفاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها [النساء:85].
وقال : ((اشفعوا تؤجروا)) [متفق عليه].
الشفاعة مبدأ رائد، وخلق ماجد، وفعل مأجور، وعمل مبرور، وسعي مشكور، يُفرّج بها الهم، ويُنفس بها الكرب، ويُفكّ بها الأسير ويُحقن بها الدم، ويُجلب بها المعروف، ويُدفع بها الأذى.
الشفاعة تنم عن حسن الخلق، وتنبئ عن كرم الأصل، وتشهد بصفاء النفس، وتترجم روعة الإنسانية، وتعلن التنصّل من الأنانية. هي الظل الذي يلجأ إليه المضطر، والحمى الذي يأوي إليه الخائف، والملاذ الذي يلوذ به الملهوف بعد الله عز وجل.
وقد جرت سنة الله تعالى في البشر أن رفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً: أي ليسخر بعضهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا؛ فالأحوال متفاوتة، والأرزاق متباينة والهبات مختلفة والمواقب متغايرة والحظوظ متنوعة ولكن السعادة تكمل، والغبطة تتم، إذا ساد خُلق التعاون، وفشت روح المودة وعظمت بروابط المحبة، وقامت سوق الأخوة، وهبّت نسائم الرحمة، وفاح عبير التعاطف. يرفق القوي بالضعيف، ويجود الغني على الفقير، ويعطف الكبير على الصغير.
وإن هذا الدين بروعته وسموه، وجلاله وجماله، وتمامه وكماله، يقوم على أساسين، ويعتمد على دعامتين، وهما: حق الله، وحق العباد، فإن الله تعالى بفضله وكرمه وجوده وإحسانه، ولطفه ورحمته، وجلاله وعظمته لم يقصر هذا الدين على القيام بحقه جل وعلا فقط، ولم يجعله لأداء حقوقه ليس إلا، بل جعل من الدين القيام بحقوق المخلوقين، ومثلما رتب الأجر وأجزل العطاء لمن أدى حقه وقام بواجبه، رتّب الأجر وأعظم العطاء وأسبغ الثواب لمن أدى حقوق عباده وأحسن إليهم وقام بواجبهم.
أوجب الإحسان معه تعالى بأن تعبده كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأوجب الإحسان إلى عباده بحسن الخلق، وصدق التعامل، وبذل النصيحة، وتفريج الكربة، وإعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، وإرشاد التائه، ورد السلام، وتشميت العاطس، واتباع الجنازة.. إلى غير ذلك من أخلاق الإسلام الرفيعة، وآدابه العظيمة. وهذا الانسجام البديع، والترابط القوي بين الأمر بحقه تعالى، والأمر بحقوق عباده وترتيب الأجر وإسداء الثواب على هذا، وذاك يبدو بروعته وجماله في كثير من الآيات وعدد غير قليل من الأحاديث، انظر إلى قوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [آل عمران:153].
ذكر بعد ذلك صفات المتقين فلم يذكر أنهم الصوّام القوام العباد الزهاد، وإن كانت تلك من أسمى صفاتهم، ولكن قال تعالى: الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [آل عمرانك134].
وهذا كله إحسان إلى الخلق، وقد قدمه على الإحسان مع الخالق جل وعلا، ثم قال بعد ذلك: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [آل عمران:135].
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).
ويقول في حديث يتجلى فيه ذلك الرابط القوي، والمزج الرائع بين حقوق الخالق وحقوق المخلوقين، يقول: ((إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلّل الله وسبّح الله، واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار)) [رواه مسلم].
وروى ابن حبان في صحيحه أن النبي قال: ((ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس)) ، قيل: يا رسول الله، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟ قال: ((إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الأذى من الطريق، وتُسمع الأصم، وتَهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك)).
إن من أعظم التوفيق للعبد أن يوفق مع القيام بحق الله تعالى إلى القيام بحقوق عباد الله، من السعي في مصالحهم، والإحسان إليهم، والرفق بهم، وبذل المال، وإسداء النصيحة، والسعي بالشفاعة، وتنفيس الكرب، وتفريج الهم.
قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [النساء:114].
وإن هنالك أناساً اختصهم الله تعالى بقضاء حوائج عباده، والسعي في مصالحهم، وجعلهم للمعروف أهلاً، وللإحسان مقصداً، حببه إليهم وحببهم إليه، مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ((إن لله أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوّلها إلى غيرهم)) [صحيح الجامع].
فتلك سُنّة ماضية، فمن لم تُنزع منه نُزعت منه بركتها، وذهب عنه أجرها، وثبت عليه وزرها. وكما أن للمال زكاة يزيد بها وينمو، ويعظم ويزكو، فإن للجاه زكاة أيضاً، وربما كان أعظم نفعاً من المال، والبخيل بجاهه أعظم من البخيل بماله، والجاه نعمة عظمى، وهبة كبرى تستحق الشكر، وتستوجب الثناء لمسديها ومعطيها جل وعلا، ومن شُكرها بذلها لعباد الله ابتغاء موعوده، وطمعاً في أجره، ورغبة في رضاه. والله تعالى كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود، محسن يحب الإحسان، وقد قيل لبعض الحكماء: أي شيء من أفعال الناس يشبه أفعال الإله؟ قال: الإحسان إلى الناس، ولله المثل الأعلى.
وقال آخر: اصنع الخير عند إمكانه يبق لك حمده عند زواله، وأحسن والدولة لك، يحسن لك والدولة عليك، واجعل زمان رخائك عدةً لزمان بلائك.
في يوم القيامة؛ يوم القارعة، يوم الطامة، يوم الصاخة، يوم الحسرة، يوم التغابن، يوم الفزع، يوم الزلزلة، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه أبيه، وصاحبته وبنيه، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، يوم تدنو الشمس من العباد قدر ميل، يوم تعظم الحسرة، وتفيض العبرة، ويعظم الخوف، ويزداد الجزع، ويدلهم الخطب، ويتطاول الهم، ويشتد الكرب، هنالك يفرج الهم، وينفس الكرب لمن كان يفرج هموم المسلمين، وينفس كربات المكروبين.
((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) [رواه مسلم].
ويقول : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج على مسلم كربة فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) [متفق عليه]. فالجزاء من جنس العمل.
((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) [متفق عليه].
وروي عنه قوله: ((يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأتعب ما كانوا قط، فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله عز وجل أطعمه الله، ومن سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن عفى لله عز وجل أعفاه الله)).
فمن أراد أن يفرّج الله همه، وينفّس كربه، فليجتهد في تفريج هم المهمومين، وتنفيس كرب المكروبين واعلموا أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
إن دروب الخير كثيرة، وأنواع البر متعددة، ومجالات الإحسان متنوعة، ومن أعظم ذلك السعي في حوائج المسلمين، والإحسان إلى المؤمنين؛ من إطعام للجائع، وكسوة للعاري، وعيادة للمريض، وتعليم للجاهل، وإنظار للمعسر، وإعانة للعاجز، وإسعاف للمنقطع وكفالة لليتيم، وتفريج للهم، وتنفيس للكرب، وشفاعة في الخير. ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، وخير الناس أنفعهم للناس.
وقال : ((أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن المسلم سروراً، أو تقضي له ديناً، أو تطعمه خبزاً)) [صحيح الجامع].
فيجب على المسلم أن يسعى في حاجة إخوانه، وأن يجتهد في نفع المحتاج، ومساعدة الضعيف، ومؤازرة الفقير، وإغاثة الملهوف. ويجب على كل ذي منصب أو جاه أو قرار، أن يؤدي حقه خير أداء، وأن يقوم ببذله في وجوهه المشروعة، وأن يصدق في إعطاء كل ذي حق حقه – وافعلوا الخير لعلكم تفلحون – و((اشفعوا تؤجروا)) ، ولكن يجب أن نراعي في شفاعتنا ومساعدتنا عدة أمور منها:
1- أن يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله عز وجل حتى نؤجر عليه، ولنعلم أن ما قصد به غير وجهه تعالى فهو مردود على صاحبه، ويكون حسرة وندامة يوم القيامة.
2- أن تكون الشفاعة والواسطة في أمر مباح فمن شفع لإنسان في عمل محرم فعليه وزره إلى يوم القيامة، قال تعالى: ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها [النساء:85].
3- أن لا تكون الشفاعة والواسطة على حساب الآخرين فتكون شفاعتك للإنسان حرماناً لغيره ممن قد يكون أحق منه.
4- أن تشفع لمن تعلم أحقيته بذلك الأمر، وأن تكون ناصحاً له، فإذا شفعت للإنسان وأنت تعلم عدم أهليته وسوء سلوكه، فقد غششت به البلاد والعباد.
5- أن لا تكون الشفاعة فقط لصاحب الجاه أو صاحب المال أو القريب، بل يجب أن يحظى الفقير والمنقطع والمحتاج والقريب بالشفاعة، فهم أحق بها وأهلها، وهي فيهم أعظم، ولهم أولى.
6- أن لا يتبع الإنسان شفاعته ومعروفه بالمن والأذى، فإن ذلك يفسد أجرها ويعكر صفوها.
7- أن لا يغضب الشافع ويعنف ويتهم إذا لم تقبل شفاعته، فقد يحول دون قبولها أمور وأسباب يجهلها وما على المحسنين من سبيل.
الله اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، إنك جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1286)
العمل الصالح
الإيمان
خصال الإيمان
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العمل الصالح. 2- العمل الصالح كل أحد يطيقه لكثرة أعمال الصلاح وتوعها.
3- بعض ما جاء في الحض على أعمال من الخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
العمل الصالح ميدان العاملين، وسمة المؤمنين، وديدن الموحدين لا يطمئنون إلا إليه، ولا يتنافسون إلا فيه، ولا يتسابقون إلا عليه، يتفانون في حبه، ويسابقون لكسبه ولا يحيدون عن دربه.
المؤمن يعلم أن الإيمان عمل واعتقاد، ويقين وجهاد، وأنه قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فلا يغتر بطول الأمل، ولا يركن إلى العجز والكسل. ويعلم أن المؤمن القوي خير من الضعيف، فهو مستعين بالله غير عاجز، حريص على ما ينفعه غير غافل. يعلم أن الجنة حُفّت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، وأن التميز والتفاوت هو بالتقوى وإحسان العمل، قال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [الملك:2].
الإيمان بلا عمل كالجسم بلا روح، والشجر بلا ثمر، وكالمفتاح بلا أسنان. فلا ينفع انتساب للإيمان بلا برهان، ولا قيمة للدعوة بلا حقيقة، ولذلك يقرن القرآن دائماً بين العمل والإيمان، ليلفت نظر الإنسان أنه لا قيمة لإيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، قال جل وعلا: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً [الكهف:107]. والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر].
إن تحديد مصير الإنسان يوم القيامة مبني على إحسان العمل أو إساءته، إن أحسن فله الجنة مع الأبرار، وإن أساء فماله إلا النار، قال تعالى: يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [الروم:15].
وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى للمرسلين: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم [المؤمنون:51].
وقال تعالى للمؤمنين: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [الحج:77].
ما أعظم سرور المؤمن بأعماله، وما أسعده يوم القيامة بأفعاله!! وما أشد ندامة المسيء، وأعظم حسرة المفرط!! في موقف لا ينفع فيه الندم ولا تجدي فيه الحسرة، ولا تغني فيه الدمعة. في موقف أمام رب الأرباب يوم يحشر الناس للحساب، ويطير الصواب، ويوضع الكتاب، قال تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
قد يتصور بعض الناس أن الأعمال الصالحة حمل شاق، وأمر مرهق، وميدان ثقيل، وأن لها أناساً لا يطيقها غيرهم، ولا يتحملها سواهم، فيعرض عن ميدانها، ويصرف نفسه عن أفنانها. فالفقير يتصور أن فرصته في العمل محدودة، ومحاولته مردودة، وأن ذلك من شأن الأغنياء، ومن حظ الأثرياء. والمريض يتصور أنه لا فرصة للعمل إلا مع الصحة، ولا مجال لفعل الخيرات إلا مع العافية. والمقصر والمفرط والمتلبس ببعض المعاصي، يظن أن ذلك عن فعل الخير حائل، وأن ليس له من وراء بحثه على العمل الصالح طائل. فالعمل عندهم وقف على الأولياء، وقصر على الأتقياء، وهذا كله أفق في غاية الضيق، ودلالة على قلة التوفيق، فالمجال مفسوح، والميدان مفتوح، والفرص كثيرة، وأبواب الخير متعددة، ومجالات البر متنوعة، وكل يستطيع أن يأخذ منها بنصيب مهما كان حاله، وأياً كان وضعه. فقيراً أو غنياً، كبيراً أو صغيراً، صحيحاً أو سقيما، قوياً أو ضعيفاً، مجتهداً أو مقصراً.
قال جندب بن جنادة قلت يا رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيله)) ، قلت: أي الرقاق أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً)) ، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعاً أو تصنع لأخرق)) قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكفّ شرّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)) [متفق عليه].
ما أعظمه من حديث، وما أروعها من معانٍ تدل على عظمة هذا الدين وشموليته ويسره وسهولته!!!.
فجاهد نفسك، وأخلص قصدك، وراقب ربك، وأحسن عملك، واعلم أن أفضل الأعمال وأحبها إلى ذي الجلال أن يتقرب إليه بما افترض عليك، وأن تؤدي ما أوجب عليك، ثم تترقى بعد ذلك في درجات التقرب إلى الله، والفوز برضاه، حتى تنال محبته، وتصبح من خاصته وذلك بالإكثار من النوافل وأولئك في الناس قلائل.
يقول : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [رواه البخاري].
فيا لها من منزلة عظمى، ودرجة عليا، ومرتبة كبرى!! وفقني الله وإياكم لطاعته، والفوز بمحبته، وأن نكون من أهل خاصته.
وإليك هذا العرض لبعض أبواب الخير وسبل البر، التي دلنا عليها أعظم الناس براً وأكثرهم خيراً، وأسبقهم عبادة.
يقول : ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) [رواه مسلم].
وقلا : ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ولك بكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) [متفق عليه].
ويقول : ((عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق)) [رواه مسلم].
وأخبر أن امرأةً بغياً من بني إسرائيل غفر لها بسبب سقيها لكلب كاد يموت من العطش.
ويقول : ((لا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)) [رواه مسلم].
ويقول : ((أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها إلا أدخله الله بها الجنة)) [رواه البخاري].
ويقول : ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن بغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب)) [رواه مسلم].
بل إن الأكل والشرب قد يكون من أعمال الخير ويثاب عليه الإنسان: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) [متفق عليه]. ((فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) [رواه الترمذي].
اللهم وفقنا إلى صالح الأعمال والأقوال إنك سميع مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1287)
الغضب
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغضب جماع كل شر. 2- تحذير النبي من الغضب. 3- بعض أسباب الغضب.
4- كيف تسكّن الغضب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أقبل رجل ونفسه متشوقة، وأذنه صاغية، وفؤاده متطلع. أقبل إلى أين؟ ومشى إلى من؟ ويتطلع إلى من؟ أقبل إلى المصطفى إلى المعلم الأعظم، والمربي الأكمل، إلى من أوتي جوامع الكلم. واختصر له الكلام اختصاراً يريد منه موعظة بليغة، ووصية جامعة، وكلمة نافعة، فناجاه في أدب واحترام، وتطلّع وترقب، يا رسول الله أوصني، قال: ((لا تغضب)) ، استمع الرجل، وهو لا زال حانياً رأسه، مرخياً سمعه، يريد أن يسمع بقية الوصية وتكملة الموعظة، فإذا بالنبي يقف عندها ولا يزيد عليها شيئاً، فيكرر الرجل طلبه مرة أخرى، يا رسول الله أوصني قال: ((لا تغضب)) ، فردد مراراً، قال: ((لا تغضب)) [أخرجه البخاري].
إنها وصية موجزة، وموعظة مختصرة، ولكنها جامعة مانعة، وهي تدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير، وفي رواية أخرى أن رجلاً قال: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل عليّ لعلي أعقله، قال: ((لا تغضب)) فأعاد عليه مراراً كل ذلك يقول: ((لا تغضب)) ، ((لا تغضب)) ، ((لا تغضب)) فلماذا لا تغضب؟؟.
الغضب جماع الشر، ومصدر الهلاك، وعنوان الدمار، الغضب خلق أحمق، وتصرف أهوج، وداء مزعج، وخطر محدق، وشيطان أخرس؛ الغضب نار في الفؤاد، وجمرة في القلب، وشرار في العين، وحمرة في الوجه، وتوتر في الأعصاب، وانتفاخ في الأوداج، وحمق في التصرف، ومسارعة للانتقام، ومبادرة للتشفي؛ آثاره أليمة، ونتائجه عظيمة وعواقبه وخيمة؛ دمّرت به أسر، ومُزقت به بيوت، وقطّعت به أرحام، وأشعلت به فتن، وقامت بسببه محن، وزرعت بفعله إحن؛ رمّلت به نساء، وأريقت به دماء، يغضب الرحمن، ويفرّق الإخوان، ويعمي الأبصار، ويُصم الآذان.
الغضب: خلق ذميم، وتصرف لئيم، وفعل مشين، مفتاح لأكثر البلايا، وسبب لأعظم الرزايا، هذا إذا زاد عن حدّه، وخرج عن قصده، وإلا فالغضب موجود، وبعضٌ منه محمود.
الغضب هو غليان دم القلب طلباً لدفع الأذى، أو الانتقام ممن وقع منه الأذى. وإننا في هذا الواقع الذي نعيشه، والذي زادت فيه متطلبات الحياة، وتعقدت أمورها، وتعددت شرورها، أصبحنا نرى الغضب يسري في النفوس، ويجري في الدماء، فكثير من الناس في غضب دائم وتوتر مزعج، وقلق مرهق. أظلمت القلوب، وخافت النفوس، وتوترت الأعصاب، ظاهرةٌ أصبحت تُرى حتى في الأطفال الصغار، وقد نُقلت إليهم عدواه، وشملتهم بلواه، ظهرت عليهم أسبابه، وبدت فيهم آثاره، وكأنما رضعوه مع اللبن، ورشفوه مع الحليب.
كثرت الخصومات، عظمت الشكايات، تفككت أعداد من الأسر، وتمزقت فئام من الأواصر، كثر الطلاق، وعظم الفراق، واستشرى الشقاق، وأغلب ذلك بأسباب الغضب، فالحاجة إلى دراسة أسبابه واجبة، والاجتهاد في محاولة دفعه متحتم.
الغضب خلقٌ زرع في الإنسان، فهو صفة من صفاته، وآية من آياته، مثله مثل الحلم والضحك والبكاء.. وغيرها. ولكن له حد معين يجب أن لا يتعداه، وقانون محدد يجدر أن لا يتخطاه.
ومن صفات الله تعالى الغضب، ولكن اقتضت حكمته ورحمته وحلمه جل وعلا أن تسبق رحمته غضبه، فسبحانه ما أحلمه وأعظمه!!. وقد امتدح الله تعالى عباده المؤمنين الذين يملكون أنفسهم عند الغضب، يغفرون ويصفحون ويحلمون ويعفون، بقوله تعالى: وإذا ما غضبوا هم يغفرون [الشورى:37].
وقال تعالى: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [آل عمران:134].
وقال تعالى: وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم [النور:22].
وقال مبيناً أن الرجل الشديد، والفارس الشجاع، ليس هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه، ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، فقال: ((ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) [متفق عليه].
وسئل : يا رسول الله ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل؟ قال: ((لا تغضب)) [رواه أحمد]. وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، فمن تخلق بالحلم، ومشى بالتسامح، وتعامل بالعفو يكافئه المولى جل وعلا بالعفو عنه وعدم الغضب عليه.
ولقد كان من روائع دعائه ومن جوامع كلمه قوله: ((اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضا)) [رواه أحمد]. وما أعظم هذا الدعاء لمن يتأمله! إنه دعاء عظيم، وهو مع ذلك يحمل في طياته توجيهاً من المصطفى للمسلم بأن يكون عادلاً، وأن يقول كلمة الحق في حال غضبه وفي حال رضاه.
روي عن ذي القرنين – رحمه الله تعالى – أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال: (علمني علماً أزدد به إيماناً، قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرُدّ الغضب بالكظم، وسكّنه بالتؤدة، وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظّك وكن سهلاً ليّناً للقريب والبعيد، ولا تكن جبّاراً عنيداً).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن [فصلت:34]. قال: (الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا عصمهم الله، وخضع لهم عدوّهم).
وقال عروة بن الزبير – رضي الله عنهما -: (مكتوبٌ في الحِكم: يا داود إياك وشدة الغضب فإن شدة الغضب مفسدة لفؤاد الحكيم).
وقال ابن القيم – رحمه الله: (دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهةٍ أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوةٍ أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضبٍ أورث العدوان على خلقه).
بعض أسباب الغضب:
1- قلة الصلة بالقرآن الكريم، ومعرفة ما أعده الله تعالى من الأجر لمن كظم غيظه، وكف غضبه، وعفا وأصلح، وصبر وغفر، فمن عفا وأصلح فأجره على الله [الشورى:40].
وقال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [فصلت:34].
قال ابن عباس في تفسيرها: (أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم).
2- قلة لنفسه قط، ولم ينتقم لها قط، وكان حليماً يحب الحلم، رفيقاً يحب الرفق.
3- قلة العقل وضيق التفكير، فإن الإنسان العاقل، والرجل البصير لا يكون كالطفل الصغير أو المجنون، يثور لأتفه الأسباب، ويغضب لأدنى الأمور. المتعقّل يقوده عقله إلى الصبر وسعة الصدر، والتحمل وكسب المودة، والنظر في عواقب الأمور.
4- كثرة متطلبات الحياة وتعقّد أمورها، من الأسباب التي تجعل المرء في قلق دائم، وتوتر مستمر، فهو في لهثٍ دائم، وجري مستمر، وكدح مضنيٍ.
5- التكبر ورؤية النفس: فإن المتكبر سريع الغضب، دائم القلق، شديد الجزع، يغضب لأي أمر يتعارض مع كبريائه، وينال من انتفاخه وانتفاشه، لدرجة أن بعض المتكبرين يغضب لمجرد رد السلام عليه.
6- الغرور: إما بمنصب أو بمال أو بجاه، فالمغرور دائماً سريع الغضب، لا يرى معه أحداً، ولا يتحمل زلة، ولا يقبل رأياً، ولا يسمع نصحاً.
7- نشدان الكمال دائماً: إما من المسؤول مع من حوله، وإما من الرجل لزوجته، وإما من الأب لأبنائه، فالذي يريد الكمال دائماً إنما يطلب المستحيل، ولذلك يغضب لأدنى تقصير، ويثور لأقل خطأ، لدرجة أن بعضهم قد يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا زاد ملح الأكل، أو قلّت توابل السلطة.
8- الشعور بالنقص، فالمدرس الفاشل في تدريسه، والرجل الضعيف في بيته، يحاول أن يعوض هذا النقص بافتعال الغضب، واستمرار التوتر حتى لا يجرؤ أحد على سؤاله، ولا يقوى إنسان على مناقشته.
9- إثارة النعرات والعصبيات الجاهلية، فهذه من أهم الأسباب، ومن أعظم الدوافع لحصول الغضب، واستثارة الانتقام. ولقد كادت نارها تشب الفتنة بين الصحابة من الأوس والخزرج حينما تشاجر رجلان، فقال هذا: يا للأوس، وقال الآخر: يا للخزرج، لولا أن أسرع إليهم النبي فوعظهم وذكّرهم وتلا عليهم القرآن حتى بكوا ورموا سيوفهم واحتضن بعضهم بعضاً.
10- وهذا السبب خاص بالنساء وهو: الغيرة من تعدد الزوجات، فإن المرأة التي يكون لزوجها امرأة أخرى تعظم غيرتها، وتتوتر أعصابها ويعظم قلقها، فيجب مراعاة ذلك، ويجب على من له أكثر من زوجة أن يحسن إليهن، وأن يتحمل زللهن، وأن يعدل بينهن، وأن يراعي مشاعرهن؛ فإن ذلك أمر لا قبل لهن به.
عصمنا الله وإياكم من الغضب وأسبابه، والعنف ونتائجه.
أسباب تسكين الغضب:
1- أن يذكر الإنسان الله عز وجل وقدرته عليه.
قال تعلى: واذكر ربك إذا نسيت [الكهف:24]. قال عكرمة: يعني إذا غضبت.
يروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى: اذكرني عند غضبتك أذكرك عند غضبي، فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظُلمت فارض بنصرتي لك فإنها خير من نصرتك لنفسك.
ويروي أن بعض الملوك كتب كتاباً وأعطاه وزيراً له، وقال: إذا غضبت فناولنيه، وكان فيه: مالك وللغضب إنما أنت بشر، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.
ويروى أن أحد الملوك كان إذا غضب أُلقي عنده مفاتيح مقابر الملوك فيزول غضبه.
وقال رجل لهارون الرشيد – وقد غضب عليه وكاد أن يعاقبه -: (يا أمير المؤمنين أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوت عني) فعفا عنه.
2- أن يذكر ما أعده من الثواب لمن كظم غيظه وعفا وأصلح:
قال تعالى: فمن عفا وأصلح فأجره على الله [الشورى:40].
وقال تعالى عن المتقين: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [آل عمران:134].
كانت جاريةٌ تصب الماء على يدي جعفر الصادق – رحمه الله – فوقع الإبريق من يدها فانتثر الماء عليه، فاشتد غضبُه، فقالت له: يا مولاي والكاظمين الغيظ ، قال: كظمت غيظي، قال: والعافين عن الناس ، قال: عفوت عنك، قالت: والله يحب المحسنين ، قال: أنت حرّة !! فانظر احترامهم لآيات القرآن وآدابه.
وقال : ((من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يُخيّره في أي الحور شاء)) [رواه الترمذي].
وقال : ((ما تجرّع عبد جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله عز وجل)) [رواه أحمد].
غضب عمر بن عبد العزيز يوماً، فقال له ابنه عبد الملك: يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضّلك به تغضب هذا الغضب؟!، فقال له: أوما تغضب يا عبد الملك، قال وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردّد فيه الغضب حتى لا يظهر!.
3- التعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [فصلت:36].
استبّ رجلان عند النبي والصحابة جلوس عنده، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً، قد أحمرّ وجهه، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) [أخرجه البخاري].
4- الوضوء:
قال : ((إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) [رواه أبو داود].
5- تغيير الهيئة:
قال : ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) [رواه أبو داود].
6- السكوت:
قال : ((علموا ويسّروا ولا تعسّروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت)) [رواه أحمد].
7- أن يتذكر ما يؤول إليه الغضب من الندم:
فكم من إنسان تدمرت حياته، وشقيت أسرته بسبب الغضب، فيغضب الرجل غضباً شديداً فيطلق زوجته، ثم يندم بعد ذلك وقد لا ينفع الندم. يغضب الإنسان غضباً شديداً فيعاقب أبناءه بما يندم عليه، أو يموت منه كمداً.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عُمّاله أن لا تعاقب عند غضبك، وكان – رحمه الله – إذا غضب على أحد يسجنه ثلاثة أيام، ثم يعاقبه حتى لا يعاقبه وهو في سورة غضبه وحدة انفعاله خشية أن يتجاوز الحد في العقاب.
قال الحكماء: إياك وعزّة الغضب فإنها تفضي إلى ذل العذر.
وقال أحد السلف: ما تكلمت في غضبي قط بما أندم عليه إذا رضيت.
وقال علي بن أبي طالب: أول الغضب جنون وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب.
وقال بعض الحكماء لابنه: (يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم)، وقال آخر: (من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار).
8- الترفع عن الجهال والصبر عليهم وعدم مجاراتهم:
فإن الإنسان إذا تدنى إلى مستواهم أصبح مثلهم، يروى أن رجلاً أسمع أبا الدرداء كلاماً، فقال له أبو الدرداء: يا هذا لا تُغرقن في سبّنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وشتم رجل الشعبي، فقال له: إن كنت كما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ، فغفر الله لك.
وأغلظ رجلٌ القول لعمر بن عبد العزيز، فنظر إليه عمر، فقال: أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً؟!.
الغضب المحمود:
من الغضب ما يكون محموداً بل ما يكون واجباً، وهو الغضب لله عز وجل. لم يكن يغضب لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء. وهذا على العكس من حالنا تماماً إلا من رحم، فنحن نغضب لأنفسنا، ولكن قل منا من يغضب لله تعالى، نرى محارم الله تنتهك فلا نغضب، نرى المعاصي تعاقر أمامنا فلا نغضب، نرى المخالفات في أبنائنا وبناتنا وبيوتنا فلا نغضب، ولو نيل من حقوقنا شيء غضبنا غضباً شديداً.
أمر الله جبريل أن يدمّر قرية من القرى فقال: (يا رب إن فيها عبدك الصالح فلاناً، فقال تعالى: به فابدأ فإنه لم يتمعّر وجهه مرة من أجلي)، فأين الغضب لله اليوم؟ وأين الغضب على حرماته؟ بل أين الغضب على مقدساته؟ بل أين الغضب لإخواننا المسلمين؟ الذي يمزقون في أنحاء الدنيا، أين الغضب لأعراض المسلمات التي تنتهك جهاراً نهاراً كل غضب المسلمين اليوم لا يتعدى كلمة أو شجباً أو إنكاراً، أو تعليقاً في صحيفة، ولكنهم لأنفسهم ومصالحهم الشخصية لا أحد أسرع منهم غضباً.
وقد ذكر الغزالي – رحمه الله – أن الغضب ثلاث درجات، وهي: التفريط، والإفراط، والاعتدال.
التفريط: يكون إما بفقد قوة الغضب بالكلية أو بعضها، وحينئذ يقال للإنسان إنه لا حمية له، ومن هنا قال الشافعي: من استغضبت فلم يغضب فهو حمار.
والإفراط: يكون بغلبة صفة الغضب حتى تخرج عن سياسة العقل والدين والطاقة، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، وهذا النوع مذموم أيضاً.
والاعتدال: وهو المحمود وذلك بأن ينتظر إشارة العقل والدين فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم.
اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1288)
الورع
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الورع. 2- معنى الورع. 3- درجة الورع. 4- أقسام الورع. 5- أحاديث تحث
على الورع. 6- ورع الصحابة. 7- وصية الصالحين بالورع.
_________
الخطبة الأولى
_________
الإيمان مراتب، والإسلام درجات، والتقوى منازل, والناس متفاوتون في ذلك تفاوتًا كبيرًا، وعلى قدر ترقي الإنسان في مراقي الكمال تكون مرتبته عند ربه جل وعلا وتكون منزلته في الجنة.
وإن من السهولة بمكان أن يكون المسلم مصليًا أو صوامًا أو قوامًا أو داعية أو خطيبًا أو معلمًا أو حتى عالمًا، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون وَرِعًا فإن الورع رتبةٌ عزيزة المنال، رفيعة المكان، بعيدة الشأو، ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب، وتحلى بأجمل المناقب التي تؤهله لمنزلة النبيين والصديقين والشهداء، وإن ما نلاحظه من قلة البركة، وفساد الثمرة، وتردي الأخلاق، وكثرة الشقاق، والتهاون بالذنوب، وضياع الحقوق، وفشوا الفسوق، ومظاهر العقوق؛ لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع، فما هو الورع؟ وما هي درجاته؟ وما أقسامه؟ وما مظاهره؟ ومن هم أهله؟ وما هي ثمرته؟!
(وَرَعَ) كلمة تدل على الكف عن الشيء والانقباض عنه، وقيل هو بمعنى التَّحرُّج.
والوَرَعَ في الشرع ليس هو الكف عن المحارم والتحرُّج منها فقط، بل هو بمعنى الكف عن كثير من المباح والانقباض عن بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام.
وقد وردت تعاريفُ كثيرة للورع، ومنها قولهم: الوَرَعُ: ترك ما يريبُك, ونفي ما يعيبك, والأخذ بالأوثق, وحمل النفس على الأشق.
وقيل: هو تجنب الشبهات, ومراقبة الخطرات.
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: هو الورع مما قد تخاف عاقبته.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة.
وقيل: هو عبارة عن ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا.
وقيل: هو ترك كل شبهة.
وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر وورع في الباطن. فورع الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله, وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سوى الله.
وقال آخر: الورع هو الخروج من كل شبهة, ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
يا الله الخروج من كل شبهة!! ومحاسبة النفس في كل طرفة!! فانظر لهذا التعريف وما سبقه من تعريفات للورع, ولنعرض أنفسنا وأحوالنا وأعمالنا على مفهوم الورع, أظنه في وادٍ ونحن في واد ـ إلا من رحم الله ـ أين نحن من تجنب الشبهات, أين نحن من عدم التسرع إلى تناول أعراض الدنيا, أين نحن من الإحجام عما يُخشى ضرره, وتُخاف عاقبته, وهي تعريفات لها أهميتها البالغة, ودلالاتها العميقة.
أكثر الناس اليوم يهمه أن يجمع المال, وأن يصل إلى غرضه, وأن يحقق مآربه في الدنيا, أما السؤال عن الحرام والحلال والأجر والإثم والجواز والمنع, والريبة وعدمها, فذلك آخر ما يفكر فيه الإنسان إن فكر، ولذلك ترى كثيرًا من الناس ينساقون وراء معاملات تجارية, وفرص استثمارية, وعروض بنكية, ومسابقات عجيبة, ودعوات غريبة دون تريث في الأمر والتفات للشرع وسؤال عن الحكم, وبعضهم قد امتلأ بطنه, وعظم رصيده, وغذي بالحرام جسمه.
أين نحن من قولهم: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله, وأن لا يدخل في قلبه سوى الله.
أين نحن من قولهم محاسبة النفس في كل طرفة عين. فمن علم أنه محاسب على مثقال الذرة وجب عليه أن يحاسب نفسه في كل طرفة عين.
ومما مضى من التعريفات يظهر لنا أن الورع هو في البعد عن المحرمات والكف عن الشبهات, والتخفف من المباحات, ومحاسبة النفس على الورع وأعظمها درجة, وأشدها خطورة, وهو الورع في المنطق, والورع في المنطق يدل على سلامة النفس, وينبىء عن صفاء القلب, ويدل على قوة الإيمان, وإن الورع في المنطق والأقوال أشد وأشق من الورع في الأفعال, يقول أحد السلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة.
إن من الناس من يستطيع أن يملك نفسه ويكفها عن الشهوات والشبهات, ولكنه لا يستطيع أن يسجن لسانه, ويملك بيانه, فلا ينطق إلا بخير, ولا يتكلم إلا بمعروف, ولا يحدث إلا بصدق وعدل وحق, لا يخوض فيما لا يعنيه, ولا ينال مسلمًا بما لا يرضيه, ولا يرم بريئًا بما ليس فيه, ولا يتتبع العورات, ولا يتصيد العثرات, ولا يشهر بالهفوات، فمن وُفِّق إلى الورع في حفظ اللسان فقد بلغ الغاية في مراتب الإيمان.
يقول : ((وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم)) [1].
ما هي درجة الورع؟
درجته عالية, ورتبته رفيعة, ومنزلته بعيدة لا يصل إليها إلا الخلصُ من الناس, ولا يرتقي إليها إلا الأفذاذ من العباد, ولذلك تجد أن الذين اشتهروا بالورع على مر التاريخ هم أناس قلائل, وأفراد أوائل, وإذا قيل في القرون المفضلة: "لولا سفيان الثوري لمات الورع" فما بالك ببقية القرون. فالورع مرتقى صعب, ومرتبة شاقة, وهو ملاك الدين, وجوهر التقوى, وزمام الأمر.
يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة ـ أي النفل ـ.
وقال محمد بن واسع ـ رحمه الله ـ: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير منه.
وقال حبيب بن أبي ثابت ـ رحمه الله ـ: لا يعجبكم كثرة صلاة امرىء ولا صيامه, ولكن انظروا إلى ورعه, فإن كان ورعًا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقًا.
تصلي وتصوم وتتلطخ بالشهوات والشبهات, تصلي وتصوم وتجمع الأموال بكل طريق حلال أو حرام, تصلي وتصوم وتطلق لسانك في عباد الله, تصلي وتصوم وتحسد وتحقد وتبغي في الأرض بغير الحق. هذه صفات ليس بينها وبين الورع وفاق, وليس لها معه عهد ولا ميثاق.
يقول بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم جميعًا ـ كنا ندع سبعين بابًا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام, وهذا موافق لحديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى هو أن النبي قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس)) [2]. وقد صح عنه قوله: ((خير دينكم الورع)) [3].
أقسام الورع: قسم بعض العلماء الورع إلى ثلاثة أقسام وهي:
1 ـ واجب: وهو الإحجام عن المحارم وذلك للناس كافة.
2 ـ مندوب: وهو الوقوف عن الشبهات وذلك للأواسط.
3 ـ فضيلة: وهو الكف عن كثير من المباحات والاقتصار على أقل الضرورات وذلك للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
ومظاهر الورع كثيرة جدًا, فالورع يكون في النظر بحفظه عن الحرام وغضه عن الفتن, ويكون في السمع, ويكون في اللسان, ويكون في البطن فلا يأكل أو يشرب إلا ما اطمأن إلى جوازه ونفعه, ويكون في الفرج بحفظه عما حرم الله, ويكون في المشي والسفر, ويكون في البيع والشراء.
وإليك الآن بعض النماذج الرفيعة لأرباب الورع:
أعظم الناس إيمانًا وأكملهم ورعًا محمد وهو الذي عاش يبث في نفوس أصحابه مفهوم الورع وعبقًا من حقيقة التقوى بقوله وفعله وسمته وخلقه.
يقول : ((البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب, والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون)) [4] , وهذه الإجابة وذلك التوجيه للإنسان المؤمن, أما الفاسق والفاجر فإن الإثم لا يحوك في صدره, بل ربما يتلذذ بالمعاصي, ويستمتع بالآثام, وهي متع ظاهرة, وتلذذ مغشوش, ولكن المسلم يجد لصدره انفساحًا, ولفؤاده انشراحًا مع البر ودروبه, ويجد في صدره ضيقًا, وفي قلبه حرجًا حين التلبس بالإثم ودواعيه.
ويقول : ((إنك لن تدع شيئًا اتقاءً لله عز وجل إلا أعطاك الله خيرًا منه)) [5].
ويقول : ((أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة في طُعمه)) [6].
ويعطي قاعدة عظيمة في الورع, فيقول: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) [7].
وجمع الورع كله في كلمة, فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) [8] وترك ما لا يعني كلمة عامة تعم كل شيء, ترك ما لا يعني من الكلام, وما لا يعني من النظر, ومن الاستماع, ومن المشي, ومن الفكر, ومن سائر الحركات الظاهرة والباطنة فمن ترك ما لا يعنيه من كل ذلك فقد ارتقى إلى مرتبة أهل الورع.
انظر إلى مثال من أصدق الأمثلة على الورع في المأكل والمشرب, يقول : ((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لآكلها, ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها)) [9].
وكان يروي لأصحابه بعض قصص الورع لتكون نبراسًا لهم, يمضون على نهجها, ويقتبسون من هديها, فيقول : ((اشترى رجل من رجل عقارًا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرّة فيها ذهب. فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقوا)) [10].
ولقد زرع هذا الورع البديع في نفوس أصحابه – رضوان الله عليهم – فساروا على النهج، واقتفوا الأثر، واتبعوا القدوة، تقول عائشة – رضي الله عنها -: (كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كل شيء في بطنه) وفي رواية أنه قال: (لو لم تخرج إلا بروحي معها لأخرجتها).
وهذا عمر بن الخطاب – وأرضاه – قسّم مروطاً بين نساء من نساء أهل المدينة فبقي منها مرط جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعط هذا بنت رسول الله التي عندك – يريدون أم كلثوم بنت علي – فقال عمر: أم سليط أحق به – وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايعن رسول الله - قال عمر: فإنها كانت تُزفِرُ لنا القِرَب يوم أحد.
الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وهو صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه، فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها، وزكّاها وعلاها، ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده، ألقاها في الرذائل، وأطلق عنانها وحل زمامها.
((ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له)) [11].
وإن من أراد الوصول إلى درجة الورع فلابد له من التورع عن كثير من المباح إبقاء على صيانة النفس وخوفاً عليها أن يتكدر صفوها ويطفأ نورها، فإن كثيراً من المباح يكدّر صفو الصيانة ويذهب بهجتها، يقول ابن القيم رحمه الله-: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية في شيء من المباح: "هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة". فهناك أمور كثيرة مباحة، ولكن لا تتناسب مع صاحب الهمة العالية ولا تتفق مع ذوي النفوس السامية.
سئل عن أفضل الناس فقال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان)) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)) [12].
وإن المؤمن حينما يبتعد عن طرق الحرام، ومواطن الشبهات، ويترك كثيراً من الأمور لله جل وعلا وخوفاً من عواقبها فإن الله تعالى يفتح له آفاقاً من الخير، وآماداً من العطاء، يقول : ((إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه)) [رواه أحمد].
ويقول أبو حامد الغزالي – رحمه الله -: ((لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال)).
ويقول الشافعي – رحمه الله -: (( زينة العلم الورع والحلم)).
وقال طاوس – رحمه الله -: ((مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وثمرها الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له)).
وقال سفيان الثوري – رحمه الله -: ((عليك بالورع يخفف الله حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك)).
وقال أبو هريرة – -: ((جلساء الله غداً أهل الورع والزهد)).
[1] صحيح ابن ماجه: 3224.
[2] ضعيف ابن ماجه: 4977.
[3] صحيح الجامع: 3308.
[4] صحيح الجامع: 2881.
[5] مسند أحمد: 5/78.
[6] مسند أحمد: 5/78.
[7] رياض الصالحين: 56.
[8] صحيح ابن ماجه: 3226.
[9] صحيح الجامع: 2497.
[10] صحيح الجامع: 989.
[11] انظر صحيح مسلم:1015.
[12] صحيح ابن ماجه :3416.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1289)
حقيقة الخسارة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خسارة الدنيا. 2- الخاسرون في الآخرة كما وصفهم القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الخسارة لفظ مزعج، وكلمة ممقوته، وعبارة بغيضة، ومصير مؤلم، الكل يتحاشاها، والجميع يتفاداها، لا يحبها أحد، ولا يتمناها بشر، مربكة للعقول، قاصمة للظهور، مدمرة للبيوت. تسهر الأعين لتسلم الخسارة، وتكد الأذهان وتتعب الأبدان لتنجو من الخسارة، ومع ذلك فمن الناس من يقع في شراكها، ويتردى في أوديتها؛ فالخاسر عينه ساهرة، وطرفه باكٍ، وحياته كئيبة، وعيشه جحيم، وحياته عذاب.
هذا بالنسبة للخسارة الدنيوية التي تعارف عليها البشر، ولكن هنالك خسارة لا يعدلها خسارة، وحرمان لا يوازيه حرمان.
وقد تكون خسارة الإنسان في الدنيا سبباً لفوزه في الآخرة، وقد يكون فوز الإنسان في الدنيا خسارة له في الآخرة، قال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر:3].
من هم الخاسرون؟
1- الكفر بالله: الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون [العنكبوت:52]. والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون [الزمر:63].
2- الشرك بالله: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65].
3- اتخاذ الشيطان ولياً من دون الله تعالى: ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً [النساء:119]. يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً [النساء:120]. استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [المجادلة:19].
4- الصد عن سبيل الله: الذي يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون [هود:19].
5- طاعة الكفار والركون إليهم: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرون [آل عمران:149].
6- عبادة الله على حرف، وطاعته على حسب المصلحة: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11].
7- الاشتغال بالأهل والأموال والأولاد عن طاعة الله وحسن عبادته: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ المنافقون:9]. قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً [نوح:21].
8- من خسر نفسه وأهله يوم القيامة: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [الزمر:15]. لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون [الزمر:16]. وقال تعالى: وتراهم يُعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم [الشورى:45].
9- التكذيب بلقاء الله: حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون [الأنعام:32]. ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [يونس:45]. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون [النمل:4]. قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً [الكهف:105].
10- من خفت موازينه فجاء بأعمال ناقصة، وعبادات باهتة: والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [الأعراف:8]. فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [المؤمنون:101].
11- من لم يسلم المسلمون من شرّه، ولم ينج المؤمنون من أذاه: قال : ((أتدرون من المفلس؟)) ، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [رواه مسلم].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1290)
قصة قارون
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف بقارون. 2- مشهد الخيلاء والكبرياء. 3- أهل الخير والصلاح يقومون بالبلاغ.
4- تطاول قارون على الناصحين. 5- مهلك قارون. 6- دروس من قصة قارون.
_________
الخطبة الأولى
_________
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية. فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.
فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!
استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية:
قال الله تعالى: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة [القصص:76].
بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى ، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.
فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:
الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.
والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.
فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغي عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.
وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.
هو الرزق لا حل لديك ولا ربط ولا قلم يجدي عليك ولا خط
فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو
يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.
المشهد الثاني: مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة. وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [القصص:77].
فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟ أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان قال إنما أوتيته على علم عندي.
أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.
ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: أولم يعلم أن الله أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [القصص:78].
كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.
ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم [القصص:79]. وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون [القصص:80].
فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فجيب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.
ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].
هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.
يقول : ((بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) [رواه أحمد].
وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [القصص:82].
ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [القصص:83].
بعض الدروس المستفادة من القصة:
1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً.
2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.
أما ترى البحر والصياد منتصبٌ لرزقه ونجوم الليل محتبكه
قد غاص في لُجة والموج يلطمه وعينه لم تزل في كلكل الشبكة
حتى إذا بات مسروراً بليلته بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه
شراه منه الذي قد بات ليلته خِلْواً من البرد في خير من البركه
سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا هذا يصيد وهذا يأكل السمكه
3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.
يقول أحد المتكبرين:
أتيه على جن البلاد وإنسها فلو لم أجد خلقاً لتهت على نفسي
أتيه فما أدري من التيه من أنا سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي
4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.
5- أن الإسلام يدعو إلى إعمار الأرض والسير في مناكبها، والأخذ بنصيب من الدنيا، ولكن يجعل ذلك كله طريقاً إلى الدار الآخرة، ويحسن الإنسان كما أحسن الله إليه.
6- أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!
7- يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.
8- أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.
9- أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1291)
من أحوال الخاشعين
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
ناصر الزهراني
مكة المكرمة
الشيخ ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الذين يقدمون الخير ويخشون أن لا يقبل منهم. 2- عبادة النبي. 3- خشية الصحابة
وبكائهم. 4- خشية السلف الصالح وبكائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
سير العظماء تبعث الهمم، وأخبار النبلاء توقظ العزائم، وأحوال السبّاقين توقظ الغافلين، هنالك نماذج رفيعة، وقدوات شامخة.
أخبارهم عطرة، وسيرهم مبهجة، وحياتهم مذهلة، أخمصوا البطون عن مطاعم الحرام، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام وحفظوا الجوارح عن فضول الكلام، وصلوا بالليل والناس نيام، وصاموا فأحسنوا الصيام، فعلنا نبهج القلوب بشيء من أخبارهم، ونوقظ العزائم بتأمل لأحوالهم، ونبث في الأرجاء عبقاً من عطر آثارهم.
قال تعالى: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [المؤمنون:60].
قالت عائشة – رضي الله عنها -: يا رسول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل، قال: ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون )) [أخرجه الترمذي].
فانظر إلى هذا الوصف الذي وصف به المولى هؤلاء الناس، فهو وصف يثير العجب، ويبعث الاستغراب، ويدعو إلى التساؤل. فهم يبذلون ويعملون ويؤتون ويجتهدون، ومع ذلك قلوبهم وجلة، وأفئدتهم خائفة، وكان المتوقع أنهم يعيشون بنفوس مطمئنة، وأفئدة سالية فرحاً بما قدموا، واتكالاً على ما بذلوا، وسروراً بما عملوا. فلماذا وجلت قلوبهم، وارتعدت فرائصهم؟ لأنه أيقنوا أنهم إلى ربهم راجعون، فهم يتذكرون هول المطلع عليه، وعظمة الموقف بين يديه، آمنوا بعظمته، وأيقنوا بجلاله، ونظروا إلى نعمه ثم نظروا إلى أعمالهم وضآلتها، وجهودهم وقلتها، ثم هي قد لا تسلم من خلل، ولا تنجو من زلل، ولا تصفوا من رياء، فكان الوجل طريقهم إلى الاطمئنان، والخوف موصلهم للأمان، والإشفاق قائدهم لرضا الخلاق، فسماهم المسارعين، ووصفهم بالسابقين. وإن الخوف سمة المؤمنين، وعنوان المتقين الذين وصفهم الله بقوله: الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [الأنبياء:49]. وقال تعالى عن المؤمنين في الجنة: قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [الطور:27]. وبين أن من صفات المؤمنين أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون [السجدة:16].
فهذا هو حال المؤمنين وديدن المتقين، وطريق المجتهدين، وأسلوب الطائعين.
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
فالمؤمن لا يدل بأعماله، ولا يباهي بأفعاله، بل يخشى ويخاف، ويخشع ويتذلل، يجتهد وهو على وجل، ويعمل وهو في حذر، وذك هو ديدن السلف، وهو الذي افتقده الخلف. فقد كانوا فرساناً بالنهار، رهباناً بالليل، قدموا لله أرواحهم، وبذلوا في سبيله أنفسهم، وصفت له سرائرهم، وأشرقت بحبه قلوبهم، وأسهر الإشفاق أعينهم، وأقضت النار مضاجعهم، ثم انظر في أحوال كثير من الناس اليوم، قلة في الطاعة، وتقصير في العبادة ومخالفة للسنة، ومقارفة للمعاصي، ومنادمة للخطايا، ثم لا عين تدمع ولا قلب يخشع، ولا خوف يردع، ولا تذكر لهول المطلع!.
فإليك الآن نماذج من أحوال الخاشعين، ومقاطع من أخبار الخائفين، وروائع من سير السابقين:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
كان إذا ذهب ثلث الليل قام، فقال: ((يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج, ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه)) [رواه الترمذي وأحمد].
وكان كثير الصيام، وقد كان يظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائماً, وكان أحياناً يواصل صيامه، وذلك خاصة بالنبي ، ولقد كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه.
وتقول عائشة رضي الله عنها: قام ليلة من الليالي، فقال: ((يا عائشة ذريني أتعبد لربي)) ، قالت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرّك، قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، ثم بكى، فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، وجاء بلال يؤذن بالصلاة فلما رآه يبكي، قال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت عليّ الليلة آياتٌ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربما ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار )) [آل عمران:191].
وكان أبو بكر رجلاً أسيفاً، إذا صلى بالناس لا تُكاد تسمع قراءته من كثرة بكائه وخوفه من ربه جل وعلا.
وكان في وجه عمر خطان أسودان من كثرة البكاء، وكان يُسمع بكاؤه من آخر الصفوف، وسمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: إن عذاب ربك لواقع [الطور:7]. فسقط مغشياً عليه، وبقي أياماً مريضاً يزوره الناس، وكان إذا أظلم عليه الليل يضرب قدميه بالدرة، ويقول لنفسه: ماذا عملت اليوم يا عمر؟ وكان ينعس وهو قاعد، فقيل له: ألا تنام يا أمير المؤمنين؟ قال: ((إذا نمت الليل ضيعت حظي من الله، وإذا نمت النهار ضيعت رعيتي)) وحين حضرته الوفاة يقول لابنه: ((ضع خدي على التراب عل الله أن يرى حالي فيرحمني)).
بكى عمر الفاروق خوفاً وخشية وقد كان في الأرض الإمام المثاليا
وقال بصوت الحزن يا ليت أنني نجوت كفافاً لا عليّ ولا ليا
وكان عثمان بن عفان – رضي الله عنه أرضاه – يصوم النهار ويقوم الليل، وكان إذا وقف على قبر يبكي حتى تخضل لحيته من البكاء، وكان يذكر عنده الموت والجنة والنار أحياناً فلا يبكي، فسئل عن ذلك فقال، قال : ((ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه)) [رواه الترمذي]. وقد روي عنه أنه ما اغتسل مرة واحدة واقفاً بل كان يغتسل جالساً حياء من الله جل وعلا، وقد روي عنه أنه كان يختم القرآن في ركعة ثم يوتر بها.
أما علي بن أبي طالب فقد كان صواماً قوماً فارساً بالنهار، راهباً بالليل. صلى صلاة الفجر في يوم من الأيام فجلس حزيناً مطرقا، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته، وبدأ يبكي ويبكي ثم قال: لقد رأيت أصحاب النبي فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً سفراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزى من كثرة السجود، قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع والله لكأنّ القوم باتوا غافلين.
وكان يستأنس بالليل وظلمته، فإذا أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضاً على لحيته، ويتململ تململ الملدوغ، ويبكي بكاء الحزين، وينادي: يا ربنا.. يا ربنا.. يا ربنا.
وقد وصف المتقين بقوله: (ألا إن عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وأهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة، لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما النهار فظماء حُلماء بررة أتقيا).
أما عبد الرحمن بن عوف فقد كان صائماً ثم أتي بطعام فقال: قتل مصعب بن عمير ، وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط. قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وأُتي له بعشائه في يوم من الأيام، وكان صائماً، فقرأ قول الله تعالى: إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً [المزمل:13]. فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه وما تعشى.
ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك، فقال: والله ما أبكي على دنياكم، ولكن أبكي لبعد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كؤود، وأنني أصبحت في صعود, المهبط منه إما إلى جنة وإما إلى نار.
أما تميم الداري وأرضاه فكان من العباد الصوام القوام، وقد قام الليل كله بآية واحدة حتى أصبح، وهي قوله تعالى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ، وقد سأله رجل عن قيامه بالليل، فغضب غضباً شديداً، ثم قال: ((والله لركعة أصليها في جوف الليل في السر أحب إلي من أن أصلي الليل كله ثم أقصه على الناس)).
وتقول امرأة عمر بن عبد العزيز – رحمه الله ورضي عنه – قد يكون في الرعية من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر، ولكن ليس فيهم من هو أشد خوفاً وبكاءً من عمر، كان إذا صلى العشاء الآخرة جاء إلى بيته فألقى بنفسه في محرابه فلا يزال يبكي حتى يطلع الفجر.
بكى ليلة من الليالي بكاءً شديداً، فبكت زوجه لبكائه، ثم سمع أهله البكاء فبكوا كلهم لبكاء عمر، فسمع الجيران البكاء فبكوا، وهم لا يدرون ما الذي يُبكي عمر ذلك البكاء، والذي كاد يودي بحياته، فلما سكن وهدأ قيل له: يا أمير المؤمنين ما الذي أبكاك فوالله لقد أشفقنا عليك؟ قال: تذكرت يوم القدوم على الله، ومنصرف الناس بين يديه، فريق في الجنة وفريق في السعير، ولا أدري أين يُذهب بي، حتى كأن النار ما خلقت إلا له. وقيل عن عمر لم يُر مثل خوفه.
وكان الحسن البصري – رحمه الله – ورضي عنه صائماً فجيء له بكوزٍ من الماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى، وقال: ذكرت أمنية أهل النار وقولهم أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله [الأعراف:50]. وكان يقول: إن المؤمنين قوم ذلّت والله منهم الأسماعُ والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى، وهم والله أصحاب القلوب ألا تراه يقول: وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن [فاطر:34]. ولقد كابدوا في الدنيا حزناً شديداً أبكاهم وأحزنهم وهو الخوف من النار.
ويقول: والله ما صدّق عبد بالنار قط إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم عليها.
وذلك الفضيل بن عياض – رحمه الله –، يقول إبراهيم الأشعث: ما رأيت أحداً كان خوف الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذُكر عنده أو سمع القرآن ظهر به خوف، وحزنٌ شديد، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من يحضره ويشفق عليه، وكنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي بكاءً شديداً وكأنه ذاهب إلى الآخرة، وكان يقول: رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله، وزهادته في الدنيا على قدر رغبته في الآخرة.
روي أنه رؤي يوم عرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، حتى إذا كادت الشمس أن تغرب قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء، وقل: واسوأتاه منك وإن غفرت!.
وكان منصور بن المعتمد – رحمه الله – محباً للصيام والقيام حتى عاتبته أمه، وقالت له: يا بني إن لعينيك عليك حقاً، فلماذا لا تنام؟ فقال لها: اتركيني فإن بين النفختين نوماً طويلاً، ولقد صام ستين سنة يقوم ليلها، ويصوم نهارها.
