الحث على التوبة والتحذير من شؤم المعصية
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – عفو الله عن صغائر الذنوب
2 – كيف تصبح الصغيرة كبيرة
3 – شؤم المعصية لازم لها وقد يتأخر عنها
4 – شؤم المعصية قد يمتد عن العاصي إلى غيره في أفراد المجتمع
5 – الندم على المعصية حين لاينفع الندم
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام: كلنا نقع في الذنوب والمعاصي لا يسلم أحد من صغير أو كبير، مع اختلاف وتباين، فمستقل ومستكثر، فمن الناس من يظلم نفسه ظلماً تكفره الصلوات والعبادات والأعمال الصالحة، يقول الله جل وعلا: أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما ظلم العبد نفسه بصغائر الذنوب والمعاصي من غير إصرار فذلك تكفره آيتا النساء والنجم) اهـ يقول الله جل وعلا في سورة النساء: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً ويقول الله جل وعلا في سورة النجم: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى.
فالصغيرة التي لا يصر عليها صاحبها هي من هذا اللمم الذي يغفره الله بالصلوات والأعمال الصالحة وبشرط اجتناب الفواحش والذنوب الكبار.. كما اشترطت الآيتان.
وأما دليل شرط عدم الإصرار لمغفرة هذه الصغائر بالصلوات والأعمال الصالحة لأن عموم قوله تعالى في سورة آل عمران: ولم يصروا على ما فعلوا وهو يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم.
وهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أنه قد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في أعلى مراتب الكبائر، وهذا مرجعه إلى ما يقوم في القلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والعبد يعرف ذلك من نفسه ومن غيره، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولذلك قال بعضهم: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
وقد تشتد غفلة صاحب الذنب حتى إنه ليفرح إذا ظفر بشهوة أو إذا فعل المعصية مما يدل على شدة الرغبة فيها والجهل بعظمة من عصاه والجهل بخطر المعصية وبسوء عاقبتها، فالبعض يظن أنه إذا فعل المعصية فلم يجد أثرها على الفور فإنه لن يجده بعد ذلك كما قال ابن القيم رحمه الله، يزعم بعضهم أن هذا على حد قول القائل:
إذا لم يغبِّر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وقد نسي الكثير أن شؤم المعصية يدرك العبد ولو بعد أربعين سنة.
نظر أحدهم نظرة محرمة، نظر نظر شهوة إلى من لا يحل له النظر إليه بشهوة ثم قال لنفسه: لتجدن غبها ولو بعد حين قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وقد لا يظهر شؤمها إلا في آخر لحظات الحياة على فراش الموت حيث تسوء الخاتمة. قال عبد العزيز بن أبي روَّاد: حضرت رجلاً عند الموت يلقن الشهادة: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر. وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
ولا يقتصر شؤم المعصية على العبد اللاهي بل يمتد شؤم معصيته على من حوله فيخيم هذا الشؤم على قومه الذين اندس فيهم، ولذا قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.
هنا قصة مؤثرة وقعت في بني إسرائيل، وليس فيها ما يخالف شرعنا، فهي مما أذن لنا أن نحكيه عن بني إسرائيل، فقد روي أنه لحق بني إسرائيل قحط – يعني الجدب وامتناع المطر- على عهد موسى عليه السلام، فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهي، اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والشيوخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشعاً والشمس إلا حرارة – ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى-.
فتعجب موسى عليه السلام وسأل ربه عن ذلك فأوحى ربه إليه: إن فيكم عبداً يبارزني أربعين سنة بالمعاصي، فنادِ في الناس حتى يخرج من بين أظهركم، فقال موسى: إلهي وسيدي، أنا عبد ضعيف، صوتي ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه: منك الدعاء ومنا البلاغ، فقام منادياً وقال: يا أيها العبد العاصي، الذي يبارز الله منذ أربعين سنة – بالمعاصي- اخرج من بين أظهرنا، بشؤم معصيتك منعنا المطر، فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال، فلم ير أحداً خرج، فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا المطر من أجلي، فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله وقال: إلهي وسيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً فاقبلني، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب، فقال موسى: إلهي وسيدي، بماذا سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى سقيتم بالذي منعتكم به –أي الرجل نفسه- فقال موسى: أرني هذا العبد الطائع، فقال: يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟
يا من إذا وقف المسيء ببابه ستر القبيح وجاد بالإحسان
أصبحت ضيف الله في دار الهنا وعلى الكريم كرامة الضيفان
ألا ما أعظم فضل الله وحلمه وستره على عبده!
تأملوا أيضاً كيف يؤثر ظلم العبد لنفسه على من حوله.. ألا ما أشبهنا في هذه الحياة براكبي السفينة.. التي تتأثر ويتأثر جميع راكبيها بما يحدثه أحدهم فيها من خرق أو ثقب... حتى لتوشك السفينة كلها أن تغرق بفعل واحد فيها.. ونحن ننسى هذا المثال كثيراً في حياتنا فقد ينقد كل واحد منا إخوانه ومجتمعه، وينسى أنه بمعصيته وبذنبه أحد أسباب الشؤم على هذا المجتمع.
وقد ننقد على صعيد آخر دعوتنا ومسيرتها وقادتها في الوقت الذي يفعل كل منا في السفينة ما يحلو له.. وإذا كان كل منا مصرٌ على أن يفعل في السفينة ما يحلو له من نقب وشرخ فلا يسوغ منه أن ينقد قائد السفينة إذا لم يستطع أن يسلك بها المسلك السوي في الأمواج المتلاطمة.
إذن فالمعصية لها شؤمها على الفرد والمجتمع.. والأمر جد خطير فما المخرج إذن حتى لا يدركنا أو لا يستمر بنا هذا الشؤم؟ ومن قبل أن نندم حين لا ينفع الندم؟
المحرج واضح جلي في قوله جل وعلا: وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذي كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
فالمخرج إذن هو التوبة الصادقة والتوبة النصوح، وكلنا يدعي التوبة وما أكثر ما نتوب ثم نعود، وما أكثر ما نعاهد الله على ترك أمر فنعود إليه أسرع ما نكون.
وقد أمرنا أن نلتمس التوبة على عجل ولا نؤخرها إلى الموت حيث لا تنفع، وما دام الموت متوقعاً في كل لحظة فالتوبة واجبة على الفور قال عز من قائل: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً.
ولهذا فقد دعا الله عباده إلى التوبة في سبعة وثمانين موضعاً في كتابه العزيز، والتوبة كما أنها واجبة على الفور فهي واجبة على الدوام لأن العبد لا يخلو من معصية أو فتور فإنه إن خلا عن المعصية بالجوارح لم يخل عن الهم بالقلب، وإن سلم من الهم بالقلب لم يسلم من ورود الخواطر المذهلة عن ذكر الله عز وجل، فإن خلا عن ذلك لم يخل عن الغفلة عن التذكر في عظمة الله ومدلولات أسمائه وصفاته.. كل ذلك غفلة وانقطاع عن الله يستدعي التوبة.. نعوذ بالله من الانقطاع عنه والغفلة عن عظمته وحقه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير والصلاة والسلام على نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد.. فلا بد من التوبة إذن إخوة الإسلام ولا بد من المبادرة إلى ذلك.. لماذا؟
أولاً: لأن الآجال مكتوبة ومجهولة فمنها القصير ومنها الطويل، والموت يأتي بغتة، وتلك المقابر يرقد فيها الطفل الصغير والشاب الوسيم أو الجسيم والشيخ الفاني، فقد يبغت الموت العبد المسلم فلا يأتي الله بقلب سليم.
ثانياً: لأن التوبة طريق الخلاص من تبعات الذنوب، فالذنوب لها تبعات كما أن للمباحات لذات وتبعات، وإذا كانت المباحات تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فذهاب لذات المعاصي أسرع، وتبعاتها أبقى وأخطر.
وكفى بها تبعة على المذنب شؤم ذنبه عليه وعلى من حوله في الدنيا ثم موعده بعد ذلك الساعة، والساعة أدهى وأمر، ولو لم يكن أمامك أيها المذنب إلا أن يسود وجهك هذا بين يدي الله يوم القيامة لكفى بذلك أمراً مفزعاً وتبعة مهلكة.
ثالثاً: لأن تأخير التوبة يترتب عليه تراكم الذنب على الذنب حتى يكون راناً على القلب وحجاباً ثقيلاً عن الله قد لا يوفق معه صاحبه بعد ذلك إلى توبة أبداً، ووالله إنها للطامة المهلكة العظيمة المخيفة.
رابعاً: يجب عليك الكف عن الذنوب والتوبة منها على الفور، لأنك عبد لله ولست حراً بأن تفعل ما يحلو لك.. فاتباعك لهواك خروج عن مقتضى العبودية لله جل وعلا.
كان بشر بن الحارث شاباً صاحب لهو ولعب ومعصية، وكان ذات يوم مع رفقاء له يشاركونه المجون في داره، وصوت لهوهم وطربهم يخرج من نوافذ الدار فمر على الدار رجل من الصالحين فدق الباب فخرجت إليه جارية فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فقالت: بل حر، قال لها الرجل الصالح صدقت: صدقت! لو كان عبداً لاستعمل الأدب مع سيده وترك اللهو والطرب، فسمع بشر بن الحارث صوت الرجل الصالح فاتجه نحو الباب يسأل: من المتحدث؟ فإذا الرجل قد ولى، فسأل الجارية، فأخبرته بما جرى، فألقى الله في قلب بشر وجلاً من تلك الكلمة فخرج يتبع الرجل الصالح حتى إذا لحقه قال له: أعد عليَّ الكلام، فأعاده الرجل الصالح، فقال بشر: كلا والله بل عبدٌ عبد، ثم هام على وجهه حافياً نادماً على ما كان منه حتى عُرف ببشر الحافي.
فبادر إلى التوبة ولا تيأس أيها العاصي، ولا تغتر أيها الطائع، فإنه قد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى يقال ما أشبههم بهم، بل هم منهم ثم تدركهم السعادة فتستنقذهم، وقد يسلك بأهل الشقاوة طريق أهل السعادة حتى يقال ما أشبههم بهم، بل هم منهم ثم تدركهم الشقاوة ويختم لهم بسوء.
واعلم أن عاقبة ضلالك أو عاقبة استقامتك لا يعود بشيء منه على الله إنما ذلك عليك أو لك: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
والتوبة الصادقة ليست كلاماً فحسب.. وليست كما يقول بعضهم إذا قيل له: تب إلى الله ودع هذا فإنه لا يحل لك. فيقول: نحن قلوبنا طيبة وسيغفر لنا.
كلا فالقلوب الطيبة هي التي تستسلم للدين.. وتستجيب الإستجابة السريعة.. فالتوبة الصادقة تغيير كلي داخل النفس وفي واقع الحياة، ماذا ستأكل؟ وماذا ستشرب؟ وماذا ستلبس؟ ومتى ستنام؟ ومتى تستيقظ؟ هل ستضيع صلاة الفجر، وإذا ضاعت صلاة الفجر من الإنسان فهو خاسر ويخشى عليه النفاق، لأنه يفتتح يومه بمعصية الله بدلاً من أن يكون في ذمة الله كما جاء في الحديث: ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله)).
التوبة تغيير كلي في خط الحياة وتأثر سريع بالموعظة والتذكير، مر عبد الله بن مسعود ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة فإذا فتيان فساق قد اجتمعوا يشربون وفيهم مُغَنٍّ يقال له: زاذان يضرب ويغني، وكان له صوت حسن، فلما سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صوته، قال: ماأحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله، فسمع زاذان قوله فقال: من كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود صاحب رسول لله صلى الله عليه وسلم، قال: وأي شيء قال؟ فكرروا عليه الكلام، فقام زاذان وضرب العود في الأرض فكسره، ثم أسرع إلى عبد الله بن مسعود يبكي، فاعتنقه عبد الله بن مسعود ورق له، وجعل كل واحد منهما يبكي، فتاب الشاب إلى الله تعالى ولازم عبد الله بن مسعود حتى تعلم القرآن ثم أخذ حظاً من العلم وتدرج فيه حتى صار فيه إماماً.
فإنه لمن أعظم دلالات صدق التوبة الندم، الندم الذي يجعل القلب منكسراً أمام الله، مخبتاً لذكر الله وجلاً من هول عذاب الله.
إن من تمام صدق التوبة، العودة بالإيمان إلى أعلى درجاته: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون.
فمن رأى من نفسه أو من غيره وجلاً وإخباتاً وخشوعاً وانقياداً لله بعد توبته فذاك إن شاء الله دليل على صدق التوبة، أما أن يكون الواحد يذنب الذنب فيقول: أستغفر الله بلسانه ولكن جوارحه لا تقلع، وقلبه لا يفتر عن الهم والقصد والتزيين، فذاك قد يصدق عليه الأثر: ((إنما المنافق الذي يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، أما المؤمن فيرى ذنوبه كجبل يوشك أن يقع على رأسه فهو خائف وجل من ذلك)) وإنه لمن رحمة الله بالعبد وإرادته الخير به أن يوفقه للتوبة وأن يحوله إلى عمل صالح يميته عليه، ففي الحديث الصحيح: ((إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قالوا: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت ثم يقبضه عليه أي يشغله بطاعة ثم يقبضه عليها)).
كان الفضيل بن عياض في بداية حياته قاطعاً للطريق فخرج ذات ليلة لقطع الطريق فإذا هو بقافلة قد انتهت إليه ليلاً، فقال بعضهم لبعض: اعدلوا بنا إلى هذه القرية، فإن أمامنا رجل يقطع الطريق يقال له الفضيل، فسمع الفضيل كلام الرجل وأخذته رعدة حياء من الله سبحانه وتعالى فنادى على الركب وأضافهم تلك الليلة، وقال لهم: أنتم الليلة آمنون من الفضيل، وخرج يدبر لهم طعاماً ثم رجع فسمع واحداً منهم يقرأ في صلاته بصوت حزين يقطع سكون الليل: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهما فاسقون. فتخللت هذه الآية جسد الفضيل وكأن كل جزء من جسده صار أذناً فتنهد وقال: بلى والله قد آن.
فكان هذا مبتدأ توبته إلى الله تعالى. وأراد الله بالفضيل بن عياض خيراً، فسلك طريق العلم والصلاح والتقوى حتى أصبح قاضياً وفقيهاً وإماماً للمسلمين في حرم مكة الشريف وظل طيلة حياته خائفاً وجلاً من القيام بين يدي الله.
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت فضيلاً ليلة وهو يقرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم ويبكي وهو يردد هذه الآية: ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم فجعل يقول اللهم إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا. اللهم إن بلوت أخبارنا أهلكتننا وعذبتنا.
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون واعلموا أن الذنب لا ينسى ولا تظنوا أن شيئاً من الأعمال لا يحصى واعلموا أن لكل حسنة ثواباً وأنا لكل سيئة عقاباً.
فأيقظنا اللهم لتدارك بقايا الأعمار، ووفقنا للتزود من الخير والاستكثار، واعف عنا ما سلف وكان.
(1/1100)
النصيحة وآدابها
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – تحديد مفهوم النصيحة
2 – معنى النصيحة لعوام المسلمين
3 – حال الدعاة مع المنصوحين
4 – صفات الناصحين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فكثيراً ما نردد جميعاً أنه ينبغي علينا أن ننطلق في مواقفنا ومناهجنا من الكتاب والسنة مستعينين على فهمهما بأقوال وكلمات سلفنا الصالح، ولكن عند التطبيق لا ننفذ ذلك بدقة.. وقد تأملت في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه الذي يقول فيه : ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم ) وفي حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه الذي يقول فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) –ثلاثاً- قال: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله عز وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
ثم نظرت إلى كلام علماء سلفنا بدقة وإمعان في معنى النصيحة لعامة المسلمين، فوجدت فيها الدور المطلوب ومنهج التعامل المنشود مع جهود الأمة..
نعم إنه مسلك النصيحة لعامة المسلمين، ووجدت أن مسلك النصيحة لعامة المسلمين كما فسره سلفنا يختلف عن المسالك السابقة التي أشرت إليها، ويقدم منهجاً متكاملاً ناجعاً في التعامل والدور الذي ينبغي لكل منا مع جمهور الأمة.
فالنصيحة أولاً ليست مرادفة لإنكار المنكر، وإن كانت لا تتعارض معه، وإنما إنكار المنكر وتقويم خطأ المخطئ ركن من أركان النصيحة للمسلمين.
والنصيحة أيضاً ليست مرادفة لمسلك إضمار الخير للمسلمين والشفقة عليهم فحسب، وإنما تلك الشفقة على المسلمين ركن من أركان النصيحة لهم، والنصيحة للمسلمين ليست مرادفة لمسلك إرشادهم إلى مصالح دنياهم وقضائها لهم، وإنما إرشاد المسلمين لمصالح دنياهم وقضائها لهم ركن من أركان النصيحة، ولا يحقق النصيحة الكاملة للمسلمين.
إذن فالنصيحة للمسلمين كما بين معناها سلفنا تجمع ثلاثة أمور: تقويم المخطئين والشفقة عليهم وقضاء حوائجهم، باجتماع هذه الأمور والأركان في النصيحة تزول السلبيات المختلفة.
فمع وجود الشفقة على المسلمين وقضاء مصالحهم لا يصبح الإنكار على خطئهم سبب فتنة وانقباض لهم، ومع تقويم أخطائهم وتعليم جهلائهم لا يغدو قضاؤك لمصالحهم عملاً سياسياً بحتاً، ومع تقويم خطلهم وقضاء مصالحهم لا يصير إضمارك للخير لهم والشفقة بهم شيئاً سلبياً لا قيمة له من الناحية العملية.
وسأذكر لكم كلام أهل العلم السالفين بحروفه في معنى النصيحة حتى تعلموا أن مشكلتنا أننا لا نأخذ بجميع ما أمرنا الله، وأن القوم متى نسوا شيئاً مما ذكرهم الله به اختلفوا واضطربوا كما قال جل وعلا: فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء.
فأولاً: قالوا في النصيحة: إنها كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وعملاً. هذا ما قاله أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله.
وقال محمد بن نصر: قال بعض أهل العلم: جماع تفسير النصيحة هي عناية القلب للمنصوح له كائناً من كان.
وقال الخطابي رحمه الله: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، وأصل النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع.
فهذا كلامهم في معنى النصيحة عامة – كما ذكره ابن جب رحمه الله -.
وأما كلامهم في معنى النصيحة لعامة المسلمين، فيقول ابن رجب رحمه الله: ومن أنواع نصحهم دفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم وتعليم جاهلهم ورد من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحبة إزالة فسادهم ولو بحصول ضرر له في دنياه كما قال بعض السلف: وددت أن هذا الخلق أطاعوا الله وأن لحمي قرض بالمقاريض.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو حتى يكون آخر شيء منها خروج نفسي.
وقال الحسن: إنك لن تبلغ حق نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما يعجز عنه. وهذا تأكيد على أن النصيحة لا تتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكلام ابن رجب وما نقله ظاهر في أنه يدور حول الأركان الثلاثة التي يشملها النصح للمسلمين من العطاء الديني لهم والعطاء الدنيوي والعطاء النفسي القلبي.
ونحوه أيضاً كلام أبي عمرو ابن الصلاح حيث قال: النصيحة لعامة المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم وسد خلاتهم ونصرتهم على أعدائهم والذب عنهم، ومجانبة الفسق والحسد لهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه وما شابه ذلك.
وكذا يقول محمد بن نصر رحمه الله: أما النصيحة للمسلمين فأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم، وإن أضر ذلك في دنياه كرخص أسعارهم، وإن كان في ذلك فوات ربح ما بيع من تجارته.
وكذلك يكره جميع ما يضرهم عامة، ويحب ما يصلحهم ويفرح لدوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم.
فمن منا يلتزم مع عامة المسلمين بهذه المعاني للنصيحة، وهل التحم الدعاة والملتزمون فعلاً مع الأمة بهذه الصورة.. بل هل التحموا مع بعضهم أولاً بهذه الصورة..
وتأمل قول محمد بن نصر رحمه الله: ويحزن لحزنهم ويفرح لفرحهم، وإن ضر ذلك في دنياه كرخص أسعارهم، وإن كان في ذلك فوات ربح ما بيع من تجارته..
إننا في ما بين يوم وآخر نسمع شكوى لشخص ذهب إلى من يفترض فيه تمام النصح له والإحسان في سلعة يريد شراءها أو صنعة يريد إتمامها أو نحو ذلك وسلم نفسه له تماماً آمناً مطمئناً ثم صدم وخاب ظنه..
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المسلمون وتعلموا كيف يعامل كل منكم سائر المسلمين، وكيف يقوم بدوره نحوهم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصيام والصلاة، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة، وقال أبو بكر المزني: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، قال ابن علية: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة لخلقه.
وقال معمر رحمه الله: كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الله فيك.
وقال الحسن: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله: إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة.
وقد كان الرسل جميعاً ناصحين لأقوامهم من كل قلوبهم باذلين ما بوسعهم لنفعهم وهدايتهم.. ولذا قال نوح لقومه: وأنصح لكم. وقال هود لقومه: وأنا لكم ناصح أمين. وقال صالح: ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين. وقال شعيب لقومه بعدما هلكوا: لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1101)
حياة ابن المبارك رحمه الله
سيرة وتاريخ
تراجم
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – خشية ابن المبارك لله تعالى
2 – ابن المبارك مستجاب الدعوة
3 – جهاد ابن المبارك
4 – سخاء ابن المبارك
5 – تواضع ابن المبارك
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام:
نواصل اليوم حديثنا في سيرة عبد الله بن المبارك رحمه الله وجوانب القدوة في حياته، وقد سبق أن ذكرنا الدروس المستفادة من حياته العلمية، وتبقى جوانب كثيرة للاقتداء في حياة هذا الرجل.
فمنها عبادته وخشيته لله تعالى لنرى فيه مصداق قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء وهذا هو العلم النافع، الذي يقود إلى خشية الله تعالى، ورحم الله ابن مسعود إذ يقول: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا.
وقال القاسم بن محمد: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل علينا هذا الرجل حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج، قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام نتعشى في بيت إذ طفيء السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وأخذ يبحث عما يوقد به المصباح، فمكث هنيهة، ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
وقال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي المنوال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له)) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة.
وقال نعيم بن حماد: قال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن في ركعة، فقال: لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر: ((ألهاكم التكاثر)) إلى الصبح ما قدر أن يتجاوزها، يعني نفسه.
وقال نعيم أيضا: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش، فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه.
وقال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا، قال: أجلس مع الصحابة والتابعين وأنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ويروى عنه رحمه الله أنه قال:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
ولذا قال نعيم: ما أريت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا في العبادة منه.
ومن كلامه رحمه الله: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة، وفضلٍ قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
سمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس:
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا يرى لك عن هواك نزوح
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوع
وقال الخليل أبو محمد: كان عبد الله بن المبارك إذا خرج إلى مكة قال:
بغض الحياء وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق، يصير كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجتري أحد منا أن يسأله عن شيء.
وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، قال العباس بن مصعب حدثني بعض أصحابنا قال:
سمعت أبا وهب يقول: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال هل: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري، فدعا له، فرد عليه بصره وأنا أنظر.
ومن جوانب القدوة في حياة ابن المبارك رحمه الله: جهاده في سبيل الله ابتغاء رضى الله عز وجل، فلم يغتر بعبادته ويتكل عليها فيترك الجهاد، وكان ينصح أصحابه ألا تقطعهم العبادة عن الجهاد فكتب إلى الفضيل بن عياض رحمه الله قائلا:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكن ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
وقال عبيدة بن سليمان المروزي: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصاففنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فبارزه ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا!!
وقال عبد الله بن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج معالجه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج وطلب البراز، فكأنهم كاعوا عنه، أي جبنوا وتهربوا فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لا تحدث بهذا أحداً وأنا حي فذكره عبد الله بعد موته.
وقال محمد بن الفضيل بن عياش: رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه، قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وقنا شر أنفسنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا وأصلح فساد قلوبنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
ففي سيرة ابن المبارك دروس عظيمة للتجار وأصحاب الأموال.
أولها: النية الصالحة في طلب المال، فقد كان ابن المبارك ينوي بتجارته الإنفاق على المساكين والإنفاق على إخوانه، والقيام بحاجات أهل العلم ليتفرغوا لبث علمهم في الناس.
قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت.
وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.
وقال حبان بن موسى: عوتب إن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد ، لا أعلم بعد النبوة أفض من بث العلم.
فنأخذ من هذا وهو السخاء، فكان ينفق بسخاء ولا يتعلق قلبه بالمال، بل يقضي به حاجات المكروبين ودين المدينين، جاءه رجل فسأله أن يقضي دينا عليه، فكتب إلى وكيل له، فلما رد على الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه، قال: سبع مائة درهم، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم فراجعه الوكيل وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كان الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي.
وكان متفقداً لإخوانه وتلاميذه يكثر النفقة عليهم، وضرب المثل في الإخلاص في تفقد حوائجهم ومشاكلهم، قال محمد بن عيسى: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقول بحوائجه، ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم، ووزن له عشرة آلاف، وحلّفه ألا يخبر أحدا ما عاش، فأخرج الرجل.
وسار ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال له: يا فتى أين كنت، لم أرك؟ قال: يا كنت محبوسا بدين، قال: وكيف خلصت قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدر، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
وقال محمد بن علي بن الحسن بن شفيق سمعت أبي يقول: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري أي يستأجر لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة حتى يصلوا: إلى مدينة الرسول فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طٌرفها فيقول: كذا وكذا،، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمر عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة، فيقول كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وأرسل إليهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه.
ودرس آخر من صلاح ابن المبارك لأصحاب المال وهو التواضع وعدم الترفع على المساكين فهو القائل: ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة.
ولم يكن ابن المبارك مغترا بغناه رغم اجتهاده في تسخير هذا المال لخدمة الدين ونفقته على المحتاجين ولا يرى له شرفا وفضلا على الفقراء K بل يستحضر دائما ما في طلب الغنى من خطر الترخص في بعض المخالفات والمعاصي من أجل زيادة المال، فيقِل خائفا على نفسه من هذا الخطر.
ومن أقواله:
يا عائب الفقر ألا تزدجر عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله على الغنى لو صح منك النظر
إنك تعصي لتنال الغنى وليس تعصي الله كي تفتقر
إخوة الإسلام: بكل هذه الجوانب المشرقة في حياة ابن المبارك وطريقة تفكيره وطيب نفسه ومحاسبته لها صار عالما يحتذى به وإماما ربانيا يقتدى به ليس في حياته فقط، بل مازال واعظا لنا بسيرته وهو تحت أطباق الثرى.
ورحم الله بعض الفضلاء إذ يقول:
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظا وليس بناطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا إذا هي جاءت من رجال الحقائق
(1/1102)
آفات اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظيم فضل الله على الإنسان بخلقه لحواسه ومنها اللسان. 2- إطلاقات اللسان في اللغة.
3- حال الأنبياء مع اللسان. 4- الحرص على حفظ اللسان والتحذير من إطلاقه في الشر.
5- الحذر من الوقوع في التعيير بقصد النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن الله تعالى امتن على عباده في كتابه الكريم وعلى لسان رسول الله بما ركب فيهم من حواس وملكات يدركون بها الأمور ويميزون بها الخير من الشر، وهذه الركبات الحسية صالحة للإستعمال في الخير والشر قال الله تعالى: ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين ، وإن من أعظم نعم الله تعالى اللسان إذا استعمل في الخير وكف وسجن عن الشر، ذلك أن اللسان ترجمان ما في القلب وما تقع عليه العين وما تسمعه الأذن ويطلق اللسان ويراد به اللغة، ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ، بلسان عربي مبين ، فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون.
عباد الله: ويطلق اللسان على هذه المضغة الصغيرة التي بين فكيك أيها الإنسان، صغيرة ولكنها فتاكة، سلاح ذو حدين، علم أنبياء الله تعالى أهمية إطلاقه في الخير وما يجلب للناس منافع، فدعوا الله أن يطلقها لهم وأن يجعلها دائماً صادقة، فهذا إبراهيم عليه السلام يتوجه إلى ربه بدعوات جامعة نافعة في سورة الشعراء يقول فيها: وأجعل لي لسان صدق في الآخرين ، وهذا موسى عليه السلام لما نبأه الله وأرسله وقد علم من نفسه ما علم قال: رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولاينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولما علم أن الأمر غير قابل للإحالة وإنها النبوة والرسالة قال: وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردء يصدقني إني أخاف أن يكذبون ثم توجه إلى الله تعالى بأدعية جامعة نافعة قال فيها في سورة طه: وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وفي معرض المن، ولله المن يقول الله تعالى عن إسحاق ويعقوب: ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق علياً وانظروا رحمكم الله إلى أثر استعمال هؤلاء الأخيار لألسنتهم في الخير وقارنوا بطائفة من الناس تدعي اتباعهم كيف صرفت وانحرفت عن نهجهم وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين فهل ذكر القرآن لنا هذا عنهم لنشبههم فيه أم لنعلم أنهم من الهالكين فنتجنب سبيلهم.
عباد الله: وإن نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين أمرنا بالإقتداء به والتأسي به، وإنه عظم شأن اللسان وحث المتكلم على قول الخير أو الصمت وقرن ذلك بالإيمان ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) وكان ذلك هديه إذا قرأت شمائله، إذ كان طويل السكوت لايتكلم في غير حاجة، واذا تكلم تكلم بجوامع الكلم وبكلام فصل لافضول فيه، ويحذر من كثرة الكلام بغير ذكر الله، ويشنع على الثرثارين والمتفيهقين والمرائين والمجادلين والكذابين والنمامين والمغتابين والمزورين وأهل الفحش في القول عامة، ويحذرنا من ذي الوجهين واللسانين وأن يقول المرء قولاً يوافق ما في قلبه ولو كان من المصلين كما في البخاري: ((وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه)).
وفي مقابل ذلك علمنا الإستعاذة من شر اللسان وخصوصاً أيام الفتن وحثنا على إنكار المنكر به وقراءة القرآن والسنة وتعليم الجاهل والصلح بين الناس والإكثار من الذكر والدعاء، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان)) 1 ، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قال: فأي المال نتخذ؟ قال عمر فأنا أعلم لكم ذلك، فأوضع على بعيره فأدرك النبي وأنا في أثره فقال: يارسول الله أي المال نتخذ؟ قال: ((ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة)) هذا لفظ إبن ماجة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن إستقمت إستقمنا وإن اعوججت اعوججنا)) 2 ، وعن عبدالله بن بشر أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتثبت به؟ قال: ((لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله )) 3 وعن سفيان بن عبدالله الثقفي قال: يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: ((قل: ربي الله ثم أستقم، قال: قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا )) 4.
عباد الله: أيكم لا يعرف حديث معاذ: ثكلتك أمك يا معاذ ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم )) 5 ، وأينا لايحفظ حديث مالك في الموطأ: ((من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه)).
عباد الله: إننا لابد أن ندعوا دائماً بهذا الدعاء الذي علمه النبي لشكل بن حميد العبسي حيث قال: قلت يا رسول الله: علمني دعاء، قال: قل: ((اللهم إني أعوذ بك في سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي ومن شر فمي )) 6 ، ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً.
1 - رواه ابن ماجه بسند فيه ضعيف.
2 - الترمذي.
3 - الترمذي والحاكم وابن ماجه.
4 - لفظ الترمذي ومخرج في إبن حبان والحاكم وابن ماجه.
5 - رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
6 - أبو داود والترمذي والنسائي.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: هل يليق بأحد منا بعدما سمعنا من نصوص الوعد والوعيد الواردة في اللسان أن نشابه أهل الكتاب الذي حرفوا الكتاب وانحرفوا عنه؟ هل يرضى مسلم أن يوصف بأنه من الذين قالوا سمعنا وعصينا؟ هل يرضى أن يصنف مع الذي يحرفون الكلم عن مواضعه ويطغون في الدين ويلوون فيه وبه ألسنتهم؟
أم هل تريد يا عبد الله أن تشابه المنافقين من هذه الأمة الذين وصفهم الله بشدة العداوة للمؤمنين وإظهار الإستهزاء بالرسول وفضلاء الأمة: سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ، هذا ديدن المنافق وخصوصاً أيام الحروب والفتن، وإن بعض الناس هدانا الله وإياهم ممن يظهر عليهم سيما الصلاح وإرادة الإصلاح لايفرقون بين النصيحة والتعيير والوقيعة فيطلق أحدهم لسانه في علماء الأمة وأمرائها ووجهائها في ثوب الناصح الناقد، وإننا نرشد أمثال هؤلاء لقراءة كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي: الفرق بين النصيحة والتعيير، وهو كتاب صغير الحجم كبير الفائدة في بابه، ثم نذكر هؤلاء وأولئك بقول الله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، ونذكرهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ستكون فتنة صماء عمياء من أشرف لها استشرفت له وإشراف اللسان فيها كوقوع السيف)) وبحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنها ستكون فتنة تستنطق العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف)) وبحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل قال: ((من سلم المسلمون من لسان ويده)) 7.
7 - البخاري.
(1/1103)
الإحتساب والصبر عند المصائب
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن دار الدنيا دار بلاء وتقلب للأحوال. 2- ما الذي ينبغي أن يكون عليه المبتلى لينال
الثواب من الله. 3- على المسلم أن يعلم أنه محكوم بشرع الله في كل أحواله. 4- أن الصوم
نوع من أنواع الصبر والحث على الإكثار من الصوم في شهر الله المحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله بإتباع أوامره وإجتناب مساخطه ونواهيه، واقتدوا في ذلك بنبيه.
عباد الله: إن العبد في هذه الحياة الدنيا معرض للوقوع الخير والشر لامحالة، فالحياة الدنيا بين الخوف والرجاء والسرور والحزن والضحك والبكاء الإجتماع والفرقة اليسر والعسر وموت وحياة، لايملك المرء التحكم في شيء منها، بل عليه إن كان مؤمناً أن يفوض الأمر إلى المتصرف فيه ويسلم لأقدار الله الجارية عليه.
وإن الله تعالى بين ذلك في كتابه وعلى لسان رسوله ليوطن عباده على الصبر والتحمل والاعتصام بمفرج الكربات المعطي للصابرين أعلى المثوبات حيث وعدهم الخلود في روضات الجنان قال الله تعالى: ولنبولنكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.
إلا فتعزى وأبشر أيها المؤمن المصاب، وإن المؤمن مصاب ومرزأ دائماً، ولكن هذه تسلية من الله لعباده بمصابهم الذي لاحول لهم ولاقوة في رده، والذي لم يخص به فئة دون أخرى من عباده.
فعند المصيبة يا عبد الله: ماعليك إلا الصبر والإسترجاع بقولك: إنا الله وإنا إليه راجعون، فإذا فعلت ذلك فأبشر بالصلاة من الله تعالى والرحمة والهداية والعوض عن مصابك روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مايصيب المؤمن من وصب ولانصب ولاسقم ولاحزن حتى الهم يهمه إلا كفر من سيئاته)) وإن أعظم المصائب المصيبة في الدين كما جاء في الأثر عن عطاء بن ابي رباح قال: قال رسول الله : ((إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي، فإنها من أعظم المصائب)) 1 قال أبو عمر بن عبدالبر: وصدق رسول الله لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بإرتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه.
قال ابو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب من قبر رسول الله حتى أنكرنا قلوبنا.
عباد الله إن العاقل لايجمع على نفسه مصيبتان في آن واحد، فيجزع ويرتكب المنهيات عند حلول المصيبات، فيضيع على نفسه ثواب الصابرين وأجر المتصبرين، وإنها خسارة عظيمة ومصيبة أخرى، روى ابن ماجة من حديث الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب)).
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
أو ما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست فيه بآخذ
فإذا ذكرت محمداً ومصابه فأذكر مصابك بالنبي محمد
صدق أبو العتاهية: رحمه الله.
والله أصدق القائلين فقال جل من قائل عليماً: كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون.
1 - ذكره القرطبي عن مسند السمرقندي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.
أما بعد:
فعليكم بتقوى الله عباد الله، فإنها حصن حصين وحرز منيع، فاتقوا الله في الرخاء والشدة في السراء والضراء، واعلموا أنكم خلق من خلق الله يتصرف فيكم كيف يشاء خلقاً وأماتة سعة وتفقيراً فقراً وغنىً حزناً وسروراً جمعاً وفرقة، هو الفعال لما يريد لامرد لأمره ولامعقب لقوله وفعله، ولكنه بمنه وكرمه يبين لعباده سبل النجاة مما ابتلاهم به من الخير والشر في كتابه وعلى لسان خاتم أنبيائه محمد ، فما على المسلم إلا أن يتعلم من الوحي ويتبع الهدي المحمدي، فيفوز في الدارين قال تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
عباد الله: وإن من أنواع الصبر الصوم لما فيه من التصبر على طاعة الله والصبر على أقدار الله وترك محبوبات النفس وشهواتها، وإن هذه الأيام مباركة تصام امتثالاً لأمر رسول الله واتباعاً لهديه الميمون فقد قال لأحد أصحابه: ((صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك)) وقال في صيام يوم عاشوراء: ((يكفر السنة الماضية)) وأمر بصيام يوم قبله أو بعده مخالفة لليهود كما في مسند الإمام أحمد.
(1/1104)
الأقلام ثلاثة
موضوعات عامة
مخلوقات الله
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الله تعالى على الإنسان بتعليمه الخط والكتابة. 2- فضل علم الكتابة وفائدته. 3- أنواع
القلم. 4- الحرص على القلم وعدم كتابة ما يسخط الله تعالى به.
_________
الخطبة الأولى
_________
الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان.
عباد الله: إن الله تعالى كرم من مخلوقاته الإنسان فكرموه، ورفع درجة أهل العلم فارفعوهم وشرف الكتب والكتابة والقلم والدواة والمحبرة، وإنما ذلك من أجل العلم الذي هو صفة من صفات الله تعالى، الذي علم بالقلم قال القرطبي في تفسير هذه الآية: يعني الخط والكتابة، أي علم الإنسان الخط والقلم وروى سعيد عن قتادة قال: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علم عباده مالم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لايحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما أستقامت أمور الدين والدنيا.
عباد الله: أوجب الله تعالى الكتابة في بعض الأمور وأرشد إلى فضلها قال الله تعالى في الدين: ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ، وطلب الله تعالى من المشركين وعباد الأصنام أن يأتوا ببرهان مكتوب على ما يدعونه: فأتوا بكتابكم إن كنتم صاقين ، أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات إئتوني بكتاب من قبل هذا أو اثارة من علم إن كنتم صادقين ولما جحدت اليهود نبوة محمد ورسالته للناس كافة وقالت: ما أنزل الله على بشر من شيء بكتهم الله ورد عليهم بما يفتخرون به من الإيمان بالتوراة قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً منها وعلمتم مالم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون.
عباد الله: إن الأقلام ثلاثة: قلم خلقه الله بيده، وأمره أن يكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة، ولكن اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقلم بيد الملائكة يكتبون به ما كلفوا به وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون ، ولايظلم ربك أحداً ((إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) الحديث قدسي، ورفع الله عنك هذا القلم في حالات ثلاث وراقبه في غيرها من الأوقات، ولاتهلك نفسك بإرتكاب الموبقات.
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر (يحتلم)، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق)) [النسائي].
ن والقلم وما يسطرون.
اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم قلمك يا عبدالله لا تغش به في الإختبارات وإياك أن تعمله في الكذب والمهاترات، أكتب بقلمك ما ترجو به إذا قيل لك اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً اكتب علماً ينتفع به من تصنيف وتأليف يبقى لك نفعه جارياً الحظ يبقى زماناً بعد كاتبه وصاحب الخط تحت الأرض مدفوناً، اكتب به ما يبعث على العلم والتحصيل ويقبح الجهل والتضليل والتدجيل، اكتب به ما يبعث على الفضيلة ويبعد عن الرذيلة، ولا تكتب به ما يبعث على العصبيات ويذكي نار القوميات والطبقيات ولا تكتب به الشر أو ما يبعث على الخرافات، ولا تكتب به ما يزين المحرمات أو يغري بالشهوات والشبهات، نعم ولا تكتب بذراعك ما يساعد المشركين والمنافقين والمشعوذين أو مافيه مذمة للمؤمنين المتقين، أتفعل ذلك لتكون من حزب الشيطان وتطرد من حزب الرحمن؟ أتحرش بين المسلمين لتكون من أولياء إبليس اللعين؟ (إلا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش فيما بينهم) فلا تكن يا أخي من أعوانه في هذه الوظيفة الخبيثة، وكيف تفعل ذلك وابن مسعود رضي الله عنه يروي عن النبي أنه قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم)) [الترمذي]. إنما يخشى الله من عباده العلماء.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: إن قلب المؤمن معلق بما ينفعه في معاده، لذلك يتحفظ في الكلام ويتجنب ما يجر إليه أي ملام ويخشى مما تسطره عليه الأقلام، وإن بعض الناس يهرف بما لا يعرف، وهو مع ذلك لايرضى أن يقال بأنه مجنون أو صبي، وإنا نذكر هذا الصنف بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لإبن السبيل بناه، أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)) 1.
ذكر الأقلام في القرآن:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون [آل عمران:2].
ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة ابحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم [لقمان:3].
1 - إبن ماجه والبيهقي.
(1/1105)
الحث على الاتباع وتجنب الابتداع
قضايا في الاعتقاد
الاتباع
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أقسام الناس عند بعثة النبي. 2- اجتهاد النبي في الدعوة إلى الله حتى أعز الله به الدين
وقمع به الشرك. 3- الحذر من التشبه بالكفار والبعد عن أحوالهم وصفاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بعد فترة من الرسل وإنقطاع من الوحي حيث عبدت الأوثان والأهواء ومقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبل البعثة النبوية، فلما بعثه الله ليتمم به صالح الاخلاق وجد الناس على أقسام ثلاثة : عرب على الوثنية والشرك بأنواعه، ويهود غضب الله تعالى عليهم لعلمهم وعدم عملهم بعلمهم وتحريفهم لكتابهم وكذبهم على الله تعالى، ونصارى قد ضلوا السبيل فعبدوا الله تعالى بالبدع والأهواء والجهل ورهبانية ابتدعوها.
فقام فيهم الوحي ينزل عليه يدعوهم ويعلمهم ويصحح لهم ويصلح الفاسد حتى هدى الله لدينه من كتب له السعادة، وأضل عن الحق من كتب عليه الشقاوة، واستقر التوحيد والدين وعلمت حدود الشرك وأسبابه وعرفت الشرور والمفاسد كلها، فاتبع المسلمون الحق واتبع الكافرون الطواغيت، فقرأ المصلون في الفرائض خمس مرات في اليوم: أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وتلوا في كتاب الله تعالى حال اليهود ليجتنبوه: قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلانقيم لهم يوم القيامة وزناً.
وقال تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، وقال: ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم ماهم منكم ولا منهم يعني ليسوا بيهود ولا مسلمين – أي هم المنافقون.
فلا أحد يحلل لنا ماحرم الله، ولا أحد يحرم غير ما أحل الله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
مخالفة تامة في الأحكام والعادات الخاصة بهم، لانستقبل قبلتهم ولا نصلي صلاتهم ولانصوم صيامهم ولا نتشبه بهم في أعيادهم ومواسمهم ولا نفرح بفرحهم ولا نحزن بحزنهم، ولانعقد عقودهم ولانتحاكم إلى محاكمهم، ولانرضى أن تجرى علينا أحكامهم ولانقلدهم في أعرافهم، ولا نمشي مشيتهم، ولانتكلم بدون حاجة لغتهم، ولانرطن رطانهم، ولانعتمد لبس ملابسهم، ونتجنب الجري وراء موضاتهم وتسريحاتهم وحلقاتهم وتقصيراتهم المكدرة والمدورة ولانحضر جنائزهم ولانعزيهم في موتاهم، ولانقر البدع المشابهة لبدعهم كالموالد وماشابهها من أعمال يردها قول النبي : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) نخالفهم حتى في صباغة الشعر الذي كلفت به نساؤنا تقليداً لهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم)) [متفق عليه]. والمراد خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض بصفرة أو حمرة كما قال النووي.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: (من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى)، وهكذا، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً، قد حصل في أزمنة عديدة وفي هذا الزمن خاصة ما وعد به الصادق المصدوق في الصحيحين من قوله: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يارسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن)).
وهكذا دخل كثيرون منا في كل المضايق والمهلكات التي دخلوها فركبنا الأخطار إذا ركبوها، وضيعنا الدين إذا ضيعوه، وتركنا الحياء حيث تركوه.
وقال تعالى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله ، فباؤا بغضب على غضب ، ونتلوا عن الضالين النصارى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولاتتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ، يا أهل الكتاب لاتغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
عباد الله: هل بعد هذا ينحرف مسلم عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين؟ إن النبي بعد أن بين أنه لاتزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لايضرها من خالفها حتى تقوم الساعة، وأن الله لايجمع أمته على ضلالة ولايزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته، مع هذا خشي على أمته من الإنحراف عن الصراط المستقيم وحذرها من سبل الكافرين أجمعين شفقة عليها ورحمة لها من النار والهلاك في الدنيا والآخرة فتلى عليهم قول الحق تبارك وتعالى تحذيراً لهم: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق لذا صاح في أمته صيحات خالدة محذراً من التشبه بالكفار عموماً في المعتقد أو العمل أو المظهر ثم جعلناك على شرعة من الأمر فأتبعها ولا تتبع أهواء الذين لايعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً.