وكان أبو عثمان النهدي – رحمه الله – صواماً قوّاماً، يسرد الصوم، ويقوم الليل ولا يتركه، وكان يصلي حتى يُغشى علي، رحمهم الله جميعاً رحمةً واسعة، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
لقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة وقلوبهم وجلة، وكانوا يتنافسون في أعمال البر حذراً من لوم النفس عند انقطاع العمل على التقصير، قيل لمسروق – رحمه الله: لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد، فقال: والله لو أتاني آت فأخبرني أنه لا يعذبني لاجتهدت في العبادة، حتى تعذرني نفسي إن دخلت النار أن لا ألومها أما بلغك قول الله تعالى: ولا أقسم بالنفس اللوامة [القيامة:2]. إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم فاعتنقتهم الزبانية، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ورفعت عنهم الرحمة، وأقبل كل امرئ يلوم نفسه.
وكان عامر بن عبد قيس يقول: والله لأجتهدن ثم والله لأجتهدن، فإن نجوت فبرحمة الله وإلا لم ألم نفسي.
فهذا حال السلف الصالح، وذلك هو الطريق الرابح، أعمال جليلة، وعبادة عظيمة وخشوع وخضوع، مع خوف ووجل وإشفاق وخشية، ولكن إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب [لرعد:21].
تتجافى جنوبهم عن وطئ المضاجع
كلهم بين خائف مستجير وطامع
تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع
ورعوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع
واستهلت عيونهم فائضات المدامع
ودعوا يا مليكنا يا جميل الصنائع
اعف عنا ذنوبنا للعيون الدوامع
اعف عنا ذنوبنا للوجوه الخواشع
أنت – إن لم يكن لنا شافعٌ – خير شافع
فلنشمر ولنجتهد، ولنعمل ولنبذل، ولنستمر على الطاعة، ولنداوم على العبادة، ولنواصل في الخير. ولنحفظ صيامنا، ولنحسن قيامنا، ولنخرج زكاتنا، ولنكثر صدقاتنا، نسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته، وأن يعمر قلوبنا بخوفه، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يؤمن خوفنا يوم لقياه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1292)
الدين وقهر الرجال
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الديون والقروض
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقصير بعض الأغنياء في إخراج حقوق الفقراء. 2- مظاهر ترف في مجتمعنا يتنافس فيها
حتى الفقراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
كثيراً ما كُنت أقرأ دعاء النبي والذي يقول فيه: ((اللهم إني أعوذُ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وغلبة الدين وقهر الرجال)) وسأقف مع حضراتكم مع آخر ما في هذا الحديث، الاستعاذة من غلبة الدين وقهر الرجال، لا أجد مسلماً اليوم إلا ويعاني من هذين الهمّين العظيمين.. غلبة الدين وقهر الرجال.
والسبب أيها الأحباب:
إن كثيراً من الناس والأثرياء والمؤسسات وأصحاب الملايين لم يُخرجوا حق الفقير من أموالهم، والله سبحانه لحكمة جعل الناس القلة أغنياء، والكثرة فقراء ثم امتحن الأغنياء بأموالهم، لأن الأموال لله سبحانه، فمنهم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه [محمد:38]. فلا يُخرج حق الفقير في مال الغني إنما يأكله، وهنا يتسبب عدم إخراجه للزكاة أن يستدين الفقير من أجل ضروريات الحياة، وهُنا يتسبب عدم إخراجه لها أن يستدين الفقير من أجل ضروريات الحياة، وهُنا يتعرض لغلبة الدين وقهر الرجال، والمؤسسات المُدينة التي تُطارده بالأقساط وترهقه، ثم قلة وعي الناس اليوم والتقليد الأعمى الذي عليه بعضهم، وحُب الظهور والفخفخة والتظاهر بأنهم أغنياء وهم ليسوا أغنياء، يقلدونهم فيرهقون نفسهم، فكم من إنسان عنده سيارةٌ متواضعة تقضي حاجته وتوصله حيث يريد لكنه رأى جاراً له قد اشترى سيارة جديدة أو أخاً له أو قريباً فقالت له زوجته: نُريد سيارة جديدة فلم يملك أن يقول لها: لا، إن راتبي لا يكفي، بل نُصلح هذه السيارة ونمشي بها، وإنني لا أطيق.
غلبة الدين وقهر الرجال لضعف في شخصيته، لعشقه لها، لحبه لها، ثم يشتريها فتركبه الديون وتطارده الأقساط أو يتعرض لا قدّر الله إلى حادث فتنقلب السيارة.
وهنا تقهره الأقساط حقيقة على حساب الأطفال، وعلى حساب المعيشة، وعلى حساب الكرامة، ترفع عليه قضية ويُجر إلى المحاكم.
رجلٌ أخر أخذ القرض والأرض وبدأ يبني بدأ يؤسس، فأكل البناء كل ما أخذ من قرض الرخام وغير الرخام، وأعمدة لا حاجة لها وزخارف وزينة ثم أخذ يستدين بعد ذلك للأثاث، السرير، بكذا ألف، والحمّام – أكرمكم الله - بكذا ألف، ثم كانت النتيجة أصحاب الحقوق ينتظرون جميعاً مع المقاول خارج القصر الفارغ الذي لا يستطيع أحد أن يدخله أو يسكنه، ويتخطف أصحاب الحقوق راتبه ثم يستدين ثم لا يكفي ثم يهرب عند أمه أو أخته، لا يستطيع أن يدخل إلى بيته، لكثرة المدينين الذين ينتظرونه خارج البيت.
ثم هذا الذي يُطالب بحقوقه، إذا كلّ وملّ ذهب إلى المحاكم، ورفع قضية فيجد نفسه يعرض بيته في المزاد ثم يبيعه بالخسران ثم يُوقع شيكاً لا رصيد به، وتكون الكارثة يعتقل، ويُسجن، وتشرد الأسرة والعائلة، ويبدؤون يتكففون الناس وتسير أيديهم العُليا سفلى، ويصبحون أحاديث، كل ذلك لأنهم حُرموا القناعة، لأن القناعة والرضا كنزٌ لا يفنى، نعم ((ذاق حلاوة الإيمان من رضى بالله رباً)) حديث الرسول عندما أراد أن يصف السعيد في هذه الدنيا لم يقل أصحاب الملايين، والقصور الفاخرة والسيارة الفاخرة وإنما قال: ((من بات أمناً في سربه)) [1] ، وعندما أراد أن يصف أسباب السعادة قال : ((الزوجة الصالحة والدار الواسعة)) [2].
أيها الأحبة الكرام:
الله جل جلاله جعل أطول آية في القرآن في سورة البقرة آية الدين، لأن الله يعلم أن هذه القضية بالنسبة لمعظم هذه الأمة كارثة حتى أن أحدهم كما تذكر الأحاديث يمر على قبر يفرك صدره ويتمنى أن يكون داخل هذا القبر في باطن الأرض من كثرة الديون والبلاء، نسأل الله العافية.
الله جل جلاله في القرآن العظيم أعطانا الاعتدال في الإنفاق والرضا بما قسم الله لم يسرفوا ولم يقتروا [الفرقان:67]. وأعطانا صورة جميلة لهذا الإنسان ولا تبسطها كل البسط [الإسراء:29]. والذين بسطوا كل البسط حقيقة قعدوا ملومين محسورين، يذهبون إلى تلك اللجنة وإلى ذلك الدائن.. ربي سبحانه وتعالى لا يحب المسرفين.. يجب أن ننتبه إلى هذه القضية، فنربي أبناءنا على الاقتصاد، الدينارُ الحلال غالي ما جاء إلا من كد وتعب، فلنربي أهلنا على حسن إنفاقه.
كثيرٌ من الوجبات تأتي بالتليفونات من المطاعم، لماذا؟ أين الذين يجلسون على طعام واحد وصحن واحد وإذا زاد أكلوه في العشاء، صارت شوك ومعالق وتليفونات تنقل ملاذات الطعام والفاتورة على ظهر هذا الوالد المُرهق. أليس هذه ميزانية ترهق؟
محمد كان بإمكانه أن تتحول الجبال له ذهباً ومع ذلك يُمر عليه الهلال تلو الهلال وليس في بيته طعام، إنما يعيش على الأسودين التمر والماء، وكان لم يشبع من خبز الشعير، مات ولم يشبع من خبز الشعير [3].
أيها الأحبة في الله:
إن تربية الزوجة والأهل والنفس على الاقتصاد يجعل رب الأسرة ينام بالليل ولا ديون عليه، يذهب للمسجد ولا ديون عليه، يذهب لسوق بحرية، إنها أنسٌ وسعادة تفوق السعادة التي تأتي من وراء الديون، نرى بعض الناس النقال في يده ((المحمول)) وسيارته مرسيدس ثم تراه مطارداً بالديون، لذلك كان : ((وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) [4] ، والرسول بين أن النعمة تزول، والله ضرب المثل عن مدينة عامرة ذات حضارة فكفرت بأنعم الله [النحل:112]. كما يقول الشافعي: إذا كنت في نعمة فارعها، وداوم عليه بشكر الإله، فإن المعاصي تزيل النعم.
اللهم علمنا الرضا، واجعلنا ممن يحترم النعمة.
أيها الأحبة الكرام:
النبي بين أهله وأولاده يعلمهم فن احترام النعمة، يمر على تمرة وقد أُلقيت فيقول: ((لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها)) [5].
يعلمنا التمرة التي سقطت في الأرض لها قيمتها وثمنها وآل بيته مُحرم عليهم الصدقات، تواضع واحترام النعمة. ويذهب مع بعض أصحابه فيقدم لهم تمر رديء فعندما يأكلون ويشربون عليه الماء يقول: هذا النعيم الذي سوف تُسألون عنه ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [التكاثر:8]. عن الماء البارد يقول الله له: ((ألم أبرده لك)) ، ينبغي أن نربي أبناءنا على احترام النعمة، والرسول يأمر أمته أن تلعق الأصابع مع أنه والطعام على الأصابع لا يكادُ يُذكر ولكن المبدأ عظيم، فالذي يلعق أصابعه لا يُلقي بأنواع الطعام في الزبالات والنفايات.
اللهم إن نعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وغلبة الدين وقهر الرجال.
[1] حديث صحيح: وتمامه: ((من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) صحيح الجامع 5918.
[2] حديث صحيح: تمامه : ((ثلاث خصال من سعادة المرء المسلم في الدنيا: الجار الصالح ، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم وأخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة 282.
[3] صحيح : رواه البخاري عن أبي هريرة.
[4] قطعة من حديث أنس في الصحيحين وأحمد والنسائي والترمذي وأبي داود، ولفظ البخاري ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل ، والبخل والجبن ، ضلع الدين وغلبة الرجال )) 4/198.
[5] صحيح : أخرجه البخاري في كتاب البيوت ، باب ما يتنزه من الشبهات ، ومسلم في كتاب الزكاة على رسول الله وعلى آله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1293)
الرد على القرآنيين
أديان وفرق ومذاهب
فرق منتسبة
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مطالبة بعض الحكام بهجر السنة النبوية. 2- تحذير النبي في هجر السنة. 3- أدلة حجية
السنة. 4- سعة علم النبي كما علمه ربه. 5- استحلال الغناء والخمر. 6- أدلة تحريم الغناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الرسول أخبر في الحديث الصحيح [1] أنه يُحرم ويحلل ويحللُ، كما يُحرم ويحلل القرآن، وبعض الناس يظن أن الحلال في القرآن فقط، وأن الحرام مذكور في القرآن فقط، إذا قلت له قال رسول الله قال: هذا في القرآن؟ قلت: لا، قال: هذا ما يحلل ولا يحرم، أعطني آية في القرآن تذكر هذا، وهذا الذي تنبأ به النبي وأخبر أن أناساً ورجالاً من أمته سيأتون بعده يقولون هذا وقد تحقق على جميع المستويات، هناك من الزعماء من يقول ذلك نعم يقول بيني وبينك القرآن، أما البخاري أو مسلم فهذه كُتب دراويش حرفّوها فحرقوا جميع أحاديث الرسول ، وهناك من الناس المترفين أصحاب الشهوات عندما يعلمون أن الرسول فصل تفصيلاً دقيقاً في بعض الأمور التي لم يذكرها القرآن وفيها تحريم رفض تحريم الرسول.
اسمعوا هذا الحديث العظيم الذي تنبأ به الرسول وأخبر أمته، قال : ((يوشك)) [كلمة يوشك في اللغة العربية اسمها أسلوب المقاربة يعني عندما تقول يوشك أي قًرُب توشك المرأة أن تلد وهي في شهرها التاسع أي اقترب]، فعلاً حدث كما أخبر الرسول : ((يوشك أن يقعد الرجل منكم [من أمته] على أريكته [الكرسي أو الكنبة أو المكان الذي يجلس فيه أمام الناس] يُحدث بحديثي ويقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه..)) ماذا تعقيب الرسول ؟ اسمع: ((وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)) هذا هو التعقيب.
إن ما يقول عنه النبي بأنه حرام، فالله هو الذي قال هذا حرام لأنه لا يأتي بتشريع من عنده، وإنما هو يتكلم عن الله رب العالمين، هو رسول له مرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، وجبرائيل رسول له مرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، نعم لهذا يقول سبحانه: إن هو إلا وحي يوحى [النجم:4].
وبعد هذه المقدمة وتقرير هذه الحقيقة وتأكيد هذه الحقيقة أن محمداً حرم أموراً لم تُذكر في القرآن، وفصل أموراً نحن نطيعه فيها لم تُذكر في القرآن، علمنا عدد الصلوات ولم تُذكر في القرآن، الله قال: وأقيموا الصلاة، ولكن كم؟ كم عدد ركعات الفجر؟ الظهر؟
محمد علمنا، الله قال: وأذن في الناس بالحج [الحج:27]. ولكن محمد قال: ((خذوا عني مناسككم)) و((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
هذا التفصيل كله في الحديث لم يُذكر في القرآن منه شيء، لهذا تنبهوا أيها السامعون من أن نقع في هذا الخطر العظيم الذي يقع فيه بعض الناس اليوم إذا قُلت له قال وهذا الحديث صحيح يحتج به رده، وهنا تكون الخطورة العظيمة، فالذي يرد الحديث الصحيح ويجعل القرآن بينه وبين الناس فقط، استمع ماذا يقول الله عنه في القرآن العظيم: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء:80]. إذاً طاعة الرسول من طاعة الله: ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً [النساء:80]. يعني من تولى عن حديثك ويعطيه ظهره أو جنبه ويدبر عنه ما لا يحفظه أحد تبدأ تطارد الشياطين.
ويقول سبحانه وتعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول [النساء:59].
ويقول سبحانه: ومن يشاقق الرسول [النساء:115].
الكلمة نفسها فيها تصوير من يشاقق الرسول هو في مكان والرسول في مكان، هو في جانب والرسول في جانب، لهذا كن في جانب الرسول تحشر معه يوم القيامة ولا تذهب إلى الذئاب، الأمن مع النبي الذي تحرسه الملائكة ويحرسه الله سبحانه وتعالى.
إذن الآية فيها تعبير ومن يشاقق الرسول يروح هو في جهة والرسول في جهة.
ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى [النساء:115]. إذا المؤمنون لهم سبيل، لهم سمة معينة، أشكالهم كلامهم...الخ.
عش معهم تعرفه، ماذا نفعل به؟ نولّه ما تولى [النساء:115]. يُحشر معه يوم القيامة، ويقول سبحانه كل هذه الآيات تخدم الحديث الأول.
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
كلمة فتنة في القرآن يُراد بها الفتنة في الدين، ينام المرء مسلماً ويُصبح كارهاً الدين.
ونحن الآن بفضل ربي مُقبلين على شهر تُصفد فيه الشياطين وتربط فيه بسلاسل، الملائكة تربطها، فهذه فرصة للذي يشرب خمراً أن يتوب، الذي يزني أن يتوب، الذي يأكل ربا أن يتوب، الذي يقطع الرحم يتوب، هذه الفرصة نرتقبها هذه الفرصة نرتقبها من العام الماضي، أو يصيبهم عذاب أليم.
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة [الأحزاب:35].
وهنا أُدخل معنا النساء حتى لا تقول المرأة الرجل المعني فقط إذا قضى الله ورسوله أمراً [الأحزاب:36].
هذه الآيات كلها تصب في معنى طاعة الرسول في أحاديثه ثم لنستمع إليه وهو بين أصحابه كالنجوم يحيطون به كالقمر المنير وهو يحدثهم هذا الحديث العجيب الذي جعلهم كلهم يتساءلون، قال : (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، فلما قال: ((من أبا، تعجبوا من هذا الذي لا يريد الدخول مع الرسول، ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [2].
ثم استمع إلى القرآن العظيم وهو يُحمل الأمة مسئولية الحواس.
الله سبحانه جعل الحواس لطاعته ولعبادته وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات:56]. وهذه الحواس منها السمع والبصر، ومنها اللسان...إلخ.
ويجب أن تُسخرها لعبادة الله رب العالمين، ويبين الله أهمية حاسة السمع كيف أن الإنسان إذا جاءته الذكرى يُلقي السمع فيلتقط من جهاز الاستقبال، عند ذلك يحل الاطمئنان والنور، قال سبحانه: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ق:37]. لمن كان له قلب ، كل الناس لهم قلب، ليس القلب الدموي، إنما القلب الإيماني النور الرباني نور على نور ، هذا القلب هو قلب الفطرة، ماذا عندهم؟ عندهم سمع إذا غفل القلب يُلقى السمع ربما تؤثر فيه الموعظة ويبدأ يتلقى بالسمع فيحيا القلب لهذا الله فصّل فقال: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الأحباب الكرام:
الرسول ما ترك أمراً من أمور الحلال أو الحرام أو الخير أو الشر إلا بيّنه لأمته حتى يتركوا الشر ويعملوا الخير.
ولعلك تتساءل هذا الحديث من يرويه؟ حُذيفة بن اليمان كاتم سر الرسول يقول لقد خطبنا النبي خطبة [3] ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، والخطبة هذه امتدت اليوم كله، يعني صلى بهم الفجر وقام خطب، والظهر وقام خطب، ثم العصر خطبة عظيمة ذكر الفتن وأصحاب الانقلابات وأصحاب الطُرق والبدع، لهذا حذيفة يقول: ((علمه من علمه، وجهله من جهله)).
أيها الأحباب:
والرسول جاء من صفاته في القرآن أنه رحمة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107]. فإذا تكلمت هذه الرحمة علينا أن نقول سمعنا وأطعنا، فهذا شعارنا أمام الله وأمام الرسول.
وبعد هذه المقدمة والتمهيد السريع أُريد أن أُبين حكماً من أحكام النبي والتي حرم فيها أمراً معظم الناس اليوم يستحلونه أو يتهونونه، وهذا الاستحلال وهذا التهاون ألهاهم عن القرآن وعن الذكر وعن الطاعة وجعل النفاق ينبت في قلوب الناس بأشكال وألوان، وحرك البنات الغافلات، والأولاد الغافلين حركهم إلى التفكير الخاطئ والتفكير بالرذيلة، وأصبح هم الواحد منهم في ليله وفي نهاره، والله يقول: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً [الأحزاب:41]. أصبح الناس لا يعرفون من هذه الآية شيئاً إلا من رحم الله، من أول لحظة يفتح عينيه يدندن ويردد كلمات الأغاني، ومنهم من يدندن حتى إذا دخل الحمام، والحمام فيه شياطين، كيف تطردهم من الحمام؟ عندما تدخل برجلك الشمال وتقول: ((بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) [4].
إذا قلت هذا طرد اللهُ الشياطين من الحمام، لكن إذا ما قال المرء هذا ودندن في الحمام بدأت الشياطين تذكره المطرب الفلاني، والمطربة الفلانية، ويجلس في البانيو بالساعات يغني ويصدر الأصوات، أي قلب بعد ذلك يبقى لرجل في الحمام مع الشياطين يغني هل يتلقى الصلاة والذكر؟ لا يمكن أبداً.
سيواصل الوصلة في السيارة إلى عمله، لا يستطيع أن يصبر لأن هناك شياطين توسوس.
والرسول ماذا قال في هذه القضية الخطيرة؟ الموسيقى والغناء، أخرج البخاري من حديث أبي مالك الأشعري النبي : ((ليكونن – اللام والتوكيد والقسم – ليكونن أقوام يستحلون الحر)) [5].- الزنا – وهذا حديث الآن في قوانين ودساتير جميع الدول الإسلامية باستثناء السعودية حسب علمي بأن الدستور والقوانين في جميع الدول العربية تقول: إذا زنى رجلٌ بامرأة وكان الطرفان راضيان، المرأة راضية والرجل راضٍ، والمرأة لم يكن لها زوج، وحدث هذا برضاها، الجريمة تتحول من جريمة زينة إلى واقعة زنا.
لاحظ الفرق بين التعبير والنصوص، واقعة، وهذه الواقعة لها عقوبة بسيطة حبس بسيط، غرامة بسيطة، وإذا كان لها زوج وهذا لزوج تنازل عن حقه فإن هذا التنازل أيضاً يحولها من جريمة إلى واقعة، ويخرجون جميعاً برءاء، أين حق الله؟ ذهب!!، أين حق الرسول ؟ أين حق القرآن؟ وحق الأمة الإسلامية؟ هُدر!! فلهذا عندما أخبر بهذه الحقيقة لم يعبث بهذا الخبر، فمعظم الدساتير والقوانين تفعل ذلك الآن ((يستحلون الحّر)) والحر كرمكم الله الفرج، يستحلونه، لماذا قال يستحلونه؟ يعني هل يقول أحدهم: الزنا حلال؟ لا ولكن يحتالون عليه بأسماء أخرى، يقولون: حرية شخصية، ما شأنك؟ ولهذا سموا هذه العلاقة حُرية شخصية، والخمور مشروبات روحية، وهكذا.
هذه الأسماء لا تُغير من حقيقة المسمى، الكفار عبدوا الأحجار لكن سموها آلهة، هل صارت آلهة؟ لا هي أحجار، لهذا الله يقول: إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم [النجم:23]. ما هي آلهة.
لهذا عندما يُصبح الزنا حرية شخصية هل معنى ذلك أنه حلال؟ الخمر مشروبات روحية تنعش روحك، وتخضع مثل ما نبكي في القرآن والصلاة روحية، اشربوا لها الخمر وهي مشروبات شيطانية.
قال: ((والحرير)) وكما تعلمون الحرير حرامٌ على رجال أمة محمد مع الذهب، وقال: ((الخمر والمعازف)) أربعة أمور تستحل: ((الحرّ، والحرير، والخمر، والمعازف)) والمعازف الأخيرة هذه هي آلات الطرب والموسيقى ومعنى قوله: يستحلون معناها أنها حرام وإلا كيف يستحل الحل، فقد كان حراماً واستحله، ثم وضعها إلى الزنا جانب ومع الحرير قد ثبت تحريم الزنا والخمر بالقرآن والحرير ثابت تحريمه بالحديث، والمعازف ثابت تحريمها صراحة بالحديث، اثنان تُحرم بالقرآن، واثنان تُحرم بالحديث هذا الحديث صحيح أخرجه الإمام البخاري.
ثم الحديث الثاني: قال رسول الله : ((إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة (الطبل) والغبيراء، وزادني صلاة الوتر)).
كذلك هذا الحديث جاء في مسند الإمام أحمد، قال: سفيان قلت لعلي بن هزيمة ما الكوبة قال: الطبل [6].
نلاحظ أن هذه الأحاديث تجمع بين أمور غالباً ما تكون في مكان واحد شُرب الخمر والغناء والموسيقى والبنات والزنا والميسر والقمار، سبحان الله.
أحد عباد بني إسرائيل جاء في حديث أنه خُيّر بين أن يقتل أو يزني أو يشرب الخمر، فقال: أفعل أهونها فشرب الخمر، فلما سكر زنا وقتل.
الحديث الثالث: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة عند نعمة وعند فرحة)) [7] ، وفي رواية: ((نغمة ورنه عند مصيبة)).
الحديث الرابع: عن أبي هريرة قال : ((يُمسخ قومٌ من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير، قالوا يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، قال: بلى ويصومون ويحجون، قالوا فيما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقينات (البنات الراقصات) فباتوا على شربهم ولهوهم وقد مسخوا قردة وخنازير)) [8].
وهذا الحديث يهدد كل الذين يسافرون للفساد إلى بانكوك أو تايلند، أو إلى الدول الأخرى للبحث عن الطرب واللهو في الملاهي والفجور، فإن الله يهددهم والرسول يهددهم بأنهم قد يمسون شيئاً ويصبحون شيئاً أخر، يمسون يصومون يحجون يصلون ويذكرون الشهادتين، ثم يذهبون للملاهي مع المعازف والقينات والدفوف، قال ثم يبيتوا على ذلك في لهوهم فيتحولون إلى قردة وخنازير.
فلهذا انتبهوا خطورة عظيمة، هذا تهديد.
الحديث الخامس: قال : ((في هذه الأمة خسفٌ للأرض، ومسخٌ (التحويل من خلق إلى خلق)، وقذف (حجارة تنزل من السماء)، قال رجل من المسلمين ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات)) أي المغنيات، بعد ذلك ننتظر الرضى والبركة من الله تبارك وتعالى، وكما قال تعالى: في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ويصلحون [النمل:48].
حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم إني أسألك بصفاتك العلا وأسمائك الحسنى عدم الفساد للأمة.
وجاء في تفسير قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث [لقمان:6].
أخرج ابن أبي شيبه بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: (لهو الحديث)، قال: هو والله الغناء ذكره الشوكاني في نيل الأوطار.
وجاء في تفسير قوله تعالى: وأنتم سامدون [النجم:61]. قال ابن عباس وهو حبر الأمة وبحر العلم وترجمان القرآن ماذا فسر كلمة سامدون فرسها وهم مُغنون، والسمود هو الغناء ((بلغة أهل اليمن)) في قبيلة حمير، ولذلك تقول القبيلة أسمّد لنا أي غنّي لنا.
يعني أن الرسول يقول لكفار قريش: أنا أقرأ عليكم القرآن عند الكعبة وأنتم تطبّلون وتغنون وتغضبون بالغناوي على القران [9].
وجاء في الأثر عن عبد الله بن مسعود : ((الغناء يُنبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع)) [10].
وقال الفضيل بن عياض: الغناء رُقية الزنا، رقية الشيء هي مقدمات الزنا، الغناء.. ماذا يقصدون من كلمات الأشرطة.
وجاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما: الدّف حرام، والمعازف والكوب ((طبل)) والمزمار حرام [11].
وجاء في الأثر عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن ابن عمر مر عليه قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا استمع الله لكم، يدعو عليهم ابن عمر مادام فيهم واحد يُغني ألا آله تنبيه.
وجاء في الأثر عن ابن عباس جاء رجل فقال: ماذا تقول في الغناء حلال أم حرام، يعني في القرآن مذكور.
أرأيت الحق والباطل يوم القيامة، أين يكون الغناء؟ قال الرجل: يكون مع الباطل، قال ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.
أيها الأحباب الكرام:
وهذه الآلات أصبحت من الكثرة بحيث يختلط على الناس بحيث لا يعرفون الحلال من الحرام، والرسول لم يأذن إلا بالدّف ألا وهو الطار، وفي العرس وفي العيد والذي يكون فيه بنات صغار لم يبلغوا الحيض في عرس النساء لكي يشهروا الزواج، وكذلك العيد حتى تخالفوا اليهود والنصارى، ونبين أن في عيدنا فسحة كذلك كان يسمع الرسول ويقول حتى يعلم أهل الكتاب أن في ديننا فسحة ولكن لم يأذن فيه للرجال، ولم يكن ذلك من فعل الصحابة [12].
وفي عهد عمر بن الخطاب ظهر مولود لا هو ذكر ولا أنثى فهذا أمسك الطار وغنى فبلغ الأمر إلى عمر فقال أحضره، فلما أحضروه فأمسك عمر الطار وضربه على رأسه وقال هذا علاج من يفعل ذلك، أمتنا أمة جهاد وعبادة وطاعة، أمر بذلك عمر لأن جيوشه كانت تضرب مشارق الأرض ومغاربها وترفع راية لا إله إلا الله.
وليت المسألة اليوم انحصرت في الطار، فرق الجاز وجاكسون المغني وأشكال وألوان وأنواع، يقول المستمعون إنها مسيطرة عليهم، أموال طائلة تصرف وأولاده صاروا غافلين لا يُفكرون في طاعة ولا في دين.
أحضر لي أحدهم شريطاً وقال: يا شيخ سامحني ولكن اسمع فيه موسيقى، قلت: الموسيقى حرام، قال: اسمع هذا لحن أوروبي فيه موسيقى على طريق ترتيل القرآن، وفيه قرآن تسمعه من بعيد، قلت: صحيح؟ قال: اسمع الشيخ المنشاوي وهو يقرأ آخر المائدة، كلام عيسى عليه السلام مع الله أأنت قلت للناس اتخذوني [المائدة:116]. من بعيد في الشريط.
البداية كأن واحداً في الصحراء، عواصف هواء ثم صوت موجات، ثم القرآن ثم عيسى يتكلم في الصحراء مع الله ثم تدخل موسيقى عجيبة بلحن تركي ممزوجة بأوروبي، قبلها جيتار حاد ثم كأنه واحد يقرأ القرآن.
آلات تركى.. المعزفة البيانو، الصفارة، الصاجات الراقصات كذلك هم يقول نستخدم الطبل في الحرب.
كذلك الطنبور مثل العود ولكنه صغير.. إلخ.
الآن في المدارس والنوادي مدسوسة، أين أحاديث الرسول التي مرت فينا؟ من يذكرها، أصبحت فتنة.
أيها الكرام:
حافظوا على أولادكم الإنسان ليس بماله ولا سياراته إنما بإيمانه يبقى.
أسألك اللهم أن تحفظ أعراضنا، نعوذ بك من الغناء وشروره، وآلات المعازف، ونعوذ بك من أصوات الشياطين، اجعلنا من الذاكرين وفي الذاكرين.
اجعل القرآن ربيع صدورنا ونور قلوبنا، اللهم إنا نشهدك ونشهد حملة عرشك بأننا نُحل ما أحله رسوله ونحرم ما حرمه رسولك على ذلك نحيا وعلى ذلك نموت.
[1] الحديث صحيح: عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ،وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله..))
[2] صحيح : رواه البخاري.
[3] صحيح : رواه مسلم.
[4] صحيح : رواه البخاري ومسلم ، أخرجه في كتاب الوضوء ، ومسلم في كتاب الحيض ، كلاهما : باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.
[5] حديث صحيح : أخرجه البخاري 7/138 وأبو داود 4039.
[6] حديث صحيح : أخرجه الإمام أحمد ، ورواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر والألباني في السلسلة الصحيحة 180 وصحيح الجامع برقم 1747.
[7] حديث حسن: رواه البزار والضياء عن ابن عمر ، وأخرجه الألباني في الصحيحة برقم 428.
[8] إسناده ضعيف: ولكن له شواهد صحيحة ، انظر ص40 وراجع صحيحة الألباني 1604 ، وراجع كذلك كتابه القيم ((تحريم الآت الطرب)).
[9] أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والطبري في تفسيره.
[10] أخرجه ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في سننه الكبرى.
[11] حديث ذم المعازف والغناء في الميزان.
[12] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1294)
الزلزال
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رخص دماء المسلمين في مناحي الأرض. 2- لله ألطاف في زلزال مصر. 3- وصف
لهول الزلزال. 4- دعوة للصبر والاحتساب والتوبة وتحكيم الشريعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه ومستقر رحمته، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
اللهم ألف على الخير قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سُبل السلام، ونعوذ بك من الفتن والمحن والزلازل، ونسألك اللهم أن تنصر المجاهدين.
من هنا من منبر الدفاع عن الأقصى نقول لشعب مصر عظّم الله أجرك، وأحسن عزائك بما أصابك من الزلزال المروع.
فيا أيها الشعب المسلم مصابك مصابنا هنا في الكويت، وفي كل قطر مسلم، اللهم أجرنا من مصيبتنا وأخلفنا خيراً منها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ومصائب الأمة كثير مصيبتنا في الأقصى، وفي البوسنة والهرسك، وكشمير، وبورما، ومصيبتنا في هذه الأمة التي لا تحكم بكتاب الله، وسنة نبيه ولا تّقام فيها الحدود.
أنى التفت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوص جناحاه
مُصيبتنا في البوسنة والهرسك تتعاظم، المسلمون يُذبحون، الأعراض تُنتهك، الملايين يُشردون، وتظهر لنا قضية فلسطين جديدة ليس عند العرب، ولكن عند المسلمين في البوسنة والهرسك، يُشرد الملايين، والآن الحصار يُضرب على كوسوفا بعد أن ضُرب على سراييفو هذه المدينة التي نسبة المسلمين فيها 75 ، جردوهم من كل وظائفهم، وحطموا كل المؤسسات، طردوهم من الجامعات، اعتقلوا المشايخ، وهم يهيئونهم لمذبحة جماعية كما يذبحون البوسنة والهرسك لا نقول هذا البلاء من الصرب بل العيب والله فينا، قبل أن يكون فيهم، بلاءُ الأمة فيها!!.
أين مواقف الدول العربية والإسلامية؟!! الأمة التي تعرف كيف تقف وراء حقوقها تنتصر، الأسير الأمريكي لم يمر عليه أيامٌ قلائل في العراق إلا وأُطلق سراحه لأن وراءه أمة تطالب، ودولة تُحاسب، وأمتنا تضربها الزلازل وتُذبح وتُشرد ودماؤها أرخص من دم الدجاج في خُن المزارع..!!.
يا شعب مصر: شعب الكويت يقف معك الآن لأنك وقفت معه، لا ننس موقفك يوم أن أُحتل هذا البلد وأصبح أهله كالأيتام على موائد اللئام، وتخلى عنا أقرب الأقرباء وجفانا الأخلاء، واجتمع أعداؤنا ينصروننا، فأشمتوا فينا الشامتين، لا ننسى موقفك يا شعب مصر بعلمائك وجيشك وشعبك، فنقف معك الآن، إن المصاب الذي أصابك هو مصابنا.
والزلزال هذا في قدر الله مكتوب منذ الأزل، وما من قدر كوني ينزل فيه مصاب إلا ولله فيه لُطف، فمن لطف الله في هذا الزلزال أنه لم يكن مركزه المناطق السكنية، وإلا لا يبقي ولا يذر، ولكن كان مركزه في الصحراء وآثاره وصلت إلى المساكن، من لطف الله فيه أنه لم يصب السدود على رأسها السد العالي، ولو وصل لأغرقت مياهه كل الناس ولجاءهم سيل العرم لا يبقي ولا يذر، ومن لطف الله سبحانه وتعالى أن كثيراً من الناس في الشوارع وفي الطرقات قادمون من العمل أو ذاهبون، ولو كان هذا في ليل مُظلم والناس كلهم في بيوتهم لكانت الضحايا أشد وأعظم، لطف الله عظيم ونحن سمعنا عن الزلازل التي أصابت بعض الأمم سمعنا عن زلزال اليونان ماذا فعل بهم؟! إذ قتل منهم ما يزيد عن 50 ألف بضربة واحدة لم تستمر دقيقة، فالحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
والله جل جلاله إذا أصاب هذه الأمة بمصاب فإنه يجزيها على صبرها، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10]. وينبه الغافل، ويُعلم الجاهل، ويذكر الناسي، ويهدي الضال، ويدل المحتار، فإن الله رحمات غافرات منجيات تنزل في المصيبات، وبشر الصابرين [البقرة:155].
فيا أم الوليد يا من دُفن تحت الركام اصبري واحتسبي، ولا يأخذك الهلع ولا الجزع ولا السخط حتى لا يضيع الأجر، وليكن شعاركي إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة:156].
الزلزال وما أدراك ما الزلزال:
وبينما الناس في غفلة، والعجب أن أول من يشعر به الحيوان قبل الإنسان، فترى البهائم تشعر بالاهتزازات البدائية له والإنذار المبكر منه، والإنسان لا يشعر، لماذا؟ لأن الله أعطى للإنسان عقلاً وتدبيراً وتفكيراً، يخترع الأجهزة التي ترصد الزلازل، ولكن هذه المرة لأن مصر مصنفة في الموقع الجغرافي البعيد عن زلازل كان المرصد قد قُطع عنه التيار الكهربي مُنذ زمن، والأجهزة فيه قديمة والناس لا ينتبهون، ولكن الله سبحانه وتعالى يُعطي كثيراً من الأمم درساً بأن الإنسان والأمة عليها دائماً وأبداً أن تعيش في حذر من نفسها ومن الشيطان ومن عدوها، من ذنوبها، من معاصيها، يشعر الحيوان بالزلزال فيهرب تطير الطيور، وتفر البهائم وتصرخ الحيوانات في حدائق الحيوان، والحيوانات تهز الأقفاص لأنها تريد الهروب، والإنسان لا يدري ماذا سيحدث؟!!
ثم يعم صمت رهيب كأن الكون كله يصيح لهذا الحدث، ثم فجأة يكون انفجار رهيب تحت أقدام الناس تتكسر قشرة الأرض وليست الأرض هذه القشرة البسيطة والتي مهّدها الله وسواها الله وعدّلها الله تتكسر تكسراً بسيطاً ثم فجاءه تتحول الأرض إلى أخاديد سوداء مظلمة ويرتفع الأسفلت ويسّتك في وجوه الناس وتتطاير البنايات والعمارات كأنها علبٌ من الكرتون ويركض الإنسان في غير اتجاه، مرة يحبو برجليه ويديه، ومرة تبتلعه الأخاديد، ومرة يأتيه الجدار عن يمين والشمال فيرفع يديه الضعيفتين ليردهما فلا يستطيع، والجسور تتمايل وتترنح وتقذف ما فوقها من شاحنات وعربات، وأما السدود تتصدع وتأتي مياهها تغرق كل شيء، فالناس في الملاجئ يغرقون، وفي الحفر يغرقون، وتحت الركام الأحياء يغرقون، وأعمدة الكهرباء تترنح وتقذف شراكها وأسلاكها تصعق المارة ويسير الغبار ويشتعل الحريق ويزدحم الناس في المخارج والممرات.
أما تلاميذ المدارس فإنهم في عمر الزلزال الطويل ستون ثانية زمن كأنه ستون قرن، يخرج الأطفال والبنات والمدرسون والفراشون والحراس باندفاع واحد، ((نفسي نفسي)) كأنه يوم القيامة.. ويتساقط الصغار، الضعاف تحت الأقدام ويدوسونهم ويبدأ الركام البشري يعلو حتى يصل إلى السقف ولا ترى بعد ذلك إلا الأقوياء الأشداء يجثون يسبحون فوق آهات الصغار حتى ينجو كل إنسان بنفسه، إنه يذكرنا بمشهد من مشاهد يوم القيامة يوم أن تخرج تلك المرأة من غرفتها والأرض تهتز والغرفة تهتز والمصابيح تتمايل والصواعق من حولها تتفجر تلتقط الوسادة ولا تلتقط طفلها لأنها لا تدري ماذا تحمل بين يديها!!! إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة [الحج:1-2].
إذا زلزلت الأرض زلزالها [الزلزلة1].
الزلزال يوم أن يخرج الناس من بيوتهم ومساكنهم إلى الطرقات وارجعوا إلى ما أترفتم فيه [الأنبياء:13].
أحبتي في الله:
ويهدأ الزلزال ولكن الناس لا يعودون إلى بيوتهم من الخوف، فعند كل حركة يجفل قلبه وتهتز فرائصه، ويظن أن الزلزال قد عاد، ويبيت الأطفال والنساء الذين خرجوا بملابسهم الداخلية حائري القلوب شاحبي الوجوه غائري العيون، حفاة الأقدام يتكدسون في المناطق الواسعة والساحات الشاسعة ليس حولهم بناء، تدور رؤوسهم، يتخيل أحدهم بأن نسمة الهواء التي تهب على غُصن الشجرة جدار ينهمر عليه، ويتجلى الإنسان بضعفه وقلة حوله وحيلته ونتذكر الحديث النبوي يقول: ((إذا خرج الإنسان من بيته فليقل: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله)) ، ويبيت الناس في العراء ليلة وتأتي بعد ذلك مُلحقات الزلزال زلازل أقل كأنه يودع ويذهب بعيداً بعيداً كأنه يودع ويذهب بعد أن تفيض الأرواح إلى الله وتنسكب الدماء، وتختلط بالحديد والأسمنت والأسفلت، وبعد أن يأتي الناس يبحثون عن بعض أقاربهم لعل من بينهم أحياء.. وترى المشاهد.
أما في بلاد الكافرين فتحدث العجائب، أولئك الذين لا دين لهم ولا إيمان لهم تنتشر اللصوص وقطاع الطرق وذئاب البشر، لا يتردد في ديار الكافرين ذئبٌ بشري داخل عمارة مهدّمة أن يرى فتاة قد أطبقت الصخور والجنادل عليها أن يهتك عرضها، ولا يبالي، ولا يبالون، لقد قرأنا وسمعنا عن الزلازل التي تُصيب الناس في بلاد الكافرين ممن لا إيمان له ولا مروءة له.
ينتشر اللصوص فيأخذون الأموال ويسرقون الدور، وعزاؤنا في أمتنا أن كل أمر المؤمن كله خير ((إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر)) ، وحتى الشوكة يشاكها ويُكتب له فيها الأجر ولا يكون ذلك إلا لأمة الإسلام والمسلمين.
أحبتي إن الأموال التي دُفعت تبرعات وإعانات إنما هو واجب هذه الدول لمصر، ليس فيه فضل ومنّة، ولعل من لُطف الله في هذا الزلزال أن يقول لكثير من الشركات وكثير من المقاولين والمهندسين، اتقوا الله لقد كانت العمارات والبيوت في مصر تسقط من غير زلزال كيف يكون حالها إن جاء الزلزال، اتقوا الله، دعوا الغش، ((من غشنا فليس منا)) [1].
وهذه أمة اليابان يضربها الزلزال والزلازل، أشد من زلزال مصر، وبيوتها تتراقص كأنها في ليلة عُرس أو احتفال لأنهم عرفوا كيف يصنعون بيوتهم ودورهم، يجعلونها على دعائم قوية ثابتة تحتها زنبرك متحرك مهما كان وزن العمارة وناطحة السحاب، ونحن للأسف الشديد في العالم الثالث عالم الغش لا يهم التاجر والمقاول والمهندس إلا أن يملأ جيوبه، ولكن على حساب الآخرين، على حساب دماء الناس، فكم من عمارة سقطت من تسرب الماء، تسرب الماء يُسقط عمارة لولا أن الغش كان موجود فيها، فنسأل الله أن يكون في هذا الزلزال العبرة والدرس المفيد فننتبه، ونشكره، ومن صور شكرانه أن نتذكر أنه ما جعل مركزه في القاهرة بين السكان وإنما في الجنوب في الصحراء، ولم يُفجر السد العالي، من شكر ذلك أن الضحايا لم يكونوا بمئات الألوف، ومن شكر الله أن تغلق محلات الفجور الموجودة وليست هذه الدعوة لمصر خاصة، وإنما للعالم العربي والإسلامي كله، ابتداءً من هنا ثم دُبي ثم البحرين ثم جميع الدول العربية الإسلامية أقول لكم، اتقوا الله، حرموا ما حرّم الله، وأحلوا ما أحل الله.
حرموا الفجور، حرموا الخمور، فإن الطاعة لها بركة، والمعصية فيها شُؤم وعذاب، ثم نرفع من هنا دعاء من هذا المسجد إلى كل أم أرسلت بنيتها إلى المدرسة ثم عادت جُثة هامدة وإلى كل والد ذهب ابنه إلى الجامع ثم لم يعد إليه، نقول عظم الله أجرك وأحسن الله عزاكم وأخلفكم الله خيراً مما أخذ منكم وأحسن وجعلهم الله شهداء، والحريق شهيد، والغريق شهيد والنفساء شهيدة، فالشهداء في هذه الأمة كثير، فلا تندمي يا أماه إذا ما جاء ابنك يوم القيامة يأخذك ويأخذ بثيابك يشفع لك لتدخلي الجنة معه، اصبري واحتسبي فإن أجركِ عند الله عظيم.
وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً [الإنسان:12].
الله جل جلاله في كتابه الكريم أعطانا طريق الأمن والإيمان فقال سبحانه وتعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [الإنعام:82]. فنرفع الظلم عن شعوبنا وعن قوانيننا ولنرفع الظلم عن الضعفاء والمساكين، ولنؤد لكل ذي حق حقه فإن دولة العدل إلى قيام الساعة، وإن دولة الظلم لا تدوم ساعة.
نعم أحبتي في الله:
كتاب الله جل جلاله يبين لنا طريق الأمن والإيمان، هو طريق الرحمن سبحانه وتعالى فيا أيتها الشعوب والأنظمة، إذا أردت نصر الله وعافيته وتمكينه التزمي شرع الله.
ولكم في القصاص حياة [البقرة:179].
استجيبوا لله وللرسول [الأنفال:24].
أفحكم الجاهلية يبغون [المائدة:50].
نسأل الله أن يشرح صدور ولاة الأمر إلى حُكم الشريعة التي يكون فيها الأمن والإيمان التي تحفظ من المحن، والرسول [2] يبين أن آخر الزمان تكثر فيه الزلازل وتكثر فيه الفتن وتكثر المحن ويكثر الهرج فسألوه عنه فقال: القتل، فلا يدري القاتل لما قَتَلَ، ولا المقتول لماذا قُتِل؟ هذا الآن يحصل لهذه الأمة، يوم أن ضعف جسدها بضعف إيمانها، فتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، أمتنا كثرة، ولكنها لما قل إيمانها ضعفت فصارت قليلة، إن التداعي للجسد إذا كان الجسد صحيحاً.. أين الذين يسهرون تحت وطأة الحمى للمذابح التي تتعرض لها هذه الأمة؟ الناس يسمعون الأخبار كل يوم، ولكن لا هم لهم إلا تحصيل أرزاقهم وأنفسهم، أما الذي يتحرك بالليل والنهار فهو قليل إلا من رحم الله.
إذا كانت فينا هذه الحساسية الإيمانية والغيرة الربانية فإن الله يحفظنا بحفظه ويدفع عنا المصائب والمحن.
[1] حديث صحيح : عن أبي الحمراء مرفوعاً ، صحيح الجامع 6407.
[2] أنظر أحاديث الفتن في صحيح الإمام مسلم ((8/170)) باب لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1295)
الشهود العشر
الإيمان
اليوم الآخر
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هول المطلع يوم القيامة. 2- تحريم الغلول والغدر. 3- شهادة الأرض يوم القيامة بما عمل
على أطهرها. 4- شهادة الجوارح على صاحبها يوم القيامة. 5- خطورة الربا. 6- التحذير من
الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إذا أذن الله لإسرافيل أن ينفخ نفخة البعث والنشور خرجت الخلائق من قبورها يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر [القمر:7]. يزحفون على بطونهم كما يزحف الجراد، ثم يحاولون الوقوف فيكونون كالجمال الصغيرة المولودة كالحيران الحائرة ويسميها الله بالفراش كالفراش المبثوث [القارعة:4]. ثم تشتد أقدامهم فيقفون حفاة عراة غرلاً وتأتي الشمس فوق الرؤوس على قدر ميل ويأخذهم العرق حتى يغرقوا إلا من رحم الله وتزدحم الخلائق وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض [الكهف:99]. أمواج بشرية لا يعلم عددها إلا الله وأمواج جنيةٌ وشيطانية، وأمواج من الحيوان والطير والوحش والحشرات، يقول الله لغير المكلفين: كونوا تراباً فيكونون تراباً فيقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً [النبأ:40].
وفي هذا المشهد العصيب يُطارد الإنسان عشرة شهود، عشرة، يأتي الكتاب الذي كتبه الملكان، يقول الله عنه: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ق:16]. وهذا الكتاب شاهد أول من يقرأه؟ أنت ووضع الكتاب فترى الجرمين مشفقين مما فيه [الكهف:49]. كتابك يقول الله عنه ذاك كتاب المجرمين وهذا كتابك وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه [الإسراء:13]. من اهتدى إعلان إلهي فإنما يهتدي لنفسه [الإسراء:15].
ومن ضل، ويفرح صاحب الكتاب ويحزن صاحب الكتاب.
الفرحان يقول: هاؤم اقرءوا كتابيه [الحاقة:24].
وأما الآخر: يا ليتني لم أوت كتابيه [الحاقة:28].
ويأتي الشاهد الثاني: الغلول: غلّ من أموال الدولة غل من أموال الأجيال تأتي الأجيال كلهم يحشرهم الله يطالبون بأموالهم ممن سرقها وغلها وتخيل إنسان عارياً يوم القيامة تُحاصره الملايين جيلٌ بعد جيل. أنت الذي غللت أموالنا وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [آل عمران:161]. وكل غلول من الغنائم وأموال الأمة وفي الجهاد يأتي يوم القيامة شاهد على من غل.
والشاهد الثالث: الغدر غلول وغدر.
يقول : ((يرفع يوم القيامة لكل صاحب غدرة لواءً كتب عليه: غدرة فلان بن فلانه)) [1].
أينما يتجه علم يُرفرف وراءه تاريخ الغدرة ونوعها ولمن حصلت واسم صاحبها ونتائجها وحسابها وعذابها في جهنم أينما يذهب يقرؤها القاصي والداني في عرصات يوم القيامة من قريب ومن بعيد، غدرة فلان بن فلانه بن فلان.
ولا يظن الغادرون في الأعراض والأموال والأنفس والمؤسسات والمناقصات والناقلات إلى غيره أنهم سيفوتون على الله يوم القيامة بل سينصب له لواء لأنه لما غدّر أخفى غدّرته فيفضحه الله فيعلنها في لواء يُرفرف.
الشاهد الرابع: الأرض، هذا التراب الذي تمشي عليه يتكلم بلسان فصيح يعرفك أكثر مما تعرفه إذا زلزلت الأرض وأخرجت الأرض أثقالها [الزلزلة:1-2]. ونحن من أثقلها الإنس والجن، تكلمي أيتها الأرض بوحي من الله فتقول: فلان سجد عليّ وبكى، وخشع وسعى إلى المساجد، وفلان ذهب إلى الفجور والزنا تشهد الأرض بمواقع الطاعات والمعاصي فأما المؤمن إذا وافته منيته وانقطعت أعماله حزنت الأرض والسماء لأن أعماله نور في الأرض والسماء.
وأما الكافر فلا تبكيه يقول الله عنهم: فما بكت عليهم السماء والأرض [الدخان:29].
وأما الشهود الأخرى يأتون ثلاثة ثلاثة بعد هؤلاء الأربعة، الثلاثة، ماذا يقول الله عنهم؟ اسمع: شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم [فصلت:20]. ثلاثة مع بعض: سمع، بصر، جلد، هذا الثالوث المخيف.
يقول : ((فإذا ما شهدوا يقول صاحبهم: سُحقاً لكُنّ وبعداً لكُنّ، إنما كنت أدُفع عنكنّ)).
يسب نفسه يشتم عينه ويشتم سمعه يشتم جلده... وكأن الجلود تقول له كيف لا نشهد ضدك وأنت الذي حرمتنا من عبادة الله الذي خلقنا على الفطرة، فالسمع كان يريد أن ينصت إلى القرآن فأنصت إلى الأغاني، والعين كانت تريد أن تخشع وتبكي تريد دمعة واحدة في العمر خاشعة لله الذي خلقها حتى يُظل صاحبها تحت ظل عرشه ((ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ولكن عينه تبكي من كل شيء إلا من الخشوع لله رب العالمين، تبكي على الدرهم والمال، تبكي عند الطرب عند الغناء عند الحزن تبكي عند الفرح ولكنها لا تبكي خاشعة لله فتشهد ضده يوم القيامة.
والجبين الذي حُرم من السجود جلد الجبهة الذي لم يسجد لله فُترى فيها سيما المصلين سيماهم في وجوههم [الفتح:29]. يشهد عليه جلد جبهته يوم القيامة فيقول له سحقاً وبعداً لك، والأيدي والأطراف كُلها تأتي يوم القيامة شهوداً أيضاً، ثالوثٌ خطير يقول الله جل جلاله: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله [فصلت:21].
ويقول عن الشهود الثلاثة الأخيرة: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [النور:24-25].
الحق المبين أخفت اليد وأخفت الرجل وأخفى الجلد وأخفى السمع وأخفى البصر من الذي كشف هذه الحقائق إنه الحق المبين.
فيا أيها الأحباب: الرسول ينذر الناس يوم القيامة بأن منهم من يحمل شاة تيعر سرقها يحملها يوم القيامة له صوت تنادي من مكان بعيد، وآخر يحمل جمل له رُغاء يسمعه البعيد والقريب، ومنهم من يأتي يحمل مناقصة تُنقص من حسناته، فالله جل جلاله لا يخفى عليه شيء، شهودٌ أربعة وشهودٌ ثلاثة وشهودٌ عشرة تطارد الإنسان من مكان إلى مكان وما دُمنّا أيها الأحباب في دار عمل فلنتذكر حقيقة هذه الشهود.
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخي الوهم
تتبع الذنب بالذنب وتخطئ إلخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب
وما في نصحه العيب أما نادي بك الموت
أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت
فتحطاط وتهتم فكم تسير في السهو
فيا أيها الكرام:
ما دمنا في دار عمل فلنحذر حذراً شديداً هذه الشهود العشرة، ولنحولها لصالحنا بالأعمال الصالحة، فنسأل الله جل جلاله أن يرزقنا يقظة إيمانية تنجينا من مصارع الغفلات.
عن ابن طاوس عن أبيه قال: استعمل رسول الله عبادة بن الصامت على الصدقة ثم قال له: ((اتق الله يا أبا الوليد، لا تأتي يوم القيامة ببعير [2] تحمله وله رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثؤج)) [3].
وهذه المشاهد يوم القيامة حقيقةٌ ثابتةٌ في كتاب الله وسنة رسوله وقد شاهد بعضها ليخبر أمته عنها، فلقد شاهد في النار رجل غل عباءة زهيدة الثمن لُفت به في نار جهنم فتحولت من شملة خيوط إلى شملة نار وجحيم، وكان مجاهداً، وفي غزوة ومع النبي وفي خير القرون ومعه خير الصحبة ومعه الرسول الخاتم، وما شفع له ذلك لما غل الشملة عُذب بها وتواكب الصحابة إلى النبي يسألونه عن صغار الأمور وكبارها حتى سألوه عن الخيط والمخيط.
إن أمتنا هذه أمةٌ نظيفة، أمة أمانة، أمة صدق، أمة شرف، فالذي يتهاون في الخيط والمخيط يتجرأ على غير ذلك، إنه يُعالج في النفوس الأمور الدقيقة قبل أن تُصبح كبيرة، فليراجع كل واحد نفسه ما دُمنا في دار العمل قبل أن ننتقل إلى دار الجزاء، ويدخل في ذلك نسبُ الأولاد إلى غير آبائهم، لقد قال : ((من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير موّاليه فقد كفر بما نُزّل على محمد)) [4].
واليوم الناس لا يهمها الكفر بما نزل على محمد، المهم كم يُدخل جيبي أطّلع لك جنسية بقيمة كذا، أبيع البطاقات، أساهم في الربا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ، الله جل جلاله ما أعلن الحرب على شيء في المنكر كما أعلنها على أكلة الربا ولم يُعط صورةً بشعة مُخيفة إلا في قضية الربا والغيبة.
الربا فصورته القرآنية: لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس [البقرة:275]. إنسان فوقه شيطان يضربه على عينه على جسمه هذا الذي يأكل الربا.
الصورة الثانية المرعبة: الغيبة التي يستهين بها الناس صارت سوالف حكاوي ونكت ولا يغتب بعضكم بعضاً [الحجرات:12]. كأنك أحضرت من تغتابه ثم خنقته حتى مات وبرُد لحمه نيئاً ميتاً فأكلته، صورة مخيفة لا يحتملها إنسان مؤمن أبداً. لهذا ننتبه لهذه الأمور التي جعلها مرور الزمن عليها هينة سهلة، عنده استعداد يُصلى يختم المصحف، حج عمرة يصوم رمضان، ولكن ما عنده استعداد أن يتنازل عن 7 من الربا، لهذا سيقال له يوم القيامة خُذ سلاحك، فيقول: لماذا؟ فيقولون: لكي تُحارب الله، أنت بسلاحك – والله...
اللهم اجعلنا نؤمن بكتابك وسنن نبيك ، نسألك المال الحلال، اللهم اجعلنا من أهل الجنان ولا تجعلنا من أهل النيران.
[1] حديث صحيح : رواه الطيالسي وأحمد عن أبي سعيد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ((2149)).
[2] قال المناوي: البعير: يقع على الذكر والأنثى وجمعة أبعر وأباعر وبُعران.
[3] صحيح ، أخرجه الطبراني في الكبير عن عبادة من الصامت ، كما ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (3/86) ، وقال : رجاله رجال الصحيح انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم (857)..
[4] صحيح ولكن بلفظ: ((من أنتسب إلى غير أبيه تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) ، أنظر صحيح الجامع 5980.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1296)
تكريم الشهيد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استشهاد عمير بن أبي وقاص في بدر. 2- صور أخرى للشهادة تكريماً لأمة محمد.
3- جزاء الشهيد عند الله. 4- الشجاعة لا تقرب الأجل. 5- معركة مؤتة نموذج من كراهية
الدنيا ومحبة الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة الكرام:
يقول الله في كتابه الكريم: ولقد كرمنا بني آدم [الإسراء:70]. ومن أعظم صور التكريم أن الله اصطفى واختار منهم أنبياء وشهداء، وختم الأنبياء ببعثة محمد وفتح باب الشهداء إلى آخر الزمان يوم أن ختم تلاوته الكريمة بدعائه بأن يرحم الله الشهداء ويفك الأسرى فإن تكريمهم هذا من الله.
أحبتي في الله:
أصبح الجيل المسلم لا يُفكر في الشهادة، لا يفكر في أعظم صورة من صور التكريم الإلهي للإنسان، ولو ناقشت ابنك أيها المسلم في كل مكان عن الشهادة ومن هو الشهيد؟ وماله عند الله؟ وما هم الشهداء في أمة محمد لما عرف الجواب لأنها قضية قد غابت وتلاشت في حس الجيل المسلم وصارت همومه صغيرة، وقد خرج عُمير بن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنهما إلى بدر بإعادة المجاهدين الصغار إلى المدينة يستسخرهم للفتوحات الإسلامية الكبرى، بكى عُمير قال: ما يبكيه قال أخوه سعد: والله يا رسول الله ما خرج من المدينة للقافلة إنما خرج من المدينة يريد الشهادة في سبيل الله فلا تحرمه الشهادة في سبيل الله يا رسول الله، فلما سمع ذلك النبي أكبر عندهُ هذا الشعور العظيم الإيماني الكبير فأذن له على صغر سنه ونحافة جسمه حيث أن سعداً يقول أخذ أربط حمائل سيفه على بطنه فلا تقواه فتنزل لأنه كان نحيف يجر سيفه خلفه وله همةٌ عظيمة أعلى من قمم الجبال ولا يطيقها أعظم الرجال، إنه لم يذق من شهوة الدنيا شيئاً، لا يزال طفلا صغيراً يخرج إلى مسافة بعيدة الأقطار يريد الشهادة لأنه سمع الله وسمع رسوله يحدثه عن الشهادة ومنازل الشهداء، وما عند الله للشهيد، فكان من أوائل الشهداء في غزوة بدر ورحمه، وجدير بأبنائنا أن يحفظوا اسمه، وأن يكون لهم قدوة وأسوة، الله جل جل جلاله يقول في قرأنه العظيم وهو يكرم الإنسان بهذه الصفة العظيمة ويتخذ منكم شهداء [آل عمران:140].
وأمرنا ألا نسميهم أموات، إنما نسميهم شهداء أحياء لأن الشهداء شهدوا أن الله حق ولابد من نشر دين الحق، فإذا اعترضه معترض بذل دمه ووقع بروحه، وقال: دمي يشهد بأن الله أعظم وأجل من أن يتراجع الإنسان في تبليغ دينه ودعوته، وبهذا سُمي الشهيد شهيداً، ومع الأسف اليوم من أجل أدنى مصلحة ولو بعض الربا البسيط لا يُفرط فيه، ولو ضاعت دنياه وأخراه، فكيف لهذا أن يصل إلى درجة الشهيد والشهداء، إنها مرحلة خطيرة وفجوة كبيرة، اتلوا على حضراتكم الآيات والأحاديث التي تبين هذه الكرامة وهذا الإكرام الإلهي ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [البقرة:154]. لا إله إلا الله والرسول في يوم من الأيام جلس مع الصحابة وطرح عليهم هذا السؤال الذي يجب أن يطرحه كل والد الآن وغداً وإلى الأبد على أبنائه خاصة الجيل المسلم، قال [1] : ((ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا يا رسول الله من قُتّل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل)) – لعلمه أن الناس يُحبون الدنيا ويخافون من الموت، ثم أعطى صفحةً جديدة لشهيد لم يعرفها أحد من قبل-: قالوا فمن يا رسول الله قال: ((من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سيبل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد – أي بمرض بطني – والغريق شهيد)) [2].
ثم يأتي حديث آخر عن المرأة النفساء التي تموت في نفاسها فهي شهيدة، والحريق شهيد والغريق شهيد، وصاحب الهدم الذي يقع عليه الهدم شهيد، ثم يبين في حديث آخر كوكبة من الشهداء جديدة حتى يبين عزّة هذه الأمة ومكانتها فيقول: ((من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد)) [3].
ثم يبين الحبيب المحبوب أن للشهيد عند الله ست خصال: يُغفر له عند أول دفعة من دمه، ويرى مكانه في الجنة، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما عليها، ويزوج ثنتان وسبعون زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهله.
وحديث آخر رواه البخاري: ((يعطى الشهيد ستة خصال: عند أول قطرة من دمه تُكفر عنه خطاياه، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر)) ، ثم يقول : ((ويُحلى حُلة الإيمان)) [4].
أحبتي في الله:
والناس لماذا لا يسألون الله الشهادة؟ لأنهم يظنون أنها تُنقص من أعمارهم وتقرب من آجالهم، والآجال عند الله معروفة محدودة لا تزيد ولا تنقص، بل أن سؤال الله الشهادة عبادة وأنتم تعلمون بأن العبادة تزيد في العمر وتبارك فيه، فالعظماء من المجاهدين ضربوا جحافل الجيوش، وخرجوا بعد ذلك أحياء.
وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد يقول: خُضت أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا قرت أعين الجبناء، يقول للروم والفرس: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويقول مطمئناً من يقع شهيداً بأنه لن يحدث له إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة.
ثم يقول : ((ما من أحد يدخل الجنة يُحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع للدنيا فيقتل عشرات المرات لما يرى من فضل الشهادة)) [5].
وإن فات كثيراً من المسلمين اليوم مواطن الشهادة فإن إخواننا هناك في القدس والأقصى يقرعون بجماجمهم باب الشهادة عند الله بثباتهم أمام العدو، وإن هناك من إخواننا الكثير ممن يتمنى أن يموت شهيداً في سبيل الله.
أيها الأحبة الكرام:
فتح الحبيب الباب للرجل والمرأة للمُسن وللشاب الكبير والصغير للمجاهد وللقاعد فتح باب الشهادة يوم أن قال: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) [6] ، إذن لا يغب عنا ونحن على فُرشنا ونأتي إلى أبنائنا نهدهدهم ليناموا نقول لهم قولوا: اللهم إن نسألك الشهادة صادقين مخلصين برحمتك يا أرحم الراحمين كل ليلة فإذا قبل الله ذلك رأيت أبناءك وأحفادك، رأيتهم مع حمزة سيد الشهداء، ورأيتهم مع مصعب بن عمير الذي قُطعت يداه وهو يحمل راية رسول الله في أُحد، ورأيته مع زيد بن حارثة وجعفر الطيار الذي يطير في الجنة بجناحين مُدرجين.
أيها الأحبة:
إن هذا الدعاء العظيم والناس عنه في غفلة مع الأسف الشديد، الطفل والولد والبنت تفكر عند نومها: ماذا تأكل؟ ماذا تلبس؟ وماذا تشرب؟ وماذا تلعب؟ أما أنها تسأل الله هذه المنزلة العالية، فإن كبار الرجال عنها في غفلة فضلاً عن الصغار من الأطفال، أيقظوا حب الشهادة في قلوب أبنائنا، أيقظوها على أسرة المرضى في المستشفيات، أيقظوها عند النساء وهن يذهبن إلى الأسواق يبحثن عن الماركات، أيقظوها عند البنات في المدارس ولا همّ لهم إلا المكياج، أيقظوها هذه المرتبة السامية العالية التي كانت في حس كل طفل في المدينة المنورة، يوم أن عاد جيش مؤتة وعدده ثلاثة آلاف وجيش الكافرين عدده مائتي ألف عادوا بعد الانسحاب والاستشهاد للأمراء الثلاثة زيد، وجعفر، وابن رواحة رضي الله عنهم أجمعين عاد الجيش منسحباً لأن المعركة غير متكافئة، ومع هذا اُستشهد منهم ما يقرب من 14 ولكن الأطفال في المدينة رفضوا استقبلوهم بالحجارة، انتفاضة الحجارة بدأت في المدينة، في وجوه من؟ في وجوه خالد بن الوليد ومن معه من الجيش، الأبناء رفضوا الأباء وقالوا: والله لا تدخلون بيوتنا والنساء قالوا: والله ما تدخلوا بيوتنا، إنما أنتم الفرار، وأخذ الآباء ويؤولون إلى المسجد ويلوذون بالأشجار والأحجار لأن الأطفال رفضوهم لأنهم فروا أمام الرومان حتى قال : ((كلا إنهم ليسوا بالفرارين، بل هم المكارون إن شاء الله)) [7] ، وكر عليهم يوم أن قاد جيش معركة تبوك ويوم أن أرسل قبل موته أسامة بن زيد لمحاربة الرومان.
أيها الأحبة:
هكذا يكون الجيل حياً يقظاً يوم أن تكون الشهادة في حسه عندما ينام وعندما يلعب وعندما يأتي وعندما يذهب، عند ذلك تكون الأمة بخير، والرسول حذر أمته أن تكون غُثاء كغثاء السيل: ((قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله، قال: بل أنت كثرة ولكن يجعل الله في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [8].
ويقول الله في كتابه الكريم: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً [آل عمران:196]. لا خوفٌ عليهم مما هو آت، ولا حُزن على ما فات، ولو كانت الدنيا كلها، ويستبشرون بمن يأتيهم ومن ويزورهم.
يبين الله في كتابه الكريم برحمة من الله وفضل الاستبشار بالرحمة خير من الدنيا وما عليها، لهذا يقول الله عند هذه الأمور: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فيفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون [يونس:58]. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [آل عمران:171]. برحمة أجرهم عند الله عظيم، ومنها أن كل الناس يموتون فتنقطع أعمالهم يقول: ((إلا من ثلاثة، ولد صالح يدعوا له)) – والولد الصالح مصيره الموت – ((والعلم ينتفع به)) – وقد يأتي عليه زمان يندثر – ((والصدقة الجارية)) وقد يأتي طاغوت يعطل جريانها، ثم ماذا بقي بعد ذلك؟ بقي ما للشهيد الشهيد ينمي له عمله، إلى منقطع أثره إلى قيام الساعة، فالعمل جارٍ الصلاة تكتب، والزكاة والعمرة، كل ذلك وهو في قبره، في عالم الشهداء، هل هناك فضلٌ أعظم من هذا، فلا تزهدوا واسألوا الله كل ليلة هذا الدعاء منازل الشهداء، سبحانك لا رب غيرك، ولا إله سواك، نسألك نصرك للمجاهدين.
[1] صحيح : رواه مسلم بنحو عن أبي هريرة باب الأمارة ((165)).
[2] صحيح : رواه مسلم.
[3] حديث حسن صحيح : رواه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان.
[4] صحيح : رواه البخاري.
[5] صحيح : متفق عليه.
[6] صحيح : رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن سهل بن حنيف.
[7] انظر البداية والنهاية لابن كثير 4/248.
[8] صحيح : رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان والألباني في السلسلة الصحيحة 956.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1297)
شباب الصحوة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, فضائل الأعمال
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إغاثة شباب الصحوة في مصر للمنكوبين في الزلزال. 2- توبة بعض أهل الفن وتقديمهم
الإغاثة للمنكوبين. 3- ذكر بعض أقوال الفنانات التائبات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وما من محنةً إلا وفيها منحةٌ ونعمةٌ من الله، وهذه حقيقة يؤكدها القرآن فيقول سبحانه: وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم [البقرة:216]. وجاء التعقيب والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة:216]. حقيقة واضحة نراها بعد المحن والابتلاءات، ولا نزال نستفيد من الحدث العظيم الذي حدث لمصر، وهو الزلزال، فمن منحة الله ونعمته فيه أنه يوم حدث هب شباب الصحوة والدعوة من أول دقيقة للزلزال ينقذون الناس، وتم التلاحم العجيب بين الشعب وبين الصحوة، فترى الشباب المسلم المصري المُلتحي يتحرك بالليل والنهار يرفع للصخور ويُطعم الجائع ويؤوي الهارب ويكسي العريان ويسقي الظمآن، ويحمل الجريح ويداوي المريض ويهدئ الفزع ويجمع الشمل، لا ينام إلا قليلاً تراهم يشكلون اللجان بعد اللجان، تأتي نقابة الأطباء ومن معهم من الصالحين يداومون 24 ساعة في مقرهم وينتشرون على جميع قُرى مصر ومدنها، وجاءت اللحظة التي بدأ الناس يشاهدون الطبيب الذي كان عندما يفحص يقبض المال، والذي عندما يداوي يقبض المال، وعندما يقدم المشورة يقبض المال، أما الآن وفي هذا الحدث رأى الناس أمراً عجباً، رأوا الأطباء يدفعون من جيوبهم الأموال إلى أهل المصاب ويفحصونهم ويعطونهم قيمة الدواء.
متى يحدث هذا؟ يوم أن يكون في نقابة الأطباء المسلمون المخلصون...وقد شاهد الناس أيضاً أمراً عجباً، شاهدوا نقابة المهن، وهؤلاء قاموا وشكلوا فرقاً تضم مهندسين تجول على جميع المدن والقرى مجاناً ودون مقابل، يعملون استكشافاً معمارياً هندسياً للبيوت المتصدعة والعمارات التي آلت إلى السقوط، وأصدروا تقريراً سريعاً إلى الناس عن مساكنهم ومدى صلاحيتها للسكن وأصبح الناس الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء وينامون على الأرصفة ويتكدسون في الطرقات أصبحوا بعد هذا التقرير يعودون إلى بيوتهن آمين، إن الذين حدث في مصر كالذي حدث في الكويت يوم أن قام شباب الصحوة والدعوة وتلاحموا مع الصادقين المخلصين من هذا الشعب فشكلوا لجان التكافل واللجان الشعبية، وانطلق الرجال والنساء والكبار والصغار والوافدون بيدٍ واحدةٍ على قلب واحد يُقدمون الأطعمة والأدوية والأكسية ويطمئنون الناس ويعينونهم على الصمود ويعينوهم على الثبات وعلى الرباط وعلى المقاومة وعلى الجهاد، وإن الآيات والأحاديث التي كانوا يقدمونها في خُطبهم ودروسهم قد جاء الزمن المناسب لاستثمارها.
إن اللجان التي كانت تأوي المسلمين في الخارج وتطعمهم وتواسيهم صورة من تكاتف آن الأوان أن يكون العمل بين الأهل والديار والوطن والأرحام والأحباب والشعب الواحد.
أحبتي في الله:
ونلاحظ من نعم الله في هذه المحنة أن العائدات إلى الله والعائدون إلى الله من أهل الفن من المغنيات والراقصات والممثلات الذين تابوا وأنابوا وعرفوا طريق الله كانوا في طلائع المنقذين الذين يقدمون المعونة للمصابين، وجاءت الصحف تتحدث كيف أشرقت شمس البارودي التي كانت ممثلة وتتربع على عرش التمثيل كيف أصبح وجهها شاحباً من أثر الغبار والدخان والإرهاق وكيف تمزقت أناملها وهي تحمل الركام وتطعم الطعام وتأوي الأيتام أشرقت بإيمانها وإسلامها ويقينها لتضرب المثل الحي عن التحويلة الكبرى عن أن يكون الإنسان عابداً هواه وعابداً نفسه، فإذا بها تتحول الآن أُمةً وحدها تنقذ المساكين وتهدئ المفزوعين، هذا هو الدور العظيم للإسلام والإيمان والتوبة، يوم أن يذوق الإنسان حلاوتها، فينتقل هذه النقلة الهائلة فيعبر عبر أجواز الظلمات إلى النور كما قال سبحانه: أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به الناس [الأنعام:122].
وبدأ الناس بعد مرور ساعات يستفيقون من الهول ومن الرعب ويهدؤون ويبحثون ذات اليمين وذات الشمال فلا يجدون إلا الصادقين المخلصين المؤمنين.
نصبوا الخيام وقامت المطابخ العامة تذكرنا بعمر الفاروق في عام المجاعة يوم أن أصاب الجزيرة مجاعة عامة فأصبح الناس كالرماد، ثيابهم ووجوههم كالرماد من القحط والجوع كالصومال الآن، نصب عمر القدور الضخمة والجفان الهائلة، جفان كالجواب وقدور راسيات، وأخذ ينادي هلمّ إلى المدينة أيها الجائعون أيها الفقراء أيها العري أيها الغارمون هلموا إلى المدينة تجدون الطعام والشراب والإيواء والدواء.
ذكرنا ما فعله المصريون المسلمون على إثر الزلزال موقف عمر وموقف الصحابة وموقف أهل الصُفّة الذين لا يملكون ما ينفقون غير الدموع تفيض أعينهم من الدمع، ورب دمعة كجبل أحد في ميزان الله يوم القيامة، أهل الصُفّة أولئك هم الذين جعلوا أوقاتهم وأعمارهم وقفاً لله رب العالمين فهذا الذي يريد أن يحضر بئراً، وهذا الذي يريد أن يشّيد داراً تجدونهم على أتم الاستعداد، وشعارهم: كن مستعداً لوجه الله.
في مصر على إثر الزلزال ترى الناس الصادقين المخلصين يسهرون الليل والنهار، والكريم أصبح يقتسم لقمته وتمرته وخبزته وتمرته بل يؤثر الآخرين، يجد الآنس واللذة يوم أن يحل في داره عشرات الضيوف من النساء واليتامى والصغار والكبار والعجزة، ويبدأ يستنفذ كل ما عنده من مال وطعام، إنها فرصة للآجر لا تعوض، إنه سوقٌ من أسواق الآخرة، إنه تطبيق عملي لقوله: ويؤثرون على أنفسهم [الحشر:9].
إنها لحظة قد لا تتكرر في حياة المسلم إلا مرةً واحدة، وإن الله ليحب هذا الصنيع وإن الله ليضحك لهذا الصنيع، والله إذا ضحك لصنيع عبد لا يُعذبه كما جاء ذلك في الحديث عن أم سليم الرميصاء زوج أبي طلحة الأنصاري التي أطفأت المصباح لكي يشبع الضيف، فكم جاع من شباب الدعوة الأخوات المسلمات، أقمن مشاغل تصنع الثياب وأسواق خيرية لبيع المنتجات وصرف ريعها على المصابين ومطابخ عامة، ويا عجباً إذ تتحول تلك الفتاة الثرية أو الممثلة الغنية أو الفنانة الناعمة بعد أن تابت وأنابت يوم أن كانت مخدومة مكرمة تجري الأضواء خلفها وتُسلط عليها الأقلام والأفلام لكي ينقلوا حركتها وسكانتها أصبحت الآن هي الخادمة ولكن تخدم من؟ تخدم الله ورسوله ودينه والمؤمنين، ويالها من خدمة عظيمة يكون على إثرها الوالدان المخلدون في جنات النعيم ورضوان من الله أكبر.
وتتسلط الأقلام الجائرة العلمانية تشوهم وتشهر بهم وتكتب عنهم ولكن الله جل جلاله في كتابه الكريم هو الذي يذكر أنوارهم ويعلم أقدارهم ومن هم نورٌ على نورٍ [النور:35].
ويا لها من أمثال حية شهدها الناس في مصر كما شاهدوها في الكويت كما يشهدونها الآن في البوسنة والهرسك وبورما والصومال، أولئك الأبرار الأتقياء والأخيار الذين هوايتهم جمع الغبار وربط الحجر فوق الحجر والجهاد في سبيل الله والجود بالدم والروح لإعلاء كلمة الله...أين موقعهم: في بيوت أذن الله أن ترفع [النور:36]. حتى يجزيهم الله أحسن ما عملوا.
أحبتي في الله:
إن هذه المحنة في حقيقتها محنةٌ إلهية كم فيها من العبر، وكم فيها من الدروس، وكم فيها من المواقف.
تنشر الصحف ومجلة المجتمع وبعض الجرائد الإسلامية في مصر وبعض وكالات الأنباء تقول: إن الزلزال في مصر زلزل قلوب كثير من الفنانين والفنانات والمطربين والمطربات والممثلين والممثلات فأخذوا يعودون أفواجاً وجماعات لله رب العالمين... قد علموا وأحسوا أن التي تردح على مسرحها وتكشف فتنتها وتغوي شباب هذه الأمة والأجيال المسلمة إنما هي في الحقيقة هي التي تزلزل الزلزال، وهي التي تفجر البيوت، وهي التي تدمّر الأعمار، لأن الذنب يقول الله عنه في كتابه الكريم: فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [الشمس:14].
علمت الراقصة والممثلة والمطربة وذات السهر في الليالي الحمراء والدّخان الأزرق أنه من تحت كعب نعلها يكون الدمار، ويكون الخسارة ويكون الضيع، فجاءت وتابت وأنابت، يعلنون هذا في الجرائد والصحف عن توبة تائبات وعمن بدأن الآن حقاً وحقيقة يتخذن الخطوات الأولى للتوبة إلى الله ولمعرفة حلاوة الإيمان ونور اليقين وآنس الذكر وإجابة الدعاء وبركة الدعوة والفرج القريب والأنس بالله والغافرات المنجيات، والبركات النازلات التي تأتي بعد التوبة إلى الله.
أقرأ على حضراتكم أسماء اللاتي تبن في الماضي، وكيف كان لهن الدور الكبير يسألون الممثلة/ عفاف شعيب التي تابت وأنابت وتنشر مجلة المسلمين أخبار توبتها، يسألونها بعض الأسئلة:
يقولون لها: إن الأقلام العلمانية تتهمك أنك تقاضيت الملايين من أجل الحجاب والتوبة فماذا تقول؟ تقوم: نعم تقاضيت الملايين ولكن أي ملايين؟ اسمعوا الجواب: تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، نعم تقاضيت ملايين لا يستطيعون عدها، رضى الله ورضوانه، ورضى رسوله والمؤمنين لقد تركنا المال والشهرة وزيف الحياة الباطلة لأن ما عند الله خيرٌ وأبقى... نفس السؤال يوجهونه إلى شمس البارودي فتُجيب قائلة: إن دين الله أثمن من أن يُقدر بملايين، وسلعة الله لا تُباع ولا تُشترى، وإن كنتم تتعجبون ما الذي هدانا فأرجوكم أن تقرءوا كتاب الله بقلب مفتوح ودون تعصب أو تحامل على أي رأي أو دين، وبعدها حكموا عقولكم فيما قرأتم، منذ عشر سنوات قرأت القرآن لأول مرة مع أول عمرة لي حينئذ كان التحول وكانت الهداية من أول فاتحة الكتاب وحتى قوله تعالى: ويحق الله الحق بكلماته [يونس:82].
تقول: أسألكم كم دُفع لملايين النساء في مصر لكي يتحجبن؟ إن الحجاب صحوة إسلامية لنساء مسلمات، وإن كانت المسألة قذفاً لتهم، كم دفع لكم لكي تهاجموا هذه الصحوة، اتقوا الله في أنفسكم وفينا، كفى المسلمين ما هم فيه في بقاع الأرض وكفاناً تقاذفاً وطحناً وعراكاً، اتقوا الله وارجعوا إلى كتابه فقد أزفت الآزفة [النجم:57].
وإنا لنحتمي بقوله تعالى: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
فنسأل الله أن يهدي جميع العاصين والمذنبين وأن يعود بهم إلى رحاب الطيبين المؤمنين، وهو ولي ذلك والقادر عليه. ونسأل الله أن يشرح قلوب الفنانين والفنانات في بقاع العالم العربي والإسلامي فإن في توبتهم خير، فإن شبابنا الضائع ينظر إليهم على أنهم قدوة وأسوة فإذا تابوا وأنابوا يهدي الله على يديهم خيرٌ كثير، نسأل الله جلاله أن يرحم هذه الأمة توبة عامة شاملة تنال الكبير والصغير.
أحبتي في الله:
وكما تقرر بأن الله تعالى يقي بالصدقات مصارع السوء، كما جاء في الحديث عن رسول الله : ((إن الصدقة لتطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار، وإن الصدقة تقي مصارع السوء)) [1] ، تقي نهايات السوء تقي خاتمة السوء.
ولجان الصدقات ولجان التكافل نعمة من نعم الله انتشرت في العالم العربي والعالم الإسلامي ولها خير وخير، تنزل من خلالها الرحمات من الله رب العالمين وينزل من الله اللطف جل جلاله.
[1] حسن لغيره: راجع الصحيحة 1908.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1298)
نصيحة إلى الأخوات
الأسرة والمجتمع, الإيمان
المرأة, اليوم الآخر
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرب الجنة من المؤمن ، فما بينه وبينها إلا الموت. 2- الآمنون من أهوال القيامة في ظل
الله يوم القيامة. 3- المؤمن وعبوره على الصراط. 4- تعلق المؤمن بالجنة ونعيمها. 5- ذكر
بعض نعيم الجنة. 6- نصائح إلى النساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعض النار يقول إذا نصحته: يا هذا اترك الذنب وعد إلى مولاك الذي أعد لك الجنة، قال: إن الجنة بعيدة، دعني أتمتع في حياتي فإن آخر الحياة موت. وهذا المسكين يظن أن الجنة بعيدة بينها وبين المسلم ملايين السنين والعصور والأحقاب وما علم أن النبي يقول: ((إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)) [1].
والقرآن العظيم يقول: وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد [ق:31].
والذي يقول غير بعيد هو الله.
واسأل بالجنة خبيراً وهو الله.
واسأل بها عليماً رآها بعينه وشمها بأنفه وذاق منها، محمدٌ رسول الله إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً [المعارج:6-7].
وقرب الجنة أيها الأحباب لو حسبته بالمقياس الزمني بين موت الإنسان وبين دخول الجنان قد لا يصل إلى نصف ساعة، فقد أخبر النبي [2] أن العبد إذا مات وكان من المؤمنين فإن قبره روضة من رياض الجنة، وما بين موته وبين دفنه إلا دقائق معدودات، فهذه بشائر الجنة، روضة فيها الروح والريحان والنور والإحسان والبر والرضوان.
ينظر فيها إلى الحور والقصور والنور والزهور والطيور حتى أنه يستعجل ربه فيقول: ((رب أقم الساعة لأذهب إلى أهلي ومالي)) ، لا يريد أن ينتظر ثانية واحدة، وأين هذه الثانية؟ في بيتي في بيتك، إنها في روضة من رياض الجنة لأنه لما ذاق تلك الروضة وأصبح قبره مد البصر اشتاقت روحه حتى أصبحت لا تطيق المكوث في القبر لحظة، فأخذ يصيح ((رب أقم الساعة لأذهب إلى أهلي ومالي)) ، والملائكة تقول ليس الآن: ((نم في قبرك نوم العروس)).
ويأتي الحديث يقول: ((ما بين موت المسلم إلى بعثه في عالم البرزخ كصلاة ظهر أو كصلاة عصر)).
فكم أخذت صلاة الظهر منا؟ عشر دقائق، ومن بعثه ينقل على عرش الرحمن وظلله فيكون تحت العرش كصلاة ظهر أو كصلاة عصر، أضف عشر دقائق.. الوقت الزمني على الكافرين طويل.. ففي القبر والبرزخ تمتد الأوقات بالعذاب، وإذا كان يوم الحشر كان عليهم خمسين ألف سنة، وعلى ((المتحابين في الله)) أو ((شاب نشأ في طاعة الله)) أو ((إمام عادل)) أو ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) ، أو ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) ، أو ((رجل أنفقت يمينه ما لا تعلم شماله)) ، أو ((رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)). وأصناف وأقسام لا يعلمها إلا الله، هذه ليست للحصر وما يعلم فضل ربك إلا هو...
هؤلاء تحت ظل العرش كصلاة ظهر أو كصلاة عصر.
ومن يمل أو يحس بالوقت الزمني يوم أن يغرف له بأيدي النبي من الحوض النبوي، وعدد أكوابه بعدد نجوم السماء من شرب منها شربة لا يظمأ منها بعدها أبداً، أو بأيدي الملائكة أو بأيدي المؤمنين أو بيده المتوضئة الطاهرة، من ماء يتدفق من نهر الكوثر الذي حافتاه من قباب الفضة والذهب واللؤلؤ المجوف، وطينته من المسك الأبيض، فهو أحلى من العسل، وأبرد من الثلج يصب ميزابان من ذهب متدفق من أعلى الفردوس إلى حوض محمد.
وما بعد ذلك إلا الصراط، وهناك معظم أمة محمد يمرون على الصراط كالبرق أو كالريح الشديدة، أو كالجواد السريع، أو كطرف العين لأنه أمته أمة مرحومة، قال : ( (إن أمتي هذه أمة مرحومة جعل الله عذابها بما يصيبها من اللأواء)) [3]. أي أن الله لا يقبض عبداً مسلماً موحداً عليه ذنوب إلا ويسلط عليه في الدنيا ما يمحص الذنوب من الهم والغم والمرض والبلاء، فيصبر ويحتسب فيقبضه وما عليه خطيئة واحدة، ثم بعد ذلك بعد محو الخطايا تبقى حقوق العباد...
يصلح الله بين العباد يوم القيامة، فلهذا لا تحملوا هموم الذنوب، وإنما احملوا هموم الحقوق المسلوبة والأعراض المنهوبة والأموال المسروقة، يوم تأتي الشاة القرناء فتنطحها الجماء لتمام عدل الله رب الأرض والسماء.
فالله يقول للعاصين في حقه: ((لو جئتني بملء الأرض خطايا لجئتك بملئها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء لغفرتها لك ما استغفرتني ولا أبالي)) [4] ، فاحذروا من ظُلم الناس.
وتجد المؤمن يوم القيامة على الصراط كالبرق كطرف العين كالجواد السريع، كالريح المرسلة، ثم بعد ذلك عند باب الجنة وعندها محمدٌ [5] أمسك بحلقتها يقعقع الباب بأصوات وأنغام لم يُسمع لها مثيل، لا تظن أن باب الجنة يفتح بجرس يضرب أو بحاجب يأذن لك ويوقفك بالساعات ذليلاً مهاناً كما يقف الناس على أبواب الملوك.
الجنة فيها رضوان يقول: من؟ يقول: محمد ، يقول: لك أُمرت أن أفتح، وتُفتح أبواب الجنة الثمانية فيدخل المؤمنون ومن أبوابها مسير أربعين عام [6].
أحبتي في الله:
إذا أصابك الهم والغم أو رأيت من زُخرف الدنيا ما يتطلع إليه قلبك فتذكر ما عند الله وما بيدي الله، يهون عليك كثيراً.
ذكر أن أحد الصالحين كان يمر على الفاكهة في السوق فلا يستطيعها فيقول: إن موعدكم الجنة، وهذا السلوك ليس بدعة، فهو من سنة محمد يجهله كثيرٌ من الناس، فقد كان يمر على آل ياسر فلا يطعمون ولا يُسقون ولا يرتاحون يُصب عليهم العذاب صباً، فلا يملك أن ينصرهم في الدنيا فكان يقول لهم: ((صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)) [7] ، وأنا أقول للغرباء في زماننا هذا، أقول للدعاة المخلصين في سجون الطغاة الذين يُرفلون [8] بالسلاسل والحديد، وأقول لكل أخت وأم وامرأة فقدت زوجها أو أخاها: اصبري فإن موعدك الجنة مهما طال ليل الظالمين، مهما احلولكت ظلماته فإن الصبح والفراج والفجر قريب وأزلفت الجنة للمتقين [ق:31].
والجنة وما أدراك ما الجنة؟ استمع ما يقول عنها الحبيب : ((لو أن امرأةً مما في الجنة أطلت بخمارها لملأت ما بين السماء والأرض عطراً وطيباً)) [9].
إذا دخلت قصور الملوك تشم روائح عجيبة لأن أطيب الطيب يُجلب إليهم، ولكن كم مداه؟ يملأ قاعة، كم سيدوم؟ يوماً، يومين، ما تقول بعبدٍ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، لخمار زوجته من الحور العين لو أطلت به لملأت ما بين السماء والأرض عطراً وطيباً.
إذاً من هم الملوك؟ ومن هم السلاطين؟! ألا إن ملوك الآخرة والسلاطين هم المؤمنون.
ولو أن رجلاً مما في الجنة بدا سواره الذي يلبسه في يده لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس النجوم في وضح النهار!!.
قدر قيمة هذا السوار في الدنيا ستجده أغلى من كنوز الدنيا وما فيها، إذن لا تتطلع لأحد غير الله، ولا تمد يدك إلى جبار أو طاغوت أو إلى أنذال الناس، والله أعد لك هذا، فاتق ربك حيثُ كنت، واعرف ربك بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. فلا تخضع إلا له، ولا تسأل إلا إياه، ولا تطلب إلا منه، إليه فوض وسلم وحاكم واحتكم، فالذي يعطيك سواراً يطفئ ضوءه ضوء الشمس أتخضع لغيره، أو تسأل غيره؟ معاذ الله.
يقول : ((الجنة ترابها المسك)) [10].
يقول : ((للمؤمن في الجنة خيمةٌ من لؤلؤة عرضها ستون ميلاً في الفضاء، للمؤمن فيها أهلون لا يرى بعضهم بعضاً)) [11].
ويقول : ((في الجنة مائة درجة لو اجتمع كل العالمين في درجة واحدة لوسعتهم)) [12].
سقفُها العرش، وما أدراك ما العرش؟ مخلوق كريم خلقه ربٌ كريم، ثم استوى عليه، لا إله إلا هو.
وإنني لأقول: يا أخي المسلم اصبر، اصبر، فإن الأمر أقرب مما نتصور فأنت تسمع أخبار المنقولين من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن سجن الدنيا إلى جنان النعيم.
انتقل إلى رحمة الله فلان بن فلان الذي أٌذيع خبره أكان يظن أنه سيموت غداً أو بعد غد؟؟ لهذا إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وأعدّ للجنة عُدتها إنها والله سويعاتٌ ولحظات ثم تنتقل إلى نعيم لا يوصف، فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وعد إلى كتاب الله وسنة رسوله لترى كيف وصفها الله وكيف وصفها محمد ، وصدق الله: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [آل عمران:185].
اللهم نسألك الجنة ونعيمها.
إن لم يكُن هنا من يدافع عنك فإن الحورية في الجنة تدافع عنك، أخبر : ((أيما مسلم تؤذيه زوجته في الدنيا إلا قالت زوجته في الجنة: لا تؤذه، إنه عما قليل مفارقك إلينا)) [13] ، إنها تنتظرك، تأمل أن يفارق التي تؤذيه إلى التي لا تؤذيه، والله سبحانه وتعالى يقول عن صفتها: قاصرات الطرف [الصافات:48]. كأنهن الياقوت والمرجان [الرحمن:58].
قاصرات الطرف [أي لا تنظر إلا إلى زوجها.
وعليك أن تتوهم يوم أن تدخل خيمة اللؤلؤة فتنظر فإذا بها حورية لا تلتفت إليها يميناً أو شمالاً إلا وجدتها تنظر إليك بحنان وشوق ومحبة ورأفة لا تطيق فراق النظر إلى وجهك، وعندما يأتي وصفها يصف بأجمل صفة الشفافية، شفافية الروح والجسد لأن الياقوت لو وضعت به شيئاً لرأيته من ورائه لأنه حجر كريم شفاف.
كأنهن الياقوت والمرجان ، بالاحمرار الوردي الجميل.
يصفها الله كأنها اللؤلؤ المكنون [الواقعة:23].
بنعومة اللؤلؤة وبكارة اللؤلؤة وبياض اللؤلؤة ورقتها وجمالها، يا له من وصف إلهي عظيم لهذا أخبر الحديث: ((إن أكثر أهل الجنة النساء وأقل أهل الجنة النساء أيضًا)) [14].
وهذا شيء عجيب!...
كيف يكون أكثرها النساء وأقلها النساء؟.
أما أكثرها النساء, فإن الله خلق الحور العين في الجنة الشهيد له منهن اثنان وسبعون زوجة...
والمؤمن الموحد أدنى أنواع المؤمنين وهو آخر من يخرج من النار ويُطهر من الذنوب ويدخل الجنة له زوجتان من الحور العين غير زوجته التي في الدنيا, إذن أكثر أهل الجنة النساء...
أما أقلها النساء فهم نساء الدنيا, فقد أخبر النبي قال: ((يا معشر النساء أُريت النار فوجدت أكثر أهلها النساء والأغنياء)) [15] , ويعني بهم نساء الدنيا, قالوا: ما بال النساء يا رسول الله, قال: يكفرن, قالوا: ـ يكفرن بالله ـ قال: ((يكفرن العشير, أي يكفرن الزوج, فإنك لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك سوءًا واحدًا لقالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط)) [16]
.
قال : ((يا معشر النساء أكثرن من الصدقة، أكثرن من الاستغفار, فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) [17].
وبعض الشباب المسلم يأتيني يشكيني أهله يقول: يا أخي لقد كنت قبل أن يهديني الله وزوجتي تتمايل بجمالها ذات اليمين وذات الشمال, فلما تدينتُ وتدينت هي وضعت على نفسها الحجاب فلا تتعطر لي ولا تتزين لي, تستقبلني بفستان المطبخ وتظن أن الدروشة والقذارة من الدين, وإنني الآن عفيف متعفف, لا أنظر إلى ما حرم الله أبدًا, ولكني إذا عُدت إلى بيتي لا أجدُ ما يسرُ نظري أو أُذني.
وأنا أقول لكل امرأة تريد رفقة زوجها المسلم في الجنة اتقِ الله, والله الذي جعل خمار امرأة الجنة يملأ ما بين السماء والأرض عطرًا وطيبًا ذلك لكرامة هذا المؤمن على الله، لولا أن الله يحبه ما أعد له ذلك... فتعطري له في البيت وتزيني له, فإذا أردت الخروج إلى الأجانب فاغسلي ذلك...
والله الذي أعدَ للمؤمن سبعين حُلةً وفستانًا بسبعين لوناً تلبسه الحورية له، ذلك لأن الله يُحبه, وأن الله يُكرمه, فإذا أنتِ أحببتيه وأكرمتيه حُشرت معه يوم القيامة...
أين الأخت الداعية؟ التي تجعل مهرها الدعوة, وفستانها التقوى, وحُليها الأخلاق, أين الأخت الداعية التي تُحب أخًا داعية سيارة يحب الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس, ويزيدون إذا نقص الناس, والنزاعُ من القبائل الذين جمعهم حبُ الدين وقرابة الإيمان، الفارون بدينهم, أين الأخت الداعية؟ التي تكون لزوجها أمًا في الحنان ـ وبنتًا في الطاعة ـ وأختًا في الدعوة, وحبيبةً في الفراش, وزوجة في الجنة, أين الأخت الداعية؟ التي تستقبله بابتسامة وتودعه بالدعاء, فإذا عاد إليها مشتاقًا همس في أذنيها.
صلى الملائكة الذين تخّيروا والصالحون عليكِ بالأبرارُ
يالها من همسة يهمسها الداعية عندما يعودُ إلى جنته المُصغرة فيجدها تنتظره بشوق كما تنتظرهُ الحورية بشوق, وإن الأخت المسلمة لتملك السحر الحلال.
ولكن ماذا أقول لمن يأتيني يشتكي يقول: تأتيني تستقبلني بفستان المطبخ، وبثياب مملوءة بالزيوت كمحطة الغسيل وتنفخُ علي بفم فيه بقايا البيض والبقل والمكسرات ثم حموضة تفوحُ من العُنق, فإذا أحس المسكين بالاختناق وأراد الافتراق ونادى بالطلاق ذهبت وقد نست دينها وربها ذهبت إلى مشعوذ أو ساحر ليُعيد إليها الوفاق... وهي تملك السحر الحلال بلسمات إيمانية مشرقة.
قال : ((الدُنيا متاع، وخيرُ متاعها الزوجة الصالحة التي إذا نظرت إليها سرتك, وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك)) [18].
اللهم إنا نسألك أن تحقق فينا نداءك في كتابك الكريم:
يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون [الزخرف:68].
[1] صحيح : رواه البخاري والإمام أحمد في مسنده.
[2] صحيح : نحوه في صحيح الجامع الصغير برقم 1671 و1672.
[3] اللأواء:الآلام والابتلاءات.
[4] حديث حسن : رواه الترمذي والضياء والدرامي وأحمد وله شواهد أوردها الألباني في السلسلة الصحيحة127.
[5] صحيح : رواه مسلم وأحمد والترمذي والدارمي ، وفي مسلم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة)).
[6] انظر المصادر السابقة ، وكذلك مختصر العلو للحافظ الذهبي بتخريج الألباني ص121.
[7] حديث حسن صحيح: رواه ابن إسحاق في السيرة والحاكم والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، أنظر فقه السيرة للغزالي بتخريج الألباني ص110.
[8] يرفلون: يغلون.
[9] صحيح : رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار ، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري رقم 5868 جـ 11 ص 418.
[10] صحيح : هو قطعة من حديث المعراج المتفق عليه من حديث الزهري عن أنس بن مالك.
[11] صحيح : من حديث أبي موسى الأشعري في الصحيحين ، أخرجه البخاري في باب ما جاء في صفة الجنة والنار وأنها مخلوقة ، والإمام مسلم باب صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين.
[12] ضعيف : انظر الأحاديث الضعيفة للألباني 1886 وضعيف الجامع رقم 2670 ، ولكن الجملة الأولى صحيحة وردت في قوله : (( في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام)) صحيح عن أبي هريرة وأخرجه الألباني في صحيح الجامع رقم 4121 وفي السلسلة الصحيحة برقم 922 ومن ثم فللحديث أصل صحيح.
[13] صحيح : رواه الإمام أحمد بنحوه ففي مسنده من حديث كثير بن مرة عن معاذ بن جبل.
[14] صحيح موقوف: انظر حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح للإمام ابن القيم ص 96 باب "31" في أن النساء في الجنة أكثر من الرجال وكذلك هم في النار وعزاه للصحيحين.
[15] صحيح: رواه أحمد ومسلم والترمذي عن ابن عباس والبخاري والترمذي عن عمران بن حصين وأخرجه الألباني في صحيح الجامع برقم 1041.
[16] البخاري ومسلم: كتاب العيدين.
[17] البخاري ومسلم: كتاب العيدين.
[18] صحيح: رواه أحمد ومسلم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1299)
نهاية الطواغيت
سيرة وتاريخ
القصص
أحمد بن عبد العزيز القطان
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبرة في قصص القرآن الكريم. 2- تعطيل شرع الله يؤدي إلى الفساد في الأرض. 3-
موقف الطاغية فرعون من حجة موسى عليه السلام. 4- سحرة فرعون في مواجهة فرعون.
5- عقوبة الله لفرعون قومه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة:
القصص القرآني فيه عبرة، الله جل جلاله الذي أخذ الظالمين ماذا يقول في كتابه الكريم؟ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات [الأعراف:101].
وهكذا تحدثنا الآيات عن الحضارات التي سادت ثم بادت، تلك المدن الهائلة، حضارة قوم نوح وعاد آرم ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد وحضارة ثمود، مدائن صالح، التي نحتت الجبال الرخامية، وحضارة الفراعنة والأكاسرة والقياصرة كلها يجمعها الله بكلمة واحدة تلك القرى ، وإذا الحضارات الضخمة بجيوشها وعروشها وشعوبها وطغيانها ومصانعها ومخترعاتها مجرد قرى أمام قوة الله، يأخذها أخذ عزيز مقتدر.
والآيات الكريمة تبين حقيقة رهيبة كامنة فيهم وفي قلوبهم بأنهم ما كانوا ليؤمنوا ولا ليصدقوا ما داموا قد توارثوا الكذب وتوارثوا نقض المواثيق والعهود وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين [الأعراف:102].
أي عهد على الذرية من بني آدم الذي تُنادى به السموات والأرض أن الله الواحد هو الخالق الواحد الذي يجده كل إنسان في نفسه وفي ضميره ينادي الليل والنهار أن لا إله إلا الله، نقضوا هذه العهود ولا لا يزال أكثرهم ينقضها انظر إلى عدالة القرآن لم يقل كلهم، بل قال: أكثرهم.
وبعد هذا العرض السريع للقرى الهزيلة بقوانينها يعرض علينا القرآن نموذجاً من هذه النماذج في سورة الأعراف، قصة طاغوت متجّبر قال: أنا ربكم الأعلى ، وطائفة مؤمنة مستضعفة مسخرة مُعذبة، يستعرض القرآن القصة آية آية ومشهداً مشهداً، حتى يثبت المؤمنون في كل زمان وفي كل مكان كما ثبتوا في عهد النبي أمام فرعون العرب أبى جهل، وكما ثبتوا عبر التاريخ، تلك القصص القرآني العظيم الذي ثبتت آل ياسر وآل محمد، يُثبتهم الله وأتباعهم في كل زمان.
ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [الأعراف:103].
يا له من ختام كان يتوقع الإنسان أن يقول كيف كان عاقبة الكافرين، عاقبة الظالمين ولكن هذه الآية تقول: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين مما يبين أن الذي يسوق الناس إنما يفسد دينهم وعقيدتهم وتوحيدهم وحليب أطفالهم ومشربهم، فساد في كل مكان، لأن شرع الله لا يحكم به في أي مكان لذلك قال: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين.
يوم أن يُعطل شرع الله يفسد كل شيء، أصبح الناس في بيوتهم غير آمنين ما إن يُسافر الإنسان إلى عُمرة ويعود يجد بيته مسروقاً، لماذا يُنادي في أجهزة الإعلام: أيها الناس اتركوا مصابيح بيوتكم مضاءة حتى لا تدخلها اللصوص؟ لأنه لا يطبق شرع الله، الله يجري القلم والحساب والعقاب لحظة بلوغ الحلم، ولكن هؤلاء يقولون: صغار أحداث يفتكون ويقتلون ويسرقون وهم أحداث، يضعونهم في غرفة يحبسونهم فيها لكي يتبادلوا الخبرات والإجرام وتُهرب إليهم المخدرات، ولا يأمن الناس في بيوتهم لماذا كل هذا؟ إفساد من تعطيل شرع الله، إذاً هذا تعقيب القرآني في مكانه، وبعد هذا العرض العام لتلك العاقبة بداية ونهاية، مقدمة ونتيجة يأتي التفصيل.
المشهد الأول:
إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين [الأعراف:104-111]. يا له من مشهد عجيب، موسى ليس له من الماديات إلا عصى، ليس عنده دبابة ولا صاروخ ولا راجمات ولا حاملات، أمام طاغوت يملك جيوشاً جر خزائن وذهب وسحرة، وملأ من الموظفين والوزراء والمخابرات، كلهم حوله تهتز مناصبهم وعروشهم أمام رجل يمسك بيديه عصا، أي قوة عند ذلك الرجل؟ من أين جاءته؟ من الله رب العالمين وإذا العصا حية، ثُعبان مبين، لا يُشك الناظر أنه مبين، وإذا يده السمراء، بيضاء كالمصباح المنير، إن هذه الآيات الباهرات هزت الطاغوت من أعماقه، وتكلم الملأ من حوله واتهموا الصادق موسى الوجيه بالسحر، ومنهجه بالسحر وهكذا، وإذا بهؤلاء المتآمرين المنتفعين يريد أن تمتد القضية أكثر وأكثر، وأن يكون هناك استاد رياضي ضخم يحضره السحرة ويحضره فرعون حتى تستمر المتعة وتطيب المشاهدة، وتحضر الجماهير المهرجانات الصاخبة ويصفقوا للطاغوت فرعون يوم أن يحقق بسحرته هذا الانتصار ويهتفوا باسمه ويوزعوا ميدليات وأنواط وأكاليل النصر الثعبانية التي تأتي على أيدي السحرة، وهكذا دائماً يصبح الجد عندهم هزلاً، والرسالات والنبوات عندهم مهرجانات واحتفالات – هكذا – بيّنها القرآن الكريم.
أحبتي في الله:
وبعد هذا المشهد ماذا تكون الحقيقة؟ وجهوا التهمة في أول لقاء بأن موسى سيخرج الشعب من أرضه، تهمة كاذبة باطلة – اتهموا موسى أنه يريد أن يخرجهم من أرضهم – فمن الذي أخرجهم من أرضهم؟ فرعون، انطلق فانطلقوا خلفه!! دخل البحر فدخلوا خلفه فأطبق الله عليهم البحر وأهلكهم أجمعين، وهكذا كل من يوجه تهمة إلى بريء، كل من يطعن الناس في نيتهم الصادقة يُسلط الله عليه تهمته وكذبته عاجلاً.
ويأتي المشهد الثاني أيها الأحبة:
وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين [الأعراف:113]. انظروا إلى هؤلاء المحترفين، سحرة محترفون يطلبون الأجر، يطلبون المال والتقرب من السلطان وهذه كارثة كل الشعوب، عندما يأتي أُناس محترفون يقدمون الخدمات للمجرم والطاغوت مقابل خدمات، هو ينهب، وهم ينهبون، يأتون إليه يُعطونه من خبراتهم، وهكذا يأتي السحرة ويعطونه السحر حتى ينتصر على موسى وعلى دين الحق.
يأتي السحرة يُعرضون خبرتهم يريدون المال، والذي يُريد المال من خلال هذه الوظيفة يُدافع عنها ويستميت، ويختلق الكذب ويختلق الافتراءات، حتى إذا ما انتهى عقده جددوا له عقداً جديداً هكذا على دماء الأبرياء والأعراض.
أيها الأحبة:
انظروا إلى ضعف هذا العرش يوم أن احتاج إلى سحرة، ولو كان الساحر فيه قوة لاستخلص الذهب من فرعون ولم يُمد يده متسولاً لو كان فيه قوة لوصل للبنوك والخزائن وأخذ ما فيها ولكنه تعاون بين شياطين الجن والإنس، مُجرد إرهاب نفسي، حتى تجد منهم الأعاجيب، وإذا بالحق سبحانه وتعالى يرصدهم وتكون المفاجأة ماذا قال الله سبحانه وتعالى عنها: قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [الأعراف:115-122]. لأن كل أصحاب فن يعرفون الحق والباطل.
شتان بين الحق والباطل هكذا.
إنه مشهد مؤثر ومفاجأة هزت فرعون من عرشه، وأصبح عارياً مجرداً أمام الناس كل الجيوش، وكل العروش، وكل القروش، وكل الهتافات خوت في لحظة صمت وتسبيح لله رب العالمين، وبعد السكرت التي كان فيها فرعون جاءته الفكرة الشيطانية محاولاً أن يستنقذ بعض ماء الوجه آمنتم به قبل أن آذن لكم [الأعراف:123].
وكأن الإيمان عندما يُباشر القلوب يحتاج إلى إذن، وكأن الناس يملكون قلوب الناس، إنك تملك الجيوب ولا تملك القلوب.. القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلبها كيف يشاء، بشاشة الإيمان باشرت قلوب السحرة فإذا هم مؤمنون موحدون بالله رب العالمين إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [الأعراف:123-124].
وهكذا يُعلن فرعون تقتيله وتصليبه وتقطعيه، ولكن إذا باشرت عذوبة الإيمان القلب حولت العذاب إلى حلاوة، هكذا لا يمدون أيديهم الآن إليه، لقد كانوا مُنذ لحظة وهم سحرة يمدون أيديهم، أما الآن لا يقولون: عفوك، سامحنا، سنتوب لا تقطعنا، إنهم الآن يلتفتون إلى الله الذي حول العصا إلى ثعبان مبين، إنهم الآن يريدون الصبر من الله لا من أحد، الدنيا في عينهم كجناح بعوضة، والطاغوت أمامهم كذبابة لا يُقدم ولا يؤخر، بل إن قتلهم اختصار الطريق إلى الله، انتقالٌ من عالم الطواغيت إلى رحمن رحيم، فكان جوابهم: قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين [الأعراف:125-126].
يا لها من أُمنية، يُريدون الموت على الإسلام، يريدون الإفراغ على الصبر إفراغ الصبر، يريدون أن يفرغ الصبر عليهم.
ماذا جنى هؤلاء حتى يعذبوا؟ ما تهمتهم؟
الدين تهمة، اللحية تهمة، إنهم الآن صابرون، اصبروا واسمعوا لمن تكون الأرض قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين قالوا ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [الأعراف:109-1028]. يقولون أما لهذا العذاب نهاية عذابٌ متواصل ندعو فلا نرى إجابة، وإذا بموسى يخاطبهم بصبر المرسلين بأن الله سيجعلهم حاكمين، ويكون الحكم ابتلاء لينظر ماذا يعملون.
ثم يكون المشهد الأخير وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه [الأعراف:131]. قحط قحط!! انظر إلى العناد وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان [الأعراف:132-133].
هذا ما يسمونه بالأخبار: كوارث طبيعية؟ وما هي بكوارث طبيعية، هذه آيات مفصلات إنذارات ربانية قبل التدمير الشامل والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن للك ولنرسلن معك بني إسرائيل [الأعراف:133-134]. دائماً في الأزمات يحتاجون إلى شباب الصحوة والدعوة في الطوفان، الله أكبر فلما راح الطوفان نبتت الأرض، فرحوا فجاء الجراد فأكلها ثم أرسل القمّل تأكل الرز والشعير، وبعد أرسل عليهم الضفادع يجلس الواحد في الشارع يجد الضفادع بجوار رأسه يرجع إلى الماء يجده دماً، ماذا بقي لهم من الحياة، لا زرعٌ ولا خبز ولا ماء ولا ضرعٌ ألا يؤمنون أنهم يكابرون فماذا كانت النتيجة؟
فلما كشفنا عنهم الرجز [الأعراف:135]. انظر إلى صبر الله، لا إله إلا الله إلى أجلٍ هم بالغوه إذا هم ينكثون فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ [الأعراف:135-136].
اسمع العظمة، اسمع تدمير الله كيف نصر المستضعفين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمّت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [الأعراف:137].
وإذا عرشهم وعنبهم وحدائقهم وأشجارهم ودورهم ومصانعهم كأنها علب كرتون، أو قشورٌ من البيض، يُدمرها الله تدميراً وتتلاشى من الوجود، ويبقى الحق ثابتاً لا يحول وتوكل على الحي الذي لا يموت [الفرقان:58]. لا إله إلا الله مدمر القياصرة، لا إله إلا الله مبيد الأكاسرة، لا إله إلا الله مُهلك الطواغيت والفراعنة.
فاثبتوا عباد الله في مشارق الأرض ومغاربها على دين الله لا تخضعوا لليهود ولا الصليبين، لا تخضعوا لأعوانهم من الطواغيت، اصبروا في بيوت ربكم على الحق، على الحجاب، على الحلال، الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.
إن الذي دمر طاغوت فرعون قادرٌ على تدمير طاغوت العراق، وقادر على تدمير طاغوت اليهود، وكل الطاغوت في كل مكان، اصبروا أيها الإخوة في كل مكان....
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1300)
صبراً فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/7/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مذابح المسلمين في فلسطين نتاج نكد لعملية السلام. 2- عملية السلام استسلام للعدو.
3- حرمة دم المسلم عند الله وهوانه عند الناس. 4- الأحداث تكذب دعاوي حقوق الإنسان.
5- لا عز إلا بالجهاد. 6- قصة موت محمد جمال الدرة. 7- رغم هول الحدث ما يزال
الإعلام الماجن في سكرته. 8- مهرجان للرفق بالحيوان في دبي. 9- لا سبيل مع اليهود إلا
الجهاد. 10- أهمية القدس عند المفاوض الإسرائيلي. 11- المستقبل سيشهد نصر هذا الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لا يدري ماذا يقول المسلم وبماذا يبدأ والمجازر الدموية على أرض فلسطين قد تعدى الشيوخ والنساء والآمنين حتى وصل الأطفال الصغار ممن هم في سن العاشرة ونحوها. والعالم كله يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه.
أيها المسلمون: لا يخفى على ذي قلب ما يتعرض له إخواننا في القدس وفلسطين وهم يذودون عن حياض الإسلام ومقدساته، وكيف يتعرضون للقتل بوحشية وهمجية من اليهود المعتدين، والعالم كله شرقاً وغرباً في موقف المتفرج الذي يلوم المعتدى عليه ولا يجرؤ أن يعاتب المجرم فضلاً أن يوقفه عند حده.
ولا شك أن الأمة تجني ثماراً نكدة تحصدها اليوم، يوم أن تخلت عن عزتها وكرامتها يوم أن تسولت على موائد المفاوضات لاهثة وراء سلام مزعوم لا يمكن أبداً أن يتحقق، لأنه وبكل وضوح مع أناس لا عهد لهم ولا ميثاق ولا خلاق. ومن أصدق من الله قيلاً، وهو سبحانه القائل عنهم: كُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]. وتتوالى الأحداث، وتتفتق الجروح، ولعمر الحق إنه لمظهر من مظاهر الهوان، ولا تزال الأمة تبتلى بأحداث وقضايا حتى ينُسي آخرها أولها، ويغطي حديثها على قديمها.