فلا تتخذ الأحبار والعلماء والرهبان والعباد أرباباً من دون الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1106)
الحث على التواضع واجتناب الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التواضع وذم الكبر. 2- أن الكبر لا يكون من عاقل. 3- أعظم البوعث على
التواضع.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن التواضع لله وخفض الجناح للمؤمنين من شيم الصالحين المتبعين، وإن الكبر والتكبر من أعمال الجاهلين والكافرين والجبابرة المتغطرسين، وإن عاقبة المتواضعين أن يرفعهم الله فوق العالمين، وعاقبة المتكبرين أن يمقتهم الله ويبغضهم لخلقه أجمعين ويجعلهم في الآخرة ذليلين وفي أسفل سافلين، قال الله تعالى لنبيه: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً ، ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ، ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم ، سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً ، أفكلما جاءكم رسول بما لاتهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون ، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا وأستكبروا إستكباراً ، يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
كفى بالقرآن واعظاً، كفى بالقرآن زاجراً، كفى بالقرآن معلماً ومؤدباً.
عباد الله: إن الله يأمركم بخفض الجناح والتواضع، وينهاكم عن التكبر على الحق وعلى الخلق، ويبين لكم عاقبة أقوام تكبروا على الحق وعلى الخلق فأهلكهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقى في بطن أمه، فهل يمشي في الأرض مرحاً وخيلاء من يعلم ضعفه وعجزه وأوله وآخره وقذارة ما يحمل في بطنه؟ فهل يتعالى على الناس من يعلم أنه لا يخرق الأرض برجله ولا يبلغ الجبال بهامته؟
كيف تصعر خدك تكبراً على الناس وأنت تعلم أن الله لا يحب كل مختال فخور؟ إن المؤمن لايقلد المستكبرين الذين توعدهم الله بالعذاب الأليم والخلود في دار الجحيم، وكيف يقلدهم وهو يعلم أن النبي قال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لايفخر أحد على أحد ولايبغي أحد على أحد)) 1 ، وكيف يرضى مسلم بدار الهوان ويترك عز الدنيا والآخرة الذي وعد به المتواضعون المخبتون: وبشر المخبتين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) 2 ، فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى.
1 - رواه مسلم من حديث عياض ابن حمار رضي الله عنه.
2 - رواه مسلم
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: إن أعظم باعث على التواضع أن تعرف عظمة الله تعالى وعجزك وقصورك أيها الإنسان، وأن تنظر دائماً في سير الصالحين.
وإنك أخي المسلم لا تفلح أبداً حتى تقتدي بالنبي وتتأسى به في حياتك، وهذا يقتضي أن تقرأ سيرته وتتعلم من سنته، عند ذلك ستجد أنه كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وينطلق مع الأمة حيث شاءت ليشفع لها أو يقضي لها حاجتها وكان يخدم أهله في البيت ويحمل اليهم الحاجة وكان يتواضع للغريب والجاهل وطالب العلم، فعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: ((انتهيت إلى النبي وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسال عن دينه لا يدري ما دينه؟ فأقبل علي رسول الله وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها)) 3 ، نعم صدق الله وإنك لعلى خلق عظيم.
عباد الله: إن أضر شيء على المسلم البطنة التي تذهب الفطنة، وتبعث على الأشر والبطر والغفلة وقساوة القلب وقصر النظر، لذا حذر الله ورسوله منها فقال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين ، وقال : ((ما ملأ آدمي وعاءً شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لامحالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) 4.
3 - رواه مسلم
4 - رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(1/1107)
السفر وأنواعه
موضوعات عامة
السياحة والسفر
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض أسباب إنشراح الصدر. 2- حال الناس إذا جاءت الإجازة. 3- أقسام السفر وبعض
آدابه. 4- شؤم السفر المحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ، وقال تعالى: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
وإن من أعظم أسباب انشراح الصدر: التوحيد الخالص والعلم النافع ودوام الإنابة إلى الله تعالى ودوام ذكره جل وعلا على كل حال، والإحسان إلى الخلق بجلب النفع لهم ودفع الضر عنهم، ومنها إخراج الحسد والغش والخيانة والكبر والعجب والرياء والسمعة من القلب حتى يتسع للخير ويضيق عن الشر، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)) 1.
عباد الله: إن البدن إذا كلّ وتعب طلب الراحة، وإن القلب إذا أجهد عمي وطلب الإستراحة، وإن المُنبتّ لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى، وها هي الإجازة الصيفية قد أظلتنا نسأل الله لنا ولأبنائنا والمسلمين جميعاً الفوز والنجاح والتفوق والصلاح، وإن الناس إذا جاءت الراحة والإجازة السنوية بدأوا يفكرون ويخططون لها ويهتمون جداً لكيفية قضائها هل يقضونها في الشرقية أم في الغربية أم في الشمال أو في الجنوب أم الوسطى؟ هل يقضونها في الداخل أم في الخارج؟ أم هل يقضونها في السياحة والاعتبار والنظر في الآثار والديار؟ ولكل تفكيره وتدبيره فيما أحل الله لعباده وأباحه، وإننا نذكرهم قبل الشروع في الأسفار ومفارقة الديار بأنواع الأسفار وما يلزم المسافر من أحكام وآداب.
عباد الله، إن السفر على قسمين هرب أو طلب، أي إما شر تهرب منه حفاظاً على نفسك أو دينك أو أهلك أو مالك، وأمثلة ذلك كثيرة منها الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، ومنها الخروج من دار الكفر والبدعة التي لايقدر الإنسان على ردها وإنكارها قال الله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً وقال تعالى: واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين روي عن مالك رحمه الله : (لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف) فكيف بأرض يسب الله فيها وملائكته وأنبياؤه وكتبه؟.
وأما سفر الطلب فإن من أمثلته الهجرة وذلك سفر الأنبياء والصالحين والسفر للجهاد، وكان ذلك أكثر سفر النبي والصحابة الكرام، وهذا القرآن بين أيديكم والسيرة النبوية ومنها: السفر لطلب العلم وطلب العلم فريضة، ومنها السفر للأماكن الفاضلة كمساجد الأنبياء الثلاثة المعروفة التي لا تشد الرحال على سبيل القربة والتعبد والاعتكاف إلا إليها، ومنها السفر للتجارة والكسب الحلال، ومنها السفر للاعتبار: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، فهذه جملة الأسفار الواجبة والمندوبة والمباحة وأما غير ذلك من الأسفار فلا يليق بعاقل أن يضيع فيه وقته أو يتعب فيه بدنه أو ينفق فيه ماله: والله يعلم المفسد من المصلح ، ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)).
1 - رواه الحاكم (4/311)، وفيه عدي بن الفضل. قال الذهبي: ساقط. وانظر ميزان الاعتدال للذهبي رقم (5593). والبيهقي في شعب الإيمان ح (10552).
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: إن الله تبارك وتعالى امتن علينا بأن سخر لنا مافي السموات ومافي الأرض وأباح لنا ما شرعه لنا وأذن لنا فيه: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ووصف لنا عباده الذين أكرمهم بأفضل الصفات وأدبهم بأجمل الآداب لنقتدي بهم: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ، وقد قال في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة : ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فاذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله)).
عباد الله: إذا كان ضرب في الأرض مباحاً وكانت هذه هي أنواع الأسفار التي يثاب عليها بالإضافة إلى صلة الرحم وزيارة الإخوان في الله تعالى فإن على المسلم أن يعرف أحكامها وآدابها وأن يستخير الله تعالى قبل الدخول فيها وأن يصحح نيته ومقصده ليسلم ويغنم إذ الأسفار فيها مخاطرة، وعلينا جميعاً أن ننصح أولئك الذين منّ الله عليهم بالصحة والعافية والمال وخلو البال ثم يسافرون أسفار محرمة والى بلاد كافرة ليتلفوا المال والصحة ويخسروا أنفسهم ودينهم ومروءتهم ويحملوا إلى ديارهم شؤم المعاصي والأمراض النفسية والبدنية.
عباد الله: هل يصح من عاقل أن يتعمد تدمير نفسه وماله مقابل العار والشنار ويحمل نفسه الموبقات والأوزار؟ إن بعض الناس هدانا الله وإياهم يفعلون ذلك وإن السكوت على صنيعهم، ذلك مما يجر خراب الديار، أيسافر المسلم إلى بلاد الفتن والتحلل؟ أتنفق مالك ووقتك وبدنك وأنت محاسب على ذلك لتصل إلى بلاد لا يذكر فيها اسم الله لا للعلاج ولا للتجارة ولا للعلم نعوذ بالله من الخيبة والخسران، إننا نذكر أنفسنا وإخواننا بنعم الله تعالى التي أجلها نعمة الإيمان والإسلام والأمن والصحة والعافية وتلك هي الدنيا بحذافيرها، عن عبيد الله بن محمص الأنصاري الخطمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) 2.
2 - رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(1/1108)
الفرق بين عبادة الرحمن وعبادة الهوى والشيطان
التوحيد
أهمية التوحيد
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على لزوم التوحيد والحرص عليه. 2- فضل التوحيد. 3- أمور تقدح في التوحيد.
4- الحذر من الشرك وجهل كثير من الناس به.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: عليكم بلزوم التوحيد وإخلاصه وتجريد العبادة لله وحده قال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وقال تعالى: واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً ، ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، قل تعالوا أتلوا ماحرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي على حمار فقال لي: ((يا معاذ أتدري ماحق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولايشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لايعذب من لايشرك به شيئاً، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)) 1.
عبادالله: إن توحيد الله تعالى نجاة لصاحبه في الدنيا والآخرة: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ، وإن الظلم في الآية هو الشرك بالله: يابني لاتشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.
نعم، إن الشرك من أكبر الكبائر، إن الله لايغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) 2 ، وللترمذي بسند حسن عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: قال الله تعالى: ((يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لاتشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)).
انظر يا عبدالله إلى هذه النصوص وتفهمها وحقق التوحيد تكن من الناجين في الدنيا والآخرة تنجوا في الدنيا من التذبذب والاضطراب وتكون ثابت القلب مطمئن الفؤاد منشرح الصدر رابط الجأش، تحب في الله وتبغض في الله، قد عرفت ميزان الأمور الصائب: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ، إن أكرمكم عندالله اتقاكم ، ((ومن مات لايشرك بالله شيئاً دخل الجنة )).
هل حقق التوحيد من استغاث بغير الله تعالى فيما يقدر عليه إلا الله؟
هل كمل إيمان من تطير بالمخلوقات أو اعتقد الخير أو الشر فيها؟
هل أخلص لله من رأى خلق الله؟
هل جرد التوحيد من تعلق قلبه بالعبيد دون العزيز الحميد؟
هل توكل على الله من تعاطى الرقية الشركية أو ذهب إلى من يتعاطى السحر والكهانة والعرافة والشعوذة؟
أيذهب المسلم إلى دجال ليذهب عنه دينه وماله؟
أتذهب تطلب الدواء والشفاء عند من يلحد في أسماء الله تعالى ولايحافظ على أوامر الشرع؟ وأي دواء عنده؟
أتدعي الإيمان وتعبد الدينار والدرهم؟ وهل العبادة الركوع والسجود فقط؟
إن من ينهمك في جمع الدنيا ويعطيها كليته ويضحي في سبيلها بدينه وعرضه قد عظمت في نفسه واستولت على قلبه واستحوذت على عقله، هل رأيتم من يصلي ركعات لكومة من الريالات؟ أو الدولارات؟ ولكن إذا جمعها من أي وجه وكنزها عن كل وجه، فتلك طاعتها وعبادتها، أخي لاتكن من عبادها لئلا تصيبك دعوة المصطفى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تعس عبد الدينار وعبدالدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط ،تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش..)) 3 ، وجعلوا له من عباده جزء إن الإنسان لكفور مبين.
1 - متفق عليه.
2 - متفق عليه.
3 - رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: هل فهمتم أن التوحيد نعمة عظيمة يجب حمدها ورعايتها؟ هل علمتم ما يكفر التوحيد من الذنوب وينقذ من النار والهلكة في الدنيا والآخرة؟ هل رأيتم ما يؤدي إليه من جمع الكلمة ووحدة الصف وقوة الجانب؟ هل تعلمون أن من حققه خرج عن دائرة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ، إذا علمتم ذلك فاعلموا أن الخوف من الشرك وسوء العاقبة والخاتمة هو ديدن الأنبياء والصالحين: ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لأن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ، وهذا خليل الله عليه السلام يدعوا: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام.
وهذا نبينا يخاطبنا قائلاً: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك)) قال الله تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ومع ذلك فإن بعض الناس لايريد أن يبين للناس ماهو التوحيد وماهو ضده ظناً منه أن التوحيد قد استقر وأن الشرك قد اندحر، نعم قد حصل ذلك في عهد النبي في جزيرة العرب، ولما رآه الشيطان: أيس أن يعبد في هذه الجزيرة، ولكن هذا يأس حصل له لما رأى من إقبال الدين وإندحار الكفر، ولكن الله تعالى لم يؤيسه حتى نضمن لأنفسنا بذلك السلامة من حبائله وشركه بل ارتد كثير من الناس عندما سمعوا بموت النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئات من أمتي الأوثان)) وفي لفظه وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان بل جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات لنساء دوس على ذي الخلصة)) وذو الخلصة بيت كان فيه صنم الدوس يسمى الخلصة، أراد ألا تقوم الساعة حتى ترجع دوس عن الإسلام فتطوف نساؤهم بذي الخلصة وتضطرب أعجازهن في طوافهن كما كن ينعلن في الجاهلية، ثم أين أنتم من حديث مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ((لايذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)).
عباد الله: ومع ذلك لانخاف من الشرك ولانخوف الناس منه، ونحن نرى الناس في كثير من البلاد يقولون بلسان مقالهم وحالهم مقالة أبي سفيان في جاهليته: أعل هبل، أي أظهر دينك وماهو هبل وما دينه الذي يظهره، إن هبلاً صنم أملت أهواء الجاهلية عبادته وحماية الإعتقاد فيه، وما ظنك بمعبود أملى الهوى عبادته؟ هل يكون معبود خير أم معبود شر؟ وأي خير فيه إذا لم يكن موافقاً للكتاب والسنة؟ إن الهوى ماذكره الله في كتابه إلا ليذمه وإن كثيراً من الناس يعبدون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله.. ، ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله.
أرأيت من اتخذ إلهه هواه.
(1/1109)
الله الذي يفضل ويرفع
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الأمر كله لله يرفع من يشاء ويضع من يشاء سبحانه. 2- أن الله تعالى فضل بعض
الأشخاص على بعض كما فضل بعض الأمكنة على بعض وكما فضل بعض الأزمنة على
بعض. 3- أن الحريص على الخير هو الذي يستفيد من الفرص ويتعرض لنفحات الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما عنه نهى وزجر، وعظموا شعائر الله تعالى وتعرضوا لنفحاته واغتنموا فرص فضيلة الزمان والمكان.
عباد الله تعالى: اعلموا أن الله تبارك وتعالى له الحكم النافذ والتصرف المطلق يرفع من يشاء ويضع من يشاء يفضل هذا على هذا، ويكرم هذا ويهين هذا يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وإن الله تبارك وتعالى رفع شأن القرآن الكريم لأنه كلامه المنزل لهداية عباده ((إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) ورفع شأن نبينا محمد فجعله نبياً رسولاً وخاتماً للأنبياء والمرسلين لا نبي بعده ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.
ورفع درجة أمته كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ورفع درجة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
عباد الله: وإن الله فضل هذه المساجد على جميع البقاع، وبين للناس فضلها وجعلها مثابة للناس وأمناً: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام ابراهيم ومن دخله كان آمناً.
جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس إن مساجد الأنبياء المعروفة الآن هي المسجد الحرام ومسجد النبي في طبية الطيبة، ومسجد بيت المقدس، هذه هي التي تشد لها الرحال تقرباً إلى الله وطلب مزيد ثوابه.
عباد الله : وكما أن الله أظهر فضل بعض الأشخاص والأمكنة فإن الله شرف بعض الأزمنة وخصها بقرب تؤدى فيها، وضاعف لعباده الأجر فيها، وحثهم على التعبد له فيها، من ذلك شهر رمضان والأشهر الحرم التي نعيشها هذه الأيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم.
_________
الخطبة الثانية
_________
بعد الحمد والثناء والصلاة والسلام على رسول الله : وإذا فضل الله يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، وفضل العشر الأواخر من رمضان لما كانت مظنة ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فإنه فضل العمل في العشر الأول من شهر ذي الحجة كما فسر الجمهور بذلك قول الله تعالى: والفجر وليال عشر حيث أن الله تعالى أقسم بالفجر مطلقاً أو هو فجر يوم عرفة أو فجر يوم النحر، إنها عشر فاضلة بالكتاب والسنة فضلها الله وجعل العمل الصالح فيها خير واجب إلى الله تعالى من أي زمن آخر حتى من الجهاد في سبيل الله، ذلك أنها محل لقرب كثيرة عظيمة عند الله تعالى، فمن أراد الحج فإن أعظم أعماله داخل فيها، ومن أراد ذبح القرابين لله تعالى فإن يوم النحر الأكبر، وهو يوم الحج الأكبر عاشرها ويوم عرفة تاسعها وصيامه لغير الحاج، ويوم التروية ثامنها ومن أراد الصيام فيها فقد قال النبي لذلك الرجل الباهلي: ((صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك)).
عباد الله: البيت هذه الأيام والليالي التي أقسم الله بها، وقال النبي فيها كما في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((مامن أيام العمل الصالح فيها أحب إلي من هذه الأيام يعني أيام العشر – قالوا يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) أليست حرية بأن نضاعف فيها العمل فنصوم ونحج وننحر ونذبح ونتصدق ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونغيث الملهوف ونفك العاني ونحمل الكل الذي انقطع به السبيل ونتراحم ونتناصح ونتصافح؟
بلى إن ذلك كله حري بنا لأنه سبب لقبول أعمالنا وقربنا من ربنا تبارك وتعالى، إنه ينبغي للمسلم أن يكثر من ذكر الله تعالى في هذه الأيام فقد جاء عن النبي أنه قال: ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبل لا إله إلا الله وحده لا شريك له)).
وعن عائشة رضي الله عنها عن الترمذي وغيره عن النبي أنه قال: ((إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله)).
ألا فأكثروا من ذكر الله تعالى وصلوا على من أقام لكم هذه الشعائر، وبين لكم فضل العمل الصالح في هذه الأيام لتسعدوا به.
(1/1110)
المؤمن في وجه الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الناس على الحذر والاستعداد لما أمر الله والاستعداد له. 2- الحذر من الغفلة وقسوة
القلب والحث على الخوف والرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: اتقوا الله العظيم واسألوه أن يهديكم صراطه المستقيم ثم اعلموا رحمكم الله أنه ثبت في صحيح مسلم من خطبة النبي أنه قال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن امتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بالبلاء وأمور تكرهونها، وتجيئ فتنة يرقق بعضها بعضاً، وتجيئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن إستطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)).
وإن الله تعالى لما أوجب عليكم الإنصات لخطبة الجمعة أوجب على الخطباء أن يعظوا الناس ويذكروهم بأيام الله تعالى ويدلوهم على خير ما يعملونه لهم وينذرونهم شر ما يعلمونه لهم وإني أنذركم هذه الأيام التي أنذركم الله بها في كتابه يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ، ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً.
وأحذركم النار التي حذركم الله ورسوله: يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين ، يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((لاتنسوا العظيمتين: الجنة والنار، ثم بكى حتى جرى أو بلَّ دموعه جانبي لحيته ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو تعلمون ما أعلم من أمر الآخرة لمشيتم إلى الصعيد ولحثتم على رؤسكم التراب)) 1 ، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)) 2 ، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يخطب يقول: ((أنذرتكم النار أنذرتكم النار حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا حتى وقعت خميصة كان على عاتقه عند رجليه)) 3.
عباد الله: أمر أفزع رسول الله هذا الفزع، وحذركم منه هذا التحذير، ألا تفزعون منه؟ ألا تحذرون منه؟ بلى إننا أولى بالفزع والخوف والوجل، ولكن الغفلة والعناد أستحوذتا على قلوب العباد، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لايظلمون.
1 - رواه أبو يعلي.
2 - رواه مسلم.
3 - رواه الحاكم على شرط مسند.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله، ليس في أمره خفى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله في إتباعه مكتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وإياكم والغفلة وما يؤدي إلى قساوة القلوب، وعليكم بالخوف والرجاء فهما جناحا المؤمن لا يطير إلا بهما وإلا هلك في حياته أو مماته، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)) 4.
عباد الله: أينا لا يعرف مساخط الجبار ويوبق في النار ويدخل النار، وأينا لايعرف ما يرضى العزيز الغفار؟ فما لنا نرتكب ما يأتي باللفحات ولا تتعرض للنفحات، اللهم اجعلنا من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم أهد قلوبنا، وبصرنا بعيوب أنفسنا، وأشغلنا بإصلاحها عن تتبع عورات الآخرين والخوض فيما لايرضي رب العالمين.
4 - رواه الترمذي.
(1/1111)
النفاق وأهله
الإيمان
نواقض الإيمان
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الله تعالى في تقسيم الناس وبيان صفات كل قسم. 2- معنى النفاق وأقسامه.
3- كيفية تعامل النبي مع المنافقين. 4- صفات المنافقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن الله تبارك وتعالى قسم الناس في بداية سورة البقرة ليبشر المؤمنين بصفاتهم الحميدة وليطلعهم على عقائد غيرهم، ويبين لهم صفات الكافرين والمنافقين ليحذرهم ويحذروا من التخلق بأخلاقهم أو الإتصاف بخصالهم الذميمة قال تعالى: ألم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين إلى قوله: وما يشعرون وقد أوضح الله تعالى صفات الصنف الثالث من أصناف الناس أهل النفاق لشدة مكرهم وخداعهم وانتشارهم بين المسلمين وحقدهم على عباده الموحدين، وقد تولى الله تعالى بالوحي كشف أعداء المؤمنين حتى لايتردد أحد في أن هذا الوصف صادق، وأن صاحبه المتصف به منافقاً، والنفاق كما قال البغوي ضربان أحدهما: أن يظهر صاحبه الإيمان وهو مسر الكفر كالمنافقين على عهد رسول الله ، والثاني ترك المحافظة على حدود أمور الدين سراً ومراعاتها علناً، وسمي المنافق منافقاً لأنه يستر كفره ويغيبه، فشبه بالذي يدخل النفق فيستتر فيه.
عباد الله: إن تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأعيان المنافقين في زمنه مع ما أوحاه إليه من صفاتهم وأخلاقياتهم التي لا ينفكون عنها غالباً إلا إذا تابوا من النافق واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، وظل النبي طول حياته في الدعوة يفزغ المنافقين بما يتلوا عليهم من كشف عوراتهم في القرآن الكريم ليتوبوا من نفاقهم أو يرتدعوا عن مكرهم وخداعهم يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون ، ويوبخهم بخصالهم الذميمة ليتجنبوها أو يتوبوا منها تربية لهم ومعالجة لنفوسهم الخسيسة ومداواة لقلوبهم المريضة ثم ليحذر من صفاتهم أتباعه المسلمين المؤمنين.
عباد الله إن من أبرز صفات المنافقين:
1 – إظهار الإسلام وإستبطان الكفر.
2 – الإستهزاء بآيات الله.
3 – السخرية من عباد الله المؤمنين.
4 – التهاون بأمر الصلاة.
5 – المراآة.
6 – عدم الإستقرار النفسي.
7 – الجدال بالباطل.
8 – عدم الإذعان للحق.
9 – الكذب والحلف عليه.
10-الخيانة.
11-خلف الوعد.
12-التشكيك في الحق.
13-الشح في الإنفاق.
14-الإستكبار.
15-عدم الإستعداد للجهاد والتخلف عن المجاهدين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله قال: ((آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، واذا وعد أخلف، واذا أئتمن خان)) 1 ، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ثلاث من كن فيه فهو منافق))، زاد ابراهيم: ((وإن صام وصلى زعم أنه مسلم، قالوا جميعاً من: إذا حدث كذب واذا وعد أخلف، واذا ائتمن خان)) 2.
باب خصال المنافق عن عبد الله بن عمرو أن النبي قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أئتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، واذا خاصم فجر)) 3.
1 - متفق عليه.
2 - مسلم.
3 - متفق عليه.
(1/1112)
خطبة عيد الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصلاة
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التوبة والحرص عليها وأهمية العمل بالطاعات وترك المعاصي. 2- الحث على
الاستعداد ليوم المعاد. 3- الحث على الصلاة ووجوب المحافظة عليها. 4- الحث على الزكاة
والصوم والحج وبيان حكمها وفضلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلانية وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر.
عباد الله: هذا شهر رمضان تولى وانسلخ بما فيه، شاهداً مصدقاً على المحسن بإحسانه وعلى المسيء بإساءته، فعلى من منَّ الله عليه بالتوفيق فيه وتاب إلى الله وأناب وصام وقام أن يحافظ على هذه الدرجة الطيبة ويزداد في الخيرات، فطوبى له هذا العيد السعيد الذي يباهي الله به ملائكته، ويشهدهم أنه غفر لعبده في هذا اليوم الجوائزي، وعلى المسيء الذي فرط في موسم خصب لا يعوَّض أن يتوب إلى الله ويبادر، فإن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر.
ولتعلموا - عباد الله - أن الله تعالى قدر لكل امرئ أجلاً لا يتجاوزه ولا يعدوه، بل عندما تقف دقات قلبه وينزع روحه من جسده، وإذ ذاك لا ينفعه حسب ولا نسب ولا ذرية، ولكنه العمل، فإنه مسعده أو مشقيه فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-41]. إن صالح العمل هو الذي ينجيك من بأس الله وهو الذي يكون لك أنيساً في ظلمة القبر، عندما توضع داخل الأرض في صحراء مقفرة ويولي عنك أهلك ومالك.
عباد الله، أيها الناس: فمن زرع في هذه الدار الذنوب والآثام أثمرت له شوكاً وضريعاً ومُهلاًً وزقوماً: إِنَّ شَجَرَةَ ?لزَّقُّومِ طَعَامُ ?لأَثِيمِ كَ?لْمُهْلِ يَغْلِى فِى ?لْبُطُونِ كَغَلْىِ ?لْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، ومن زرع الأعمال الصالحة والكلمات الطيبة جنى ثمرات طيبة ناضجة، ونعيماً مقيماً وشراباً مريئاً: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى? ?لأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـ?لُهَا وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً [الإنسان:12-14]. فماذا أعددتم لهول يوم عظيم؟ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. فخبروني ماذا زرعتم وماذا قدمتم من عمل صالح؟ أجيبوا أنفسكم.
فاستعدوا - عباد الله - لحياة لا تنفد، ونعيم لا يبرح، وتذكروا قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله ضمن السعادة في الدنيا والآخرة لمن آمن وعمل الأعمال الصالحة، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، هدى الناس إلى صراط مستقيم، من سلكه فاز بالعز والنعيم المقيم، ومن حاد عنه ذات الشمال وذات اليمين رمي به في سوء الجحيم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: تمسكوا بدينكم وتفقهوا في كتاب ربكم، واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: الصلاة الصلاة فإنها عماد الدين لا يقوم إلا به، فهي أول ما أوجبه الله من العبادات، فمن تركها فقد كفر، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله [1] ، وهي آخر وصية وصى بها النبي أمته عند مفارقته الدنيا، فجعل يقول وروحه الشريفة تصعد إلى ربها وهو يقول: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) [2] ، حافظوا عليها كما أمركم الله في السفر والحضر والخوف والأمن، من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، قال تعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:238، 239]، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]. قال صلى الله عليه وسلم: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) [3].
عباد الله: أدوا زكاة أموالكم فإن الله استخلفكم فيها وفرض عليكم فيها حقاً واجباً وهي ركن من أركان الإسلام، فالزكاة نجاة وبركة وطهارة للمال ولصاحبه: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَو?تَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ [التوبة:103]. فلا يغرنكم الشيطان فتضيعوا حق الله فيسلب منكم نعمة المال ويفقركم في الدنيا قبل الآخرة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، فرضه الله في كتابه لحكم سامية، وجزاؤه عند الله عظيم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [4] فصوموا تصحوا وتفرحوا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
أيها الناس: الحج فرض على المستطيع الذي يملك نفقة ولا دين عليه: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]. والحج من أفضل القربات والطاعات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) [5].
والحج المبرور ما كان خالصاً لله من نفقة حلال ولا رفث فيه ولا فسوق.
[1] أخرجه الطبراني في الأوسط (2/240-1859) والمقدسي في المختارة (7/145)، وقال الهيثمي في المجمع (1/292): "فيه القاسم بن عثمان، قال البخاري: له أحاديث لا يتابع عليها، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ"، وصححه الألباني في الصحيحة (1358) بمجموع طرقه.
[2] أخرجه أحمد (6/311) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند أحمد (3/117) ، وابن ماجه (2197) ، وابن حبان (2697)، ومن حديث علي عند أحمد (1/78) وأبي داود (5156) ، وابن ماجه (2698) ، والحديث صححه الألباني في الإرواء (2178).
[3] أخرجه أحمد (5/231) ، والترمذي في الإيمان ، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (3616) ، وابن ماجه في الفتن ، باب : كف اللسان في الفتنة (3973) من حديث معاذ رضي الله عنه ، قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الألباني في الترغيب (2866).
[4] أخرجه البخاري في الصوم ، باب : من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية (1901) ، ومسلم في صلاة المسافرين ، باب : الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الحج ، باب : فضل الحج المبرور (1519) ، ومسلم في الإيمان ، باب : بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (83) من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما.
(1/1113)
عظيم ثواب الإصلاح بين الناس
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الإصلاح بين الناس وعظيم الأجر في ذلك. 2- أن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم
القيامة. 3- مسؤولية أهل العلم والعقل والمكانة في الإصلاح بين الناس. 4- الشروط التي
ينبغي توفرها فيمن يتصدى للإصلاح بين الناس. 5- فوائد فض النزاع بالإصلاح على فضه
بالحكم القضائي. 6- إباحة الكذب من أجل الإصلاح بين الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله العظيم واجتناب الإثم ما ظهر منها وما بطن ولا تنسوا أنكم مسافرون وعن هذه الدار راحلون، فالدنيا دار معبر، والآخرة دار مقر، فإما إلى النعيم أو إلى الجحيم، قال تعالى: فريق في الجنة وفريق في السعير ، وما أدراك ما سقر لاتبقي ولا تذر ، فمن أراد أن يتزود فإن خير الزاد التقوى.
ومن التقوى المناصرة مع الله بالإصلاح بين الناس قال الله تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك إبتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ، وقال تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً ، وقال تعالى: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلاجناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً.
وقال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون.
وقال تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
هذا كتاب الله يحثكم بالترغيب والترهيب في الإصلاح بين الناس، فتارة يرغب في الصلح بين الناس إبتغاءً لمرضاته بأنه سوف يؤتيه أجراً عظيماً، وتارة يخوف المتنازعين والمصلحين بأنه يراقبهم ويعلم سرهم ونجواهم إن الله كان عليماً خبيراً ، فإن الله كان بما تعملون خبيراً.
عباد الله: إن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة، فعن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ناباه فقال عمر ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال : ((رجلان من أمتي جيئا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يارب خذ لي مظلمة من أخي، قال الله تعالى أعط أخاك مظلمته، قال: يارب لم يبق من حسناتي شيء، قال: رب فليحمل عن أوزاري، قال: ففاضت عينا رسول الله بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان، فرفع رأسه فقال: يارب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة بالؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى ثمنه، قال: يارب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت تملك ثمنه، قال: ماذا يارب؟ قال: تعفوا عن أخيك؟ قال: يارب فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخلا الجنة))، ثم قال رسول الله : (( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة )) 1 ، وروى البزار عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: ((ألا أدلك على تجارة؟ قال: بلى يا رسول الله: قال: تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا)).
يقول الإمام النووي رحمه الله: أعلم أن الإختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته هو المختار الذي كان عليه رسول الله وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين وخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين، قال الله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى نعم: إن فضل الإختلاط بالناس وحضور جمعهم وجماعاتهم ومشاهد الخير ومجالس الذكر معهم وعيادة مريضهم وحضور جنائزهم ومواساة محتاجهم وإرشاد جاهلهم وغير ذلك من مصالحهم لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقمع نفسه عن الإيذاء أمر عظيم وأجره جزيل، فوطنوا أنفسكم رحمكم الله على مناهج الأنبياء والعلماء والصالحين واحذروا غيرها من المناهج فإنها من مزالق الشيطان التي تؤدي إلى ذل الدنيا وخزي الآخرة.
فيامن يريد الأجر العظيم من الله مالك لاتصلح بين جيرانك؟ ويا من يطلب الرحمة من الله مالك لاتوفق بين إخوانك؟ ويا من كان يؤمن بالله وثوابه واليوم الآخر وأهواله مالك لاتعمل على إصلاح ذات بين المسلمين؟.
أيسكت أهل العلم والوجاهة عن التنازعات بين الجيران والإخوان حتى تشتد الخصومة؟ أتترك الخلافات العائلية حتى تكون من المسائل القضائية؟ إن مسؤلية أهل العلم والوجاهة في جلب الألفة ودفع الفرقة مسئولية عظيمة عليهم أن يتحملوها، وإلا فليعلموا أنهم ضيعوا جزءاً كبيراً من الأمانة التي تحملوها، فكم من زوجة نفرت من زوجها وعشها لأتفه الأسباب؟ وكم من أخ قطع رحمه من إخوانه وجيرانه لعرض من الدنيا زائل ؟، وكم من جماعة أو قبيلة شغلت القضاة والمحاكم والدولة بأمور عادية، كل ذلك سببه غياب أهل الإخلاص والنباهة عن مكانتهم، وترك أهل العلم والحجة لمسئولياتهم.
إنه لابد للمصلح بين الناس أن تتوفر فيه شروط عامة وأخرى خاصة لتخوله السفارة بين المتنازعين أو التوفيق بين المتخاصمين وإعادة المودة والرحمة بين الزوجين، من هذه الشروط:
1 – أن يقوم بالإصلاح إبتغاء مرضات الله.
2 – وأن يكون الإخلاص لله وطلب الحق هو باعثه على الإصلاح.
3 – وأن يكون له مكانة كبيرة عند المتنازعين لعلمه وورعه.
4 – نصافة ورجاحة عقله.
عباد الله: إن الصلح يثمر مالا يثمر الحكم القضائي، إنه يثمر إحلال الألفة مكان التفرقة، ويستأصل داء المنازعات قبل أن تستفحل المنازعات والخصومات، إنه يوفر الأموال التي تنفق في المحامات بالحق أو بالباطل، إنه يترك سوق شهادة الزور والرشاوي كاسدة، ويعين على التفرغ للمصالح العامة والخاصة، هذا على مافيه من الأجر العظيم للمصلحين والمتصالحين، وصدق الله العظيم اذ يقول: والصلح خير.
1 - رواه الحافظ ابو يعلي الموصلي في مسنده.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله جعل المسلمين كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) اللهم صلى وسلم على عبدك ورسولك محمد.
عباد الله: إن ثمرات الإصلاح بين الناس عظيمة، وعاقبة تركه وخيمة، ولذا كان المصطفى يبادر إلى حسم النزاعات بالإصلاح العادل، فأصلح بين الزوجين وسوى بين الفردين حتى استوضع للدائن من المدين صلحاً، وأصلح بين الفئتين وسار على ذلك خلفاءه وصحابته والتابعون، وكتب الفقهاء والمحدثون للصلح في كتبهم، واغتنى به القضاة والدارسون لشئون المجتمعات والمجاهدون وغيرهم، وإن القاضي الناجح لايصدر حكمه القضائي إلا إذا أعياه الصلح العادل، ولعظيم فوائد الصلح رخص الشارع فيه الكذب من أجله، عن أم كلثوم بنت عقبه ابنة أبي معيط رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً ويقول خيراً)) 2.
وخرج بنفسه الشريفة للإصلاح بين بني عوف، فعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر فخرج رسول الله يصلح بينهم في أناس معه.. (الحديث) وما ذلك إلا عافية من الفضل العظيم إنه أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إلا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة)) ، وفسرها بقوله: ((هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)).
نعم، إن الخلافات والمشاحنات تحلق الدين لما يترتب عليها من الدخول فيما لايجوز من التعصبات وحب الانتصار على الخصوم ولو بالزور والكذب، فهل يترك المسلمون الخلافات تشتتهم؟ أو يترك أهل الإصلاح المنازعات تمزق مجتمعهم؟ ألا يتأسون برسول الله وسلفهم الصالح في القضاء على ما يفرق الكلمة.
2 - متفق عليه
(1/1114)
عورات المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من التهير بالناس ونشر عوراتهم. 2- فضل الستر على المسلم وكف الضر عنه.
3- التحذير من المعاصي ومن المجاهرة بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، فإنه يعلم السر وأخفى سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار.
عباد الله: إن ربكم كريم ستير يحب الستر على عباده ليتوبوا إليه ويرجعوا عن زلاتهم وهم غير مفضوحين بين الناس، ولذلك قال النبي : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) وقال : ((أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم)) أي استروهم ولا تفضحوهم ولاتتعرضوا بهم، فإن في الستر عليهم في الزلات العابرة النادرة فوائد كثيرة تعود عليهم في أنفسهم وتعود على مجتمعاتهم.
عباد الله: إن التشهير بالناس ونشر عوراتهم من صفات أهل النفاق والفساق المتشبهين باليهود المغرمين باشاعة الفاحشة، ومن كانت فيه صفة من صفات هؤلاء فليبادر بتركها والتوبة منها لئلا يلقى الله بها فيعذبه عليها: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب آليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لاتعلمون ، ولاتقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً ، ولاتجسسوا ولايغتب بعضكم بعضاً ، ويحذرنا نبينا من هذه الصفات في أحاديث عديدة وبأساليب منفرة من تلكم الخصال الذميمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولاتجسسوا ولاتحسسوا، ولاتحاسدوا ولاتدابروا ولاتباغضوا وكونوا عبادالله إخواناً)) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : ((ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في آذنيه الآنك)) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه)) 1.
إن أعراض المسلمين مصانة وعوراتهم مستورة، فمن خالف ذلك وتتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في عقر داره، ومن تجسس على الناس كان من المفسدين الذين لم يباشر الإيمان قلوبهم، فعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم)) 2 ، ومن حديث أبي برزة قال: قال رسول الله : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لاتغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المؤمن يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).
فلماذا يرضى بعض المسلمين لنفسه بتتبع عورات الناس واغتيابهم وهمزهم ونبزهم وتعييرهم والتشنيع عليهم، فهل لاترفع بنفسه عن هذه الدرجة الخسيسة وربى نفسه على معالي الأمور وتجنب سفاسفها الذي لايجني من ورائه إلا البغض بين العباد في الدنيا والخزي والإثم في الآخرة، ألا فاسمعوا إلى ما أعده الله لمن ستر مسلماً أو ترفع عن جلب الضرر له أو أحب الثواب الجزيل فعمل على إسعاد الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) 3 ، حديث جامع نافع يحفظه الكثير منا ونؤمن بما فيه ولكن من يعمل به منا؟.
عباد الله: اعلموا أن الستر على المستتر بمعصيته واجب، وفيه أجر عظيم، ويحرم تتبع عورته وإستكشاف أمره كما يدل له حديث الإمام أحمد في المسند عن دخين كاتب عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت لعقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وإنا داع لهم الشرطة فيأخذوهم فقال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا، قال: فجاءه دخين فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داع لهم الشرط، فقال عقبة: ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله يقول: ((من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤدة من قبرها)).
1 - أخرجه الشيخان.
2 - رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.
3 - رواه مسلم وغيره.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العالم بما في الصدور مبعثر مافي القبور المجازي للناس يوم البعث والنشور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وفروا من الله إلى الله واستتروا بستر الله ولاتبارزوا الجبار بالمعاصي، ولاتجاهروا بها بين الناس، ولاتكونوا أيضاً من الذين ذمهم الله وعيرهم بهذه الأوصاف، إذ كل ذلك يدل على قلة الإيمان وذهاب الحياء من كان هذا حاله فهلاكه محقق إن لم يتب إلى الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يافلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عليه)) 4.
ومن حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكم له من حكم: (إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله بين أظهرنا وإذ ينزل الوحي وإذ ينبئنا من أخباركم، ألا وإن رسول الله قد انطلق به وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما نخبركم ألا من أظهر منكم لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم تعالى) موقف واضح ممن يرتكب حرمات الله ويقول: الإيمان في القلب أو يستخفي من الناس ولايستحي من الله: وماكنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولاجلودكم ولكن ظننتم أن الله لايعلم كثيراً مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم الخاسرين ، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولاتكن للخائنين خصيماً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً ولاتجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لايحب من كان خواناً أثيماً يستخفون من الناس ولايستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لايرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً.
4 - متفق عليه.
(1/1115)
مكانة المسجد وقدسيته في الإسلام
فقه
المساجد
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المساجد ووجوب الاعتناء بها وفضلها. 2- دور المسجد في الإسلام. 3- فضل
المهتمين بعمارة المساجد والمحافظة عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، وإنها وصية الله للأولين والآخرين ولقد وصينا الذين أتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله.. الآية.
عباد الله: إنه ينبغي للمسلم أن يتعلم أحكام المساجد وآدابها ليعرف ما يؤتى فيها وما يترك، ومايوافق قدسيتها، وما يعد مناقضاً لمكانتها إن المسجد في الإسلام له مكانة رفيعة وقدسية وطهارة ونظافة يعتاده المؤمن ويصلي فيه المصلي، ويعتكف فيه المعتكف، ويتعبد فيه المتعبد، ويتعلم فيه المتعلم، وتنشر فيه الصلة والمودة والرحمة، ويتعارف فيه أهل الحي فيتآلفون ويتعاونون ويتزاورون ويتراحمون، فهو المستشفى الروحي يدخل إليه المريض المذنب الجاني يتأوه من آلام لايعبر عنها، يتنفس الصعداء حسرة وندامة على مافرط في جنب الله تعالى، فيركع ركعات ويقرأ آيات أو يسمع كلمات طيبات، فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه، ويجد برداً يتسلل إلى فؤاده فيخرج منشرح الصدر باسم الثغر يعلوه النور والوضاءة والرغبة في الخير والبراءة، فما يزال يعتاد المساجد حتى يصير الخير له عادة.
أما إمام المسجد فهو مدير المستشفى يلاطف هذا ويفتيه، ويعلم هذا، ويتفقد حال ذاك، وينصح المقصر، ويحث المجتهد ليزداد، هذه مسئوليته، أليس مدير المستشفى يتابع الموظفين ويراقب حالة المرضى، هكذا كان المسجد في الإسلام وهكذا ينبغي أن يكون دائماً مصدر نور ومصحة روحية تكون سبباً لصحة الأبدان والأفراد والمجتمع.
عباد الله تعالى: من أين يستمد المسجد هذه المكانة وتلك الخصال؟
أليست المساجد بيوت الله؟ أليس عمارها الخلصاء من عباد الله؟ قال الله تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ، وأن المساجد لله فلاتدعوا مع الله أحداً ، في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لاتلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ماعملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ماكان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، والصلاة والسلام على نبينا القائل: ((من بنى مسجداً لايريد به رياءً ولاسمعة بنى الله له بيتاً في الجنة)) ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: إن المرء المسلم الذي يؤمن بالله ويعظمه ويعظم شعائر الله تعالى ويتعلم ما يجب عليه، وماله وماعليه حتى يكون إيمانه عن علم ويقين وعمله مرضي صحيح.
وإن المرء المسلم الذي يؤمن بمحمد يبرهن على صدق إيمانه باتباع ماجاء به هذا الرسول العظيم ، وإن من أهم ذلك الارتباط بالمساجد تعميراً بالمال والأبدان، وتعلق القلوب بها تعبداً وتعلماً، إن من الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله: ((رجل قلبه معلق بالمساجد)) وجاء في سنن ابن ماجة: ((من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلم كان كالمجاهد في سبيل الله)) أو كما قال رسول الله.
عباد الله: علينا أن نقتدي بهدي محمد وصحابته وسلفنا الصالح في جعل المساجد مراكز لكل خير بعد حسن رعايتها تنظيفاً وتطييباً كما أنه علينا أن نسعى في إرجاع الآبقين على ربهم إليها، الذين جعلوا الملاهي والمقاهي مراكزاً لهم فهجروا المساجد، نرجعهم بالكلمة الطيبة ونحذرهم عاقبة صدودهم عن ذكر الله وعن الصلاة في الدنيا قبل الآخرة.
عباد الله: إن الحديث عن المساجد ومالنا فيها من خير، وما علينا نحوها من واجب يطول، لُنا فيما سمعنا إذا امتثلنا عظة وعبرة.
(1/1116)
من حكم الصوم
فقه
الصوم
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حكم الأمر بالصوم تحقيق التقوى ، وتذكر نعم الله في المأكل والمشرب والملبس
وغيرها ، والتذكير بالفقراء والمحتاجين من المسلمين ، والتعود على امتثال أمر الله تعالى.