ماذا أقول وقلبي بات يعتصر؟ مما يدور وما يجري وينفطر
ماذا أقول وأعماقي ممزقة؟ والصمت ران كأن الحال يحتضر!!
ماذا أقول وسمعي ما به صمم؟ والعين تدمى وماء العين ينحدر
فالقدس تشهد أحداثاً مروعة والليل أعمى ووجه الأرض معتكر
فالحال يندي جبين الحر واأسفي فالعسف والنسف والإرهاب والجُدُرُ
والقدس تُنعى وأقصانا يصيح بنا والختل والقتل والإقصاء والنذر
يا ويح صهيون ما أودت وما فعلت لا الشعب ينسى ولا الأيام تغتفر
من ذا يقوم ويسقي الترب من دمه؟ من ذا يضرّج باب المجد يستطر؟
من ذا يكبر لا يلوي على أحد ؟ من ذا يشمر للعليا ويبتدر؟
طفل الحجارة أي المجد سطره ناءت عن المجد آسادٌ ولا آثر؟
حتى انبرى طفلنا بالصخر يحمله فالكون كبر والمقلاع والحجر
الله أكبر في الساحات نسمعها الله أكبر بالأعداء تنفجر
الله أكبر يا رباه أحي بنا روح الشهادة فالأعداء قد كثروا
تكالبوا واستقروا في مرابعنا أواه يا أمتي الأورام تنتشر
ماذا أصاب بني اليرموك فانتبهوا؟ ماذا أصاب بني حطين؟ مالخبر؟
لا يصلح الحال درب لا دماء به فما الحلول ولا الأوهام تزدهر
جيل الحجارة أحيا نبض أمتنا فالحق يشرق والآمال تنتثر
فالطفل يرجم أهل الشرك ممتشقاً أعمى أصم ولكن بات ينشطر
والهدي صبغته والدين عزته والنور عدته والآي والسور
قد لقن الكل درساً لا كلام به ما أعظم الدرس إن بالنفس يستطر
عفواً بني قومي لا عذر ينفعكم صهيون يعبث بالأقداس والزمر
بنو اليهود أقاموا صرح هيكلهم ونحن نرقب ما يأتي به الهذر
فما التفاوض والبلدان تنفعنا ولا الوفاق ولا أوراقه الحمر
لا يُرجع الحق إلا خفق ألوية تطوي الثريا وللآفاق تنتشر
لن يسعف الحال إلا مهجة عزمت تسقي التراب وترويه وتصطبر
أيها المسلمون: إن جُرح فلسطين أعظم جرح، وكارثتها أعظم الكوارث، أرض فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم بل هي للمسلمين جميعاً، هي أمانة في أعناقهم، فهي ميراث نبيهم، وإذا كان يهود قد تسلطوا عليها وطردوا أهلها، وسفكوا الدماء بها ولا زالوا منذ خمسين سنة يرتكبون فيها المظالم والتصرفات الوحشية تحت حماية الدولة الأمريكية. فما كان للمسلمين أن يعترفوا باغتصاب عدو فاجر خبيث، ولا أن ينساقوا تحت أي ضغط لما يسمى بعملية السلام وهي في الواقع عملية استسلام، لقد كان على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يصلحوا أحوالهم، كما فعل أجدادهم عندما واجهوا الاحتلال الصليبي لفلسطين مدة تزيد عن تسعين سنة، ومع ذلك لم يستسلموا بل نصروا الله بتحكيم شرعه، فنصرهم الله القائل: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ [آل عمران:126]. والآن أما آن للأمة أن تفيق من غفلتها وتستيقظ من نومتها وأن تنفض عن نفسها لباس الذل وتعود إلى سر عزتها وعنوان مجدها، وأن تنتصر لدينها وتنصر أبناءها في أرض الرباط. وإذا تعذر النصر بالمال والعتاد والنفس لأسباب لا تخفى؛ فلا أقل من المؤازرة والنصرة بالكلمة والدعاء.
أيها المسلمون:
يقول الرسول : ((لأن تهدم الكعبة حجرا حجرا أهون على لله من أن يراق دم امرئ مسلم)). وفي رواية: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [رواه الترمذي والنسائي].
وبالرغم من غلاء دم المسلم فإن المجازر باتت تقام للمسلمين في كل مكان وأصبح الدم المسلم رخيصا لا يقام لإراقته وزن. وإن العالم كله من أقصاه إلى أقصاه لا يكاد يغمض عينيه حتى يفتحها على هول المأساة التي يعيشها المسلمون على أرض فلسطين. لقد كان من المتوقع أن الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب الكافر مثل حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد، والديمقراطية، سيكون الغرب جادا في عدم تجاوز حدودها، لكن أحداث القدس الحالية والمذابح المرتكبة هناك، كشفت عورة الدول الغربية وأبانت زيف وعنصرية شعار حقوق الإنسان، وعُرف من هو الإنسان الذي تحفظ حقوقه، إنه كل أحد ما عدا المسلم. إن حق تقرير المصير للشعوب داسته رصاصات اليهود ومزقته طائراتهم، واستخدموا المدرعات والأسلحة الثقيلة في مواجهة شعب أعزل، وقد بلغ عدد القتلى بالعشرات والجرحى وصل إلى ألف وثلاثمائة جريح والله المستعان، ومع كل هذا تجد الصمت العجيب للمجتمع الدولي على الغطرسة والعربدة الاسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية.
لقد أكدت الأحداث أنه لا أحد يملك سلطة القرار الفلسطينى سوى الجماهير الفلسطينة، ولن يوقف هذه الجرائم إلا الجهاد. إن مقدسات المسلمين وديارهم لا يعيدها إلا جهاد صادق في سبيل الله، وإلا فلا نصر ولا كرامة ولا عزة قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [رواه أحمد وأبو داود]. قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ [الحج:39-40]. وقال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ [التوبة:111]. وعندما يعلن الجهاد الإسلامي الحقيقي عندها ستتغير الموازين، وأكثر ما يرعب الغرب كلمة الجهاد لأنهم يدركون معناها.
أيها الأحبة: إن إزالة أسباب الخذلان والهوان أهم وأولى من إزالة آثار العدوان وهذا الطغيان لن يوقفه إلا الإسلام، وان مَيْل الميزان لا يعدله إلا القرآن، الحل بيّن، والحق واضح، إنه صراع عقائد، ومعركة مع من كفر بالله واتخذ له صاحبة وولدا تعلى الله عما يقولون علوا كبيرا، إنه حكم قرآني لا تشوبه شهوات ولا شبهات، حقائق اليقين من رب العالمين وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. لقد سمعتم كما سمع العالم كله تهديد رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن حكومته سوف تستخدم جميع السبل لوقف إراقة الدماء في أسوأ أعمال عنف تشهدها الأراضي الفلسطينية منذ أربع سنوات ، وطالب بالتحرك لقمع أعمال العنف، وقال إن بلاده قد تلجأ حتى لاستخدام الدبابات لوقف الاشتباكات الدموية التي تشهدها الضفة الغربية وقطاع غزة، وأضاف لراديو إسرائيل أن الجنود والضباط لديهم أوامر باستخدام أي وسيلة لحماية المدنيين الإسرائيليين. وهل هناك وسيلة أكثر من إطلاق الرصاص على طفل أعزل عمره عشر سنوات، على مدى خمسة وأربعين دقيقة كان والد محمد يحاول حمايته من نيران الإسرائيليين لكن دون جدوى، حيث انطلقت النيران لتضرب الحائط الذي احتميا به، والأب يلوح للقوات الإسرائيلية في يأس ويهتف صارخا: لا تطلقوا النار، ولكن القصف استمر لتستقر أربع رصاصات في الطفل الذي سقط قتيلا بين يدي أبيه، حاول اثنان من سائقي سيارات الإسعاف إنقاذ الصغير، فقتل أحدهما وأصيب الثاني.
إن لحظات استشهاد الطفل الفلسطيني وهو يحتمي بوالده من الرصاص الذي مزق جسده الطاهر لحظات رهيبة كشفت بشاعة الجرم اليهودي وقذارة جيشهم وجنودهم، وصورت هواننا ورخص أطفالنا. إن موت هذا الطفل كشف بلادة الحس والغيرة عند الإعلام العربي الذي يبدو أنه استمرأ الخلاعة والرقص وتغييب وعي الناس، وتمجيد التفاهة وتضخيم الدعاية. مرت الإذاعات العربية ومحطات التلفاز ومعظم الصحف العربية على الخبر وكأن الميت كلب أو قطة في فيلم أمريكي سخيف لتؤكد أن الإعلام العربي أصبح جرحاً ميتاً، لا يتألم ولا يهزه إلا الرقص ولا يشده سوى مسابقات الجمال وحفلات الطرب ومهرجانات التسوق. وكيف يعطي إعلامنا هذه القضية حقها وهو مشغول بأولمبيات سدني؟ لاشك أنه أهم وأولى!!.
سيبقى موت هذا الطفل المسلم جمرة تشتعل في قلوبنا إلى الأبد، وإن تجاهلها الإعلام الموجه وأهل السياسة، ولا نستبق الأحداث، ولا ندعي علم الغيب لكن قتل هذا الطفل البريء سيكون محرضاً للغضب والثأر بإذن الله، وسيدفع ثمنه جميع اليهود الذين يدنسون تراباً عطره ذلكم الطفل المسلم بدمه الزكي. إنه من الصعب تحديد حجم العمليات البطولية الاستشهادية والتي سنفرح بها بإذن الله التي ستطاول اليهود ومجرمي الحرب على الأرض المحتلة وخارجها، ومن الصعب الآن إحصاء عدد الذين سيحصدهم ثأر الطفل المسلم، لكن بالتأكيد أن العمليات التي سينفذها رجال المقاومة الإسلامية وشباب فلسطين الرجال ستكون بحجم الغضب وحرارة النار التي أحرقت صبرنا، والجحيم الذي أشعل خواطرنا على موت طفلنا المسلم بهذه الطريقة المتوحشة الهمجية المفجعة.
لقد كان منظراً هيّج نفوسنا، وأجج أحاديثنا، وقلّب مواجعنا، وكشف عوراتنا، وأهان رجولتنا، ومرغ أنوفنا، وأغرقنا بالدموع كالنساء، وإن مما يزيد الأمر حسرة وألماً أنك تجد وفي خضم هذه الأحداث وإذا بهذا الخبر العجيب الذي نشرته جريدة الحياة [1]. كنا نتوقع غضبة إسلامية لهذا الحدث، أو على الأقل أن يحصل مقاطعة أو استنكار فإذا بنا نفاجأ بهذا الخبر: حفلة في دبي للحيوانات الأليفة. تستضيف أمارة دبي الأسبوع الجاري احتفالاً يتعلق بالرفق بالحيوانات الأليفة تنظمه جمعية أصدقاء القطط احتفالاً باليوم العالمي للحيوان، وتتضمن فاعليات النشاط الذي يعود ريعه لصالح جهات خيرية محلية مهتمة بشؤون الحيوانات، بالإضافة إلى مزاد وعروض موسيقية ومسابقات ترفيهية للعائلات والأطفال وكرنفال للحيوانات ومعرض للأعمال اليدوية.
تتمة الخبر: إنها جمعية غير نفعية تهدف إلى العناية بالقطط الهائمة في شوارع الإمارات. وتفيد أن الجمعية قدمت خدماتها لأكثر من سبعة آلاف قطة كما ساهمت في تعقيم 2500 قطة بمعدل 40 قطة شهرياً. انتهى الخبر.
ونحن أيضاً بهذه المناسبة ننتهز هذه الفرصة الطيبة ونشكر هذه الجمعية والإخوة الأفاضل القائمين عليها جهودهم المباركة بالقطط، ونقترح إن كان هناك مجال للاقتراح أن يفتحوا جمعية أخرى تُعنى بشؤون الفئران الإماراتية.
لقد حُق لليهود أن يستبيحوا دماءنا، وأن يعبثوا بأراضينا مادامت هذه اهتماماتنا والله المستعان.
أيها المسلمون: لماذا يقتل هذا البريء؟ لماذا يطلق الرصاص على ذلك الطفل؟ ما ذنبه ألأن اسمه محمد على اسم صاحب الإسراء عليه الصلاة والسلام، أم لأنه مسلم من أمة الإسلام، أم لأنه سليل الأفذاذ من الرعيل الأول، أم هي محاولة أخرى للقضاء على رموز العزة ومنابع الفخار والإباء في أمتنا، ما ذنبه ليقتل:
أَذنْبك اْلاسْمُ أمْ إسلامك الذنْبُ أم أنَّ أسلافك الفاروقُ والصَحْبُ
أم ذنب آبائك الأحرارِ أن ربَّوْ كَ على أنَّ نار الثأر لا تخبو
أم ذنب قلبك أن القدس محفورٌ هواهُ في القلبِ والأقصى هو اللبُّ
أم ذنبنا نحنُ أنْ نِمْنا على ضيم والقدس ضيَّعها حُكّامها العُرْبُ
عفوًا طفلنا فحربنا صوتٌ وسلاحنا خطبة عصماءُ أو شجبُ
أما الجهاد فإرهاب وترويعٌ ومجلس الأمن لا يرضى فلا حربُ
فيا محمد عذراً ما لنا حوْلٌ حتى الجهادُ اشْترى راياتِهِ الغرْبُ
أَرْخَصْتَ غاليْ الدم ولم تجبنْ فمُتْ شهيداً وَأَخْجِلْ منْ به رَهْبُ
واْفضح بموتك من باعوا فلسطينا بصفقةٍ قد رعاها النَسْر والدُبُّ
عصابة من لصوص رأسها لص فَهَمُّهُمْ مالُهم وجهادهم سلب
زعيمهم ذَنَبٌ والذلّ يغشاهُ من يلقَ قبَّلهُ لو أنه كلْبُ
جبْنٌ إذا واجهوا الأعداء هابوهم أما الشجاعة يصلى نارها الشعب
سحقاً منظمة التحرير يا عاراً على فلسطين لم يطهر لها ثوبُ
ضاعت قضيتنا من يوم أن كنتمْ وغاب عنها أسود ضربُها عَطْبُ
ما حرّر القدس والأقصى طواغيتٌ ولا السلام يفيد وأخذها غصبُ
ما حرر القدس والأقصى سوى جيلٌ رأى الجهاد سبيلاً سنَّهُ الربُّ
نفعني الله وإياكم..
[1] العدد 13719 في 6/7/1421هـ
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله..
أما بعد:
إن لكم إخوانا في أرض فلسطين المباركة مازالوا يكافحون ويدافعون عن أعراضهم ونسائهم ، وهناك الكثير المحافظون على دينهم ، وهناك ولله الحمد صحوة إسلامية مباركة دبت في نفوس أبنائها. رغم كل الكيد ورغم كل التعتيم ورغم كل الصد إلا أن الخير باقٍ والخير ينتشر بإذن الله.
أيها الأحبة في الله: لقد طغى الصهاينة وعاثوا وداسوا ولوثوا ، ولكن العزة لله ورسوله وللمؤمنين ، والذل والصغار والمسكنة لمن غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
لقد أكدت الأحداث وأثبتت الوقائع أنهم لا ينصاعون لمساومات ولا يصدقون في محادثات، الخيانة خلقهم والكذب مطيتهم والدسائس في السراديب المظلمة مسلكهم. إنه لا حل لهذه القضية ، وكل قضية يكون العدو الكافر طرفاً فيها إلا برفع راية الجهاد ، والمواجهة بالمثل ، وإلا فالذلة. إنه حقاً على الأمة أن تربيها التجارب والوقائع ، وتصقلها الابتلاءات والمحن. إن الأمر كله لله ، بيده مصائر الأمور وكل شيء يجري في طريقه المرسوم حتى يبلغ أجله المحتوم إما موت وإما قتل ، أمر لا مفر من ملاقاته، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ?لْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ?لنَّاسَ كَخَشْيَةِ ?للَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ?لْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَـ?عُ ?لدُّنْيَا قَلِيلٌ وَ?لاْخِرَةُ خَيْرٌ لّمَنِ ?تَّقَى? وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:77-78].
إنك لتعجب كيف يرضى بالذل وكيف يرضى بالقعود من يملك وسائل الجهاد والبذل ، كيف لا يذودون عن حرمة ، ولا ينتصرون لكرامة ولا يستشعرون صغاراً ولا ذلة.
كيف تحلو الحياة لمن يضيع دياره ، وإذا ضاع الحمى ذهبت كل التضحيات خسارة.
سلوا فلسطين إن رمتم بها خبراً قد استبيحت بها الأعراض والحُرَم
عز الذهاب إلى مسرى النبي بها فمن أراد ذهاباً فالطريق دم
سلوا بلاداً بلبنان التي طُعنت أين المواثيق والهدنات والذمم؟
أمن يهودٍ تريدون السلام لكم؟ أين السلام وهم ليست لهم قيم
فالشر منطقهم والغدر شيعتهم والخبث ديدنهم إن العداة هم
هذا الزمان عجيب لست أفهمه أرجاؤه ظُلم من فوقها ظُلم
إني أرى أمتى قد أبحرت سفهاً بلا سفين وموج البحر يلتطم
أيها المسلمون: إن ما يقع هو منبثق من عقيدة اليهود, وهم يحاربون عن عقيدة يريدون طمس القدس وإزاحته, يريدون الاستيلاء عليه كما استولوا على الأرض، لقد استعملوا كل الأساليب من أجل الحصول على ذلك, اشتروا الأرض بعدما اشتروا النفوس باع العرب أرضهم وضمائرهم لليهود يوم أن جلسوا معهم للتفاوض بدءاً بخيانة كامب ديفيد واستمراراً في مشروع السلام بل الاستسلام من مدريد, والدليل على ذلك أن قضية القدس لم يَرِد ذكرها في تلك المعاهدة المشؤومة, في الوقت الذي أُعلن فيه أن القدس عاصمة إسرائيل إلى الأبد, بل اتخذ اليهود بذلك قرارهم الرسمي من الكنيست الإسرائيلي باعتبار القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل, وكانت تلك بداية التنازلات بالنسبة لقضيتهم، ومن ثمّ كلما قام اليهود بعمل إرهابي أو باعتداء على الأبرياء والمؤسسات إلا وقام العرب والمسلمون بالاستنكار وتذكير الأمم المتحدة بالقرارات, بالرغم أن إسرائيل احتلت فلسطين وتوطدت بقرار من هيئة الأمم المتحدة.
أيها الأحبة: هذه هي القضية، وذلكم هو وضعها، إن القضية ليست غامضة ولا ملتوية، وما هي بالمستعصية الفهم أو الشائكة، لكنها تحتاج إلى شيء من الفهم القرآني والإلمام بطبائع الأشياء واستعراض النواميس الإلاهية والسنن الأزلية.
اعلموا أن معركة الإسلام مع الكفر، ليست وليدة اليوم، وإنما هي فصول يقصها القرآن وترويها السنة، في أدوار مختلفة، ولن يخلو زمان أو مكان من تلك المعركة الضارية، غير أن النور الذي حمله رسول الله ليضيء الدنيا، لن ينطفئ أبدًا، بل هو باق خالد، في أيدي المسلمين، يحملونه إلى البشرية ليضيء الدنيا مرة أخرى بأمر من الله، ويوحد الكلمة، ويجمع الشتات، وإن للمسلمين في وعد ربهم، ما يشد عزائمهم للثبات على دينهم وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]. قال رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) [رواه البخاري]. قال الله تعالى: والذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون قال ابن كثير رحمه الله: أي يظهره على سائر الأديان كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)). إن شعوبًا لا تعرف إلا الله، لن يغلبها من لا يعرف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق، لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل. فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما أنهم الغالبون بإذن الله تعالى بالسيف والسنان. إن كل ما نراه من مصاعب تحل بعالمنا الإسلامي إنما هي بإذن الله إرهاصات لنمو إسلامي متكامل، يشمل الحياة كلها وألا يدخل اليأس في قلوبنا، فوعد الله عز وجل بالنصر والتمكين متحقق بإذن الله بعز عزيز أو بذل ذليل عزاً يعز الله به الإسلام وأهله وذلا يذل الله به الشرك وأهله.
نسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر لإخواننا المسلمين في فلسطين.
(1/1301)
الدعوة إلى الله بالإنترنت
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
2/7/1421
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العلماء والدعاة وأهمية الدور الذي يقومون فيه. 2- الدعاء والعلماء ورثة الأنبياء.
3- فضل الدعوة إلى الله. 4- ظهور تقنيات جديدة يستخدمها الأعداء في غزوا الأمة ،
وبإمكاننا أن ندفع بها عن الإسلام. 5- دعوة لدعم الأعمال الدعوية في الغرب. 6- دعوة
لإنشاء قناة فضائية إسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله, فإنها خير الزاد وأعظم الوسائل لرضى رب العباد وتطهير القلوب من الفساد, وبها التنادي يوم النجاة والفوز يوم الميعاد..
أيها المسلمون:
أريتم إلى القوى الكامنة في الجهاز المحرك لأي آلة سريعة معاصرة كيف تدفع بها إلى أن تحلق في آفاق السماء وتجوب أجواء أجواء الفضاء لتقطع المسافات الشائعة ببرهة يسيرة وأنه بحسب قوة دفع المحرك أو ضعفه تظهر آثار السير أو تبين مواطن الخلل.
إذا كان هذا في المعايير المادية فإن الأمور المعنوية هي الأخرى كذلك بحاجة إلى قوة كامنة تدفع بقوى محرك الخير في الأفراد وتشعل فتيله في المجتمعات لتتفيأ الأمة ظلال الأمن الوارف ودوحة الإيمان البهية وتجني ثمار الدعوة يانعة شهية لما تمثله الدعوة إلى الله من مادة حياة القلوب وصلاح الأفراد والشعوب وأمن وسلامة الأمة ونسيم رَوحها وقوة رُوحها وسبب خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة.
إخوة العقيدة: لقد أرسل الله رسله مبشرين ومنذرين وختم بأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بعثه بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا, أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومنارًا للسالكين وحجة على الخلق أجمعين, به أتم الله النعمة, وكملت به على الأمة المنّة, واستبانت معالم الملة, وقامت به الحجة, ووضحت به المحجة, دعى إلى الله على بصيرة وجعل هذا نهجه ونهج أتباعه من بعده كما قال سبحانه: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين لقد أوضحت هذه الآية العظيمة أن رسالة المصطفى تتلخص بكلمة واحدة هي الدعوة.
معاشر المسلمين: لقد كان منهجه في دعوته أعظم منهج وأكمله, وهديه فيها أتم هدي وأفضله, أولى جانب توحيد الله الاهتمام البالغ وتحلى بالرفق والصبر والأناة والحكمة, فأثمرت دعوته رحمة بالأمة ودخولاً لها في دين الله, ورفعة لكلمة الله, ومحبة وسلامًا ووئامًا بين عباد الله, وشهد العالم بحسن دعوته عليه الصلاة والسلام حضارة إسلامية عالمية عريقة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً, وسار على منهجه بدعوته صحابتُه الكرام عليهم من الله الرحمة والرضوان والتابعون لهم باحسان, فحفظ الله بهم الدين, فكانوا نعم الرجال المخلصين والعلماء العاملين وأصبحوا أسود الوغى وليوث العرين
رهبان ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
وهكذا العلماء والدعاة في كل زمان وحين هم الأئمة الأعلام وغدور النور التام, الأمة بهم تهتدي, والناس بحسن دعوتهم تقتدي, هم الأقطاب التي تدور عليهم معارف الأمة, والأنوار التي تنجلي بهم غياهب الظلمة, هم نجوم الأمة اللامعة, وشموسها الساطعة, بالعلماء العاملين والدعاة الصادقين يحفظ دين الأمة وتشاد معالم الملة وترفع راية السنة, وتصان عزة الأمة وكرامتها, هم السياج المتين والدرع المكين والحصن الحصين الذي يحول بين الدين وأعدائه المتربصين, وهم النور المبين الذي تستنير به الأمة عند إشتباه الحق وخفائه, هم ورثة الأنبياء في أممهم وأمناؤهم على دينهم, عليهم أخذ العهد والميثاق لتبليغ ميراث النبوة, وهم شهداء الله في أرضه والحماة لدينه وشرعه, ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين, فليس في الأمة مثل العلماء الربانين والدعاة الصادقين نصحة ومخلصين, يُعلمون دين الله ويرشدون عباد الله, ويأخذون الأمة إلى شاطىء الأمان وبر السلام.
فكم تعبوا والناس مستريحون, وكم تعبوا والناس غافلون, وكم نفع الله بهم البلاد وأصلح بهم العباد, يحثون الأمة على الخير والرشاد, ويحذرونها من أسباب الشر والفساد, يدينون بالولاء والنصح لدينه وأئمته والمسلمين وعامتهم, يألِّفون القلوب ويصدون عن الأمة الغارات والخطوب, فهم صمام الأمان في المجتمع حقًا وأهل الخير في الأمة صدقًا, فحق على الأمة معرفة حقهم ومكانتهم وسبقهم والقيام بتقديرهم وتكريمهم, وحق عليهم أن يسلكوا المسار الصحيح في الدعوة ويبذلوا جهودهم في النهوض بمستواها والجد في دعوة الناس لظلها وحماها.
إخوة الإيمان: ولم تزل الدعوة الإسلامية عبر القرون تسير في حفظ من الله ومنعة شامخة وضاءة تضيء الطريق للسالكين وتنشر النور والخير للخلق أجمعين, يحمل لوائها جهابذة علماء ودعاة صلحاء قد ارتوى من نمير الوحيين, أخلصوا لله فخلصت دعوتهم إلى قلوب عباد الله, دعوا إلى الله بعلم وبصيرة مستنيرين بالنصوص العقلية وبالنصوص النقلية ومستهدين بالقواعد الفقهية, والمقاصد الشرعية يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة يأمرون بالمعروف وينهون على المنكر بالأساليب الشرعية, يدرءون المفاسد ويجلبون المصالح ويردون عن الأمة عاديات الفتن وأمواج المحن, يتمسكون بالثوابت ويحسنون التعامل مع المتغيرات, ويستلهمون الضوابط الشرعية في ترتيب الأولويات, يلزمون العقل في أقوالهم وأفعالهم والرشد في تصرفاتهم, يبدأون بالأهم فالمهم, ويأخذون بالأصلح فالأصلح مستهدين بمنهج القرآن والسنة في ذلك كما قال سبحانه: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ويقول عز وجل: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ : قال الحسن البصري لما تلا هذه الآية: "هذا حبيب الله, هذا ولي الله, هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحب أهل الأرض إلى الله, أجاب الله في دعوته ودعى الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال إنني من المسلمين, هذا خليفة الله".
ويقول في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم وغيره: ((من دعى إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((بلغوا عني ولو آية)), وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله بعث عليًا يوم خيبر وأمره بالدعوة إلى الإسلام ثم قال: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)) الله أكبر, ياله من فضل عظيم قد فرط فيه كثير من المسلمين ممن غفلوا عن أداء واجبهم في الدعوة إلى الله التي هي رسالة المجتمع الإسلامي عامة مما يتطلب نوايا مخلصة, وعزائم دائبة ومساعي حثيثة ووسائل قويمة مبنية على العلم النافع والعمل الصالح والأسلوب الأمثل, مؤسسة على الإخلاص لله والتجرد من التحزب البغيض والتعصب المذموم.
أمة الإسلام: ولم تكن الحاجة إلى الدعوة بل الضرورة إليها ماسة في عصر من العصور كهذا العصر الذي يشهد الصراع بين الحق والباطل على أشده, فقد بلغ دعاة الباطل ما لم يبلغوه في أي عصر مضى, واستخدموا من الوسائل ما يفطر قلوب أهل الحق وتشيب منه نواصيهم, ولازال كثير من أهل الخير والحق في انشغال عن قضاياهم الأساسية وإغراق في أمور وجزيئات هامشية, ولذلك ظهروا أمام غيرهم في شكل باهت داكن ومظهر شاحب شوهته الخلافات في عصر اتسم بالانفتاح والعولمة, وخطى دعاة الباطل إلى استثمار وسائل الاتصال الحديثة كالقنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية لنشر باطلهم في موجات من الغزو المركز الذي يتطلب حصانة قوية ووعيًا عميقًا, كما يتطلب ضرورة استثمار هذه الوسائل في الدعوة الإسلامية؛ لأنها تعد الأكثر انتشارًا والأبلغ رواجًا وتأثيرًا.
والمتأمل في واقع الدعوة يجد أن هناك ظروفًا تغيرت وأحوالاً تبدلت ووسائل استجدت, ولابد من أخذ زمام المبادرة لشغلها بالحق بدلاً من أن تشغل بالباطل ماذا جنى المسلمون لما قصروا في المبادرات العملية في شغل هذه الوسائل الحديثة؟ لقد ابتدرها أهل الأهواء والشهوات فضلوا وأضلوا, إنه بالنظر إلى واقع التقنيات الحديثة يرجع الغيور بالأسى وهو يرى الباطل يرتع دونما خوف من الله ولا خجل من عباد الله.
خذوا على سبيل المثال وسيلة من الوسائل المعاصرة لم تحظ وسيلة من وسائل المعلومات بمثل ما نالته هذه الوسيلة تلك, وهو ما يعرف بشبكة الانترنت, ولكم أن تتصوروا أن الذين يستخدمونه في العالم بلغوا ما يقرب من مائتي مليون نسمة لما يتصف به من مزايا اللازمان واللامكان مع التفاعلية والمجانية أو شبه المجانية مع تنوع الاستخدامات وسهولة الاستعمالات.
والسؤال الذين يطرح نفسه: أليست هذه فرصة سانحة للدعاة إلى الله الذين يهمهم أمر هذا الدين ليثبتوا للبشرية عالميتنا الحقة ورسالتنا السمحة, ويالها من أمانة ومسئولية, وإن الغيور ليتساءل ما مدى إستفادة مؤسساتنا الدعوية من تقنية الشبكات المعلوماتية التي تشق طريقها إلى الاستمرار والتضخم شئنا أم أبينا في ظل ما يسمى بثورة التقنيات وتفجر المعلومات.
إن على الأمة الإسلامية ألا تقف موقف المتفرج إنما يجب عليها الدخول إلى حلبة السباق لتنافس في هذا المضمار, وأن تأخذ بزمام المبادرة في نشر الحق الذي معها, وإذا كان العالم الغربي ينافس في نشر عولمة مفضوحة فإن عالميتنا الحقة أولى أن تؤثِّر ولا تتأثر, وتقدِم ولا تحجم, وتصدر ولا تستورد, وتنافس ولا تقلد.
فالخطر في تزايد, والشرور في تكاثر, والسنن لا تتغير, والمستجدات لا تتمهل, والثقافات الوافدة والمناهج المستوردة تهدد الأمة في عقيدتها وقيمها ويزاد الأمر خطورة حين يتراجع أهل الحق عن الميدان فيشغله أولياء الشيطان.
فأين المهتمون بشئون الدعوة الإسلامية وإلى رجال المال والأعلام والإعلان الله الله في الإضلاع بهذا الدور المهم, فالدعوة مسئولية المسلمين جميعًا كل في مجاله وعلى حسب قدرته ومكانته, فكل على ثغر من ثغور الإسلام, فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله. كما أنه لابد من التنسيق في ذلك بين المواقع الإسلامية وأن تكون تحت إشراف هيئات علمية معتبرة ومرجعية شرعية موثوقة ومظلة دعوية مأمونة حتى لا تنساق الأعمال الإسلامية وراء أخبار ملفقة أو شائعات مغررة تبعث عليها عوائق مجردة, بعيدة عن التأثير الصحيح والمنهجية المدروسة, ألا ما أحوج البشرية اليوم إلى أن تتفيأ ظلال هذا الدين القويم وتسخر كافة الإمكانات ووسائل العصر لهذا الهدف النبيل بعد أن سئمت حياة الماديات ببريق الشعارات مما يتطلب الجد في مجال العمل للإسلام والنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية وتنسيق الجهود بين العاملين والحذر من الفرقة والخلاف التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص.
إن هناك فرصًا عظيمة يؤسف كل غيور على أوضاع أمته أن تفرط الأمة في استثمارها, فالأرض خصبة جدًا, والناس متعطشون, والفرص مواتية, وإن القضية ترجع إلى حاجة الأمة اليوم إلى وضع خطط سليمة ومنهجية صحيحة تخرج دعاة على مستوى العصر الذين يعيشونه, لنثبت للعالم صدق توجهاتنا ونبل مقاصدنا بعد أن شوه الإسلام من طرفي الإفراط والتفريط, ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه, أيعجز كل مسلم أن يقدم شيئًا ولو يسيرًا في الدعوة إلى الله, فتكلفة أيسر رسالة تعريفية عن الإسلام ومحاسنه والدعوة إليه أقل من دولار واحد, قناة إذاعية تبث القرآن والحديث والسنة بمبلغ ليس بالكثير على نشر دين الله, فاحرص أخي المسلم على المشاركة في الدعوة إلى دينك القويم والإسهام في الدعوة إليه عن طريق الجهات الموثوقة والهيئات المأمونة عقيدة ومنهجًا وسلوكًا.
أما الحلم الذي يراود كل غيور هو تلك القناة الإسلامية العالمية التي لم تعقم ـ بإذن الله ـ أرحام أمهات أهل الإسلام فيمن يتبناها ويقر عيون المسلمين ويثلج صدورهم بإيجادها وإنشائها في ظل هذا الزخم المذخ من الفضائيات المأفونة التي تعلو فيها الرذائل وتوأد فيها الفضائل, فأين الحمية الدينية وأين الغيرة الإسلامية.
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
وقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
فيا دعاة الإسلام من أجل براءة الذمة ونصح الأمة, وحتى ترتفع الفتن وتزول المحن وتسلم الأمة في دينها وتتحصن في عقيدتها وفكرها وأخلاقها وسلوكها لابد من القيام من خدمة الدعوة إلى الله على نهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة والتعاون مع العلماء الربانيين والدعاة الصادقين ذوي الأقدام الراسخة والعقول الراجحة والنفس الطويل وعدم الانخداع بكل ما يشاع والانسياق وراء كل ما يشاع والتركيز على العقيدة والعلم وإرشاد الناس إلى ما يفيدهم في أمر دينهم ودنياهم والحرص على جمع القلوب وسلامة الصدور والسعي إلى الاعتصام والائتلاف والبعد عن الشقاق والخلاف, وهذا والله عين الشفقة والمحبة والنصح للأمة جميعًا حتى تسلم الأمة من الفرقة والشقاق وتصان الدعوة الإسلامية من كيد الكائدين وتآمر الأعداء المتربصين إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت إليه أنيب أقول هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من ذنب فاستغفره وتوبوا إليه إنه كان عفوًا غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي تفرد بكل كمال واختص بأبهى جمال وأعظم جلال, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال, وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبعوث بكريم السجايا وشريف الخصال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله, واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي رسول الله , وشر الأمور محدثاتها, وكل بدعة ضلالة.
إخوة الإسلام: إن المسلم يتساءل كثيرًا: إن المستقبل للإسلام كما قال سبحانه: وكان حقًا علينا نصر المؤمنين وكما أخبر المصطفى وبشر: ((ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار)) غير أن الواجب على الأمة الإسلامية أن يكون لها مزيد الاهتمام وبذل جهود أكثر في خدمة الدعوة الإسلامية.
أيها الأخوة في الله: إن لكم في بلاد العالم ولاسيما بلاد العالم الغربي إخوة في العقيدة يقومون بأعمال دعوية مباركة عن طريق المراكز الإسلامية والمؤسسات والجمعيات الخيرية والصروح العلمية والحضارية وهم بأمس الحاجة لأن يتعرف المسلمون على أعمالهم الطيبة ويطلعوا على مناشطهم الخيرة ويسهموا معهم بما يحتاجون من دعم ومؤازرة مادية ومعنوية, كما أن لكم إخوة في الدين في بلاد مرَّ بهم محن وبلايا وحروب يحتاجون إلى جهود إعمارية وإغاثية ودعوية وتعليمية وأخص بذلك بلاد البوسنة والهرسك المسلمة الصامدة المجاهدة ـ وليس الخبر كالمعاينة ـ, فلا تنسوهم وفقكم الله من دعمكم ودعواتكم وسائر إخوانكم المضطهدين في دينهم في كل مكان.
ألا وإن من التحدث بنعم الله والعمل بقوله : ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) خرجه أبو داود والترمذي, والشكر بعد شكر الله عز وجل لكل من جعل الدعوة قضيته, ونصرة دين الله همه ومهمته, ممن يبذلون الجهد المشكور والعمل المبذول وعند أهل الإنفاق غير منكور من الجنود المغمورين من أهل الخير والدعوة والإصلاح ممن آثروا العمل ابتغاء ما عند الله, ولا ينسى الدور الفعال لبلاد الحرمين الشريفين ـ حرسها الله ـ في هذا المضمار, فلا تكاد دولة من دول العالم إلا ولها فيها مركز ومسجد أو صرح علمي أو حضاري أو إسهام دعوي أو خيري أو إغاثي جعله الله خالصًا لوجه الكريم وضاعف مثوبتها وزادها من الخير والتوفيق بمنِّه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى كما أمركم بالصلاة والسلام عليه ربكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريمًا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون إذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واستغفروه يغفر لكم واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/1302)
عداوة اليهود وأحداث المسجد الأقصى
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الولاء والبراء
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
9/7/1421
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الولاء والبراء من أبرز قضايا الإيمان وعلاماته. 2- حقد اليهود وطوال تاريخهم على
المسلمين. 3- صفات المؤمنين الصادقين الذين يتنزل عليهم نصر الله. 4- بدع شهر رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه واتبعوا أمره ولا تعصوه, وتمسكوا بدينكم القويم حققوا إسلامكم, حققوا إيمانكم بربكم؛ فإن تحقيق الإيمان بالعمل الصالح هو التقوى, وإن مجرد الإنتساب أو التسمي بالإيمان بدون قيام والتزام بالواجبات الشرعية وترك المحرمات الدينية لا يجدي شيئًا.
وإن من أبرز علامات الإيمان الحب في الله والبغض في الله والمولاة والمعاداة من أجل العقيدة الحقة, ومن أجل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه, ولا يرضى من الأديان غيره, فكل دين غير دين الإسلام فهو باطل وغير مقبول عند الله, يقول سبحانه: ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين , فدين الإسلام هو الحق وما سواه فهو باطل وضلال فماذا بعد الحق إلا الضلال.
عباد الله: إن عداوة الدين هي أقصى العداوات وأشدها, وهي التي لا هوادة في عداوتها, فكل العداوات قد يرجى زوالها إلا عداوة من يعاديك من أجل عقيدتك ودينك, إلا أن تتبعه وتسير معه على دينه ومبدأه يقول تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم , وكل من كان أبعد عن الحق وأعتق للباطل كانت عداوته لهل الحق أشد وأبشع, ولهذا كانت عداوة اليهود وعداوة المشركين أشد العداوات للإسلام وأهله, لا يألون جهدًا في الوطيئة بالمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم يقول عز وجل: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا , فهؤلاء اليهود الذين لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت, ووصفهم بأنهم سماعون للكذب آكالون للسحت, وأنهم قالوا العزير ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة, وقالوا يد الله مغلولة, وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء, تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
يقول عز وجل في وصفهم: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مسبوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثير منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين.
إن هؤلاء اليهود هذا دأبهم في دابر الأزمان, وهذا دينهم مع سائر الأنبياء والمرسلين وأولياء الله المتقين, إنهم أعداء الإسلام, أعداء العدل والوئام, أعداء المرسلين وعباد الله المؤمنين, لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة وأولئك هو المعتدون.
كم تكرر منهم العداء على العاملين, وكم تجبروا على المستضعفين, وكم نكسوا أيمانهم, وكم نبذوا مواعيد ومواثيق, أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون لقد استمرؤوا إزهاق الأرواح واغتصاب الأموال وانتهاك الحرمات, لقد تجرأوا على حرق المسجد الأقصى والاستهانة به وبشعائر دين الإسلام وهم يريدون الكره ويحاولون هدمه ونسفه بين حين وآخر على عباد الله القانتين والقائمين والركع السجود في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار.
لقد هتكوا بالمسلمين العاملين بغيًا وعدوانًا واستهانة بالمسلمين واحتقارًا لهم وجرحًا لشعور عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
أين المسلمون وحفاظهم على شعائر دينهم ومقدساتهم ومواطن عبادتهم وإخوانهم المسلمين المستضعفين؟!! إن الواجب الديني يحتم على كل مسلم العمل بما يستطيع من مناصرة الحق وجهاد أعداء الله والدين, جهاد صدق وحق, جهادًا لله, لا لغرض آخر بل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى, جهادًا بالنفس وطلبًا للشهادة, جهادًا بالمال وبذله في سبيل الله, جهادًا بالقلم واللسان, جهادًا بالدعوات القلبية ورفع الأكف في الأسحار إلى الله الذي بيده ملكوت كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون.
ولكن يا عباد الله إن النصر والانتصار لا يتحقق, والدعاء لا يستجاب مالم يستكمل شروطه, وهو الإيمان بالله على الوجه الصحيح, الإيمان الحقيقي الذي وصف سبحانه أهله بقوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم , هذا هو وصف المؤمن الحقيقي الصادق في الإيمان, أما إذا كان الإيمان بالاسم فهذا لا يجزئ شيئًا, والله لا تخفى عليه خافية, فأين الإيمان ممن يعتنق المبادئ الهدامة ويجري وراء التيارات المنحرفة ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ولا يحافظ على صلاته وصيامه, ولا يتقيد بالأوامر الإلهية والإرشادات النبوية, لا إيمان يربطه بربه, ولا صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر, ولا صدق معاملة مع الله تحميه من الانزلاق في مهاوي الشكوك والارتياب.
فاتقوا الله عباد الله وحققوا إيمانكم بربكم يحصل لكم الفوز المبين والنصر والتمكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أتم لنا الدين وأكمله, ومنّ علينا باتباع محمد خير خلقه وأفضل رسله, أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمد عبده ورسوله, اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق تقاته وتزودوا, فإن خير الزاد التقوى, واعلموا أن أفضل العمل ما كان موافقًا كتاب الله وسنة رسوله , فإن في اتباع هديه الفلاح والسعادة وفي مخالفته الشقاوة والضلالة وإن قليل العمل مع السنة خير من كثيره مع البدعة.
عباد الله: إن مما أحدث الناس من الأمور التي ليس لها أصل في الشريعة ما يعتقده البعض من فضيلة العمل في هذا الشهر, شهر رجب, وزعمهم أن العمل فيه أفضل من غيره وأن له خصوصية عمل امتاز بها عن بقية الشهور وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يثبت منها شيء عن رسول الله ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: "لم يثبت في شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام أيام معينة منه ولا في قيام ليلة معينة فيه حديث صحيح يصلح للحجة", وقال ابن القيم: "كل حديث في صيام شهر رجب وصلاة بعض الليالي فهو كذب مفترى", وقال الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "جميع ما ورد فيه من النصوص إما موضوع مكذوب وإما ضعيف شديد الضعف".
فاتقوا الله عباد الله وامتثلوا أمر ربكم واهتدوا بهدي نبيكم تفلحوا وتسعدوا.
وصلوا وسلموا على الهادي المنير والسراج المنير كما أمركم بذلك ربكم في محكم التنزيل يقول عز وجل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإتياء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظم لعلكم تذكرون , وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه العظيمة يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/1303)
الطريق إلى القدس
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
9/7/1421
الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشجب والاستنكار والمظاهرات لا يغير من واقع ذلتنا شيئاً. 2- طريق تغيير الواقع يبدأ
بتغيير أنفسنا وإلزامها طاعة الله. 3- بعض أحوال المسلمين التي استلزمت غضب الله وعقوبته.
4- عقوبة الله للأمم حال معصيتها لله. 5- وقفة مع مقتل الطفل محمد جمال الدرة على يد
اليهود. 6- قسوة قلوبنا رغم مرارة الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد:
فإنه لا يخفى على مسلم معاشر المؤمنين ما تتعرض له أمتنا من اعتداءات وانتهاكات والناس ـ وهم ينظرون إلى هذه الأزمات المتتالية وهذه الانتهاكات المتتابعة ـ يتحيرون في أمرهم ويتساءلون ماذا يصنعون وماذا يقدمون, ونرى معاشر المؤمنين أن الناس يسلكوا طريقين لا ثالث لهما.
أما الطريق الأول فما أسهله, وما أيسره, طريق أثبت التاريخ, وأثبت الزمان أنه لا يقدم ولا يؤخر, وأنه طريق مخدر يخدر الأمة ويبعدها عن واقعها, هذا الطريق هو طريق المظاهرات والهتافات والتجمعات والشجب والنكير والصياح والنعير وفقط, وهذا أمر يحسنه كل أحد, فما أيسر أن يخرج الإنسان في مظاهرة, وما أيسر أن يهتف وأن يسب وأن يلعن العدو, وما أيسر أن يشجب وأن يصرخ وأن يصيح ويولول, فهذه أمور يحسنها كل رجل بل كل امرأة وكل طفل.
وأما الطريق الثاني معاشر المؤمنين, والذي فيه العلاج والذي فيه الحل لهذه الأزمات والنكبات, طريق لا يقدر عليه إلا المخلصون, ولا يقدر عليه إلا الصالحون, ولا يقدر عليه إلا من صدقوا ربهم عز وجل, طريق معاشر المؤمنين يستلزم عملاً ومجاهدة للنفس, طريق لابد لسالكها أن يجاهد شهواته, وأن يجاهد نفسه, وأن يعمل بما يعلم, وحينما يتحقق النصر معاشر المؤمنين, ولا يستطيع حينها أعداء الله أن يقفوا أمام هذا الطريق الذي سلكه الأنبياء وسكله أتباعهم من بعدهم.
معاشر المؤمنين: إن الطريق يبدأ بالعمل, فديننا دين عمل ليس الإيمان بالتمني, وليس الإيمان قولاً يقال, يقول الله عز وجل: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم , فاشترط جل وعلا لحدوث نصره وتثبيت أقدام المؤمنين, اشترط سبحانه وتعالى أن تنصره أولاً, ونصر الله يكون بتطبيق شرعه, ونصر الله يكون بالتزام أمره, ونصر الله يكون باجتناب نهيه والبعد عن سخطه, هذا نصر الله معاشر المؤمنين, فهل نصرت الأمة ربها عز وجل؟! هل أقامت دينه؟.
انظروا ـ رحمني الله وإياكم ـ إلى شرع الله, كم من ديار الإسلام تطبق شرع الله؟ وكم من ديار الإسلام تتحاكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه , بل خلوا عنكم الحكومات والأنظمة, كم من الناس يتحاكمون إلى كتاب الله وإلى شرع الله في بيوتهم, وفي حياتهم, وفي تجارتهم, وخاصة أمرهم, تحاكم المسلمون إلى قوانين وضعها أعداؤنا استبدلوا بها شرع الله عز وجل, بل وحاربوا شرع الله, وعدوا من ينادي بتطبيقه, عدُّوه إرهابيًا ومتخلفًا ويريد أن يرجع بالأمة إلى الوراء.
هذا هو حالنا معاشر المؤمنين, انظروا إلى العبادة التي من أجلها خلقت السموات والرض, وبعث النبيون, ومن أجلها خلق الله الخلق, انظروا إلى العبادة تصرف لغير الله في بعض أقطار الإسلام, مراسم الذبح للأولياء تنقل على الهواء مباشرة, وأما الطواف بالأضرحة والقبور فحدث ولا حرج, يستنجد الناس ويستغيثون بالأموات وغيرهم, هذا حالنا معاشر المؤمنين فكيف ينصر الله عز وجل أمة هذا حالها؟!
ولو تأملنا معاشر المؤمنين حالنا مع ما نهى الله عنه وزجر لوجدنا عجبًا عجابًا, فالناس قد تهاونوا في المحرمات, بل في الكبائر والموبقات استمرؤوها ووقعوا فيها, فكيف لا يتجرأ علينا أبناء القردة والخنازير؟ وكيف لا يسلط الله علينا شر خلقه وقد أعلن المسلمون على الله الحرب, ألم يقل الله تبارك وتعالى محذرًا عباده من الربا فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله , عدوا لي البنوك الإسلامية في العالم الإسلامي, وعدوا بنوك الربا ودوره, تجدون الجواب معاشر المؤمنين: استحل الناس الربا بأنواعه ووقعوا فيه بأنواعه واعتمدوا على فتاوي ضالة أصحابها لا ثقل لهم عند أهل العلم, وقع الناس في الربا معاشر المؤمنين, سيارتهم عن طريق الربا, بيوتهم بقروض ربوية, وأما تجاراتهم واعتماد صفقاتهم فحدث ولا حرج, فكيف تنصر أمة معاشر المؤمنين أعلنت الحرب على خالقها جل وعلا.
إذًا طريق العمل وطريق الرجوع إلى الله عز وجل يستلزم مجاهدة ويستلزم عملاً وتوبة وإنابة وهذا هو الذي يتميز به الصادقون والصالحون المخبتون , وانظروا إلى الصلاة رحمكم الله, الصلاة التي هي عماد الدين, انظروا إلى قدرها في نفوس المسلمين, لا تنظروا إلى دياركم فإنها ديار إسلام يختلف فيها الوضع عن كثير من الديار, انظروا إلى هذه الصلاة, المسلمون كثير منهم ـ إلا من رحم الله ـ لا يصلون الخمس ولا يقيمونها فضلاً عن شهود الجماعات والجمع, فكيف ينصر الله عز وجل أمة لا تقيم للصلاة وزنًا, تقام الصلاة فيصلي في المساجد ومن في الشوارع في دول الإسلام أكبر ممن في داخل المسجد, بل انظروا إلى هذه الشعيرة التي يقول عنها ابن القيم عن يوم الجمعة وهي من آكد فروض الإسلام, يوم الجمعة هذا الذي يقول عنه رسول الله أنه أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر, انظروا إلى تأخر الناس في الحضور وهم يعلمون أن لهذه الصلاة ملائكة يجلسون عند الباب يكتبون الأول فالأول فإذا دخل الإمام طوت الملائكة صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر, كيف يعظم الناس هذه الشعيرة؟ أيبكرون لها؟ أيحرصون على الدخول قبل الإمام.
وانظروا رحمكم الله إلى أهل اللعب والفسق, انظروا كيف يبكرون إلى لعبهم, أسمعتم بمباراة تبدأ والجمهور لم يحضر بعد؟ أم سمعتم بحفلة غنائية تقام والجمهور لم يحضر بعد؟ هذا حال أمتنا فينبغي إذاً معاشر المؤمنين أن نكون كالمريض الحكيم الذي يستمع إلى طبيبه وهو يشخص له مرضه فيستمع إلى ما به من عاهات وآفات ويستعد للعلاج حتى ينجو بنفسه, فنحن معاشر المؤمنين تركنا شرع الله عز وجل ووقعنا في المنكرات والموبقات وأكلنا الربا وقصرنا في آكد فروض الإسلام في الصلوات والجمع والجماعات, وأما المنكرات فحدث ولا حرج, فأما الغناء الذي بين لنا نبينا أنه ظهوره وشيوعه يؤذن بحصول الخسف والمسخ والقذف فقد شاع وكثر, ألم يقل فيما ثبت وصح عنه: ((يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف, قيل: متى يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمور )).
فأمتنا معاشر المؤمنين مهددة بالخسف والمسخ والقذف من السماء إذا ظهرت المعازف, إذا انتشرت المعازف وظهرت القيان ـ جمع قينة وهي المرأة المغنية ـ فيقول إذا أتى هذا الزمان الذي تكثر فيه المغنيات وتكثر فيه آلات المعازف وتشرب فيه الخمور التي تدار الآن على كثير من طائرات الدول الإسلامية ـ حتى في الجو يسكرون ويشربون الخمور ـ حينها يكون خسف ومسخ وقذف, فكيف لا يسيطر على العالم أحفاد القردة والخنازير, والموحدون هذا حالهم؟! وهذا وضعهم.
إذن معاشر المؤمنين الطريق الآخر طريق يستلزم جهادًا للنفس, وجهاد السيف لا ينتصر إذا لم يسبقه جهاد النفس وكبح لها عن شهواتها وعن ميولها وتمسكها بهذه الحياة الدنيا وتعلقها بها لابد أن تعلموا هذا معاشر المؤمنين؛ فالله عز وجل اشترط هذا فقال: إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقداكم , واشترط أيضًا فقال: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر , كم من الناس اليوم يحب الأمر بالمعروف ويحب النهي عن المنكر؟ كم من الناس اليوم يجل أهل الأمر بالمعروف وأهل النهي عن المنكر؟ بل كم من الناس اليوم يحاربهم ويهزأ بهم ويسخر منهم ويجعلهم أحاديث المجالس, فكيف يتحقق النصر معاشر المؤمنين والله عز وجل قد اشترط هذه الأمور وبينها في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
معاشر المؤمنين: الزنا في ديار الإسلام مرخص, الزنا في ديار الإسلام تشد إليه الرحال في هذه الأيام, الزنا انتشر كانتشار النار ـ بل أشد والله ـ في الهشيم, ولعل عوام الناس يعرفون هذا الأمر أكثر من خواصهم, الزنا إذا حل في قرية, وإذا نزلت الفاحشة بقوم ـ كما يقول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ـ نزلت بهم الأمراض التي لم تكن في الأمم من قبلهم, وكأنه يتحدث صلوات ربي وسلامه عليه عن عصرنا وزماننا ((ما ظهرت الفاحشة في قوم إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن في الأمم من قبلهم)).
نعم معاشر المؤمنين هذه عقوبة من الله, ينبغي للناس أن يتعظوا, وأن يتذكروا قوله حين أجاب على سؤال زينب بنت جحش: "أنهلك وفينا الصالحون" قال : ((نعم إذا كثر الخبث)) , وتذكروا أن المدينة زلزلت في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه وما أغفل الناس وما أبعدهم عن التذكر والاتعاظ , فبالأمس القريب كان الذي لا يذبح لضيفه يعد قليل أدب متجنٍ على ضيفه, وبالأمس القريب كان الذي لا يسرف في الولائم ويذبح عشرات الرؤوس من الأغنام يكون قد أتى منكرًا من القول وزورًا, واليوم يجبر الناس في أفراحهم على أن يذبحوا الدجاج فتتبدل النعم سريعًا, ولكن الناس لا يتعظون ولا يتذكرون, فاتقوا الله معاشر المؤمنين وعليكم بالطريق الأمثل, فإن الأقصى لا يستعاد بالتظاهر والهتاف والصياح والنشيج, الأقصى لن يعود إلا بيد رجال, والرجال من أعظم أوصافهم ما وصفهم به ربهم عز وجل في قوله: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.
فأهم ما يتصف به الرجال أن التجارة والبيع ـ وهما قد أحلهما الله, بل وشرعهما ـ لا يلهيان الرجال عن ذكر الله ولا عن إقام الصلاة, والرجال اليوم يلهيهم لا أقول الحلال بل الحرام عن ذكر الله وإقام الصلاة.
فهذا طريق المخلصين فإذا أردت أن تكون منهم ـ ويجب أن تكون أيها العبد المؤمن ـ فعليك بسلوكه, انصر الله عز وجل, احفظ الله عز وجل ينصرك الله ويحفظك, طبق شرعه, امتثل أمره, اجتنب عن نهيه تكن قد أسهمت في نصرة أمتك, وفي استعادة أولى القبلتين, فإن الله عز وجل أخبر أنها تعود لمن كان المسجد همه, وليست الأرض ولا العاصمة ولا الحدود وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين وإمام الأنبياء والرسل أجمعين سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين وأصحابه والتابعين ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
معاشر المؤمنين فما أكثر صور المآسي والانتهاكات التي يراها المسلم ويسمع عنها ويشاهدها ربما حية على الهواء في عصر الإتصالات وعصر التقنيات, ولعل من أبشع هذه المناظر التي لا أظنها تغيب عن ذاكرة المسلمين ولا تغيب عن مخيلة عقلائهم, وعن مخيلة أبنائهم وأطفالهم صورة ذلك الطفل الذي قتل بجوار أبيه أمام العالم.
ولي وقفة معاشر المؤمنين حول هذا الموضوع, لن أتحدث عمن قتلوه, فالذي يقتل أنبياء الله ورسله ويذبح أنبياءه وهو يعلم أنهم رسل من عند الله يذبح من دونهم, ولن أتحدث عن سكوت العالم فقد اعتاد المسلمون عليه, ولكني أتحدث عن ذلك الطفل الشجاع, وعن حال أطفالنا في ذلك العصر والزمان, أتظنون أيها الآباء وأنتم يا معاشر الشباب والأطفال أن ذلك الطفل ابن التاسعة الذي لم يخف من صوت الرصاص والقنابل أتظنونه كان يحفظ أسماء اللاعبين كما يحفظها أبناؤنا, أتظنون ذلك الطفل الذي قتل أمامكم يعرف أسماء الممثلين والمغنيين كما يعرفها أبناؤنا, أتظنون أن معايير النصر والانتصار عند ذلك الطفل تكون بانتصار فريق أو انتصار منتخب, إن ذلك الانتصار عند ذلك الطفل ـ معاشر المؤمنين ـ أن يصيب يهوديًا في رأسه وأن يهز اليهود بحجارته, والانتصار عند أطفالنا أن تهز الشباك وأن تزداد النقاط لفريقه الذي يحبه, تقوم الدنيا ولا تقعد ويفرح المسلمون ويبتهجون إذا حققوا حديدة سموها فضية أو ذهبية هذا هو حال أمتنا, حال رجالهم قبل صغارهم, فالذي يأسى على ذلك الطفل عليه أن يأسى على أطفالنا أولاً, ومعايير ذلك الطفل ـ لا أعرفه ـ ولكنني أكاد أجزم أنه لا يملك حاسوبًا, ولا يملك ألعاب ولا يملك تراهات وتفاهات كتلك التي أمتلأت بها بيوتنا.
لما زُف الخبر إلى أمه قالت: أنجب غيره عشرين, وهذا حالهم معاشر المؤمنين ونجد من أبناء الموحدين من يقول أكتفي بولد واحد وبنت واحدة, وأكرس حياتي لهما ((تناكحوا تكاثروا فإني مباهِ بكم الأمم يوم القيامة)) ذلك الطفل معاشر المؤمنين الذي قتل أمامنا جعلنا نشعر أننا نحن الأطفال لأنه مات ـ نسأل الله له الشهادة ـ على يد أعداء الله وعلى مرأى من المسلمين, ونحن معاشر المؤمنين بعد ما يرى المسلمون ما يحدث له يتقلبون بين القنوات فلا يمنعهم ذلك المنظر من متابعة فيلم, أو مشاهدة مباراة, ولا يمنعهم ذلك المنظر أن يستمروا في معصيتهم وبعدهم عن الله عز وجل, فاعتبروا يا أولي الأبصار, واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله عز وجل مسخ قلوب بني إسرائيل وجعلها أشد قسوة من الحجارة لما رأوا الآيات والنذر التي توجب لين القلوب, فلما لم تلن أحيا الله أمامهم الميت فقلنا اضربوه ببعضها قام وتكلم وأخبر عن القتل فلم يؤمنوا ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة , ثم زكى الله عز وجل الحجارة وبين أن منها ما يلين, ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء, وقلوب العباد لا تلين ولا تشقق ولا يخرج من عينها الدمع.
فاتقوا الله عز وجل معاشر المؤمنين واعلموا أن الصادق الذي يريد المسجد الأقصى عليه أن يعمل, عليه أن يراجع حساباته مع ربه في عبادته وطاعته وقربه في نفقاته في إسرافه, في تعلقه بالدنيا, في تربيته لأبنائه إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ألا وصلوا وسلموا على إمام المجاهدين وسيد الخلق أجمعين نبينا محمد فإنه من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا, ومن صلى الله عليه أخرجه من الظلمات إلى النور, اللهم صل وسلم وبارك وأنعم وأكرم على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله, وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بفضلك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
(1/1304)
المؤذن الأول
سيرة وتاريخ
تراجم
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبق بلال إلى الإسلام. 2- المحبة المتبادلة بين بلال والنبي. 3- ثبات بلال على الإسلام
رغم التعذيب. 4- شيء من فضائل بلال ومواقفه مع النبي. 5- امتناع بلال عن الأذان بعد
موت حبيبه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
من هو المؤذن الأول؟ من هو أول من صدع بصوت الحق؟ على منارة الحق، في دنيا الحق؟
إنه المولى الضعيف المسكين، الذي رفعه هذا الدين، فأصبح من ورثة جنة النعيم.
بلال بن رباح، اسم يحبه المؤمنون، وصوتٌ تتعقشه آذان الموحدين.
ولابد للمسلم أن يولد ميلادين، وأن يعيش حياتين؛ الميلاد الأول: يوم ولدته أمه. والميلاد الثاني: يوم ولد في هذا الدين.
وبلال وأرضاه، ولد ميلادين، وعاش حياتين، ولد مولى، أسره الجبابرة، وسلطوا عليه سياط العنف والكبر والعنجهية، فكان لا حساب له، ولا رأي، ولا تأثير في الحياة، وأخذ إلى مكة مفصولاً معزولاً عن أهله وأمه، وعاش في مكة، عبداً ذليلاً.
وفجأة، صدح الرسول عليه الصلاة والسلام بالحق هناك من على الصفا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وذهب عليه الصلاة والسلام إلى سادات مكة، يدعوهم إلى الحق، فكفروا به، وكذبوه وآذوه وشتموه، فأنزل الله عليه واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [الكهف:28]. لا عليك من هؤلاء الكبار، إنهم صغار عند الله لا تعبأ بهم، ولا تعطهم شيئاً من وقتك، ما دام هذا صنيعهم، ولا تظن أن الإسلام سوف ينتصر على أكتاف هؤلاء المتكبرين. ولكن كن مع الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة، كن مع المساكين الفقراء، كن مع الضعفاء والمستضعفين، ابحث عنهم، وقربهم من مجلسك.
وبدأ الرسول يبحث عن هؤلاء، فوجدهم في عالم الضعف، وعالم الذل، وعالم المسكنة، وكان بلال أحد هؤلاء.
رأى بلال محمداً عليه الصلاة والسلام في القلوب هو الحب، لقد فجر محمد أنهار الحب في قلوب أصحابه، حتى كان الواحد منهم في المعركة، يقدم صدره أمام صدر الرسول، عليه الصلاة والسلام، ويتمنى أن ينشر جسمه بالمناشير، ويقطع إرباً إرباً، ولا يشاك رسول الله بشوكة، ويقول: نفسي لنفسك الفداء يا رسول الله.
إنه الحب الذي جعله الله في القلوب لهذا النبي العظيم، أحب بلالٌ محمداً عليه الصلاة والسلام حباً استولى على سمعه وبصره وقلبه، فأصبح يتحرك بحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، يأكل وشخص الرسول عليه الصلاة والسلام أمام عينيه، ويشرب والرسول ماثلٌ أمامه، ولسان حاله يقول:
أحبك لا تسأل لماذا لأنني أحبك هذا الحب رأيي ومذهبي
ويقول أيضاً:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسّر ماذا الهوى لا يُفسّر
فلما أحبه شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأحب الدين؛ لأنه دين يكره الرقّ والعبودية لغير الواحد الأحد، ويكره الظلم ويحارب الظلمة.
فلما أسلم بلال ، اجتمع عليه الجبابرة، وأذاقوه أليم العذاب؛ ليترك لا إله إلا الله فأبى، سجنوه، ضربوه، قيدوه بالحبال، جروه من قدميه، يأكل الحصى من لحمه وعظمه، ألقوه في الصحراء في حر الظهيرة والشمس ملتهبة؛ ليعود إلى الكفر فأبى، وقالها كلمة خالدة أبدية: أحدٌ أحد.
من هو الواحد الأحد؟ هو الذي أرسل هذا الرسول، وأوجد هذا الإنسان، وفرض هذا الدين.
لطموه على وجهه، فارتفع صوته متأثراً ثائراً مجروحاً: أحدٌ أحد، ضربوه بالسياط حتى أكلت السياط من لحمه ودمه وهو ينشد: أحد أحد. قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد [الإخلاص:1-4].
إنها إرادةٌ ينثني لها الحديد، إنها المعجزة الكبرى التي أتى بها رسولنا ، كيف حول هؤلاء الأعراب والموالي والرقيق، من أناس فقراء مستضعفين، إلى كتائب تزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
يقول إقبال شاعر الإسلام:
وأصبح عابدو الأصنام قدماً حماة البيت والركن اليماني
ومر أبو بكر أمام بلال وهو يعذب، فقال لمولاه أمية بن خلف المجرم: أشتريه منك يا أمية، فقال أمية: خذه ولو بعشرة دنانير. قال أبو بكر: والله لو جعلت ثمنه مائة ألف دينار لاشتريته منك، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، فأنزل الله: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحدٍ عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:17-21]. أعتقه أبو بكر ، وهو لا يريد منه جزاءً ولا شكوراً، ثم ذهب به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ممزق الثياب، يتساقط دمه ولحمه من شدة التعذيب، فأخذه عليه الصلاة والسلام واحتضنه، كما تحتضن الأم طفلها، ودعا له، وعيّنه مؤذّنه الأول، أول مؤذن في التاريخ.
فكان كلما حان وقت الصلاة قام بلال يهتف: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. فتنتفض أجساد المؤمنين عند صوته، كما ينتفض الجسد إذا صدمه تيار الكهرباء!!.
وكان كلما أهمّ الرسول، ، أمرٌ، أو أصابه كرب، نادى بلالاً: ((أرحنا بها يا بلال)) [1] ، فيؤذن بلال للصلاة.
كان يأتي للرسول، ، بماء الوضوء والعنزة، وكان يأخذ حذاءه في يده، ويرى أن ذلك شرف لا يعدله شرف.
وكان عليه الصلاة والسلام يحبه ويدنيه منه، وسرى هذا الحب في قلب بلال، فعوضه عن كل شيء، عن أهله في الحبشة، وعن أقربائه وجيرانه وتاريخه هناك، ولكن كفى بحب محمدٍ عليه الصلاة والسلام.
وفي ذات يوم قال عليه الصلاة والسلام لبلال: ((حدثني بأرجى عملٍ عملته في الإسلام، فإني سمعت دفّ نعليك بين يدي في الجنة)).
الله أكبر، أي جائزة أعظم من أن يعرف إنسان أنه من أهل الجنة، وهو لا زال يعيش في هذه الدنيا.
فيجيب بلال رسول الله، ، قال: ((ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهّر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كُتب لي أن أصلي)) [2].
بلال من أهل الجنة، شهد أهل السنة بذلك، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، شهد له بذلك.
كان خفيف الجسم، ممشوق القامة، لونه أسود، وهذه قضية لا قيمة لها ولا وجود لها في الإسلام.
وكّله عليه الصلاة والسلام، في غزوة من الغزوات بحراسة الجيش وقال: ((من يوقظنا للصلاة؟)) قال بلال: أنا يا رسول الله، فنام الجيش وقام بلال يصلي طيلة الليل، فلما كان قبيل الفجر، حدث بلال نفسه بأن يضطجع قليلاً ليستريح، فاضطجع، فنام، وأتت الصلاة، والرسول عليه الصلاة والسلام نائم، والجيش نائم، حتى طلعت الشمس، وكان أول من استيقظ بعد طلوع الشمس، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب ، فرأى هذه المأساة، التي حدثت لأول مرة، وفي ذلك حكمة، وهي عذر من غلبته عيناه فلم يستيقظ حتى طلعت عليه الشمس.
يستيقظ عمر، ويقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستحي أن يقول للمعلم العظيم: قم للصلاة، فالتلميذ يصعب عليه أن يقول ذلك لأستاذه، والطالب يستحي أن يقول ذلك لمعلمه، فأخذ عمر يقول – والرواية في البخاري -: الله أكبر.. الله أكبر، ويعيد التكبير، حتى استيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام، فدعا حبيبه ومؤذنه بلالاً وأجلسه أمامه، وقال له: ما أيقظتنا. قال يا رسول الله: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أذّن بلال بعد طلوع الشمس، وصلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وصلى أصحابه معه [3].
بينما كان الصحابة رضوان الله عليهم، يجلسون في مجلس، فإذا أبو ذر يعير بلالاً بأمه، قال له: يا ابن السوداء!! وهل في دستور الإسلام حمراء وسوداء وبيضاء، من هو الكريم عندنا، من هو المعظّم في هذه الملة إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13]. إننا لا نعرف بالألوان، ولا بالأجناس، ولا باللغات، ولا بالبلدان، إنما نعرف بلا إله إلا الله، وبمقدار عبوديتنا لله عز وجل.
فغضب بلال من أبي ذرّ، وقال له: والله لأرفعنك إلى خليلي عليه الصلاة والسلام، ورفع أمره إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فغضب غضباً شديداً وقال له: ((أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية)) [4].
إن رسول الله يؤسس منذ أن بدأ دعوته هذا المبدأ إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا مال، ولا جاه، ولا نسب، ولا لون، ثم تأتي يا أبا ذر فتهدم ذلك كله: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) هكذا قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فلماذا نعير الناس بأجناسهم، أو ألوانهم، أو قبائلهم، إن هذه خطيئة كبرى في الإسلام، بل هي هدم للقواعد التي بني عليها هذا الدين.
ومضى بلال ولم يزدد مع الأيام إلا رفعة، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يحبه.
يصلي الرسول عليه الصلاة والسلام العيد، ثم يتكئ على بلال، ويذهب فيخطب في النساء وهو متكئ على بلال لأنه يحبه [5].
وفي اليوم المشهود، يفتح الرسول عليه الصلاة والسلام مكة في عشرة آلاف من أصحابه، يدخل فاتحاً منتصراً، فيرى الأصنام التي كانت تعبد من دون الله، فيشير إليها بعصاه فتتناثر، وتتساقط، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً [6] [الإسراء:81].
وتحين صلاة الظهر ويجلس الناس جميعاً في صرح الكعبة المشرفة، ويقول عليه الصلاة والسلام أين بلال؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: اصعد الكعبة وأذن من فوقها!! سبحان الله، أليس هذا رفعاً لرؤوس المستضعفين، أليس هذا هو العدل بعينه، أن يقوم المولى الأسود يعتلي بيت الله بأقدامه، ليهتف بنداء الحق.
أين أبو جهل؟ في النار! أين أبو لهب؟ في النار! أين أبو طالب؟ في النار!
وصعد بلال واستوى على الكعبة ليخاطب الدنيا بشهادة الحق إلى يوم الدين، فلما أذن بكى الناس، ومن الذي يرى هذا المشهد، ويرى هذه الصورة، ويسمع هذا الصوت، ويعيش هذه التفاصيل، ثم لا يبكي، شيء عجيب يوم الفتح الأكبر، الفاتح رسول الله عليه الصلاة والسلام، الدين الإسلام، المؤذن بلال، من بلال؟ المولى الأسود، وأين يؤذن؟ على سطح الكعبة المشرفة، وكان صوته جميلاً ندياً، يشجي القلوب، وتطرب له الآذان.
وبكى رسول الله عليه الصلاة والسلام، سالت دموعه، لأنه تذكر المعاناة، تذكر الأيام العصيبة التي عاشتها هذه الطائفة المؤمنة، وتذكر فضل الله عليه وإنعامه بهذا النصر المبين، لقد انتصر محمد ، وها هو مولاه وحبيبه الذي كان مطارداً معذباً مهاناً، أصبح المؤذن الأول في التاريخ، وها هو صوت بلال يجلجل في هضبات مكة وأوديتها، يزلزل الدنيا بلا إله إلا الله.
ولكن بعض الذين انتكست عقولهم، ممن لا يزال على الشرك يقول في كبر وعتو: لا أظن أن الحياة تطول بي حتى أرى ذلك العبد الأسود ينعق كالغراب على الكعبة!!.
تبا لك أيها المجرم الأثيم، أتشبّه هذا السيد بغراب ينعق؟ إنها عنجهية الكفر، وحب العلو الذي يسيطر على كثير من العقول إلى يومنا هذا.
وفجأة يموت الإمام، ولك أن تتصور رجلين محابين، معلم وتلميذ، إمام ومؤذن، عاشا الحياة معاً، حلوها ومرها، سهلها وصعبها، ليلها ونهارها، وفجأة يموت الإمام، مات عليه الصلاة والسلام إنك ميت وإنهم ميتون [الزمر:30].
لقد أظلمت الدنيا في عين بلال أمات النبي عليه الصلاة والسلام؟ نعم، إلا أن دينه لم يمت، وعلى المؤذن أن يستكمل الطريق.
ومع بزوغ الفجر، قام بلال ليؤذن، قام ليؤدي مهمته التي كلفه بها رسول الله ، وبدأ بلال يؤذن: الله أكبر.. الله أكبر.
ثم ينظر إلى المحراب فيجده خالياً من الإمام، فيلتفت إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنه ليس فيه، أصبح وحيداً، لا شيخ، ولا إمام، ولا رسول، فكيف يستطيع أن يكمل، بأي عبارة يؤدي، أين صدره، أين قلبه، أين كيانه، ثم تحامل على نفسه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن أتت قاصمة الظهر، أتت المعضلة التي لا يستطيع بعدها أن يتكلم ولو بكلمة واحدة، قال: أشهد أن محمداً.. ولم يستطع أن يكمل، بكى بكاءً شديداً، وبكى الناس جميعاً في بيوتهم في المدينة، النساء والأطفال، والشيوخ بكى المؤذن اختنق صوته، لم يستطع أن يكمل، فنزل ورمى بجسمه على الأرض.
أين الإمام؟ مات الإمام، وبقي المؤذن.
أين الحب؟ ذهب الحب والعطف والرحمة.
إنها قاصمة الظهر.
وحضر الصحابة ليشاهدوا ذلك المنظر، منظر المؤذن وهو ملقى على الأرض، يبكي بكاء الثكلى.
مالك يا بلال، قال: لا أؤذن.
أتاه أبو بكر الخليفة: قال مالك؟ قال لا أؤذن لأحد بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالوا: سبحان الله، من يؤذن لنا؟
قال: اختاروا لكم مؤذناً، وحمل إلى بيته.
بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
امتنع بلال عن الأذان، وذهب إلى بيته، وتبقى بقيةٌ أكملها في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود (4/296) رقم : (4985 ، 4986) ، وأحمد (5/364 ، 371) وصححه الألباني ، كما في صحيح الجامع رقم : (7892).
[2] أخرجه البخاري (2/48) ومسلم (4/1910) رقم (2458).
[3] انظر صحيح البخاري (4/168 ، 169) ، وصحيح مسلم (1/474 ، 475) رقم (682) ، وسنن أبي داود (1/118 ، 119) رقم : (435).
[4] أخرجه البخاري (1/13) ومسلم (3/1282 ، 1283) رقم : (1661) وليس فيهما ذكر لبلال ولفظلهما : أن أبا ذر عير رجلا بأمه)).
[5] حديث اتكاء الرسول على بلال في خطبة العيد ، أخرجه مسلم (2/603) حديث رقم (885).
[6] أخرجه البخاري (92 ، 93) ، ومسلم (3/1408) رقم (1781).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فلازال الحديث مع بلال ولازال الحب لبلال ولا زال الذكر لبلال.
انتهى الفصل الأول، وقد أعفى خليفة المسلمين أبو بكر الصديق بلالاً من الأذان، تركه الصديق ليرتاح، لأن الإمام قد مات.
وتمر الأيام، ويفتح الله على المسلمين الفتوح، ويذهب بلال يشارك بروحه وجسمه ونفسه في إعلاء كلمة لا إله إلا الله، يصل إلى الشام فاتحاً مقاتلاً، يجاهد المشركين، ويعلم الناس دينهم، وينتظر المنية حتى يلحق بحبيبه في الجنة.
وهنا مواقف مؤثرة، سجلها التاريخ، ووقف أمامها، وأنصت لها.
جاء عمر من المدينة بدابته ومعه مولاه، ليدخل بيت المقدس، يذهب إلى هناك بثوبه الممزق المرقع، ولكنه يحمل الدنيا في يديه.
قل للملوك تنحّوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يأتي بهذا الثوب، ليصف العدل، ويمثل حقوق الإنسان، ويظهر الرحمة والقوة في آنٍ واحد.
ويجتمع المؤمنون لهذا الفتح العظيم، الصحابة، وكبار الصحابة، وأهل العهد المكي، وأهل بدر، وأهل بيعة العقبة، أساتذة الدنيا كلّها، جاءوا لحضور هذا اليوم المشهود وتحين صلاة الظهر، فيتذكر عمر تلك الأيام الخوالي، التي عاشوها مع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول عمر لبلال رضي الله عنهما: أسألك بالله يا بلال أن تؤذن لنا.
فقال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: أسألك أن تذكرنا أيامنا الأولى.
فقال الصحابة: يا بلال اتق الله، سألك أمير المؤمنين.
فقام بلال، يتحامل على جسمه، فقد أصبح شيخاً كبيراً، وارتفع صوته بالأذان، فإذا بصوت عمر يسابقه بالبكاء، ثم بكى كبار الصحابة، وبكى الجيش كله، وارتج المسجد الأقصى بالبكاء.
إن بلالاً ذكرهم شيئاً، ذكرهم تاريخاً، ذكرهم معلماً وقائداً أحبهم وأحبوه، فلا إله إلا الله ما أعظم الذكريات، ولا إله إلا الله ما أجمل تلك الأيام عاشها أولئك المؤمنون، يتمتعون برؤية نبيهم عليه الصلاة والسلام، ويتلقون عنه الوحي من السماء.
وعاد بلال إلى الشام، وانقطع عن المدينة، بعد أن خلت من نبيها عليه الصلاة والسلام، وأصبح بلال شيخاً كبيراً، وفي ليلة من الليالي، وبينا هو نائم، زاره الرسول في النوم، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الصحيحين: ((من رآني في المنام فقد رآني)) [1] ، ويقول: ((من رآني في المنام فسوف يراني فإن الشيطان لا يتمثل بي)) [2].
رأى بلال حبيبه، رأى شيخه، رأى الإمام، رآه بصورته، رآه بنوره وبشاشته يحاسبه ويعاتبه، هجرتنا يا بلال، ألا تزورنا، ما أعظمها من كلمات.
لعل عتبك محمودٌ عواقبه وربما صحّت الأجسام بالعلل
أو كما قيل:
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم وجاننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحّلت عن قومٍ وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
هجرتنا يا بلال... ألا تزورنا في المدينة!!
واستيقظ بلال باكياً وسط الليل، وتوضأ، وصلى ركعتين، وأسرج راحلته لأنه لا يستطيع أن يتأخر عن أمر النبي عليه الصلاة والسلام، حياً كان أو ميتاً، لبيك يا رسول الله.
ركب بلال ناقته، وذهب إلى حبيبه عليه الصلاة والسلام، مشى وسط الصحاري والقفار.
جزى الله الطريق إليك خيراً وإن كنا تعبنا في الطريق
وصل بلال إلى المدينة ليلاً فوجد الناس نياماً، وأتى الروضة فسلم وبكى، وعاش في عالم من الذكريات والعبر والدروس، ثم حان أذان الفجر، ولحكمة يعلمها الله تبارك وتعالى، تأخر مؤذن المدينة، وتحرج بلال فهو لا يستطيع أن يترك الناس نياماً حتى تفوت عليهم الصلاة.
فصعد المنارة وأذن للصلاة، حتى إذ وصل إلى محمد رسول الله، انفجر بالبكاء، وقام الناس من المدينة، وأخذوا يبكون مع بكاء بلال.
وتتكرر المشاهد، وتتلاقى الصور، ويأتي بلال من جديد، يعانق أحبابه وأصحابه ويعانقونه، في مشهد عظيم من مشاهد الحب والوفاء.
وانتهت مهمة بلال في المدينة، لقد أتى لمهمة خاصة، ليجيب دعوة خاصة، من حبيب خاص، وعاد إلى الشام، وهناك أتته المنية فأخذ ينشد وهو في سكرات الموت.
غداً نلقى الأحبة محمد وحزبه
ومن الذي لا يفرح، وهو يعلم أنه بعد لحظات، سوف يلقى محمداً عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر وعمر، والأخيار من الناس. نعم...
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه
ومات بلال...
يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي [الفجر:27-30].
وفي قصة المؤذن الأول دروس:
أولاً: إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
فالقرشي الذي عارض الرسالة في النار، والحبشي الذي آمن بالرسالة في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
ثانياً: إن هذا الدين لا ينتصر بكثرة العدد، ولا يعتمد على أصحاب المناصب والهيئات والأموال، ولكنه يبقى مكانه، ويأتي إليه من يحبه، يقول أبو جهل: كيف يهتدي بلال وأنا سيد بني مخزوم، وهو عبد حبشي لو كان خيراً ما سبقونا إليه [الأحقاف:11]. والجواب: الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام:124]. أليس الله بأعلم بالشاكرين [الأنعام:53]. بلى.
ثالثاً: تظهر من قصة بلال وغيرها من قصص الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حنكة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعرفته بالفروق الذاتية لكل إنسان، واختلاف المواهب الشخصية والاستعدادات النفسية بين صحابي وآخر.
فقد أعطى الأذان لبلال لأنه الأصلح لذلك، وأعطى الراية لخالد في المعركة لأنه سيف الله المسلول، والخلافة لأبي بكر، والقافية والأدب لحسان، ومدرسة الفرائض وتوزيع المواريث لزيد بن ثابت، والقضاء وهيئة الاستشارة لعلي بن أبي طالب: قد علم كلّ أناسٍ مشربهم [البقرة:60]. وهذا الأمر يفوت على كثير من المربين والدعاة والمعلمين.
رابعاً: إن مبادئنا تبدأ من بلال وإنها تعلن صريحة قوية من على المنابر، فليس عندنا أسرار، ولا شيء نخفيه ونتكتم عليه، بل نحن واضحون وضوح الشمس في النهار، قال تعالى: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين [الحجر:94].
خامساً: من أراد أن يهدي الناس، فليزرع في قلوبهم الحب أولاً، فإذا استطاع ذلك ملك زمام القلوب، فليفعل بها ما يشاء.
وإن من يتصور أنه سوف يهدي الناس بالعصا، وسوف يسوقهم بالضرب والشتم، فقد أخطأ سواء السبيل، وقد أفلت الناس من يديه فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [آل عمران:159].
إن سر نجاح دعوته عليه الصلاة والسلام، أنه جعل الناس يحبونه حباً، تتقطع له القلوب، وتنقاد له الأجساد، فقد كان أباً لليتامى، ومعيناً للأرامل والمساكين فأحبته القلوب، وعشقته الأفئدة، وانقادت له الأبدان.
عباد الله:
صلوا على الإمام، وترحموا على المؤذن، اللهم صلّ وسلم على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري (8/71) ومسلم (4/1775 ، 1776) رقم (2266).
[2] أخرجه البخاري (8/71) ومسلم (4/1775) رقم (2266).
(1/1305)
المعصوم يضحك
سيرة وتاريخ
الشمائل
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الضحك والتبسم صورة من صور اعتداله. 2- صور تبسم فيها رسول الله أو ضحك.
3- أخذ العظة والعبرة من هذه المواضع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة ((المعصوم يضحك))، محمد عليه الصلاة والسلام يضحك، نعيش معه هذا اليوم ضاحكاً، كما عشنا معه أياماً وهو باكٍ متأثر خاشع لله – عز وجل-.
من الذي أضحكه ، إنه الله الواحد الأحد، وأنه هو أضحك وأبكى [النجم:43].
وماله لا يضحك عليه الصلاة والسلام ودينه رحمة، ومنهجه سعادة، ودستوره فلاح.
لقد عشنا معه عليه الصلاة والسلام في مواطن التأثر باكياً، تدمع عيناه وينجرح فؤاده، ونعيش معه اليوم وهو يهشّ للدعابة، ويضحك للطرفة، ويتفاعل مع أصحابه في مجريات أمورهم وأحاديثهم.
إن مدرسة التصوف تملي على منسوبيها ألا يضحكوا، يقول أحدهم: ما ضحكت منذ أربعين سنة. لكن الإمام الأعظم، والقائد الأكمل يضحك في مواطن من حياته.
وضحكه ، له مقاصد، ضحك نافع، يربى بالبسمة، ويدرّس بالضحك، ويعلم بالمزحة. فتعالوا نستمع إلى أحاديثه عليه الصلاة والسلام وهو يضحك:
ضحكت لك الأيام يا علم الهدى واستبشرت بقدومك الأعوام
وتوقف التاريخ عندك مذعناً تملي عليه وصحبك الأقلام
أضحك لأنك جئت بشرى للورى في راحتيك السلم والإسلام
أضحك فبعثتك الصعود وفجرها ميلاد جيلٍ ما عليه ظلام
روى أحمد في المسند بسند صحيح، والبيهقي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام، ركب حماراً له يدعى يعفور، رسنُه من ليف، ثم قال: ((اركب يا معاذ)) ، فقلت: سر يا رسول الله، فقال: ((اركب، فردفته)).
وعليكم أن تستحضروا هذه الصورة؛ من هو الراكب، إنه محمد الذي أخرج البشرية من ظلمات الشرك نالى نور التوحيد، يركب الحمار، ويردف خلفه تلميذاً نجيباً من تلامذته.
قال معاذ: فردفته، فصرع الحمار بنا.
سقط الحمار، وسقط النبي، وسقط معاذ - فماذا فعال النبي.
قال معاذ: فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً. قام يضحك.. رسالته مليئة بالبسمة، والبشرى، والرحمة لكل إنسان، يفيض على محبيه بشاشة، ويقربهم من السعادة بكل صورها، يقول جرير بن عبد الله: والله ما رآني رسول الله إلا تبسم في وجهي.
قال معاذ: فقام النبي يضحك، وقمت أذكر من نفسي أسفاً فعل ذلك الثانية، والثالثة، فركب، وسار بنا الحمار، فأخلف يده، فضرب ظهري بسوط معه أو عصا ثم قال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد؟)) فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال: ثم سار ما شاء الله، ثم أخلف يده، فضرب ظهري، فقال: ((يا معاذ، يا ابن أم معاذ، هل تدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؛ أن يدخلهم الجنة)) [1].
أيها الناس:
إن هذا الإنسان، الذي حرّم على نفسه وأطفاله وأهله البسمة والضحكة، معتذراً بمشاغل الحياة وآلام الدهر، نقول له: إن من كان يحمل هموم البشرية كلها، ويحمل رسالة أبت السماوات والأرض والجبال حملها، محمد عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان يضحك.
تمر بك الأبطال كلْمى هزيمة ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة كما نثرت فوق العروس الدراهم
ويضحك مرة أخرى؛ روى الترمذي، وأبو داود، بأسانيد صحيحة، عن علي بن ربيعة قال: شهدت علياً، وأتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: ((بسم الله)) ، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [الزخرف:13-14]. ثم قال: الحمد ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، فقيل يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي فعل كما فعلت ثم ضحك، فقلت: يا رسول الله، من أي شيء ضحكت؟ قال: ((إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلمُ أنه لا يغفر الذنوب غيري)) [2].
فالرسول يضحك لأن هذه الأمة تعرف ربها، وتتوجه إليه بالدعاء ليغفر ذنوبها، فيضحك النبي رحمةً لهذه الأمة، وفرحاً لأن الله – عز وجل – يغفر الذنوب لكل من استغفر وتاب.
ويضحك، أيضاً كما في صحيح مسلم، فقد روى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل مقبل بوجهه إلى النار [3] فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها [4] وأحرقني ذكاؤها [5] فيدعوا الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره، فيقول لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء الله، فيصرف الله وجه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني غير الذي أعطيتك، ويلك: ابن آدم ما أغدرك!.
فيقول: أي رب، ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت أن أعطيك ذلك أن تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك، يعطي ربه ما شاء الله من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت [6] له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلني الجنة فيقول الله تبارك وتعالى له: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسأل غير ما أعطيت، ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله تبارك وتعالى منه فإذا ضحك الله منه، قال: أدخل الجنة، فإذا دخلها، قال الله له: تمنّه، فيسأل ربه ويتمنى حتى إن الله ليذكّره من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله تعالى: ذلك لك ومثله معه.
قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله، قوله: ذلك لك عشرة أمثاله.
قال ابن مسعود: لقد رأيت رسول الله ، ضحك حتى بدت نواجذه [7].
أيها الناس:
هذه عقيدة ربانية ينبغي الإيمان بها، يضحك الربا تبارك وتعالى، وإذا ضحك، أذن لهذا العبد في دخول الجنة، وأعطاه مثل أعظم ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أمثاله، وهذا أدنى أهل الجنة منزلة، كما قال الناظم.
أقلهم من ملكا من الدنيا مالك وعشرة أمثالها بدون شك
لكنما موطن سوط فيها خير من الدنيا وما عليها
وإنما ضحك الرسول من طمع العبد، ومن نقضه لميثاقه مع ربه، ومن رحمة أرحم الراحمين.
ويضحك الرسول أيضاً يأتيه حبر من أحبار يهود فيقول له: يا أبا القاسم إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول الله تعجباً مما قال الحبر، تصديقاً له، ثم قرأ: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمار يشركون [8] [الزمر:67].
وإنما ضحك عليه الصلاة والسام لأمور:
منها: أن القرآن صدق ما قاله هذا الحبر من أمور القيامة.
ومنها: أن اليهود يعلمون صدق النبي وصدق ما أخبر به، ثم يكذبون على الله، ويكذبون رسوله.
ومنها: التعجب من قدرة الباري تبارك وتعالى.
ومنها: أن العبد مهما بلغت عبوديته لله تعالى، فإنه لا يستطيع أن يوفي الله – عز وجل – حقه، وغير ذلك من المعاني.
هذه وقفات، رأينا فيها رسولنا ضاحكاً، والضحك في حياته كان له مغزى وهدف، لا كضحك السفهاء الفارغين، الذين يعيشون على هامش الحياة، ولكنه ضحك المعلم الحكيم، الذي يريد الناس إلى الخير، ولو عن طريق الضحكة والبسمة.
يذهب النبي فيدخل على أم حرام بنت مِلحان [9] ، فتطعمه، فدخل عليها رسول الله ، يوماً فأطعمته، ثم جلست تغلي رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج [10] البحر، ملوكاً على الأسِرّة، أو مثل الملوك على الأسرة)) – يشك الراوي.
يضحك النبي من ذلك لأنه رأى البشرى، رأى تلامذته وأتباعه وكتيبته، سيركبون البحار والمحيطات؛ غزاة في سبيل الله، ينشرون لا إله إلا الله في الآفاق، ويعبرون بها حدود الزمان والمكان.
يضحك لأن الإسلام سوف ينتشر ويظهر، وينفذ إلى القفار والصحاري، ويصل إلى عباد البقر والشجر والنار والطوطم والصنم.
فقالت المرأة: يا رسول الله، ادع الله أن يجعني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله)) ، كما قال في الأولى قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: ((أنت من الأولين)).
فركبت أم حرام بن ملحان البحر في زمن معاوية [11] ، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت [12].
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
في معابد الإفرنج كان أذانُنا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لئن تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
ماتت هذه المرأة الصالحة، وهي تجاهد في سبيل الله، فكانت شهيدة، ودفنت هناك في أرض غريبة.
عباد الله:
هذه مواطن نعيشها مع إمامنا ، حتى يعرف الناس، أن من صفحاته عليه الصلاة والسلام، صفحة؛ فيها الضحك، وفيها الدعابة، وفيها المزاح، ومسامرة الأهل وملاطفة الناس.
وهذه الصفحة لابد أن يعرفها الناس، وأن يتكلم عنها العلماء والدعاة حتى تعرف البشرية أن في ديننا فسحة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد في المسند (5/238) وقوله: أتدري ما حق الله على العباد.. إلخ ، متفق عليه ، أخرجه البخاري (8/164) ، ومسلم (1/58) ، حديث رقم 030).
[2] أخرجه أبو داود (3/34) ، حديث رقم (2602) ، والترمذي (5/467) ، حديث رقم (3446) وقال: حديث حسن صحيح.
[3] هذا الرجل من أهل التوحيد ، إلا أن له ذنوباً استوجب تعذيبه ما شاء الله ، ثم يدخل الجنة.
[4] قشبني ريحها: أي أهلكني وآذاني.
[5] ذكاؤها: لهبها وشدة اشتعالها
[6] انفهقت : انفتحت واتسعت.
[7] أخرجه البخاري (8/179-181) ، ومسلم (1/163 – 167) ، حديث رقم (182) ، (1/173) ، حديث رقم (186).
[8] أخرجه البخاري (8/202) ومسلم (4/2147-2148) حديث رقم (2786).
[9] اتفق العلماء على أنها كانت محرماً لرسول الله.
[10] ثبج البحر: ظهره ووسطه.
[11] قال القاضي : قال أكثر أهل السير والأخبار: إن ذلك كان في خلافة عثمان بن عفان – - وفيها ركبت أم حرام وزوجها إلى قبرص، فصرعت عن دابتها هناك ، فتوفيت ودفنت هناك ، وعلى هذا يكون قوله: في زمن معاوية ، في زمن غزوة في البحر
[12] أخرجه البخاري (7/140، 141) ، ومسلم (3/1518، 1519) ، حديث رقم (1912).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المعلم المعصوم، والهادي الكريم، والرسول العظيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي هذا السياق، وفي هذا الباب، معنا حديث صحيح متصل، أخرجه الإمام البخاري، في باب: كيف كان عيش النبي وأصحابه، وتخليهم من الدنيا، من كتاب الرقاق، ذكر مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل.
ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي.
عرف النبي أنه يحمل سراً من الأسرار، عرف أن له حاجة، فتهلل في وجهه متبسماً.
تراه إذا ما جئته متهلّلاً كأنك تُعطيه الذي أنت سائله!!
فقال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق، ومضى، فتبعته، فدخل فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانة، قال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: - أي أبو هريرة – وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صدقة، بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتت هدية، أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة، أتقوى به، ولم يكن من طاعة الله، وطاعة رسوله بدٌ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل، فيشرب حتى يروي، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح، فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هرّ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب، فشربت، فما زال يقول: اشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني، فأعطيته القدح، فحمد الله، وسمى، وشرب الفضلة [1].
فالنبي كان يتبسم، لأنه يعلم ما يدور في نفس أبي هريرة، لقد تعرض لأبي بكر وعمر، من أجل أن يشبع فما شبع، ثم تعرض للرسول فأدخله البيت، ورأى اللبن وقلّته، ثم هو يأمره بأن ينادي أهل الصفة، فتتداعى كل هذه المعاني، أمام عينيه ، فيتبسم. ولكنه يريد أن يعلم أبا هريرة، ويعلم الأمة من ورائه مبدأ الإيثار، وتفقد الآخرين، والسؤال عن المساكين، فكان ضحكه ومداعبته، سلوى للمحرومين، وتسلية للمظلومين، وتصبيراً للمعدمين.
وإن تًفُق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعضُ دم الغزال
إن قوماً عاشوا معه، رأوا ابتسامته، وتحيته، ويسره، وسهولته، فتمنوا أن يفقدوا الآباء والأمهات والأبناء والأنفس، ولا يشاك هو بشوكة.
إن جيلاً رباه المصطفى على هذه المعالم، وهذه التعاليم، لجديرٌ بأن يفتح المعمورة، وتدين له الدنيا كلها.
وإذا قارنا بين هذه الصور المشرقة، وبين صور طغاة الأرض، فترى الواحد منهم عليه من الكبر والجبروت والظلمة، ما يجعله بغيضاً إلى النفوس، حتى أن الأجنة في البطون لتلعنهم.
ترى أحدهم ودماء الأجيال تتقاطر من يديه، لا يتكلم معه أحد إلا رمزاً، الجماجم تتناثر عنه يمينه وشماله، البشر عنده في مسلخ العبيد، يتعامل مع الأجيال، كما يتعامل مع البهائم، قوائم من طغاة البشر، يقتلون ويذبحون على مر التاريخ.
لقد رأينا ورأيتم كثيراً من هؤلاء الطغاة الفجرة، وقد قيل عنهم: إنه ما رؤى أحدهم متبسماً أبداً، فهؤلاء نحاكمهم إلى المعصوم، ، وهو يضحك، ونأتي بهم ونوقفهم أمام التاريخ، تاريخ محمد ، ونسألهم أن يتقوا الله – عز وجل – في أنفسهم، وفي رعاياهم، فمحمد يضحك.
أيها الناس:
صلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري (7/179 ، 180).
(1/1306)
بطل المواجهة (علي بن أبي طالب)
سيرة وتاريخ
تراجم
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إسلام علي &. 2- شجاعة علي &. 3- منقبة لعلي يوم تبوك. 4- علي خليفة للمسلمين.
5- مقتل علي على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم. 6- أخلاق النبي. 7- الأدب الواجب
مع النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخيار البررة:
نحن اليوم مع ((بطل المواجهة)) نتكلم اليوم عن بطل من الأبطال، بطل في زهده وفي غناه، بطل في شجاعته وفي إقدامه، بطل في سلمه وفي حربه، عاش بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث – إن شاء الله – بطلاً.
نتحدث اليوم عن هذا البطل؛ لأننا في عصر نحتاج فيه إلى الأبطال فلا نجدهم، نبحث عن أبطال المواجهة في الحرب والسلم، فلا نجد لهم أثراً.
إن هذا البطل، بطل في مواجهة الكفر والوثنية، بطل أمام اليهود والنصارى، بطل أمام الظلم والظلام.
إنه علي بن أبي طالب!!
هل تريدون مني اليوم أن أعرف علي بن أبي طالب؟ بأي لسان أتكلم على المنبر عن أبي الحسن؟ إنني أعلن أنني عاجز عن الوفاء بحقه، أو إنزاله منزلته، ولكن يكفينا وفاءً له أن قلوبنا تحبه، وتفرح لذكره، ودراسة سيرته.
أسلم علي بن أبي طالب وعمره عشر سنوات، فهو أول غلام في الأرض يعلن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
أسلم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو ابن عمه، وصهره وحبيبه.
فلما أسلم علي ضمه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى حنانه، إلى قلبه، إلى بيته، فأعطاه الرسول كل ما يملك أعطاه الحب أولاً، أعطاه العلم والهداية، زوجه بابنته الزهراء، ولاه المبارزة أمام الأبطال، مجده بالكلمات، ذبّ عنه وعن عرضه، وقف معه حتى مات وبقي علي.
ولما أراد النبي أن يهاجر مختفياً، وكانت عنده أموال العرب، لأنه الأمين استأمنوه على أموالهم، ثم كذبوه، ولكنه ترك ودائعهم عند علي ليردها إلى أصحابها، وخرج النبي متسللاً، وترك علياً في فراشه، فأتى إليه الكفار شاهرين سيوفهم، متوثبين للقتل وإراقة الدماء، إلا أنه كان ثابت الجأش، لم يخف ولم يضطرب، لأنه بطل المواجهة، ثم لحق الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة.
وفي سيرة علي قصصٌ وسلوى للفقراء والمنكوبين، وفيها عزاء للمصابين المجروحين وفيها تخفيف عن المضطهدين والمظلومين.
فسيرة علي، تمسح دموع البائسين، وتخفف الألم عن المحرومين، فهي قصة طويلة، يستفيد من أحداثها كل مسلم على وجه الأرض.
لما وصل إلى المدينة، أعطاه عليه الصلاة والسلام جائزة كبرى، هل هي قصر؟ أو فيلا؟ أو مال ؟ لا، وإنما أعلن إمام الناس، إمام الأجيال، أن علي ابن أبي طالب، يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله، يحبان علي بن أبي طالب.
فما سبب هذه المنحة الكبرى؟ والجائزة العظمى؟
حاصر عليه الصلاة والسلام خيبر، حاصر اليهود في خيبر، قبل أن يجلوا منها بالقوة الحديد والنار.
اليهود هم أعداء الله؛ لأنهم سبوا الله، وقتلوا الأنبياء، وحرّفوا كلام الله، وبدلوا شرائع الله، وقتلوا الموحدين، واليوم يجلسون على مائدة المفاوضات يناقشون مستقبل الأمة الإسلامية!!
حاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام، ضيق عليهم الخناق، وحاول أن يفتح مدينة خيبر، فاستعصت عليه، كانت متمنعة، أرسل أبا بكر الصديق فما استطاع، أرسل عمر فما استطاع، فاهتم الناس هماّ شديداً، وباتوا ليلة طويلة، فقام عليه الصلاة والسلام وسط الليل يقول: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه، فبات الناس يدوكون ليلتهم [1] ، أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله كلّهم يرجوا أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: فأرسلوا إليه، فأتوني به، فلما جاء، بصق في عينيه، ودعا له، فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليه من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من أن يكون لك حمرُ النعم [2].
انطلق علي يحمل الراية، ووقف على أسوار إخوان القردة والخنازير يناديهم إلى الحق، ويدعوهم إلى العدل، أيها الناس.. اسمعوا.. وعوا.. استفيقوا.. استيقظوا.. تنبهوا، ولكن لأن القرد لا يفهم، ولو رأى إشارتك وعرف كلامك، ولأن الخنزير مطموس على بصيرته طمساً، لم يسمعوا، ولم يروا، ولم يهتموا.
فلما رأى علي أن المفاوضات غير مجدية، وأن المناقشات معهم لا توصل إلى حلول، كان عنده حلّ آخر، دعا بطلهم للمبارزة علناً أمام الجماهير، فنزل مرحب اليهودي الخسيس، وكان شجاعاً فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرّب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فنزل إليه علي بن أبي طالب مردداً:
أنا الذي سمّتني أمي حيدره
كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
فتنازل الصديق علي بن أبي طالب مع الزنديق مرحب اليهودي، فقطعّه علي بسيفه، وقيل: إنه قسمه بالسيف نصفين إلى الهاوية، إلى النار، وافتتح علي خيبر، كما أخبر بذلك الرسول : ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، أو يحب الله ورسوله؛ يفتح الله عليه)).
أراد علي بن أبي طالب نسب الرسول فذهب ليخطب فاطمة الزهراء البتول، سيدة نساء العالمين، وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يتكلم معه فما استطاع.
حياءٌ من إلهي أن يراني وقد ودّعت صحبك واصطفاك
فتبسم عليه الصلاة والسلام، وعرف مقصده، فقال: يا علي، أتريد فاطمة زوجة لك؟ قال: نعم، قال: عندك مهر، ويعلم عليه الصلاة والسلام أن علياً لا يملك درهماً ولا ديناراً، ولا ذهباً ولا فضة، ولا قصراً ولا حديقة، ولكنه يملك إيماناً كالجبال، يملك تاجاً على رأسه؛ ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله)) يملك أنه بطل المواجهة.
قال: يا رسول الله، ما عندي شيء، قال: ((أين درعك الحطميّة)) [3] قال: درعٌ لا تساوي درهمين، فأتى به علي، وسلمه للرسول، عليه الصلاة والسلام، فعقد لهما وتزوج علي فاطمة الزهراء، وأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ من ذا يُساوي في الأنام عُلاها
أما أبوها فهو أشرف مرسلٍ جبريل بالتوحيد قد ربّاها
وعليُّ زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه تيّاها
ودخل بها بيته، الذي أسسه على تقوى من الله ورضوان، وأصبح صهر رسول الله.
خرج إلى تبوك، وخلّف علياً على المدينة، خلّفه لأنه شجاع وبطل للمواجهة، لا يحمي العرض إلا مثل علي بن أبي طالب، ولا يدفع الضيم إلا مثل علي بن أبي طالب، جعله في المدينة يحمي ما وراء الرسول فجاء المنافقون إلى علي بن أبي طالب، وقالوا: يا علي، إن الرسول عليه الصلاة والسلام استثقلك، إنك ثقيل عليه، تركك في المدينة وخرج إلى تبوك، سبحان الله ! محمد يستثقل علياً، فلحق علي رسول الله وهو في الطريق إلى تبوك، فأخبره بما يقول الناس، فتضاحك النبي ثم قال: يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي [4].
وهذه بشارة أخرى لعلي بن أبي طالب، ومنقبة عظمى تضاف إلى مناقبه، أنه من رسول الله بمنزلة هارون وموسى.
كان علي بطلاً للمواجهة يؤدب به الرسول عليه الصلاة والسلام أعداء الله، كان الرسول ينتدبه كلما انتدب رجلاً لمواجهة الموت.
في بدر، وقبل احتدام المعركة، دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام أبطال المسلمين، ليبارزوا أبطال الكفر، فقال: أين علي بن أبي طالب، قال: ها أنا يا رسول الله، فخرج، وبارز قرنه الوليد بن عتبة، فقتله علي، ثم اشتبك مع الكفار في صراع دام، فقتل منهم مقتلة عظيمة.
كان يقرأ القرآن فقرأ قوله تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم [الحج:19]. فبكى وقال: أنا أحد الخصمين يوم القيامة، وذلك لأنه كان خصماً للكفر والوثنية والإلحاد، أما الوليد وأمثاله، فيبعثون يوم القيامة خصوماً للإسلام والتوحيد والحق والعدل، ثم يفصل الله عز وجل بين الفئتين يوم القيامة ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
وتتكرر المسألة مع علي بن أبي طالب في الأحزاب، فيحاصر الرسول عليه الصلاة والسلام حصاراً دامياً من مشركي العرب واليهود، والقوميين الخونة، والنصارى، والمنافقين، ويأتي بطل من أبطال الكفر، اسمه عمرو بن ود، فيدعو المسلمين للمبارزة، فيقول: من يبارز أيها المسلمون؟! فيسكتون، من يتقدم ليبارزني أمام الجماهير؟ فلا يبرز أحد، ولكن علياً لا يرضى بذلك، فيقول: أنا يا رسول الله، يحب المواجهة، دائماً روحه على كفه، يقدمها رخيصة لنصرة الدين، وإعلاء راية التوحيد.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجواراً
فقال عليه الصلاة والسلام: إنه عمرو بن ود!! قال: ولو كان عمرو بن ود، فنزل له علي وتبارز البطلان، بطل الإسلام، وبطل الكفر، وبرقت السيوف، وارتفع الغبار، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله لينصر علياً، وانجلى الغبار، وإذا بعلي واقف على صدر عمرو، وقد قطع رأسه، وسيفه يقطر دما، فكبر الرسول عليه الصلاة والسلام، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. وكبر معه المسلمون، إنه بطل المواجهة.
وفي البخاري، في كتاب الرقاق، قال علي بن أبي طالب وأرضاه: إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل [5].
كان فقيراً لا يملك قليلاً ولا كثيراً، تولى الخلافة خمس سنوات، كانت كلها مواجهة؛ واجه الخوارج وأدبهم، وواجه المتمردين وطاردهم، وواجه البغاة وشتتهم، فحياته كلها مواجهة، قلبه مجروح وجسمه مجروح، وعرضه مجروح من أهل النفاق والريبة.
لقي علي طلحة في الجمل، في ذاكم الصراع الذي نكف عنه، ونكل أمرهم فيه إلى الله، ونسأله تبارك وتعالى أن يجمعنا بهم في دار كرامته، قتل طلحة في هذه الفتنة، ورآه علي مجندلاً في دمائه، فنزل، ومسح التراب من على وجهه، وبكى طويلاً، وقال: اسأل الله أن جعلني وإياك ممن قال فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين [الججر:47].
تولى علي الخلافة خمس سنوات، ولكنه ظل فقيراً، لم يشبع ولو يوماً واحداً، رجع إلى أهله ذات يوم، فقال: عندكم طعام؟ قالوا: لا !! عندكم شيء؟ قالوا: لا!! فخرج بسيفه الذي هو سيف الرسول واسمه ذو الفقار، فوقف أمام أهل العراق يقول لهم: قاتلكم الله يا أهل العراق، أموت أنا وأسرتي جوعاً، وهذا سيف الرسول معي، ولطالما جلّيت به الكربات عن وجه رسول الله ثم قال: من يشتريه مني بطعام ليلة!!.
لا يجد قوت يومه وهو الذي ذهب إلى بيت المال، وكان مملوءاً بالطعام والمال والسلاح، فوزع ما فيه في يوم واحد، ورش عليه الماء، وصلى ركعتين، وقال: اللهم اشهد أني ما أبقيت لنفسي منه درهماً ولا ديناراً، ولا حبة ولا تمرة ولا زبيبة.
مرض علي قبل أن يموت فعاده أبو فضالة الأنصاري، وقال له: ما يقيمك بهذا المنزل، ولو هلكت به، لم يلك إلا أعراب جُهينة، فلو دخلت المدينة، كنت بين أصحابك، فلو أصابك ما تخاف، أو نخاف عليك، وليك أصحابك، وكان أبو فضالة من أهل بدر، فقال علي: إني لست ميتاً من مرضي هذا، إنه عهد إلي النبي أني لا أموت حتى تخضب هذه من هذه [6] ، يعني تخضب لحيته من صدغه.
عاش بطلا، وأسلم بطلاً، وجاهد بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث إن شاء الله بطلاً.
علو في الحياة وفي الممات بحق تلك إحدى الكرمات
كان يقول : متى يبعث أشقاها ! يشير إلى قول النبي : ((إنك ستضرب ضربة هاهنا وضربة هنا، وأشار إلى صدغه، فيسيل دمها حتى تخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة، أشقى ثمود)) [7].
خرج علي قبل صلاة الفجر ليوقظ المسلمين للصلاة، ثم دخل المسجد، فوجد عبد الرحمن بن مُلْجم الخارجي المارد الخبيث، وجده منبطحاً على بطنه، وقد جعل سيفه مما يلي الأرض مسلولاً، فركله علي برجله وقال: لا تنم على بطنك، فإنها نومة أهل النار، وافتتح علي ركعتين، فوثب عليه الخارجي عدو الرحمن، فضربه بالسيف على صدغه فانفلق، فقال علي: الله أكبر.. لله الأمر من قبل ومن بعد، فسقط على وجهه، وسالت لحيته دماءً غزيراً، وحمل إلى البيت، وبكى المسلمون جميعاً، كل الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، وتحولت بيوت المسلمين إلى مناحات، يبكون بطل المواجهة.
قامت عجوز تبكي، وتعبر عن جراحها وأساها، فقالت بيتاً من الشعر، فيه لوعة وأسى وحرقة على هذا البطل العظيم، قالت:
يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ فدت علياً بمن شاءت من البشر
تقول: يا ليت المنية، يوم تركت عمرو بن العاص، وأصابت خارجة رئيس الشرطة، وقتل خارجة وسلم عمرو وكان هو المقصود بالقتل، يا ليتها تركت علياً وأصابت من شاءت من البشر.
أبا حسن لهفي لذكراك لهفة يباشر مكواها الفؤاد فينضج
متى تستعيد الأرض جمالها فتصبح في أثوابها تتبهرج
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيره فليس بها للصالحين معرّج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
قتل علي بن أبي طالب، وقد كان ينتظر الموت، وينتظر الشقيّ الذي سيقضي عليه، وكان دائماً يتمثل بهذين البيتين:
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت فإن الموت آتيكا
أيها المسلمون:
لماذا نتحدث اليوم عن علي بن أبي طالب؟ لماذا نخصّ اليوم علي بن أبي طالب؟.
إننا نتحدث عن علي بن أبي طالب في هذا اليوم، لأنه بطل المواجهة، ونحن نفتقر إلى المواجهة، لا نتحمل المواجهة، أمة سلمت قيادها لغيرها، أمة سُحقت كرامتها، لأنها لا تملك بطلاً للمواجهة.
أمة أصبح القرار بيد غيرها لأنها لا تقوى على المواجهة.
إن علي بن أبي طالب قدوة لكم أيها الشباب، وأستاذ لكم أيها الأطفال، وهو شيخ للشيوخ، وبطل للأبطال.
إن علي بن أبي طالب يكفيه أنه يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله يحبانه.
سلام عليك يا علي بن أبي طالب، يوم أسلمت، ويوم هاجرت، ويوم بايعت، ويوم قتلت، ويوم تبعث حياً.
عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] يدوكون: يخوضون ويتساءلون.
[2] أخرجه البخاري (4/207).
[3] أخرجه أبو داود (2/240) رقم (2125 ، 2126) والنسائي (6/129، 130) رقم (3375، 3376) وأحمد (1/80).
[4] أخرجه مسلم (4/1871) رقم (2404) وليس فيه قصة المنافقين ، وهذا السباق ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114) وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، في أحدهما ميمون أبو عبد الله البصري ، وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، وبقية رجاله ، رجال الصحيح ، وقوله : ((أما ترضى.. إلخ)) أخرجه البخاري (4/208).
[5] أخرجه البخاري (7/171).
[6] قال الهيثمي في المجمع (9/140) رواه البزار وأحمد بنحوه ، ورجاله موثقون.
[7] قال الهيثمي في المجمع (9/140) رواه الطبراني ، وإسناده حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أيها المسلمون:
يعيش معنا دائماً وأبداً في مشاعرنا، وآمالنا، وطموحاتنا.
يعيش معنا، قدوة وأسوة، وإماماً، ومعلماً، وأباً، وقائداً، ومرشداً.
يعيش معنا في ضمائرنا عظيماً، وفي قلوبنا رحيماً، وفي أبصارنا إماماً، وفي آذاننا مبشراً ونذيراً.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [التوبة:33].
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتك ويكفي لنا شرفٌ نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
تحدث القرآن عن النبي فإذا هو الخلوق العظيم، وإذا هو الرؤوف الرحيم.
قال تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].
وقال تعالى: لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128].
وسئلت السيدة عائشة عن أخلاقه فقال: ((كان خلقه القرآن)) [1].
وعلق الله الهداية على اتباعه فقال: وإن تطيعوه تهتدوا [النور:54].