2- حكم الزكاة وفضلها وثواب أدائها. 3- الحكمة من مشروعية زكاة الفطر وبعض أحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن لشرائع الإسلام حكم بالغة ظاهرة وخفية مذكورة في النص أو ملتمسة، وإن من حكم الصوم التي نص عليها القرآن الكريم مراقبة الله جل وعلا، والصائم يمسك عن الطعام والشراب وكل شهواته طائعاً ممتثلاً أمر ربه فرحاً بذلك مسروراً قاصداً التزام أوامر الله وإجتناب نواهيه، يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
فالصوم وقاية للمسلم من المعاصي ومدرسة للنفس تتعلم فيها السمو والصفاء والصوم قوة للروح، وعون لها على التغلب على شهوات البدن والجموح بها إلى الحيوانية، فمن تسامى بغرائزه وعمل على تزكية نفسه وتطهيرها فقد أفلح وفاز ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
والصوم يقوي العزيمة ويربي الإرادة كما في الحديث: ((الصوم نصف الصبر)) وفي الحديث: ((الصبر نصف الإيمان)) فالصائم يصبر طاعة لله على الجوع والعطش وكبت الغرائز وشهواته عن الحلال الذي بين يديه يوماً كاملاً طيلة شهر كامل، فلا شك أنه بذلك يتمرس على قوة الإرادة وصلابة العزيمة، كذلك من حكم الصوم الإحساس والشعور بنعم الله التي لاتحصى من المطعم والمشرب والمنكح والتي أحلها الله وأمد عباده بها، حتى أنهم ألفوها وركنوا إليها ونسوا أن الذي أمدهم بها قادر على سلبها منهم، فإذا فطموا عنها شهراً من العام تنبهوا عند فقدانها وشكروا مسديها وعرفوا له قيمتها فالتجؤا إليه في كل أمورهم، فلا يعرف قيمة الشبع من لم يذق مرارة الجوع، ولم يعرف قيمة الري إلا عند معاناة حرارة العطش، وهكذا بضدها تتميز الأشياء، ومن حكم الصوم كذلك أن الغني الشبعان يشارك الفقير في الجوع في شهر رمضان فيحس عند ذلك بألم الجوع ومرارة الحرمان، فيلين قلبه وتتحرك عاطفته نحو إخوانه، فيبادر بمد يد المساعدة لهم، فيطعم الجائع ويكسوا العاري، ويتفاعل مع المحتاجين والبأساء والمحرومين، فينال بذلك الثواب العظيم والجزاء الجزيل من رب العالمين، والصيام أولاً وآخيراً فيه حكمة التعود على امتثال أوامر الله وطاعته فيما أمر، والإنتهاء عما نهى عنه وزجر، وكفى بها من حكمة بليغة يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون.
هذا هو الصوم، شرعه الله تربية للإرادة وتهذيباً النفس وتعويداً على الصبر، وتدريباً على التحمل، وتذكير للغني بأخيه الفقير، وترغيباً في المواساة والتعاون والتراحم، فهل حقق لك صومك هذه المعاني السامية والأخلاق العالية؟
هنيئاً لك إن كنت لمست هذه الثمار المباركة وأحسست بها في محيط حياتك، وإلا فإن بعض الناس هداهم الله في هذه الأيام لا يعنيهم من رمضان إلا المظهر دون المخبر، والشكل دون المضمون، جعله الله للنفس والروح والحلم والصبر والسكينة والوقار والجد والعبادة والقيام والطاعة، فجعلوه للبطن والمعدة والسباب والشجار، والسهر واللهو والتسلية، ألا فقد خاب هؤلاء وخسروا إن لم يتقوا ويتداركوا قبل أن يحل بهم ما حل بأسلافهم من أهل الترف والإسراف والمجون.
فهل يستيقظ وجدان هؤلاء ويدركوا حكمة الصيام وأن الله جعله موسماً للجهاد ونشر الإسلام والجد والإجتهاد والعطف على الأرامل والأيتام، ومواساة الفقراء والمحتاجين وسائر الأنام.
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه)) [أخرجه مسلم].
فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين فرض الزكاة في مال الأغنياء للفقراء والمساكين ((صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في في فقرائهم)) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجازي المحسنين، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، بيّن عن ربه وبلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الزكاة واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة، جاءت في القرآن الكريم مقرونة بالصلاة التي هي عماد الدين فقال تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وقال الله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وأداؤها على وجهها كاملة من أهم أسباب دخول الجنة، وهي نماء وبركة للمال وصاحبه، ومن منعها حل دمه يقاتل حتى يؤديها، إذ هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وقد قاتل أبو بكر الصديق مانعي الزكاة.
عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي أخبرني بعمل يدخلي الجنة قال: ((تعبد الله ولاتشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم)) [متفق عليه].
ولعظم شأنها تولى الله بيان مصارفها في كتابه العزيز فقال تعالى: إنما الصدقات....
ولا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي، كما في الحديث.
أما من أغواه الشيطان واتبع الشح والهدى فمنع الزكاة أو تحايل عليها فليستمع إلى ما أعده الله له من العذاب والنكال قال الله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفايح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله أما إلى الجنة وأما إلى النار.
قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لايؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى أما إلى الجنة وأما إلى النار.
قيل يارسول الله فالبقر والغنم؟
قال: ولاصاحب بقر ولا غنم لايؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لايفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه باظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله أما إلى الجنة وأما إلى النار)) [الحديث متفق عليه].
فهل أحد يقدر على هذا العذاب الأليم؟ بادروا رحمكم الله بإخراج زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، وإن في المال حقاً سوى الزكاة، وهذه هيئة الإغاثة تنوب عنكم في إيصال ما تقدمونه لأنفسكم إلى إخوانكم، فتنافسوا في دعمها ومساعدتها على القيام بواجبها وواجبكم الذي تقوم به عنكم.
عباد الله: إن دين الإسلام دين التعاطف والتراحم، ويوم العيد هو يوم فرحة وسرور، لذا حرص الإسلام أن يمسح البؤس عن الفقراء في يوم فرحة المسلمين ليكون السرور عاماً شاملاً لأجل ذلك شرع زكاة الفطر.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين)) [أخرجه البخاري ومسلم].
فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أواها قبل صلاة العيد فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، وتجب زكاة الفطر بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان، ويجوز بالإتفاق إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.
(1/1117)
وجوب الجمعة
فقه
الصلاة
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الجمعة والحث عليها والترهيب من التهاون فيها. 2- من تجب عليهم الجمعة وشيء
من آدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوا فيما أمركم حسب استطاعتكم وانتهوا عما نهاكم عنه واجتنبوه فقد أمركم بذلك نبي الهدى فقال: ((ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)).
عباد الله: إن مما فرض على البالغين المقيمين من اصرار هذه الأمة إقامة الجمعة وعدم التخلف عنها أو التهاون بها أو التراخي والتأخر في الحضور إليها، وقد رغبكم النبي الكريم بما وعدكم به من الأجر العميم عن التبكير إليها وتحسين الهيئة لشهودها ورغبكم في القرب من الإمام والإكثار من النوافل والصلاة والسلام على سيد الأنام، وخوفكم عليه وسلم من التأخر والتواني وتخطي الرقاب والأذية، واللغو والعبث والتشاغل عن الخطيب حال الخطبة.
عباد الله ان ذلك كله بينه المصطفى لأمته بلاغاً عن الله تعالى ونصحاً ورحمة بالأمة، حتى يحصل للمتعبدين الثواب الكامل ويجتنبوا ما يقلل الأجر أو يفوته.
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعملون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون ، وقال كما في حديث سلمان الفارسي عند البخاري وغيره قال: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب، ثم راح فلم يفرق بين اثنين، فصلى ماكتب له، ثم إذا خرج الإمام أنصت غفرله ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) ، وعند الإمام أحمد وأبي داود في السنن من حديث عبدالله بن عمرو عن رسول الله قال: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضر يلغو، وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعوا، فهو رجل دعا الله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقبة مسلم، ولم يؤذ أحداً فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام)) وذلك أن الله عز وجل يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.
عباد الله: بهذه النصوص تبين لكم أن هذا اليوم يوم عيد يطلب فيه ما يطلب في العيد من التظهر والتطيب وتحسين الهيئة والتبكير حتى بلا يحتاج المرء أن يفرق بين اثنين، والتنفل والإنصات والسكوت والسكون حتى تحصل الفائدة من الخطبة التي شرعت للتعليم والتوجيه والإرشاد والموعظة وغير ذلك من الفوائد الكثيرة، وإن الكلام ولو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو كثرة الحركة وتصليح الهيئة وفرقعة الأصابع أو التثاؤب أو بالإلتفات كل ذلك وما يدخل فيه من أنواع التشاغل والأذية للآخرين منهي عنه لأنه يفوت المصلحة المرجوة من الخطبة ويفوت الأجر من شهود الجمعة، كيف لا والنبي يقول: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت)) وهل حضرت لتكون من أهل اللغو أم لتكون من الذين يرحمهم الله بالإستجابة لأوامره وطلب مرضاته في جميع شؤونك فاتعظوا بما وعظكم الله به في كتابه بقوله جل من قائل عليم: واذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله شرع لعباده ما فيه صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ عن ربه البلاغ المبين، فبين جزاء المحسنين وحذر المضلين من الأخطاء التي يقع فيها المتهاونون من المتعبدين.
اللهم صلِّ وسلم عليه ماتخلف جاهل أو فاسق عن جمعة أو جماعة أو تأخر متساهل في حضورها.
عباد الله: أوصيكم بتقوى الله تعالى والمسارعة إلى الخيرات وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
عباد الله: إننا لايمكن أن نأتي على فضائل الجمعة وخصائصها وما أعده الله لمن اتبع هدى النبي فيها، وما توعده به المتخلف عنها أو المتساهل بشأنها، ولكن هذا تنبيه للغافل وتوضيح للجاهل، لعل الله تعالى أن يمن علينا وعليهم بتوبة نصوح التي تبعث على العمل الصالح وتحجز عن ارتكاب المنهيات أو التقصير في أداء الواجبات.
جعلني الله وإياكم ممن يحافظ على الطاعات ويشهدون الجمع والجمعات وجنبنا الموبقات وكل أعمال أهل الجهالات والغفلات إنه كريم جواد سميع الدعوات.
(1/1118)
من كلام النبوة الأولى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, مكارم الأخلاق
سليمان بن حمد العودة
بريدة
5/3/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء من أخلاق الإسلام وشعب الإيمان
2- تعريف الحياء
3- العلاقة بين الحياء وتقوى الله
4- المجاهرة بالمعاصي
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: اتقوا الله واخشوا يوما ترجعون فيه إلى الله
إخوه الإيمان: وطالما اعتاد كثير من الناس على مقولة (استح يا فلان)
وهي كلمة زجر تقال لمن خالف شرع الله أو وقع في شي من محارمه او استهتر في شيء من الواجبات وقلل الأدب مع خلق الله بأي شكل من الأشكال، والحق أنها كلمة ذات معنى ولها مغزى، وشيوع الكلمة وكثرة إطلاقها دليل الغيرة وعلامة الوعي، وهي أسلوب من أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصلح لفئة من الناس لم تجد معها الوسائل الأخرى وبلغ بها الاستهتار بالمعاصي إلى حد المجاهرة بها دون خوف من الله واستحياء من خلقة وبلغ بها الاستهتار بحقوق الخلق إلى حد يضطر الناس معه إلى ان يقولوا: استح يا فلأن ومع أهمية الحياء وحاجتنا إليه إلا أننا أحيانا نجهل معني الحياء، وربما فات على بعضنا الفرق بين الحياء الشرعي وغير الشرعي أو فات علينا معرفة قيمة الحياء.
وكلنا محتاج إلى معرفة الأسباب المودية للحياء الشرعي والأسباب المساعدة على فشو قلة الحياء، هذه وغيرها معاشر المسلمين مما يتعلق بالحياء أمور تمس الحاجة إليها في سبيل طاعتنا لخالقنا وحسن علاقتنا بإخواننا.
وسأقف معكم في هذه الخطبة معرفا بالحياء وموضحا ما يلتمس الأمر فيه وعسى أن يكون فيها عبرة وعظة للمتحدث والسامع إنه سميع الدعاء.
إخوة الإسلام: وإذا كانت قيمة الأخلاق في الإسلام لا تخفي وقد سبق الحديث عن شيء منها فما مكانة الحياء بين أخلاق الإسلام؟
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضحا ذلك ((إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء)) رواه مالك وابن ماجة بسند حسن [1]
ولأهمية الحياء وضرورة وحاجة الحياة والأحياء له كان سمة هذا الدين وسمة الأديان السابقة ولم ينسخ من بين ما نسخ من شرائع الله، ولهذا قال المصطفي صلي الله علية وسلم ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما تشاء)) [2]
ويكفي الحياء قدرا أنه من الإيمان، وأنه طريق إلى الجنة، وعكسه البذاء. يقول الرسول، صلي الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار [3] )).
وعرف العلماء الحياء لغة بأنه تغير وإنكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به [4].
اما تعريف الحياء في الشرع: فهو خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في الحق، ولهذا جاء في الحديث ((الحياء خير كله)) [5]
وقال الراغب الأصفهاني: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة ولهذا لا يكون المستحي فاسقا، وقلما يكون الشجاع مستحيا [6].
ايها الأخوة المسلمون: والحياء علامة خير، وهو شعبة من شعب الإيمان كما قال علية الصلاة والسلام: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان [7] )).
أما لماذا كان الحياء من الإيمان؟ فقد قال ابن قتيبة يرحمه الله إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي كما يمنع الإيمان من ارتكابها، فسمي إيمانا كما يسمي الشيء باسم ما قام مقامه [8].
وقال ابن الأثير يرحمه الله: جعل الحياء وهو غريزة من الإيمان وهو اكتساب، لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي وإن لم تكن له تقية أي مائع _ فصار كالإيمان الذي يقطع بين العاصي والمعصية، وإنما جعل الحياء بعض الإيمان لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله وانتهاء عما نهى الله عنه، فاذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعض الإيمان [9].
أما إفراده من بين شعب الإيمان الأخرى، فذلك لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحيي يخاف فضيحة الدنيا والأخرة فيأتمر ويترجل.
وهكذا يتضح لكم معاشر المسلمين قدر الحياء وقيمته، فهو رقابة داخلية تتحكم في سلوكيات الإنسان، وتدفعه لفعل الجميل، وتكفه عن القبائح، حتى وإن خالف ذلك هواه، وما تشتهيه نفسه، وإذا تمثل الإنسان الحياء قاده إلى كل خير، وحجبه عن كل سوء، لكن ذلك يحتاج إلى جد واجتهاد، وترويض للنفس، واحتساب للأجر عند الله، وهذا هو الحياء الشرعي المطلوب، فالحياء الشرعي - كما قال أهل العلم – هو المقترن بالعلم والنية الطيبة، وهو الباعث على فعل المأمور، وترك المحظور، وهو الذي يقع على وجه الإجلال والإحترام للأكابر، وهو الحياء الشرعي.
فهناك حياء غير شرعي قال عنه الحافظ ابن كثير: ليس شرعيا.
وقال أيضاً: أما مايقع سببا لترك أمر شرعي فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة [10].
وهكذا يتضح الفرق بين الحياء الشرعي الذي يريده الله ويؤجر عليه الإنسان، وبين الضعف والمهانة الذي ينسب للحياء، وليس منه في شئ.
نسأله تعالى أن يبصرنا في ديننا ويرزقنا الحياء ويعصمنا من البذاء والجفاء وسوء الأخلاق.
[1] جامع الأصول 3 / 622.
[2] الحديث اخرجه الترمذي وقال /حديث حسن صحيح جامع الأصول 3 / 617.
[3] الفتح 1/52.
[4] الفتح 1/52.
[5] المصدر السابق 1 / 52.
[6] المصدر السابق 1 / 74 / 75.
[7] لفتح 1 / 74.
[8] النهاية في غريب الحديث 1 / 470.
[9] الفتح 1 / 52.
[10] المصدر نفسه 1 / 52.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوة الإيمان: وقديما قال العارفون: الرجال ثلاثة: رجل عمل حسنة فهو يرجو ثوابها، ورجل عمل سيئة ثم تاب منها فهو يرجو المغفرة، والثالث الرجل الكذاب يتمادي في الذنوب ويقول أرجو المغفرة، ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالبا 11.
فالأول والثاني يتمثل فيهم الحياء، والثالث مغالط لنفسه، وما فقه معني الحياء، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوبة والمغفرة.
فإن قلتم وما الطريق إلى الحياء الحق؟ وكيف يعرف الإنسان نفسه؟ أمن فئة المستحيين أم من زمرة المخادعين وما يخدعون إلا انفسهم وما يشعرون؟
أُجبتم بما أجاب به النبي صلي الله عليه وسلم صحابته حين قال لهم : ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: والله إنا لنستحي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن الإستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زنية الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) 12.
إخوة الإسلام، ونستطيع القول في معاني الحياء وآثاره:
هو ترجمة للخوف من الجليل، وهو نوع من الأدب في التعامل مع الآخرين، هو طريق للخير والفلاح وهو حسر للسعادة والصلاح هو دليل رجاحة العقل، ومؤشر لميزان الإيمان وعنوان للثقة بقيم الإسلام وأخلاقه ورفض واع لمحاكاة الآخرين وتقليدهم في سواقط العادات والأخلاق.
وهو شعار المتقين ودثار المؤمنين وجلباب يستر الله ورجاحة العقل والأصالة والثبات.
أيها المؤمنون ومن مظاهرة بالمعصية أياً كانت هذه المعصية والمجاهرة كما هي مظهر لقلة الحياء هي سبب لعدم المعافاة ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون))
التطبع بالأخلاق الردئية من السباب والفسوق واللجاج وكثرة المزاح بما حل أو حرم، والتلفظ بالكلمات البذيئة والكبر والكذب والخداع ونحوها.
عدم احترام الآخرين وتقدير مشاعرهم فلا يرعي لكبير حقا، ولا يغرس في صغير خلقا، همه مصالحه الخاصة، تستحكم فيه الأنانية وحب الذات إلى درجة تسفيه أحلام الآخرين واحتقارهم.
ألف المحرمات واستثقل الواجبات (سواء كانت للخالق أم للخلق) فإن من يألف التهاون بالواجبات كالصلاة وشرب المسكرات أو يستهين بحقوق الخلق ولا يهتم بواجباتهم عليه هو شخص لم يستح من الله ولا من خلقه.
11 ثلاث شعب من الجامع لشعب الأيمان للبيهقي 1 / 297.
12 أخرجه الترمذي وغيره ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، جامع الأصول 3 / 616.
(1/1119)
المسلمون بين تعظيم القرآن وهجره
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
سليمان بن حمد العودة
بريدة
13/9/1416
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آيات العتاب للنبي ودلالتها على أن القرآن وحي الله. 2- تنزلات القرآن. 3- التحدي
بالقرآن وإعجازه. 4- بعض فضل القرآن وخصائصه. 5- التداوي بالقرآن. 6- استماع
الملائكة والجن للقرآن الكريم. 7- شكوى القرآن من هجره. 8- نماذج من هجر القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان: ويطيب الحديث عن القرآن في كل آن، ويزكو في شهر رمضان، ففيه أنزل، وفيه كان جبريل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن (1).
ومعنى نزول القرآن في رمضان نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، والإ فقد نزل القرآن في أشهر أخرى تثبيتاً لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإفحاماً للمشركين كما قال ابن عباس، رضى الله عنهم: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً [الفرقان:32-33].
أيها المسلمون: والقرآن الكريم مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها كما قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه الآية [المائدة:48].
قال إبن عباس رضي الله عنه: المهيمن: الأمين، والقرآن أمين على كل كتاب قبله (4).
والقرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الكبرى والباقية المتجددة ما بقيت الأيام تترى، فلقد تحدى الله به أهل الفصاحة والبلاغة قديماً، وما زال، ولن يزال برغم أنوف الأعداء، وبه تحدى الله الخليقة إنساً وجناً: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً [الإسراء:88].
وعظمة الإعجاز في القرآن أنه مؤلف من جنس كلام الناس، ومؤلف من نفس الحروف التى يتخاطبون بها ( الم، الر، ص، ق، كهيعص.. ) ونحوها، ومع ذلك لا يستطيعون الإتيان بمثله.
ولهذا انتصر ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الحروف المقطعة بأنها ذكرت بياناً لإعجاز القرآن، وقال: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالإستقراء في تسع وعشرين سورة: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه (2) [البقرة:1-2].
أيها المؤمنون: وإذا كان إعتراف المشركين قديماً بعظمة القرآن وإعجازه مشهوراً ومعروفاً، أكتفي بسوق نموذج لإعتراف المشركين حديثاً بعظمة هذا القرآن، فإن فرنسا قامت في سبيل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر بإنتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً، وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج، دعي لها الوزراء والمفكرون والصحفيون.
ولما إبتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري.. فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً؟
وحينها أجاب ( لاكوست ) وزير المستعمرات الفرنسي بقوله: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟ (1).
أيها المسلمون: وينبغى أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، تلكم هداية القرآن: الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد [الزمر:23].
والقرآن يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [الإسراء:9].
يقول علي رضي الله عنه في وصف القرآن: (اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى ونقصان من عمى، وإعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد بعد القرآن من غنى، فاستشفوا به من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه الشفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال، واعلموا أنه شافع ومشفع، وقائل ومصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، فإنه ينادي منادي يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبه عمله، غير حرث القرآن فكونوا من حرثه وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آرائكم، واستغشوا فيه أهواءكم (4).
يا أمة القرآن: كم يوقظ القرآن ضمائرنا ولا تستيقظ، وكم يحذرنا ونظل نلهو ونلعب، وكم يبشرنا وكأن المبشَر غيرنا، وكم تعيينا الأمراض والعلل، ولو إستشفينا بالقرآن لشفانا الله به حساً ومعنى، وصدق الله: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً [الإسراء:83].
فهو يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ، وبه يحصل الإيمان والحكمة، وليس هذا إلا لمن آمن بالقرآن وصدقه واتبعه، وهذا شفاء القرآن المعنوي.
أما شفاؤه الحسى فتؤكده رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: (( انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوا فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شىء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شىء، لا ينفعه، فهل عند أحدكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إنى لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم - وفى رواية: فأمر لنا بثلاثين شاة، وسقانا لبنا -.
فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهما، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم )) (2).
أيها المؤمنون: ويشهد القرآن بتعظيم من في السموات ومن في الأرض لله، بإنسه، وجنه، وملائكته، وشموسه، وجباله، وشجره، ودوابه، ويخرون كلهم لله سجدا: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء [الحج:18].
وهذه الجن تستجيب لنداء القرآن، ويؤمنون بالإسلام، ويسمعون محمدا عليه الصلاة والسلام: قل أوحى إلي إنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً [الجن:1-2].
وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لم يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين [الأحقاف:29-32].
وملائكة السماء تدنو لتسمع صوت القارئ للقرآن كما في قصة أسيد بن حضير، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (( تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم (4) )).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة (1)
وعن جابر رضي الله عنه، لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق)) (2).
فهل نعظم هذا الكتاب الذي عظمه الله، وعظمته ملائكته، واستجاب له إنسه وجنه؟ وهل نزداد له تلاوة وتدبرا في شهر نزوله؟ وهل نحافظ على الصلة به علما وعملا، ولا نكن في عداد من هجره كما قال تعالى: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً [الفرقان:30].
(1) كما في صحيح البخاري ح 4997 ، الفتح 9 / 43.
(4) صحيح البخاري ، انظر الأثر في الفتح 9 / 3.
(2) تفسير ابن كثير للبقرة 1 / 59.
(1) قادة العرب يقولون... جلال العالم : 50 ، 51.
(4) عن مقدمة كتاب أحكام القرآن ، الكيا الهراس 1 / 6.
(2) البخاري : الإجارة ح 2276 ، وفضائل الصحابة ح 5007 ، الفتح 4 / 453 ، 9 / 54. قال ابن حجر : وفي الحديث جواز الرقية بكتاب الله ، ويلتحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور.
(4) رواه البخاري ح 5018 ، الفتح / 63.
(1) تفسير ابن كثير 3 / 233.
(2) رواه الحاكم بسنده وقال / : صحيح على شرط مسلم. ( المستدرك 2 / 314 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أما بعد: فيا أهل القرآن: احذروا شكوى محمد صلى الله عليه وسلم لربه من هجر قومه وأمته للقرآن وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وتأملوا في حكمة رد الله عليه: وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً (1) [الفرقان:31].
قال صاحب أضواء البيان - يرحمه الله -: معنى هذه الآية الكريمة ظاهر، وهو أن نبينا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربه هجر قومه - وهم كفار قريش - لهذا القرآن العظيم، أي تركهم لتصديقه والعمل به، وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال. هـ (2).
ويقول صاحب الظلال - يرحمه الله -: لقد هجروا القرآن الذي أنزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهج حياة يقودها إلى أقوم طريق، وإن ربه ليعلم - بحاله وحال قومه -.
ولكنه دعاء البث والإنابة يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ويتدبروه، فيسليه ربه ويعزيه، فتلك هى السنة الجارية قبله في جميع الرسالات، فلكل نبى أعداء يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله...
ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عددها، ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها - مهما كلفهم من مشقة، وكلف الدعوات من تعويق - هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائغين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طريقا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتما مقضيا، ويجعل الأمم والتضحيات لها وجود... إلخ كلامه (1).
أيها المسلمون: وهكذا تكشف الآية عن عظم هجر القرآن أفرادا أو جماعات، شعوبا أو حكومات، وإذا رأيت في مجتمع المسلمين عددا من المخالفات لهدي القرآن ظاهرا، وعددا من التجاوزات لتعاليم الإسلام واضحا، وزهدا بسنة محمد صلى الله عليه وسلم صراحة أو خداعا، واستيرادا للقوانين الوضيعة، ووضعها للناس حكما، فاعلم أن ذلك من هجر القرآن، وتذكر حينها قوله تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [النساء:65].
وتأمل معنى قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً [النساء:60].
عباد الله: وبإزاء هذه الصورة الهاجرة للقرآن، فهناك صورة التعظيم أو التقدير لكتاب الله، يقدرها حق قدرها العلماء الربانيون الذين يعلمون منزلة الكتاب، وما فيه من أحكام وآداب، ووعد ووعيد، ولذا تراهم يقدمون تعلمها على كل شيء، حتى ولو كانت من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة، رضي الله عنه، قال: ((حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة... وحدثنا عن رفعها... )).
قال ابن حجر معلقاً: قوله: " ثم علموا من القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقون عن النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان أو مندوبا (2).
ويقول أبو عمر بن عبد البر يرحمه الله: طلب العلم درجات ومناقب ورتب، لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، رحمهم الله ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل، ومن تعداها مجتهدا زل، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه... (3)
وقال الحافظ النووي، رحمه الله: ( وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ، وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن... (1)
أيها المسلمون: واذا كان هذا منهجهم في تقديم القرآن في طلب العلم، فلا تسأل عن التزامهم بهدي القرآن، ووقوفهم عند الحلال والحرام، والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه.
وكان السلف رحمهم الله وقافين عند كتاب الله، لا يتجاوزون هديه، ولا يعدلون شيئا بحكمه، ومن قرأ في سيرهم، وخبر أثارهم، عرف ذلك جليا في حياتهم - ولولا مخافة الإطالة لسقت لكم نماذج - ولذا سادوا الدنيا، ورفعهم الله في الآخرة مكانا عليا.
وحين تخلف المسلمون اليوم عن هدى القرآن، واتخذوه مهجورا، سامهم الأعداء سوما، وبات رصيدهم للآخرة قليلاً، وكل ذلك جزاء وفاقا، ولا يظلم ربك أحداً.
فهل نتخذ – معاشر المسلمين – فرصة لنعيد النظر في أنفسنا، وموقفنا من كتاب ربنا، إن ذلك خليق بنا في شهر الصيام وبعده، ولعله يكون أثراً من آثار تقوى الصيام.
اللهم أصلح أحوالنا، وردنا إليك رداً جميلاً، اللهم حكم في المسلمين كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم...
(1) الفرقان / 31.
(2) أضواء البيان 6 / 317.
(1) الظلال 5 / 2561.
(2) الفتح 13/39.
(3) جامع بيان العلم وفضله 526 ، 528 عن النبذ في آداب الطلب / للعثمان / 63.
(1) مقدمة المجموع ، شرح المهذب 1/38 عن : النبذ في آداب الطلب / 64.
(1/1120)
بين الاتباع والابتداع
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
سليمان بن حمد العودة
بريدة
14/7/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين قبل وفاته. 2- أقوال أهل العلم في التحذير من البدعة. 3- انتشار البدع
بسبب الجهل. 4- دور الباطنية العبيدية في إنشاء البدع والمحدثة كالمولد. 5- بدع شهر رجب.
6- مفاسد الابتداع. 7- انكار ابن مسعود للبدع.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الاسلام: ويعجب المرء حين يلحظ فئاماً من المسلمين كلفوا أنفسهم مالم يأذن به الله. واتبعوا شرائع وطرائق لم يعملها صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الأخيار، فابتدعوا في الدين، ولو كلفوا أنفسهم السؤال عن أصلها والهدف منها وما فيها من المغرم والمأثم لما عادوا إليها مرة أخرى، فليس الدين _ معاشر الآخوة – شهوة جامحة ولا تقليدا أبلها.. إنما هو الشرع الموحى والسنة الموروثة عن أولي البصائر والأخلاق والنهى: ((عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، إاياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
نعم إن الاسلام – أيها الأخوة – دين الله، والله تعالى أعلم بما يصلح للبشر ويقيم سلوكهم ويطهر قلوبهم ، ولم يمت محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله دينه وأتم شريعته.
وكان من أواخر ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:2].
وشرائع الإسلام وسننه كافية شافية، وليس يسوغ للمسلم كلما سمع صيحة هنا أو دعوة هناك تشبث بها حتى وإن كانت بدعة محدثة في الدين.. وحتى وإن كانت قصورا عما صح وأمر به وفعل رسوله صلى الله عليه وسلم له.
فلا بد للمسلم إذاً أن يستسلم لشرع وأمر رسوله ويسأل هل فعله الذي يفعل موجود في سنته أم عمل به سلف الأمة وخيارها؟
فإن لم يجد من ذلك شيئا فلا يغتر بكثرة الهالكين ، ولا يكن دليله أنه وجد الناس يعملون هذا العمل،فهو لهم تبع، فالله تعالى يقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله وقال تعالى: وأن هذا صرطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق عن سبيله وينعي القرآن على الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
إخوة الايمان: شأن البدعة عظيم ، وأمر العبادة لا يسوغ من مجرد التقليد، ولزوم السنة والاتباع فضل من الله عظيم.
ولخطورة البدع وما ظهر منها وما بطن اسمعوا ما قاله الأئمة الأعلام لتحذير الأمة من ضلالات الشيطان.
يقول الإمام مالك رحمة الله: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول اليوم أكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ دينً لا يكون اليوم ديناً [1].
ويقول سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها [2]
وذلك أن المبتدع يتخذ ديناً لم يشرعه الله ورسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب مادام يراه حسناً, لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، فالتوبة ممكنة لمن وفقه الله وهداه كما هدى الله الكفار وأصحاب الباطل الذين أبصروا ما هم عليه من الباطل ورغبوا في الحق [3].
إخوة الإسلام : وقد يسأل سائل ويقول: ما هي الظروف والأزمان التى تنتشر فيها البدع؟ ولماذا تعلق بعض النفوس بالبدع؟
و الجواب: إذا انتشرت الجهالة بدين الرسل عليهم السلام بين الناس ونما زرع الجاهلية في نفوسهم وكثر الدعاة المبطلون واختفى أو قلّ دور الدعاة المصلحين سارعت الطباع إلى الانحلال من ربقة الاتباع ، لأن النفس فيها نوع من الكبر فهي تحب أن تخرج من العبودية بحسب الامكان وكما قال أحد السلف: ما ترك أحد سنة إلا تكبراً في نفسه.
فهى تصير إلى البدعة كمخرج من تكاليف الشرع إلى ضروب البدعة والأعمال للنفس لديمومتها على ذلك حتى تلقى الله وهو راض عنها..
أما البدع فهي عبادات مؤقتة وهي لقاءات موسمية. وهي أحيانا اجتماعات عامة قد تطرب لها بعض النفوس المريضة وتظنها نوعاً من القربة والمغنم، وهي في واقع الحال معصية ومأثم.
و البدع معاشر المسلمين كثيرة ومتنوعة.
فمنها مالا يتكرر في العام إلا مرة واحدة كبدعة المولد التى أحدثها العبيديون في مصر، والمسمون ظلماً بالفاطميين ، وهؤلاء العبيديون كانوا يظهرون الرفض أي ينتسبون إلى الرافضة – ويبطنون الكفر المحض ، يقول عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: واتفق طوائف المسلمين علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام وأن قتالهم كان جائزا.. والذين يوجدون في بلاد الاسلام من الإسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم [4].
ويقول عنهم ابن كثير رحمه الله: وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم. وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقلّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية وتغلب الافرنج على سواحل الشام بكامله حتى أخذوا القدس وغيرها.. وقتلوا من المسلمين خلقا وأمما لا يحصيهم إلا الله (2).
فإذا كانت بدعة المولد وأمثالها من البدع من ترويج هؤلاء الضالين المضلين فأي خير يرتجى في هذه البدع.. وكيف ساغ للمسلمين أن يتشبثوا بها إلى زماننا هذا ، زمان العلم والمعرفة والوعي بتاريخ الأمة سلفاً وخلفاً.
ومن هذه البدع بدعة القيام ليلة النصف من شعبان وتخصيصها بعبادات وأذكار وأدعية لم ترى في الشرع المطهر ولم تؤثر عن النبي ولا صحابته الغر.
ومن هذه البدع بدعة الرجبية الذين يعظمون أياماً أو ليالي من شهر رجب. ولاسيما ليلة السابع والعشرين منه إذ يزعمون أن ليلة الاسراء وقعت فيه ولم يثبت ذلك بالنقل الصحيح، ولو ثبت لكم يكن مسوغاً لتعظيم الليلة أو غيرها من ليالي رجب ، وهناك من يعتقد أفضلية بعضهم على شهر رمضان..و هكذا تفعل البدع أصحابها.
وكذلك يصرف الشيطان الجهلة عن الفاضل إلى المفضول ، وصدق من قال: لا تعمل بدعة إلا أبطلت سنة.
ومن البدع ما يتكرر في اليوم أكثر من مرة كبدعة النية في الصلاة حيث أراد الدخول فيها فيقول: اللهم إني نويت أن أصلي كذا وكذا من الركعات لصلاة كذا، فيسميها.
أين؟ ومن قال ذلك من الصالحين والائمة المهدين؟ هذا من ناحية النقل.
أما العقل فيسوغ أن تعلم أن الذي يعلم السر وأخفى يعلم أنك تصلي له كذا وكذا؟ إنها بدع متوارثة حري بالمسلم أن يسأل عن أصلها وحكمها.. وقمن به أن يقلع عنها إذا تيقن له الخطأ في فعلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [5] [القصص:50].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
[1] الاعتصام 2/35 عن الولاء والبراء للقحطانى /143
[2] شرح السنة 1/216
[3] الولاء والبراء بتصرف /305
[4] الفتاوى 28 /636
(2) البداية والنهاية 12 / 84.
( [5] ) القصص /50
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل في محكم التنزيل أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء وأشهد أن لا إله إلا الله وفق من شاء لاتباع الملة والسنة ،وأبعد من أبى إلا المخالفة والابتداع أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه.. وهو القائل ((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله وقد أمرتكم به، وما تركت شيئاً يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه)) اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
إخوة الإسلام: ويرد السؤال وما هي مفاسد البدعة لاسيما وأصحابها يزعمون أنهم يتقربون بها إلى الله زلفى؟
وللبدع مفاسد كثيرة: ومن أول هذه المفاسد: أن أصحابها يتهمون شريعة الله بالنقص، إذ يصرون على قربات لم يأذن بها الله، ولم تثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما عبدوا الله. بمستحسنات العقول، وفي ذلك قدح في كمال هذا الدين، وكأن أولئك يستدركون علىالشريعة.
ومنها أن أصحاب البدع يزهدون في السنن الثابتة، وتفتر عزائمهم عن العمل بها، وينشطون في البدع، فتراهم ينفقون أموالهم وينصبون أبدانهم، ويضيعون أوقاتهم في إحياء البدع، وربما وجدوا خفة ونشاطًا لما يشعرون به من موافقة الهوى، ولو كان الجهد على غير هدى النبي.
ولو كان ينفع أصحابه لاتنفع به الرهبان الذين كانوا ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير هدى، فقال في هؤلاء وأمثالهم وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نار حامية [الغاشية:2-4].
وتأمل قوله تعالى قل هل ننبأكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف:103-104].
ومن مفاسد البدع أنها للفرقة والخلاف، فتحيا شعارات الجاهلية وتنطمس أنوار الإسلام، إذ يحس كل فريق أن ما هو ،فتنشأ الإحن والعداوات بين المسلمين، ولو اعتصموا بحبل الله واستمسكوا بشريعته المنزلة الجامعة لكان فيها أمان من الفرقة والخلاف.
قال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناُ (5) [آل عمران:53].
ولا يقف الامر عند الفرقة والخلاف مع ما فيها من شر وبلاء، بل يحتدم الجدل ويروج سوق المراء بين المسلمين، وتحصل الخصومة في الدين، ويضيع بها جزء من وقت المسلمين دون فائدة، قال قتادة رحمه الله – في قوله تعالى: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات [آل عمران:105]. قال أهل البدع. وتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه إذ يقول: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) (7).
ومن مفاسد البدع أنها تفسد الدين الصحيح، حتى يظن من لا يعرف حقيقة الإسلام أنه مجموعة من الخرافات والطقوس الفارغة، فينصرف عنه من يريد الدخول فيه، وهذا ما يريده ويخطط له الكافرون والمنافقون حتى يصدوا المسلمين عن الدين الحق ويشغلوهم بترهات باطلة وعقائد محرفة وبدع فاسدة.
وهل يستطيع أرباب البدع مقاومة الباطل والمبطلين، وهم في الباطل واقعون؟ وهل يستطيعون محاربة الشيطان وصده وهم له متبعون؟
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية يقول له: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون فيما لم تجرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف،و في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعميق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، وهم على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلموا بما يكفي، ووصفوا بما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، ولقد قصر منهم قوم فجفوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم في ذلك لعلى هدى مستقيم" (1).
معاشر الاخوة: كلمات تكتب بماء الذهب لمن عقل وتدبر ووعى، على أن دور السلف الصالح لم يقف عند الحدود والتحذير المجرد للبدع، فقد أخرج الدرامي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعرى قال لابن مسعود رضي الله عنهما: إنى رأيت في المجلس قوم ينتظرون الصلاة قد تحلقوا حلقات، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، هللوا مائة، فيهللون مائة، سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيء انتظار رأيك أو انتظار أمرك.
قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسانتهم شىْ، ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذى أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد.
قال: فعدوا سيئاتكم، لأنا ضامن أن لا يضيع من حسانتكم شىء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم. هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذا ثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا أبواب ضلالة؟ قالوا :والله يا أبا عبد الرحمن ماأردنا إلا الخير. قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه (2).
هذه كلمات واضحة صريحة تكتب بماء الذهب لمن عقل ووعى، وهي نهي مبكر عن الابتداع في الدين، وهى تحذيرات من جيل الصحابة والتابعين، وليست نظرات وهابية كما تخيل للجاهلين وأصحاب الاهواء المبتدعين.
وتأمل أخي المسلم كيف يدخل الشيطان على الإنسان من باب القربة والطاعة حتى يبعده عن السنة والجماعة، ويرحم الله الإمام الشافعي وهو القائل: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الهوى.
وقيل لسفيان بن عيينة رحمه الله: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيت قوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم [البقرة:93].
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الاهواء، لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون (1).
فاتقوا الله معاشر المسلمين، وإياكم والبدع واتباع الهوى وعليكم بالاتباع والسنة..
واعلموا أن قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم (2).
رزقنى الله وإياكم العالم النافع والعمل الصالح، وسددنا في الأقوال والأفعال، وجنبنا الأهواء والبدع ومقالات السوء.
(5) الخطب المنيرة للشيخ صالح الفوزان 1/72
(7) حديث حسن أخرجة أحمد والترمذى وغيرهما صحيح الجامع 5/146
(1) صالح الحميد المجموعة الثانية لخطبة : 1112
(2) خطب الشيخ صالح الحميد المحموعة الثانية /13 – 14 وانظر خطب الشيخ الفوزان 73 من اختلاف في الرواية
(1) الولاء والبراء، القحطاني / 312
(2) شرح السنة 1/171
(1/1121)
المحاسبة وقصر الأمل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
سليمان بن حمد العودة
بريدة
15/1/1412
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تمثيل رسول الله للأجل والأمل. 2- التحذير من طول الأمل. 3- قصر الأمل لا يعني
السلبية والسكون. 4- دعوة لإخلاص العمل لله. 5- أول من تسعر بهم النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله يا معشر المسلمين، وقوموا بأمره، واجتنبوا نواهيه.
إخوة الإيمان: إن اللحظات التى يقف المرء فيها متأملا متفكراً لهي من أسعد اللحظات وأنفعها ذا أوتي الإنسان عقلا حصيفا ومنطقاً سليماً.. ذلكم أن الإنسان في هذه الحياة أشبه بسائر فوق ظهر سفينة، تمخر به عباب البحر، فهو إن لم ينتبه لمسيرتها، ويتجنب أسباب عطبها، ويحذر الصوارف التى يمكن أن تصرفها عن طريقها، فلا شك أن مصيرها إلى الغرق، ومصيره هو إلى الهلاك.
وأينا الذي لا يصدق بالموت، بل أينا الذي يستبعد نزوله في أي لحظة؟ لقد للحقيقة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((غرز عوداً بين يديه، وآخر إلى جنبه وآخر بعد، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان، وهذا الأجل – أراه قال – وهذا الأمل فيتعاطى الأمل، ويختلجه الأجل دون الأمل [1] )).
ولقد عقل الصحابة والسلف الصالح من بعدهم – رضي الله عنهم أجمعين – هذه المعاني، وقدروها حق قدرها، فسارت حياتهم العملية وفق هذه الموازين والقيم، وحذروا من بعدهم من الاغترار والغفلة.
قال علي رضي الله عنه: إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق.
وقال عون: كم من مستقبل يوم لا يستكمله، ومنتظر غداً لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره [2].
أيها المسلمون: لا يعني التأمل في قصر الأمل، السكون والاستسلام أو الكسل والإحجام، بل إن ذلك ينبغي أن يدفع إلى العمل والجدية وحث الخطى.. لكن أي عمل.. وأي جدية.. هل في جمع حطام الدنيا الفاني؟ لا.. فالدنيا لا تستحق هذا الجهد وهذا العناء0.. ويكفي الإنسان ما يسد رمقه، ويكسو جسده، ويغنيه عن الآخرين.. وإنما عمل الصالحات هو الميدان الذي ينبغي أن تشمر له سواعد الجد، ويتسابق فيه المتسابقون.. وكلما طال العمر وإزداد العمل الصالح دل على توفيق الله للعبد، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي الناس خير؟ فقال: من طال عمره وحسن عمله، قيل: وأي الناس شر؟ قال: من طال عمره وساء عمله)) [3].
وهل علمت يا أخا الإيمان أن العبد ربما بلغه الله منازل الشهداء، وربما زاد عليها – بسبب كثرة عبادته وطول عمره – حتى وإن مات على فراشه، وإليك ما يؤكد ذلك من مشكاة النبوة، فعن عبيد بن خالد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قلتم؟ قالوا: دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين صلاته بعد صلاته وعمله؟ أو قال: صيامه بعد صيامه، لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض [4] )).
أرأيتم فضل الله وعظيم أجر الصالحات، وقد ورد في بعض روايات الحديث أن الفرق بين وفاتهما جمعة أو نحوها.. ألا فيعد العاملون، وليستيقظ النائمون، وينتبه الغافون.
وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو القائل: ((إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله، فقيل: وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت [5] )).
اللهم وفقنا لعمل صالح ترضاه عنا واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقاك.
أيها الإخوة: لابد من تدقيق العمل وتجويده، ولابد من إخلاص العمل وتصويبه، فالله طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن أشرك مع الله غيره تركه الله وشركه، وأحبط عمله، فانتهوا – رحمني الله وإياكم ووفقنا – للإخلاص، فهو أساس قبول العمل أو رده.
وما أحوجنا جميعاً إلى أن نتذكر فصة شفي الأصبحي – رحمه الله – مع أبى هريرة رضي الله عنه، ((فقد دخل شفي المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت، وخلا قلت له: أسألك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، أحدثك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، فمكثنا قليلاً، ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثاً رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ثم أفاق، ومسح وجهه، وقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته طويلاً، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله: أن الله تعالى إذا كان يوم القيامة، ينزل إلى العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلي يارب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فيقول له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يارب، قال: فماذا عملت فيما آتيك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، فيقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد وقد قيل ذلك.