ونفى الإيمان عن البشرية إذا لم تتحاكم إليه، وتسلم له قيادها، فقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً [النساء:65]. وجعل الله محبته موقوفة على اتباعه ، فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31].
وحذر الله من مخالفته فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
فيا أمة الإسلام، ويا إخوة العقيدة، ويا أبناء الرسالة الخالدة، هذا نبيكم ، وهذا فضله، ووصفه، وشرفه، فلماذا تبحثون عن غيره؟ ولماذا تلتمسون سواه؟
أن هناك آداباً تجاه رسول الله ينبغي أن يتأدب بها كل مسلم، وكل مؤمن، وكل موحد معه.
ورأس هذه الآداب: كمال التسليم له، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يعارضه، أو يحمّله شبهة أو يقدّم عليه آراء الرجال، فينبغي أن يوحّد الرسول بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما يوحّد الله – عز وجل – بالعبادة، والخشوع، والذل، والإنابة، والتوكل.
ومن الأدب مع الرسول : أن لا يتقدم بين يديه بأمر، ولا نهي، ولا إذن، ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهي هو، ويأذن وبتصرف، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [الحجرات:1].
وهذه الآية باقية إلى يوم القيامة، لم تنسخ بوفاته كما يزعم المارقون فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.
قال مجاهد رحمه الله في معنى الآية: لا تفتاتوا على رسول الله.
وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.
ومن الأدب معه أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره. قال تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاًْ [النور:63].
وفيه قولان للمفسرين:
أحدهما: لا تدعونه باسمه، كما يدعو بعضكم بعضاً، بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله.
الثاني: أن المعنى، لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضاً، إن شاء أجاب، وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بدٌ من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنه البتة.
ومن الأدب معه : أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع، من خطبة، أو جهاد، أو رباط، لا يجوز لأحد منهم أن يذهب في حاجته مذهباً، حتى يستأذنه، كما قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه [النور :62].
ومن الأدب معه عدم استشكال قوله، بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصّه بقياس، بل تُهدر الأقيسة، وتلقى لنصوصه، ولا يحرّف كلامه عن حقيقة، لخيالٍ يسميه أصحابه معقولاً. نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة.
ومن الأدب معه : أن لا يتهم العبد دليلاً من أدلة الدين أو حديثاً من أحاديث سيد المرسلين، بحيث يظنه فاسد الدلالة، أو ناقص الدلالة، أو أن غيره كان أولى منه، ولكن ليتهم فهمه هو، وعلقه هو، وليعلم أن الآفة منه، والبلية فيه، كما قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم
وهذا هو الواقع، وتلك هي الحقيقة، فإنه ما اتهم أحد دليلاً من أدلة الدين، إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة في الذهن العليل، لا في نفس الدليل.
قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون، على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد [2].
فاتقوا الله عباد الله، وتأدبوا مع نبيكم، ، وحكموه في أموركم، وانصروا دينه وسنته، ولا تعرضوا عنه، كما أعرضت الأمم الأخرى عن أنبيائها، فإن في الإعراض عنه ؛ الهلاك والدمار في الدنيا، والخزي والندامة يوم القيامة.
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا)) [3].
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
[1] أخرجه مسلم (1/513) رقم (746).
[2] انظر : تهذيب مدارج السالكين ، منزلتي ((التواضع ، والأدب)).
[3] أخرجه مسلم (1/288) ، رقم (384).
(1/1307)
جيل لن يتكرر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
التوبة, القصص
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصص عن توبة الصحابة من ذنوبهم أ- قصة التائبة من الزنا – ب- توبة المرأة
المخزومية ج- يشرب الخمر وهو يحب الله ورسوله د- قاتل وفيٌّ على عهد عمر
2- موعظة في الزهد في الدنيا
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
عنوان هذه الخطبة "جيل لن يتكرر" ذلكم الجيل، هو جيله عليه الصلاة والسلام، هو القرن الذي عاش فيه، هم الملأ الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، يُعلّم ويُوجّه، يسقي ويروي ما شاء لهذه الأنفس.
إنني لن أتحدث اليوم عن البطولات، ولا عن التضحيات، ولا عن العلم، ولا عن الأدب، ولا عن الزهد لذلك الجيل، سوف أتحدث عن جانب آخر، عن طائفة المذنبين والعصاة في هذا الجيل، ثم نقارن بيننا وبينهم على صعيد من الحق والعدل.
أشرقت شمس الرسالة على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، ويجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، في المسجد وأصحابه حوله، يجلس كالقمر وسط النجوم في ظلام الليل؛ يُعلّمهم، ويُؤدبهم، ويزكيهم، وإن كانوا من قبل ذلك لفي ضلال مبين، واكتمل المجلس بكبار الصحابة، وسادات الأنصار، وبالأولياء، والعلماء، وإذا بامرأة متحجبة تدخل باب المسجد، فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكت أصحابه، وأقبلت تمشي رُويداً حتى وصلت إليه عليه الصلاة والسلام، ثم وقفت أمامه، وأخبرته أنها زنت، وأنها تريد أن يُطهرها.
فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل استشهد عليها الصحابة؟ هل قال لهم: اشهدوا عليها؟ هل فرحت بذلك لأنها سلّمت نفسها؟ لا، احمرّ وجهه حتى كاد يقطر دماً، ثم حوّل وجهه إلى الميمنة، وسكت كأنه لم يسمع شيئاً.
إنها امرأة مجيدة، إنها امرأة بارّة، إنها امرأة رسخ الإيمان في قلبها وفي جسمها، حتى جرى في كل ذرة من ذرات هذا الجسد.
هل كانت تظن أن التطهير عنده كلام يُعزرها به؟ أو سياط وينتهي الأمر؟ كلا، إنها تعلم أن التطهير حجارة تتقاذف عليها، تُقطع جسدها فتلحقها بالآخرة!! لا إله إلا الله ما أعظم هذه المرأة!!
لقد ارتفع الإيمان عند أولئك العصاة، إلى درجة لا يصل إليها أبرارُنا وأخيارنا هذا اليوم، إن عُصاة ذلك المجتمع المثالي والجيل الراشد، أعظم إيماناً من طائعينا وعُبّادنا وزُهادنا.
فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ حاول أن ترجع المرأة عن كلامها، لم يُرِد أن يأخذها بكلمة صدرت عنها، قد تكون غاضبة حينما قالتها، وقد تكون هناك شبهة، وهو الذي يُروى عنه – صلى الله عليه وسلم – قوله: ((ادرءوا الحدود بالشبهات)) [1].
إنه يمنع التجسس، والتصنت، والاطلاع على عورات المؤمنين، فهو الذي يقول منذرًا ومحذرًا طوائف معلومة: ((يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته)) [2].
أخبرته المرأة أنها حُبلى من الزنا فقال: اذهبي، حتى تضعي طفلك ثم ارجعي، فذهبتْ حتى وضعت طفلها ثم عادت إليه.
وفي هذا الموقف بدائع وفوائد، منها: عصمة هذا الجنين، فلا يُقتل معها بغير ذنب لأنه – صلى الله عليه وسلم – يعرف حقوق الإنسان.
ومنها: صبرُها، فإنها لم تتغير عن موقفها أبداً، ذهبت وبقيت صابرة محتسبة، أكل الأسى قلبها، وسال الدمع الحار على وجنتيها، وتحرّق فؤادها، تريد أن تتطهر.
والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفُسَهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفرُ الذنوبَ إلا الله ولم يصرُّوا على ما فَعلوا وهم يعلمون [آل عمران:135].
فاغفر اللهُمَّ ربي ذَنْبَنَا ثم زدْنا من عطاياكَ الجسام
لا تعَاقِبْنَا فقد عاقَبَنَا قلقٌ أسهَرَنا جُنْحَ الظلام
حملت طفلها تسعة أشهر، ثم وضعته، وفي أول يوم أتت به وقد لفَّته في خرقة، وذهبت به إلى الإمام الأعظم، إلى الطاهر المُطهر، ولم تتأخر خطوة واحدة عن إقرارها الأول، ثم هو لم يَسْتَدعِها عليه الصلاة والسلام، لم يُرسل إليها عسكرًا ولا شرطةً ولا طابورًا مأجورًا معتوهًا، يسحبها من بيتها، ولكن تَرَكَها فأتت بنفسها، تحمل طفلها بين يديها، وقالت: يا رسول الله، طهرني من الزنا، فنظر إلى طفلها، وقلبه يتفطر عليه ألمًا وحزنًا، لأنه كان يعيش الرحمة للعصاة، والرحمة للطيور، والرحمة للحيوان، قال بعض أهل العلم: بل هو رحمة حتى للكافر، قال الله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107].
من يُرضع الطفل إذا قتلها؟ من يقوم بشئونه إذا أقام عليها الحد؟ فقال: ارجعي وأرضعيه فإذا فَطَمْتيه فعودي إليّ، فذهبت إلى بيت أهلها، فأرضعت طفلها، وما يزداد الإيمان في قلبها إلا رسوًّا كرسوِّ الجبال، كل يوم كانت تقترب من الله، ومن جنة عرضها السماوات والأرض، أُعدت للمتقين، وفُتحت للتائبين والعائدين.
ثم أتت بالطفل بعد أن فطمته، وفي يده كسرة خبز، وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قالت: طهرني يا رسول الله، فأخذ – صلى الله عليه وسلم – طفلها وكأنه سلَّ قلبها من بين جنبيها، لكنه أمْر الله، العدالة السماوية، الحق الذي تستقيم به الحياة، دستور الدولة المؤمنة، الذي يجعل الناس سواسية حتى في باب العقوبة والسيف والحبس.
قال عليه الصلاة والسلام: ((من يكفل هذا وهو رفيقي في الجنة كهاتين)).
من الذي يقوم على هذا الطفل، ويُربّيه، ويُطعمه، ويسقيه، وله جائزة؛ أن يكون جار محمد – عليه الصلاة والسلام – في الجنة، فقام أنصاريٌّ، فأخذ الطفل.
إنه مشهد مؤثر، مشهد الإمام وهو لا يتنازل عن حق الله، ولكنه لا يتجسس، ولا يُرهب، ولا يُرعب، وإنما يُربي الأنفس، حتى يأتي الإنسان طائعًا، يُسلم نفسه بنفسه إلى العدالة، إنها تربية: وذروا ظاهر الإثم وباطنه [الأنعام:120].
إن القوى العالمية، والكيانات الأرضية، والحكومات، لا تستطيع أن تقول لرعاياها: وباطنه لأن الباطن عند الله، لكن محمدًا – عليه الصلاة والسلام – ربى هذا الباطن، حتى يأتي الإنسان وقد فعل فاحشة، لا يعلم به إلا الله، فيُسلِّم رقبته لتُقطع!!.
ذهبوا بالمرأة، فحجّبوها، وجاء بعض الصحابة يشهد إقامة الحدّ وأتت الحجارة عليها من كلّ جانب، ثم أقبل خالد بن الوليد، فرمى رأسها بحجر فتنضّح الدم [3] على وجهِ خالدٍ، فسبَّها، فسمع - النبي صلى الله عليه وسلم – سبّه إياها، فقال: ((مهلاً يا خالد!! فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس [4] لغُفِر له)) [5].
إنها تابت توبة نصوحاً، فلا يحق لك أن تسُبّها يا خالد، لأن من تاب تاب الله عليه، وغَفر له، وبدّل سيئاته حسنات.
وفي رواية أن النبي – صلى الله عليه وسلم –: ((أمر بها فَرُجمت، ثم صلّى عليها، فقال له عمر – رضي الله عنه -: تُصلي عليها يا نبي الله وقد زنت!! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: لقد تابت توبة، لو قُسّمت بين سبعين من أهل المدينة لوسِعَتْهُم، وهل وجدتَ توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)) [6] !!.
هذا هو الإسلام؛ قوةٌ في تنفيذ حدود الله – تعالى – ورحمةٌ إذا نفذ هذا الحدُّ كما أراد الله، وقبولٌ لتوبة المذنب، وشفاعةٌ عند الله – تعالى – يوم القيامة.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الدين يقوم بتربية ضمائر الناس، وتزكية نفوسهم، وتعميق الإيمان في قلوبهم بأن العدالة لا بد أن تسود، وأن المساواة أمام الشرع، هي من أكبر أسباب بقاء هذه الأمة وقوتها.
قصة أخرى؛ أمر عليه الصلاة والسلام بقطع يد امرأة مخزومية، كانت تستعير المتاع وتجحَده، أي أنها كانت تستعير أمتعة الناس وأموالهم.
فاهتمت قريش بشأن هذه المرأة، لأنها كانت من قبيلة ذات نسب وشرف، فقالوا: من يُكلّم فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوّن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العَشِيُّ، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف، أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها، ثم أمَر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها)).
قالت عائشة: فَحَسُنت توبتها بعد، وتزوّجت، وكانت تأتيني بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - [7].
أيها الناس:
ليس هناك حصانة لأحد في دين الله – تبارك وتعالى – تمنعه من أن يُعاقب، إذا ارتكب ما يستحق عليه العقاب.
إن دين الله تبارك – وتعالى – ليس مُفصلاً على حسب الأمزجة والأهواء، ولا تدخله الشفاعات ولا الوساطات، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إذا بلغت الحدود السلطان؛ لعن الله الشافع والمشفع)) [8].
معنى ذلك، أن الشرع لا بد وأن يُطبق على الكبير والصغير، ولا بد أن تُقام الحدود على الشريف والوضيع.
لأنه إذا لم يُطبق الإسلام على الناس جميعاً، فما فائدته إذن؟ وما الجديد الذي أتى به، إذا لم يكن الناس كلهم سواسية أمام الشريعة الإلهية؟!
وهذا رجلٌ آخر، كان يشرب الخمر في عهده عليه الصلاة والسلام، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً، فأمر به، فَجُلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به!! فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنوه، فو الله ما علمت، إنه يحبُّ الله ورسوله)) [9].
إنه مجتمع قد امتلأ بالحب لله ورسوله، شاربهم يحمل الحب لله ورسوله، ولا تمنعه معصيته من أن يُقدّم روحه رخيصة للواحد الأحد.
إن العصاة في مجتمعنا نحن – أيها المؤمنون – ليسوا كما يتصورهم البعض أنهم انسلخوا من الدين، أو أنهم خَلَعوا لا إله إلا الله، أو أنهم لا يؤمل فيهم صلاح، هذا ليس بصحيح، فعندهم خيرٌ كثير، وإني أعلم أناساً يجلسون في المقاهي والمنتديات، وقد يسهرون الليالي، ومع ذلك لو سمع أحدهم سبًّا للدين، أو استهزاء بالرسول – عليه الصلاة والسلام – كان على استعداد أن يُقاتل ذلك المستهزئ، وربما قدم دمه ونفسه دفاعًا عن الدين وعن عِرض محمد – عليه الصلاة والسلام –.
فقصدي أن نستثير هذا الأصل في نفوس الناس، وأن نُنمّي هذه الفطرة في قلوبهم، حتى يزدادوا من الخير، ويتركوا ما هم عليه من المعصية.
أيها الناس:
ننتقل بعد ذلك إلى العهد العمري المجيد، فنجد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – خليفة على المسلمين، يحكم بحكم الله ورسوله، ولا زالت الأمة راشدة، متماسكة، خائفة من الله – عز وجل – يعترض البدويُّ على عمر وهو على المنبر، ثم يذهب إلى بيته، في أمان وسكينة وهدوء وراحة، لأنه محميٌّ، عنده حصانة الحوار والعدل.
أتى شابّان إلى عمر وكان في المجلس، وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمام عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال عمر: ما هذا، قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال كيف قتلتَه؟
قال دخل بجمله في أرضي، فزجرته، فلم ينزجر، فارسلت عليه حجراً، وقع على رأسه فمات.
قال عمر: القصاص.. الإعدام.. قرار لم يكتب. وحكم سديد لا يحتاج مناقشة، لم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل، هل هو من قبيلة شريفة؟ هل هو من أسرة قوية؟ ما مركزه في المجتمع؟ كل هذا لا يهم عمر – رضي الله عنه – لأنه لا يحابي أحداً في دين الله، ولا يجامل أحداً على حساب شرع الله، ولو كان ابنه القاتل، لاقتص منه، وقد جلد ابناً له في بعض الأمور.
قال الرجل: يا أمير المؤمنين: أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض، أن تتركني ليلة؛ لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم بأنك سوف تقتلني، ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا، قال عمر: من يكفلك أن تذهب إلى البادية، ثم تعود إليَّ، فسكت الناس جميعاً، إنهم لا يعرفون اسمه، ولا خيمته، ولا داره، ولا قبيلته، ولا منزله، فكيف يكفلونه، وهي كفالة ليست على عشرة دنانير، ولا على أرض، ولا على ناقة، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف.
ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله؟ ومن يشفع عنده؟ ومن يمكن أن يُفكر في وساطة لديه؟ فسكت الصحابة، وعمر مُتأثر، لأنه وقع في حيرة، هل يُقدم فيقتل هذا الرجل، وأطفاله يموتون جوعاً هناك، أو يتركه فيذهب بلا كفالة، فيضيع دم المقتول، وسكت الناس، ونكّس عمر رأسه، والتفت إلى الشابين، أتعفوان عنه؟ قالا: لا، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين، قال عمر: من يكفل هذا أيها الناس، فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده، وصدقه، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قتلاً، قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين، فعلمت أنه لم يكذب، وسيأتي إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذرّ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك ! قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين، فذهب الرجل، وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ؛ يُهيئ فيها نفسه، ويُودع أطفاله وأهله، وينظر في أمرهم بعده، ثم يأتي، ليقتص منه لأنه قتل.
وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد، يَعُدّ الأيام عداً، وفي العصر نادى في المدينة: الصلاة جامعة، فجاء الشابان، واجتمع الناس، وأتى أبو ذر، وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين، وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمر سريعة على غير عادتها، وسكت الصحابة واجمين، عليهم من التأثر مالا يعلمه إلا الله.
صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر، وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد، لكن هذه شريعة، لكن هذا منهج، لكن هذه أحكام ربانية، لا يلعب بها اللاعبون، ولا تدخل في الأدراج لتُناقش صلاحيتها، ولا تنفذ في ظروف دون ظروف، وعلى أناس دون أناس، وفي مكان دون مكان.
وقبل الغروب بلحظات، وإذا بالرجل يأتي، فكبّر عمر، وكبّر المسلمون معه، فقال عمر: أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك، ما شعرنا بك، وما عرفنا مكانك، قال يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى!!
ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ الطير، لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، فوقف عمر وقال للشابين: ماذا تريان؟ قالا وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه، قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته.
جزاكما الله خيراً أيها الشابان على عفوكما، وجزاك الله خيراً يا أبا ذرّ يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته، وجزاك الله خيراً أيها الرجل لصدقك ووفائك، وجزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين لعدلك ورحمتك.
أيها الناس:
إن هذا الدين وإن كنا نتحدث عنه كثيراً، إلا أننا لم نره إلا قليلاً، لكن الإسلام كله، لا زال عند عمر، بقي معهم في المدينة، كما قال أحد المحدثين: والذي نفسي بيده، لقد دُفِنت سعادة الإيمان والإسلام في أكفان عمر!!.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] ضعفه الألباني، كما في ضعيف الجامع، رقم ( 258 )، وعزاه السيوطي لابن عدي، وابن السمعاني.
[2] أخرجه أبو داود ( 4 / 270 )، حديث رقم ( 4880 ) والترمذي ( 4 / 331، 332 )، حديث رقم ( 2032 )، وقال : حديث حسن غريب، وصححه الألباني، كما في صحيح الجامع، رقم ( 7984، 7985 ).
[3] تَنَضّح : ترشرش وانصب.
[4] صاحب المكس : من يُعاون الظلَمة في أخذ أموال الناس بالباطل.
[5] أخرجه مسلم ( 3 / 1323، 1324 )، حديث رقم ( 1695 ).
[6] أخرجه مسلم ( 3 / 1324 )، حديث رقم : ( 1696 ).
[7] أخرجه البخاري ( 8 / 16 )، ومسلم ( 3 / 1315، 1316 )، حديث رقم : ( 1688 ).
[8] قال الهيثمي في المجمع : ( 6 / 262 ) رواه الطبراني في الأوسط والصغير، وفيه أبو غزية، محمد بن موسى الأنصاري، ضعفه أبو حاتم وغيره، ووثقه الحاكم، وعبد الرحمن بن أبي الزناد ضعيف.
[9] أخرجه البخاري ( 8 /14 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله.. الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أما بعد :
أخذ النبي – صلى الله عليه وسلم – بمنكب ابن عمر، فقال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
وكان ابن عمر – رضي الله عنهما – يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك [1].
ما أحسن كلامه – صلى الله عليه وسلم – وما أروعه، وما أبلغه، وما أحسن كلام أصحابه – رضي الله عنهم – واتّباعهم لتعاليمه ووصاياه.
فهذا الحديث أصل في قِصَر الأمل في الدنيا، فإن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً يطمئن إليه، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار [غافر:39].
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: ((مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها)) [2].
ومن وصايا المسيح – عليه السلام – لأصحابه قال: اعبروها، ولا تعمروها. ورُوي عنه أنه قال: من ذا الذي يبني على موج البحر داراً؟ تلكم الدنيا، فلا تتخذوها قراراً.
ودخل رجل على أبي ذرٍّ، فجعل يُقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذرّ ! أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه !! فقال: إنه لا بد من متاع مادمت هاهنا.
فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا هاهنا!!.
وكان علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مُدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل [3].
وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – في خطبته:
إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامرٍ عن قريب يخرب، وكم من مُقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – في هذه الرحلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [البقرة:197].
فإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي عليه أن يكون فيها على أحد حالين :
إما أن يكون كأنه غريب في بلد غُربة، فلا يتعلق بها قلبه، بل هَمّه التزود للرجوع إلى وطنه.
أو يكون كأنه مسافر، غير مقيم البتة، بل هو في سير دائم، في الليل والنهار، إلى بلد الإقامة.
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلُك الأولى وفيها المخَيَّم
ولكننا سبيُ العدوِّ فهل ترى نعود إلى أوطانِنا ونُسلِّم
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى وشطَّت به أوطانهُ فهو مغرم
وأي اغترابٍ فوق غُربتنا التي لها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنّك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة!!
وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم، مضى بعضك!
نسيرُ إلى الآجال في كلِّ لحظةٍ وأيامُنا تُطوى وهنَّ مراحلُ
ولم أرَ مثلَ الموتِ حقَّا كأنه إذا ما تَخَطَّتْهُ الأمانيُّ باطلُ
وما أقبحَ التفريط في زمنِ الصِّبا فكيف به والشيبُ للرأسِ شاعلُ
ترحَّلْ من الدنيا بزادٍ من التقى فعمرك أيامٌ وهنَّ قلائِلُ
فيا أيها الناس:
إلى متى الركون إلى هذه الدنيا؟ وإلى متى التسويف بالتوبة؟
فالواجب على المؤمن، المبادرة بالأعمال الصالحة، قبل ألاّ يَقدِر عليها، ويُحال بينها وبينه؛ إما بمرض، أو موت، أو غير ذلك من الأشغال، ومتى حيل بين الإنسان والعمل، لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية.
قال تعالى: وأنيبوا إلى ربكم وأسلِموا له من قَبْلِ أن يأتِيَكُمُ العَذابُ ثم لا تُنصرون واتَّبِعوا أحسنَ ما أنزل إليكم من رَبِّكم من قبل أن يأتيَكم العذابُ بغتةً وأنتم لا تشعرون أن تقولَ نفسٌ يا حسْرَتى على ما فرَّطتُ في جنبِ الله وإن كنت لمن السَّاخرين أو تقولَ لو أن الله هَدَاني لكنتُ من المتقين أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أنَّ لي كرةً فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنت من الكافرين [الزمر:54–59].
وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدَهُمُ الموتُ قال رب ارجعونِ لعلِّي أعملُ صالحاً فيما تركتُ كلاّ إنها كلمة هو قائِلُها ومن ورائِهِم برزخٌ إلى يوم يُبْعَثون [المؤمنون:99-100].
فالتوبةَ التوبةَ عباد الله، فإن الله – عزّ وجل – ((يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يده بالنهارِ؛ ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) [4].
قال كثير من السلف: فإذا طلعت الشمس من مغربها، طُبع على القلوب بما فيها، وترفع الحفَظةُ الأعمال، وتُؤمرُ الملائكة ألا يكتبوا عملاً.
عباد الله:
وصلوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يُصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً [الأحزاب:56].
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [5].
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
[1] أخرجه البخاري ( 7 / 170 ).
[2] أخرجه الترمذي ( 4 / 508 ) رقم ( 2377 ) وقال : حسن صحيح وابن ماجه ( 2 / 1376 ) رقم ( 4109 ). وأحمد ( 1 / 301 ). وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم ( 5668، 5669 ).
[3] ذكره البخاري ( 7 / 171 ).
[4] أخرجه مسلم ( 4 / 2113 ) رقم ( 2759 ).
[5] أخرجه مسلم ( 1 / 288 ) رقم ( 384 ).
(1/1308)
حقوق الإنسان في الإسلام (التمائم والرقى)
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, نواقض الإسلام
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة المرأة التي ردت على عمر وهو يخطب. 2- موقفين للنبي يوم الفتح في إقرار حقوق
الإنسان. 3- إنكار سلمان على عمر الخليفة. 4- عمر يستحث رعيته على تقويمه إذا أعوج.
5- انتشار خرافة في كتاب اسمه (حجاب الحصن الحصين). 6- بيان موقف الإسلام في التمائم
والرقى والشعوذة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
يقول – عز وجل – في محكم كتابه: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون [التوبة:6].
وقال أيضاً: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنتم فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين [آل عمران:159].
وقال أيضاً: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [آل عمران:134].
وقال : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه)) [1].
أيها المسلمون:
نتحدث في هذه الخطبة عن حقوق الإنسان في الإسلام.
وإني لأتخيّل مسجد النبي وقد امتلأ بالمصلين في صلاة الجمعة، وامتلأت الرحبات المجاورة للمسجد، وبدأ الخطيب يمشي نحو المنبر ليخطب في المسلمين.
وارتقى الخطيب درجات المنبر، وعليه ثيابه المرقعة الممزقة، ثم سلم على المسلمين وجلس.
أتدرون من هو الخطيب؟ إنه خليفة المسلمين عمر بن الخطاب إنه الذي دوّخ الأكاسرة والقياصرة، إنه الذي داس إمبراطورية كسرى وقيصر تحت قدميه.
طوت الملائكة الصحف وجلست تستمع. والمسلمون ينصتون، فلا تتحرك شفة، ولا تسمع همساً، ولا ترى حركة ولا التفاتاً.
ويتحدث الخليفة في رمضان عن مشكلة المغالاة في المهور، وعن إمكانية تخفيضها، لما في ذلك من إرهاق للمقدمين على الزواج.
قال عمر: أيها الناس، ما إكثاركم في صداق النساء؛ وقد كان رسول الله وأصحابه، وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو مكرمة، لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم.
لم نزل فاعترضته امرأة من قريش... فقالت له: يا أمر المؤمنين، نهيت الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم. قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول: وآتيتم إحداهن قنطاراً [النساء:20]. فقال: اللهم غفرانك..! كل الناس أفقه من عمر.
ثم رجع فركب المنبر فقال: يا أيها الناس، إن كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب [2].
إنه يعيش الخلافة الراشدة بعدلها، إنه يعرف حقوق الإنسان، إنه يدرك وعي الأمة.
ينزل الله على نبيه، ، قوله: وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه [التوبة:6]. إن جاءك مشرك معه أطروحة، عنده شبهة، يريد أن يتكلم، فاستمع له وافتح له صدرك، وأسمعه كلام الله، لا تعنّفه، ولا تقده إلى الحبس، ولا تلقه في غياهب السجون.
والمواقف التي تدل على حقوق الإنسان في الإسلام كثيرة جداً.
أذكر منها ثلاثة، تبين قيمة الإنسان في الإسلام، وأنه ليس بهيمة، إنه إنسان سميع بصير، جعل الله له حقاً ورأياً وكلمة، عنده قلم يحمل إبداعاً، وقد يكون هذا الإنسان خيراً منك عند الله، وأقوم قيلاً.
الموقف الأول: أراد عليه الصلاة والسلام، أن يرجع إلى مكة ليفتحها، فكتم الأمر، إلا عن بعض أصحابه، وفشا في الناس أنه يريد حنيناً، فلما كان بالروحاء قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم عمّ عليهم خبرنا حتى نأخذهم بغتة)).
إذن فالأمر سرّ لا يجوز كشفه، ومع ذلك ينطلق أحد الصحابة، فيكتب رسالة خائنة، يخبر قريشاً بخبر رسول الله وأنه سوف يغزوهم، ثم أعطى الرسالة امرأة فوضعتها في عقيصة رأسها.
ذهبت المرأة إلى قريش، وفي الطريق عند روضة خاخ، بين مكة والمدينة، أنزل الله الخبر من السماء، فانطلق فارسان من المسلمين، وأدركا هذه المرأة، وأخذا منها الكتاب.
خيانة مكشوفة، إفشاء لأسرار عسكرية، ومن الذي فعل ذلك، إنه حاطب بن أبي بلتعة، أحد الذين شهدوا بدراً، فاستدعاه عليه الصلاة والسلام، ليشهد على نفسه أمام الله، وأمام المسلمين، وأمام التاريخ، فقال عمر: يا رسول الله، إنه خان الله ورسوله، دعني لأضرب عنقه.
ولكن..قتل الإنسان ليس سهلاً..حبس الإنسان ليس سهلاً، مصادرة رأي الإنسان ليس سهلاً.
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((يا عمر وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) [3] ، فأنزل الله – عز وجل -: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء [الممتحنة:1].
ويستمر الرسول عليه الصلاة والسلام في طريقه نحو الفتح، فيفتح الله عليه مكة في رمضان، ويلقاه أبو سفيان بن الحارث الذي قاتله، وسبه، وأخذ ماله، وأخرجه من داره، يلقاه أبو سفيان. فيسلم عليه ثم يقول: يا رسول الله: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين [يوسف:91]. فتسيل دموعه، عليه الصلاة والسلام، ويجيب: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين [يوسف:92].
فيدخل عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً منتصراً، يسحق الأصنام ويحطّم الشرك والوثنية.
ولما أذن المؤذن لصلاة الظهر، أخذ بأصابعه الشريفة حلق باب الكعبة، وهزها وقال: الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء [4].
نعم، إنها حقوق الإنسان، إن من حقك أن تعيش محترماً؛ في كلمتك، وفي رأيك، وفي بيتك، وفي قلمك، وفي مالك، لا تعيش خوفاً ولا بطشاً، ولا إرهاباً ولا تخويفاً، وهذا ما كفله الإسلام لجميع المسلمين على حد سواء، لا فرق بين أبيض وأسود، ولا غني وفقير، ولا كبير وصغير؛ الكل في ميزان الإسلام سواء.
وموقف ثان: أتت ثياب من اليمن، فوزعها أمير المؤمنين عمر على الناس، كل مسلم له ثوب، وبقي ثوب لأمير المؤمنين فلبسه، فوصل الثوب إلى ركبتيه، فقال لابنه عبد الله: يا عبد الله، أعطني ثوبك الذي هو حصتك، فأعطاه ثوبه، فوصل عمر ثوبه بثوب ابنه عبد الله ولبسهما.
وصعد الخليفة يخطب في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس اسمعوا لما سوف أحدثكم عنه.
لكن سلمان له رصيد من الإيمان، فهو ليس بقرشي، ولا هاشمي، ولا عربي، ولا هو من قرابة الخليفة حتى ينال حصانة دبلوماسية لئلا تناله الأيدي، فهو فارسي أوصله الإسلام إلى شرف: ((سلمان منا آل البيت)) [5]. فيصرخ سلمان: والله لا نسمع، ولا نعي، قال عمر : ولم؟ قال: لأنك تلبس ثوبين، وتلبسنا ثوباً واحداً، أين العدالة؟ قال عمر : يا عبد الله: قم فأجب، فقام عبد الله والناس سكوت، فقال: إن أبي رجل طوال لا يكفيه ثوب، فأعطيته ثوبي، فوصله بثوبه ولبسهما. وهنا قال سلمان: يا أمير المؤمنين الآن قل نسمع، وأمر نطع.
إن هذا هو الإسلام الذي حرّر الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان، إلى عدل الإسلام.
وثالث المواقف: أن عمر أراد أن يختبر جرأة الناس في الحق، أراد أن يُشطّب على سجلات النفاق والمجاملة والكذب والمدح بغير حق، فوقف على المنبر، ثم قطع الخطبة وقال: ما أنتم قائلون لو رأيتموني حدتُ عن الطريق هكذا.. ماذا ستفعلون لو انحرفت عن المنهج الرباني؟ ما موقفكم لو ظلمت وطغيت؟
لو كان هؤلاء غير رعية عمر لقالوا: أنت لا تخطئ، أنت لا تضل ولا تنسى..أنت نور الزمان وكوكبة الفلك، وبركة الوقت.. كيف تخطئ والغيث ينزل بسببك من السماء!!
أما رعية عمر فليسوا من هذا النوع من البشر فيقف أعرابي في آخر المسجد، ويأخذ سيفه من جانب السارية، ويرفعه إلى السماء ليراه أمير المؤمنين، ويقول: والله يا أمير المؤمنين، لو رأيناك حدت عن الطريق هكذا.. لقلنا بالسيوف هكذا، قال عمر وعيناه تذرفان فرحاً: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا حدت عن الطريق هكذا قاموا عليّ بالسيوف هكذا.
إن الأمة الممسوخة، هي التي لا تبدي الرأي البناء الصادق، الذي لا يهدّم أمناً، ولا يثير فتنة، ولا يلعب بمقدرات الناس، أما الأمة الواعية فهي التي تقوّم الانحراف، وتقول للمخطئ أخطأت، وللظالم ظلمت، وللمصيب أصبت، وللعادل عدلت. يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا تهيبت أمتي أن تقول للظالم فقد تُودع منها)) [6].
أي سقطت من عين الله، فلا يرضاها أمة شاهدة، ولا يرضاها أمة رائدة، ولا أمة وسطاً.
أيها المسلمون:
هذه هي حقوق الإنسان، حقوق الأسود، حقوق الأبيض، حقوق الأحمر، حقوق الشعث الغبر، الذين ينامون على الرمضاء، ويلتحفون بالسماء، حقوق الذين يريدون أن يتحدثوا وينصحوا ويوجهوا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم (4/1986) رقم (2564).
[2] ذكره ابن كثير في تفسيره (1/442) ، وقال: إسناده جيد قوي ، وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/238) ، وقال : أخرجه سعيد بن منصور ، وأبو يعلى ، بسند جيد. وقد ضعف الألباني بعض طرق وألفاظ هذه القصة. انظر: إرواء الغليل (6/347ن 148).
[3] أخرجه البخاري (5/89) ، ومسلم (4/1941 ، 1942) رقم (2194).
[4] انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/78).
[5] قال الألباني : ضعيف جداً ، أخرجه الطبراني والحاكم عن عمرو بن عف ، وقد صحّ موقوفاً عن علي. انظر ضعيف الجامع رقم (3272).
[6] أخرجه أحمد (2/163 ، 190) من حديث عبد الله بن عمرو.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وليّ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
عباد الله:
إن الله – عز وجل – قد أكمل لنا الدين وأتمّ علينا النعمة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ((تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) [1].
ذهب عمر رضي الله عنه وأرضاه – إلى قرية من قرى اليهود، فوجد فيها كتاب التوراة، فأخذ منها نسخة، وأتى بها النبي ، فلما رآها النبي غضب، وقال عمر – -: ((أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لو أن موسى، ، كان حياً، ما وسعه إلا أن يتبعني)) [2].
أما أتى بالقرآن والسنة؟ أما أدى الأمانة وبلغ الرسالة؟ أما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة؟ فلا يحتاج عبد إلى عقيدة، أو عبادة، أو معاملة، أو سلوك، إلا وجد ذلك في الكتاب والسنة!!
أما علمنا رسولنا كيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف ننام؟ فمالنا نصد عن منهج الله؟ ومالنا لا نتبع أوامر رسول الله؟
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق ثبات
بأيمانهم نوران ذكرٌ وسنةٌ فما بالهم في حالك الظلمات!!
أيها الناس: لقد انتشر بين كثير من الناس في بلادنا، دفتر صغير، اسمه: ((حجاب الحصن الحصين))؛ خزعبلات، وضلالات، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور [النور:40].
هذا الدفتر، ألّفه أحد المشعوذين، أو الكهنة، أو السحرة، فيه كلام باطل، وشرك بالله – عز وجل – جاءني به بعض الشباب، وهو منتشر في القرى، والمدن والبوادي.
يزعم هذا السفيه الأحمق الذي افترى هذا الكلام، أنه ينفع في أمور كثيرة؛ إذا وضعته المرأة في حرير، ووضعته في رأسها، وكانت لا تتزوج، جاءها الخطّاب من كل مكان!!
وإذا وضعه صاحب الدكان، وعلقه في دكانه، جاءه الزبائن بالعشرات، ولا يحترق دكانه!!
وإذا وضعه الإنسان في البيت، لا يحترق!!
سبحان الله! نبئوني بعلم إن كنتم صادقين [الأنعام:143].
قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [البقرة:111].
لقد حذر الله من هذه الخرافات ونهى عن هذه الشعوذة ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين [الزمر:65-66].
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً [مريم:81-82].
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةً ولا نشوراً [الفرقان:3].
فلماذا هذه الضلالات؟ ولماذا هذه البدع؟ ولماذا هذا التشويه لوجه الإسلام؟
الإسلام جميل، الإسلام قيّم، الإسلام حق، الإسلام صدق، فلا يتصور، ولا يجوز أن تنشر هذه الخزعبلات والشعوذة في الأرض التي بعث فيها إمام التوحيد محمد عليه الصلاة والسلام، فكيف نجد من ينشر مثل هذا الكلام على الرجال والنساء، والعجائز، والأطفال، والشباب، ليردوهم عن الدين الصحيح، والمنهج الأقوم.
صح عنه أنه قال: ((من أتى عرّافاً [3] فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) [4].
وصح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ((من أتى عرافاً، أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد)) [5]. تمائم، وخيوط، ودبل، وطلاسم، وشعوذة، وسحر، وكهانة، أهذا هو الإسلام؟
رأى النبي رجلاً في يده حلقةٌ من صفر، فقال: ((ما هذه الحلقة؟)) قال: هذه من الواهنة [6]. قال: ((انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً)) [7].
وزاد أحمد: ((فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً )) [8].
وصح عنه أن قال: ((من تعلّق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له)) [9].
والتميمة؛ إما ورقة يكتب فيها غير القرآن، وحتى القرآن على الصحيح لا يعلّق، فكيف إذا كان طلاسم، وسحر، وشعوذة؟!
إن هؤلاء الكهنة والمشعوذين، يتخذون هذا الأمر تجارة، يأكلون به أموال الناس بالباطل، ويصدونهم عن دين الله، ويخرجونهم من دينهم وإيمانهم، وإسلامهم.
أيها الناس: قبل أيام، ذهب رجل إلى اليمن، ليلتقي هناك ببعض السحرة، لأن ابنته مريضة، فذهب إلى السحرة لتشفى ابنته!! ودفع لهم أموالاً طائلة. قلنا له: خسرت دينك وآخرتك، وكفرت بالله العظيم تماماً، وخسرت دنياك أيضاً، بما أنفقته من الأموال الطائلة، ولم يحصل لابنتك الشفاء الذي كنت ترجو. خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [الحج:11].
وصدق رسول الله : ((من تعلق تميمة، فلا أتم الله له)) ، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا أتم له مطلوبه، ولا شفى مريضه، ولا نجح راسبه، ولا ردّ غائبه،، ولا رزقه، ولا سد دينه، لأنه عادى الله، وعاد عن طريقه، وأعرض عن سبيله.
((ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)) والودع: صدف يخرج من البحر، يعلق في بعض البيوت، فمن فعل ذلك: ((فلا ودع الله له)) ، لا حفظه الله، ولا رعاه، ولا تولاه، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
فيا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، يا أبناء من نشر التوحيد في العالم، أمثل هذه الخرافات والسخافات تنشر بين أيديكم؟ من ينشر الإسلام في العالم إذن؟ من يخبر الناس بصفاء هذا الدين، وصدق هذا الدين، ووضوح هذا الدين؟
يأتي المشعوذون، والسحرة، والكهنة، فيشوّهون وجه الإسلام الجميل، فأين حماة الدين؟ وأين حراس العقيدة؟
قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضرّ هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمةٍ هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [الزمر:38].
سبحان الله، ما أجلّ الله، إذا مرضت شفاك، وإذا طلبت أعطاك، وإذا دعوت أجابك: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة:186].
فاتصل بالله مباشرة، وعليك بالسجود، فإن العبد أقرب ما يكون إلى ربه – تبارك وتعالى – وهو ساجد.
لقد أساءت الأمة أيما إساءة، يوم شوهت وجه التوحيد، بهذه الشركيات والبدع المنكرة، يوم عرضت الإسلام على الأمم ممسوخاً ناقصاً مبتوراً، حتى استهزأ عبدة الكأس والمرأة الداعرة، والشهوة الرخيصة بالإسلام وأهله، فزعموا أن الإسلام خزعبلات، وأنه دروشة، وأنه همجية وبربرية، والإسلام من ذلك براء، لكن شوهه بعض أبنائه، الذين ما فهموه حق فهمه، وما عرفوه حق معرفته.
أيها المسلمون: حذار حذارِ من هذه الأمور، فإنها نبذٌ للعقيدة، وطرح للتوحيد، وضرب للإسلام في صميم القلب، ومعنى ذلك أن نفقد ديننا، وأخلاقنا، وسيرتنا.
أيها الموحدون: أنكروا هذا المنكر، وحاربوه، واشجبوه، وانهوا عنه، ومن وجد منكم أحداً من هؤلاء، فليرفع أمره إلى السلطان، وإلى القضاة، وإلى ولاة الأمر، وليأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء، وليفضحهم أمام الناس، فإنهم أعداء الرسل، وبسببهم حل الجفاف، والمرض، والسلب والنهب، والقطيعة، وقسوة القلوب، وفساد ذات البين، وعقوق الأبناء.
نسأل الله أن يطهر البلاد منهم، الله احفظ علينا إسلامنا وتوحيدنا وإيماننا، اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم.
عباد الله: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
وقد قال : ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [10].
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنّك يا أكرم الأكرمين.
[1] أخرجه ابن ماجه (1/16) رقم (43). وأحمد (4/126).
[2] أخرجه أحمد (3/387) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/179) رواه أحمد ، وأبو يعلى ، والبزار ، وفيه مجالد بن سعيد ؛ ضعفه أحمد ، ويحيى بن سعيدوغيرهما.
[3] العراف: قال ابن الأثير: العراف المنجم ، الذي يدعي علم الغيب.
[4] أخرجه مسلم (4/1751) رقم (2230).
[5] أخرجه أحمد (2/429) ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (5939).
[6] الواهنة: عرق يأخذ في المنكب ، وفي اليد كلها ، وقيل: هو مرض.
[7] أخرجه ابن ماجه (2/1167 ، 1168) ، رقم (3531) ، وأحمد (4/445).
[8] أخرجه أحمد (4/445).
[9] أخرجه أحمد (4/154).
[10] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).
(1/1309)
ذئب يتكلّم
قضايا في الاعتقاد
معجزات وكرامات
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الثلاثة الذين تكلموا في المهد 2- ذئب تكلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
3- حنين الجذع 4- كلام عيسى عليه السلام في المهد 5- كلام صاحب جريج في المهد
6- كلام الصبي عن الجبار والجارية 7- فوائد من هذه القصص 8- البراء بن مالك
وأويس القرني لو أقسم كلٌ منهما على الله لأبره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
لنستمع إلى المنقذ العظيم، والرسول الكريم، والمعلّم النبيل، والهادي الجليل، في كلماته المعطاءة، وأحاديث النيِّرة، وأسلوبه العذب، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ففي صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لم يتكلَّم في المهد إلا ثلاثة)) [1] ، لم يتكلم في زمن الرضاعة والطفولة إلا ثلاثة أطفال، يرضعون اللبن من ثُدِيِّ أمهاتهم، ولكنهم تكلّموا، فمن الذي أنطقهم؟! ومن الذي أعطاهم القدرة على الكلام؟!.
أنطقهم الله الذي أنطق كلَّ شيء، الذي يُنطق الحجارة فتتكلّم، والجلود يُنطقها يوم القيامة فتتحدّث، والأعضاء يستشهدها فتشهد، ويختم على الأفواه التي طالما تكلَّمت وحاربت ربها فلا تتكلّم.
أرأيتم إلى الذئب، إنه حيوان كسائر الحيوانات، لا يتكلّم، ولا يعقل، ولكنّ الله عز وجل أنطقه، وجعله يتكلّم بلسان فصيح، وأسلوب واضح.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا راعٍ في غنمه، عدا عليه الذئب، فأخذ منها شاةً، فطلبه الراعي، حتى استنقذها منه، فالتفت إليه الذئب فقال له: من لها يوم السَّبُع [2] يوم ليس لها راعٍ غيري فقال الناس: سبحان الله!! ذئب يتكلّم [3] !!)).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)).
تكلّم الذئب، أنطقه الله الذي أنطق كلَّ شيء، وهو على كل شيء قدير.
وقد أنطق الله الجماد، ففي صحيح البخاري، عن جابر رضي الله عنه، قال: كان مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم مسقوفاً على جذوعٍ من نخلٍ، فكان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا خطب، يقوم على جذع منها، فلما صُنع له المنبر، وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار [4] حتى جاء النبي, صلى الله عليه وسلم، فوضع يده عليها، فسكنت" [5].
وعند أحمد في المسند: "فخار الجذع كما تخور البقرة جزعاً على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فالتزمه ومسَحه حتى سكَن" [6] ، إنّ جذع النخلة وهو جماد، لم يستطع مفارقة رسول الله, صلى الله عليه وسلم، فحَنَّ إليه، وبكى على فراقه وخار كما تخور البقرة.
فكيف استطاع الإنسان أن يبتعد عن سنّته، صلى الله عليه وسلم؟
كيف استطاع أن يفارق هديه؟!
كيف استطاع أن يسير على غير طريقه؟!
وهذه نملة، لا تكاد ترى، يَمُرّ سليمان وجيشه بجوار واد النمل، فتتكلّم النملة وتقول: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يَحطِمَنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [النمل:18].
فمن الذي أنطقها.
أنطقها الله الذي أنطق كلَّ شيء.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يُخبر أنه لم يتكلّم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد أتت به أمه بلا أبٍ، والله خلق الخلق على أصناف أربعة:
خلق آدم من غير أب ولا أمّ.
وخلق حوّاء من أب بلا أم؛ لأنها خُلقت من ضلع آدم.
وخلق عيسى عليه السلام من أمّ بلا أب.
وخلق سائر الخلق من أبٍ وأم.
هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [لقمان:11].
فأتت مريم تحمل عيسى عليه السلام، قال بنو إسرائيل: يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ وما كانت أمك بغيّا [مريم:28]. فلم تتكلَّم وأشارت إليه، فتضاحكوا وقالوا: كيف نُكلِّم من كان في المهد صبيًّا [مريم:29].
فتكلّم عيسى بإذن الله، ولم يَمْضِ عليه إلا ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، فتكلّم بلسان فصيح، نصيح، مليح، قال: إني عبد الله آتانيَ الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دُمت حياً وبَرًّا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام عليَّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيًّا [مريم:30-33]. هذا أولهم.
وثانيهم صاحب جُريجٍ، وكان جريجٌ رجلاً عابداً من عباد بني إسرائيل، وكان دائماً في صلاة، وذِكر، ودعاء لله تبارك وتعالى، وقد اتخذ صومعة يعبد فيها ربّه – عز وجل -.
وفي ذات يوم أتته أمّه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا ربِّ أمي وصلاتي، أي ماذا أفعل؟ أأقطع الصلاة لأجيب أمي، أم أستمر في الصلاة ولا أقطعها، ثم أقبل على صلاته.
الآن والداك ما يُطالبانك بأن تقطع الصلاة، بل يدعوانك إلى طاعة الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فتجد من يَعُقّ الوالدين، ويلعن الوالدين، ويهجر الوالدين، والله تبارك وتعالى يقول: فلا تقُل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقُل قولاً كريما. واخفض لهما جناح الذّل من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربّياني صغيراً [الإسراء:23-24]. ويقول سبحانه وتعالى: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن:60].
أهذا جزاء الإحسان؟. أهذا شكر الوالدين؟!.
لقد وُجِد في مجتمعنا من فعل لابنه كل شيء، بنى له بيتاً، وزوَّجه، وأعطاه سيارة، وجعل له أملاكاً، ومع ذلك فتجد هذا الابن، من أفجر الناس في معاملة أبيه وأمه!! قلبه أشدّ قسوة من قلوب اليهود والنصارى، يخالف والديه، ينتقص أباه في المجالس ويستهزئ به، وربما سبّه وشتمه أمام الناس، واللهُ تعالى يقول: أن اشكر لي ولوالديك [لقمان:14].
فجعل منزلة شكر الوالدين بعد منزلة شكره سبحانه وتعالى، وما ذاك إلا لعِظَمِ فضل الوالدين، وآكد حقوقهما على الأبناء.
أما جريج فلم يعصِ أمه، ولكنه رأى أن طاعة الله تُقَدّم، فاشتغل بصلاته وولم يُجب أمّه، فانصرفت أمه، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج. فقال يا رب أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أي ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته. فقالت أمه: اللهم لا تُمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات!!
أي لا تحكم عليه بالموت والفناء قبل أن يرى وجوه الزواني والبغايا المجاهرات بذلك.
ولكن هل رأيتم إنسانًا يحافظ على الصلوات الخمس، ثم يشرب الخمر؟ لا.
هل رأيتم إنسانًا يحفظ القرآن في صدره، ويتقي الله عز وجل في عمله، ثم هو يسرق ويزني؟ لا.
إنّ عبداً يحافظ على صلاة الفجر في الجماعة كل يوم، لا يتردى في الكبائر أبداً، وهذا في الغالب، وأكثر الذين يدخلون السجون الآن، ممن لا يعرفون طريق المسجد، ولا طريق المصحف، فلما جهلوا أو تجاهلوا طريق المسجد والطاعة، عرفهم الله طريق الحبس والسجن والإهانة.
دعت أم جريج عليه وانصرفت، فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وحسدوه على ذلك، لأنهم لا يريدون إلا الفجور والفسق والعُهر.
تركوا الحجاب، واختلط النساء بالرجال، ففشى فيهم الزنا والبغاء، فلعنهم الله، وجعل منهم القردة والخنازير فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يُحرّفون الكلِم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذُكّروا به [المائدة:13]. ولذلك كانوا يحاربون كل أحد يدعو إلى فضيلة أو يلتزم بها في نفسه.
فهذا موسى عليه السلام، وليس هناك أطهر من الأنبياء، ولكن بنو إسرائيل اتهموا الأنبياء بالزنا, حتى قالوا – قبّحهم الله – إنّ لوطاً عليه السلام، شرب حتى سكِر، ولما سكر وقع على ابنتيه. هذا شأن نبي الله لوط عند اليهود!!.
أتى قارون إلى امرأة زانية, وأعطاها قنطاراً من ذهب, وقال إني رأيت موسى أتى إلينا ليدعونا, فقومي وسط الناس, واصرخي فيهم وادّعي أن موسى زنى بكِ. سبحان الله! موسى عليه السلام يزني!! إنه الافتراء على الدعاة إلى الله, وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا على مرِّ العصور والأزمان.
فلما اجتمع قارون والأغنياء, والأمراء, والوجهاء, وجاءهم موسى عليه السلام يدعوهم, قامت هذه المرأة البغيّ تصرخ وتضرب وجهها, وتدعي أنّ موسى عليه السلام فعل بها الفاحشة!!.
فقام موسى عليه السلام وقال: يا أمَة الله, أسألك بمن شق البحر لي, وأنزل عليّ التوراة, فعلتُ؟ قالت: لا والله. فقال موسى: اللهم خذ قارون، فخسف الله به وبداره الأرض فأخذ يصيح: يا موسى.. يا موسى.. يا موسى.. حتى اختفى صوته, وماله, وجسمه, وداره في الأرض, وفي بعض الآثار الإسرائيلية, قال الله لموسى: يا موسى, استغاث بك فلم ترحمه, وعزتي وجلالي, لو أنه استغاث بي لرحمته!!.
ونعود إلى جريج العابد, وقد تآمر عليه بنو إسرائيل, فأتت امرأة بغي يُتَمثّل بحسنها, فقالت: إن شئتُم لأفتِننَّه لكم, فتعرضت له, فلم يلتفت إليها, فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته, فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو مِن جريج، فأتوه، فاستنزلوه ,وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغي، فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف، أتى، فطَعنَ في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال الصبي الرضيع: أبي فلانٌ الراعي. فأقبلوا على جريج يُقبِّلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طينٍ كما كانت، ففعلوا [7]. وهذا الثاني.
والثالث: صبيٌّ كان يرضع من أمه، فمَرّ رجلٌ راكب على دابة فارهة [8] وشارةٍ [9] حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا. فترك الثدي، وأقبل إليه، فنظر إليه، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع!!.
ثم مرّوا بجارية، وهم يضربونها، ويقولون: زنيتِ، سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت: مرّ رجل حسن الهيئة، فقلتُ : اللهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللهم لا تجعلني مثله.
ومروا بهذه الأمَة، وهم يضربونها، ويقولون: زنيتِ، سرقتِ، فقلتُ: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلتَ: اللهم اجعلني مثلها !! فقال الرضيع: إنّ ذاك الرجل كان جبّاراً، فقلتُ: اللهم لا تجعلني مثله. وإنّ هذه يقولون لها: زنيت ولم تزنِ، وسرقت ولم تسرق، فقلتُ: اللهم اجعلني مثلها [10].
والشاهد من هذه القصص – أيها المسلمون – أمور:
أولاً: إن الله على كل شيء قدير، يجعل الذئب يتكلم، ويجعل البقرة تتكلّم، ويجعل الجذع يبكي، ويجعل الصبي الرضيع يتكلّم ويشهد شهادة الحق.
ثانياً: أن الله عز وجل يُدافع عن أوليائه، وينصر رسله وأحبابه ويُبرّئ ساحة المصلحين والدعاة إلى الله عز وجل.
ثالثاً: أن الله يفضح أعداءه، ويَكِلُهم إلى أنفسهم، وينزع عنهم سِتره وحفظه، فكلما سلَكوا وادياً هلَكوا ولم يُوَفّقوا.
رابعاً: إن العبرة بالأعمال، لا بالأموال ولا المناصب ولا الأنساب، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) [11].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم – أيضاً – أنه قال: ((احتجّت الجنة والنار، فقالت النار: مالي لا يَدخلني إلا الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة: مالي لا يَدخلني إلا ضعفاء الناس، وسَقَطُهم [12] وعجزهم [13] فقال الله – عز وجل – للنار: أنت عذابي، أُعذّب بك من أشاء. وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكلّ واحدة منكما ملؤها)) [14].
فتقربوا – رحمكم الله – إلى ربكم بالأعمال الصالحة، وراقبوه تبارك وتعالى في السر والعلانية، طهروا قلوبكم، وزكوا نفوسكم، فلا ينفع عند الله – عز وجل – إلا التقوى والعمل الصالح يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يصلحني وإياكم، ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، وأن يجعلنا من المتقين المهتدين، الذين سلك بهم صراطه المستقيم، وهداهم إلى البر العميم، والأجر العظيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ( 4/140 ) ومسلم ( 4/1976 , 1977 ) رقم ( 2550 ).
[2] يوم السبع : أي يوم يطردك عنها السبع , وبقيت أنا فيها , لا راعي لها غيري ؛ لفرارك منه , فأفعل فيها ما أشاء !! وقيل غير ذلك. انظر : فتح الباري ( 7/33 ).
[3] أخرجه البخاري ( 4/149 ). ومسلم ( 4/1858 ) رقم ( 2388 ).
[4] العشار : جمع العشراء , كنفساء , وهي الناقة التي أتى على حَملها عشرة أشهر
[5] أخرجه البخاري ( 4/173 , 174 )
[6] أخرجه أحمد ( 2/ 109 ).
[7] أخرجه البخاري ( 4 / 140 ). ومسلم واللفظ له ( 4 / 1976 , 1977 ) رقم ( 2550 ).
[8] فارهة : أي دابة نشيطة قوية.
[9] الشارة : الهيئة واللباس
[10] أخرجه البخاري ( 4 / 140 ). ومسلم واللفظ له ( 4 / 1977 , 1978 ) رقم ( 2550 ).