ويؤتى بالذى قتل في سبيل الله فيقول الله له: فيماذا قلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جرئ، فقد قيل ذلك.
ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)).
وقصة شفي لا تنتهى عند هذا الحد فهو يعقل هذا الحديث، ثم يدخل على معاوية رضى الله عنه في خلافته، فيخبره بهذا الحديث العظيم ويبكيه، ويقول معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا؟ كيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديداً حتى ظن أنه هالك، وقال من حوله: قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله [6] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود :15-16].
هكذا فهم الصحابة ومن بعدهم هذا الحديث، وتأثروا به، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل وجنبنا الرياء والسمعة والزلل.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم لسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أحمد وغيره بإسناد حسن ( شرح السنة 14 / 285) وفي حديث آخر يقرب لنا الصورة : ((هذا بن آدم وهذا آجله، ووضع يده عند فقاه، ثم بسط فقال : وثم أمله)). رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. (السابق 14/ 285، 286).
[2] شرح السنة 14 / 286.
[3] الحديث رجاله ثقات، شرح السنة 14/287.
[4] الحديث رواه أحمد، وأبو داوود، والنسائى، وإسناده حسن (السابق) 14 / 288، 289.
[5] رواه احمد والترمذى وسنده صحيح 14 / 290
[6] رواه الترمذي بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2 / 281 – 283.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الموفق من شاء لطاعته، والمكرم من شاء بدخول جنته، أحمده وأشكره، وهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، ورضي عنه أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: كل الناس يغدو ويروح في هذا الحياة، لكن هناك من يعتق نفسه، وهناك من يوبقها، وكل الناس يسعون إلى الجنة، ويفرون من النار، لكن بعض الناس ربما خردل نفسه فيها، ورب بعض الناس يجر إلى الجنة بسلاسل، ولكن ليعلم أن سلعة الله غالية، وهي تحتاج إلى صبر ومصابرة، وتقوى ومراقبة، وذلك يسير على من يسره الله عليه، ولا شك هي صعبة على من اتبع الشهوات ووقع في الشبهات.
وإذا كانت الجنة قد حفت بالمكاره، فإن النار قد حفت بالشهوات، وتأملوا معاشر المسلمين في هذا الحديث الذي أخرجه أهل السنن وغيرهم بإسناد حسن، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دعا الله جبريل، فأرسله إلى الجنة، فقال: أنظر إليها وما أعددت لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لايسمع بها أحد إلا دخلها، فقال: فحجبت بالمكاره، فقال له: ارجع فانظر إليها، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ثم أرسله إلى النار، فقال اذهب إليها، وانظر ما أعددت لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها، فحجبت بالشهوات، ثم قال: عد إليها فانظر، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحد)).
(1/1122)
بين همي الدنيا والآخرة
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
سليمان بن حمد العودة
بريدة
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغنى عنى النفس. 2- المال فتنة وابتلاء هلك به البعض وأفاد منه آخرون. 3- حب المال
جبلة بشرية يهذبها الإيمان. 4- كيفية الخلوص من عبودية المال والدنيا. 5- منزلة الفقراء
والمساكن يوم القيامة. 6- تقديم هم الآخرة على الدنيا وهمومها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين فتلك وصية الله للأولين والآخرين: ولله ما في السموات ومافي الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء:131].
وبنظرة متأملة في كلمات هذا الحديث الشريف يتبين أولا أن الغنى ليس عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث آخر.
ويشهد الواقع أن عددا من الناس يملكون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، ومع ذلك يعيشون النكد في حياتهم ولا يشعرون بلذة المال، ولا راحة البدن، كدحا وتفكيرا، وهموما، ومشاجرة وخصومة، ومنعا وحرمانا للفقراء والمساكين، والأصحاب والأقربين.
ويهدي الحديث ثانيا إلى أن الآخرة هي الأصل في تفكير الإنسان، وهي التي ينبغي أن تستحوذ على تفكير الإنسان بسبب الانشغال بما ما كتب الله له من نصيبه في الحياة الدنيا.
وفي مقابل ذلك فإن كثرة التفكير في الدنيا لا يدعو إلى الغنى ولا يسلم صاحبها من تشتت الشمل، بل هو طريق إلى الفقر، إذ ليس يأتى للمرء من الدنيا إلا ما قدر الله له وقضى.
وعلينا – إخوة الإسلام – ونحن نعي هذا الحديث جيدا أن نعي معه الحديث الآخر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)) (1).
والله تعالى يمتحن الناس بهذا المال، كما يمتحنهم بالأزواج والأولاد، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [التغابن14-15].
فمن الناس من يتخذ المال وسيلة للكبر والبطر، أو الشح والبخل، أو للغفلة عن ذكر الله والطغيان على عبودية لله رب العالمين. قال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى [العلق:6-8].
قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون [القصص:78].
ومن الناس من يسعده المال، ويسعد هو بالمال، فهو يعرف لله فيه حقا، ينفق منه ذات اليمين، وذات الشمال، يأخذه من حله، ويصرفه في مصارفه الشرعية، لا يلهيه عن ذكر الله، ولا يطغيه ولا يدعوه لازدراء خلق الله، أولئك في أموالهم حق للسائل والمحروم، وأولئك من أهل الإيمان والتقى كما قال تبارك وتعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات:15-19]
إخوة الإيمان: وليس يخفى أن أودية الدنيا سحيقة، وشعابها كثيرة متفرقة، والخلاص من فتنتها والسمو عن زخرفها والنجاة من غرورها يحتاج إلى مجاهدة للنفس، واستعانة بالعلى الأعلى، فحب الدنيا مغروس في النفوس، وتحبون المال حباً جماً [الفجر:20].
وكلما زاد المال أو تقدم بالإنسان السن زاد ولعه وتعلقه بالدنيا، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال (2) )).
عباد الله: وإذا كانت تلك حقائق يشهد الواقع بها ويؤكدها القرآن والسنة، فما سبيل الخلاص من فتنة الدنيا المهلكة؟
إن أول طريق للخلاص هو التفكير المستمر في الآخرة، وإعطاؤها ما تستحق من الجهد والوقت والتفكير، ففي القلب استعداد للانصراف للآخرة، كما فيه استعداد للانصراف للدنيا، وحين تزاحم إحداهما الأخرى، فسيكون نصيب المغلوب ضئيلا، سواء كان ذلك للآخرة أم الدنيا، وليختر العاقل ما شاء بين متاع الغرور وبين النعيم الدائم والحبور.
وثمة أمر آخر يعين على الخلاص من فتنة الدنيا، ألا وهو القناعة بما رزق الله والكفاف بالعيش، وفى الحديث الصحيح: ((طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع (3) )).
والإسلام يصحح المفهوم الخاطئ في الغنى، ويعتبر الأمن، والعافية والقوت القليل تعدل الدنيا بأسرها، فعن عبيد الله بن محصن الخطمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)) (4).
ذلك يعدل النظرة السائدة.. ويطامن من كبرياء النفوس نحو التعلق بالمال، وجمع الحطام، ويدعو إلى القناعة والرضى والعفاف، بل هو سبيل إلى عدم التشاغل والتلهي الزائد بالدنيا، كما قال تعالى: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر [التكاثر:1-2].
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت (2) )).
أيها المسلمون، ومما يعين على الخلاص من فتنة المال، أن يعلم الناس أن المسكنة ليست عيبا، فهذا صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: ((اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة (3) )).
ويسري عن الفقراء وهو يخبر أنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء فيقول: ((يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام (4) )).
وفي رواية: ((يدخل فقراء المسلمين قبل أغنيائهم بأربعين خريفا (5) )).
إخوة الإيمان: وتاملوا هذا العلاج النبوي للخلاص من هموم الدنيا، يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لكل محتاج ويقول: ((من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل (6) )).
إنه التوكل الحق على الله، والاستغناء به وحده عما سواه، وسؤال الله وحده والالتجاء إليه لكشف الكربه، وإزالة الغمة، والله هوالغني الحميد، وهو أكرم الأكرمين، ومن رفع يديه إليه سائلا لا يمكن أن تعود إليه صفر اليدين، إنها دعوة للتعفف عما في أيدى الناس، وهي تحذير عن المسألة إلا في حدود المأذون بها شرعا، فأين الواثقون بالله يسد فاقتهم، أين المستيعنون بالله وحده يقضي حوائجهم؟!
أيها المسلمون: إن فضل الله الواسع، ورحمته تنال في الدنيا والآخرة لمن وفقه الله، وهمة المرء ينبغي ألا تكون قصرا على الدنيا.
فالله تعالى يقول: من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً النساء:24].
والمعنى: يامن ليس همه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والاخرة، كما قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب [البقرة:200-202].
قال ابن كثير: وزعم ابن جرير أن المعنى في قوله: من كان يريد ثواب الدنيا أي من المنافقين الذين اظهروا الإيمان لذلك فعند الله ثواب الدنيا أي ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين، وقوله والآخرة أي وعند الله ثواب الآخرة، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم.
قال ابن كثير: ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسير الآية الأولى بهذا ففيه نظر، فإن قوله: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ظاهر في حضور الخير في الدنيا والاخرة.. فلا تقتصرن يا قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همتك سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة (3).
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
نفعني الله واياكم بهدي كتابه..
(1) حديث صحيح رواه الترمذي ، صحيح سنن الترمذي 2/73.
(2) حديث صحيح رواه الترمذي وابن ماجه ، صحيح سنن الترمذي 2 / 273.
(3) صحيح سنن الترمذي 2/275.
(4) صحيح سنن الترمذي 2/274.
(2) رواه مسلم انظر : مختصر مسلم للمنذرى ص 580 ح 2178.
(3) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/275
(4) رواه الترمذي ، وقال حسن صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/276.
(5) صحيح سنن الترمذي 2/275.
(6) رواه الترمذي وابو داود بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/270 ، 271.
(3) تفسير ابن كثير 2/384.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى على مزيد نعمه، وعظيم إحسانه، وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون: أيتها الأخوات المؤمنات، وإذا أردتم أن تزدادوا معرفة في قيمة الدنيا وحقارتها وهوانها، وعظيم قدر الآخرة، واستحقاقها للسعي وبذل الجهد، فتأملوا في عيش خيار الخلق، وصفوة الأمة وخير القرون.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما تقول عائشة رضي الله عنها – ((ماشبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض (1) )).
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير (2) )).
وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: ((أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي؟ يعنى الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نثريه فنعجنه (3) )).
والخبز الحواري: ((هو الذي نخل مرة بعد أخرى)) (4).
وليس يخفى أنه عليه الصلاة السلام ربما ربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وهو الذي لو شاء سأل الله أن تتحول له الجبال، يقول سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: ((إنى لأول رجل أهراق دما في سبيل الله وإني لأول رجل رمى في سبيل الله، ولقد رأيتنى أغزو في العصابة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما نأكل إلا ورق الشجر، والحبلة حتى أن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير (1) )).
وعن فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رسول الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: ((ولو تعلمون ما لكم عند الله لأحبتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)) قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فسيحدث عن نفسه ويقول: وقد رؤى عليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما ثم قال: بخ بخ يتمخط أبو هريرة في الكتان؟ لقد رأيتنى أخر بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مغشيا علي، فيجيىء الجائي فيضع رجله على عنقي ير ى أن بي الجنون، وما بي الجنون، وما هو إلا الجوع (3)
إخوة الإيمان: وما ضر هؤلاء حالهم، ولا انتقض الفقر من أقدارهم، إذا كنت اسلفت أن هناك أغنياء تضيق عليهم الدنيا مع سعتها، ولا يجدون من العيش إلا ما به يقتاتون.. لكنهم يملكون رصيدا من الإيمان بالله، به يهتدون، ويملكون الرضا والقناعة والزهد في الدنيا ما به عن الخلق يستغنون، وهؤلاء وأولئك يؤكدون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)) – كما سبق الحديث -.
وبعد أيها المسلمون: فهذه الدنيا وقدرها، وتلك نماذج من فهم العارفين بها.. اتستحق الاهتمام إلى درجة ينسى فيها المرء الواجبات المتحتمات، أو يتهاون في سبيلها بالكبائر والمحرمات؟
أيها المسلمون: إذا كان هذا طرفا من الحديث عن الفقراء الشاكرين، ومن عوامل الزهد والقناعة في الدنيا دون الدين، فثمة حديث آخر عن الأغنياء الشاكرين، وعن الموسرين الباذلين، أرجىء الحديث عنه لخطبة لاحقة بإذن الله.
(1) صحيحى سنن الترمذي 2/276
(2) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن ، صحيح سنن الترمذي 2/276.
(3) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح ، صحيح سنن التزمذى 2/277.
(4) النهاية في غريب الحديث 1/458
(1) رواه الترمذي بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/277
(2) رواه الترمذي وغيره بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/278.
(3) الحديث رواه البخارى وغيره ، انظر الصحيح مع الفتح 13/303 ، وصحيح سنن الترمذي 2/277.
(1/1123)
قيمة العلم وُأمّية المتعلمين
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
سليمان بن حمد العودة
بريدة
25/1/1416
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على طلب العلم
2- ضرورة توجيه العلم بحيث يدل على حقائق الدين وأصوله
2- نماذج من العلوم الكونية المختلفة تدل على الله عز وجل
4- حاضر التعليم يحاصر الدين واللغة
5- معاذ بن جبل فقيه الصحابة ونبذة عن علمه وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول إذا قعد: ((إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن زرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكن زارع مثلما زرع، ولا يسبق بطئ بخطوة، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطي خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شراً فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة)).
إخوة الإسلام: وبصورة مصغرة – ومع الفارق – نتذكر هذه الأيام قيمة الجد والاجتهاد، ويدلف الطلبة والطالبات إلى قاعات الامتحانات، وسعيهم شتى، وهمّهم متفاوتة، وحصيلتهم متباينة، وطموحاتهم مختلفة، غاية بعضهم أن يفرغ هذه المادة من ذهنه، وأن يتجاوزها بنجاح، ولو لم يبق لها أي رصيد في معارفه، أو يستفيد منها في حياته، ويراها آخرون فواتح في حياته، تفتح أمام ناظريه مجالات العلم رحبة واسعة، وتهذب من سلوكه، وتعزز تجاربه، وتطلعه على شئ من واقع أمته في الماضي، وتترك له المقارنة بالحاضر.
إن المناهج الدراسية – في عالمنا الإسلامي – يجب أن تكون مدرسة يتعلم فيها الدارس ما ينفعه في دينه، ويصلح له دنياه، ولا قيمة للعلم إذا لم يهد للإيمان، وإذا حارت العقول في تفسير عظمة هذا الكون فعقل المسلم قادر على الإجابة والبيان، أجل إن عدداً من العلوم غير الموجهة، وكما من العلماء والباحثين يزيد عجائبنا ولا يحلها، فهذا الفلكي – مثلاً – بعلمه، ودقته، وحسابه، ورصده، وآلته، ماذا صنع؟
أبان لنا بأن ملايين النجوم في السماء، بالقوة المركزية بقيت في أماكنها، أو أتمت دورتها، كما أن قوة الجاذبية حفظت توازنها، ومنعت تصادمها، كما أبان الفلكيون عن حجم الشمس والنجوم وسرعتها وبعدها عن الأرض، يزيدنا عجباً، ولكن ما الجاذبية؟ وكيف وجدت؟ وما القوة المركزية؟ وكيف نشأت؟ وهذا النظام الدقيق العجيب كيف وجد؟ أسئلة تخلى عنها الفلكي لما عجز عن حلها.
وأبان الجيولوجي لنا من قراءة الصخور كم من ملايين السنين قضتها الأرض حتى بردت.. وكيف غمرت بالماء؟ وكيف ظهر السطح؟ وأسباب البراكين المدمرة، والزلازال المهلكة.. وكذلك فعل علماء الحياة في حياة الحيوان، وعلماء النفس في نفس الإنسان، ولكن هل شرحوا إلا الظاهر، وهل زادونا إلاعجباً، وسلوهم السؤال العميق المعبر، والذي يتطلبه العقل دائماً، وهو: من مؤلف هذا الكتاب المملوء بالعجائب التى شرحتم بعضها، وعجزتم عن أكثرها، أتأليف ولا مؤلف! ونظام ولا منظم، وإبداع ولا مبدع؟ من أنشأ في هذا العالم حياة وجعلها تدب فيه؟ إنه الله تبارك الله أحسن الخالقين، وكذلك يقود العلم إلى الإيمان.
ولقد شهد العلماء من غير المسلمين بالتقاء العلم والإيمان، واعترف المتأخرون منهم بقيمة الدين وأثر الإيمان في الحياة، والفضل ما شهدت به الأعداء.
وانظروا مقولة (كارينجي) حين يقول: (أني لأذكر تلك الأيام التى لم يكن للناس فيها حديث سوى التنافر بين العلم والدين، ولكن هذا الجدال انتهى إلى غير رجعة، فإن أحدث العلوم وهو الطب النفسي يبشر بمبادئ الدين، لماذا؟ لأن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي، والاستمساك بالدين، والصلاة كفيلة بأن تقهر القلق والمخاوف والتوتر العصبي، وأن تشفي أكثر الأمراض التى نشكوها).
ويقول الدكتور (بريل) ويعلنها صريحة: (إن المرء المتدين حقا لا يعاني مرضا نفسيا قط).
ويؤكد ذلك كذلك (وليم جيمس) حين يقول: (إن أمواج المحيط المصطخبة المتقلبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق، ولا تقلق أمنه، وكذلك المرء الذي عمق إيمانه بالله خليق بألا تعكر طمأنينته التقلبات السطحية المؤقتة، فالرجل المتدين حقا عصي على القلق، محتفظ أبداً باتزانه، مستعد دائماً، لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف [1] ).
إن في ذلك لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أجل لقد عادت سلاطين العلم تعترف بالدين، وتقر بالعظمة لرب العالمين، وهم يحسبون أنفسهم من كبار المثقفين !.
أيها الإخوة المؤمنون: ولا شك أن الجهل شر وبلاء، وأن الأمية ضياع وجفاء، ولكن علم المنحرفين وأمية المتعلمين أشد وأنكى، ومصيبة أن تتحول المناهج الدراسية إلى نوع من المعرفة الآلية البادرة، وأن يبقى هذا الكم من المعلومات رصيداً للثقافة العامة لا علاقة له بواقع الحياة، ولا صلة له كما ينبغي بتوجيه سلوك الفرد والإجابة عن كثير من تساؤلاته، وترى المتعلم مثلاً يقرأ قيمة الصلاة في الإسلام، ويعلم سننها وواجباتها وأركانها، ولكنه في واقعه العملي من المقصرين في المحافظة عليها، أو من المخلين في أحكامها، وربما احتاج وهو المتعلم إلى استفتاء العارفين المحافظين، وإن كانوا دونه في التعليم، وتراه يقرأ معنى التوحيد الحق، ويقف على أنواع الشرك في المنهج، ثم تجده، في حياته أو حياة أسرته المحيطه به، مخلاً بما قرأ، جاهلاً لما تعلم.
فربما ذهب للسحرة والمشعوذين، وربما ذبح واستغاث، أو استعان، أو نذر لغير الله، وليس أقل خطراً من استهزأ بشيء من أمور الدين، ولربما استحيا من نفسه إن عاتبه على خطئه من لا يجيد القراءة ولا الكتابة أصلاً، لأنه كما يزعم: عارف بأحكام العقيدة والدين .
وترى فئة ثالثة تعي وتدرك الثقافة الإسلامية الأصلية وهم في واقعهم العملي من دعاة التغريب.
ورابعة ترى وتسمي التراث رجعية والبلاء أنهم يزعمون أنهم من المسلمين، ثم هم كلفون بالدعوة للحداثة، مغرمون بالكفار الساقطين. ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور [النور:40]. هذه ضروب من أمية المتعلمين وانحراف المثقفين.
إخوة الإسلام: ويبقى للمناهج الدراسية قيمتها وأثرها في تنشئة أبناء المسلمين، فالتعليم فيها منذ الصغر، والدراسة فيها للذكر والأنثى، وإنما أصيبت أجيال المسلمين – أخيراً – بالخواء الروحي، والشذوذ السلوكي يوم أن طورت المناهج – في زعم المطورين – فزوحمت لغة القرآن، وقلصت مواد التربية الإسلامية أو فرغت من بعض محتوياتها المهمة، وقطعت صلة الدارسين بتاريخ الإسلام وبطولات المسملين، فتخرجت هذا الأجيال وهي لا تعلم من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وويل لمن خان أمته، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أيها المعلمون: أيها المربون: وليس الامتحان للطلاب وحدهم، بل أنتم في نهاية الفصل ممتحنون ومسؤولون، فإن قلتم أنكم اعتدتم أن تمتحِنوا ولا تُمتحنوا، وتسألوا ولا تُسألوا، فدونكم هذه الأسئلة، وخليق بكم أن تعدوا للسؤال جواباً:
فما هي القيم التربوية التى عنيتم بها وأوصلتموها للطلاب؟ وكم من المبادئ الإسلامية غرستموها في الناشئة ودعوتم إليها، وكم رذيلة حذرتموهم منها؟ وكم سلوك معوج نقدتموه، وكم ثقافة أصيلة رسختموها، وكم فكر منحرف حذرتم منه؟ أي ذكرى أبقيتم في ذهن الطلاب؟ وهل لا زمتكم مسؤولية المربى طوال الفصل، وما نوع الثمار التي جنيتم في نهاية الفصل؟.
تلكم وغيرها كثير من الأسئلة المهمة ينبغي أن يمتحن المربي نفسه فيها، فإن قلتم هذه أسئلة مفاجئة، وذلك امتحان جديد، ومعذرة إن لم نعد لبعض الأسئلة إجابة، فهلا عرضتم هذه الأسئلة وغيرها على أنفسكم مع مطلع العام القادم بإذن الله، ذاك هو المرجى والمؤمل منكم فالأمانة عظيمة، والمسؤولية جسيمة، والامتحان مشترك ولارسوب، والفشل – لا قدر الله – ليس حاصلاً بالطلبة وحدهم فأنتم شركاء لهم، واختاروا لأنفسكم ما تريدون.
ألا وإن من العدل والإنصاف ألا تحمل المدرسة والمعلم وحدهم مسؤولية النجاح أو الفشل، فالأسرة شريكة في المسؤولية، وهذه الامتحانات تكشف عن تفاوت الأسر في الاهتمام بمصلحة الأبناء، فالأسرة التي تهتم بأبنائها وبناتها أيام الامتحانات هي في الغالب مهتمة بهم في بقية الأوقات، والأسر التي لا تهتم بهم في مثل هذه المناسبات، هي لما سواها أضيع في بقية الأوقات.
فلينتبه الغافلون، وليغتبط العاملون، وتبقي بعد ذلك كله دروس هذه الامتحانات حرياً بالتذكير بالامتحان الأكبر، وموجباً للآباء والأمهات، والبنين والبنات، بالاستعداد للعرض على رب العالمين، وهناك في أرض المحشر تبلى السرائر، وتطير القلوب، وتزيغ الأبصار، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
اللهم آمن روعاتنا، وارحم في مقام العرض عليك صغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] انظرفى القنولات د. القرضاوى : الإيمان والحياة / 330 / 359 / 360.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله رب العالمين، أحمده تعالي، وأشكره وأثنى عليه الخير كله، أيها المربون والمتربون، أيها المعلمون والمتعلمون، يبقى السؤال المهم، ما هى حصيلة التربية المنظورة علماً وعملاً، تربية وسلوكاً فهماً جيداً لأحكام الدين، واستظهاراً واعياً لعلوم ومعارف المسلمين، هل نعزو ما فينا من نقص وتقصير للمنهج المقرر؟ أم للمعلم المكلف؟ أم لوسيلة التعليم أم لذات الطالب المتعلم؟ أم للوقت المتاح للتعليم إزاء الأوقات الأخرى التي تصرف لغير التعليم؟ وهل يعزى الضعف المشهود في المتعلمين إلى مؤسسات التعليم في المراحل المبكرة أم للتعليم الجامعي، كل ذلك محل دراسة التربويين، وأساتذة الجامعة المختصين... لكن سأعرض لكم نموذجاً لتربية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم – وهى محل الأسوة والقدوة – وهذا النموذج لا يعد صاحبه فيمن لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة طويلة، بل أسلم في نهاية الفترة المكية، وله ثماني عشرة سنة، وتوفي وهو ابن ثمان وعشرين وقيل ابن اثنتين وثلاثين – وقيل أكثر من ذلك [1].
ومع قصر هذه المدة فقد حاز علماً كثيراً، ونال فضلا عظيما، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام [2] ، وهو محل الثقة والثناء من محمد عليه الصلاة والسلام حين يقول: ((نعم الرجل: أبو بكر، نعم الرجل: عمر، نعم الرجل: معاذ بن جبل [3] )).
ولم يكتم النبي صلى الله عليه وسلم محبته إياه فأخبره بذلك وأوصاه ((يا معاذ إني لأحبك في الله) قلت – والقائل معاذ بن جبل -: وأنا والله يا رسول الله أحبك في الله، قال: (أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة؟ رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عباتك [4] )).
وعلى الرغم من صغر سن معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له [5].
وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال: ((من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل)) ، وحدث ابن مسعود رضي الله عنه فقال: (إن معاذ بن جبل كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يكن من المشركين [6] ).
ومع هذه الخلال كلها ومع هذه الرفعة والمنزلة في الدنيا، فله نصيب وافر من المنزلة في الأخرى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن معاذاً يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوه [7] )).
فإذا كان هذا مقامه بين العلماء فلا تسأل عن مقامة من دونهم؟ ولهذا وصفه أبو نعيم فقال: معاذ بن جبل إمام الفقهاء وكنز العلماء [8]. قال أحد الرواة لأثر ابن مسعود: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (عن الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع، وإن معاذاً رضي الله عنه كان كذلك [9] ).
أجل لقد كان معاذ رضي الله عنه أمة في علمه، وأمة في عمله، كان قارئا للقرآن، قائماً لله في الليل والناس نيام، وفى حواره مع ابى موسى الأشعري رضي الله عنه كما في البخاري وغيره – ما يكشف ذلك – قال معاذ لأبى موسى رضي الله عنهما – حين بعثا لليمن-: ((كيف تقرأ القرآن؟ قال أبو موسى: أقرؤه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائماً وقاعداً، أتفوقه تفوقاً، يعنى شيئاً بعد شئ، ثم قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أما أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. قال الراوي: وكان معاذ فضل على أبي موسى [10] )).
وكان زاهداً ورعاً، وقد لحقه دين فلم يبرح به غرماؤه حتى باع ماله وقسمه بينهم، فقام ولا مال له، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليجبره، وحين قدم من اليمن ومعه رقيق لقى عمر بمكة، ((قال له: ما هؤلاء؟ قال: أهدوا إلي، قال: دفعهم أبو بكر إليه – لمعرفته بحاله – ثم أصبح فرآهم يصلون، قال: لمن تصلون؟ قالوا: لله، قال: فأنتم لله [11] )).
وكان رضي الله عنه واعظاً صادقاً وناصحاً حكيماً، فقد مر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقال: ((أوصوني، فجعلوا يوصونه، وكان معاذ في أخر القوم فقال: أوصني يرحمك الله، قال: قد أوصوك فلم يألوا، وإنى سأجمع لك أمرك: اعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه، ثم يزول معك أينما زلت [12] )).
كما كان رضي الله عنه ملاذاً للناس، شأنه كشأن العالم العامل، يفزعون إليه حين الشدة، فيسليهم، ويعلمهم أزمان وظروف الفتن والمحنة، وحين اشتد الوجع بالمسلمين في طاعون عمواس صرخ الناس إلى معاذ: أدع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، فقال: إنه ليس برجز، ولكن دعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم.
أيها الناس أربع خلال من استطاع ألا تدركه، قالوا: ما هي؟ يأتى زمان يظهر فيه الباطل، ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، ولا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة [13].
أيها الأحبة: كيف خرجت هذه النوعية – وأمثالها كثير – كيف تعلمت، وكيف تربت، ما هى مجالات التربية التى امتازت بها، ونماذجها قمم إيمانية صالحة للقدوة في كل زمان ومكان، وهذه وتلك تستحق أن تكون مجالاً للحديث في خطب لاحقة بإذن الله والله المستعان وعليه التكلان.
[1] سير أعلام النبلاء / 455 ، 260.
[2] أخرجه أحمد وغيره بإسناد صحيح ، السير ، 1 / 446.
[3] أخرجه التزمذي وقال هذا حديث حسن وصححه ابن حبان وغيره ، السابق 1 / 45.
[4] أخرجه أبو داود والانسائى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، 1 / 453.
[5] السابق 1 / 453.
[6] صحيحه الحاكم ووافقه الذهبي وعلق بعضه البخارى 1 / 451.
[7] الرتوة : هى رميه السهم ، وقبل مد البصر.
[8] الإصابة 9 / 220.
[9] السير 1 / 451.
[10] السير 1 / 449 ، والصحيح مع الفتح 8 60 / 62.
[11] أخرجه بن سعد وأبو نعيم والحاكم وصحيحه ووافقه الذهبى ، السير 1 / 554.
[12] أخرجه احمد في الزهد... السير 1 / 455.
[13] رواه بن سعد ، السير 1 / 457.
(1/1124)
كيف تصح القلوب؟
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
سليمان بن حمد العودة
بريدة
15/10/1412
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بطهارة القلب 2- من عوامل إصلاح القلب طيب المطعم والملبس وهجر الحرام
3- القرآن يربط بين بعض أعمال الجوارح وصلاح القلب
4- غض البصر وأثره في إصلاح القلب
5- علاج أمراض القلب بالقرآن فهو يدفع الشبهات ويهذب الشهوات
6- فوائد ذكر الله لقلب المؤمن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه بطهارة القلب وتزكيته من أدرانه فقال تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر.
وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم كما يقول ابن القيم - رحمه الله - على أن المراد بالثياب هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والاخلاق.
ولئن ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية على ظاهرها، وأن المقصود تطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز معها الصلاة، فقد قيل: إن الآية تعم هذا كله وتدل عليه بطريقة التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظاً، فإن المأمور به , إن كان طهارة القلب فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك [1].
ومن هنا تعلم أخي المسلم أن أول شيء من عوامل إصلاح القلب طيب المطعم، وطيب الملبس، وكونهما من حلال، وليس بخاف عليك أن خبيث المكسب تحجب دعوته دون السماء, وهو يقول: يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام وغذى بالحرام، فأنى يستجاب له؟ لذلك كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام: (( اللهم لا تحرمنا فضلك بسبب شح نفوسنا وتجاوزنا الحلال إلى الحرام)).
والبعد عن المحرمات بشكل عام عامل مهم من عوامل صلاح القلوب، وتأمل كيف ربط الله في كتابه العزيز بين طهارة القلب وتزكيته وبين الخلاص والنهى عن عدد من الذنوب، كالنظر والزنا، وهتك عورات المسلمين، قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [النور:30].
وقال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن يزكي من يشاء والله واسع عليم [النور:28]. قال ذلك عقب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل أن التزكي هو باجتناب ذلك.
وقال تعالى: - في آية ثالثة – وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ( [النور:29].
قال ذلك في الاستئذان على أهل البيوت، فإنهم إذا أمروا بالرجوع فامتثلوا ولم يطلعوا على عورة لا يحب صاحب المنزل أن يطلع عليها، كان ذلك من تزكية القلوب، ومن عظمة هذا الدين.
إخوة الايمان: والأصل في ذلك كله غض البصر، وعدم إطلاقه في المحرمات والعورات، وقد قيل:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال العارفون: إن غض البصر يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر:
أحداها: حلاوة الايمان ولذته فإن من ترك شيئاً لله يوجب خيراً منه، ذلكم أن العين رائدة القلب، فإذا أطلق الانسان بصرة في المحرم تعلق قلبه به، فيصير القلب عبداً لمن لا يصلح أن يكون عبداً له، وحينئذ يقع القلب في الأسر ويصبح أسيرا بعد أن كان ملكاً, ومسجوناُ بعد أن كان حراً طليقاً. وتبدأ همومه وشكواه وصبابته وغرامه وعشقه في غير الله، وهكذا يتوزع قلبه وينصرف عما خلق له، وهذا إنما تمتلىء به القلوب الفارغة من حب الله والاخلاص له، إذ القلب لابد له من تعلق، وفرق بين من تعلق بالله فهداه، وبين من تعلق بغير الله فرفضه وأرداه.
الفائدة الثانية لغض البصر للقلب أنه يورثه النور وصحة الفراسة: وقد عقب الله قصة لوط عليه السلام بقوله: ) إن في ذلك لآيات للمتوسمين [الحجر:75] ( وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة.. هذا في فراسة القلب، أما نوره فقد قال تعالى عقب أمره إلى المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم الله نور السموات والأرض [النور:35]. وتفسير هذا كما قال ابن القيم - رحمه الله - أن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عن المحرمات أطلق الله بصيرته وقلبه، فرأى به مالم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله.
أما الفائدة الثالثة من فوائد غض البصر للقلب فهي أنها تورثه كذلك قوة وثباتاً وشجاعة , وقد قيل في الأثر: إن الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله. أما المتبع لهواه والمطلق عنان شهواته فيوجد عنده من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه, وقد قضى الله بالعزة لمن أطاعه وأتقاه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [المنافقون:8]. وقال تعالى: من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً [فاطر:10].
أخي المسلم مهما طلبت العزة فلن تجدها في غير طاعة الله ومهما طال أمد تجاربك فستعود صفر اليدين من العزة مادمت للمعاصي ملازماً، وللطاعات مقلاً، قال بعض السلف: (الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونها إلا في طاعة الله).
ايها الاخوة ومهما تبلغ عزة أصحاب المعاصى فهي سراب خداع وهي أنس للحظات، ويعقبها هم لعدة ساعات، وقال الحسن: إنهم ولئن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه [2].
أمة الإسلام: ومن أنفع الأدوية لعلاج مرض القلب القرآن الكريم، وقال الله تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور [يونس:75].
وقال تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [الإسراء:82].
وحاصل ذلك أن جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه البينات والبراهين القاطعة ما بين الحق والباطل، فتزول أمراض الشبه المفسده للعلم والتصور والإدراك، وليس تحت السماء كتاب متضمن لبراهين والآيات من التوحيد وإثبات المعاد والنبوات ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن.. فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك.. ولكن ذلك موقوف على فهمه، ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عياناً بقلبه كما يرى الليل والنهار.. وكما يرى الشمس ليس دونها سحاب.
وأما شفاء القرآن من مرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتنديد في الدنيا والترغيب في الآخرة.. فيرغب القلب السليم فتجده محباً للرشد مبغضاً للغي.. وهكذا يعود القلب إلى فطرته التي فطره الله عليها، فلا يقبل إلا الحق، ولا يفعل إلا الخير، وهكذا يزكو القلب ويطيب وتنساق له الجوارح بعمل الصالحات [3].
وباختصار فالقرآن يذهب ما في القلوب من أمراض، من وشك ونفاق وشرك وزيغ، وقيل: ليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه [4].
وفى القرآن الكريم كذلك شفاء للأجسام إذا رقيت به وفيها بلاء كما يدل على ذلك اللديغ الذي رقى بالفاتحة وهي رواية صحيحة ومشهورة [5].
إخوة الايمان: وهذا العلاج القرآني يدعونا إلى المزيد من الاهتمام بكتاب الله وتلاوته وتدبر معانيه، ولن يخيب شخص طلب الدواء مظانه الحقيقة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، فاستجيبوا له واطلبوا الشفاء منه، وتعرضوا لنفحاته وهو تعالى مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء.
قال الله تعالى: ) ياأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنكم إليه تحشرون [الأنفال:24].
أتدرون كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ قال ابن عباس رضى الله عنهما: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر والايمان. وقال السدي: المعنى: لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه [6].
ومن هنا نعلم - معاشر المسلمين - أهمية الدعاء والتضرع لله في إصلاح القلوب واستقامتها على منهج الله, وقد كان خير البرية صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء وخاصة لإصلاح القلب ويقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
وحين سئل عن سر إكثاره من ذلك أجاب بقوله: ((إن القلب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها كيف يشاء)) وفى رواية: ((فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه))، فنسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب [7].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وأقول هذا وأستغفر الله...
[1] إغاثة الهفان 1/76.69
[2] إغاثة اللهفان 1/60.62
[3] أغاثة اللهفان 1/56/85/
[4] تفسير ابن كثير 5/110
[5] خرجها الشيخان في صحيحيهما.
[6] تفسير ابن كثير 3/575
[7] تفسير ابن كثير 3/577
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى وقدر فهدى، وأخرج المرعى وكذلك يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا أله إلا الله بيده مقاليد السموات والأرض، وبيده مفاتيح الهدى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أزكى البشرية نفساً وأطيبهم قلباً، اللهم صل عليه وسلم وعلى إخوانه من الأنبياء وعلى آله، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: ومن الأدوية الناجحة بإذن الله لإصلاح القلوب ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: ألا بذكر الله تطمئن القلوب فبذكر الله تأنس القلوب وتصفو الأرواح, ولكن ذلك هبة من الله يهبها لمن آمن به وتوكل عليه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله [الرعد:28].
ويكفيك أن تعلم أخي المسلم أن الفرق بين الذاكر له والغافل عن ذكره كالفرق بين الحي والميت، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن من أحب شيئا تعلق به وأكثر من ذكره، والذاكرون له هم من أولياء الله والمحبون له، وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وحتى نعلم أن الذكر هبة وتوفيق من الله تأمل في سهولة الذكر، إذ لا يحتاج إلى طهارة، ولا إلى كلفة، وليس له أوقات مخصصة، ويستطيعه الإنسان قائما وقاعدا، مسافراً ومقيماً، صحيحاً أو مريضاً..ومع ذلك يتفاوت الناس فيه، فمنهم من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله، ومنهم من يجد صعوبة في استدامة ذكر الله، وهناك فئة ثالثة تشمئز قلوبها وتنفر حيننا يذكر الله.
والله هؤلاء هم الكافرون الذين قال الله عنهم: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [الزمر:45].
أخي في الله: وأضيف إلى ذكر الله سلامة القلب من الغش والحسد فإن ذلك علامة صحة القلب، ويقود ذلك صاحبه إلى الجنة ونعم المآب، وتأمل كيف اجتمع الأمران لرجل فكانا سبباً في دخوله الجنة في قصة تستحق الوقفة والتأمل.
فقد أخرج الامام أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوءه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الرجل الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.. فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الأولى.. فلما قام تبعه عبد الله عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فقال: انى لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، فعلت؟ قال: نعم قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاُ، غير أنه إذا تعار، أي تنبه من نومه، وتقلب على فراشه ذكر الله حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً.
فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله: إنى لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم، ولكن سمعت رسول الله عليه وسلم يقول ثلاث مرار: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة. وطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوى إليك لآنظر ما عملك فأقتدى به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ ما بك ماقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال عبد الله: لما وليت دعاني فقال: ما هو إلا مارأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي والله التي لا نطيق)).
إخوة الإسلام: تشبهوا بالصالحين واقتدوا بالهداة الراشدين، ولا يلقين الشيطان في روعكم أن تلك أمة خلت، فمن يؤمن بالله يهد قلبه , ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.. والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا.
ثم اعلموا – وفقني الله وإياكم للخير – أنه لن تتم لكم سلامة قلوبكم حتى تسلموا من خمسة أشياء: ومن شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر. وهوى يناقض التجريد والاخلاص [1].
وإذا علمتم فاعلموا كذلك أن خيرَ ماأكثر الناس – كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم – ثلاث: ((قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك)) [2].
وفقني الله وإياكم للخير وعصمنا من الشر، وجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.. وصلوا رحمكم الله على خير نبي.. فقد أمركم الله بذلك.
أخي في الله: وكلنا في قلوبنا مرض، لكن حجم هذا المرض يختلف من شخص لآخر، وكلنا محتاجون إلى تعاطي الأدوية الناجعة لعلاج مرض القلب، فلنسارع إلى العلاج، ولنأخذ بالأسباب، ولا يكن نصيبنا من الخير سماعه، وإنما قدمت لك بعض ما يسمح الوقت به من الادوية، وربما خطر لك علاج آخر أو تفطنت لدواء ناجع فعليك به.
[1] ابن القيم ، الداء والدواء ص 170
[2] صحيح الجامع 4/142
(1/1125)
محاسبة بين امتحانين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
سليمان بن حمد العودة
بريدة
21/7/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث عن الحساب الأكبر يوم القيامة
2- ضرورة محاسبة الإنسان لنفسه
3- الغفلة داء واقع في الناس، ودواؤه اليقظة والتفكر
4- أسباب الغفلة 5- وصف علي بن أبي طالب بين يدي معاوية
6- حال السلف في خوفهم من الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله: معاشر المسلمين، وتذكروا على الدوام ما ينتظركم: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [الحج:1-2].
أيها المسلمون: وتظل مساحة الغفلة عند كثير من المسلمين أكبر من مساحة اليقظة، رغم النوازل والنذر، وكفى بالقرآن واعظاً، وكفى بالقرآن على أعمال العباد حكما.
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم [الأنبياء:1-4].
ولئن تحدث القرآن وأزرى بغفلة الكافرين واستهزائهم، فكيف تسوغ الغفلة عند المسلمين، وهم يؤمنون بقوله تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون [المؤمنون:115].
حاسبوا أنفسكم معاشر المسلمين على الدوام قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأملوا في تتابع الليل والنهار، وتسارع الأيام والشهور والأعوام، واعلموا أن ذلك من أعماركم، وهي فرص للتأمل والنجوى مع أنفسكم، إن لم تذكر بها الأيام والشهور، فما أقل من ضرورة التذكر في انصرام عام ومجيء عام.. فمن أحسن ووفى فيما مضى فليستمر في الحسنى فيما يستقبل، ومن فرط أو سها فالفرصة لا تزال معه إذا ندم على ما مضى وعقد العزم على الجد فيما بقى، وربك أعلم بالمنتهى.
وإذا كانت الغفلة داءً واقعاً، فدواؤها باليقظة والتذكر، وذلك من علامات التقى: إن الذين اتقوا إذ مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [الأعراف:210].
وإذا كان نزغ الشيطان وارداً فالاستعاذة بالله خير عاصم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.[فصلت:36].
والانتفاع بالذكرى – حين تسيطر الغفلة أو يغلب الهوى - من علامات الخشية، ومجافاتها دليل الشقوة فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى [الأعلى:9-12].
وكذلك ينتفع المؤمنون بالذكرى وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذرايات:55].
أيها المؤمنون: ولئن كانت أسباب الغفلة كثيرة فإن من بينها طول الأمل في هذه الحياة الدنيا، فتلك الآفة التي حذرنا القرآن منها: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [الحديد:16].
واتخاذ الدين لهواً ولعباً، وغرور الدنيا.. سبب آخر من أسباب الغفلة في الدنيا، ومورد للهلكة في الأخرى الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [الأعراف:51].
عباد الله: لماذا نكره لقاء الله؟ لأنا لم نقدره حق قدره.. ولماذا نكره الموت؟ لأننا لم نستعد لما بعده.
رحم الله أقواما خافوا فأدلجوا، فعاشوا للآخرة فلم تفتنهم الدنيا.
قدم – يوما – ضرار بن مرة على معاوية، رضي الله عنه، فقال له: صف لي عليا رضي الله عنه، قال: أما إذ لابد، فإنه والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكر، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا، وقربه منا، لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخي الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم - يعني تململ المريض – ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه، وهو يقول: يا دنيا يا دنيا، إليّ تعرضت؟ أم لي تشوقت، هيهات هيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
قال: فذرفت دموع معاوية – رضي الله عنه – فما يملكها، وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء.
ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها [1].
ومع استعدادهم وزهدهم وعدلهم فقد كان خوف الله حتى الممات ملازما لهم.
عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين حضرته الوفاة، قال له المغيرة بن شعبة: هنيئا لك يا أمير المؤمنين الجنة، فقال: (يا ابن أم المغيرة وما يدريك؟ والذي نفسي بيده لو كان لي ما بين المشرق إلى المغرب لافتديت به من هول المطلع [2] ).
كانوا ينظرون إلى الدنيا وما فيها على أنها فيء زائل، وإلى الآخرة على أنها المستودع الباقي، إن خيرا فخير، وإن شر فشر. واسمعوا إلى أحدهم وهو يصف الدارين، يقول شداد بن أوس رضي الله عنه: (إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه، ولن تروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر، ولكل بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا [3] ).
أيها المسلمون: ومن أعظم الأسباب الجالبة لليقظة والمبعدة للغفلة أن يتخيل المرء مشاهد القيامة، وهو بعد في الدنيا، ويتصور منازل الأبرار، وما أعد الله لهم من الحسنى، ومنازل الفجار، وسوء حالهم، وتلك، وربي لا يتمالك المتقون أنفسهم حيالها من البكاء.
عن سوار أبى عبيدة قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء، فعاتبته فقال لي: (يا سوار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي؟ إني إذا ذكرت أهل النار، وما ينزل بهم من عذاب الله تمثلت لي نفسي بهم، وكيف بنفس تعذب، ألا تبكي؟ ويحك يا سوار، ما أقل عناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله قال: فسكت عنه [4] ).
أيها المسلمون: وفي سبيل الله محاسبة أنفسكم هاكم هذه الوصية فاعقلوها، وأنصفوا أنفسكم من خلالها، وتناصحوا بينكم. فعن سفيان بن عيينة رحمه الله قال: كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه فيقول: (يا هذا اتق الله، وإن استطعت ألا تسيء إلى من تحب فافعل، فقال له رجل يوماً: وهل يسيء الإنسان إلى من يحب؟ قال: نعم، نفسك أعز الأنفس عليك، فإذا عصيت فقد أسأت إلى نفسك [5] ).
اللهم إنا نشهدك على محبة هؤلاء، وإن لم نلحق بهم، اللهم اسلك بنا طريقهم، واحشرنا في زمرتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [يونس:7-10].
[1] الإصابة لابن حجر، غذاء الألباب للسفاريني 2/ 554، قل هو نبأ عظيم / 81.
[2] وصايا العلماء للحافظ الربعي ص 47 عن : قل هو نبأ عظيم، الجليل / 80.
[3] سير أعلام النبلاء 2/466 وباختلاف يسير، وهو في الحلية أوفى من هذا 1/264، وانظر : قل هو النبأ العظيم.
[4] صفوة الصفوة 3/327.
[5] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص 88 عن : قل هو نبأ عظيم ص89.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم يكن.
(1/1126)
من أسرار شهر الصيام
فقه
الصوم
سليمان بن حمد العودة
بريدة
11/9/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلاقة بين الصيام والتقوى. 2- الصيام شافع في دخول الجنة. 3- رمضان شهر لتربية
النفس وترويضها على طاعة الله. 4- الحث على تربية الأبناء. 5- رمضان شهر الإنفاق
المواساة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الاسلام: وكم هو عظيم شهر الصيام وكم فيه من حكم واسرار يدرك كل صائم منها بحسب علمه وإيمانه وتعبده لمولاه، ويكفيه أنه باب مشرع لكل طرق الخير، من صيام وصلاة وزكاة وصدقة وذكر ودعاء وتلاوة وجود وإحسان وصبر ويقين واحتساب للأجر العظيم ويكفيه أنه طريق للتقوى، والتقوى جماع الخير وسبيل الفلاح والنجاح.
من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب [الطلاق:2-3].
إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
كم يكسر باعث الشهوة للنفوس عن السمو، وشهر الصيام يحطم كبرياء النفس بكسر باعث الشهوة في قلب المعاصي وهذا كما قال القرطبي رحمه الله وجه مجازي حسن في تاويل معنى قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة:183].
وقيل: لتتقوا المعاصي بالصيام، وقيل: وهو على العموم لأن الصيام كما ورد جنة ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات [1].
أجل إن الصيام جنة يتقى بها الصائم عن المآثم والسيئات والمهلكات المؤدية إلى النار كما يتقى المحارب بجنة حين القتال فيمنعه القتل ويسلمه من العدو باذن الله.
يجسد هذا المعنى رسول الله صلى الله في اكثر من حديث ويقول: ((الصيام جنة إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم – مرتين- [2] )).
وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ((الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)) [3].
وفى الحديث الثالث: ((الصيام جنة، وهو حصن من حصون المؤمن)) [4].
إخوة الاسلام: وفى شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال الأوزار، فيه تطهير للنفوس من الأدران وحماية القلوب من الأدران، وهذه وتلك قد لا يحس بواطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حل شهر رمضان وصاموا مع تفريطهم وأحسوا بانشراح صدورهم وخفة أرواحهم وانفراج في كربتهم وأنس بدل وحشتهم، وذلك بفعل الصيام، وكذلك تتنزل الرحمات في رمضان وغير رمضان.
فبشراكم معاشر المسلمين بشهر الصيام يرتفع فيه المؤمنون درجات وتحط به الأوزار عن أهل السيئات.
ولا يزال الصيام بالمسلم يحوطه ويؤنسه حتى يكون شافعا له لدخول الجنة والنجاة من النار يوم القيامة، وكذلك يفعل القرآن يقول النبي : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ويقول الصيام: أى رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل، فشفعني فيه فيشفعان)) [5].
أيها المسلمون: ويدرك من فقه سر الصيام كم لرمضان من أثر على تريبة النفس وعبودية الجوارح بقية العام، ذلكم لأن شهر رمضان يدرب النفس على كثير من خلال الخير فتحيا المراقبة لله ويشيع الصدق في النفوس لصدقها مع الله في الصيام واجتناب الآثام وتتطبع النفوس بالكرم والجود وهوى الإحسان إلى المحتاجين والبر بالأقربين وتتهذب الأخلاق، فلا تسمع الآذان الحرام، ولا تنطق الألسنة بالفحش والسب ورديء الكلام، وتربى الأعين على عدم استدامة النظر في الحرام.
ذلك كله يهدي العارفين والمدركين لأسباب الصوم أن بامكان المرء أن يغير من واقعه، وإن الفساد والحرام ليسا ضربة لازب له وتتحطم أسطورة الشيطان التى يوسوس بها النفوس حين يوحى لأوليائه بنقل الطاعات وصعوبة ممارسة الخيرات وعدم القدرة من الانفكاك من أسر الشهوات وكذلك ينبغي أن يستثمر العاقل هذه التوبة إلى الله وأن يسارع بتغيير واقعه إلى الأحسن بعد رمضان.
ما أحوج الأمة إلى شهر الصيام يأتي ليحسسها بقيمة الوقت وأهمية ملئه بالطاعات.. والصائم الفطن يقضي سحابة يومه في الذكر والتلاوة والصلاة والتحسر على الوقت الذي يضيع دونما فائدة وكذلك ينبغي أن يكون المسلم حريصا على وقته في رمضان وبعد رمضان وأن يتخذ من حفظ وقته في رمضان وسيلة لحفظ أوقاته على الدوام.
وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة ويوحد الصفوف ويؤلف ويفطر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين ودعوة إلى تآخيهم وتوادهم وشيوع المحبة بينهم إنما المؤمنون إخوة. ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
وهذه الوحدة تقلق الأعداء فتراهم يسعون جاهدين لتفريق صف المسلمين، فهل يفقه المسلمون قيمة وحدتهم ويتداعون لجمع كلمتهم، ذلكم جزء من أسرار شهر الصيام، وما يعقلها إلا العالمون.
أيها الصائمون: وشهر الصيام فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان والتقوى، فحثهم على الصلوات وترغيبهم في الصدقات وتدريبهم على الصيام وتشجيعهم على كثرة الذكر وتلاوة القران وسائر الطاعات، كل ذلك يسير في التربية الواجبة في كل حال، لأن النفوس لديها استعداد في رمضان أكثر من غيره من مواسم البر ومواطن الدعاء وقيام الليل والاستغفار بالأسحار ما قد لا يتوفر مثله في سائر الأزمان.
والأب الناصح هو الذي يستثمر الفرص ويذكر بفضلها، والام الحانية هي التي تشجع على الخير وتآزر الأب في تربية الأبناء، وإذا وقع في أذهان البعض أن الأبوين المثاليين هما من يوفران للأبناء ما يحتاج إليه أبنائهم فذلك غير صحيح، فالأبوة المثالية تتحقق في تربيتهم وحثهم على الخير خاصة في هذه الأيام الفاضلة هو نوع من الغفلة لا تليق، ونتيجته الخسارة لا في الدنيا فحسب بل وفي الدين.
وفانتبهوا لتربية أبنائكم على الدوام خصوصا في هذا الشهر الصيام والقيام بمزيد من العناية والاهتمام، فذلك جزء من واجبكم في وقايتهم من النار قال تعالى: يا أيها الذين ءامنو قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
وفي صلاحهم وتوجيههم نفع لكم في الحياة، وحين ترحلون إلى الدار الأخرى، فابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: الولد الصالح الذي يدعو له، وكم هي مأساة أن ترى الآباء والأمهات في أيام رمضان مع القائمين والراكعين الساجدين.. وأبناؤهم يسرحون ويمرحون، وربما حصلت منهم الأذية للمصلين أو ربما عكفوا وعكفت البنات معهم على مشاهدة ما لايحل أو سماع ما حرم الله والزمان زمان رحمة، الأيام فاضلة، والدعوة مستجابة، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن أساء فعليها.
اللهم ألهمنا رشدنا واهدنا واهد بنا، وتقبل صيامنا وقيامنا، واشرح صدورنا للخير والإيمان ونور قلوبنا بالقران.
[1] تفسير القرطبي 2 / 275 ، 276.
[2] الحديث رواه احمد والبخاري صحيح الجامع 3/267.
[3] رواه أحمد والنسائى وابن ماجه بسند صحيح صحيح الجامع 3/27.
[4] رواة الطبرانى في الكبير باسناد حسن ، صحيح الجامع 3/ 268.
[5] الحديث رواه والطيرانى والحاكم وغيرهما باسناد صحيح صحيح الجامع 3/ 268.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخوة الإيمان: وشهر الصيام شهر المواساة.. ألا ترون الناس أجمع - غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وأنثاهم،صغيرهم وكبيرهم - يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المباحات مع توفرها عند قوم وندرتها عند آخرين أفلا يوحي ذلك للقادرين أن بإمكانهم أن يتنازلوا عن بعض ما يملكون إلى غيرها من المحتاجين.
ولئن نسى المنعمون أو غلفوا عن حوائج المحتاجين طوال العام وما كان لهم أن ينسوه – فشهر الصيام في كثرة إطعام الطعام وإفطار الصائمين، وكم هو مشهد إيماني محبب للنفس هذه الاجتماعات الجماعية على الإفطار.
وهذه المشروعات الخيرة - بإذن الله - لإطعام الصائمين تلك التي تنتشر في المساجد أو خارج المساجد، فيشعر المسلم بقرب أخيه منه وحنانه والتآلف والتواضع والصلة والإحسان، وتزداد عظمة المشهد كلما زادت مساحة التجمع وكثر المحتاجون، وتبلغ قمتها في المسجد الحرام بمكة أو في المسجد النبوي في المدينة.
ومن مظاهر المساواة - في شهر رمضان - قضاء الدين عن المدينين وفك الرقاب على الغارمين وتفريج الكربات للمعسرين، وشهر الصيام يقوي عزائم هؤلاء وأولئك ليهيموا على وجوههم بحثا عن أهل الخير لسد حاجتهم، وعلى الموسرين أن تطيب نفوسهم بما يجودون به لهؤلاء من صدقات فضلا عن دفعهم للزكاة الواجبة، ولا ضير في التحري والدقة والسؤال والمعرفة ولا سيما في أهل الزكاة والمستحقين لها.
وشهر رمضان فرصة للمواساة مع شعوب العالم الإسلامى... تلك التي أثخنتها الجراح، وعز فيها الطعام أو قل فيها الكساء أو توفر لهم الشراب أو الدواء، كل ذلك حتى تغزوهم بالأفكار وتقدم لهم المبادئ الكافرة وتصرفهم عن الإسلام الحق.
أوليس في غفلة المسلمين عن إخواهم فرصة لنجاح مهمة هؤلاء الأبالسة الماكرين.. أولسنا جميعا نتحمل مسئولية أي انحراف يقع نتيجة تراجعنا عن المساعدات الواجبة وتقدم غيرنا؟
أما من يتضور جوعا أو يتقلب في قمم الجبال الباردة ولا يتوفر عنده ما يقيه شدة البرد فتلك مسؤولية أخرى يتحملها المسلمون بإزاء إخوانهم المسلمين.
يا إخوة الإسلام: إذا توفرت لكم المعلومات عن حاجة هذه الشعوب المسلمة وتوفرت لكم الأيدى والجمعيات الإسلامية والهيئات الموثوقة التي توصل هذه الصدقات إلى محتاجيها، فأي عذر لكم في الاحجام عن المساعدة. أولستم في شهر الصيام تتذكرون حاجة النفس إلى الطعام حين صومكم وقرقعة بطونكم؟ وتتذكرون حاجتها إلى الشرب حين يبس الشفاه وشدة العطش؟ فتتسلون بقرب الافطار وتوفره، فتذكروا حاجة هؤلاء المحتاجين لا في رمضان فحسب، وتذكروا أن هؤلاء منتظرون مدد السماء وإعانات المحسنين وأهل البر والوفاء.
أولستم في فصول الشتاء تبحثون عن الفرش الوثيرة لتحتموا بها من لسع البرد القارص؟ فتذكروا من يشعرون بشعوركم ويحتاجون لحاجتكم أو أشد لكنهم لا يملكون ما به يتدثرون وينتظرون العون ممن أفاء الله عليهم وفتح عليهم ما لم يفتح على غيرهم.
شهر الصيام جدير بتذكيرنا بهذه المعاني وأكثر لمن تامل وتدبر. أما الذين ينتهي تفكيرهم في الصيام عند الإمساك عند الفجر، والإفطار عند تحقق الغروب دون إحساس بالحكمة والسر العظيم من وراء ذلك، فما فقه هولاء حكمة الصيام، وما بالله حاجة أن يدع المرء طعامه وشرابه دون أن يورثه ذلك تقوى تدعوه لفعل الخيرات وتنأى به عن المحرمات وتهذب نفسه وترقق مشاعره وتخفف من حدة الشح أو البخل المصاحبة للنفوس في غياب التقوى.
(1/1127)
اعتداء اليهود على المسجد الأقصى
الإيمان
الجن والشياطين
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عرض موجز عن أعمال اليهود الإجرامية وخصوصاً في سبيل احتلال فلسطين
2- نماذج من هجمات الإرهابيين اليهود على المسلمين في الأقصى الشريف
3- واقع الأمة المتخاذل عن الجهاد ونُصرة الحق بالقوة التي تحميه وترد الظلم
4- الاستسلام لليهود من أَمارات مرض القلب
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والأخوات في العقيدة: إن مايحدث اليوم في فلسطين وفي القدس الشريف بالذات ليس وليد الساعة, وإنما هي سياسة يهودية منذ القدم, إنها نتائج وقرارات مؤتمر بال بسويسرا الذي أنعقد في سنة 1315هـ الموافق 1898م.
إن ما يحدث اليوم شبيه بما حدث عام 1929م عندما سقط 116 شهيد 232 جريح من المسلمين عندما قامت حركة البراق بثورة ضد اليهود بمساعدة الإنجليز إثر إعتداء اليهود على حائط البراق ورفعوا العلم الصهيوني فوقه, وأنشدوا النشيد الصهيوني, وشتموا المسلمين.
إن ما يحدث اليوم هو إمتداد لما حدث عام 1948 و1967.
في هذه السنة الأخيرة حاولت إسرائيل إزالة المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، حين هرع الحاخام (شلوموغورين) حاخام الجيش اليهودي إلى ساحة المسجد الأقصى مصطحباً مجموعة من مساحي السلاح الهندسة في الجيش الصهيوني وأخذ المقاييس ليحدد وفق توراته المزعومة مكان قدس الأقداس الذي سيبنى عليه الهيكل اليهودي, فحدد المكان الذي يقع تحت قبة الصخرة المشرفة، كما دعا اليهود إلى إقامة كنيس يهودي في ساحة المسجد الأقصى, كما حرق المنبر عام 1969.
ولقد حاول أحد أعضاء منظمة كاخ اليهودية تدمير المسجد بوضع قنابل موقوتة بجانب حوائطه، وبعدها قام ثمانية من الشُبّان اليهود الذي ينسبون إلى الليكود الإرهابي باقتحام الحرم والاعتداء على المصلين بمساعدة قوات الجيش الإسرائيلي كما قامت مجموعة أخرى إرهابية تطلق على نفسها اسم أبناء يهوذا بمحاولة لنسف الصخرة بالديناميت, وتم تخطيط أعضاء التنظيم الإرهابي بمشاركة ضبّاط في الجيش والحكومة بمحاولة قصف الحرم القدسي بطائرات سلاح الجو الصهيوني، كل هذا والضربات كانت مستمرة تحت الحرم, يساند هذا كله تبرعات اليهود من أمريكا ومن بقاع العالم بدعوى إعادة بناء المعبد اليهودي مكان قبة الصخرة.
إن ما يقع هو منبثق من عقيدة اليهود, وهم يحاربون عن عقيدة يريدون طمس القدس وإزاحته, يريدون الاستيلاء عليه كما استولوا على الأرض، لقد استعملوا كل الأساليب من أجل الحصول على ذلك, اشتروا الأرض بعدما اشتروا النفوس باع العرب أرضهم وضمائرهم لليهود يوم أن جلسوا معهم للتفاوض بدءاً بخيانة كامب ديفيد عام 1978, واستمراراً في مشروع السلام بل الاستسلام من مدريد, والدليل على ذلك أن قضية القدس لم يَرِد ذكرها في تلك المعاهدة المشؤومة, في الوقت الذي أعلن فيه أن القدس عاصمة إسرائيل إلى الأبد, بل اتخذ اليهود بذلك قرارهم الرسمي من الكنيست الإسرائيلي باعتبار القدس العاصمة الأبدية لإسرائيل, وكانت تلك بداية التنازلات بالنسبة لقضيتهم فلسطين والقدس, ومن ثمّ كلما قام اليهود بعمل إرهابي أو باعتداء على الأبرياء والمؤسسات إلا وقام العرب والمسلمون بالاستنكار وتذكير الأمم المتحدة بالقرارات, بالرغم أن إسرائيل احتلت فلسطين وتوطدت بقرار من هيئة الأمم المتحدة.
إن فتوى علماء الأزهر عام 1375 تَنُص على أن الصلح مع إسرائيل لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بأحقيّة يده على ما اغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عداونه، فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء الذين اغتصبوا أرضهم بل يجب عليهم أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها، وصيانة المسجد الأقصى مهبط الوحي ومصلى الأنبياء الذي بارك الله حوله, وأن يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في سبيل الله، وأن يبذلوا فيه كل ما يستطيعون حتى تطهير البلاد من آثار هؤلاء الطغاة المعتدين, ومن قصر في هذا أو فرط فيه أو خذل المسلمين أو دعا إلى ما من شأنه تفريق كلمة المسلمين وتشتيت الشمل والتمكين لدولة الاستعمار والصهيونية فهو في حكم الإسلام مفارق لجماعة المسلمين، وقد أشار القرآن الكريم أن موالاة الأعداء إنما تنشأ عن مرض القلوب الذي يدفع أصحابها إلى هذه الذلة التي تظهر بموالاة الأعداء، قال الله تعالى: فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين 1.
1 - راجع الفتوى في مجلد الأزهر مجلد 27 عد جمادى الثانية سنة 75 من صفحة 682 إلى 685.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1128)
التواصي بالحق والتواصي بالصبر (1)
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمانة النبوة والرسالة وحملها على الوجه الأكمل في أعناق الأمة 2- وصف هذه الأمة
المحمديّة في الكتاب العزيز 3- إذا امتثلت الأمة نصوص الوحي نُصِرت ومُكّن لها.
4- الآثار العكسية التي تلحق المخالف والمتخاذل والمتهاون بأمر الله تعالى 5- وعظ هذه الأمة
بما وقع لليهود عندما أعرضوا عن دين الله ولم يتناهوا عن المنكر
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والأخوات في الإسلام: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته والعمل على مرضاته, واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله سبحانه وتعالى فرض على المسلمين أن يحملوا مواريث النبوة وأن يضطلعوا بأعباء الرسالة ويقودوا الناس إلى الله، ويوجهوهم وجهة الحق والخير, فتعلوا بذلك إنسانيتهم وتسموا مواهبهم ويحققوا معاني الهدى والرشاد وبهذا كانت هذه الأمة خير الأمم كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
إن أمة هذا شأنها وحالها تنال من رحمة الله ما يجمع شملها ويصلح ذات بينها ويقيها السوء ويدفع عنها المفاسد والشرور والمصائب, ويظلها في ظله الذي لايشقى من استظل به، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله.
أيها المسلمون: إن الأمة إذا قامت بهذا الأمر الجليل تسلم من النقص والخسران, وتسير إلى غايتها الكبرى من العلم النافع والعمل الصالح والتوجيه الحق والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ومن ثم يكون لها النصر والتمكين في الأرض وتقوم بالخلافة فوق هذه الأرض بالإصلاح على أحسن وجه وكما أراد الله سبحانه وتعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
أيها الأحبة في الله: إذا كان لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الآثار البعيدة في حياة الأمة فإن لإهمالها وتركها والاستهانة بها آثار عكسية في حياة الأمة من الاستخفاف بالدين والتنكر للعقيدة والاستهتار بالأخلاق والخروج عن الصراط المستقيم وانتشار الفساد والشر ثم التخلص من كل القيود الأدبية والأخلاقية التي ترقى بالمجتمع وتنهض به الشيء الذي يعرض الأمة للعقاب الصارم من الله تعالى لتفريطها في دينها وقيمها, ولقد حذرنا رسول الله من أن نتعرض لما تعرض لها غيرنا من الأمم السابقة من اللعن وضرب القلوب بعضها ببعض لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقد روى أبو داود والترمذي عن عبدالله بن مسعود أن رسول الله قال: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: ياهذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لايحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده, فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال: لُعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بماعصوا وكانوا يعتدون كانوا لايتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون ، ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً أو لتقصرنه على الحق قصراً أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم)).
وروى الإمام أحمد بمسنده عن عدي بن عمير قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لايعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فاذا فعلوا عذب الله العامة والخاصة)).
ولقد ضرب رسول الله مثلاً للأمة التي تقوم بهذه الفريضة فتنجوا, والأمة التي تُهملها فتهلك وذاك في حديث السفينة، فعن النعمان بن بشير عن النبي قال: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم وآذوهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)) 1.
1 - اخرجه البخاري والترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1129)
التواصي بالحق والتواصي بالصبر (2)
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوازع الديني يدفع إلى إنكار المنكر 2- انتشار المنكرات لا يُرهب الخيّرين من العلماء
المصلحين 3- على الجميع تحمّل مسئوليته في وجه هذا الطوفان من المنكرات لأنه إذا سكت
جرفته وأصابه الهلاك عند حلوله 4- درجات إنكار المنكر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات في العقيدة: إن الناس إذا فقدوا الوازع الديني فحينئذ لا ينفع العالِم صلاحه ولا يدفع عن الشرير ذكاؤه وعلمه، فإن العالم يعتبر شريكاً بسكوته, والساكت عن الحق شيطان أخرس واتقوا فتنة لا تُصيبَن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب إن كثرة ما نرى من المساوئ لا يصح أن يصرفنا عن واجبنا حِيَال علاجها, فالنفس الإنسانية مهما ران عليها تشعر بجوع روحي، طالما كان غذاؤها الروحي النظيف, وإن من سَفَه النفس أن يخاف الإنسان من الجهر بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإن هذا الأمر لا يقدم أجلاً ولا ينقص رزقاً، يقول رسول الله : ((ولا يحقرن أحدكم نفسه)) فقالوا يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ((يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول فيه فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول كذا وكذا؟ فيقول خشيت الناس، فيقول: فإيّاي كنت أحق أن تخشى)).
والحاصل أيها الإخوة إن الإنسان عليه أن يأتي من هذا الأمر ما يستطيع, ولا يقصر في نصرة دين الله ولا يعتذر في إسقاط ذلك بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها ما أوجبه الله علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: ((إذا رأيتَ أمتي تهاب الظالم أن تقول له إنك ظالم فقد تودع منهم)).
ولقد كان لسلفنا الصالح مواقف عظيمة مشرفة دالة على صدق إيمانهم وقوة يقينهم وشدة ورعهم, فكانوا لا يخشون في الله لومة لائم أو كلمة مداهن أو قوة ظالم بل كانوا يجهرون بالحق بكلّ صراحة, وينطقون بالصدق وإن غضب الخلق, وكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في أشد وأحرج المواقف.
أيها المسلمون عباد الله إن في إهمال هذا الأمر العظيم خطراً على المجتمع بأكمله, وإن اللعنة التي أصابت بني إسرائيل لَهِِي قريبة من كل من ترك هذا الأمر الجليل، ولا حجة في إهمال هذه الفريضة بأن يقول البعض: إنها فرض كفاية ليتخلص هو من ذلك, إن فرض الكفاية في هذا الباب إنما هو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان، وإلا فالنهي عنه المنكر بالقلب مفروض على الجميع, والنهي عن المنكر بالقلب هو كراهية الفاعل كراهية من القلب وعزله عن المجتمع بمقاطعته وأن لا يتواكل ولا يجلس معه بل يعزل عن إخوانه وينعزلون عنه حتى يعود إلى الحق، وهذا لا يعفي منه مسلم يرى المنكر ظاهراً والمعروف غير ظاهر, وهذا معنى قول رسول الله : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان)) 1.
1 - رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1130)
الجهاد في سبيل الله
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية الجهاد جاءت لحماية الأصول التي اتفقت عليها جميع الشرائع 2- الجهاد ماضٍ
إلى يوم القيامة , فما هي مراحله ؟ 3- سوء عاقبة ترك الجهاد 4- جهاد بالكلمة 5- الإذن
مع التخيير 6- القتال والجهاد في الإسلام لتحقيق نبيلة لا للأطماع السياسية ولا المادية
7- الأمر الشامل العام الكافُّ الذي لا يخرج منه إلا من كان في المسجد الحرام حتى يبدأنا
بالقتال فعندها يكون هو المعتدي
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والأخوات في الإسلام: كان حديثنا في الأسبوع الماضي عن مشروعية الجهاد وأذن الله تعالى لنبيه في القتال.
وذكرنا أن الجهاد شرع لحماية دين الله تعالى والدعوة إليه, ولرد الظلم عن المظلومين وردع الطغاة عن غيّهم.
كما أنه شُرع لتأمين الطريق وتمهيده لمن يرغبون الدخول في دين الله, كما أن الجهاد شرع لنشر السلام في الأرض وتأمين كل ذي دين على دينه واحترام المقدسات, كل ذلك جاء واضحا كما بينا في قوله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبِيَع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
أيها المسلمون: عباد الله: بعد هذا كله نقول: ما هي المراحل التي مرّ بها الجهاد؟ ونجيب عن ذلك قائلين لقد شرع الله الجهاد لنصرة الأمة، فهو فريضة ماضية إلى قيام الساعة، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وما تركه قوم إلا أذلهم الله تعالى , وسلط عليهم عدوهم.
ونظرة واحدة إلى حال المسلمين، ورفعة شأنهم، وعلو مكانتهم يوم كانوا متمسكين بهذه الفريضة، وإلى حالهم اليوم وقد فرطوا فيها، واتبعوا أهوائهم، وأحبوا الدنيا، وتنافسوا عليها وما هم عليه من الذل والصغار والمهانة والاحتقار.
إن نظرة فاحصة إلى وضع المسلمين في الحالين لتبين لنا الفرق الشاسع والهائل بين الجيلين.
وقد شرع الله الجهاد على مراحل ليكون أروض للنفس، وأكثر ملائمة للطبع البشري، وأحسن موافقة لسير الدعوة وطريقة تخطيطها، وكانت المراحل التي مر بها الجهاد وعلى النحو التالي:
المرحلة الأولى: وكانت بمجرد الإذن في القتال دون أن يأمر الله عز وجل نبيه به، وقد كان قبلها في مكة محرما لأن المرحلة المكية لا يناسبها القتال.
فهي بداية يجب على الدعاة أن يستنفذوا فيها جهدهم بالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة، ولم يكن المسمون فيها قد اشتد عودهم، وقويت شوكتهم، وكثر عددهم.
كما أنّ إعلان الجهاد في تلك المرحلة قضاء على الدعوة وأهلها وهي لا زالت في المهد لم تكبر بعد، فالواجب الحفاظ على الأنفس.
فالجهاد الذي كان في مكة موجهاً بالكلمة وهو المشار إليه في قوله تعالى: وجاهدهم به جهاداً كبيرا أي بالكلمة بالقرآن الكريم بتفهيمهم إياه والعمل به، ثم بعد الهجرة جاء الأذن ولم يفرض عليهم وكانوا بذلك مخيرين, فمن أراد أن يقاتل فليقاتل، ومن أراد أن يقعد فليقعد، فكانت تلك المرحلة ترويضاً للنفس وتمريناً لها، مع منحها فرصة الاختيار، متى ألفت الأمر وأدركت ما وراء ذلك من مكاسب روحية ومادية انتقل إلى مرحلة أخرى.
المرحلة الثانية: بدأت هذه المرحلة بنزول قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتال ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ونلاحظ أن الله جل وعلا قد فرض الجهاد بهذه الآية، ولكنه في هذه المرحلة دفاعي، لأن الآية أمرت بقتال القاتلين، ونهت عن الاعتداء، والاعتداء منا عام سيشمل غير المقاتلين كالنساء والأطفال والشيوخ، ومن لم يرتكب ما يبرر قتاله، كما يتضمن الزيادة في رد العدوان لقوله تعالى: وإن عاقبتهم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به والإسلام عند تشريع الجهاد يلتزم خطة مُثلى، فالمسلمون لا يقاتلون شهوة في القتال ولم يحاربوا حبا في الحرب، ولكنهم يقاتلون لتحقيق الغاية التي شرع الجهاد من أجلها، فالقتال في الإسلام يختلف عن القتال والحروب التي شهدها التاريخ الإنساني والتي استهدفت تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية لأفراد أو جماعات طموحين يريدون العلو في الأرض، فالهدف وضوابط الحث والعدل والرحمة التي احتفت بالجهاد ميزته عن أنواع الحروب الأخرى الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت وقال الرسول : ((اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله ,اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)) [رواه مسلم].
إن الذين يقاتلون المسلمين وبدءوا بالقتال والإخراج من الديار هم المعتدون, وعلى المسلمين أن يردوا هذا الاعتداء وأن يلقنوا المعتدين درساً يردعهم عن الاعتداء، ويجعلهم عبرة لمن يحاولون التفكير في الاعتداء على المسلمين, ولكن على المسلمين ألا يُمعنوا في الردع حتى لا يصبحوا هم المعتدين، ثم أمر الباري سبحانه بقتال المعتدين وقتلهم حيثما وجدوا، ولا ينبغي إتاحة الفرصة لهم كي يضربوا ويهربوا, لأن هؤلاء إن وجدوا الفرصة استغلوها، فاغلق الله عليهم الباب وأمر المسلمين بقتالهم حيثما كانوا، ما داموا مقاتلين, وقد خص الله تعالى المسجد الحرام بخصيصة لا تتوفر لغيره.
حيث أمر سبحانه المسلمين بالكف عن قتال المعتدين إذا كانوا عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوهم بالقتال عنده، فإذا كانت الآية الأولى أمرت بقتالهم حيث ما وجدوا فإن الآية التي بعدها نهت عن قتالهم عند المسجد الحرام، حتى يبدؤوا هم بالقتال, وهذه ميزة جعلها الله تعالى لذاك المكان المبارك، ومحافظة عليه ليظل مثابة للناس وأمنا، ولا يجترئ أحد على انتهاك حرمته، والبادئ عنده بالقتال هو المعتدي الباغي وعلى الباغي تدور الدوائر.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1131)
الدعوة إلى طلب العلم (1)
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إنّ أول آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آمرةٌ بالتعلّم والقراءة والتربية 2- مكانة
العلم في الإسلام وفضله وفضل أهله لم تكن في دين قبله 3- الحث على إدخال الأبناء في
المدارس الشرعية لِما لذلك من الآثار الحسنة لهم ولمجتمعاتهم في الدنيا والأخرى 4- تجرّد
طالب العلم نيّته لله لا للجاه ولا للمال ولا للرياء والسمعة والمِراء والمجادلة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والأخوات: إن طبيعة الإسلام تفرض على الأمة التي تعتنقه أن تكون أمة متعلمة ترتفع فيها نسبة المتعلّمين وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين، ذلك لأن حقائق هذا الدين من أصول وفروع ليست طقوساً تُنقل بالوراثة أو تعاويذ تشيع بالإيحاء وتنتشر بالإيهام.
كلا إنها حقائق تستخرج من كتاب الله الكتاب الحكيم ومن سنة واعية , من سنة الرسول الكريم ولقد كان أول مانزل من القرآن الكريم على رسولنا محمد اقرأ باسم ربك الذي خلق ولم يقل الله سبحانه وتعالى: إقرأ بإسم الله ذلك, لأنه جل وعلا أراد منذ البدء أن يشير إلى أن هذا الدستور الإلهي النازل من السماء إنما هو تربية، إنه نزل باسم المربي، ومادامت هذه التربية إلهية المصدر, فهي إذن محكمةٌ الإحكامَ كلَّه كاملة في جميع جوانبها.
عباد الله كانت ((اقرأ)) دعوة آمرةً إلى الثقافة, إلى العلم, إلى الفكر, إلى البحث المستفيض في السماء وفي الأرض وفي الجبال والبحار، وفي كل ماخلق الله تعالى من كائنات صغيرة كانت أم كبيرة, كانت أول صيحة تسمو بقدر القلم، وتفيض بقيمة العلم, وتعلن الحرب على الأميّة الغافلة, وتجعل اللّبِنَة الأولى في بناء كل رجل عظيم أن يقرأ وأن يَعلَم، ولم يسبقِ الإسلامَ دينٌ وقف من العلم كموقف الإسلام من الدعوة إليه والإشادة بفضله, والنصوص في هذا الباب كثيرة قال تعالى: ن والقلم وما يسطرون وقال جل وعلا: والطور وكتاب مسطور في رَقٍ منشور.
ومن المعلوم أن أداة العلم قلم يكتب ومداد يُوضح، ومادة يكتب عليها، وقد أقسم الله بهذه الأدوات كلها، ومن أمعن النظر في كتاب الله الكريم وجد أن الله سبحانه إنما يقسم بكثير من مخلوقاته تنويهاً بشأنها ولفتاً لأنظار الناس إليها.
أيها المسلمون: إن الميزة الأولى التي ينفرد بها الإنسان هي استعداده للعلم, ومن أجلها استحق الخلافة في الأرض والسيطرة عليها، واستحق أن تخضع له أكرم مخلوقات الله, وهم الملائكة, فأمرهم الله بالسجود لآدم بعد أن أظهر عليهم ميزته بالعلم, بعدما كانوا تعجبوا كيف يجعل الله في الأرض خليفة ممن شأنُه سفك الدماء والإفساد في الأرض ومما جاء في الحديث الشريف عن فضل العلم قول الرسول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم يتنفع به أو ولد صالح يدعو له)) 1.
أيها الإخوة المؤمنون: ومن الإشادة بالعلم الإشادة بالعلماء، ففي القرآن الكريم والسنة المطهرة من الإشادة بفضلهم مايلفت الأنظار إلى سمو مكانة العلماء في نظر الإسلام قال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء وفي الحديث الشريف قال رسول الله : ((العلماء ورثة الأنبياء)) 2 ، وقال : ((إنما بعثت معلماً)).
ولاشك أن المعلمين والمربين داخلين تحت مسمى العلماء وإلا ما طلب منهم تعليم غيرهم مما حصلوا عليه من علوم ومعارف في مجالات مختلفة من شؤون الحياة ومطالبها ومنافعها، كما يلحق بهؤلاء الأطباء والمهندسون والخبراء وغيرهم إذا اقترنت علومهم ومعارفهم بالإيمان بالله والإحسان إلى الناس، لأن الإسلام يدعوا إلى كل علم يرفع الجهل وينفع المرء في دينه ودنياه، لهذا جاء الأمر بتعلم العلم واعتبر فريضة واجبة فقال رسول الله : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) 3 ، وقد حث الإسلام أبناءه على الرحلة في طلب العلم فقد صح عن الرسول : ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) 4.
أيها المسلمون: إذا كانت هذه منزلة العلم والعلماء فطلاب العلم الشرعي وعلماؤه هم أكثر الناس حظاً للحصول على هذا الأجر إذا هم طلبوا العلم إبتغاء مرضات الله، لأن الله أراد بهم الخيرة فجعلهم أئمة الهدى ودعاة الخير وخلفاء الأنبياء في الدعوة إلى الله.
عباد الله أيها المؤمنون: لابد لنا من دفع مجموعة من أبنائنا إلى طلب العلم الشرعي ليتفقهوا في دين الله تعالى, لأن من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين إذا تركنا هذا الباب وقع الإثم على الجميع, فاتقوا الله تعالى واطلبوا العلم الشرعي, فإن هذا العلم رفعة في الدنيا والآخرة، واطلبوا العلم يكن لكم لِسان صِدق في الآخرين، فإن آثار العلم تبقى بعد فناء أهله, فالعلماء الربانيون لم تزل آثارهم محمودة وطريقتهم مأثورة وسعيهم مشكوراً وذكرهم مرفوعاً, إن ذكروا في المجالس امتلأت المجالس بالثناء عليهم والدعاء لهم, وإن ذكروا في الأعمال الصالحة والآداب العالية كانوا قدوة الناس فيها، فتعلموا العلم عباد الله لتنالوا بركته وتجنوا ثماره تعلَّموا العلم للعلم لتعملوا به لا لتجادلوا به وتُماروا به, فإن من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء فقد عرض نفسه لعقوبة الله ونزل بها إلى الهدف الأسفل، لا تطلبوا العلم للمال فإن العلم أشرف من أن يكون وسيلة إلى المال, وإن المال أحق أن يكون وسيلة للعلم لأن المال يفني والعلم يبقى ورضي الله عن مصعب بن الزبير الذي قال لابنه: ((يا بني تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك العلم جمالاً وإن لم يكن لك مال كان لك العلم مالاً)) ولله در من قال:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كل أمرئ ماكان يجنيه والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقال:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لاعلم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
1 - رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 - رواه أحمد وأبو داود.
3 - رواه البيهقي.
4 - رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1132)
الدعوة إلى طلب العلم (2)
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ومع بداية العام الدراسي ينبغي أن يُنبَّه المعلِّم على واجباته من إتقان للدروس وحسن
للمظهر وحب للطلاب ونُصح في أداء عمله وقصده وجه الله تعالى 2- ويجب على الطلاب
التشمير في التحصيل أولاً بأول 3- ويجب على الإدارة العناية وحسن الرعاية.. 4- ويجب
على أولياء أمور الطلبة دوام المتابعة.. 5- وينبغي للأمة أن تُصحح نواياها في طلب العلم
إذ أصبح كثير من الناس يطلب العلم كوسيلة للوظيفة والمال والجاه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الإخوة والأخوات في العقيدة: إننا في بداية عام دراسي جديد يستقبل فيه المتعلمون مايلقى إليهم من العلوم ويستقبل فيه المعلمون من يتلقى عنهم العلوم والآداب والأخلاق فيا ليت شعري ماذا أعددنا لهذا العام, وكيف نستقبل هذا الموسم الدراسي هذه السنة؟ إن علينا أن نشمر عن ساعد الجد من أول الأمر حتى لانندم في النهاية, إن على المعلمين والمربين أن يحرصوا على هضم العلوم التي يلقونها إلى الطلبة قبل أن يقفوا أمامهم حتى لايقع الواحد منهم في حيرة عند السؤال والمناقشة, لأن من أعظم مقومات الشخصية قوة المعلم في علمه وملاحظته، ولاتنقص قوته العلمية عن قوة ملاحظته في تكوين شخصيته.
إن المعلم إن ارتبك أمام طلبته فسوف ينحط قدره في أعينهم, وإن أجاب بالخطأ فلن يثقوا بمعلوماته بينهم وإن نهرهم عند السؤال والمناقشة فلن ينسجموا معه، فلا بد أيها الإخوة للمعلم من إعداد وإستعداد وتحمُّل وصبر, ولا بد أن يحاول المعلم أن يكون أباً لطلابه لأن كثيراً من الطلاب يشكون جفاء في علاقاتهم مع المدرسين ويفتقدون حنان الأبوة المفروضة في معلميهم ولايجدون عندهم صداقة ووداً, ومُعلم البشرية كان والداً لمن يربيهم فقال : ((إنما أنا لكم من الوالد لولده)).
عباد الله: إن على الطلبة والمتعلمين أن يبذلوا غاية جهدهم من أول السنة حتى يدركوا العلوم إدراكاً حقيقياً ثابتاً في قلوبهم وراسخاً في نفوسهم لأنهم إذا اجتهدوا من أول العام تلقوا العلوم شيئا فشيئاً, فسهُلت عليهم وثبتت في قلوبهم, وسيطروا عليها سيطرة تامة, وإذا أهملوا أول السنة وتهاونوا فإن الزمان ينطوي عليهم فلا يفيقون إلا في آخر العام وقد تراكمت الدروس وضاق الزمن عن إدراكها, فأصبحوا عاجزين عن تصورها فضلاً عن تحقيقها.
أيها الناس: وإذا كان من نجاح المعلم أن يكون قوي المعرفة قوي الشخصية فإن من نجاحه أيضاً أن يكون حسن النية والقصد والتوجيه, فينوى بتعليمه الإحسان إلى طلبته بإرشادهم إلى ماينفعهم في أمور دينهم ودنياهم ليكون لتعليمه أثر بالغ، وعليه مع ذلك أن يظهر مظهر اللائق من الأخلاق الفاضلة والآداب العالية ليكون قدوة في العلم والعمل فإن التلميذ يتلقى من معلمه الأخلاق والآداب أكثر ممايتلقى عنه العلوم من حيث التأثير لأن المدرس وأخلاقه صورة مشهودة معبرة عما في نفسه ظاهرة في سلوكه, فتنعكس هذه الصورة تماماً على سلوك التلميذ لأن المعلم غير القدوة أدعى إلى الفساد منه إلى الإصلاح ولذلك يجب أن يكون كُفئاً في علمه وعمله وخلقه وفي كل باب من أبواب الخير.
وإذا كان أيها الإخوة على المعلمين واجب يجب عليهم القيام به, فكذلك على إدارة المدرسة أن ترعى من تحت رعايتها من مدرسين ومراقبين وطلاب, لأنها مسؤولة عنهم أمام الله وأمام مجتمعهم, فلا بد للإدارة أن تكون مخلصة حازمة حكيمة لأنها هي العامل الأول في تحسين المجتمع المدرسي وفي توجيه التدريبية وجماعات الطلاب نحو الأهداف المنشودة، كما أن على الآباء وأولياء الأمور واجب يلزمهم القيام به, فعليهم أن يتفقدوا أولادهم ويسيروا سيرهم ونهجهم العلمي والفكري والعملي, وأن لا تتركوا أبنائكم هملاً لا تبحثون معهم ولا تسألون عنهم وعن طريقتهم ولا عن أصحابهم ومن يعاشرونهم, لأن تركهم ضياع لهم وظلم, ولا بد من التعاون بين المدرسة والبيت ليتعاون الجميع على الوصول بالطالب إلى الغاية المرجوة ولئلا يكون بينهما تناقض فيهدم أحدهما ما يبنيه الآخر.
عباد الله: إنّ ما عليه المسلمون اليوم لا ينبئ بخير لأنهم اتخذوا العلم وسيلة لا غاية وسيلة يصلون بها إلى مؤهل يمكنهم من وظيفة معينة وانصرفوا عن تحصيل العلم لذاته وتركوا الهدف الأسمى والغاية العليا من العلم, ولم نجد من يخلص للعلم والتعليم إلا قليل ممن هدى الله فيجب أن يوضع في أذهان الطلاب وأن يوضح لهم غايات العلم والتعلم والهدف الأسمى من التعليم منذ المرحلة الأولى للتعليم حتى ينشؤوا ويشبوا راغبين في العلم لاراغبين عن العلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1133)
السيرة النبوية بعد الهجرة (2)
الإيمان
الولاء والبراء
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأساس الثاني الذي بُني عليه المجتمع الإسلامي بعد بناء المسجد هو الأخوّة الإسلامية
2- لا بد من عقيدة يلتفّ حولها الناس وتحصل حولها الأخوة الحقيقية 3- في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ذابت الفوارق والأنانية وحلّت محلّها المودة والعدل والمساواة
وكل الصفات الحميدة 4- البيئات الخسيسة لا تنبت فيها تلك الخصال الكريمة المبنية على أساس
من العقيدة في الله والأخوة في الله تعالى على البر والتقوى
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة في العقيدة: الأساس الثاني الذي بني عليه المجتمع الإسلامي بعد بناء المسجد هو الأخوة الإسلامية, وقد عرفنا أن الرسول آخى بين المهاجرين والانصار, لأن أي دولة لايمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها, ولايمكن لذلك أن يحصل بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة, فكل جماعة لاتؤلف بينها آصرة المودة والإخاء الحقيقية، لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما, وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلايمكن أن تتألف منها دولة, على أن التآخي ايضاً لابد أن يكون مسبوقاً بعقيدة يتم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للآخر غير ممكن ومن أجل ذلك جعل رسول الله أساس الاخوة التي تجمع عليها أصحابه العقيدة الاسلامية التي جاءهم بها من عند الله تعالى والتي تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء والتعاون والإيثار بين أناس شتتهم العقائد والأفكار المختلفة, فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه, ثم إن أي مجتمع إنما يختلف عن مجموعة ما من الناس متنقلة شيء واحد هو قيام مبدأ التعاون والتناصر فيما بين أشخاص هذا المجتمع, وفي كل نواحي الحياة ومقوماتها, فإن كان هذا التعاون والتناظر قائمين على ميزان العدل والمساواة فيها بينهم فذلك هو المجتمع العادل السليم, وإن كانا قائمين على الحيف والظلم فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف.