[11] أخرجه مسلم ( 4 / 1987 ) رقم ( 2564 ).
[12] سقطهم : أي المحتقرون منهم.
[13] عجزهم : أي العاجزون عن طلب الدنيا والتمكن فيها.
[14] أخرجه البخاري ( 6 / 48 ). ومسلم ( 4 / 2186 ) رقم ( 2846 , 2847 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد عدد الكائنات، وملء الأرض والسماوات.
اللهم صلّ وسلّم وبارك على النعمة المُهداة والمِنّة المُسداة، على من بعثته رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين وإماماً للمتقين، وخاتماً للمرسلين، وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى: واصبرْ نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يريدون وجهَهُ ولا تَعْدُ عيناك عنهم تريدُ زينة الحياة الدنيا ولا تطعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرِنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطًا [الكهف:28].
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية بأن يتواضع لله مع المتواضعين، وأن يجلس في مجالس الفقراء والمساكين، وألاّ يُقَوِّم الناس بأموالهم ولا بأحسابهم وأنسابهم، وإنما يقومهم بما عندهم من الإيمان والعمل الصالح.
كان البراء بن مالك رجلاً فقيراً زاهداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يملك من الدنيا إلا بيتاً من طين، وثوبين باليين، وسيفه الذي طالما قاتل به أعداء الله تعالى. فقال عليه الصلاة والسلام ذات يوم: ((كم من أشعث أغبر ذي طِمْرين [1] ، لا يؤبه له [2] ، لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك)) [3]. أشعث: متغير اللون، أغبر: متغير الوجه واللون، ذي طمرين: ثوبين باليين، لو أقسم على الله لأبره: أي لو حلف على شيء، أوقعه الله إكراماً له، بإجابة سؤاله، وصيانته من الحنث في يمينه، هذا لعِظَم منزلته عند الله، وإن كان حقيراً عند الناس، لا يلتفتون إليه، ولا يجعلون له أي اهتمام.
حضر المسلمون معركة "تَسْتُر"، فنادوا البراء بن مالك، وقالوا له: يا براء، قم فقد أثنى عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا، نسألك بالله، أن تُقسم على الله أن ينصرنا هذا اليوم!.
قال: انتظروني قليلاً، فذهب، واغتسل، ولبس أكفانه، وتحنّط، وأتى، ثم وقف أمام الجيش وقال: اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم، أن تجعلني أول قتيل في سبيلك وأن تنصر المسلمين.
فبدأت المعركة، والتحمت الصفوف، وتساقط الرؤوس، واستجاب الله دعاءه، فكان أول قتيل، وكان النصر حليفاً للمسلمين، وهذا لأنه أخلص الدعاء لوجه الله تبارك وتعالى، وقدّم روحه ونفسه في سبيل الله، وكان الجيش المسلم على مستوى عظيم من التضحية والفداء.
نصرهم الله عزّ وجلّ، وهم حفاة، عراة، فقراء، لأنه سبحانه وتعالى، لا ينظر إلى الصور والأجسام، وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال.
وفي صحيح مسلم، عن عمر بن الخطاب قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن خير التابعين رجلٌ، يقال له أُوَيسٌ، وله والدة، وكان به بياض [4] ، فمروه فليستغفر لكم)) [5].
وفي رواية: أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر، وفيهم رجلٌ ممن كان يسخر [6] بأُويس، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القَرنِيِّين ؟. فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد قال: ((إن رجلاً يأتيكم من أهل اليمن، يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أمٍّ له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم)) [7].
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن [8] سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مرادٍ ثم من قَرَنٍ؟ قال: نعم، قال: فكان بك برصٌ فَبَرِأْتَ منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مرادٍ، ثم قَرَنٍ، كان به برصٌ، فبرأ منه، إلا موضع درهم، له والدة، هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استعطت أن يستغفر لك فافعل)) فاستغفر لي. فاستغفر له.
فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها. قال: أكون في غبراء الناس [9] أحبُّ إليّ [10] !!.
فهذا أويسٌ القرنيُّ، رجل فقير، لا يعرفه أحد، بل يستهزئ به بعض أهله، لهوانه عليهم، وعدم اعتدادهم به، لا يملك مالاً، وليس عنده متاع، ومع ذلك يبشر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويحث الصحابة إذا رأوه أن يطلبوا منه أن يستغفر لهم، فكان عمر رضي الله عنه يبحث عنه في وفود أهل اليمن، ويسأل عنه في المواسم، حتى إذا أدركه، وعرفه بصفته التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب منه الاستغفار، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل منه بلا شك، وأرفع منه بلا ريب، إلا أنه لما رأى هذا العبد الصالح، وعرف أنه هو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب منه أن يستغفر له.
فهؤلاء هم الصلحاء، وهؤلاء هم الأتقياء، وهؤلاء هم المقربون من الواحد الأحد، إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا حضروا لم يُدْعوا ولم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمةٍ ومن كل فتنةٍ مهلكة.
فيا من قرّب من شاء من عباده قرِّبنا. ويا من أسبل الستر على من شاء من عباده أسبل الستر علينا.
اللهم إنا بحاجة إلى رحمتك فارحمنا.
اللهم لا تحجب عنا دعاء الصالحين. واحشرنا في زمرة المتقين واجعلنا من أتباع سيد المرسلين.
عباد الله:
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في كتابه حيث قال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56].
فاللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
[1] ذي طمرين : أي صاحب ثوبين خَلِقين.
[2] لا يؤبه له : أي لا يُلتفت إليه.
[3] أخرجه الترمذي ( 5 / 650 ) رقم ( 3854 ) وقال : حسن صحيح وهو عند مسلم ( 4 / 2024 ) رقم ( 2622 ) بلفظ : " رُبَّ أشعثَ , مدفوعٍ بالأبواب , لو أقسم على الله لأبره " وليس فيه ذكر البراء.
[4] بياض : أي برص.
[5] أخرجه مسلم ( 4 / 1968 ) رقم ( 2542 ).
[6] أي يحتقره ويستهزئ به.
[7] أخرجه مسلم ( 4 / 1968 ) رقم ( 2542 ).
[8] أمداد أهل اليمن : هم الجماعة الغزاة الذين يمدون جيوش الإسلام في الغزو.
[9] غبراء الناس : أي ضعافهم وصعاليكهم وأخلاطهم الذين لا يؤبه لهم.
[10] أخرجه مسلم ( 4 / 1969 ) رقم ( 2542 ).
(1/1310)
رسول المساكين
سيرة وتاريخ
الشمائل
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبينا رسول لكل البشر لكن له شأن خاص مع المساكين. 2- كفار قريش يعيبون على النبي
جلوسه مع الفقراء والمساكين. 3- الميزان في وزن الرجال هو التقوى. 4- ذو البجادين.
5- صاحب هيئة رثة لكن لو أقسم على الله لأبره. 6- البراء بن مالك. 7- الضعفاء هم أتباع
الأنبياء. 8- تفقد رسول الله للضعفاء. 9- حديث عن ظلم العمال الفقراء ومطالبة برفع الظلم
عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
عنوان هذه الخطبة: رسول المساكين، وهو عليه الصلاة والسلام، رسول إلى كل البشر، إلى الملوك والمملوكين، إلى الأغنياء والفقراء، إلى الكبار والصغار، إلى الرجال والنساء.
لكنني أريد اليوم أن أقف معه، عليه الصلاة والسلام، وهو يتعامل مع المساكين، يقف معهم، يرحمهم، يعلمهم، يرفع من شأنهم، يعيش مأساتهم وظمأهم وجوعهم، ودموعهم، ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [الأنعام:52].
وهل كان عليه الصلاة والسلام، يطرد الفقراء؟ وهل كان عليه الصلاة والسلام، يبعد المساكين؟ لا، ولكن للآية قصة.
أتى كبراء مكة وصناديدها من الذين عششت الجاهلية في رؤوسهم، فرأوا الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً في الحرم، وحوله بلال، وصهيب، وعمار، وابن مسعود، وكلهم مساكين وفقراء، فقال أبو جهل: يا محمد، إن كنت تريد أن نجلس معك، فاطرد هؤلاء الأعبد، حتى نجلس معك، فهمّ الرسول أن يفعل طمعاً في إسلامهم، فأنزل الله عليه هذه الآية [1].
إن هؤلاء الفقراء والمساكين المنكسرين خير من أولئك العظماء المتكبرين، إن أقفية هؤلاء المؤمنين أشرف من وجوه أولئك الكفرة، إن أقدام هؤلاء خير من رؤوس أولئك، لأن هؤلاء مؤمنون، موحدون، طائعون، وأولئك مكذبون، متكبرون، محادون لله ورسوله.
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [الكهف:28].
قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي : مرّ رجل على النبي ، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيت في هذا)) ؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع.
فسكت رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم مرّ رجل آخر، فقال له رسول الله : ((ما رأيك في هذا)) ؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله : ((هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)) [2].
ما هو الميزان إذن؟ ما هو المقياس؟ ما هي المؤهلات التي ترفع الإنسان وتخفضه؟ إن أكرمكم عند الله أتقاكم [الحجرات:13].
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) [3].
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: ((اللهم أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)) [4].
وليس معنى هذا أن نترك الدنيا، أو نرمي المال، وإنما المعنى أن نعيش منكسرة قلوبنا لله ، ففي بعض الآثار أن الله عز وجل يقول: أنا مع المنكسرة قلوبهم لي.
والذي انكسر قلبه لله، هو من يعيش عبداً لله، لا لشهواته، ولا لمنصبه، ولا لدنياه.
لنقف اليوم مع نماذج من الفقراء والمساكين والمستضعفين، أحياها رسولنا عليه الصلاة والسلام، ورفعها، ووقف معها موقف شرف لا تنساه، بل لا ينساه التاريخ.
أتاه شاب من شباب مكة، وقد أخذ أهله كل شيء عنده، لأنه أسلم، جريمته الكبرى أنه أسلم، أخذوا ماله، وخلعوا ثيابه، فما وجد إلا شملة قسمها نصفين: نصف لأعلاه، ونصف لأسفله، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام، أجهش بالبكاء في وجهه، وقال: رأيته من أغنى شباب مكة، ومن أطيب شباب مكة، ثم ترك ذلك كله لله، إنه عبد الله ذو البجادين، وسمي بذي البجادين، لأنه قسم الشملة على نصفين ليستر بها جسده، وأتى جائعاً طريداً معذباً، يحمل لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وتمر الأيام، والرسول عليه الصلاة والسلام، يملأ قلبه حباً وحناناً وعطفاً ورحمة، ويخرج معه في غزوة تبوك، وينام الجيش وعدده أكثر من عشرة آلاف، وفي وسط الليل يستيقظ ابن مسعود فيرى ناراً تضيء في آخر المعسكر، فيلتمس الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يجده في مكانه، ويبحث عن أبي بكر فلا يجده، ويبحث عن عمر فلا يجده، فيذهب إلى مكان النار، فإذا الرسول عليه الصلاة والسلام حفر قبراً ونزل في القبر وسط الليل، وإذا أبو بكر وعمر يحملان جنازة يدليانها في القبر، فقال ابن مسعود: من هذا يا رسول الله، قال: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين، توفي هذه الليلة، ويجعل عليه الصلاة والسلام، ساعده تحت خد عبد الله، ودموعه تتقاطر على خد عبد الله في ظلام الليل، فلما أنزله قبره، رفع كفيه واستقبل القبلة وقال: اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، اللهم ارض عنه فإني أمسيت عنه راض، فبكى ابن مسعود وقال: يا ليتني كنت صاحب تلك الحفرة [5].
أيها الناس:
أي فوز أعظم من هذا الفوز، وأي شيء أفضل من أن يرضى الله ورسوله عن عبد، ولكن مع هذا فكثير من الناس رضوا بالبدائل الدنيوية، من المناصب والأموال والقصور ولم يعبئوا بغضب الحي القيوم، فأي عقول هذه العقول، وهل هناك عاقل يستطيع أن ينام ليلة وقد غضب الله عليه، وغضب عليه رسوله، ؟ لأنه يتعدى حدود الله، وينتهك شرعه، ويستهزئ بسنة نبيه.
اختصمت امرأتان في عهد النبي، عليه الصلاة والسلام، فأتت إحداهما واسمها الربيّع أخت أنس بن النضر، فقلعت سن المرأة الأخرى، ورفع الأمر إلى الرسول، عليه الصلاة والسلام، فقال: كتاب الله، والسن بالسن.
فأتى أنس بن النضر، بطل المعارك، الذي قتل من الكفار مبارزة مائة، غير المئات التي صفى حسابهم تصفية جسدية، في بدر وأحد والأحزاب، فقال: يا رسول الله، أتريد أن تقلع سن أختي الربيّع؟ قال: نعم، كتاب الله. قال: والله لا تقلع سن أختي. ما معنى هذا القسم، هل هو اعتراض على الشرع؟ هل هو اعتراض على حكومة النبي ؟ كلا، ولكن أقسم أنس هذا القسم، رجاء في الله أن يبرّ قسمه، كأنه دعاء.
فلما أقسم أنس قال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا إلى أهل المرأة فإن رضوا بالأرش فلا بأس. فذهبوا إليهم فرضوا بالأرش، وكانوا قبل ذلك لم يرضوا به أبداً، وأقسموا لا يرضون إلا بسن الربيّع.
فتبسم عليه الصلاة والسلام وأخذ ينظر إلى ثياب أنس بن النضر الممزقة وإلى جسمه النحيل ثم قال: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) [6].
كأنه يقول له: أصبحت في منزلة إذا حلفت على الله، أبر الله قسمك!!
أي منزلة هذه، أن يقسم الإنسان الضعيف على الملك الجليل فيلبي قسمه!!.
وهذا البراء بن مالك كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا ذهبوا إلى المعارك، أخرجوه وقالوا: أقسم على الله أن ينصرنا.
حضروا معركة تستر في الشمال، وحاصروها ورفض الكفار أن ينزلوا من القلعة، وكانت محصنة، وما كان الصحابة يملكون صواريخ، ولا مدافع، ولا حتى منجنيق إلا أنهم كانوا يملكون ما هو أعظم من هذا كله، يملكون الدعاء، الذي يتجاوز حدود الأرض فيصل إلى السماء فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
حاصر الصحابة القلعة، ثم قالوا للبراء نسألك بالله أن تقسم على ربك أن ينصرنا هذا اليوم، قال: انتظروني قليلاً، فذهب واغتسل وتحنط وتطيب، ثم رفع سيفه، والتفت إلى السماء ليخاطب ربه مباشرة، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك. هذا أول مؤهلات البراء.
وليسأل كل منا نفسه، هل يحب ربه؟ هل صحيح أننا نحن المسلمون نحب ربنا، فنمتثل أوامره، ونجتنب نواهيه، ونحب دينه وشرعه، ونقدم أنفسنا ودماءنا وأموالنا رخيصة لإعلاء كلمة الله.
لا أعني بمحبة الله – عز وجل – تلك المحبة المزعومة التي يدعيها كل الناس بألسنتهم، وليس لها في عالم الحقيقة وجود، فإن قوماً ادعوا محبة الله – عز وجل – فابتلاهم الله بهذه الآية: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31]. فظهر كذبهم، وبان عوارهم ودجلهم.
إنني لن أجيب عن هذا السؤال، فكل يجيب عليه في نفسه، أما البراء فقد كان صادقاً، كان جسمه يتقطع وهو يتبسم لأنه يحب الله.
قال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا، وأني تجعلني أول قتيل، ودارت المعركة، فوالذي لا إله إلا هو كان أول قتيل في المعركة، وكان فوزاً ساحقاً للمسلمين، ودكّت القلعة دكاً، وقتل الكفرة، ورفعت راية لا إله إلا الله.
فأين هذه القلوب، وأين هذه النماذج التي تحب الله – عز وجل – وتعيش مع شرعه؟ فكان جزاؤها أنها تقسم على الله – عز وجل – فلا يردها، بل يبّرّ قسمها، ويلبي دعاءها.
وفي مناظرة ساخنة بين هرقل ملك الروم وبين أبي سفيان، الذي كان آنذاك عدّواً لدوداً لرسول الله، عليه الصلاة والسلام، فيقول هرقل: يا أبا سفيان أضعفاء الناس يتبعونه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم، فقال: أولئك أتباع الرسل [7].
ولا يعني هذا أن كل من جمع مالاً أو اغتنى، أو ولاّه الله أمراً أو منصباً أن يلغى، لا، لأن الأمة لا تستغني عن هؤلاء أيضاً، ولكن المعنى أن نرحم أولئك المساكين، وأن نعيش مأساتهم، وأن نحبهم، وأن نقف معهم ونلبي طلباتهم، لأن صوتهم ضعيف لا يصل، وخطوتهم قصيرة فلا تمتد، وتغلق الأبواب في وجوههم لأنهم مساكين، والأعطيات لا تنالهم لأنهم مساكين، فحق على المسلم أن يشفع لهم، وأن يعيش قضيتهم.
أيها الناس:
كان عليه الصلاة والسلام، يزور عجائز المدينة، ولعل أحداً يسأل، ولماذا لم يرسل أحداً من أصحابه، ويبقى هو في بيته؟
فنقول: إن زيارته لعجوز في طرف المدينة خير من ألف محاضرة، وألف كتاب، وألف تصريح، وألف خطبة.
يزور عليه الصلاة والسلام العجوز فيسألها عن حالها، ويمسكه الأعرابي في الطريق فيوقفه حتى ينتهي من حاجته، ويحمل الأطفال ويداعبهم، كان الفقير والمسكين والضعيف يأخذ بيديه عليه الصلاة والسلام، فينطلق به حيث شاء، فزكّاه ربه بتاج من الوقار والمديح والثناء، لا يعدله شيء وإنك لعلى خلقٍ عظيم [القلم:4].
إن القلوب القاسية ترفض هذا السلوك وتسميه تنازلاً وتدميراً للشخصية، وبعضهم يزعم أنه إذا زار الفقراء أو وقف مع المساكين، سقطت هيبته، وانهار كبرياؤه، ولذلك تجده يضيف على نفسه حالة من الكبر والعبوس والغلظة، فيمقته الله، ويسقطه من العيون، فلا تحبه القلوب، ولا تدعو له الألسنة، ولا تعشقه الأرواح، ولا يجد قبولاً في الأرض، بل بغضاً ومقتاً وكرهاً.
وقد ذكر عليه الصلاة والسلام؛ أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذرّ يطؤهم الناس بأقدامهم [8].
نعوذ بالله من الكبر والمتكبرين، ومن الجبروت والمتجبرين، ونسأله تعالى أن يرحمنا برحمة المساكين، وأن يعفو عنا كما يعفو عن المذنبين.
عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظر: الدر المنثور (3/25، 26).
[2] أخرجه البخاري (6/123).
[3] أخرجه أبو داود (3/32) رقم (1594) ، والنسائي (6/46) رقم (3179) والترمذي (4/79) رقم (1702) ، وقال الترمذي: حسن صحيح ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع ، رقم (41).
[4] أخرجه عبد بن حميد والبيهقي عن أبي سعيد ، والطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (1261).
[5] قال الهيثمي في المجمع (9/372) رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد ، وهو متروك.
[6] أخرجه أبو داود (4/197) رقم (4595) ، وابن ماجه (2884 ، 885) رقم (2649) ، وأحمد (3/128 ، 167 ، 284).
[7] أخرجه البخاري (1/5) ، ومسلم (3/1393-1397) رقم (173).
[8] أخرجه الترمذي (4/565) رقم (2492) وقال:حسن صحيح، وأحمد (2/179) وحسنه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (8040).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على المعلم الأمين، والبشير النذير، والقائد النحرير، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس:
العمل والعمال قضية كبرى تحتاج إلى بسط من الحديث، وإلى مقام أطول من هذا المقام، لكنني أشير إليها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هؤلاء العمال قصتهم المأساوية تبدأ من يوم أن ترك أحدهم أطفاله وزوجته، وترك جيرانه وأهله، وترك بيته الذي كان يألفه، ومراتع الصبا التي عاش فيها، ترك كل ما يعرف، وكل ما يألف، وكل ما يحب، وسافر مئات الأميال، إلى بلاد هي غريبة عنه، لا يعرف فيها أحداً، ولا يألف فيها شيئاً، ولماذا أتى؟ هل أتى للسياحة؟ هل أتى ليجمع معلومات عن هذه البلاد؟ لا، إنما أتى طلباً للقمة العيش له ولأطفاله.
إنني أتكلم عن العمال المسلمين الموحدين، أما غير المسلمين، فقد أفتى كثير من أهل العلم أنه لا يجوز استقدامهم إلى جزيرة العرب، إنما أتكلم عن العمال المسلمين المساكين الفقراء، الذين أتوا من أنحاء الأرض يطلبون الرزق الحلال.
فتصور ماذا يحدث لبعضهم: أول ما يأتي إلى هذه البلاد، يجبره كفيله أن يدفع كل ما أنفق في الرحلة من بلاده إلى هنا، وهو مسكين لا يقدر على ذلك، فيجعل ذلك ديناً عليه، يؤديه إليه كل شهر، فيبقى المسكين شهوراً طويلة، يدفع ثمن التذكرة، وثمن التنقل، وثمن الفيزة، وغير ذلك.
ثم ماذا يحدث؟ اسألوا أصحاب المؤسسات وأصحاب المشروعات التجارية عن ذلك.
إن العامل من هؤلاء يتقاضى أربعمائة ريال، أو خمسمائة ريال أو ستمائة ريال، وبعضهم أقل من ذلك، ثم يأتي هذه الجبار الذي لا يرحم المستضعفين، فيطالبهم بحقوقه، ولا يدفع لهم حقوقهم، فإذا انتهى الشهر ماطلهم على هذا الراتب الزهيد البسيط الذي يصرفه الواحد منا في يوم واحد!!
ثم إذا طلب المسكين إجازة لم يعطه، يطلب أن يذهب إلى أطفاله فيرفض، فلا هو بالذي حصل على مالٍ لأهله، ولا أراح جسمه من العمل والظلم والعتو والجبروت.
فأين الإسلام؟ وأين ما تعلمناه من سيرة الرسول، عليه الصلاة والسلام ورحمته بالمساكين؟
هل يتصور أن يأتي صاحب الملايين فيأكل حقوق العمال المساكين، ويمنع عنهم أجورهم البسيطة؟
يأكل الطعام الشهي، ويطعمهم الخبز اليابس، يتعامل معهم كما يتعامل مع الدواب تماماً، فأين الإسلام؟ أين معنى الصلاة؟ أين أثر الإيمان الخالد؟
لماذا لا نسأل أنفسنا، أليس الله بقادر على أن يحوّل الحال فيصبحون هم الأغنياء، ونحن الفقراء، ويجعلهم هم الأثرياء ونحن المساكين وتلك الأيام نداولُها بين الناس [آل عمران:140]. فلابد أن نضع في حسابنا أنه يمكن في مرحلة من مراحل القضاء والقدر أن نصل إلى هذا المستوى، فنسافر إلى بلادهم طلباً للرزق.
وهناك سؤال آخر، ألا نسْتبْقِ نعمة الله علينا، ألا نشكره أن جعلنا في هذا الوضع وفي هذه المعيشة الهنية والحياة الرغيدة؟
رجل عنده الملايين يمارس الظلم والجبروت على هؤلاء العمال المساكين ألا يسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من استرعاه الله رعية فمات هوه لها غاش حرم الله عليه الجنة)) [1].
فلا حيّا الله تلك الثروات الطائلة، إذا كانت مبنية على الظلم والكبر والعتو.
فيا أيها الناس:
ارفعوا الظلم عن هؤلاء المساكين، من كانت عنده مؤسسة، أو شركة، أو كان لديه عمال تحت كفالته فليتق الله فيهم.
ارفعوا الظلم فإن الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) [2]. ويقول: ((وفي كل كبد رطبة أجر)) [3]. إن أطعمت كلباً يمكن أن يكون ذلك سبباً لدخولك الجنة.
زنت امرأة من بني إسرائيل وأسرفت على نفسها وعصت ربها، وفي يوم مرت بكلب يلهث من العطش، يأكل الثرى، يمد لسانه إلى الطين، فدلت الدلو في البئر ونزعته وسقت الكلب، فغفر الله لها [4].
هذا مع الكلاب في عالم الكلاب، فكيف بعالم البشر، وكيف بعالم المسلمين.
وفي صحيح مسلم قال النبي : ((دخلت امرأة النار في هرّة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا سقتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)) [5].
وهذا في عالم القطط، فكيف بالذي يترك الإنسان بلا طعام ولا شراب ولا مأوى.
ثم إن هؤلاء العمال لماذا نتركهم يعملون أثناء الصلوات المفروضة، ألا نتقي الله فيهم، أليسوا مسلمين؟ أليسوا مطالبين بالصلاة؟ نمر بكثير من العمارات التي تُبنى، فنرى العمال يحملون آلاتهم ثم لا يلبون ذلك النداء العظيم، من المسؤول عن هذا؟ إن هذا جرح لمشاعر المسلمين، وانتهاك للمنهج الرباني الخالد.
ألا فارفعوا الظلم عن هؤلاء، ((الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [6]. قفوا مع هؤلاء المساكين، لبوا طلباتهم، عيشوا مأساتهم، أحسنوا إليهم، فإن ربكم – تبارك وتعالى – مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [النحل:128].
اللهم صلّ على المعصوم، وبلغه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن باقي العشرة المبشرين، وعن سار الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك ومنّك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه البخاري (8/107) ومسلم (1/125) رقم (142).
[2] أخرجه البخاري (3/99).
[3] أخرجه البخاري (3/77) ، ومسلم (4/1761) رقم (2244).
[4] أخرجه مسلم (4/1761) رقم (2245).
[5] أخرجه البخاري (3/77) ، ومسلم (4/1760) رقم (2242 ، 2243).
[6] أخرجه الترمذي (4/285) رقم (1924) قال الترمذي : حسن صحيح ، وأبو داود (4/285) رقم (494) ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (3522).
(1/1311)
سلعة الله الغالية
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله لا يتخلى عن عباده المحسنين 2- مراتب الجود : أ- الجود بالنفس ب- الجود بالعلم
ج- الجود بالمال د- الجود بالجاه والسلطان هـ- الجود بالوقت والراحة
3- أمثلة لجود الصحابة بأنواع الجود المختلفة
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله:
يقول الله تبارك وتعالى: أفمَن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوانٍ خيرٌ أمَّن أسس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين [التوبة:109].
أفمن أسس حياته ومستقبله، على تقوى الله تعالى ورضوانه، على خوف من الله, وخشية لله, خيرٌ أمَّن أسس حياته ومستقبله على معصية وتمرُّد، وتَعَدٍّ وانتهاك لحدود الله وحُرُماته.
ومن سُنّة الله تبارك وتعالى أن ينصر أوليائه، وأن يحفظ أحبابه، وأن يؤيد عباده. إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إنّ الله لا يحب كلّ خوّانٍ كفور [الحج:38].
ومن سُننه كذلك أن يخذل أعداءه، وأن ينتقم ممن عاداه وحادَّه.
ولذلك لمّا رجع رسول الله، عليه الصلاة والسلام، من غار حراء خائفاً وجلاً بعد أن جاءه جبريل، وظنّ أنه سيموت أو سيهلك أو سيُخزى، لأنه رأى صورة ما رآها من قبل، فقالت له خديجة، رضي الله عنها، وأرضاها: كلا والله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لَتَصِلُ الرحِم، وتحمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق" [1]. فاستدلّت – رضي الله عنها – بحُسن أفعاله، وبجميل سيرته على أنّ الله لا يُخزيه أبداً.
هل رأيتم متصدقاً أخزاه الله ؟. هل رأيتم صادقاً أسلَمه الله ؟ هل رأيتم مُحسناً ضيّعه الله ؟
إنما يُخزي الله أعداءه ومَن نادّه.. أهل المعاصي والهوى.. أهل الفواحش والسيئات، هم الذين يُخزيهم الله تعالى ويقطع عنهم حبلَه ومدَده.
أما أهل الجود والصدقة والمعروف، فإنّ الله – عز وجل – معهم مثل الذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة والله يُضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261].
ويقول الشاعر عن البذل والجود:
ولم أرَ كالمعروف أما مذاقه فحلوٌ وأما وجهه فجميل
وقد بيّن ابن القيّم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين، مراتب الجود ودرجاته.
فأعظم درجات الجود ومراتبه: الجود بالنفس، ليس هناك أكرم ممن يجود بنفسه في سبيل الله – عز وجل -.
فيا مَن يبخل بدرهمه وديناره.. أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، جادوا بنفوسهم وأرواحهم في سبيل الله.
يجود بالنفس إن ضَنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
جاء الصحابة في بدر، لا يملكون من الدنيا شيئاً، لا مال، ولا عقار، ولا سلاح، وإنما كانوا يملكون نفوساً أبيّة، وأفئدة طاهرة، باعوها لله الواحد الأحد، إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة [التوبة:111].
رفعوا سيوفهم ظاهرين مقبلين، وقالوا: يا رب، لا نملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً، إنما نملك نفوساً قد وَهَبناهَا لك، فتقبّلها منّا، وجئنا ببضاعة مُزجاة فتصدق علينا.
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعزّ شيء فاشترى
أَمّن رمى نار المجوس فأُطفئَت وأبان وجه الصبح أبْلج نيِّرا
ومن الذي دَكُّوا بعزم أكفِّهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
خالد بن الوليد، باع نفسه لله، جعفر الطيّار، عبد الله بن رواحة، صلاح الدين، محمود بن سُبُكتكين، وأبناء محمود من المجاهدين الأفغان قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله – عز وجل -.
أرواحنا يا رب فوق أكُفِّنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمُها ونهدم فوقها الكُفّارا
لو كان غير المسلمين لحَازَها كنزاً وصاغ الحُلْي والدينارا
أيها المسلمون:
ومن مراتب الجود أيضاً: الجود بالعلم، وهو من أشرف المراتب، وبذلُه للناس من أعظم القُرَب إلى الله تعالى، وهو أشرف من الجود بالمال، كما ذكر ابن القيم رحمه الله، فيا دعاة الإسلام، ويا طلبة العلم، ويا حمَلَة الشهادات العالية، الأمة ماتت جهلاً، وشركاً وتخلُّفاً, وضياعاً، فمن يُنقذها بعد الله إلا أنتم؟ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب لتُبيِّنُنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون [آل عمران:187].
اشتروا به مناصب ,ووظائف، وتكدّسوا في بيوتهم، والأمة غارقة في الجهل، وفي الشرك، وفي الخرافة، فبئس ما يشترون.
ووالله لساعة واحدة يقضيها المسلم في طلب العلم خير له من الدنيا وما فيها.
هو العَذْب المهنّد ليس ينبو تُصيبُ به مَضاربَ من أردتَ
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً خفيف الحِمْل يوجد حيث كنتَ
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفّاً شددتَ
ومن وصايا عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – لِكُمَيل بن زياد، يا كُميل: العلم خير من المال.. العلم يحفظك وأنت تحفظ المال، العلم يزكو بالإنفاق، والمال تُنقصه النفقة.
يقول تبارك وتعالى: إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التوّاب الرحيم [البقرة:159160].
ونسأل أيها المسلمون. كم من العلماء في بلادنا ؟ كم من الدعاة؟ كم من القضاة، ومع ذلك فالقُرى جاهلة، والبوادي تعيش في الخرافة، وكثير من الناس لا يعرفون أحكام دينهم، ولا أمور شرعهم، ظمئى وحولهم، ولكن بخل أهل الماء به، وصدوا الناس عنه.
إنّ مَن بخل بعلمه، بالنور الذي يحمله، بالهدى الذي في صدره، لَهُو أشدّ ذمّاً ومَقتاً وبخلاً ممن بخل بماله.
إنّ أهل الباطل ودعاة التخلف، يبذلون ما عندهم من الباطل، وينشرونه بين الناس، ويودّون أن لو يصل باطلهم إلى كل إنسان على وجه هذه الدنيا.
إنّهم تكلّموا، وكتبوا، وحاضروا، وأنتجوا، وطبّلوا، وزمّروا، وغَنّوا، ورقصوا؛ دعاية لباطلهم، ونشراً لعفنهم، بينما يستحي كثير من شباب الإسلام؛ أن يُعلِّم جاهلاً آية من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون :
من مراتب الجود أيضاً: الجود بالمال، ونحن – بحمد الله تعالى – نعيش في هذه البلاد عيشة هنيئة كريمة لا تتوفر في معظم بلاد الدنيا، فماذا قدمنا لأنفسنا، وماذا قدمنا لديننا؟.
هل قدمنا للقبر، هل قدمنا للصراط، هل قدمنا ليوم الكُرُبات والفضائح؟
لقد رأينا ورأيتم كثيراً من الناس يَشْكون الحاجة والفقر، مَدِينٌ لا ينام الليل، فقير لا يجد قوت يومه، مريض لا يملك ثمن الدواء، هرِمٌ ليس له إلا الله تعالى، فمن لهؤلاء إن أغلقتم أبوابكم دونهم؟
واعلموا أيها الناس: أنّ مَن قدّم خيراً فإنما يُقدّم لنفسه وما تقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله [البقرة:110].
الخير أبقى وإن طال الزمان به والشرُّ أخبث ما أوعيْتَ من زادك
يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: ((ما من يوم يُصبح العباد فيه؛ إلا ملَكان ينزلان؛ فيقول أحدهما: اللهم أعط مُنفقاً خلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط مُمسكاً تلفا)) [2].
فمن أراد أن يُخلف الله عليه، وأن يُبارك له في رزقه، وفي دَخلِه، فليُنفق على الفقراء، على المجاهدين، على المساكين، في مشاريع الخير، فكل ذلك من أبواب البر.
وإذا كان بعض الجاهليّين لا يرضون أن يعيش في مجتمعهم جائع ولا مسكين، وهم وثنيّون، لا يعرفون رباً ولا رسولاً ولا ديناً، فما بال أهل الحق يَبخلون بفضل الله على عباد الله!!.
ابن جُدْعان رجل جاهلي، ما عرف لا إله إلا الله، ما سجد لله، عنده صِحاف تُعرض كلّ صباح فينادي مُناديه على جبل أبي قُبيص في مكة: من أراد الإفطار فليَأتِ، فتُحاط صحافه بالمساكين، فإذا كان الظهر، ملأ صِحافه باللحم والخبز ونادى مُناديه: من أراد الغداء فليَأت.
ولذلك قال أمية بن أبي الصلت في آل جدعان:
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم لِتَطلُّب الحاجات بالعيدان
بل يُشرقون وجوههم فترى لها عند السؤال كأحسن الألوان
وإذا دعا الداعي ليوم كريهة سدّوا شُعاع الشمس بالفرسان
ومن الجود أيضاً أيها الناس، الجود بالجاه والوجاهة والمنصب، فبعض الناس آتاه الله الجاه والمنصب، يعرفه المسئولون بوجاهته، ويقبلون شفاعته، ويُقدّمونه على الناس، والله تعالى يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نُؤتيه أجراً عظيماً [النساء:114].
ويقول - سبحانه -: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفلٌ منها وكان الله على كلّ شيء مُقيتاً [النساء:85].
فيا أيها المسئولون في هذه البلاد وفي غيرها.
ويا من أنعم الله عليكم بالجاه والمنصب.
هذه والله بُشرى لكم.
شفاعتكم للمحتاجين، قضاء حوائج المسلمين، دفع الظلم عن المظلومين، السعي على مصالح الأرامل والمساكين، كلامك إلى المسئول، إلى الأمير، إلى الوزير في مصالح هؤلاء، له أعظم الأجر عند الله تعالى، حيث يشفع لك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، يوم لا ينفع جاه ولا منصب.
ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفْلٌ منها ، كما يفعل الذين تبلّدَت عقولهم، وخربت ذِمَمُهم، في الإضرار بالمسلمين، وتنغيص عيشهم، واضطراب أمورهم، ويحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم، وسيندمون على ذلك أشدّ الندم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
ومن الجود أيضاً، الجود بالوقت والراحة، وذلك بأن تجعل جزءًا من وقتك لإخوانك المسلمين، تعود مريضاً، فتُدخل على قلبه البهجة والسرور، وقد تكون زيارتك له سبباً في شفائه، وغرس شجرة الأمل في نفسه.
وكذلك تَفقُّد ذوي الحاجات من الفقراء والمساكين والضَّعَفة، والله تعالى يقول: ما عندكم ينفدُ وما عند الله باق [النحل، الآية:96].
فما أحسن المعروف، وما أحسن الجميل. يقول علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – "ما أحسن الجميل، والله لو كان الجميل رجلاً لكان حسَناً، وما أقبح القبيح، والله لو كان القبيح واللؤم رجلاً لكان قبيحاً".
جاءه رجل فاستحى أن يسأله، فكتب حاجته على التراب، فقال علي – رضي الله عنه – أمسكتَ ماء وجهك، وأعفيتنا من ذلّ سؤالك، لألَبّيَنّ مسألتك، فكساه وآتاه مالاً، فقال الرجل:
كسوتني حُلّة تَبلى محاسنها لأكْسُونَّك من حُسن الثنا حُللا
والثناء من أحسن ما وضع الله للناس في الأرض.
وأنما المرء حديثٌ بعده فكُن حديثاً حسناً لمن وعى
حاتم الطائي نذكره اليوم وهو مشرك لا يعرف رباً ولا ديناً، ولكنه كان جواداً فبقي ذكره في الدنيا جزاءً وِفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً.
فيا عباد الله:
قوا أنفسكم وأهليكم ناراً تلظّى، قوا وجوهكم من لَفح النار؛ بالمعروف، بالكلمة الطيبة، بالبسمة، بالصدقة، بالزيارة، بالشفاعة، بما يرضيه سبحانه وتعالى.
غفر الله لي ولكم، أنقذني الله وإياكم من النار، هداني الله وإياكم سواء السبيل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري ( 1 / 3). ومسلم ( 1 / 141 ) رقم ( 160 ).
[2] أخرجه البخاري ( 2/120 ). ومسلم ( 2 / 700 ) رقم ( 1010 )
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله:
إن خير جيل ظهر على وجه الأرض هم جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فهم القادة، وهو القدوة التي ينبغي على جميع المسلمين؛ رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، الاقتداء بهم، والسير على طريقهم.
أولئك الذين هدى الله فبهداهُم اقتده [الأنعام:90].
فنحن لم نُقدّم للإسلام عُشر ما قدموا، ولم نبذُل شيئاً مما بذلوا، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
أتى حمزة، فترك أهله وأطفاله وداره وعَقاره، وأتى بثيابه الممزقة التي تَستر جسمه الطاهر، فقاتل في أُحد حتى قُتل، فكان أسد الله في أرضه، وكان سيّد الشهداء في السماء.
وأتى أنس بن النضر مقبلاً إلى الموت غير مُدبر، بعد أن رأى الناس قد فرّوا يوم أُحد، فأقبل إلى الله، وشمّ ريح الجنة من دون أحد، فقُتِل وضُرِب بأكثر من ثمانين ضربة.
وأتى خالد وسعد فباعوا أرواحهم للحي القيوم، هذه أعظم التجارة وأربحها، وهذا هو أعظم البذل والعطاء. إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله [التوبة:111].
وهذا أعظم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، أحيا الله به الأرواح من الجهل والشرك والخرافة، حتى كانت خير أمة أخرجت للناس.
يقول شوقي:
أخوك عيسى دعا ميْتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرِّمم
إن كان عيسى عليه السلام أحيا ميتاً بإذن الله، فأنت أحييت الأرواح الميّتة، أحييت الشعوب الميتة، علّمت الجاهلين، رفعت الأميين، هديت الذين ما كانوا يهتدون ولا يفقهون ولا يتدبرون.
أَتَطْلُبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
بذل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، العلم، وبلّغوه للناس، وهذه قبورهم في الشرق والغرب تشهد بذلك.
كان أُبي بن كعب - رضي الله عنه – يجلس للناس بعد كلّ صلاة فيقول:
هل من متعلِّم، هل من سائل، هل من مُسْتَفتٍ، هل من مُستفسِر، فيفيض بالعلم كالبحر الذي لا ساحل له.
ابن عباس – رضي الله عنه – يجلس للناس من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، فيدخل أهل التفسير، حتى إذا انتهوا قال: اخرجوا، وعليّ بأهل الحديث، فإذا انتهوا قال: عليّ بأهل الفقه، فإذا انتهوا، نزل أهل الفَتاوى والأحكام، ثم جاء بأهل الأدب والشعر واللغة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [الحديد،:21].
وأما بذل الأموال فحدِّث ولا حرج – أبو بكر الصدّيق – رضي الله عنه – يبذل ماله كلّه في سبيل الله، فيقال له: ماذا تركت لأهلك وعيالك؟ فيجيب بلسان الواثق بالله تعالى: تركت لهم الله ورسوله.
عثمان بن عفّان – رضي الله عنه – يبذل ماله في سبيل الله، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((من يشتري بئر رومة وله الجنة)) [1] فاشتراها عثمان من اليهود فكانت ثمن روحه إلى الجنة.
ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من يُجهّز جيش تبوك وله الجنة)) [2] فجهّز عثمان الجيش على نفقته، فاستحق بذلك دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام.
((اللهم اغفر لعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راضٍ، ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم)) [3].
أيها الناس:
صلوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث قال: إنّ الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليما [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري ( 3 / 74 ). والترمذي ( 5/586 ). رقم ( 3703 ) وقال : حديث حسن.
[2] حديث تجهيز جيش العسرة , أخرجه الترمذي ( 5 / 584- 586 ). رقم ( 3700 , 3703 ). وأحمد ( 5/63 ).
[3] أخرجه الترمذي ( 5/585 ) , رقم ( 3701 ) وقال : حديث حسن غريب. وأحمد ( 5/63 ).
(1/1312)
سنريهم آياتنا في الآفاق
التوحيد
الربوبية
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض عجائب خلق الله حولنا 2- صور للإعجاز العلمي في القرآن.
3- كلام الحيوانات بمثل كلام البشر
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
عنوان هذه الخطبة سنريهم آياتنا في الآفاق [فصلت:53]. والله عزّ وجلّ، يقول: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نُصبت وإلى الأرض كيف سُطحت [الغاشية:17–20].
تلك الطبيعةُ قِفْ بنا يا ساري حتى أُريك بديعَ صنعِ الباري
الأرضُ حولَكَ والسماء اهتزَّتا لروائع الآياتِ والآثارِ
ولقد تمرُّ على الغدير تخالُه والنبتُ مرآةٌ زهَتْ بإطارِ
حلوُ التسلسل موجُه وخريرُه كأناملٍ مرّت على أوتارِ
ينسابُ في مُخْضَلَّةٍ مُبْتَلَّةٍ منسوجةٍ من سندس ونضَارِ
وترى السماء ضحى وفي جنح الدّجى منشقة عن أنهرٍ وبحار
في كل ،ـاحيةٍ سَلَكْتَ ومذهبٍ جبلانِ من صخرٍ وماءٍ جاري
سبحان من خلق الوجودَ مصوِّرًا تلك الدّمى ومقدّرِ الأقْدارِ
من هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، هل يستطيع أحد في العالم، هل يستطيع كيان، أو منظمة، أو مؤسسة، أو هيئة علمية، أن تدعي وتزعم أنها هي التي أعطت كل شيء خلقه ثم هدَت ؟. لا، وألف لا، إن الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى هو الله.
ردّ بهذا الرد موسى كليم الله على فرعون عدو الله، لما سأله فرعون: من ربكما، ما تعريفه، ما ترجمته، ما آثاره، ما هي الدلائل القائمة على وحدانيته، ما هي البراهين الساطعة على ألوهيته.
فقال موسى: ربُّنا الذي أَعْطى كلَّ شيء خَلْقه ثم هدى [طه:50].
وهذه الآية تشمل عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان، وعالم البر، وعالم البحر، وعالم الجو، فالله يتجلى في عصر العلم، كلما مرَّ يوم، وكلما اكتشف اكتشاف، دلنا على الله وعلى قدرته ووحدانيته.
وفي كل شيء له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدُ
سنريهِم آياتِنا في الآفاق وفي أنْفُسِهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحقُّ [فصلت:53].
كان السلف يعرفون من قوله تعالى: فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت ورَبَتْ وأنبتَتْ من كل زوجٍ بهيج [الحج:5]. أن الأرض تخضر وتُثْمِر وتُزهِر إذا نزل عليها الماء، ثم تقدم العلم، واكتشف أهل علم النبات؛ أن الإنسان إذا وضع الحب اليابس في الأرض اليابسة لا ينبت الزرع، حتى تهتز الأرض درجة واحدة من درجات جهاز (رختر) فتنصدع قشرة الحبة، فتنبت بإذن الله، والله يقرر ذلك قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وقبل أن تهتز لا تنبت ولا تثمر.
أحد الشعراء كان مسرفًا على نفسه في الخطايا، أبو نواس، وعندما توفي، رآه أحد علماء أهل السنة في المنام في هيئة حسنة، عليه ثياب بيض، جالس في بستان، قال: يا أبا نواس كيف حالك؟ قال: لقد أتيت إلى الكريم فغفر لي، قال: بماذا؟ قال: بقصيدتي في وردة النرجس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لُجَين شاخصات بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ
على كُثُبِ الزَّبَرْجَد شاهداتٌ بأن الله ليس له شريكُ
النخل.. الرمان.. الريحان.. كل نبت.. كل زهر، يشهد أن لا إله إلا الله.
إنها معالم الوحدانية، ودلائل الألوهية، وآيات الربوبية.
وعرف السلف قوله تعالى: فلا أقسم بمواقع النجوم [الواقعة:75]. قالوا: إن ذلك إشارة إلى أماكنها، وتطور الإعجاز العلمي، فاكتشف علماء الفلك، أن هناك نجومًا ذهبت من أماكنها، أرسلها الله، سرعتها كسرعة الضوء أو أكثر، ولم ترتطم بالأرض إلى اليوم، وبقيت مواقعها هناك، فقال الله: فلا أقسمُ بمواقعِ النجوم. ولم يقل: فلا أقسم بالنجوم تعظيمًا لمواقعها.
والله يقول: والسماء بنيناها بأيْدٍ وإنّا لموسعون [ الذاريات:47]. يقول العلماء: إن الله، عزّ وجلّ، أوسع الكون، وجعله فسيحًا، بصحاريه، وفيافيه، وبحاره، ومحيطاته، ثم تطور علم الإنسان إلى أن وصل إلى قضية مذهلة؛ وهي أن الكون يتسع كل يوم كما يتسع البالون إذا مُلئ بالهواء تماماً !!, يوسع الله الكون، نعم هذه قدرته وهذا سلطانه، ليهْلِكَ من هلك عن بينة ويحيى من حىَّ عن بينه [الأنفال:22].
ويقول جلّ ذكره: وأرسلنا الرياح لواقح [الحجر:22].
مَن ما يدري معنى لواقح، وكيف تلقح الرياح، وما فائدة تلقيح الرياح، وما المادة التي تلقحها الرياح بإذن الله.
يقول العلماء: يُحمِّل الله المعصرات من السحب بماء البحر، بعد أن يتبخّر، ثم يسوقه بالريح، فيأتي الملك يهتف ويقول: اسق بلد كذا وكذا، فيذهب السحاب ولكنه لا يسقط منه قطرة، حتى يرسل الله الرياح مُحمّلة بذرات الغبار فتصطدم بالسحاب تلقّحه، فيهبط الغيث بإذن الله.
وهناك فرق بين الرياح والريح، أما الريح فمهلكة دبور مُمرضة، وأما الرياح فنافعة مفيدة مثمرة لا تأتي إلا بخير، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا هبّت الرياح قال: ((اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً)) [1].
كان النبي عليه الصلاة والسلام، يقوم في وسط الليل ليصلي، ثم ينظر إلى السماء ويقول: إن في خلقِ السماواتِ والأرضِ واختلافِ الليلِ والنهارِ لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلقِ السماواتِ والأرضِ ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذابَ النار [2] [آل عمران:190-191].
وفي التنزيل والجبال أرساها [النازعات:32].
أين أرساها؟ ولماذا أرساها؟ وكيف أرساها؟ أرساها في الأرض، قال أهل العلم: طول الجبل في باطن الأرض ضعف طوله فوق سطح الأرض، فكل جبل من الجبال، لم يخرج منه على سطح الأرض إلا الثلث، وبقي الثلثان في بطن الأرض، أوتد الله الأرض بالجبال، ثم وزّعها على القارات والجزر، حتى لا تهتزّ الأرض، ولو جمعها في منطقة واحدة لاضطرب حال الأرض، ولتقلّبت، ولانتهت كل الكائنات الحية الموجودة على سطحها، هذا خَلْقُ الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلالٍ مبين [لقمان:11].
أروني استعدادات البشر، أروني صنع البشر، أروني خلق البشر يا أيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يَستنقِذوه منه ضَعُف الطالبُ والمطلوبُ [الحج:73].
وخلق الله عالم الحيوان، والحديث عنه طويل، قال علماء الحيوان: جعل الله في خياشيم الكلب مادة شامّة، يَعرف بها من بعيد صديقه من عدوه، ولا يصيب الكلب عرق، فإذا أراد أن يتنفس من المسام، لهث في الليل والنهار كمَثَل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركْهُ يلهث [الأعراف:176].
فمن الذي خلق.. ومن الذي صوّر.. ومن الذي أبدع.
يُرسل الإنسان الحمام الزاجل، يحمل الرسائل من مكان إلى مكان، ويعود إلى صاحبه، فلا يَضِل، ولا يضيع، ولا يضطرب، من الذي علّمه، من الذي بَصَّره بالطريق، من الذي هداه؟ إنه الله الواحد الواحد الأحد، الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى [طه:50].
خلق الله العنكبوت، منها صنف وفصيلة تعيش في البحر، فإذا أرادت أن تبيض، بَنَت عُشّها تحت سطح البحر، ثم عمِلَت عُشّاً كالبالون لا يخترقه الماء، وعبّأته بالهواء، وأَسْرَجَتْه بإذن الله بمادة في أنفها، ثم جعلت تبيض في العش فمن الذي أعطى كل شيء خلقَه ثمَّ هدى.
خلق الله النملة، تذهب لرِزقِها في الصباح وتأتي في المساء، تَعلَم بقدوم فصل الشتاء حيث الأمطار والبرد، فتدخِّر قوتها، من الصيف في مخازن تحت الأرض، حتى إذا جاء فصل الشتاء، كان عندها ما تعيش عليه، وإذا خافت أن تنبت الحبةُ التي خزنتها، قسمتها نصفين لئلا تنبت، فمن علّمها؟ ومن بصّرها؟ إنه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
أيها الناس:
إن قضية الخلق والهداية لهي من أهم القضايا التي عالجها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدَّمَ العلم، وتطورت الأبحاث، وكلما تطور العلم، كلما اهتدى الإنسان، وعلم أنَّ لهذا الكون إلهاً لا إله إلا هو.
أما رأيتم لأولئك الذين كانوا في المستعمرة السوفيتية وراء السور الحديدي، خرج كثير منهم يقول لا إله إلا الله، دلَّهم العلم على الواحد الأحد إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر:28].
فالعلماء كلما تجرَّدوا من العصبية، وأخلصوا في اكتشاف الحقائق، عرفوا الله، واكتشفوا بعض أسرار الكون، وآمنوا به ووحدوه سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق [فصلت:53].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] قال الهيثمي في المجمع ( 10 / 138 , 139 ) : رواه الطبراني وفيه حسين بن قيس , الملقب بحنش , وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير , وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال الألباني : ضعيف جداً , كما في ضعيف الجامع رقم ( 4461 )
[2] أخرجه مسلم ( 1 / 530 ) رقم ( 763 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، والمعلِّم النِّحرير، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فإنّ قدرة الله، عزّ وجلّ، تحقق بكلمة واحدة "كن".
إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون [يس:82].
والله، عزّ وجلّ، أخبر في كتابه أنه سوف يُنطق أعضاء الإنسان، لتشهد عليه، لأنها جند من جنوده تبارك وتعالى: يوم تشهدُ عليهم ألسِنَتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون [النور:24].
يوم يقول الكافر لجلْده: كيف تتكلَّم؟ كيف تشهد عليَّ، من أنطقك، فيجيب: أنطقنا الله الذي أنطق كلَّ شيء [فصلت:21].
وفي السنة والسيرة أحاديث كثيرة، أظهر الله فيها قدرته على ألسنة الحيوانات، حيث تكلّمت بألسنة عربية فصيحة، أنطقها الواحد الأحد، ليبيّن أنه على كلّ شيء قدير.
ففي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إني لأعرف حجراً في مكة كان يسلِّم عليَّ قبل أن أُبعث)) [1] ، هكذا في الصحيح، حجر، جماد، كان إذا مر به النبي عليه الصلاة والسلام، يقول له بصوت وبحروف، وبنطق: السلام عليك يا رسول الله.
خرج سليمان عليه السلام يستسقي بقومه وقد علَّمه الله منطق الطير، فوجد نملة رفعت أيديها وأرجلها تدعو الله، تشدو بذكره، تهتف باسم الواحد الأحد، تحتاج إلى الماء، فلا تجد إلا من بيده خزائن السماوات والأرض فتدعوه.
رفعت أيديها وأرجلها تبتهل إلى الله وتدعو بنزول القطر، فرآها نبي الله سليمان وتبسم، وقال لقومه من بني إسرائيل: عودوا فقد سُقيتم بدعاء غيركم، قال تعالى: وما من دابَّةٍ في الأرض إلا على الله رزقُها ويعلمُ مستقرَّها ومستودَعَها كلٌّ في كتاب مبين [هود:6].
خرج رجل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، إلى ضاحية من ضواحي المدينة يرعى الغنم، فأخذ الذئب من غنمه شاة، فطارده الرجل حتى أخذ منه شاته، فقال الذئب بلسان فصيح: أتأخذ رزقاً رزقنيه الله، فدُهش الرجل وقال: يا عجباً !! ذئب يُكلّمني.. قال الذئب: أين الراعي يوم لا راعي لها إلا أنا. يقول: أنت تحميها الآن، ولكن سوف يأتي زمن قبل الدجال لا راعي إلا الذئب، وفي هذا اليوم لن تمنعها أنت ولن تحميها؛ لأني أنا الذي سأحميها.
ثم قال الذئب للرجل لما تعجّب من تكليمه إياه: أعجب من ذلك رجل بين الحرتين، يوحى إليه صباح مساء [2].
يقول: أعجب من تكليمي لك، رجل وهو النبي عليه الصلاة والسلام، يأتيه الوحي من السماء، لا يقرأ، ولا يكتب، وما تعلّم، وما درس، ومع ذلك أتى بشريعة ربانية، وبوَحيٍ سماوي، وبمنهج خالد.
وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: ((أتى رجل من بني إسرائيل فركب بقرة، كما يُركب الحمار، فالتفتت إليه البقرة وقالت: ما خُلقنا لهذا، إنما خُلنا للحرث)) [3] ، تكلّمت البقرة، فمن أنطقها؟ أنطقها الذي أعطى كلَّ شيء خلقه ثمّ هدى.
ومن الأحاديث الإسرائيلية، أن عيسى عليه السلام، مرَّ ببقرة وقد اعترض ابنها في بطنها وهي في الولادة، صعُبَت عليها الولادة، فجعلت تتلفّّتُ إلى السماء، لأنها تعلم أن الذي يُجيب السائلين، ويُفرِّج كرب المكروبين، ويزيل هموم المهمومين إنما هو الله.
التفتت ثم قالت لعيسى عليه السلام: يا روح الله، أدعو الله أن يُسهِّل عليَّ، فدعا عيسى عليه السلام، فسهَّل الله عليها. فسبحان الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى ، وسبحان الذي يسجد له من في السماوات ومن في الأرض طوعاً وكَرهاً، وسبحان الذي خلق كل شيء، وأبدع كل شيء، وكلُّ شيء عنده بمقدار.
أيها الناس:
ما هي العبرة من هذا العرض، وما فائدة هذا السرد، وعلى أيّ شيء يدل هذا القَصص؟!.
إن الغرض من هذا العرض ومن هذا القصص مسالة واحدة، وهي أن العاقبة لهذا الدين، وأن المستقبل لهذا الدين؛ لأنه الدين الصحيح الذي يُخاطب القلوب والضمائر.
إن آيات الله في الكون سوف تترى؛ لتدل على قدرة الله تعالى، وهيمنته على هذا الكون.
إن النظريات الغربية والشيوعية الملحدة، التي قررت أن الطبيعة هي التي أحدثت وأبدعت وصورت هذا الكون، قد أعلنت إفلاسها، وثبت فشلها، وذهبت إلى غير رجعة.
فلا خالق، ولا رازق، ولا مصور، ولا مُبدع إلا الله الواحد الأحد، سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق أولم يكفِ بربك انه على كل شيء شهيد [فصلت:53].