إن ما أقامه الرسول بين أصحابه من مبدأ التآخي ليس مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم, وإنما كان حقيقة علمية تتصل بواقع الحياة وتبل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين, ولذلك جعل النبي من هذه الأخوة مسؤولية حقيقة تشيع بين هؤلاء الأخوة, وكانت هذه المسؤولية حقيقة فيما بينهم على خير ورحمة, ويكفي دليلاً ما تعرضنا له في الأسبوع الماضي من قصة سعد بن الربيع وأخيه عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهما. وهي تؤكد أن رباط الأخوة وأساسها هو العقيدة الإسلامية حيث ذابت عصبيات الجاهلية وتساقطت فوارق النسب واللون والوطن, فسمو الغاية التي التو عليها رجلان الأسوة التي قادتهم اليها فهي في نفوسهم صفات الفضل والشرف والإيثار والمحبة الصادقة, ولم يَدَعا مكاناً للصفات والأخلاق الرديئة.
أيها المسلمون عباد الله: إن المحبة والإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة حيث ينتشر الجهل والغش والجبن والبخل والجشع، لا يمكن أن يصح إخاء أو تترعرع محبة، ولولا أن أصحاب رسول الله جبلوا على شمائل نقية واجتمعوا على مبادئ رفيعة رضية ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1134)
الطفولة والتربية
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مرحلة الطفولة لها خصائص وميزات وهي مرحلة خطِرة وحَرِجة جداً..
2- عظم مسئولية الآباء والأمهات في هذه المرحلة وشدة عناية الإسلام بالطفل حتى قبل ولادته
باختيار أمه وأبيه 3- مزايا التربية الإسلامية على الفرد والمجتمع وأضرار التربية المنحرفة
على المنحرف ومجتمعه.. 4- واقع المسلمين اليوم في التربية يُنذر بالخطر إذ يتلقى الطفل
أنماطاً مختلفة ومخالفة لدينه وعادات وتقاليد مجتمعه المسلم فكانت النتائج ما نشاهده من
سلوكيات تدل على فساد المعتَقد والمِزاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الاخوة والاخوات في الإسلام: الطفولة عند الإنسان هي المرحلة الأولى من مراحل عمره تبدأ من حين الولادة، وتنتهي إلى حين بلوغ الإنسان سن الرشد, أي سن التكليف قال الله تعالى: واذا بلغ الأطفال منكم الحلم وقال سبحانه: ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا اشدكم ، فهاتان الآيتان تشيران إلى أن سن الطفولة يمتد من الميلاد إلى حين البلوغ.
وفي هذه السن يكمل عقل الإنسان ويقوى جسمه ويكتمل تميزه ويصبح مخاطباً بالتكاليف الشرعية كلها على سبيل الوجوب.
أيها المسلمون: عباد الله: إن مرحلة الطفولة هذه من أهم المراحل في حياة الإنسان وأكثرها خطورة، فهي تتميز عن غيرها بصفات وخصائص واستعدادات، فهي أساس المراحل الحياة التالية، وجذور لمَنابت التفتح الإنساني, ففيها تتفتّق المواهب، وتبرز المؤهلات وتنموا المدارك, وفيها تتجاوب قابلية الإنسان مع الحياة سلباً وإيجاباً, وتتحدد ميوله واتجاهاته نحو الخير أو الشر، وفيها تأخذ شخصيته بالبناء والتكوين، لتصبح مميزة عن غيرها من الشخصيات الأخرى، فطفولة الإنسان كتاب أبيض مفتوح يسجل فيه كل ما يرد عليه من حوادث تعرض له، وانطباعات ترتسم في مخيلته وذاكرته، وهي أرض صالحة للاستنبات, فكل ما يغرس فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات وكل ما يبذر فيها من بذور الشر والفساد، تؤتى أكلها في مستقبل حياته، وفي هذه المرحلة يكتسب الطفل من بيئته ومجتمعه ومحيطه العادات السارة والضارة، والأخلاق الكريمة أو الذميمة, والاتجاهات الصحيحة أو الفاسدة, والسبل المستقيمة أو المنحرفة، فعلى الوالدين في هذه المرحلة واجب من أكبر الواجبات الدينية والأدبية, وهي تربية الطفل تربية صالحة جسمياً وعقلياً، وتدريبه فكرياً وعلمياً وتثقيفه أدبياً واجتماعياً، ليكتسب منهما العادات الفاضلة وتنغرس فيه جذور الأخلاق الكاملة سواء عن طريق القدوة الصالحة أو عن طريق التعليم والتلقين, لأن توجيه الوالدين في هذه المرحلة له كبير الأثر في صياغته وحسن تقويته كإنسان اجتماعي, فإن قاما بواجبهما نحوه بنيا فيه الرجولة وحب البطولة, وقبل ذلك كله العقيدة السليمة التي هي أساس كل شيء, وإن أهملا وقصرا في حقه وتهاونا في تربيته أسلماه إلى الفشل في الحياة، وألقيا به بين أنياب الضياع والحرمان.
ولهذا اعتنى الإسلام بتربية الأطفال والإنسان عموماً منذ أن يولد بل قبل أن يولد ولهذا حث الشرع على اختيار الزوجة الصالحة والمرأة الطيبة, لأن الأم هي أول من يفتح الطفل عينيه عليه, فيرى أمه تبتسم له وتحتضنه وتحنو عليه, فيتأثر بحنانها وعطفها, فيشعر أنها الملجأ الأمين الذي يثق به، فهي التي تطعمه إذا جاع وتدفئه إذا برد, وتضحكه إذا بكى, وتبعد عنه الأذى, وتوفر له راحته, وتقضي له حاجته، فلهذا وغيره كان الأمر باختيار المرأة الصالحة والزوجة الطيبة لتكون معدناً طيباً وأملاً للطفل ثم لتعين تربيته وتغرس فيه الخير من البداية, فاهتمام الإسلام بالطفل منذ البداية واضح إذا نحن تحدثنا عن اختيار الاسم الطيب وحضانته والنفقة عليه وإرضاعه الرضاع الكامل وغير ذلك، والذي يهمنا نحن اليوم هو التربية.
أيها الأحبة في الله: إن تربية الطفل هي تنشئته وتعهده بالتنمية والإصلاح ليقوى جسمه ويصح جسده ويكمل عقله وينمو تفكيره وليكون فرداً سعيداً في نفسه وعضواً نافعاً في المجتمع الذي يعيش فيه، والطفل إن كبر وأصبح عضواً في المجتمع فهو إن لم يربى التربية الصالحة الصحيحة فقد يصبح عضواً فاسداً في المجتمع.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1135)
الغزو الصليبي
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بدأ الغزو الصليبي بطرد المسلمين من الأندلس 2- وتتابع إلى أن جاءت الرحلات
الاستكشافية 3- خُطط الصليبين الماكرة في تطويق البلاد الإسلامية 4- الغزو العسكري
والحملات التنصيرية في خدمة الاستعمار 5- حالة الاستعمار في المغرب وأهدافه
6- وبُغية الوصول إلى الأهداف المحددة جاء الغزو الفكري والتربية الحديثة والانحلال
الأخلاقي فهذا هو الانقلاب الذي حقق به الاستعمار أهدافه الخبيثة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والأخوات في الإسلام: لقد بدأت محاولات الغزو الصليبي الحديث منذ القرن العاشر الهجري – السادس عشر الميلادي بعد أن طرد الأوروبيون الإسلام من الأندلس بعد معارك وحشية طويلة، بارك البابا الإنتصار الصليبي وشجع الصليبيون على متابعة المسلمين لطردهم من بقية بلاد الإسلام, يدفع إلى ذلك ذلك حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين ثم تبعتها الرحلات الاستكشافية تحت غطاء العلم، لأن المقصود من تلك الرحلات هو تطويق العالم الإسلامي آنذاك.
وقد صرح بذلك الرحالة فاسكوداجاما الذي استعان بالبحارة المسلم (ابن ماجد) الذي أَمَدّه بالمعلومات والخرائط وقاد معه سفينته نحو جُزر الهند الشرقية, قال ذلك الصليبي بعد إتمام الرحلة (الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت).
ثم تتابعت الرحلات الأخرى التي قام بها الصليبيون في العالم الإسلامي يدرسون مداخله ومخارجه هذه الرحلات التي ندرسها نحن على أنها من أعظم الرحلات وأنها كانت رحلات علمية، وتوالت الرحلات وبدأت معها السّرقات للأراضي الإسلامية، يجيئ الصليبيون إلى سلطان من سلاطين المسلمين فيلجئون إلى كرمه أو إلى غفلته فيطلبون منه مساعدة سفنهم التي ترسوا في مَرافئه, فيساعدهم بلا شك ثم يطلبون بعد ذلك قطعة أرض على الشاطئ ليقوموا بخدمة سفنهم إذا جاءت, فيعطيهم قطعة الأرض بمقتضى الكرم, وإذا استولوا عليها وصارت لهم نقطة ارتكاز على الشاطئ جاؤوا بالسفن المحملة بالجنود والسلاح, ولم تكن هذه هي الطريقة الوحيدة للغزو الصليبي، فقد استخدموا كل الوسائل التي تحقق لهم أهدافهم من غزو عسكري صريح إلى حملات تبشيرية تُمهد السبيل إلى استعمار تجاري ينقلب فيما بعد إلى استعمار كامل.
وبعد الثورة الصناعية في أوروبا تم للصليبين ما أرادوا، لأن الثورة الصناعية أدت إلى الإنتاج الكبير الذي زاد عن حاجيات الشعوب المنتجة, الشيء الذي أدى إلى البحث عن أسواق خارجية لتصريف المنتجات بالإضافة إلى أن الثورة دفعت إلى الحاجة الماسّة باستمرار للمواد الخامة وكانت تلك هي المنطلق للاستعمار الدولي وتكوين المستعمرات فاستعمرت البلاد الإسلامية وأخضعوا البلاد الإسلامية إلى الحكم الصليبي جهرة أو بواسطة عملائهم من الخونة, وظاهرة الاستعمار التي هي في الحقيقة امتداد للحملات الصليبية لاتحتاج إلى تفسير أو تحليل، فالحقد كما قلنا هو الذي يحملهم على ذلك كله، كما أخبر بذلك اللطيف الخبير في كتابه المُنزل ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، وقال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، وقال تعالى: ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، فهو مكر دائم، كامن في قلوبهم ضد الإسلام، لا يحتاج إلى دليل أكبر، فمجرد وجود الإسلام في الأرض كاف لتحريك ضغائن وباعث لهم على التحرك ضد المسلمين ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا.
أيها الإخوة المسلمون: تم الاستعمار العسكري للبلاد الإسلامية وكان نصيب فرنسا وأسبانيا والبرتغال أن يتقاسموا بلدنا هذا المغرب وينعموا بخيراته ويتصرفوا في شئون البلاد رغم أن عهد الاستعمار كان يسمى بالحماية والتي يُقصد بها السيطرة على الشئون الخارجية والأمن والدفاع والإقتصاد مع بقاء مظهر من مظاهر الحكم المحلي ولكن هو استعمار في حد ذاته حيث كانت هناك معارك وقتل لأبناء البلاد ونفي وطرد لهم من بلادهم وكانت من نتائج الاستعمار الأوروبي لبلاد المسلمين:
1 – التجزئة واغتصاب الأراضي.
2 – التخلف الإقتصادي في البلاد المستعمرة.
3 – الإحتلال الفكري والإجتماعي.
والذي نريد أن نوضحه هذه المرة أن الإستعمار الأوروبي الصليبي في هذه الحملة الصليبية الحديثة لم يضع وقته عبثاً بعد أن تمكن من مراكز الحكم والتوجيه في بلاد المسلمين، بل شرع النصارى على الفور في تنفيذ خطتهم التي كانت تهدف بالأساس إلى أمرين أساسيين أحدهما: إنشاء جيل مجانس لهم في ثقافتهم ليسهل عليهم الاتصال به والتفاهم معه، والثاني وهو أخطر الأمرين جميعاً أن تخلوا الأجيال المقبلة من الدين ومن الثقافة الإسلامية ومن الحمية الدينية، وكان لابد لبلوغ هذا الهدف من إحداث إنقلاب جذري في حياة المسلمين يصادم المناهج الإسلامية في جملته الأساسية, وما كان لهذ الإنقلاب أن يبلغ مداه إلا في حراسة الجيوش الكافرة وعلى أيدي أئمة الكفر مباشرة.
ويمكن إيجاز العناصر المشتركة وراء هذا الإنقلاب في ثلاثة:
أولاً: الإنحلال الأخلاقي.
ثانياً: الغزو الفكري بطرقه المتعددة.
ثالثاً: التربية الجديدة للطبقة البديلة.
فالانحلال الأخلاقي يتمثل في انحراف الناس عن الدين وعن أخلاق الإسلام والجري وراء مظاهر الحياة الخربة من إباحية وفتح لمقاهي الخمور ودور البِغاء, وكل ذلك ليتحرر الناس من قيود الدين والعرف، كما يركزوا على جانب المرأة وهي السلاح الأساسي في الغزو حيث أغروها بالحرية الكاذبة وشجعوها على السفور أو الأمر والتبرج والتعري والاختلاط الماجن وتقليد الكافرات في كل شيء بعد ذلك.
أما الغزو الفكري فقد امتد هذا الغزو في كل اتجاه, ودخل على المسلمين في أزياء خادعة وتحت دعاوى المدنية والتقدمية والتجديد، وقد تركزوا في شعب ثلاث كانت كلها شراً ووبالاً على المسلمين، من حيث ظنوها تقدماً ورقياً أو زعموا لهم أعدائهم أنها كذلك سواء من الناحية التعليمية أو الثقافية أو التشريعية، فكانت أشبه بما وصف به القرآن الكريم دخان جهنم يشبه الثلاث، ونوعية تظليله للمكذبين انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب.
ففي الشعبة التعليمية وجد التعليم في المدارس الأجنبية فرصة ذهبية في ظل الاحتلال، الذي أطلق لغلاة المبشرين والقساوسة في وضع برامج التعليم لمدارسهم، وعاها المسلمون أول الأمر ثم ما لبثوا أن تدافعوا إلى تلك المدارس لأن الكفار جعلوها الوسيلة للرزق من ناحية, وللمكانة الاجتماعية من ناحية أخرى وكما تم السعي إلى محاربة المدارس الوطنية والاستيلاء عليها عن طريق رجاله الذين تولوا وضع المناهج الجديدة والسهر على تنفيذها وخدمة أغراضها القريبة والبعيدة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1136)
المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مرحلة الهجوم وأسبابها 2- حالة المسلمين النفسية في هذه المرحلة 3- معالم هذه المرحلة
وضوابطها أ- محاربون يقاتلون في أي وقت ب- ذمّيون مسالمون... 4- المعاهدون عند
نكثهم للعهد يُنبذ لهم عهدهم – أمثلة على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون
هذا المسلك وأمثلة للمعارك الدفاعية والهجومية
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة والأخوات في العقيدة: المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الأخيرة من مراحل الجهاد وهي كذلك المرحلة الهجومية، وقد بدأت بنزول قوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقوله سبحانه وتعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله لأن بعض القبائل العربية كانوا أحلافاً لقريش، أو صاروا أحلافا لها بعد هجرة الرسول. فحملوا على المسلمين تمشيا مع سياسة قريش العامة أو هاجموا المسلمين بالفعل وصاروا أعوانا لقريش في حربها، ضد المسلمين. وبذلك أصبح الجهاد هجوميا ومعلنا على كل هؤلاء وبذلك انتهت المرحلة الدفاعية, ومن المعارك التي كانت في الفترة الدفاعية غزوة بدر وغزوة أحد، والخندق وغزوة بني قريظة.
وكما نزل القرآن الكريم ببدئ المرحلة الهجومية، فإن الرسول قد خرج كذلك ببدئها، وذلك حين انتهت غزوة الخندق، وانسحب المشركون من أرض المعركة مدحورين, فقال الرسول : ((لن يغزونا بعد اليوم، نحن سنسير إليهم)) [رواه البخاري]. وبهذا تحددت معالم المرحلة الجهادية القادمة, علم المسلمون بعد ذلك أنهم سيكونون مهاجمين، وانفسح المجال بل ميدان القتال أمامهم بعد ما كان محصوراً في رد المعتدين وهيئوا أنفسهم لخوض معارك ضارية وبعيدة عن مصادر إمداداتهم وقادتهم أي المدينة.
وينبغي أن نفرق هنا بين المسالمين والمقاتلين, وهذا عُرف معمول به إلى اليوم، فالمقاتلون هم الذين يظهرون العداوة للمسلمين وإن لم يعلنوا الحرب, والمسالمون هم الذين يظهرون الولاء للمسلمين.
أما من انطوت قلوبهم على العداوة، فهي أظهر العداوة للمسلمين فهو في حالة حرب مع المسلمين حتى يخضع ويعلن ولاءه للمسلمين ولا يبدو منه ما يناقض ذلك.
وعلى هذا فللمسلمين الحق في مقاتلة هؤلاء أينما ثقفوهم لأنهم محاربون، ولو أتيحت لهم الفرصة ما ضيعوها.
وأما المسالمون فهم في ذمة المسلمين، لا يحاربونهم، ولا يظاهرون عليهم إلا إذا نقضوا العهد, وحينئذ يكونون محاربين، والقاعدة في ذلك أن الإسلام يقدم السلم على الحرب بقول الله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله أما إذا غدروا أو نقضوا العهد أو حاولوا طعن المسلمين من الخلف كما فعل اليهود وأصبحوا جراثيم إفساد في المجتمع الإسلامي فلابد من القضاء عليهم بعد إيذانهم بنقض العهد لقوله تعالى: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ومع استقرار المرحلة الهجومية لم يترك الإسلام للمسلمين حرية القتال أي قتال غيرهم بغير قيود، بحيث يقاتلون من يشاؤون، ولكنه عندما أمر المسلمين بالحرب الهجومية حدد لها معالمها حتى لا يتجاوزها ,وذلك أن الإسلام قسم غير المسلمين إلى قسمين:
1- محاربين كما ذكرنا سابقا.
2- وذمييّن ,وهم المسالمون الذين لهم عند المسلمين ذمة بعهد أو نحوه.
فالمحاربون يقاتلون في أي وقت لأن حالة الحرب قائمة بينهم وبين المسلمين.
وأما الذميون فلا يجوز قتالهم إلا أن يبدؤوا بقتال إلا في حالتين:
1- أن ينقضوا العهد أو يظاهروا أعداء الإسلام، أو يمنعوا المسلمين من تبليغ الدعوة بوضع العقبات في طريق الدعاة لقوله تعالى: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين وقوله تعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون.
2- أن يخاف المسلمون من المعاهدين إن ينقضوا العهد، بعض الخوف يبيح للمسلمين بعد أن يعلنوا نقض العهد وقيل أن يبدؤوا المعركة، كما أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: وإما تخافنّ من قوم خيانة فانبِذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
وبهذه السياسية الواضحة في الحروب إخوة الإيمان عامل الرسول أعداءه ,وكذا عامل خلفاؤه الراشدون أعدائَهم وكان ذلك ديدنهم في المعارك فكانوا يدعون المقاتلين إلى الإسلام أولا، فإن أبوا طالبوهم بالجزية, وهي إسهام من غير المسلمين في تدعيم اقتصاد الدولة التي يعيشون في كنفها, فهي كالزكاة التي تحصل من المسلمين، وهذان الأمران الإسلام أو الجزية يدلان على رغبة المسلمين في السلم ومحاولتهم تجنّب الحرب ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا, وإذا أبى ورفض المحاربون العرضيْن وأبوا إلا الحرب فليس هناك بدٌّ من خوضها، ومن الحروب والمعارك الهجومية التي خاضها المسلمون: خيبر – مؤتة ثم فتح مكة، فحنين ثم تبوك ,وبعد وفاة الرسول بدأت الفتوحات الإسلامية وبسبب المرحلة الهجومية دخلت الدعوة الإسلامية إلى جميع أقطار الدنيا من، وصدق الله حين قال: ونريد أن نَمُنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1137)
المشاكل الزوجية (1)
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم المشاكل الزوجية وأكثرها خطراً تَدخُّل الأهل وغيرهم في الأمور الزوجية
2- عِظم إثم من يحاول التدخل للتخبيب أو الإفساد 3- الواجب على من علم شيئاً من الخلاف
بين الزوجين النصح والستر 4- يجب على الأزواج ستر ما يقع بينهم حتى يتولوا بأنفسهم
إصلاح أمورهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الاخوة والأخوات في الإسلام: ومن أسباب المشاكل الزوجية بل من أعظمها وأهمها والتي تنشأ بعد الزواج تدخل الغير في شؤون الزوج والزوجة, إذا تدخل الغير في شؤون الزوج والزوجة فإنه حينئذ يعاني الزوج من المشاكل وتعاني الزوجة من المشاكل ما الله به عليم.
ولذلك إذا أراد الله عز وجل أن يرحم الزوجين فإنه يكرمهما بأن لا يدخل أحداً بينهما فكم من نساء صادقات طاهرات, وكم من رجال صالحين مباركين وقعوا في مشاكل مع زوجاتهم لم يعلم بها أحد غير الله جل وعلا.
ولذلك من سداد العبد وصلاحه وكذلك سداد المرأة وصلاحها أن لا تدخل الغريب بينها وبين زوجها، ولذلك كان من الخطأ البيّن تدخل الأب في شؤون ابنه, وكذلك تدخل الأم في شؤون ابنتها، فيجلس كل واحد منهما يتعقب الزوج والزوجة يسأله عن أمور قد لا يحل له السؤال عنها, وهو مسؤول بين يدي الله عز وجل عن كشف تلك الأسرار وعن ذلك العيب الذي لم يأذن الله به.
وإذا أراد سبحانه أن يصلح حال الزوجين فإنه سبحانه يقطع عنهما غريباً يدخل بينهما، إذا أردت أن تعرف حكمة الرجل في معاملة لأهله فأنظر إليه في أسراره مع أهله, إن وجدته كتوماً لا يخبر أحد يعتمد على الله تعالى: ويشتكي إلى الله ويحسن إدارة البيت بنفسه متوكلاً على ربه, فظن به خيراً, وكذلك الزوجة الصالحة لا تأذن لأحد أن يدخل بينها وبين زوجها, ولذلك تحاول رغم أذية زوجها لها ألا يعلم قريب ولا أحد بما جرى بينها وبين زوجها, وهذا قمة في الوفاء وفي العشرة الحسنة السوية, والعكس بالعكس لما أصبحت الأمهات والآباء يتدخلون في شؤون الزوجين, وكل منهما يدلي برأيه ويحاول أن يتعقب وأن يفسر الأمور على غير ما ينبغي.
لمّا كان ذلك وقعت المشاكل وعانينا منها لذلك أحبتي في الله فلنتق الله في التدخل في شؤون الزوجين, فليتق الله الأب في ابنه وليتركه يتعرف ويدبر شؤون بيته حسب ما يراه هو, ولتتق الله الأم في ابنتها ولتتركها تتصرف مع زوجها وتدبر أمور بيتها بطريقتها هي.
هناك أمر آخر وهو تدخل الأصدقاء في شؤون أصدقائهم, حتى في شؤون الإنسان مع زوجته, وهذا أمر لا يجوز ولا يحل شرعاً لإنسان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدخل بين زوج وزوجته إلا أن يأذن له ذلك الزوج, ويدخل على وجه الإصلاح لا على وجه الإفساد, وقد أشار النبي إلى ذلك حينما قال: ((لعن الله من خبب امرأة على زوجها، لعن الله من خبب زوجاً على زوجته)) أي عليه لعنة الله من أفسد زوجاً على زوجته أو زوجة على زوجها، فإذا جاءك إنسان يشتكي فينبغي أن تشعر وأن تحس أنك أمام عورة وأنك أمام أمر ينبغي ستره, فعلمه الصبر وحاول قبل أن يتكلم أن تذكره بالله وأن تُعوده التوكل على الله وأن تكون مشاكله بينه وبين زوجته, وعوده الصبر والتأسي بالسلف الصالح مع زوجاتهم فإنك إن فعلت ذلك كان الأجر والمثوبة في الدنيا والآخرة، فرحم الله رجال صادقين ونساءً صالحات ثبّت الله بهن قلوب الأزواج, أولئك الأصفياء البررة الذين يوصون بالصبر ويوصون بالتحمل واحتساب الأجر، لقد أوجد الله رجالاً صادقين كادت الأسر أن تتمزق لولا الله ثم نصائح منهم قيمة وكلمات منهم مباركات سديدة أولئك الذين عَناهم الله بقوله: والعصر إن الإنسان لفي خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصو بالصبر التواصي بالصبر من كانت فيه هذه الخصلة فهو من الناجين إذا كان الرجل يصبر صديقه على زوجته ويعينه في محنته ومشكلته, فإنه من أهل الخير, ومن الذين عناهم الله تعالى بالنجاة. أحبتي في الله: ما علاج هذه المشاكل كيف نتصرف كيف تتصرف الزوجة وكيف يتصرف الزوج إذا وقف أمام المشكلة؟
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1138)
المشاكل الزوجية (2)
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب المشاكل الزوجية كثيرة فما العلاج ؟ 2- التوجه إلى الله تعالى لأن الدعاء مفتاح
كل خير – نماذج من إرشاد القرآن لذلك 3- الاتصال بالعلماء إذا استفحلت المشكلة
4- الاتصال بأهل التجارب من عقلاء كبار السن.. 5- الابتعاد عن الخوض في أسباب
الخلاف 6- مراقبة الله والنصح والإنصاف من كل الأطراف 7- واجب أبوي الزوجين
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الاخوة والأخوات في الاسلام: عرفنا في الخطب السابقة أسباب المشاكل الزوجية سواء التي تكون قبل الزواج أو بعده، وبقي أن نتعرّف على العلاج, وما الذي يجب عمله في حالة وقوع المشاكل بين الزوجين.
أيها الأحبة في الله: إن أول ما ينبغي على الإنسان إذا وقعت مشكلة من هذه المشاكل أول ما يجب أن يتوجه إلى الله تعالى، أن يلجأ إليه سبحانه أن يدعو كل من الزوج والزوجة الله تعالى أن يشرح صدورهما للخير، وهناك لطيفة عجيبة في سورة البقرة بعدما ذكر الباري جل وعلا مشاكل الزواج وذكر الطلاق قال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين كأنه سبحانه ينبه على أن هذه المشاكل تقع وتنشأ عن ضعف الصلة بالله تعالى.
ومما يدل على أن الدعاء والتعلق بالله عز وجل مفتاح الفرج في المشاكل الزوجية قول الحق تبارك وتعالى: وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ، فبين تعالى أنه أصلح له زوجه ثم قال: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً فدل على أن الدعاء مفتاح في صلاح الزوج والزوجة، فإذا تنكرت الزوجة على زوجها فليقرع الزوج باب الله تعالى وليدع الله تعالى أن يصلح له زوجته, وكذلك المرأة إذا تنكر عليها زوجها فلتلجأ إلى إلله ولتشتكي إليه وتدعو الله تعالى لتقل: اللهم أصلح لي زوجي, وتجد من تلك الدعوة منحة من الله لايخيب صاحبها, فمن التجأ إلى الله وتعلق به فلن يخيب في تعلقه بالله أبداً.
الأمر الثاني: إذا نزلت المشكلة عليك أن تتصل بالعلماء, استشر في أمرك حتى تعرف, فقد تكون المسألة متعلقة بالدين والشرع تحتاج لأن تتصرف تصرفاً شرعياً واجباً عليك، فاتصل بأحد العلماء وكن صادقاً فيما تقول أميناً فيما تنقل وأنصف المرأة من نفسك وقل وقع كذا وكذا ياشيخ ماالعمل؟ بَيِّن لي الأمر, وإذا لم تجد العالم أو كنت في مكان لايوجد فيه عالم اتصل بإنسان من كبار السن من أهل العقول الصائبة والآراء المستقيمة ممن توسمت فيه الخير والصلاح واعرض عليه المشكلة وبين له ما تعانيه وأستشيره في أمرك.
شاور أخاك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تبصر مادنى ونأى ولا ترى مابها إلا بمرآةً
العيب الذي في العيون لانستطيع رويته إلا بمرآة, قد تكون تظن أنك الحق, فإذا أنت المخطئ وقد تكون تظن أنك المخطئ, فإذا أنت المحق فمن يدلك على هذا العيب غير أهل العقول المستقيمة الذين نوّر الله بصائرهم وأبصارهم، فارجع أخي المسلم إلى عالم أو إلى رجل من أهل التقى والعقول والبصائر النيرة.
الأمر الثالث: ابتعد عن أسباب هذه المشاكل فإذا دخلت البيت ووجدت شجاراً أو خطأً ما أُخرج من البيت لأن الشيطان يستزلك, وقد يجرك إلى كلمة تؤدي بالبيت إلى كارثة يقول الله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً فاخرج من البيت أو غيِّر من حالك, اذهب وتوضأ, وصلّ , المهم ألا تبقى أمام ذلك الموقف، اللهم إذا كان الموقف يحتاج إلى فصل فيه أو حل في حينه فعندئذ لاحرج ولاعتب عليك.
الأمر الرابع: ما واجبنا نحن إذا كنا أمام انسان وقعت له مشكلة أو نراه يعاني منها يجب أن تتوفر فينا صفات أهل الإيمان وأن نصبر من وقع في المشكلة زوجاً كان أو زوجة, فكثير منا لايحسن المعاملة مع أصدقائه في مثل هذه المواقف, فيجب أن نراقب الله تعالى في هذه الأمور حتى لا تثار الضغائن بين المسلمين, فلن يكون الواحد منا مسلماً مؤمناً حقاً إذا جاء أخوه يشتكي امرأته ولم تنزل هذه المرأة منزلة أخته، أنزل أخي المسلم هذه المرأة منزلة أختك وأنظر الضرر الذي سيلحقها وسيجري عليها إذا لم تقم بواجبك في الإصلاح أحسن قيام، إذا نزلتما هذه المنزلة حينئذ تعرف الصواب وتعرف ماذا تقول, لأنها أختك في الدين كيف تحرض الزوج على زوجته؟ فلذلك كثير من الرجال والعلماء حُرموا التوفيق فلا يحسنون التصرف حينما يرون الزوج أو الزوجة في حالة انفعال أو غضب, فالنار لا تُطفأ بالنار, والمفاسد لا تُطفأ بالمفاسد, ولكن النار تطفأ بالماء, والطيش يعالج بالحكمة, والاستعجال يعالج بالأناة والتروي وعدم التسرع، لذلك أحبتي في الله لنتق الله في الأزواج، كلمة طيبة تقولها للزوج تصبره تحفظ بسببها بعد الله عز وجل تلك الأسرة من الضياع يثقل الله بها ميزان حسناتك يوم القيامة.
الأمر الخامس: واجب الأب والأم أن يقوم كل واحد منهما بواجبه تجاه أبنائه وأن لا يتسرع الأب حين يأتيه ابنه يشتكي, بل عليه أن يصبره وكذلك الأم عليها أن تراعي مصلحة ابنتها ولتفكر في عودة ابنتها إلى بيت أبيها ومعها ولدان أو أكثر, فلتُنزل زوج ابنتها مكان ابنها ولتعلم أن مصلحة ابنتها في استقرارها في بيت زوجها مع أبناءها، لو أن الأم إذا جاءتها ابنتها صبّرتها وسَلّتها لصلُحت أحوال الكثير, ولكن الذي حدث هو العكس, فإن كلا منهم يحرض ابنه ويحرض ابنته ومن ثم نبكي على الأضرار.
أحبتي في الله: إن علاج هذه المشاكل بالرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله وأن يعي كل واحد منا واجبه تجاه إخوانه وتجاه أبناءه وبناته.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1139)
المشاكل الزوجية وحقوق الزوجين (3)
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من الحقوق الزوجية المشتركة بين الزوجين حفظ السر. 2- ومنها حسن العلاقة مع أقارب
الزوجين. 3- ومنها حسن التزين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والأخوات في العقيدة: الحق الخامس عدم إفشاء السر فكل واحد من الزوجين مطالب بكتمان مايراه من صاحبه أو يسمعه منه، وهذا أدب عام حث عليه الإسلام ورغب فيه, وخاصة مايقع بين الزوجين حيث قال أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته, وتفضي إليه, ثم ينشر سرها)) 1.
وهذا إن كان ذكر فيه الرجال فالنساء كذلك يدخلن في الحكم, وقد ورد في ذلك حديث في مسند الإمام أحمد من طريق أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود فقال: لعل رجلاً يقول مايفعله بأهله، ولعل إمرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرم القوم فقلت: إي والله يا رسول الله إنهن يفعلن، وإنهم ليفعلون قال: ((فلا تفعلوا, فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)).
الحق السادس: حسن العلاقة مع أقارب كل واحد منهما, نقصد بذلك أيها الإخوة المسلمون والدي الزوجين وأقاربهما، فعلى كل من الزوجين أن يراعي حق صاحبه في والديه وأقاربه وألا يذكر أحداً منهم بسوء، فإن ذلك يوغر الصدور ويجلب النفرة بين الزوجين, وكم من زوج تحدث أمام زوجته بعيوب أبويها, فأحدث ذلك ألماً في قلبها أطفأ نور السعادة المضيئة في حياتهما مع زوجها، وإذا كان هذا في حق الزوج وله القوامة فمابالك بحديث الزوجة عن والدي الزوج وأقاربه بسوء، ولا نقول يجب أن يحب كل واحد منهما أقارب الآخر, فالقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولكن الواجب الاحترام وحفظ كل منهما لصاحبه مشاعره تجاه أبويه، وكرامته وعرفه.
الحق السابع: التزين، فالتجمل أمر فطري لدى الإنسان، وللزينة دور فعال في إعفاف كل من الزوجين وقناعته بصاحبه والرغبة فيه، ودوام العشرة بالمعروف, ولا عجب فالقلب مجبول على حب التطلع إلى الجمال ومحبته، غير أن بعض الرجال يعتقد أن هذا خاص بالمرأة دونه وأنه يجب عليها أن تتزين وتتجمل له، لكنه لا يقوم بدوره بالتزين والتجمل لذلك الاعتقاد الخاطئ وقد قال الله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.
نعم إن زينة الرجل كمال رجولته، وقوامته، وحسن عشرته, ولكن التجمل الظاهري مطلوب للمرأة, ترتاح له وتُسرُّ به وقد بينت ذلك إحدى النساء حينما خطبها رجل قد شاب شعره فأبت موافقتها، وقالت: (أخبروه أن في رأسه شيباً) فغير الرجل رأيه لذلك، فقالت المرأة: (والله ما في رأس شعره إلا شعرة إلا وهي سوداء, ولكني أردت أن أعلمه أن ما يحبونه فينا نحبه فيهم) ومع هذا نجد كثيراً من الأزواج يهمل هذا الحق لزوجته عليه، ولكن هذه الزينة والجمال يجب أن يكونا موافقين للشرع غير مخالفين له.
1 - رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1140)
حقوق الزوجين (1)
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
المرأة في المجتمعات الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة له صور كثيرة ومنها :
أ- أن يدفع لها مهرها كاملاً ب- النفقة والسكن المناسب ج- تعليمها وتربيتها د- الصبر عليها
وتحمّلُها هـ- إعطاؤها وقتاً كافياً للمؤانسة و- تمكينها من صلة الرحم ز- صيانتها والغيرة
عليها. ح- العدل بين الزوجات
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الاخوة والاخوات في الإسلام: مما لاشك فيه أن الإسلام شرع مركز المرأة في الحياة, وجعل لها من الحقوق والواجبات ما لم تجعله الشريعة سابقة, في حين نجد في بعض الأديان والعقائد من اعتبر المرأة حيواناً لاروح له، أو انها خلقت لخدمة الرجل، ومنهم من جعل حياتها مرتبطة بحياة الرجل, فإذا مات الرجل أصبحت المرأة لاحق لها في الحياة فيحكم عليها بالموت معه، ثم جاءت شريعة الإسلام السمحة، لتجعل لها من الحقوق والواجبات مثل ماللرجل, فأعطاها الإسلام حرية التصرف في أموالها، كما أعطاها حرية اختيار زوجها بل جعلها الله تعالى آية من آياته، يقول سبحانه وتعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
فالمرأة خلقت من نفس الرجل لا من طينة أخرى، فهي ليست حيواناً بل هي من الرجل, والرجل منها, وقد خلقها الله لتكون زوجة لا خادمة فقط، زوجة يسكن إليها الرجل, وتسكن إليه, والسكن أمر نفساني وسر وجداني يجد فيه المرء سعادته وراحته وأمنه وطمأنينته، وبهذا فقد قرر الإسلام ما بين الزوج والزوجة من أصول التعاون على رسالة الحياة الزوجية، وجعل حقوق مشتركة بين الزوجين, وهذا ما تطرقنا إليه في الخطبة الماضية, وحقوقاً للزوج على زوجته وهكذا نتركه إلى الخطبة القادمة إن شاء الله, وجعل حقوق للزوجة على زوجها نذكرها في هذه الخطبة.
أيها المسلمون: الحقوق ثبتت لها بقول الله تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ولقوله فيما رواه الترمذي وصححه: ((إن لكم على نسائكم حقاً, ولنسائكم عليكم حقاً)).
وأول هذه الحقوق: المهر، لقوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة والمهر نوع من أنواع الهدية يقدمه الرجل بين يدي عقد الزواج, وهو حق للزوجة تأخذه عاجلاً أم آجلاً. ثانياً: النفقة والسكن: فالنفقة تلزم الزوج من حين عقد الزواج, يعد لها السكن والمتاع ويوفر لها الطعام والشراب والكسوة, ولا تلزم الزوجة ولو كانت ذات مال أن تنفق على نفسها شيئاً من مالها، قليلاً أو كثيراً إلا أن تتطوع به عن طيب نفس منها، ولايحق للزوج أن يجبرها على شيء من هذا, وفي ذلك يقول الرسول من حديث جابر رضي الله عنه: ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) 1 ، ولما روى حكيم بن معاوية عن أبيه قال قلت: يارسول الله ماحق الزوجة على أحدنا؟ قال: ((أن تطعمها إذا طعمت, وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت)) 2 ، والنفقة والكسوة والسكن يجب أن يكون على حسب طاقة الزوج وقدرته, فالغني ينفق من سعته, والمقل على قدره لقوله تعالى: اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم أي على قدر ما يطيقه كل منكم، وكذلك قوله تعالى: لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لايكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسراً يسراً.
فلذا عليك أختي المسلمة أن لا تكلفي زوجك فوق طاقته كما عليك أخي الزوج أن لا تبخل, واعلم أن خير وأفضل وأرحم ذاك الذي تنفقه على أهلك لقول الرسول فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على مسكين, ودينار أنفقته, أعظمها أجراً الذي تنفقه على أهلك)).
وكما عليك أخي المسلم ألا تطعمها إلا حلالاً ولا تنفق عليها من المال الحرام الخبيث.
الحق الثالث: أن يعلمها أمور دينها، فالزوج راع ومسؤول عن رعيته, فهو مسؤول عنها, وعليه أن يعلمها أمور دينها وخاصة إذا لم تكن المرأة قد أخذت من العلم الشرعي ما يكفيها في أمور دينها ودنياها, هذا إن كان متعلماً وإلا أذن لها أن تحضر مجالس العلم كأن يصحبها معه أو أن يجلب لها ما تستفيد منه وتتعلم منه ككتاب أو شريط, وهذا الأمر يتساهل فيه كثير من الأزواج ونسوا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة وقوله تعالى: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها.
الحق الرابع: أن يصبر عليها وعلى أذاها, وأن يتحمل ويتغافل عما يصدر عنها من قول أو عمل رحمة بها وشفقة عليها وعملاً بوصية الرسول : ((استوصوا بالنساء خيراً)) ولأن هذا داخل في المعاشرة بالمعروف, وليعلم أن الناس في العشرة طرفان مذمومان، منهم من لايعرف الرحمة والعطف إلى قلبه سبيلاً، ومنهم من يفرط ويتساهل ويتسامح حتى ينفلت زمام الأمور من يده، والحق وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، ومن هنا نقول: إن الزوج يكون حازماً في وقت الحزم غير متساهل في الأمور الشرعية والدينية, كما عليه أن لا يألوا جهداً في الترفيه عن زوجته بما يدخل عليها السرور, وأن يكون طلق الوجه يحسن اختيار الكلمة الطيبة الحلوة وأن لا يهجرها على أمر دنيوي فوق ثلاث ليال.
1 - رواه مسلم.
2 - رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1141)
حقوق الزوجين (2)
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الاستقرار الأسري وعناية الإسلام بذلك لما ينبني عليه من سلامة المجتمع المسلم
2- محاربة أعداء الإسلام للمسلمين في المجال الأسري 3- الحقوق الزوجية ثلاثة أقسام :
أ- مشترك ب- خاص بالرجل ج- خاص بالزوجة
4- سرد للحقوق الزوجية المشتركة على ضوء ما أمر الله به من المعاشرة بالمعروف
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الاخوة والاخوات في الإسلام: إن بناء الأسرة من ضرورات قيام هذا الدين وهذه الأمة, لأن الأسرة لَبِنة المجتمع الأولى وأساس هذا البناء الزواج الناجح المبني على أسس سليمة متينة، وأهداف مستقيمة، لهذا حظيت الحياة الزوجية في الإسلام كغيرها بتشريع متكامل, وعالج الإسلام جميع جوانبها مما يضمن حياة سعيدة رضية مستقرة, ولهذا ندرك سر هجوم أعداء الإسلام على الأسرة المسلمة, لأنهم يعلمون أن في انهيار الأسرة المسلمة انهيار للمجتمع الإسلامي، فمتى كثرت المشاكل والخلافات في بيت، فلا تنتظر أن يخرج منه جيل صالح.
وحتى لا نقع فيما يريده أعداء الاسلام علينا أن نعمل على سلامة هذه الأسرة والحفاظ عليها ولن نحافظ عليها إذا لم يقم كل واحد من الزوجين بدوره أحسن القيام في هذه المؤسسة العظيمة.
وأحسن وسيلة هي أداء كل واحد منهما ما عليه تجاه الآخر، قبل أن يطلب ماله، وهذه قضية طويلة ألا وهي قضية الحقوق الزوجية, ولكننا نحاول ذكر أهم عناصرها بإيجاز, علماً أن مدارها وخلاصتها في قول الباري جل وعلا: وعاشروهن بالمعروف وقوله سبحانه: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف.
أيها الاحبة في الله: والحقوق ثلاثة أقسام: قسم مشترك وحقوق خاصة بالرجل, وحقوق خاصة بالمرأة.
وإليكم أيها الاخوة في الله الحقوق المشتركة وهي حقوق تجب لكل واحد من الزوجين تجاه الآخر, وليست خاصة بأحدهما, نلخصهما فيما يلي:
أولاً: حق المعاشرة بالمعروف، ومعنى هذا أن يعاشر كل من الزوجين صاحبه معاشرة حسنة, فلا يؤذيه بالفعل ولا بالقول ولا بما يستنكر شرعاً ولاعرفاً ولامرؤة, وإنما الصبر والرحمة واللطف والرفق, وأن يعامل كل واحد منهما الآخر كما يحب هو أن يعامل.
ثانياً: المناصحة بينهما فإن للتناصح دوراً كبيراً في الارتقاء بمستوى الأسرة وإنارة لدرب السلامة من التردي في الخطأ, غير أن كثيراً من الأزواج يرى من غير الطبيعي أن تؤدي المرأة دورها في نصيحة زوجها, وأن من السائغ أن تكون النصيحة من جانبه هو فقط, ويصل الظن ببعض الأزواج إلى أن قيامها بالنصيحة نوع من التطاول على حقه، وخَدش لكرامته ولقوامة الزوج, وهذا خطأ لأن التناصح مأمور به شرعاً, وحق للمسلم على المسلم, وحق مشترك بين الزوجين وخاصة أن النبي يقول: ((الدين النصيحة)).
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في هذا, وهو حق لكل مسلم على أخيه المسلم, ومن واجب كلا الزوجين أن يأمر صاحبه بالمعروف وينهاه عن المنكر.
ثالثاً: الشورى، بمعنى أن يكون التشاور وتداول الرأي قائماً بين الزوجين فيما يتعلق بشؤون البيت، وتدبير أمر الأسرة وتربية الأولاد, وليس من الحكمة في شيء أن يستبدّ الرجل برأيه ولا يلتفت إلى مشورة امرأته، لا لشيء إلا لأنها امرأة, ومشورتها قدح لقوامته عليها في نظره, فكم من امرأة أدلت برأي أرجح من رأي رجل, وكم من امرأة أشارت برأي صار له أكبر الأثر في استقامة الأمور وإصلاح الأحوال، وخير من يقتدى به في ذلك رسول الله يوم أن دخل على أم سلمة رضي الله عنها غاضباً مما فعل أصحابه يوم الحديبية حيث أمرهم بالحلق والتحلل فكأنهم تحرجوا وتباطؤا, فأشارت عليه أم سلمة رضي الله عنها أن يحلق هو أمامهم حتى يحلقوا فأخذ الرسول بمشورتها فما كان إلا أن بادروا إلى امتثال أمره عليه الصلاة والسلام.
رابعاًً: حق الإنجاب، يقول الله تعالى: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفَدة إن حق الإنجاب والرغبة في الولد أمر فطري عند الرجل والمرأة على السواء, لكن قد يزهد في طلب الولد لاعتبار ما في زمن ما، وعندها ينبغي لمن زهد منهما في الولد أن يراعى حق الآخر وخاصة إذا كان الدافع إلى الزهد في الولد مصلحة كمالية لا مصلحة ضرورية أو شرعية, ولهذا رأى الفقهاء رحمهم الله لما تحدثوا عن العزل أن يكون بإذن الزوجة مراعاة لحقها في قضاء الوطر وحقها كذلك في الولد، والرسول حرض على طلب الولد حين قال: ((تزوجوا الودود الولود, فإني مُكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) 1 ، ويلحق بهذا الحق حق التربية, فأمر التربية حق مشترك بين الزوجين, فكل واحد يقوم بواجبه إلا أنه من المتفق عليه أن ثمة مجالات تختلف باختلاف سن الولد وطبيعته فمنه ما يكون رائد التربية فيها الأب، ومجالات أخرى يكون رائد التربية فيها الأم، فعلى كل واحد منهما تقدير مجال صاحبه وعدم التعدي على حقه فيه مع التسليم إلى القوامة للرجل, وهذا لا يعني أن يلجأ أحدهما إلى الآخر ويُخطأه أمام الأولاد، ولا يليق تجريحه والنيل من كرامته أو أن يختلف الأبوان في الأسلوب الأمثل لحل واقعة بين الأولاد بحضورهم فإن ذلك يؤدي إلى جرح عميق في نفوسهم يبقى أثره أبد الدهر, وأقل ما يحصل من ذلك عقوق الأولاد لأحدهما, واستهانتهم بالمهزوم منهما فالملاحظات في شؤون التربية لا تكون أمام الأولاد ولكن بعيداً عنهم, إذا انفرد بها قال لزوجته ما شاء, وإذا انفردت به قالت ما شاءت.
1 - رواه أحمد وابن حبان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1142)
حقوق الزوجين (3)
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد العزيز الغراوي
الدار البيضاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من حقوق الزوجة على زوجها عدم الخروج في المنزل إلا لقضاء مصالحه ومصالح
الأسرة. 2- من حقوق الزوجة أن لا يمنعها من زيارة أهلها وأقاربها. 3- ومنها أن يغار عليها
ويصونها. 4- ومنها العدل بين الزوجات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوان والأخوات في العقيدة: الحق الخامس: أن يجلس الوقت الكافي في بيته لتأنس به, وأن يبتعد عن كثرة السهر خارج البيت إلى ساعات متأخرة من الليل, وهذا حق يجب أن يراعى حتى لاتضطر الزوجة إلى الخروج عن حيائها, فبعض الأزواج تراه في دنياه لاهياً أو يدمن على السهرات مع الأصدقاء والخلان ولايعود إلا متأخراً، قد ارهقه التعب وأضناه التعب واستنفذ مافي جعبته من المرح واللهو مع أصدقائه, فيدخل وربما لا بسلام ولا كلام ويرتمي على فراشه كالجيفة, ولو قدر الله أن يقضي وطره منها قضاه على وجهه لا تشعر معه الزوجة بسعادة، وكأنها ما بقيت في البيت إلا للكنس والطبخ والخدمة وتربية الأطفال فهي في نظره أو كما يعبر عنه حاله وواقعه معها, ليست بحاجة إلى قلب يَعطف عليها ورجل يُداعبها ويَحنّ إليها ويروي عاطفتها، ويشبع غريزتها, وإذا كان الرجل ينهى عن الانهماك والاشتغال بالعبادة لأجل إتمام هذا الحق لزوجته فكيف بإهدار الوقت وإضاعته في السهرات العابثة والليالي اللاهية؟ جاء سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما يزوره وقد آخى رسول الله بينهما، فإذا بأم الدرداء مبتذلة فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك لاحاجة له في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار، فجاء أبو الدرداء فرحب به وقرب إليه طعاماً فقال له سلمان: كُل، قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرنّ، فأكل معه ثم بات عنده فلما كان الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حق, ولربك عليك حق, ولأهلك عليك حق، صم وأفطر وصلّ, وائت أهلك وأعط كل ذي حقه حقه، فلما كان وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت فقاما فتوضأ ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة فأتى النبي فذكر ذلك فقال له النبي : ((صدق سلمان)) 1.
الحق السادس: أن لايمنعها من زيارة أهلها وأقاربها بلا إفراط, لأن ذلك من صلة الرحم, وهي واجبة في الإسلام, وذلك بعد أن تستأذنه عند الخروج وأن يكون خروجها شرعياً بحيث لا تمس طيب ولا تخرج بزينة, وأن لا تكون في زيارتها تلك ما يؤدي إلى الحرام, وهذا يكون في كل خروج اضطرت إليه المرأة لتخرج.
الحق السابع: أن يصونها وأن يغار عليها, فالزوج عليه أن يصون كرامة زوجته ويحفظ عرضها ويغار عليها, ومن المؤسف أن بعض حيوانات الغابة أكثر غيرة على زوجته من بعض الرجال اليوم، فتراه يطلق العنان لزوجته تختلط مع الرجال تحادثهم وتذهب للأسواق وحدها, وإذا كان الحَمْو هو قريب الزوج كأخيه الذي قال عنه النبي : ((الحمو الموت)) إذا كان لا يجوز لها أن تخالطه وتختلي به ويدخل عليها في غياب زوجها, فما بالك بغيره من البقال والسائق وغيره.
وينبغي أن تكون هذه الغيرة محمودة لا مذمومة لقول جابر كان النبي يقول: ((من الغيرة ما يحب الله, ومنها ما يبغضه الله فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة)) فيجب أن لا تتجاوز الغيرة حدها حتى لا تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
الحق الثامن: العدل ويقصد به إذا كان للزوج أكثر من زوجة, فحق كل واحدة أن يعدل بينهنّ فإن الله تعالى عندما أباح للرجال الزيادة على الواحدة قيّد ذلك بالعدل لقول الله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان ولقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم إلا تعدلوا فواحدة ويكون العدل في أمور كثيرة ذكر منها الطعام والشراب والكسوة والسكن والمبيت والكلام وحتى الابتسامة, أما المحبة فهذا الأمر لايقدر عليه لأن القلوب بيد الله سبحانه يقلبها كيف يشاء، فمن حق المرأة أن يعدل زوجها وأن لا يحابي وأن لايميز بين زوجاته في هذه الأمور المقدور عليها، وليعلم قول رسول الله : ((من كانت له إمرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً)) 2.
هذه أيها المسلمون حقوق الزوجة على الزوج التي ينبغي على كل زوج مسلم أن يؤديها لزوجته كما أمر بها الله ورسوله فالزوجة هي الجانب الأضعف والأحوج إلى العطف والرحمة وحسن الرعاية فعن أبي شريح صويلة عمرو الخزاعي قال: قال رسول الله : ((اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة)) 3 ، ومعنى أحرج الحق: الحرج أي الإثم، فمن ضيع حقهما وأحذر من ذلك تحذير بليغاً, وأزجر عنه زجراً كبيراً، فاتقوا الله عباد الله, وأدوا حقوق زوجاتكم, وتقربوا بأدائها إلى ربكم تفوزوا برضاه فإنهن عوان عندكم.
1 - رواه البخاري.
2 - رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي.
3 - حديث حسن رواه النسائي بإسناد جيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1143)
مفاهيم مؤلمة حول الغناء
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
11/5/1421
الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان أن من أبرز صفات النبي الحزن على عدم استجابة الناس لداعي الله، والفرح الشديد بهداية الخلق وذكر الأدلة على ذلك.2- خطورة تغير المفاهيم، لا سيما ما يتعلق بالأحكام الشرعية والأسماء والأحكام. (المعصية المحرمة، تصبح فناً، وأهل الفسق أبطالاً).3- بيان حرمة الغناء من أوجه متعددة، خصوصاً غناء اليوم.4- خطورة الأمن من مكر الله عز وجل، وسوء الخاتمة.5- أهمية الحرص على حسن الخاتمة، وذكر أمثلة لبعض المعاصرين في حسن الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإنه لا يخفى عليكم معاشر المؤمنين، ما وقع قبل أيام من وفاة مطرب مشهور، لفظ أنفاسه الأخيرة مغنياً، معانقاً آلة الطرب، على مرأى من الآلاف، وحدث كهذا أيها المؤمنون يحزننا ويؤسفنا ويفطر قلوبنا، فالمؤمن الحق هو الذي يفرح بهداية الناس وعودتهم إلى بارئهم، ويحزن ويأسى ويتألم إذا رأى الناس على معصية وضلالة.
وهذا خُلق قدوتنا وإمامنا صلوات ربي وسلامه عليه، حتى عاتبه ربه في ذلك، بل ونهاه أن يهلك نفسه حسرة على كفر الكافرين وإعراض المعرضين، تأمل قوله جل وعلا: فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً [الكهف:6].
قال ابن عباس: باخع نفسك: أي قاتل نفسك: لعلك يا محمد باخع نفسك أي قاتلها حزنا عليهم إن ماتوا على الكفر.
يقول ابن الجوزي: وهذه الآية يشير بها إلى نهي رسول الله عن كثرة الحرص على إيمان قومه لئلا يؤدي ذلك إلى إهلاك نفسه بالأسف [زاد المسير (5/105)].
وتأمل قوله جل وعلا: فلا تأس على القوم الكافرين [المائدة:68].
قال الطبري: أي لا تحزن يا محمد على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى. (جامع البيان 6/310).
واستمع إلى الإمام القشيري وهو يقول: والحزن على كفر الكافر طاعة.
وتأمل أيضاً أيها العبد المؤمن قوله جل وعلا: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [فاطر:8].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تغتم ولا تهلك نفسك حسرة على تركهم الإيمان).
فإذا كان المصطفى يحزن على تكذيب الكافرين وعنادهم وكفرهم، فالحزن على ضلالة الموحدين آكد وأبلغ.
يقول : ((إنما مثلي، ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تقتحمون فيه)) [1].
فنحن نعلنها للملأ عالية مُدّوية:
إننا والله لنحزن ونأسى ونتألم ونحن نرى الخلق يبارزون الجبّار بالمعاصي، ونفرح بتوبة الخلق ورجوعهم إلى الله بل ولا نفتأ ندعو لهم ليلاً ونهاراً بالهداية والمغفرة.
عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: ((أسلم)) فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) وفي رواية: ((الذي أنقذه بي من النار)).
إي ورب الكعبة هذا منهجنا وهذا هدينا نحمد الله ونشكره إن أنقذ الخلق من النار وأدخلهم برحمته الجنة مع الأبرار.
وكما أن المؤمن يتمنى الخير والإيمان والهدى والصلاح لجميع الناس فإنه كذلك يغضب لله وينصح لله ويغار لله إذا رأى حرمات الله تنتهك وإذا رأى أهل الفسق والفجور يظهرون ويبرزون وُيَمجَّدون.
ويزداد غضبه لله، وتزداد غيرته وهو يرى المعاصي والمنكرات تُوصف للناس وتقدم على أنها رسالة وأمانة وواجب، وأن الذي يموت في سبيل نشر معصيته بطل ومجاهد وعلم شامخ.
إنه ورب الكعبة، آخر الزمان، زمان تتغير فيه المفاهيم وتنقلب فيه الموازين ويضحي المنكر معروفاً والمعروف منكراً، وقد ثبت أنَّ النبي ذم من يسمي الخمر بغير اسمها، فإن مناط الذم وسببه، هو تغيير الحقائق وإظهار المحرمات بمسميات مختلفة تهويناً لشأنها وتضليلاً للعوام من المسلمين.
والغناء معاشر المؤمنين، حرام حرمة بينة، لا تخفى إلا على من ختم الله على قلبه أو عقله، عياذاً بالله.
وغناء اليوم، أشد حرمة من غناء الأمس، وهو محرم من أوجه عديدة، نتدارس عشرة منها، كل وجه منها يكفي لردع من كان في قلبه مثقال ذرة من حياة وإيمان وخوف من العزيز الجبار.
وليس المقام مقام تفصيل، أو رد على شبهات، وإنما هو مقام تبيين وتبصير وتذكير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: فكن مصغياً، شاهداً بعقلك وقلبك على هذه الأوجه.
أولها: أنه اقترن بالمعازف:
والمعازف حرّمها رسول الله ، بل وقرنها مع محرمات معلومة من الدين بالضررة كالزنا وشرب الخمر، فقال : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف)) [2].
فتأمل قوله : ((يستحلون)) ؟! وتأمل ذكر حرمة المعازف مع الحِر (الفرج، كناية عن الزنا) وذكر الخمر والحرير.
والوجه الثاني: أنه على الصورة التي وصفها النبي وأخبر أن ظهورها مؤذن بحلول العذاب والنقم كالخسف والمسخ والقذف، فقال : ((يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف!! قيل: يا رسول الله متى ذلك؟ قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشربت الخمر)) [3].
والقِيان جمع قَينة، وهي المرأة المغنية.
فتأمل رحمك الله هذا النص المحكم الواضح: سيعاقب الله أمة المصطفى بما عاقب به الأمم من قبلنا، بالقذف بحجارة من السماء وبالمسخ (قردة أو خنازير) أو الخسف، تخسف الأرض وتكثر الزلازل، متى يكون ذلك؟!
يكون إذا ظهرت المعازف، ومعنى ظهورها أي انتشارها وكثرتها، فها هي آلات المعازف لا تكاد تحصى عدداً وها هي معاهد العزف ومدارسه في أنحاء العالم الإسلامي وها هن المغنيات المائلات المميلات يحترفن الغناء ولم يبق إلا تحقق الوعيد بالخسف والمسخ والقذف، اللهم لا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منّا.
وأما الوجه الثالث: أن في بعضه انتهاكاً للمقدسات والشعائر بل وكلام رب الأرض والسموات فهذا أحدهم يقتبس من آية طه فيقول: رحمن يا رحمن يا من فوق عرشه مستو، وآخر يغني بالتين والزيتون وقل يا أيها الكافرون، وآخر يتربص بالطائفات الغافلات وهن في حالة الإحرام بين الركن والمقام فيتغنى بقوله:
قف بالطواف ترى الغزال المحرم حج الحجيج وعاد يقصد زمزما
والمصطفى يقول: ((الحجاج والعمّار وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم)).
فانظر كيف يتعرض الفساق والفجار لوفد الرحمن بالغزل والمجون وبقية أبيات الأغنية فاضحة فاجعة، يغازل المرأة المحرمة بين الركن والمقام وعند الملتزم بكل بجاحة واستخفاف، ثم نجد من يسمي هذا المجون والفجور فناً ورسالة!!
نعم، إنه رسالة، ولكنها شيطانية إبليسية رسالة لإفساد الأخلاق والدين وإثارة الشهوات والغرائز.
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. وفي بعضها أيضاً استخفاف بالموت والقبر، فهذا مطرب مشهور يقول في أحد أغنياته:
أوصي أهلي وخلاني حين أموت يضعو في قبري ربابة وعود
والوجه الرابع في تحريم غناء اليوم:
أنه يدعو في مجمله للغرام والحب والعشق وكل ما يفضي إلى الزنا وإثارة الغرائز وتحريك الشهوات، لا سيما عند النساء، وقد ثبت أنهن رقيقات يتأثرن بالصوت الحسن فكيف إذا اقترن الصوت الحسن بالمزامير والمعازف، وقد قال : ((يا أنجشة رويدك رفقاً بالقوارير...)).
وتأمل قول فاجرة من أشهر أهل الغناء:
ما أضيع اليوم الذي مر بي من غير أن أهوى وأن أعشق
فها هي كوكبتهم تتحسر على اليوم الذي يضيع دون هوى أو عشق.
خامسها: تواردت التفاسير عن السلف وأئمة التفسير، بأن الغناء هو المراد في الآيات التي ذم فيها المولى عز وجل أهل الجاهلية.
فهو اللهو:
ومن الناس من يشتري لهو الحديث...
قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء.
وهو قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما.
قال ابن القيم: "إنك لا نجد أحداً عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء".
- وهو الزور واللغو: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو.
قال محمد بن الحنفية: الزور هنا الغناء.
والزور يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل.
- وهو صوت الشيطان وقرآنه، يقول تعالى: واستفزز من استطعت منهم بصوتك.
قال مجاهد: "وصوته: الغناء والباطل".
سادسها: اقتران غناء اليوم بالتصوير الفاضح، للبغايا والمومسات فما من مطرب إلا ويترنح حوله نفر من الراقصات، وما من مطربة إلا وحولها نفر من الرجال يتراقصون ويتمايلون فمن يجيز يا أمة الإسلام مثل هذا الاختلاط والسفور والرقص وتعرية النحور؟!
هذه الأوجه ثابتة في الغناء الذي يكون في الأماكن العامة والحفلات المفتوحة للعوام من الناس. وأما الحفلات الخاصة، التي يحضرها سفلة القوم من الظالمين والفاسقين، فحرمتها آكد وأظهر، ويظهر ذلك.
في الوجه السابع: شرب الخمور والمسكرات والمخدرات، فلا يحلو الغناء إلا به ولا يحصل الطرب بدونه فهما توأمان متلازمان.
الوجه الثامن: العري الفاضح والحضور الواضح للراقصات المحترفات والبغايا السافلات.
الوجه التاسع: انتهاء الحفلات غالباً بجريمة الزنا، فبعد أن يسكر الحضور وتخمر العقول يقع المحذور.
ظلمات بعضها فوق بعض.
الوجه العاشر: انفاق الأموال الطائلة، في هذه المعصية، فالمطربون يتقاضون أجوراً باهظة بمئات الآلاف، نعم، مئات الآلاف لا عشراتها، لا سيما في الحفلات الخاصة، ويسهم منظمو هذه الحفلات بدفع هذه الأجور وكذا جماهير الحضور.
وهذا سفه وتبذير، والمولى عز وجل يقول: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.
فهذه حرمات الله عز وجل، فلا تعتدوها، وهذه حدوده فلا تتجاوزوها.
وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون!!.
[1] رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
[2] أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به ووصله غيره كالاسماعيلي.
[3] أخرجه الترمذي (ح2213).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
إذا كان هذا حال الغناء، وهذه درجته في الإثم والعصيان، فكذلك منزلة أهله، ومحبيه والمرء يحشر مع من أحب. فمن أحب الأخيار وأهل القرآن حشر معهم ومع ساداتهم من النبيين والصديقيين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. ومن أحب أهل الليل والسمر والغناء والسهر حشر معهم. فهذا كلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
وهذا لا يعني أننا نحكم على أحد بجنة أو نار، فالمؤمن الموحد إن مات على الإسلام ولقي الله بذنوب وأثام كأمثال الجبال، فإنه تحت المشيئة، إن شاء الغفور الرحيم، غفر له، وإن شاء عذبه على قدر ذنوبه ومآله إلى الجنة.
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
نحن أمة أُمرنا أن نجري أحكام الناس على ما يظهر لنا منهم، ونكل سرائرهم إلى علاّم الغيوب، الذي يعلم السر وأخفى.
وقد كان النبي يقسم للمنافقين من الغنائم ويصلي عليهم ويورثهم مع علمه بأنهم في الدرك الأسفل من النار. فكان يعاملهم بما يظهر منهم وبما يقولون.
وها هو الفاروق يقول مقولة ربّانية، نقلها لنا الإمام البخاري في صحيحه ((إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم. فمن أظهر لن خيرا أمنّاه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة)).
نعم معاشر الممؤمنين لنا الظاهر، والسرائر أمرها إلى خالقها سبحانه فمن ظهر منه سوء وشر حكمنا عليه بما ظهر منه، ومن ظهر منه خير وصلاح أحببناه وقربناه. والإنسان يبعث يوم القيامة على الحالة التي مات عليها. فالشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب أي ينزف اللون لون الدم والريح ريح المسك والمحرم، يبعث بإحرامه ملبّياً ، كما مات بإحرامه، ودفن بإحرامه، يبعث كذلك ومن مات على معصية، فإننا نعتقد جازمين أنه يبعث على معصيته، مصداقاً لقول الرحمة المهداة صلوات ربي وسلامه عليه: ((يبعث كل عبدي ما مات عليه)) [1]. هذا هو الإعتبار الشرعي، أما من يموت يوم الجمعة أو يوم عرفة وهو متلبس بمعصية أو على سوء والعياذ بالله، فهذا لا ينفعه الزمن الفاضل الذي مات فيه ولا المكان؟؟
ما تقولون لو أن رجلاً قتل نفسه يوم الجمعة، أو زنا يوم الجمعة ثم مات وهو يزني أينفعه ذلك؟
ثم إن الكفار والمنافقين واليهود والنصارى يموتون يوم الجمعة ويوم عرفة وليلة السابع والعشرين من رمضان؟؟ فهل ينفعهم ذلك؟؟
إن العبرة معاشر المؤمنين بالخواتيم، وما يكون منك في آخر رمق لك.
وتأمل قوله : ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة)) فتأمل قوله: آخر كلامه من الدنيا، دليل على أن هذا هو المعتبر.
وليس الهدف معاشرا لمؤمنين من إيراد هذا الكلام وتأصيل هذه القاعدة الحكم على الأعيان أو التشهير بالأفراد وإنما الهدف أن نتعظ ونعتبر وأن نعمل صالحاً، عسى الله عز وجل أن يتوفانا على الإيمان والطاعة.
فكلما أن المؤمن يخاف من سوء الخاتمة، فإنه أيضاً يحرص على حسن الخاتمة، فكم من رجل مات ميتة عادية، لا هي سيئة ولا هي حسنة.
والواجب على المؤمن أن يحرص على ميتة يُبْعَث عليها. وهذا يتطلب مجاهدة لهوى النفس وقرباً من الرحمن عز وجل وانشغالاً بالطاعات والقربات مع إخلاص ذلك كله لله عز وجل.
فالمؤمن الذي ينفق أوقاته في الطاعة والعبادة والدعوة نرجو الله عز وجل أن يختم له بها إن كان مخلصاً لربه عز وجل، طبيب مشهور معروف في مكة بأسرها، كان رجلاً من العوام، ولكن كان مصلياً محافظاً على صلاته، فختم الله عز وجل له حياته الحافلة بالمحافظة على الصلوات ختمها له بصلاة الفجر، فمات وهو في التشهد بعد التعوذ من الأربع من النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال، خر ميتاً، فهنيئاً له ولذويه هذه الخاتمة، فإنه يبعث يوم القيامة وهو في جلسة التشهد. وأحد إخواننا الأئمة، المنشغلين بالقرآن وإمامة المسلمين، بعد أن ختم القرآن وأوتر، خر راكعاً فأناب وما رفع رأسه من الركوع بعدها أبداً.
وهذا الشيخ عبد الله حزام يغتسل للجمعة ويخرج إليها، فتأتيه منيته وهو مغتسل غسل الجمعة ذاهب إلى المسجد لحضور الذكر، وهذا الشيخ الجار الله، يقبضه المولى عز وجل بعد انتهائه من السعي.
ولا أظن أحداً من الحاضرين إلا ويعلم قصة لقريب أو صديق مات على طاعة أو مات على معصية.
إن في ذلك لآيات، أفلا يسمعون.
[1] رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.
(1/1144)
رقية الزنا
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغير مفاهيم الأمة ونظرتها إلى أهل المعاصي. 2- من هذه المفاهيم التي تغيرت نظرت الأمة إلى الغناء وأهله. 3- كلام الأئمة في تحريم الغناء ، وصفة هذا الغناء عندهم. 4- شبهة يثيرها المستحلون للغناء ، وكلام ابن القيم في الرد عليها. 5- بعض أسماء الغناء التي ذكرها ابن القيم. 6- تحذيره من استحلال الغناء ، وعقوبة ذلك. 7- حقيقة البلاء في عدم الإحساس بالداء ، وبيان ذلك في واقع الأمة اليوم. 9- دور الإعلام الخبيث في انحراف الأمة وبث الفساد. 9- نداء لعلماء الإسلام ودعاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
فقد كان الناس فيما مضى يستتر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر؛ حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهاراً، ثم ازداد الأمر إدباراً حتى أصبحت هذه المعاصي مبعثاً للتفاخر والتباهي، وسبيلاً إلى التقدم والثناء.
ومن كان بالأمس سفيهاً فاسقاً مردود الشهادة أصبح اليوم علماً بارزاً عملاقاً مجاهداً فعلاً وقدوة.
بل حتى المسلَّمات والضرورات المعلومات طويت وأهملت لئلا تكدر على الناس نشوتهم وتوقظهم من غفلتهم وتفيقهم من سكرتهم؛ فبينما كانت الشهادتان والتوفيق إليها عند الممات علامة الفلاح والنماء.. غدا "دام الأمل موجود.. فالنفس خضاعة". مبعث شرف وانتحار عنوان حسن ختام!!
وبينما كانت الأمم والشعوب تحيا وتعرف بدينها وعقيدتها وجهادها وعطائها أصبحت لا تعرف إلا من خلال فنونها وإبداعاتها الفنية وفقط!!
وكيف يصح في الأذهان شيء وقد احتاج النهار إلى دليل؟!
نعم، فقد احتاج النهار إلى دليل، احتاجت الأمة إلى دليل على حرمة الغناء على هذه الصورة المعهودة اليوم، والتي لا يماري فيها أحد من أهل الإسلام، وهاكم كلام أهل العلم في غناء لا يشبه غناء اليوم إلا في اسمه فقط، ولم تجتمع فيه هذه المنكرات التي يكفي أحدها منفرداً لتحريمه.
أما الإمام مالك رحمه الله فسئل عما يرخّص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.
وأما أصحاب أبي حنيفة فصرحوا بتحريم سماع الملاهي كلها، وأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، بل قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم كما نقله ابن القيم عنهم، وأما الإمام أحمد فقال فيه:ينبت النفق في القلب.
وأما الشافعي فقال فيه: "إن الغناء مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته"، وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه.
وما نقل من الخلاف عن بعض أهل العلم فإنما هو في الغناء المجرد عن المعازف، أما الغناء الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريمه، حيث قال في فتاواه:
"وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عند أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف، أنه أباح هذا السماع، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أوكاد..".
بل تواتر عن الشافعي أنه قال: "خلّفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن".
فإذا كان هذا قوله في التغبير وهو شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه، وتعليله: أنه يصد عن القرآن!! فترى ماذا يقول الشافعي في غناء اليوم؟!
وهذا قولهم في سماعه من الرجال، أما سماعه من المرأة الأجنبية فمن أعظم المحرمات وأشدها فساداً للدين.
قال الشافعي: "وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته"، وقال: "هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثاً".
قال ابن القيم: "فلعمر الله كم من حُرّة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا..".
شبهة وردها:
وكما هو شأن كل مبطل، وديدن كل صاحب هوى وزيغ يدع المحكم الصريح للمتشابه، فيغفل النصوص الواضحات والأدلة المحكمات ويتذرع بشبهة دليل في غير ما مسألته ولا حقيقتها، ومن ذاك احتجاجهم على جواز الغناء على هذه الصورة المعلومة المعروفة بما جاء في الصحيحين من قوله لأبي بكر لما نهر الجاريتين وقال لهما: مزمار الشيطان عند النبي فقال له: دعمهما.. فلم ينكر عليه تسمية الغناء مزمار الشيطان، وتركهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بيوم بُعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم عيد.
يقول ابن القيم: "فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية أو صبي أمرد صوته فتنة، وصورته فتنة، يغني بما يدعو إلى الزنى والفجور وشرب الخمور مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله في عدة أحاديث مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرات التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان فضلاً عن أهل العلم والإيمان...".
وقال رجل لابن عباس: ما تقول في الغناء أحلال هذا أم حرام؟ فقال له: أرأيت الحق والباطل، إذا جاء يوم القيامة، فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك.
قال ابن القيم: "فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربات فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول؛ فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته.
فمن أبطل الباطل أن تأتي الشريعة بإباحته، فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله على النكاح...".
فمن أسمائه رُقية الزنا، كما قال الفضيل، وقال يزيد بن الوليد: " يا بني أمية إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنى.
وقال ابن القيم فيه: وأكثر ما يُورث عشق الصدور واستحسان الفواحش.
• وأما آثاره وأسماؤه الأخرى فكثيرة جداً:
فهو اللهو واللغو والباطل والزور والمكاء والتصدية وقرآن الشيطان ومُنبت النفاق في القلب والصوت الأحمق والصوت الفاجر.
أسماؤه دلت على أوصافه تباً لذي الأسماء والأوصاف
فهو اللهو: ومن الناس من يشتري لهو الحديث...
قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء.
وهو قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما.
قال ابن القيم: "إنك لا نجد أحداً غُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علماً وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء.
وهو الزور واللغو: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً.
قال محمد بن الحنفية: الزور هنا الغناء.
والزور يقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، والمحل.
وهو مُنبت النفاق:
قال ابن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع".
قال ابن القيم في توجيه ذلك:
"وسر المسألة أنه قرآن الشيطان – كما سيأتي – فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبداً.
وأيضاً: فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين:
إما أن يهتك فيكون فاجراً، أو يظهر النسك فيكون منافقاً.
وأيضاً: فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل وعمل الغي وهذا ينبت على الغناء.
وأيضاً فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام للصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتوناً بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضاً: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يُحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويُقبح الحسن ويزهّد فيه وذلك عين النفاق.
وهو صوت الشيطان وقرآنه : واستفزز من استطعت منهم بصوتك.
قال مجاهد: "وصوته: الغناء والباطل".
وقد كان يكفي الأمة المسلمة الموحدة المحبة لرسولها المتبعة لطريقته أن تسمع قوله : محذراً أمته من المعازف واستحلالها – قد كان يكفيها ذلك لتمتثل وتقول: "سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير".
يقول عليه الصلاة والسلام: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) ، والحديث أخرجه البخاري تعليقاً وجزم به ومعلوم عند أهل العلم أنه لا يجزم إلا بما صح وصله عنده، وقد وصله غيره.
فتأمل كيف قرن بين استحلال الحِر وهو الفرج كناية عن الزنا وبين استحلال المعازف، واذا كان الكثيرون اليوم لا يستحلون الزنا صراحة فلا عجب أن يأتي ذلك الزمان الذي يستحل فيه صراحة وقد نعقت أبواقهم بمقدمات ذلك تحت مسميات عدة.
وهذا أمر خطير ونذير شؤم على الجميع إذ به تتعرض الأمة لغضب ربها وسخطه وعذابه الأليم كما قال ، فيما رواه عنه الترمذي وصححه الألباني من حديث عائشة: ((ليكونن في أمتي قذف ومسخ وخسف، قيل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان وشرب الخمر)).
والقيان جمع قينة وهي المرأة المغنية.
ولكن ماذا تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يتعظون ولا هم يتذكرون؟!.
أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
ولكن لسان حالهم وربما مقالهم يقول: قد مس آباءنا الضراء والسراء.
وصدق الله: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حت يروا العذاب الأليم. ولا نعني بذلك تكفير أهل الكبائر والمعاصي ولكنها دركات ودرجات ومشابهة القوم في أخلاقهم تورث منازلهم وكما قيل: المعاصي بريد الكفر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
إخوة الإسلام: إن مكمن البلاء ليس في انتشار الداء فحسب، ليس في وجود أصل المرض فحسب، ولكن في غفلة المريض عنه بل أشد من ذلك إذا ظن نفسه هو الصحيح وغيره هو السقيم.
وهذا هو حال الأمة اليوم إلا من رحم الله تبدلت فيها المفاهيم وتغيرت القيم وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وأصبح اللاهون والفاسقون هم قدوة الأمة وعنوان مجدها، وهم نجومها وسفراءها.
وبينما كان الغناء هو شعار الفساق عندما كانت أمة مجاهدة عزيزة تجوب الأرض شرفاً وغرباً رافعة راية لا إله إلا الله.
فإذا به اليوم والأمة تلهث وراء شهواتها وأهوائها وتتسول موائد أعدائها وتقدم أبناءها ومقدساتها قرباناً لآلهتها إذا به اليوم عنوان التقدم وشعار الرقي ودثاره.
وبينما كان المجاهد والشهيد من يجود بنفسه في سبيل الله وانتصاراً للدين في ميدان المعركة إذا به اليوم من يموت محتضناً عوده على خشبة المسرح!!.
وبينما كانت الأمة تحزن لموت علمائها ودعاتها وصالحيها، إذا بها توجه لرثاء فاسقيها وماجنيها.
وصدق المصطفى : ((.. حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)).
إخوة الإسلام: إن الأمر جد خطير ويحتاج وقفة قوية مع هذا الإعلام والقائمين عليه؛ والذي يحاول صياغة الأمة وتنشئة أبنائها على غير دينها وعقيدتها، ويرسخ في حس أبنائها وأطفالها نماذج للبطولة الزائفة والقدوة المشوهة.
وبينما كان أبناء المسلمين يتعلمون سيرة أسامة وخباب ومصعب وابن الزبير فيخرج منه قادة العالم وفاتحوه.
إذا بهم يتعلمون سيرة الفنان والفنانة واللاعب والمطربة فيخرج منهم مسخ مشوه وأبطال زائفون يبيعون الأمة ومقدساتها.
بل إنهم يلوون الأمورويقلبونها ويصورونها على خلاف حقيقتها ودلالتها حتى إذا كان فيها عظة وذكرى لمن كان في قلبه بقية إيمان أتوا على هذه البقية.
وإذا كان استقر في حس الأمة أن النطق بالشهادتين عند الوفاة عنوان الفلاح والتوفيق؟
فكان لهؤلاء رأي آخر وإذا كان أهل العلم قديماً وحديثاً يحذرون الأمة من مغبة المعاصي وأثرها عند الوفاة وأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه فالشأن عند هؤلاء مختلف ودلالته مختلفة.
بل إنهم يحولون هذه المواقف التي هي داعية توبة وإنابة إلى داعية بث للانحراف والفجور بإشراف أولياء الأمور.
نشرت الصحت قول إحداهن عند موت فنان معروف: "كنت أتمنى أن أتعاون معه كملحن لأنني كنت أعرف جيداً أنه كان يحب صوتي.. وأكد لي على ذلك والدي الدكتور!!".
انظروا كيف أصبح حال الأمة وغيرة رجالاتها وآبائها!!
فالله الله أمة الإسلام وعلماءه ودعاته في دينكم وأمتكم وأمانتكم، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث.
وقد كثر الخبث وطغى وأزبد.
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً.
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بعتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا...
(1/1145)
أنذرتكم العار
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
18/2/1419
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة وأهمية المرأة في المجتمع جعلها هدفاً لسِهام الغرب 2- سياج الإسلام يحفظ المرأة
3- صور للاختلاط في مجتمعنا 4- عقوبة الله في ذنبي الاختلاط والزنا 5- أقوال للغربيين
للفصل بين الرجال والنساء 6- كليات للبنات فقط في أمريكا
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة في الله: يتبارد إلى أذهان الجميع لماذا التركيز على المرأة من قبل الغرب، ومن قبل اتباعه المستغربين العلمانيين؟
والجواب على هذا: إن هؤلاء قد فطنوا لمكانة المرأة الأساسية ودورها في صنع الأمة وتأثيرها على المجتمع، ولذلك أيقنوا أنهم متى ما أفسدوا المرأة ونجحوا في تغريبها وتضليلها فحين ذاك تهون عليهم حصون الإسلام، بل يدخلونها بكل يسر وسهولة ودون أدنى مقاومة.
يقول شياطين اليهود في بروتوكولاتهم: علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية. ولذلك نجح اليهود في توجيه الرأي العام الغربي حينما ملكوا المرأة عن طريق الإعلام وعن طريق المال. وقال آخر من ألد أعداء الإسلام: كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات [1].
ولذا أحبتي الكرام كتبت هذه الكلمات بقلم المحب المشفق الناصح المنذر بخطورة المرأة إذا حادت عن طريق ربها، ولأن الرجل قد يصمد في كثير من المعارك والحروب ولكن هذا الرجل العملاق يفاجأ أنه كثيرا ما ينهار أمام المرأة بمغرياتها وفتنتها وصدق القائل:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
ولذلك يقول النبي : ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [2] ، ويقول المصطفى : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [3].
أحبتي الكرام: إن من المظاهر الخطيرة المنذرة بالخطر الداهم، ظاهرة التبرج والسفور والاختلاط مع أن الأدلة متضافرة في النهي عنها والتحذير منها يقول الله جل جلاله: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ولقد نهى رسول الله بشدة عن الاختلاط والتبرج، ومنع كل ما يؤدي إليه حتى في مجال العبادات وأماكنها فلقد أسقط عن المرأة الجمعة والجماعة والجهاد، وجعل جهادهن لا شوكة فيه، وهو الحج المبرور، وقال عليه الصلاة والسلام: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها)) [4] ، وقال : ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) [5].
أحبتي الكرام: إن هذه الظاهرة لو تساءلنا بصدق هل الواقع الذي نعيشه الآن ونراه صباح مساء هو الواقع الذي كان عليه سلفنا قبل فترة ليست بالطويلة؟ إن كل عاقل لبيب يعلم أن ذلك المجتمع في عمومه لا يمكن مقارنته بل ولا تستساغ المقارنة مع مجتمعنا اليوم.
إن ما يجري وما نراه اليوم نخشى ورب الكعبة بسببه عقوبة تعم الصالح والطالح، ألستم ترون معي المشاهد المخزية المتكررة يومياً، إن من يدخل أسواق المسلمين اليوم يرى من المشاهد ما يندى له الجبين، وتتفطر له الأكباد، ترى بعض نسائنا وكأنها في صالة عرض لجسمها، أمام مرأى ومسمع من الناس بلا حياء، وإذا انتقلت إلى صورة أخرى وهو الاختلاط الموجود في كثير من الأماكن الأطباء والطبيبات، المرضى والممرضات، بين الممريضات والممرضين، الاختلاط في الحدائق العامة، وبعض الأعراس والمناسبات الاجتماعية والمطاعم العائلية، فوأسفا على ما آلت إليه حالة الإسلام بين أقوام أنكروه بعدما عرفوه، ووضعوه بعدما رفعوه، وذهبوا به مذاهب لا يعرفها، ولا شأن له بها.
أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع فلا تريقها أمام هذا المنظار المحزنة، أي قلب يستطيع أن يستقر بين جنبي صاحبه ساعة واحدة فلا يطير جزعا حينما يرى تلك المشاهد.
أيها الأخوة في الله: إن المجتمع الذي ينتشر فيه التبرج والسفور والاختلاط يسير إلى الهاوية، ويسعى إلى حتفه، ولسوف ينخر الفساد في كيانه، وتعم الفوضى أرجاءه، ويعيش أفراده في شقاء وحيرة، بل سيكونون أسوأ حظاً من الحيوانات.. عندما ينتشر الاختلاط ستتفكك الأسر، والروابط العائلية، لأن كلاً من الزوجين يحس بالاستغناء عن الآخر، ولأنهما لن يجدا الثقة في بعضهما، فتنعدم المودة والرحمة، والسكن والأمن، وعند ذلك سينشأ جيل عاش في هذا الجو المكفهر، وسيكون لذلك أكبر الأثر على نفسيته وعقليته وخلقه، وسيتقلص النكاح الطبيعي الشرعي، وستنتشر الفواحش وتسيطر الشهوات، فالبضاعة معروضة، وسهلة المتناول، وستنتشر بيوت البغاء، بل قد تتخذ حرفة تجبى من ورائها أرباح باهظة، ولسوف تبدد الأموال بلا مقابل لبذلها في إشباع الغرائز وتحقيق الشهوات، وسيعرض الناس عما يخدم المجتمع، فلن يُهتم بالإنتاج وأسباب التقدم والعمران، وسيكون هذا المجتمع نهباً للغاصبين، ولقمة سائغة للمستعمرين، والسبب الرئيسي كما اعترف به المؤرخون لسقوط باريس، عاصمة فرنسا، واستسلام الجيش الفرنسي أمام جيوش الألمان خلال مدة قصيرة، هو الاسترسال في الشهوات، والانغماس في الملذات، والإخلاد إلى الترف والخوف على مراقص باريس ومواخيرها وحاناتها، فهوت على ركبتيها عند أول ضربة، خاضعة ذليلة، تستجدي الظافرين.
هكذا أيها المسلمون عندما ينتشر هذا الداء، فعلى الأخلاق السلام، ستذهب ليحل محلها الكذب والخداع، وتعاطي المحرمات، وارتكاب الفواحش جهارا وبلا حياء، وستدفن النخوة والشهامة، بل سترحل الحشمة والغيرة، قال ابن القيم رحمه الله: (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنى، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة) [6].
أيها الأخوة: وهناك أمراض فتاكة متنوعة، تتولد في المجتمع المختلط كالسيلان والزهري، والتقرحات الجنسية، والشذوذ الجنسي ومرض النضج الجنسي المبكر، والضحية الأولى في هذا الفساد هي المرأة التي استدرجت وأخرجت من قرارها، فهي ستنشغل بجمالها، وتقضي الأوقات الطويلة لتحسين مظهرها، لتلفت أنظار الآخرين إليها، وتستأثر بنظراتهم. بل الأطفال أيضا سيكونون ضحية لهذا الداء، فالطفل محروم الحنان والعطف والحب من أبويه، لأن المحاضن تنتظره ليعيش فيها بين أفراد آخرين لا تربطه بهم سوى التنافس على الحاضنة، فهو محروم من جو الأسرة المترابط المتحاب.
ولقد سارت أغلب المجتمعات الإسلامية في هذا الطريق فعم الاختلاط في جميع المجالات، وبدأت من حيث انتهى الآخرون.
كل ذلك تقليد أعمى لحياة الغربيين، وسير على طريقهم، وتقديس لحضارتهم وثقافتهم، لقد بدأ الغربيون يحسون بخطر الاختلاط على حياتهم ومستقبلهم، فاعترفوا بإفلاسهم وخطئهم في تجاربهم، فأخذوا يرجعون إلى ما بدأ يتركه الشرقيون. فيوجد في أمريكا 154 كلية خاصة بالبنات [7] وتقول الكاتبه آرنون: (ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة) وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: (إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة) وقالت لاديكون: (علموا النساء الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد [8].
ونحن وإن كنا في غنى عن هذه المقالات اكتفاء بما نراه في واقع المجتمعات الغربية من فساد يراه كل ذي عينين، واكتفاء بما عرفناه من الحق، إلا أننا نورد هذه المقالات من علماء الغرب من باب قوله تعالى: وشهد شاهد من أهلها ومن باب قولهم (والفضل ما شهدت به الأعداء)، ولأن المستغربين في ديارنا يرون أن كلام هؤلاء هو الحجة التي لا تقبل النقاش، وحالهم هو الحياة المثلى التي لا تعلو عليها حياة.
بارك الله لي ولكم...
[1] أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة للشيخ بشر البشر ص7 بتصرف.
[2] رواه مسلم
[3] متفق عليه.
[4] رواه الترمذي وقال حسن غريب وابن حبان،
[5] رواه النسائي.
[6] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص281
[7] مكانك تحمدي ص93
[8] انظر فتياتنا بين التغريب والعفاف 57-58 بتصرف
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الآباء: تذكروا أنكم موقوفون بين يدي الله تعالى غدا ومسئولون عنهن قال عليه الصلاة والسلام: (الرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته) احذروا التبرج والسفور والاختلاط فإنها والزنى رفيقان لا يفترقان، وصنوان لا ينفصمان غالباً، أنذرتكم العار، أنذرتكم العار.. أنذرتكم العار.. أنذرتكم العار، أنذرتكم العار.
ن الأعراض إذا لم تُصن بالعفاف والحصانة واحترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين فإنها ستأكل بلا عوض ولا أثمان وعندها لا ينفع بكاء ولا ندم واللوم أولاً وأخيراً على وليّ البنت الذي ألقى الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع [1]
إني داع فأمنوا، اللهم احفظ فتيات المسلمين من كيد الكائدين، وتربص المتربصين، واجعلهن بالصحابيات مقتديات، وعن الضلال معرضات، وللكتاب والسنة مقتفيات، اللهم من أراد بنسائنا سوءا، اللهم أشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدميره تدميرا عليه يا سميع الدعاء اللهم انتقم منه، اللهم انتقم منه، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أقر أعيينا برؤية زرع الإسلام وقد استوى على سوقه، يعجب الزراع لنغيظ به الكفار، إلهنا إله الحق.
[1] صيحة تحذير وصرخة نذير ص24
(1/1146)
أيها الآباء اتقوا الله في أولادكم
الأسرة والمجتمع
الأبناء
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
27/5/1419
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة لتربية الأبناء وتأديبهم 2- الأولاد فتنة خير يَبتلي الله فيها العبد 3- صور من
تأديب السلف لأولادهم 4- سوء تربية الأبناء عقوق لهم يتضرر منه الآباء قبل غيرهم
5- توجيهات عامة في تربية الأبناء
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة في الله: إن الله سبحانه أنزل إلينا خير كتبه وشرع لنا أفضل شرائع دينه ،شرع لنا ما ينفعنا، وأمرنا بما هو كفيل بسعادتنا في الدنيا والآخرة، ومن تلك الآوامر الإلهية التي يخاطب الله فيها عبادة الذين آمنوا، ذلك الخطاب الرباني الموجه إلى أرباب الأسر، محذرا ومنذرا ومذكرا وموجها، يقول الله جل جلاله فيه: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فالقرآن يهيب بالذين آمنوا ليؤدوا واجبهم في بيوتهم من التربية والتوجيه والتذكير، فيقوا أنفسهم وأهليهم من النار، قال ابن عباس : (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار) وقال علي بن أبي طالب : (علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم).