وصلوا وسلِّموا على نبيِّكم محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
[1] أخرجه مسلم ( 4 / 1782 ) رقم ( 2277 ).
[2] أخرجه أحمد ( 2 / 306 ) وفيه شهر بن حوشب , وأخرجه أيضاً ( 3 / 83 , 84 ). قال الهيثمي في المجمع ( 8 / 294 ) : رواه أحمد والبزار بنحوه باختصار , ورجال أحد إسنادي أحمد رجال الصحيح. قلت : وقد رواه البخاري مختصراً ( 3 / 67 ) , ( 4 / 149 ) , ( 4 / 192 ).
[3] أخرجه البخاري ( 3 / 67 ) , ( 4 / 149 ) , ( 4 / 192 ).
(1/1313)
شباب الأمس واليوم
فقه
الصلاة
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفريط الشباب في صلاة الجماعة 2- حرص السلف على صلاة الجماعة 3- جلساء السوء
4- الأوقات الضائعة 5- قلّة الاهتمام بالعلم الشرعي 6- قصص في القوة والجديّة عند
شباب السلف 7- معنى تقوى الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محضِ الخير خسران
وكلُّ وجدان قوم لا ثبات له فإنما هو في التحقيق خسران
يا مُتعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عُمران
اللهم ربّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لِما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم [1].
هذا دعاء رسولنا عليه الصلاة والسلام، وما أحوجنا إلى هذا الدعاء، فإن المسلم يحتاج في كل لحظة إلى هداية من الله الواحد الأحد، فنحن في حياتنا، في دراستنا، في وظائفنا، في تجاراتنا، في أعمالنا كلها، نحتاج إلى هداية الله تعالى وتوفيقه.
وقد اقتربت العطلة الصيفية من شبابنا، وكل شاب في ذهنه تصور واضح عن كيفية قضاء هذه العطلة.
والشباب في ذلك على قسمين اثنين، قسم قد صمّم تصميماً جازماً، وأكد تأكيداً بالغاً، على أن يقضيها في النزهات، وفي الضياع ,وفي اللهو واللغو واللعب، فهذه عادته وطريقته، يُبدد عمره في كل معصية ولهو ولعب، لا يعرف لله حقاً ولا طريقاً.
وقسم آخر هم أهل الصدق والاستقامة والصلاح، نظر الله إلى قلوبهم فرأى ما فيها من التقوى وحسن القصد، فكانوا أهلاً لهدايته وتوفيقه، عزموا على قضاء العطلة في مرضاة الله تعالى، عرفوا أن هذه العطلة جزء من أعمارهم، وأنهم محاسبون عليها بين يدي الواحد الديّان. أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [المؤمنون:115-116].
فنسأل الله تعالى أن يُثبّت هؤلاء وأن يُصلح أولئك.
أيها الناس:
إن مشكلات الشباب وقضاياهم تتلخص في أربع قضايا:
أولها: التفريط في صلاة الجماعة، التي تركها كثير من الناس إلا من رحم ربك، صلاة الجماعة، التي ما تركها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وهو في مرض الموت، صلاة الجماعة التي طُعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يتلهّف عليها.. صلاة الجماعة التي أوصى أحد السلف بنيه أن يحملوه إلى المسجد وهو في مرض الموت بعدما سمع الأذان، فلما قالوا له: أنت مريض، وقد عذرك الله، فقال متعجباً: لا إله إلا الله.. أسمع حيّ على الصلاة، حي على الفلاح ثم لا أجيب!! لا والله، فحملوه فقبض الله روحه في السجدة الأخيرة.. صلاة الجماعة التي يقول عنها سعيد بن المسيِّب: والله ما لي من عمل أرجوه بعد لا إله إلا الله، إلا أنني ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة أربعين سنة، وقال الأعمش: ستين سنة.. صلاة الجماعة التي من فقدها بغير عذر، فقد فقد النور، والاستقامة، والهداية، والسداد.
لقد قصّرنا جميعاً في صلاة الجماعة، أما المصلي فقد قصّر في عدم أمره تارك الجماعة بها. الأب يخرج من بيته ولا يأمر أهله ولا أولاده بالصلاة.. أنا أسكن في حيّ مكتظ بالسكان، ومع ذلك لا يصلي الفجر معنا، إلا الصفّ والصفّان.. فماذا نُجيب ربنا إذا سألَنا عن صلاة الجماعة.. كيف يصلح الحال والمساجد خاوية من المصلين، كيف ينتهي الشاب عن الفواحش والمنكرات، وهو لا يعرف المسجد، كيف يسلم الشاب من المخدرات والجرائم وما دلّه أبوه ولا أمه إلى طريق المسجد يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة شدادٌ غلاظ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)) [التحريم:6].
وجَلجلَة الآذان بكلّ حيّ ولكن أين صوت من بلال
مَنائِرُكُم عَلَت في كل ساح ٍ ومسجدكم من العُبّاد خالي
ومشكلة الشباب الثانية تأتي من جلساء السوء، قوم علِم الله من قلوبهم الخبث فأخّرهم، قوم ما أفلحوا في دين ولا دنيا، رسبوا في الدراسة، وفشلوا في الوظيفة، وتقهقروا في العمل، فجلسوا على الأرصفة يَصدون عن سبيل الله، لا يعرفون إلا لعب الورق، والأغاني، والموسيقى، والمسرحية، والغيبة، والنظرة الآثمة، يصدون عن سبيل الله، يتلقفون شباب الإسلام، ليجعلوا مصيرهم كمصيرهم.. أهكذا شكر النعمة؟ أهذا هو الإحسان؟ أب يدفع لابنه ما يريد، وهذا الابن يوجهه شيطانه إلى كل معصية، فوجد السيارة الفاخرة، والفيلا الواسعة، واللباس والطعام والأموال متوفرة.. فهتَك الأعراض واستَحلّ الحرمات، يحمل الشباب المسكين في سيارته إلى أماكن اللهو واللعب والبعد عن الله.. فأين الأب الحصيف، وأين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر!!
ومشكلة الشباب الثالثة: ضياع الوقت، والوقت أغلى شيء، ولكنه كذلك عند غير المسلمين، أما عند المسلمين فما أرخصه، الساعات الطويلة والأعمار المديدة، يُضيّعها كثير من الناس في غير فائدة بل فيما يجلب عليهم الخسران والضياع يوم القيامة.
وكثير من الشباب يبدأ برنامجه اليومي، من العصر إلى العشاء، في اللهو واللعب والخروج من البيت، لا عمل، ولا تجارة، ولا وظيفة، ولا كسب، ولا تحصيل، ولا طاعة.. ثم يعود كالجثة الهامدة، فيسهر مع زملائه إلى منتصف الليل، ثم يرمي بجسمه على الفراش، بلا ذكر ولا تسبيح، ولا تحميد، ولا تهليل، ولا وضوء، ثم لا يستيقظ من نومه إلا قُبيل الظهر، بعد أن ألغى صلاة الفجر من برنامجه.. أي حياة هذه، وأي عيشة تلك!!.
أيها اللاهي بلا أدنى وَجَل اتق الله الذي عزّ وجل
واستمع قولاً به ضرْب المثل اعتزل ذكر الأغاني والغزَل
وقُل الفصل وجانِب مِن هزَل
كم أطعت النفس إذ أغويتُها وعلى فِعل الخنا رَبيّتها
كم ليالٍ لا هياً أنْهَيتها إن أهْنى عيشة قضّيّتُها
ذهبت لذّاتها والإثم حَلْ
والمشكلة الرابعة: هي عدم الاهتمام بالعلم الشرعي وتحصيله، أصبحت الأمة – إلا من رحِم ربّك – أمة ثقافة سطحية، تحوّلت الأمة من الأصالة والعُمق المتمثّل في العلوم الشرعية، والعلوم التجريبية، إلى أمة تعرف المعلومات العامة، والثقافة السطحية، وهو علم يشترك فيه الكافر والمؤمن.. ولكن أين التحصيل، أين الاجتهاد في طلب العلم، أين الحرص على الاستفادة، أين حفظ المتون، أين المتدبّرون للقرآن؟!
أيها الشباب.. يا حمَلة العقيدة:
من هم شباب السلف.. ومن هم شبابنا؟
شباب السلف هم عبد الله بن رواحة، وجعفر بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، ومصعب بن عمير، وابن عباس، وابن عمر..
عُبّاد ليل إذا جنّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأُسْد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هَبّوا إلى الموت يَسْتجدون رؤياه
يا ربُّ فابعث لنا من مثلهم نفراً يُشيّدون لنا مجداً أضعناه
فهذا عقبة بن نافع شابٌ في الخامسة والعشرين من عمره، يقف على المحيط الأطلنطي موحداً، مُصلياً، يرفع سيفه إلى السماء قائلاً: والله، لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضاً، لخضته بفرسي هذا رافعاً راية لا إله إلا الله.
نصر الإسلام، وفتح إفريقيا.. فشكر الله سعيك، ورفع منزلتك.
ولكن، هل تدري أنّ مِن شبابنا من بلغ الثلاثين، والأربعين، وهو لا يعرف لماذا أتى، ولماذا يعيش، وأين يسير، غاوٍ, لاهٍ، ما عرف رسالته في الحياة.
عبد الله بن رواحة: كان شابّاً في الثلاثين، حمل سيفه، وذهب إلى معركة مؤتة في أرض الأردن، فلبس أكفانه ورفع سيفه وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنّ لتَنزلنّ أو لتُكرهنّه
إن أجلب الناسُ وشدّوا الرنّة مالي أراك تكرهين الجنة
قد طالما قد كنت مطمئنه هل أنت إلا نطفة في شِنه
ثم قال:
يا نفس إلا تُقتلي تموتي هذا حِمام الموت قد صُليتِ
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فِعلَهما هديتِ
جعفر الطيّار.. ليله سجود وتسبيح، ونهاره جهاد ودعوة، أتى إلى مؤتة مجاهداً في سبيل الله، فقُطعت يُمناه، فأخذ الراية بيده اليسرى، فقُطعت فضمّ الراية بعضديه، حتى تكسّرت الرماح في صدره، وهو يبتسم ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةٌ وباردٌ شرابها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابُها
أنس بن النضر يقول: إليكم عنّي، والله إني لأجد ريح الجنة من دون أُحُد، فيضرب بثمانين ضربة، فيموت في سبيل الواحد الأحد [2].
أولئك آبائك فجِئني بمثلِهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فخَلَف من بعدهم خلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّاً [مريم:59].
فخلف من بعدهم خلف، جعلوا مكان التلاوة الغناء، ومكان مجالس العلم المسرحيّات والمسلسلات، ومكان المصحف المجلّة، ومكان التسبيح السيجارة، ومكان التهجّد البلوت، ومكان التقوى الفجور، فلا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الغفور.
فيا رب.. أعد هذه الأمة إليك، وخذ بناصيتها إلى رحابك.
[1] أخرجه مسلم ( 1 /534 )، حديث رقم ( 770 )
[2] انظر ذلك في صحيح مسلم ( 3 / 1512 )، رقم ( 1903 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وليّ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
أما بعد عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها وصية الله تعالى للأولين والآخرين: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإيّاكم أن اتقوا الله [النساء:131].
وعن أبي ذر – جندب بن جنادة – وأبي عبد الرحمن – معاذ بن جبل – رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحُها وخالِق الناس بخلُق حسن)) [1].
فهذه وصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه، ولأمته من بعده، وهي من جوامع كلِمه صلى الله عليه وسلم، فالتقوى كلمة جامعة لكل خصال الخير، بحيث يُطاع رب العالمين فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
وقد سُئِل أمير المؤمنين أبو الحسن – علي بن أبي طالب – رضي الله عنه عن التقوى فقال: هي الخوف من الجليل. والعمل بالتنزيل, والرضا بالقليل, والاستعداد ليوم الرحيل.
كلمات يسيرة, إلا أنها ثقيلة في ميزان الله عز وجل.
الخوف من الجليل: مَن مِنّا يخاف من الله تبارك وتعالى خوفاً يصرفه عن معصيته، ويُقرّبه من طاعته؟ كيف تدعي مخافة الله عز وجل، وأنت تظلم الناس، وتأكل حقوقهم!!.
كيف تدعي مخافة الله عز وجل، وأنت تتعامل بالربا؟
كيف تدعي مخافة الله عز وجل، وأنت لا تشهد الصلاة مع المسلمين في المساجد؟
كيف تدعي مخافة الله عز وجل، وأنت تتلذّذ بسماع الغناء، وتُعرض عن سماع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والعلم بالتنزيل: والواقع يشهد بوضوح، إننا بعيدون كل البعد عن التنزيل، إلا من رحم الله عز وجل، فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه: إن تنصروا الله ينصركم [محمد:7].
فإذا نصَرْنا الله عز وجل، باتباع أوامره، واجتناب نواهيه، بتحليل ما أحل. وتحريم ما حرّم، بالتحاكم إلى كتابه وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم في كلّ أمورنا، إذا فعلنا ذلك نصَرَنا الله عز وجل على أعدائنا، والله تعالى لا يُخلف وعده، وقد نصر نبيّه صلى الله عليه وسلم والقِلة المؤمنة في بدر وغيرها ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة [آل عمران:123].
فعلينا أن نتنبّه، وعلينا أن نَسْتَفِق من غفلتنا حتى لا نندم حيث لا ينفع الندم، يوم يقول الظالمون: ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل [فاطر:37].
فيأتيهم الجواب فيزيدهم خزياً ونكداً وحسرة. أولم نُعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [فاطر:37].
والرضا بالقليل: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((قلب الشيخ شابٌّ على حب اثنتين: طول الحياة وحب المال)) [2].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحبّ أن له وادياً آخر، ولن يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على من تاب)) [3].
وعن عبد الله بن الشّخّير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر فقال: ((يقول ابن آدم: مالي. مالي قال: وهل لك يا بن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) [4].
من عرف الله فلم تُغنه معرفة الله فذاك الشقي
ما يصنع العبد بِعِزّ الغنى والعز كل العز للمتقي
والاستعداد ليوم الرحيل: ولا يكون ذلك إلا بدوام ذكر الموت، والتقرّب إلى الله بالأعمال الصالحة، من صلاةٍ وصيام وصدقة وحج وإصلاح بين الناس وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، وعدم الاستهانة بالذنوب والمخالفات، فإن المتقي لا ينظر إلى صِغَر الذنب، ولكن ينظر إلى عظمة من يعصيه، إلى عظمة الرب تبارك وتعالى.
خَلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التُّقى
واصنع كمَاشٍ فوق أرْ ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرَنّ صغيرة إن الجبال من الحصى
ولذلك قال أحد العلماء لشاب، أسرف على نفسه في المعصية: إذا أردت أن تعصي الله، فاعصه حيث لا يراك، أو اخرج من داره، أو كُل من غير رزقه!! فتنبّه الشاب إلى ذلك وبكى، ثم تاب إلى الله عز وجل.
ودخل شخصٌ بستاناً كثير الأشجار، فقال في نفسه: لو خَلوتُ هنا بامرأة ,ما كان يراني أحد!! فسمع هاتفاً يهتف بصوت مرتفع: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك:14].
وراود شخص أعرابية عن نفسها، وقال لها: لا يرانا إلا الكواكب فقالت: وأين مُكَوكِبها؟! أين خالقها؟! أين فاطرها؟
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوتُ ولكن قُل عليَ رقيبُ
ولا تحسَبَنَّ الله يَغفَل ساعة ولا أنّ ما تخفي عليه يغيب
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المتقين، الذين يُراقبونه ليلاً ونهاراً، وسِراً وجهاراً، وظاهراً وباطناً.
عباد الله:
وصلوّا وسلِّموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إنّ الله وملائكته يُصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلِّموا تسليماً [الأحزاب:56].
وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً)) [5].
اللهم صلِّ على نبيّك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
[1] أخرجه الترمذي ( 4 / 313 ) رقم ( 1987 ). وقال : حسن صحيح. وأحمد ( 5 / 153، 158، 177، 228، 236 ). وحسّنه الألباني، كما في صحيح الجامع رقم ( 97).
[2] أخرجه البخاري ( 7 / 70 ). ومسلم ( 2 / 724 ) رقم 0 1046 ).
[3] أخرجه البخاري ( 7 / 175 ). ومسلم ( 2 / 725 ) رقم ( 1048 ).
[4] أخرجه مسلم ( 4 / 2273 ) رقم ( 2958 ).
[5] أخرجه مسلم ( 1/ 288 ) رقم ( 384 ).
(1/1314)
شهيد المحراب
سيرة وتاريخ
تراجم
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثلاث رؤى للنبي عن عمر بن الخطاب. 2- إسلام عمر. 3- موقف عمر المحب عند
وفاة النبي. 4- زهد عمر. 5- تفقد عمر لرعيته. 6- عدل عمر في قصة القبطي مع ابن
عمرو بن العاص. 7- وقوف الهرمزان بين يدي عمر. 8- عمر يتمنى الشهادة ويلقاها على يد
أبي لؤلؤة المجوسي. 9- نصيحة لعمر وهو في سكرات الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
نتكلم اليوم عن ((شهيد المحراب))، من هو شهيد المحراب؟ ولماذا قتل؟ وكيف قتل؟ وأين قتل؟ ومن قتله؟
الزمن: صلاة الفجر.
المكان: مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
المقتول: عمر بن الخطاب.
القاتل: أبو لؤلؤة المجوسي لعنه الله.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضلٍ وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [آل عمران:169-171].
أيها المسلمون:
من منكم لا يعرف عمر؟ مَنْ مِن الناس لم يسمع بعمر؟
• السلام عليك يا عمر بن الخطاب في يوم الجمعة.
• السلام عليك في هذه الساعة المباركة.
• السلام عليك يوم أسلمت.
• السلام عليك يوم توليت.
• السلام عليك يوم قتلت.
• السلام عليك يوم تبعث حياً.
ترى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندسٍ خضر
فوا طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر ثلاث رؤىً رآها في المنام، كلها لأبي حفص وكلها صحيحة كالشمس.
الأولى: قال : ((بينا أنا نائم، رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعُرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره)) ، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)) [1].
دينه يغطيه، دينه يستره، فلا يظهر منه إلا كل جميل، ولا يخرج من فيه إلا كل حق.
الثانية: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن، فشربت، حتى أني لأرى الريّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب)). قالوا: فما أوّلته يا رسول الله ؟ قال: ((العلم)) [2].
سبحان الله ! رجل اجتمع له العلم والدين، فأي رجل هو؟
الثالثة: عن أبي هريرة قال: بينا نحن عند رسول الله ، إذ قال: ((بينا أنا نائمٌ، رأيتني في الجنة، فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته، فوليت مدبراً)) فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله [3] ؟
كيف يغار عمر من النبي وهو تلميذ من تلاميذه، وهو حسنة من حسناته.
قُتل هذا العظيم وهو يصلي في المحراب، والعظماء يقتلون دائماً؛ لتعلم الأمة أنهم عظماء، فتعيش على نهجهم، وتنظم من دمائهم نظماً زكياً تحيا به، وتبني من جماجمهم مكرمات ما كان لها أن تُبنى، وتجعل من أشلائهم تحفاً تتحدى بها التاريخ.
يقول أحد المسلمين من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، من الذين خاضوا المعارك، وتكسّرت سيوفهم على رؤوس المارقين وسالت دماؤهم نصرة لهذا الدين.
وهو ليس من الشباب الذين تكسّرت أيديهم وأرجلهم يوم تزلجوا على الثلج في العطلات الصيفية، أو الذين قتلوا في ساعات السهر الحمراء، أو الذين تدحرجت بهم مسارح الفن فوقعوا على رؤوسهم، لا. إنما هو من شباب الجهاد وطلائع الصحوة.
يقول هذا الشاب:
تأخرت أستبق الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدّما
وليس على الأعقاب تدمى قلوبنا ولكن على أقدامنا يقطر الدما
هذا جيل محمد عليه الصلاة والسلام، هذه مدرسته التي قدمها للتاريخ، هذا الرعيل الأول الذي ما سمع الناس بمثله.
عاش عمر مع الرسول عليه الصلاة والسلام، يؤازره، ويعينه، أسلم بـ طه. وكان أجمل من الشمس في ضحاها، أوضح من القمر إذا تلاها، تولى الأمة فرعاها، وقاد المسيرة وحباها. فمرحباً بعمر.
أسلم لما سمع: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى [طه:1-5].
وهل هناك إنسان يستمع إلى هذا الخطاب ثم لا يسلم؟ هل هناك إنسان يفهم كلام رب البشر، ثم لا يسري هذا الكلام في ذرات دمه؟
فهم عمر هذا الخطاب؛ لأنه العربي القح، فسرى في دمه، وانتشر تيار الإسلام في كل جزئية من كيانه.
أسلم، ووضع يده في يد محمد عليه الصلاة والسلام، وعاهده، على ماذا؟ على الاستيلاء على أموال الناس بالباطل؟ على توسيع القصور والدور؟ على بناء الحدائق الغنّاء والبساتين الفيحاء؟ على استغلال البشر وتسخيرهم؟ لا، إنما بايعه على الحق، والعدل، بايعه على لا إله إلا الله.
فكان عمر في كف الرسول، عليه الصلاة والسلام سيفاً مصلتاً يهزه للحادثات والمعضلات.
يقول العقاد: الفرق بين أبي بكر وعمر؛ أن أبا بكر عرف محمداً النبي، أما عمر فقد عرف النبي محمداً.
أبو بكر عرف الرسول عليه الصلاة والسلام، في جاهلية أبي بكر وبعد إسلامه، لكن عمر لم يعرف الرسول عليه الصلاة والسلام إلا ساعة ميلاده يوم أسلم، فكان كلما رأى حدثاً، كلما رأى زنديقاً، كلما رأى معترضاً على الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله، ائذن لي أضرب عنقه، ولو أذن له الرسول عليه الصلاة والسلام لقتل العشرات!! فهو لا يتأخر لحظة واحدة عن أمر رسول الله.
ويموت الرسول عليه الصلاة والسلام، كما يموت البشر، لكن عمر لم يعترف بذلك، فقام رافعاً سيفه يقول: من قال إن محمداً عليه الصلاة والسلام قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف!!
ولكن يتأكد الخبر، ويتحقق النبأ، فيطيح عمر على وجهه مغمىً عليه، وكان قوي الجثة، صلب البنيان، متين الهيكل، ولكن أين قوته؟ أين عضلاته؟ أين بنيانه ؟ خار في لحظة واحدة.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
قل للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
كان عمر بن الخطاب يأخذ الدنيا في يوم، ويسلمها للفقراء في يوم.
تأتيه الموائد من الذهب والفضة على الجمال، وتدخل المدينة، وهو يصلي وفي بردته أربع عشرة رقعة من الفقر والعوز.
هذا الرجل؛ يقضي على إمبراطورية هرقل، ويجعل عاليها سافلها، ولا يجد خبز الشعير ليأكله مع فقراء المسلمين.
يتولى أبو بكر الخلافة بعد الرسول، عليه الصلاة والسلام، فيقف عمر بجانبه كما وقف بجانب رسول الله ويكون مستشاره ووزيره.
ويحين أجل أبي بكر فيكتب ولاية العهد لعمر يقول أبو بكر في كتابه لعمر :
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة، وآخر أيام الدنيا، فقيراً لما قدمت، غنياً عما تركت.
أما بعد:
فيا عمر بن الخطاب، قد وليتك أمر أمة محمد، علي الصلاة والسلام، فإن أصلحت وعدلت، فهذا ظني فيك. وإن اتبعت هواك، فالله المطلع على السرائر، وما أنا على صحبة الناس بحريص.
يا عمر: اتق الله لا يصرعنّك الله مصرعاً كمصرعي، والسلام.
وتولى عمر خلافة المسلمين، وبحث عن ميراث أبي بكر، فإذا هو ثوبان وبغلة، فبكى وقال: لقد أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!!.
تولى عمر، وألقى خطبة عظيمة، بين فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عمريّة ما سمع الناس بمثلها.
كتب عنه الفضلاء، وتكلّم عنه العلماء، وتدارس سيرته الأذكياء؛ عمر يطوف المدينة، عمر رجل العسّة الأول، ينام الناس في عاصمة الخلافة ولا ينام، يشبع الناس ولا يشبع، يرتاح الناس ولا يرتاح.
كان إذا هدأت العيون، وتلالأت النجوم، يأخذ درّته ويجوب سكك المدينة، علّه يجد ضعيفاً يساعده، أو فقيراً يعطيه، أو مجرماً يؤدّبه.
وبينا هو يمشي في ليلة من الليالي، إذ بامرأة في جوف دار لها، وحولها صبية يبكون، وإذا قدْرٌ على النار قد ملأته ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القدر الذي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيه ماءً، هو ذا، أعلّلهم [4] به حتى يناموا، وأوهمهم أن فيه شيئاً.
فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غرارة، وجعل فيها شيئاً دقيقاً، وشحماً، وسمناً، وتمراً، وثياباً، ودراهم، حتى ملأ الغرارة، ثم قال لمولاه: يا أسلم، احمل علي، قال: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، فقال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة، فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته، حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا [5].
كان عمرو بن العاص والياً على مصر في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذاً [6]. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين!!.
لماذا يضربه؟ أهذا هو نهج الإسلام؟ أهذه هي العدالة المنشودة التي نزلت من فوق سبع سموات؟ أهذا ميثاق إياك نعبد وإياك نستعين ؟
فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم، ويقدم بابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟
• ثم قال: خذ السوط فاضرب، فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين.
• قال أنس: فضرب والله، فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه. ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: منذ كم تعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارً ؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم، ولم يأتني؟
تلك هي عدالة عمر وتلك مقولته الخالدة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
متى كانوا عبيداً؟ متى كان هذا الإرهاب والاضطهاد؟
إذا كان هذا هو الميزان فما فائدة الإسلام؟ وماذا نفعل بالكتاب والسنة؟
وتستمر مسيرة عمر ويدخل عام الرمادة، سنة ثمانية عشر للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعاً، فحلف عمر لا يأكل سميناً حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان يبكي ويقول: آلله يا عمر، كم قتلت من نفس!!.
وهل قتل عمر أحداً ؟ لا والله ما قتل، وإنما أحيا الله به النفوس.
وقف على المنبر يوم الجمعة ببرده المرقّع، والله لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والإستبرق لاستطاع، ولو أراد أن يجعل أسوار المدينة من الزبرجد لاستطاع، ولكنه يقف أثناء الخطبة، فيقرقر بطنه، أمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
أيها الناس:
هذا تاريخنا، فهل لنا تاريخ غير تاريخ عمر؟ بماذا نتكلم مع الأمم؟ بماذا نفتخر؟ بماذا نتصدى للهجوم البشع على الإسلام؟
يصلي بالناس صلاة الاستسقاء، فلا يدرون ماذا يقول من البكاء، ويسأل الله أن لا يجعل هلاك الأمة في عهده، فينهلّ الغيث كالجبال، وتعود الحياة إلى المدينة.
يأتي الهرمزان – مستشار كسرى – لابساً تاجاً من ذهب وزبرجد، وعليه الحرير، يدخل المدينة، فيقول: أين قصر الخليفة؟ قالوا: ليس له قصر، قال: أين بيته؟ فذهبوا فأروه بيتاً من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة!! قال: أين حرسه؟ قالوا: ليس له حرس!!
يقول شوقي:
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
فطرق الهرمزان الباب، فخرج ابنه، فقال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد، أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فما وجدوه فبحثوا عنه، فوجدوه نائما تحت شجرة، وقد وضع درته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع، وقد توسّد ذراعه، في أنعم نومة عرفها زعيم.
وكأني بالهرمزان يتساءل في نفسه، أهذا عمر؟ أهذا الذي فتح الدنيا؟ هذا الذي دوّخ الملوك؟ هذا الذي داس جماجم الخونة؟ ينام تحت شجرة؟
فانهدّ الهرمزان من الدهشة وقال: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.
قال حافظ إبراهيم:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عقلاً وهو راعيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهو فنمت نوم قرير العين هانيها
ولما كان آخر ولايته قدم نفسه للمحاكمة، وجسمه للقصاص، وماله للمصادرة، وأعلن في الناس. إن كان خدع أحداً، أو ظلم أحداً، أو سفك دم أحدٍ، فهذا جسمه، فليقتص كل واحد منه، فلما فعل ذلك ارتج المسجد بالبكاء، وأحس المسلمون أنه يودعهم، ثم نزل من على المنبر، واستودع الله الأمة، وكانت هذه هي آخر جمعة يلتقي فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأمة محمد ، لأن موعده كان مع المجرم أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله، وهذا ما سوف نعرض له في الخطبة الثانية إن شاء الله تعالى.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم.
[1] أخرجه البخاري (1/11), وأخرجه مسلم (4/1859) ، رقم (2390) عن أبي سعيد الخدري.
[2] أخرجه البخاري (1/29) ، وأخرجه مسلم (4/1859- 1860) ، رقم (2391).
[3] أخرجه البخاري (4/85- 86).
[4] أعللهم: أشغلهم وأطمعهم.
[5] قال الكاندهلوي : أخرجه الدينوري ، وابن شاذان ، وابن عساكر ، عن أسلم ، كذا في منتخب الكنز (4/415) ، وهو في البداية (7/136). أخرجه الطبري مع زيادات (5/20). انظر : حياة الصحابة (2/368).
[6] عُذت معاذاً : أي لجأت إلى ملجأ يحميك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس:
يقول نبيكم عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)) [1].
هذا كلام القائد فكيف يكون الجنود، هذا الأستاذ، فكيف يكون الطلاب، ينبغي أن يكونوا قمماً من العزّة والتضحية، وقذائف من البذل والعطاء.
وكان عمر دائماً ما يسأل الله الشهادة في سبيل الله – تبارك وتعالى-.
حج عمر بالمسلمين آخر حجة له، ووقف يوم عرفة، فخطب الناس خطبة عظيمة، ثم استدعى أمراء الأقاليم وحاسبهم جميعاً أمام الناس، واقتصّ للناس منهم، وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات، فرماه أحد الحجاج بحصاة في رأسه، فسال دمه، فقال عمر: هذا قتلي، يعني أنني سوف أقتل.
نعم سوف يقتل، لا يموت كما يموت الذين أصابتهم التخمة، فكان موتهم بسبب كثرة ما أكلوا وشربوا، ولم يقدّموا شيئاً.
• قال سعيد بن المسيب : لما صدر عمر بن الخطاب من منى، أناخ بالأبطح، ثم كوّم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مدّ يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط، ثم قدم المدينة فخطب الناس، فقال: أيها الناس، قد سُنّت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلّوا بالناس يميناً أو شمالاً، وضرب بإحدى يديه على الأخرى!! [2].
• قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر.
علوّ في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
ومالك تربة فأقول تسقي لأنك مثل هطل الهاطلات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المركمات
أساروا الجوّ حولك واستعاضوا عليك اليوم صوت النائحات
رجع إلى المدينة، وهو يتمنى الشهادة، قالت له حفصة ابنته: يا أبتاه: موت في سبيل الله، وقتل في مدينة رسول الله، !! إن من أراد أن يقتل، فليذهب إلى الثغور، فيجيب عمر: سألت ربي، وأرجو أن يلبي لي ربي ما سألت.
أكفانهم بدماء البذل قد صُبغت الله أكبر من سلسالها رشفوا
في كفّك الشهم من حبل الهدى طرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرف
وصل عمر إلى المدينة، ورأى في المنام؛ أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاث، فعبروا له الرؤيا، فقالوا: يقتلك رجل من العجم، فقام وخطب الناس، وأبخرهم أنه سوف يغادر هذه الدنيا، وأن أجله قد اقترب.
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخر
سهرنا وفكّرنا وشابت دموعنا وشابت ليالينا وما كنت تحضر
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
رفاقك في الأغوار شدّوا سروجهم وجيشك في حطين صلّوا فكبروا
نساءُ فلسطين تكحّلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقُصّر
وليمون يافا يابسٌ في حقوله وهل شجرٌ في قبضة الظلم يثمر
ودّع عمر الدنيا، ليس عنده شيء يورثه، عنده بيت من طين، وبغلته، وثوبه المرقع، ودرته، هذه دنيا عمر.
فأين الأموال؟ وأين القصور؟ وأين الصولة والصولجان؟ ولكن هناك عقيدة خالدة، ومبادئ رشيدة، تتعدى حدود الزمان والمكان، لأنها تنزيلٌ من الحكيم الحميد.
صلى عمر الفجر، وفي أثناء الصلاة، أتاه الفاجر أبو لؤلؤة المجوسي الذي ما سجد لله سجدة، فكانت نهاية هذا الطود الشامخ على يديه.
مولى المغيرة لا جادتك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها
مزّقت خير أديم حشوه هممٌ في ذمةِ الله عاليها ودانيها
انتهى عمر من قراءة الفاتحة، وبدأ يقرأ في سورة يوسف، وكان يحب أن يقرأ بها، فلما وصل إلى قوله تعالى: وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم [يوسف: 84]. بكى، بكى، وبكى الناس جميعاً، حتى سمع النشيج من آخر الصفوف، ثم كبّر راكعاً، فتقدم الشقي إليه بخنجر مسموم، فطعنه بست طعنات، فوقع وهو يقول: حسبي الله لا إلا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم.
والغريب أن أكثر الناس ما شعروا، إلا بعد أن تقدم عبد الرحمن بن عوف، فأكمل بهم الصلاة، لأن هذه الأمة كانت تصلي والسيوف على رؤوسها في المعركة، كانت تصلي والجيوش ملتحمة في ساحة القتال.
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبّروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
تقدم ابن عوف فأكمل الصلاة بالمسلمين، وفزع الناس إلى عمر، أين صوت عمر؟ أين صوت الخليفة؟ أين الحبيب؟ أين العادل؟ أصبح في سكرات الموت، يسأل وهو في سكرات الموت: من قتلني؟ قالوا: قتلك أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة.
كان يسأل وهو في سكرات الموت: هل صليت؟ هل أكملت الصلاة؟ قال: لا، قال: الله المستعان.
كل أمنياته أن يكمل الصلاة؛ ليلقى الله تعالى وقد صلى صلاة الفجر، لم يسأل عن ولاية ولا عن ولد، ولا عن بلد، ولا عن زوجة، ولا عن ميراث، وإنما سأل عن الصلاة، ولم يهدأ له بال حتى أتمّها.
• قال أحد الصحابة: ظننا أن القيامة قد قامت يوم قتل عمر.
من لجسم شفّه طول النوى ولعين شفّها طول السهر
جسدٌ لفف في أكفافه رحمة الله على ذاك الجسد
وضعوه في البيت، وأحضروا له وسادة، فنزعها وقال: ضعوا رأسي على التراب لعل الله أن يرحمني، وأخذ يبكي ويقول:
يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه.
وسلاطينهم سلوا الطين عنهم والرؤوس العظام صارت عظاما
ودعا عمر أطفال المسلمين، فدخلوا يبكون، فقبّلهم واحداً واحداً، ومسح على رؤوسهم.
قدموا له لبناً، فلما شربه، خرج من كبده، فقال: الله المستعان.
ثم دخل الشباب، فحياهم، ورأى شاباً في ثوبه طول، فقال له: يا ابن أخي تعالى، فدنا منه الشاب، فقال له عمر: ارفع إزارك!!.
• يقول أحد الفضلاء: أمير المؤمنين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو في سكرات الموت، دمه يخرج من فمه ومن بين أضلاعه، ويقول لهذا الشاب قصّر ثوبك!!.
فديننا كله لباب، ليس فيه قشور، قال: ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، فذهب الشاب وهو يبكي لموت عمر.
دخل عليه علي بن أبي طالب ليلقي كلمات الوداع، التي ما رأيت أصدق منها، إذا ودع الحبيب حبيبه.
اتكأ علي ابن عباس رضي الله عنهما والدموع تفيض من عينيه، وأخذ يقول لعمر: يا أبا حفص، والله لطالما سمعت رسول الله يقول: ((جئت أنا وأبو بكر وعمر، وذهب أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك)).
• قال عمر: يا ليتني أنجو كفافاً، لا لي، ولا علي، ثم أخذ يقول: الله الله في الصلاة، وسألهم وهو في الموت أيضاً: أين أدفن؟ قالوا: ندفنك مع رسول الله ، قال: لا أزكي نفسي، فما أنا إلا رجل من المسلمين استأذنوا عائشة في ذلك. فلما مات ذهبوا إلى عائشة رضي الله عنها واستأذنوها في أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: لقد هيأت هذا المكان لنفسي، لكن والله لأوثرنّ عمر به، ادفنوه مع صاحبيه.
فجزى الله عمر عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون:
هذه شخصية من شخصيات العالم الإسلامي، التي قدمها محمد عليه الصلاة والسلام، إلى البشرية.
هذا خليفة راشد، هذا إمام عادل.
يقول علي، وعمر يكفّن، قبل أن يصلّي عليه: والله ما أريد أن ألقى الله بعمل رجلٍ إلا بعمل رجلٍ مثلك.
• فاللهم أرنا وجه عمر في الجنة، واحشرنا مع نبينا محمد في مقعد صدق عند مليك مقتدر، واجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولا تفرّق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
أيها الناس:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري (1/14) ، وأخرجه مسلم واللفظ له (3/1496) ، رقم (1876) عن أبي هريرة.
[2] أخرجه مالك في الموطأ (2/824) ، رقم (10).
(1/1315)
ظالم من الدرجة الأولى
سيرة وتاريخ
تراجم
عائض القرني
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض أقوال أهل العلم في الحجاج وبعض مظالمه. 2- قصص في مواجهة طغيان الحجاج.
3- قتلِ سعيد بن جبير. 4- التحذير من عاقبة الظلم. 5- صور من الظلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون:
عنوان هذه الخطبة "ظالم من الدرجة الأولى" من هو هذا الظالم؟ إن التاريخ لا يظلم أحداً، إذا نقل بأيدٍ أمينة، وإن ما فعله الظالمون مسطّر في قلوب الأجيال، وهو عند ربي في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسوف يوقفهم – سبحانه وتعالى – للقصاص يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
وهذا الظالم، سيرته تقشعر منها أبدان المؤمنين، وتدمع منها عيون الموحدين، سيرة مؤذية وقبيحة ومنتنة.
وذكره الذهبي في السير فقال: نبغضه ولا نحبه، ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين. ثم قال عنه: له حسنات منغمرة في بحار سيئاته.
وذكره ابن كثير فقال: فلان بن فلان، قبحه الله، هكذا يحكم عليه التاريخ وقد هلك منذ قرون طويلة.
ولكنه سيقدم على الله، وسيحاسب عن كل ما فعل، وعن كل ما قدم، وبما اتخذ من قرار، وبما سلب من أموال، وبما سفك من دماء، وبما أسكت من أصوات.
ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون [إبراهيم:42]. ولماذا نراهم يملأون الدنيا؟
إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [إبراهيم:42-43].
لقد أخطأ هذا الظالم في حق الأمة الإسلامية، وظن أنه والٍ في دولة فارس أو الروم، وظلم نفسه أيضاً، ولكنه لا يستطيع أن يظلم ربه وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [البقرة:57].
سفك هذا الظالم الدماء الزكية، حجر على المفكر فكره، وعلى العالم علمه، وعلى الداعية دعوته، وعلى الأديب أدبه، وعلى المبدع إبداعه، وهذا من أعظم الظلم، الذي إذا وجد في أمة، فهو أعتى ما يمكن أن يواجهها في حياتها.
إن الظلمة قد لا يقتلون الأنفس، وإنما يقتلون المبادئ والطموحات والإبداعات والمواهب، فيستحقون بذلك غضب الله – عز وجل – وأليم عذابه إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم [آل عمران:21].
• قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك من قتل رسالة الناس، ودعوة الناس، وعلم الناس، وإبداع الناس، وحجر على أفكارهم، يستحق هذا العذاب، طالما أن رسالتهم للإسلام، ودعوتهم للإسلام، وعلمهم للإسلام، وإبداعهم للإسلام، وأفكارهم للإسلام.
إن هذا الظالم الذي نتحدث عنه، قتل الأصوات كلها إلا صوتاً واحداً يمدحه، ويثني عليه، ويغني له، ويسبح بحمده صباح مساء.
إن هذا الظالم الذي نتحدث عنه، قطع الأيادي كلها، إلا يداً تصفق له، أباد المواهب كلها إلا موهبة تقدسه وتعظمه.
والله إن العبد ليندى جبينه خجلاً، ويتفطّر قلبه أسى، وهو يطالع ما وصل إليه العالم الإسلامي المعاصر من تسلط الظلمة وأعداء الأمة. ووالذي نفسي بيده، للعالم الغربي على كفره، أرحم وأعدل من هؤلاء.
ونعود إلى أعظم ظالم عرفته الأمة؛ عادى العلماء لأنهم حملة حق، وصاحب السفهاء لأنهم روّاد باطل، صادم المربين واللامعين والمصلحين، وقرب المهرجين والمطبلين والفارغين.
مشكلة هذا الظالم أنه لا يستمع إلى نصيحة، ولا يقبل حواراً، ولا يحتمل معارضة.
من هو هذا الظالم؟ هل عرفتموه؟ هل مرّ بأذهانكم؟ هل سمعتم خبره؟
يقول هذا الظالم عنه نفسه، قبل أن يموت بشهر واحد: رأيت في المنام كأن القيامة قامت، وكأن الله برز على عرشه للحساب، فقتلني بكل مسلم قتلته مرة؛ إلا سعيد بن جبير قتلني به على الصراط سبعين مرة.
أتدرون كم قتل من أمة محمد، عليه الصلاة والسلام، لقد قتل منها الآلاف، وسجن الآلاف، ومنع الدعاة من الكلام، وحجر على العلماء، وأظلمت الدنيا في عهده.
خطب في الناس، وصلى بهم الجمعة، ثم مشى بجانب سجنه، فبكى السجناء، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، عله أن يسمعهم فيرحمهم، فسمعهم، ثم قال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون [المؤمنون:108].
يأتيه الشيخ الكبير، فيلعنه أمام الناس، يقوم الناصح فينصحه، فيمنعه من إلقاء الدروس والكلمات طيلة عمره.
إن الحجّاج بن يوسف الثقفي، طاغية في تاريخ الأمة.
أراد الله أن يؤدب هذه الأمة بأمثال هذه القائمة السوداء، بسبب ذنوبها، وعتوها، وبأكلها للربا، وخيانتها لميثاق الله – تعالى – فوضع هذه الكوابيس على أكتافها، لتعود إلى ربها.
دخل رجل على علي بن أبي طالب وهو خليفة فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال الناس أطاعوا أبا بكر وعمر، ولم يطيعوك؟ قال علي: لأن رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورعيتي أنا، أنت وأمثالك، ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
كان الحجاج يقرأ القرآن، ويلقي الخطب الرنانة، وكان يتحدث عن العدل ويمدح نفسه بذلك، ولكن كان سيفه مشرعاً في وجه كل من يخالف، وكانت إبادته للحريات ماضية، واستيلائه على الحقوق نافذة.
ومع ذلك كان يصفق له المبطلون، ويمدحه المادحون، ويشيد بعدله الشعراء والمنافقون.
عباد الله:
نحن الآن أمام قصتين غريبتين مذهلتين بين عبدين صالحين وبين هذا الطاغية.
أتى هذا الطاغية إلى الحرم ليؤدي العمرة، وكثير من الظلمة، يتصور أنه إذا فعل ما فعل، ثم يأتي ويطوف بالبيت سبعاً فقد محي هذا بذاك وانتهت القضية، وهذا تصور ساذج للإسلام.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
إلى الديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
ذهب الطاغية يعتمر، وأخذ معه حراسة مشددة، لأنه يعلم أنه ظالم، ولما أتى مقام إبراهيم، وقف يصلي ركعتين، فوضع حرسه وجنوده السلاح والسيوف والرماح والخناجر على الأرض. والذي يروي هذه القصة طاوس بن كيسان، أحد العلماء، قال: كنت جالساً عند المقام، فسمعت الجلبة، يعني الصوت والضجة، فالتفتُّ، فرأيت الحجاج وحرسه، فقلت: اللهم لا تمتعه بصحته ولا بشبابه.
لا إله إلا الله، إن بعض العباد، يستولي على قلوب الناس، فيكسب دعاء العجائز في البيوت والأطفال في المهد، وهناك آخرون يكسبون بغض الناس، فيلعنهم الشباب والشيوخ، وتلعنهم الحوامل وما في بطونها، وتلعنهم دواب الأرض، وكان الحجاج من هذا الصنف.
فلما جلس الحجاج بعد أن أدى الركعتين، أتى رجل فقير من أهل اليمن، وقام يطوف بالبيت، ولم يعلم أن الحجاج بن يوسف عند المقام، وفي أثناء طواف هذا لفقير، نشبت حربة بثوب هذا الفقير اليمني، ثم وقعت على بدن الحجاج.. ففزع الحجاج وقال: خذوه، فأخذه الجنود، ثم قال: قربوه مني، فقربوه منه، فقال الحجاج لهذا الفقير المعتز بالله: أعرفتني؟ قال: ما عرفتك.
قال الحجاج: من واليكم على اليمن؟
قال الفقير: محمد بن يوسف، أخو الحجاج، ظالم مثله!! أو أسوأ منه!!
قال الحجاج: أما علمت أني أنا أخوه؟
قال الفقير: أنت الحجاج؟
قال الحجاج: نعم.
قال الفقير: بئس أنت، وبئس أخوك!!
قال الحجاج: كيف تركت أخي في اليمن؟
قال الفقير: تركته بطيناً سميناً.
قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، إنما سألتك عن عدله.
قال الفقير: تركته غاشماً ظالماً.
قال الحجاج: أما علمت أنه أخي؟ أما تخاف مني؟
قال الفقير: أتظن يا حجاج أن أخاك يعتز بك، أكثر من عزتي بالواحد الأحد؟
قال طاوس الراوي: والله لقد قام شعر رأسي، ثم أطلق الحجاج الرجل، فجعل يطوف بالبيت، لا يخاف إلا الله!!.
ومما زادني شرفاً وتيهّا وكدت بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبينا
كان سعيد بن جبير إمام الدنيا في عهد الحجاج، وكان الإمام أحمد إذا ذكره بكى وقال: والله لقد قتل سعيد بن جبير، وما أحد على الدنيا من المسلمين، إلا وهو بحاجة إلى علمه.
قتله الحجاج، قتل وليّ الله، الصوّام القوّام، محدث الإسلام وفقيه الأمة، وافتحوا كتب التفسير والحديث والفقه، فسوف تجدون سعيد بن جبير في كل صفحة من صفحاتها.
كانت جريمة سعيد بن جبير، أنه عارض الحجاج، قال له أخطأت، ظلمت، أسأت، تجاوزت، فما كان من الحجاج إلا أن قرر قتله؛ ليريح نفسه من الصوت الآخر، حتى لا يسمع من يعارض أو ينصح.
أمر الحجاج حراسه بإحضار ذلك الإمام، فذهبوا إلى بيت سعيد في يوم، لا أعاد الله صباحه على المسلمين، في يوم فجع منه الرجال والنساء والأطفال.
وصل الجنود إلى بيت سعيد، فطرقوا بابه بقوة، فسمع سعيد ذلك الطرق المخيف، ففتح الباب، فلما رأى وجوههم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ماذا تريدون؟ قالوا: الحجاج يريدك الآن.
قال: انتظروا قليلاً، فذهب، واغتسل، وتطيب، وتحنط، ولبس أكفانه وقال: اللهم يا ذا الركن الذي لا يضام، والعزة التي لا ترام، اكفني شرّه.
فأخذه الحرس، وفي الطريق كان يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، خسر المبطلون.
ودخل سعيد على الحجاج، وقد جلس مغضباً، يكاد الشرّ يخرج من عينيه.
قال سعيد: السلام على من اتبع الهدى – وهي تحية موسى لفرعون -.
قال الحجاج: ما اسمك؟
قال سعيد: اسمي سعيد بن جبير.
قال الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.
قال سعيد: أمي أعلم إذ سمتني.
قال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك.
قال سعيد: الغيب يعلمه الله.
قال الحجاج: ما رأيك في محمد صلى الله عليه وسلم؟
قال سعيد: نبي الهدى، وإمام الرحمة.
قال الحجاج: ما رأيك في علي؟
قال سعيد: ذهب إلى الله، إمام هدى.
قال الحجاج: ما رأيك فيّ؟
قال سعيد: ظالم، تلقى الله بدماء المسلمين.
قال الحجاج: علي بالذهب والفضة، فأتوا بكيسين من الذهب والفضة، وأفرغوهما بين يدي سعيد بن جبير.
قال سعيد: ما هذا يا حجاج؟ إن كنت جمعته، لتتقي به من غضب الله، فنعمّا صنعت، وإن كنت جمعته من أموال الفقراء كبراً وعتوّاً، فوالذي نفسي بيده، الفزعة في يوم العرض الأكبر تذهل كل مرضعة عما أرضعت.
قال الحجاج: عليّ بالعود والجارية.
لا إله إلا الله، ليالٍ حمراء، وموسيقى والهة، والأمة تتلظى على الأرصفة!!.
فطرقت الجارية على العود وأخذت تغني، فسالت دموع سعيد على لحيته وانتحب.
قال الحجاج: مالك، أطربت؟
قال سعيد: لا، ولكني رأيت هذه الجارية سخّرت في غير ما خلقت له، وعودٌ قطع وجعل في المعصية.
قال الحجاج: لماذا لا تضحك كما نضحك؟
قال سعيد: كلما تذكرت يوم يبعثر ما في القبور، ويحصّل ما في الصدور ذهب الضحك.
قال الحجاج: لماذا نضحك نحن إذن؟
قال سعيد: اختلفت القلوب وما استوت.
قال الحجاج: لأبدلنك من الدينار ناراً تلظى.
قال سعيد: لو كان ذلك إليك لعبدتك من دون الله.
قال: الحجاج: لأقتلنك قتلة ما قتلها أحدٌ من الناس، فاختر لنفسك.
قال سعيد: بل اختر لنفسك أنت أي قتلة تشاءها، فوالله لا تقتلني قتلة، إلا قتلك الله بمثلها يوم القيامة.
قال الحجاج: اقتلوه.
قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.
قال الحجاج: وجّهوه إلى غير القبلة.
قال سعيد: فأينما تولوا فثمّ وجه الله [البقرة:115].
قال الحجاج: اطرحوا أرضاً.
قال سعيد وهو يتبسم: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى [طه:55].
قال الحجاج: أتضحك؟
قال سعيد: أضحك من حلم الله عليك، وجرأتك على الله!!.
قال الحجاج: اذبحوه.
قال سعيد: اللهم لا تسلط هذا المجرم على أحد بعدي.
وقتل سعيد بن جبير، واستجاب الله دعاءه، فثارة ثائرة بثرة [1] في جسم الحجاج، فأخذ يخور كما يخور الثور الهائج، شهراً كاملاً، لا يذوق طعاماً ولا شراباً، ولا يهنأ بنوم، وكان يقول: والله ما نمت ليلة إلا ورأيت كأني أسبح في أنهار من الدم، وأخذ يقول: مالي وسعيد، مالي وسعيد، إلى أن مات.
مات الحجاج، ولحق بسعيد، وغيره ممن قتل، وسوف يجتمعون أمام الله – تعالى – يوم القيامة، يوم يأتي سعيد بن جبير ويقول: يا رب سله فيم قتلني؟
يوم يقف الحجاج وحيداً، ذليلاً، لا جنود، ولا حرس، ولا خدم، ولا بوليس، ولا جواسيس. إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدّهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً [مريم:93-95].
عباد الله:
إن نبيكم كأنه علم أن ذلك سيحدث لأمته، ولأتباع ملته، فحذر أشد التحذير من الظلم.
قال : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به)) [2].
وقال عليه الصلاة والسلام: ((من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه، دون حاجته وخلّته وفقره)) [3].
إذا أغلق المسؤولون أبوابهم في وجوه ذوي الحاجات، فمن يحل مشكلة الفقير؟ من يسمع معاناة المسكين؟ من يرفع الجوع عن الجائعين؟ أهو الذي يحتجب عنهم، ويغلق أبوابه دونهم؟ سوف يحتجب الله عنه يوم القيامة.
أيها الناس:
هذه سيرة فيها عبرة لمن يعتبر لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:111].
ثم رُدّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].
يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم [الإسراء:71].
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية:29].
ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون [الأنعام:67].
سوف تعلمون عاقبة الظلم والقهر، يوم ينادي رب العزة ويقول: لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجب نفسه بنفسه لله الواحد القهار [غافر:16].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البثرة: هي الخُرّاج الصغير.
[2] أخرجه مسلم (3/1458) رقم (1828) عن عائشة.
[3] أخرجه أبو داود (3/135) رقم (2948) عن أبي مريد الأزدي ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6595).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس:
في سيرة هذا الظالم الذي تحدثنا عنه دروس:
أولها: أن الظلمة ولو كانوا يملكون أجساد الناس، ويسيطرون على أموالهم، فإنهم لا يستطيعون أن يتحكموا في قلوب العباد، لأنها بيد الله وحده، فيجعل الله المحبة في قلوب الخلق لمن أحب، ويجعل البغض في قلوبهم لمن أبغض، ولو حاول الظلمة أن يكسبوا ود الناس، لما استطاعوا؛ فإن الله كتب أن يجعل الود لأوليائه وأحبابه إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً [مريم:96].
وفي الصحيح قال : ((إن الله إذا أحب عبداً، دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً، فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً، فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء، إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)) [1].
فاحرص – يا عبد الله – أن تكون ممن وضع له القبول في الأرض، واعلم أن العبد مهما صغر ولايته أو كبرت، فإنه سوف يقف أمام الله – عز وجل – وسوف يحاسب على هذه الولاية، ولو كان يحكم بين اثنين، أو كان مسؤولاً عن مكتب صغير، أو مديراً لمدرسة، أو رئيساً لدائرة.
واجعل أمام عينيك نموذجين اثنين؛ عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، والحجاج بن يوسف الجبار الظالم، واسأل نفسك، مع من تحب أن تكون يوم القيامة؟
ثانياً: إن من أعظم الظلم، قتل المواهب والإبداعات والرسالات، تأتي بالأديب، فتكسر قلمه أمامه، وتقول: لا تكتب أدباً، ولا تروي شعراً، تأتي بالعالم، فتسفه استنباطه واجتهاده، تأتي بالشاعر المسلم، فتقول: لا تشعر، لا تنظم، لا تقفِ إلا بما أريد. هذا ظلم، وانتهاك للقيم.
ثالثا: إن الأمة الإسلامية لم تعش التخلف، ولم تحيا الاضطراب والرجعية؛ إلا يوم تكلمت بغير قناعتها، بحسب أهواء الظلمة، فالإنسان يقول قولاً، ويناقضه من داخلٍ، يكتب ثناء، ويعلم أنه كاذب مخادع.
وفي الحديث أن الرسول، عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم؛ أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم)) [2]. يعني سقطت من عين الله، فلا يحبها الله، ولا ينصرها، ولا يرفع قدرها.
رابعاً: ليخشع الظالم من الله، فإن لم يخش من الله، فليخش من التاريخ، فإنه يسجل ظلمه وبغيه، ألا يرى الظالم أننا ونحن في القرن الخامس عشر، نترحم ونبكي وندعو لبعض الأئمة العدول الذين عاشوا في القرن الأول؟ وكذلك فإننا نغضب ونلعن أناساً جبارين عاشوا في نفس القرن. هل قدم لنا هؤلاء العدول إحساناً؟ هل لنا مصلحة في الدعاء لهم؟ وهل وقع من هؤلاء الظلمة إساءة علينا؟ لا، ولكنها سنة الله تعالى، وكما قال أبو تمام في أئمة العدل:
ذهبوا يرون الذكر مجداً ثانياً ومضوا يعدّون الثناء خلوداً
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى ألا ومن فجر الصباح عموداً
خامساً: صلاح الرعية، بصلاح الراعي، وصلاح الراعي، بصلاح الرعية، وإذا علم الله من الرعية الصلاح، ولى عليهم الأخيار، ورقق قلوب الولاة عليهم، وجعلهم رحماء عدول.
فإذا حادت الأمة عن منهج الله، ابتلاها بأناس، يبركون على صدورها، فلا ترى النور، ولا تتنفس، ولا تتكلم، حتى تلقى الله بذنوبها وخيبتها.
فنسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم؛ أن يولي علينا خيارنا، وأن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأن يهديهم سواء السبيل، وأن يدلّهم على الحق، ويجنبهم الباطل، وأن يرزقهم البطانة الناصحة الصالحة، وأن يصرف عنهم بطانة السوء.
عباد الله:
وصلوا وسلموا – رحمكم الله تعالى – على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً [الأحزاب:56].
[1] أخرجه مسلم (4/2030) رقم (2637) عن أبي هريرة.
[2] أخرجه أحمد (2/163 ، 190) عن عبد الله بن عمرو.
(1/1316)