أيها الأخوة في الله: إن من شب على شيء شاب عليه غالبا، فمن نشّأ أولاده على الأخلاق الفاضلة والمثل الكريمة في الصغر، سر وانتفع بهم في الكبر، وإن نعمة الأولاد نعمة كبرى، ومنتها منة عظمى، أنعم الله بها على من أعطاهم إياها المال والبنون زينة الحياة الدنيا وإن العاقل الذي أوتي هذه النعمة ليدرك أن استقرار هذه النعمة واستمرار أثرها على الإنسان في محياه ومماته بتوجيهها التوجيه الذي أمر الله به في قوله جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ، وقوله سبحانه: وأنذر عشيرتك الأقربين والبعد كل البعد عن التساهل والتفريط في شأنها، فإنها بجانب كونها نعمة، هي في نفس الوقت ابتلاء واختبار للوالدين يقول الله تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنة ويقول: واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة.
أيها الأخ المبارك: إذا قلبت طرفك في صفحات التاريخ وقفت على حقائق ناصعة كلها صفاء وبهاء من اهتمام الأجيال الفذة بتربية أبنائهم والاعتناء بهم ،لأنهم أدركوا ما وراء شكرها والقيام بحقها من تتابع أجر وبقاء ذكر، مهتمين كل الاهتمام بتوجيه أولادهم وتنشئتهم وتربيتهم على الإسلام الذي لا يضل ولا يشقى من تمسك به فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها يقول الله تعالى عن عباده المؤمنين المضافين إليه إضافة تشريف وتكريم: يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
إن هذا الاهتمام كان له أعظم الأثر في صلاح أبناءهم ومن ثم إحسانهم إليهم وبرهم بهم.
فهذا لقمان الحكيم يقول لولده ويوصيه بقوله: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ويقول له أيضا ليزرع في قلبه مراقبة الله جل جلاله: يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُنْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
وهذا عمر فاروق هذه الأمة يؤدب ولده عندما دخل عليه وهو مترجل، وقد لبس ثيابا حسانا، فضربه عمر بالدرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربته؟ قال رأيته قد أعجبته نفسه، فأحببت أن أصغرها إليه [1] وهذا سفيان الثوري رحمه الله قالت له أمه: "يا بني! اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي" فكانت تعمل - وتقدم له ليتفرغ للعلم، وكانت تتخوله بالموعظة والنصيحة، قالت له ذات مرة: "يا بني إذا كتبت عشرة أحرف، فانظر: هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك، فاعلم أنها تضرك، ولا تنفعك" [2].
فهل من غرابة بعد هذا أن نرى سفيان يتبوأ منصب الإمامة في الدين، كيف وهو قد ترعرع في كنف مثل هذه الأم الرحيمة، وتغذي بلبان تلك الأم الناصحة التقية؟!
لقد أعطى أسلافنا الأوائل عبر حقب التاريخ أمثلة ونماذج رائعة في هذا المضمار تربية وتوجيه الأولاد توجيها يربطهم بالله، وبشرعه، يؤهلهم للحوق بصالح آبائهم أو شفاعتهم في آبائهم ليلحقوا بهم في الجزاء والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء.
ولكن يا حسرة على العباد، ومع الأسف الشديد إن كثيراً من الناس ممن أُعطوا أولاداً أهملوا هذا الجانب الهام في حياتهم وحياة أولادهم، إهمال المستبدل الأدنى بالذي هو خير، فمنهم من يمسي ويصبح ودنياه همه، وشغله الشاغل، لا يكاد يلتفت إلى أولاده ولا من تحت يده ممن استرعاه إلا بقدر ما يلتفت به صاحب الحيوانات أو الطيور إلى حيواناته، يضع لها كلأ وماء، ولم يدر المسكين أنه بعمله هذا كتارك لباب ذات اللباب النافع وجامع قشوره، وأشر من هذا وأقبح من يأخذ بهم في تربيته لهم إلى ما يخالف فطرة الله التي فطر الناس عليها، بل ومقتضى ما أمر به تعالى نحوهم قوا أنفسكم وأهليكم نارا فيأخذ بهم مأخذ العصيان أو العلمنة ـ والعياذ بالله ـ سواء فعل ذلك هو مباشرة أو أسلم من لا حصانة لديه منهم في عقيدة أو سلوك إلى مربي أو مدرسة أو جامعة علم فيها هذا التوجيه.
قال ابن القيم رحمه الله: (من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم ) [3].
أيها الأب المبارك: كيف ترجو صلاح ولدك وإحسانه وأنت قد جلبت له أسباب الشقاء، قد هيأت له ما تقسوا به القلوب، بل تموت!
كيف ترجو صلاح ولدك وأنت قد جلبت له تلك الأطباق السوداء ينظر فيها ما تشيب لهوله الولدان وتقشعر له القلوب؟!! تلك الأطباق التي دمرت عقول الأمة وحطمت دينها وفتكت بشبابها وشيبها؟!!
كيف ترجو خيره وصلاحه وأنت تراه مقيما على المعصية فلا تنهاه! بل ربما وصل بك الأمر ـ واسمح لي إن قسوت عليك في العبارة فما أريد ورب الكعبة إلا نفعك ـ أن تكون أنت أول من يفعل ذلك أمامه، بل قد تراه أمرا لا غضاضة فيه، وهذا والله لهو الخطأ الفادح بكل المقايس، والفعل المشين بكل المعايير.
قال عمرو بن عتبة لمعلم ولده منبهاً له: (ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك،فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت) [4].
أيها الأخوة: إن مسؤولية الأب في نفسه وفي أهله مسؤولية عظيمة رهيبة، فالنار هناك وهو متعرض لها وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون هذه النار التي تنتظره هناك، إنها نار فظيعة مستعرة، وقودها الناس والحجارة، إنها نار كلها بؤس وعناء، نار كلها عذاب وشقاء، نار عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون.فرحماك يارب نسألك أن تجعلنا ممن قلت فيهم قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين.
[1] صفات مشرقة ص230
[2] عودة الحجاب (2/203)
[3] تحفة المودود ص161 بتصرف.
[4] مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد ص68
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأب المبارك: هذه توجيهات سريعة تستضيء بها في تربية ولدك وفلذة كبدك، فأرع يا رعاك الله لها سمعك وأحضر لها قلبك.
أولا : [1] من الأمور المهمة أن يغتنم الأبوان مرحلة الصغر والتأثر، لأن الولد في هذا السن صفحة بيضاء.
فكل مولد يولد على الفطرة، ثم يأتي دور الأبوين، فإما أن يكون دورا مجيدا مشرفا قائماً بالمسؤولية، وإما أن يكون دورا مخربا مفسدا لا مباليا. ويصعب عليهما فيما بعد أن يتداركا الأمر كما قال القائل:
إن الغصون إذ قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
ثانيا: لابد أن يكون هناك تفاهم قائم بين الزوجين، وأن يتعاونا على التربية الفاضلة، فلا يجوز أن يتلقى الطفل أوامر متناقضة لا يدري أيها ينفذ؟ ويجد لنفسه النصير إن عصى أمر أحد والديه، بحجة طاعته أمر الآخر، لابد أن يكون هناك تنسيق وتعاون وتفاهم بين الوالدين.
ثالثا: ألا يرى الابن في سلوك أبويه ما يخالف النصائح التي سمعها منهما، حتى تكون ثمرة التربية مجدية نافعة. أما الازدواج الذي يقوم بين ما يقوله الآباء وبين ما يسلكون، فهو من أكبر أسباب الانحراف التي تُفسد الناشئة وتجعلهم يشكون في القيم والمثل العليا كلها.وكما قال القائل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذ فعلت عظيم
رابعا: ومن أسس تربية الأولاد غرس الروح الدينية في نفوسهم، وتنشئتهم على المخافة من الله تعالى، فإن ذلك سبب لاستقامتهم على السبيل السوي الفاضل، وعلى الوالدين أن يشربا الأولاد حب الله وحب رسوله.
خامسا: ومن أسس تربية الأولاد تعداد الوسائل في تقويمهم، فالضرب في سنّ، وعند الضرورة، وبعد زوال الحدة، ولا يجوز أن يستمر الوالد في الضرب، لأن ذلك قد يؤدي إلى مخاطر عظيمة.
ومن أهم الملاحظات في هذا المجال أن يتفهم الوالد عقلية أولاده عندما يكبرون ويناقشهم، ويحترم شخصياتهم، ولا يستمر في نظرته إليهم على أنهم ما يزالون صغارا.
إن العقد النفسية بدأت تمزق صدور كثير من الشباب والشابات بسبب تصرف سيئ يقوم به أحد الأبوين، فلنتق الله في أبنائنا ولنعلم أنهم أكبادنا يمشون على الأرض.
سادساً: ومن الأسس الهامة في تربية الأولاد اختيار الرفقاء الصالحين لهم، فالرفيق ذو تأثير كبير، فعلى الأبوين مراقبة الأولاد في أصدقائهم. ((فالمرء على دين خليله)) [2] ولذا كان لزاما على الآباء أن يختاروا الصحبة الصالحة لأولادهم، ونحن في هذه البلاد ننعم بهذه الحلقات المباركة حلقات العلم وحلقات تحفيظ القرآن الكريم، وفيها أخوة يتلقفون من يريد الانضمام إليهم تلقف الأخ لأخيه، والمحب لحبيبه، والداعية المخلص لمدعوه، فاعملوا على رفقة أولادكم ومصاحبتهم لهؤلاء.
هذا وصلوا على نبيكم...
[1] انظر في هذه كتاب نظرات في الأسرة المسلمة ص 191بتصرف.
[2] أخرجه أبوداود والترمذي وأحمد (2/303) وغيرهم.
(1/1147)
إقامة العدل في الأرض سمة من سمات الأمة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
16/4/1417
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة للعدل مع الأعداء والأقربين 2- إنصاف القرآن ليهودي 3- التحذير اتباع الهوى
4- مواقف من عدل الإسلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: لقد كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
إنها حَمِية الجاهلية، ونعرة العصبية، ويندر أن يقوم في ذلك المجتمع حلف لنصرة الحق، وهذا من الطبيعي في مجتمع لا يرتبط بالله جل جلاله، ولا يستمد تقاليده وأخلاقه من منهج الله وميزان الله، ثم جاء الإسلام، جاء المنهج الإلهي، جاء ليقول: يا أيها الذين آمنوا كونوا قومين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لاتعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [المائدة:8]. جاء ليربط القلوب بالله وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان الله، جاء ليخرج العرب ـ ويخرج البشرية كلها من حمية الجاهلية، ونعرة العصبية، وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والقبلية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء ولذا قال الولى جل جلاله: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [النساء:135]. إنه نداء للذين آمنوا، نداء لهم بصفتهم الجديدة وهي صفة فريدة، صفتهم التي أنشئوا عليها نشأة أخرى، وولدوا ميلادا آخر، ولدت أرواحهم، وولدت تصوراتهم، وولدت أهدافهم ومبادئهم، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم، أمانة القوامة على الناس، والحكم بينهم بالعدل، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما إنها أمانة القيام بالقسط على اطلاقه، في كل حال وفي كل مجال، القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض والذي يكفل العدل بين الناس والذي يعطي كل ذي حقه حقه من المسلمين وغير المسلمين، ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأصدقاء والأعداء، ويتساوى الأغنياء والفقراء.
وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المناوئين كما يكفله لهم هذا الدين، لقد نزلت آيات من القرآن لتنقذ رجلاً يهوديا من تهمة توجه إليه ،مع كيد يهود للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم وأتباع دينه بكل ما في جبلتهم من الرغبة في الشر وكراهية الخير للناس، وينصفه من رجل مسلم من قبيلة الأنصار، الأنصار الذين آووا ونصروا، وقدموا أرواحهم، وأموالهم في سبيل الله.
والقصة كما ترويها كتب التفاسير [1] : أن نفرا من الأنصار.. غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار فتفنن هو وقومه في إخفاء السرقة بحيث يتهم فيها أحد اليهود من أهل المدينة، وحين يقع مثل هذا الحدث في أي شعب من الأرض، وفي أي حقبة من التاريخ ،فليس له نتيجة متوقعة إلا الأخذ بتلابيب ذلك الشخص الذي ينتمي إلى مثيري الشغب، والإسراع بتطبيق العقوبة المقررة عليه، إن لم يكن التنكيل به شر تنكيل، لأنه فوق انتمائه إلى فئة معادية للشعب قد ارتكب جريمة محددة يستحق عليها العقوبة، وحين فحص الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القاضي ظروف القضية فقد هم ـ حسب القرائن ـ أن يحكم على اليهودي، ولكن الوحي يتنزل من السماء لتبرئة ذلك اليهودي من الجريمة التي لم يرتكبها، وإدانة المسلمين الذين أرادوا أن يفلت جانبهم من العقوبة فنزل قول الله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم جادلتهم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً [النساء].
لقد كان درساً هائلا للأمة.. تبين لهم فيه أن ميزان العدل لا يمليه حب ولا بغض.. ولا تمليه عصبية ولا قرابة.. ولامصالح وأغراض شخصية.. بل لا يميل حتى إلى جانب المشاركين له في العقيدة على حساب المخالفين لها، ولو كانوا في مجموعهم ظالمين !!وبهذه المقومات كان هذا الدين العالمي خاتمة الأديان لأنه الدين الذي يكفل النظام للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، أن يتمتعوا في ظله بالعدل، وأن يكون هذا العدل فريضة على معتنقيه يتعاملون مع ربهم مهما لا قوا من الناس من بغض وشنآن.
ايها المسلمون: لقد بلغ أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم الذروة في تحقيق العدل في واقع الأرض، ولم يكن ذلك مجرد وصايا، ولا مُثُل عليا لا تتحقق، ولكنها كانت واقعا من واقع حياتهم اليومية واقعا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد، ولم يعرف ذلك المستوى إلا في تلك الحقبة المنيرة.
والأمثلة التي وعاها التاريخ في هذا المجال كثيرة مستفيضة، فمن تلك النماذج الرائعة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد درعا كانت عزيزة عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح.. وعلي يومئذ هو الخليفة أمير المؤمنين فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب.فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فرد هذا متلاعبا: الدرع درعي! وما أمير المؤمنين عندي بكاذب [يريد أن يمسك العصا من منتصفها] فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين، هل من بينة؟! إنه هكذا العدل! البينة على من ادعى.. وهذه دعوى إلى القضاء لابد فيها من البينة.. وإن تكن مرفوعة من علي رضي الله عنه، الذي لم يعرف عنه كذب قط، والذي لا يعقل أن يكذب على الله من أجل درع، وهو المستعلي على كل متاع الأرض! ولكن جواب علي رضي الله عنه كان أروع! قال: صدق شريح! مالي بينة! هكذا في بساطة المؤمن المتجرد.. مالي بينة!! لم يغضب! لم يقل للقاضي كيف تطلب البينة وأنا صاحب رسول الله؟ وكان موقف شريح موقفا رائعا كموقف أمير المؤمنين.. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين!! وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لايكاد يصدق نفسه! ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا لله!! أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟ إن هذه أخلاق أنبياء! أشهد أن لاإله إلا الله، وأن محمدا رسول الله! الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجت من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها.. فيقول علي رضي الله عنه: أما إذا أسلمت فهي لك!! [2].
أيها المسلمون: إن إقامة العدل في الأرض لا يمكن أن يتم إلا حين تتجرد النفوس لله، وتتخلى عن رغباتها المشروعة، ويكون هدفها الأسمى هو ابتغاء مرضاة الله، ونعيمها النفسي هو العمل لإرضاء الله، ولذا قال سبحانه: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله لله فقط وتعاملا مباشرا مع الله، لا لحساب أحد، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية، ولكن تعاملا مع الله وتجردا من كل ميل، ومن كل هوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا.
والهوى صنوف شتى ذكر الله بعضا منها.. حب الذات هوى، وحب الأهل والأقربين من الهوى، والعطف على الفقير في موطن الشهادة والحكم هوى، ومجاملة الغني هوى، ومضارته هوى، والتعصب للعشيرة والقبلية والأمة والوطن في موضع الشهادة والحكم هوى وكراهية الأعداء ولو كانوا أعداء الدين ،في موطن الشهادة والحكم هوى.. وأهواء شتى كلها مما ينهى الله الذين آمنوا عن التأثر بها والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها.
أيها الأحبة الكرام: لقد جاء الوعيد الأكيد والتهديد الشديد لمن أعرض عن هذا المبدأ العظيم الذي قامت عليه السموات والأرض فقال جل شأنه: وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً [النساء:135]. يكفي للمؤمن أن يتذكر أن الله خبير بما يعمل، ليستشعر ماذا وراء ذلك من تهديد خطير يرتجف له كيانه، وينصدع له قلبه، فينزجر عما أراده من ظلم للعباد في الدماء والأموال والأعراض.
أيها المسلمون: إن هذه الحياة قائمة على العدل وبدونه لاتستقيم الحياة ولا تهدأ النفوس، ولا تسكن القلوب، فبالعدل يَسعد الراعي والرعية، وبالعدل تعمر الأسباب الدنيوية، ويحصل التعاون على المصالح الكلية والجزئية، وبالظلم خراب الديار، وفساد الأحوال، وفتح أبواب الفتن، وحصول العداوات والبغضاء، إذ كيف يهنأ بالعيش من يحترق كمدا من أجل مظلمة أصابته، وكيف ينام قرير العين من غصب له مال، أو خُدع في تجاره، وكيف يقر للعامل المسكين القرار ويهدأ له بال وصاحبه قد سلبه حقه، ورزقه وكده، ألا فاتقوا الله يامسلمون، والعدل العدل في كل شأن من شئوون حياتكم، وإياكم والظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وكل نفس بما كسبت رهينة.
أيها المسلمون: إن الله جل جلاله أعد هذه الأمة لتكون رائدة وهيئها لتكون شاهدة وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً [البقرة:143]. وكانت تربية الله لهذه الأمة تربية عجيبة، لأن إقامة العدل في الأرض هي من الغايات والأسس من إرسال الرسل وإنزال الكتاب قال الله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد:25].
ولايمكن أن يتم هذا الأمر إلا حين تتجرد النفوس لله، وتتخلى عن رغباتها المشروعة، ويكون هدفها الأسمى هو ابتغاء مرضاة الله، ونعيمها النفسي هو العمل لإرضاء الله.
ولقد ربى الله تعالى رسوله بادئ ذي بدء على أنه ليس له من الأمر شيء إلا طاعة الله وابتغاء رضوانه ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم.. [آل عمران:128]. وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك التوجيه فكان عليه السلام قمة التجرد لربه تعالى، ثم ربى على هذا التجرد أصحابه حتى خلت نفوسهم من حظوظ أنفسهم.
ولذا أحبتي الكرام كانت هناك دروس تربوية لذلك الجيل الذي سيحمل الأمانة للبشرية كلها، وإقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى، ولا مع العصبية، ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أياً كانت الملابسات والاحوال.
ومن تلك الدروس أيضا: ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث استدان من رجل يهودي فتأخر في السداد لعسر ألم به صلى الله عليه وسلم فجاء اليهودي يطالبه ويغلظ في الطلب، وأمسك بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشده حول رقبة الرسول حتى جحظت عيناه، فهم عمر أن يهوي عليه بالسيف فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: لقد كنت يا عمر جديرا بغير هذا كنت جديراً أن تأمرني بحسن السداد وتأمره بحسن الطلب.
أيها المسلمون: إن هذه الحياة قائمة على العدل وبدونه لاتستقيم الحياة ولا تهدأ النفوس، ولا تسكن القلوب، فبالعدل يَسعد الراعي والرعية، وبالعدل تعمر الأسباب الدنيوية، ويحصل التعاون على المصالح الكلية والجزئية، وبالظلم خراب الديار، وفساد الأحوال، وفتح أبواب الفتن، وحصول العداوات والبغضاء، إذ كيف يهنأ بالعيش من يحترق كمدا من أجل مظلمة أصابته، وكيف ينام قرير العين من غصب له مال، أو خُدع في تجاره، وكيف يقر للعامل المسكين القرار ويهدأ له بال وصاحبه قد سلبه حقه، ورزقه وكده، ألا فاتقوا الله يامسلمون والعود العود إلى كتاب الله وسنة رسوله فالقرآن هو الذي صنع أولئك الرجال الأفذاذ، وجعلهم بتلك الصورة العظيمة والمنزلة الكريمة التي يعشقها الجميع.
[1] انظر رجال انزل الله فيهم قرآن ص15
[2] المرجع السابق ص39 بتصرف
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: من أوامر الله تعالى لهذه الأمة تحقيق العدل في واقع الأرض، ولقد ربط الله تعالى ذلك بحقيقة الإيمان فقال جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على آلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ المائدة:8].
أيها المسلمون: إن إقامة العدل في الأرض سمة من سمات هذه الأمة، أو لازما من لوازم وجودها، ليهئ لها القيام بدورها في قيادة البشرية وريادتها، ولكن التغلب على أهواء النفوس، والحد من نزواتها وشهواتها التي ينشأ عنها العدوان والظلم في واقع الحياة، أمر يحتاج إلى تربية وإعداد، حتى تتعود النفوس أن تخضع للحق ولا تزيغ عنه، ويتعود الناس أن يمسكوا بميزان العدل من منتصفه لايُميلونه ذات الشمال وذات اليمين.
ولقد كان أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم قد بلغوا الذروة في تحقيق العدل في واقع الأرض، بصورة لم تكن معهودة من قبل حتى في الأمم التي يوصف أهلها بالعدل.
ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرساً من رجل من الأعراب ودفع له ثمنه ثم ركب فرسه ومضى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس طويلا حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري فانثنى به عائدا من حيث انطلق وقال للرجل: خذ فرسك فإنه معطوب! فقال الرجل: لا أخذه يا أمير المؤمنين وقد بعته منك سليما صحيحا.فقال عمر: اجعل بيني وبينك حكما، فقال الرجل يحكم بيننا شريح الكندي ،فقال عمر: رضيت، فاحتكم عمر أمير المؤمنين وصاحب الفرس إلى شريح فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر وقال: هل أخذت الفرس سليما يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: نعم، فقال شريح احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين أو رُد كما أخذت! ماذا كان موقف عمر عند ذلك هل زمجر في وجهه وقال كيف تحكم على أمير المؤمنين أو شيئا من هذا القبيل؟! كلا ولكن قال: وهل القضاء إلا هكذا؟! قول فصل، وحكم عدل [1].
[1] صور من حياة التابعين ص34 بتصرف
(1/1148)
الآثار الجاهلية
الإيمان
الولاء والبراء
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
15/11/1418
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبرّع سخي لبعث حضارات ما قبل الإسلام 2- غاية الغرب من بعث القوميات والوطنيات
القديمة 3- دعوات مستغربة موافقة لدعوات الغرب
_________
الخطبة الأولى
_________
أعلن أحد أثرياء أمريكا وهو روكفلر عن تبرعه بمبلغ عشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية، يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن!!
عشرة ملايين دولار ينفقها هذا الرجل الغربي على إحياء الآثار الفرعونية في بلاد الإسلام ـ في مصر ـ فما السر في ذلك؟ ما السر في الاهتمام الشديد من قبل الغرب بإحياء التراث القديم ـ وخاصة منها ما كان قبل الإسلام ـ!؟
ما السر في إثارة مثل هذه الأمور بين شعوب العالم الإسلامي وإعطاء تلك الأشياء الهالة العظيمة! والصورة الضخمة!؟
هل كان ذلك نابعا عن عفوية وحسن نية؟ أم كان نابعا عن محبة لما ينفع الأمة ويغير مسارها لما ينفعها!؟
بالطبع لا! كيف يكون عن حسن نية والله يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
كيف يكون عن عفوية والله يقول: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8].
كيف يكون عن محبة والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
إن إثارتهم لمثل هذه الاهتمامات بين شعوب العالم الإسلامي كان الهدف منه إقصاء الإسلام من واقع الناس صرف الناس عن موروثهم الحقيقي وتاريخهم المجيد..تفريغ القلوب من موروث الأنبياء والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا هذا الدين..إنهم يريدون إشغال الأمة عن دينها الذي خلقت من أجله، ووجدت لتقوم به ،إنهم يريدون سلب الأمة شرفها المجيد الذي شرفها الله به حسدا من عند أنفسهم وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143].
إنهم يردون تفريغ القضية، أي قضية بوجه عام من المحتوى الإسلامي، وإحلال أفكار أخرى وعقيدة أخرى محل عقيدته، إنهم يريدون من الأمة أن تقطع صلتها بدينها؛ وتنتسب إلى هذه الآثار، فالمصري ينتسب إلى الفراعنة، والتركي يتيه إعجابا بتركيته ويحاول أن يصل نسبه بهولاكو وجنكيز.. وهكذا!
إن الدول الغربية شجعت على ظهور مثل هذا الاهتمام..لتحقيق مطامعها في الشرق الإسلامي هاهو أحدهم يقول: (من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يشغلها المسلمون الآن، فمثل هذا الاهتمام موجود في تركيا ومصر وأندنيسيا والعراق وفارس، وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوربا، ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دورا مهما في تقوية الوطنية الشعوبية وتدعيم مقوماتها) [1].
ويا حسرة على العباد ،هاهم أبناء جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا من العلمانيين والحداثيين ومرضى القلوب جعلوا أكبر همهم التعلق بموروثات الآباء والأجداد.. وموروثات الأجداد هل هي الأعمال المجيدة؟ كلا! هل هي الأخلاق الحميدة؟ كلا! هل هو جهادهم الصالح قولا وعملا، ودعوة وصبرا؟ كلا!
بل إن موروث الأجداد الذي يعنونه ويقصدونه هو موروث الجاهلية الأولى، فتراهم يحيون أسواق الجاهلية..وشعراء الجاهلية وأشخاص الجاهلية وهيئات الجاهلية ومعارك الجاهلية، فقد أصبحت على ألسنة الحداثيين أمثال هذه الجاهليات هي الموروثات الشعبية القيمة! وجعلوا من الموروثات الشعبية ما ورثناه قريبا عن أجدادنا وآبائنا الذي هو من قبيل العادات، وتعلقوا بالأشياء كما يحدث الآن من الاهتمام بالمورثات الشعبي، حتى صار عيدا سنويا يضاهي العيد الشرعي أو يكاد يكون!
بم يحتفلون؟ ما المناسبة؟ من شرعه؟
وحتى تعلم أخي المبارك أننا لا نتكلم من فراغ، بل من واقع ملموس فهذا الشاعر أحمد شوقي ـ الذي يحوى ديوانه عددا من القصائد الإسلامية ـ قال قصيدة يمجد فيها الفراعنة وقد أهدى هذه القصيدة إلى المستشرق مرجو ليوث ـ أستاذ اللغة العربية، وقال شوقي في مقدمة الإهداء له: (نظمتها تغنيا بمحاسن الماضي، وتقييدا لآثار الأباء، وقضاء لحق النيل الأسعد الأمجد، ونسبتها إليك عرفانا لفضلك على لغة العرب، وما أنفقت من شباب وكهولة في إحياء علومها ونشر آدابها) وهذا آخر يطالب في جريدة الندوة ويقول: (هذه المدينة المقدسة بها آثار كثيرة تستحق الذكرى، ونحن العرب لم نهتم بهذه الآثار بينما نشاهد معالم باريس، ولندن بها من الآثار ما يجعل شعوبها تخلد هذه الذكرى، فمالنا نحن المسلمين العرب لا نهتم بآثار العصور الماضية) [2].
يردون أن نقدس كل شيء عن الآباء والأجداد إلا السنة والشرع القويم!
يريدون أن نقدس كل شيء عن الآباء والأجداد إلا الدين والحق!
يردون أن نقدس كل شيء عن الآباء والأجداد إلا الجهاد والخير والفضيلة!
قال العلامة ابن باز: (إن تعظيم الآثار لا يكون بالأبنية والكتابات والتأسي بالكفرة، وإنما تعظيم الآثار يكون باتباع أهلها في أعمالهم المجيدة، وأخلاقهم الحميدة، وجهادهم قولا وعملا، ودعوة وصبرا، هكذا كان السلف الصالح يعظمون آثار سلفهم الصالحين، وأما تعظيم الآثار والأبنية والزخارف والكتابة ونحو ذلك فهو خلاف هدي السلف الصالح، وإنما ذلك سنة اليهود والنصارى ومن تشبه بهم، وهو من أعظم وسائل الشرك، وعبادة الأنبياء والأولياء كما يشهد به الواقع) [3] ، وقال الشيخ صالح الفوزان: (ومن دسائس هذه المنظمات الكفرية دعوتها إلى إحياء الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يُشغلوا المسلمين عن العمل المثمر بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام.
وإلا فما فائدة المسلمين من البحث عن أطلال الديار البائدة! والرسوم البالية الدارسة! وما فائدة المسلمين من إحياء عادات وتقاليد أو العاب قد فنيت وبادت! في وقت هم في أمس الحاجة إلى العمل الجاد المثمر، وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب واحتلوا كثيرا من بلادهم وبعض مقدساتهم! إنهم في مثل هذه الظروف بحاجة إلى العودة إلى دينهم وإحياء سنة نبيهم والاقتداء بسلفهم الصالح حتى يعود لهم عزهم وسلطانهم،وحتى يستطيعوا الوقوف على أقدامهم لرد أعدائهم، وأن يعتزوا برصيدهم العلمي من الكتاب والسنة والفقه، ويستمدوا من ذلك خطة سيرهم في الحياة، ويقرؤوا تاريخ أسلافهم لأخذ القدوة الصالحة من سيرهم، أما أن ينشغلوا بالبحث عن آثار الديار، وإحياء الفنون الشعبية بالأغاني والأسمار، وإقامة مشاهد تحاكي العادات القديمة، فكل ذلك مما لا جدوى فيه، وإنما هو استهلاك للوقت والمال في غير طائل، بل ربما يعود بهم إلى الوثنية، والعوائد الجاهلية ) [4].
فاتقوا الله أيها المسلمون واعملوا ما فيه صلاح لكم ولأمتكم تفلحوا دنيا وأخرى وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
بارك الله لي...
[1] انظر أساليب الغزو الفكري ص78
[2] جريدة الندوة في عددها الصادر في 24/6/1380هـ والقائل هو مصطفى أمين. وانظر في عددها الصادر في 24/5/1387هـ بقلم صالح محمد جمال.
[3] الرد على مصطفى أمين ص548 من المجموع المفيد.
[4] الخطب المنبرية (3/85-86)
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة: إن إبليس لعنه الله استطاع بمكره وكيده أن يقلب مفاهيم البشر، إذ الناس بفطرتهم يقدرون آباءهم وأجدادهم ويحترمونهم، فهذه النزعة صارت وسيلة لتقديس الأشخاص والأشياء، ومنها تدرج بهم الشيطان إلى الشرك.. وقد بين الله جل جلاله تخبط أهل الجاهلية في هذه المكيدة الإبليسية فقال تعالى مبينا احتجاج قوم نوح بهذه الشبهة: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وهذا نبي الله صالح يواجهه قومه بهذه الحجة الداحضة، ويتهمونه في عقله، ويردون عليه دعوته ويقولون له قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62].
أرأيت أيها الأخ المبارك كيف استغل دعاة الضلالة هذه المكيدة الإبليسية بالإفساد في الأرض والكفر بالله جل جلاله والتلاعب بالأديان وتغييرها على حسب أهوائهم واستحساناتهم وأغراضهم المتنوعة، ولهذا قال إمام دار الهجرة في زمانه الإمام مالك بن أنس رحمه الله كلمة عظيمة: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح أولها) لقد صلح حال أولئك عندما تركوا ما كان عليه آباءهم وأجداهم وراءهم ظهريا، وانشغلوا بما ينفعهم من ميراث محمد.
وستعود للأمة عزتها المسلوبة،ويرجع إليها مجدها الأثيل، ونصرها على الأعداء، إن تمسكنا بما تمسكوا به واعتصمنا بما اعتصموا به قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
آلا إنها دعوة لأهل الإسلام جميعا إلى أن يتمسكوا بميراثهم الحقيقي كتاب الله وسنة رسوله آلا إنها دعوة إلى التكاتف على تحقيقهما في جميع المجالات التشريعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وجميع جوانب الحياة.
آلا إنها دعوة للحذر من كل ما يخالف ذلك أو يفضي إلى التباسه أو التشكيك فيه.
آلا إنها دعوة لتصحيح المفاهيم فالميراث الحقيقي الذي يجب الاعتناء به وإحيائه وتكريس الجهود من أجله ميراث محمد ، اتباع منهاجه والسير على طريقه الذي لا سعادة للبشرية إلا به ولا عزة إلا بالتمسك بجانبه.
(1/1149)
الإجازة وسبل الاستفادة منها
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر الصحة والفراغ 2- مخالطة الكفار والتشبه بهم 3- التحذير من السفر لبلاد الكفار
4- صور من إضاعتنا للوقت 5- حرص السلف على أوقاتهم 6- دعوة لِتعلُّم القرآن وحفظه
خلال الإجازة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: سنن الله في هذا الكون لا تتغير ولا تتبدل، ومن تلك السنن تعاقب الزمان، وتقلب الليل والنهار، بالأمس كنا في بداية العام الدراسي وفي لمحة بصر أو طرفة عين نصل إلى نهاية المطاف والناس على أحر من الجمر في انتظار نتائج أبناءهم.
أيها الأحبة في الله: يحسن بنا ونحن على أبواب الإجازة الكلام هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الشباب من الجنسين، والتي تعتبر مفرق طرق، ونقطة تحول في انحراف الكثير من الشباب، فهم يتمتعون بقوة في أبدانهم، وصحة في أجسادهم، ونضوج في غرائزهم، تجتمع هذه كلها مع فراغ قاتل، وفكر هائم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) رواه البخاري من حديث ابن عباس.
أيها المسلمون: إن الشباب المسلم أحوج أهل الأرض إلى مربين أمناء، يدركون استغلال قوته في الخير، وتهذيب غرائزه فيما أباح الله، بلا تمرد ولا انزلاق.
وإن لم تجد هذه القوى وتلك الطاقات إن لم تجد عناية من المربين وتوجيهاً من الناصحين، فإنها ستكون عامل هدم، ومعول فساد في المجتمع، بحيث لايؤيهم إلا الطرق والممرات، فيزعجون ويضايقون، وتكون لهم الطرق مدارس شيطانية تعلمهم كل بذئ من القول وقبيح من الفعل.
ويزداد الأمر علة، والطين بلة إذا اجتمعت تلك الطاقات مع المثيرات للغرائز ،الموقظة للفتنة النائمة، المهيجة لها عبر أفلام ماجنة، ومجلات فاسدة ودعايات مضللة، وتعظم البلية أيضاً إذا صاحب ذلك سفر إلى بلاد الكفار ليتلقفهم أهل الكفر بقضهم وقضيضهم فيفقدوهم خصائصهم الإسلامية، التي بها قوامهم ، ومن ثم يميلون إلى جلب أسوأ ما عند غيرهم ممن يخالطونه في بلاد الكفار، أو في بلاد تشبهها، ويتوهمون أن كل ما عند غيرهم من أهل اللهو والغفلة، خير مما عندهم، قال رسول الله : ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال لا ترايا نارهما)) [رواه الترمذي].
ولست بحاجة والله يا مسلمون أن أفصل لكم أحوال تلك المصائف التي يقصدون، فما ظنك ببلاد تُعد الفاحشة فيها هي الأصل، والعفة شذوذ وتخلف، وما بالك ببلاد إذا لم تتخذ الفتاة عشيقاً لها بعد البلوغ فهي مريضة، وبحاجة إلى عرضها على طبيب الأمراض النفسية يدعوها إلى بذل عرضها لأول عابر سبيل تصادفه، لتنعم بالشقاء بعد ذلك ،أما حانات الخمور ففي كل شارع، وناصية طريق.
وقد بلغت مصروفات الذين سافروا إلى عواصم العالم ومنتجعاته في عام 1417هـ (26) مليار ريال، فأين تصرف تلك الأموال؟ ومن المستفيد من هذه الأموال؟
أيها المسلمون: إن مرحلة الشباب من أخطر المراحل في حياة الناس، لأنها مرحلة قوة بين ضعفين، ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة، ولما كان الشباب من العمر وسيسأل الإنسان عن عمره، فإن رسول الله خص الشباب في قوله: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس)) ، وذكر منها: ((وعن شبابه فيما أبلاه)) [رواه الترمذي].
ولذا على الشباب أن يدركوا أن حياة الإنسان أنفاس تتردد وتتعدد، وآمال تضيع إن لم تحدد، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بل الوقت هو الحياة، وكثيرا ما نسمع المثل المادي السائر، الوقت من ذهب..خابوا وخسروا بل هو أغلى من الذهب ومن كل جوهر نفيس أو حجر كريم، إن المرء يفتدى وقته بكل غال ونفيس، لأن الوقت هو حياته وعمره، فمن يفرط في حياته وعمره!؟
إن من أكبر علامات المقت إضاعة الوقت، إن من أمضى يوماً من أيام عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو علم اكتسبه، أو فعل محمود صنعه فقد عق يومه وظلم نفسه.
حرام والله حرام أن يعيش شباب في عمر الزهور عيشة الّلامبالي بوقته، فهو يقطعه باللهو الباطل، والأمر الحقير.
حرام والله حرام أن يألف شباب الأمة وهم أصحاء أقوياء النوم حتى الضحى أو ما بعد الضحى، تطلع عليهم الشمس وتتوسط في كبد السماء، وهم يغطون في نوم عميق، قد بال الشيطان في آذانهم، إذا قام أحدهم فإذا هو هزيل القوى، ثقيل الخطى، ضيق النفس كسلان 0 على حين تطلع الشمس على قوم آخرين من غير أهل الإسلام وهم منهمكون في وسائل معاشهم، وتدبير شئونهم، إن سنن الله يا مسلمون في كونه تأبى إلا أن يعطى كل امرئ حسب استعداده وجده وعمله.
فهل يليق هذا بأمة يا مسلمون خلقت لقيادة البشرية بأسرها! ووجدت لتكون شاهدة على الناس يوم يقوم الناس لربهم؟ هل يليق ذلك بأمة شرفت بحمل أعظم رسالة! وحملت أثقل أمانة! وأنيط بها أضخم مسؤولية، وأكبر تكليف!؟
ألستم يا شباب أبناء قوم كانوا على أوقاتهم أشد حرصا منهم على الدنيار والدرهم، هذا ابن مسعود يقول: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت فيه شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي) ونُقل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهاد: أن رجلا قال له كلمني، فقال له: عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس. يعني أوقف لي الشمس واحبسها عن المسير حتى أكلمك، فإن الزمن متحرك دائب المضي.
وهذا الإمام أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم يُباحث وهو في النزع والذِّمَاءِ [1] بعض عُوَّاده في مسألة فقهية، رجاء النفع بها لمستفيد أو متعلم، ولا يخلي اللحظة الأخيرة من لحظات حياته من كسبها في مذاكرة علم وإفادة واستفادة.لقد كان أسلافنا الأوائل يُسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، ضناً منهم بالوقت، وحرصاً على أن لا يذهب منهم هدراً. ولقد أورث ذلك نتائج أشبه بالمعجزات، وإذا بالإنجازات قريبة من الخيال، فحسبك منها حركة الفتوحات التي كانت على قدم وساق وخيول المسلمين التي أزكم أنوفها غبار المعارك وأعلى صهيلها الكر والفر، فضلاً عن خطوات في تربية وإعداد النشء الجديد ناهيك عن وثبة بعيدة المدى في التصنيف والتأليف والابتكار هكذا كانت أحوالهم يوم عرفوا قيمة الزمن، وهكذا كانت إنجازاتهم يوم اتسعت مداركهم ونضجت عقولهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
[1] ـ النفس الأخير من الحياة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأحبة في الله: إذا كان هذا تاريخ أسلافنا الأوائل وهكذا كانوا..فإننا مطالبون بالإقتداء بهم، وذلك باستثمار كل دقيقة وثانية من عمر الزمن نتقرب فيها إلى الله جل جلاله ونسابق إلى جنته وموعوده من خلال تربية ذواتنا، وإعداد الآخرين حتى تكون قادرة على العطاء بلا حدود.
آلا إن البدائل متاحة، والمجالات مفتوحة لاستثمار الوقت، وشغل الفراغ، فإليك أيها المبارك هذه الخيارات المتنوعة، والبدائل المتعددة لتختار لنفسك منها ما يناسبك ويلائمك.
أولاً: المراكز الصيفية التي تعتبر مراكز هامة لاحتوى الشباب وتصريف طاقاته فيما يخدم الأمة وينفعها في مستقبلها الجديد ففيها يتلقى الدروس التربوية، ويتعلم الشاب كيف يكون إيجابيا في خدمة أمته ومجتمعه، فضلا عن البرامج المفيدة لصقل المواهب وإنمائها، واستغلال القدرات وتوجيهها، ناهيك عن الرحلات التربوية، حيث الترويح البريء والمتعة المباحة فاحرص على المشاركة في برامجها الهادفة معلما أو متعلما.
ثانياً: حلق تحفيظ القرآن الكريم التي تعتبر مشعل هداية، ومحضن تربية، ومائدة من موائد القرآن التي ينهل منها الناهلون الآداب الفاضلة، والأخلاق الحميدة، والصفات العالية ،وإن خير ما اشتغل به المشتغلون من أعمال القرب كتاب الله تعلما وتعليما، وذلك مصداقا لقول المصطفى : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه) [رواه البخاري]. وقال : ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) [رواه أحمد].
ومن نعم الله تعالى على هذه البلاد كثرة حلق القرآن الكريم فاحرص يا رعاك الله على المشاركة فيها وإلحاق أبنائك في صفوفها.
ثالثاً: حلق الذكر ومجالسة العلماء، تلك المجالس التي تبحث عنها الملائكة الكرام..تلك المجالس التي تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة، وتنزل عليها السكينة، ويذكر الله أهلها فيما عنده، وهذا لا يتعارض مع الإجازة، فقد كانت سياحة أسلافنا رحمهم الله في طلب العلم ومجالسة أهله فهذا الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله يؤلف كتابا كاملا سماه (الرحلة في طلب الحديث) ويزداد عجبك حينما تعلم أن هذا الكتاب لم يضمنه مؤلفه إلا من رحل من أجل حديث واحد فحسب ،فيا لسعادتنا والله حين ترتفع همم شبابنا إلى تلك الهمم، فتذهب تلك التصورات التي تعتبر الإجازة للهو وللهو فقط، وهذا خطأ فادح بكل المقاييس، ووهم خطير بكل المعايير.
رابعاً: اصطحاب الأهل في بعض الأحيان في نزهة برية، أو رحلة في ربوع هذه البلاد أو عمرة إلى بيت الله مع الاستفادة بقدر الجهد والطاقة من هذه الرحلات بالتوجيه السليم والمسابقات النافعة والتفكر في أرض الله وسمائه ومخلوقاته وعجائب صنعه سبحانه قال تعالى: ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك وإن المؤسف والله ما نشاهده من بعض الأسر في أماكن المنتزهات والسياحة من تبرج وسفور أمام مرأى ومسمع من أعين الناس بلا حياء وحشمة ولا وقار وعفة، وعلى أرباب الأسر ممارسة حق القوامة على أهلهم وبناتهم بالتي هي أحسن ومنعهم من ذلك بالتي هي ألين، وقاية لهم من النار، وحفظا لهم من أعين الأشرار، واستجابة لنداء ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
هذا وصلوا رحمكم الله على النبي الكريم والمرشد العظيم.
(1/1150)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
4/6/1419
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترك الأمر بالمعروف يمنع إجابة الدعاء 2- حال الأمة إذا تركت الأمر بالمعروف
3- حكم الأمر بالمعروف 4- صور من إقامة هذا الواجب 5- كشف شبهات تمنع البعض
من القيام بهذا الواجب
_________
الخطبة الأولى
_________
دخل رسول الله ذات يوم على عائشة رضي الله عنها وقد تغير وجهه، فعرفت عائشة أنه قد حضره أمر قد أهمه، قالت: فقام رسول فتوضأ ولم يكلم أحدا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((أيها الناس إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. [أخرجه ابن ماجه].
يالله، ويا للعجب أو حقا يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم، وهو القائل: ورحمتي وسعت كل شيء وهو القائل: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان.
نعم، إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر !؟ إنها ورب الكعبة حقيقة ترتجف لها النفوس فرقا، وتقشعر الوجدان منها رعبا.
ماذا يبقى للناس إذن ؟؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمات الله؟ ولمن يلجئون وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب، فهل كتب الله ذلك الأمر المهول على عباده المسلمين؟
نعم، حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو بأضعف الإيمان..حين ينام الناس عن هذا الواجب المقدس، وحينما يتواكلون، فالشر يغري، والشر يهيج، والشر يسيطر على الحياة، وقد جرت سنة الله بذلك، فالمتأمل في تاريخ الأمة يجد أن أي أمة حية متيقظة، ترقب شئونها بنفسها، وتحرص على أداء الواجب، وتنفر من التقصير فهي الأمة الناجحة، وهي التي تملك السلطان. وهذا مصداق لقول الله تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.
وأيما أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس فلم تغير عليه، وتركت الحق يذوي ويستذل ،فلم تنصره فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار. قال : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم)) [1].
وقوة المجتمع وضعفه رهين بهذا وذاك.قال سفيان رحمه الله: (إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، إذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق) [2].
فالمجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالخير ويتناهون عن المنكر هو المجتمع المترابط المتساند القوي، الذي يتقدم إلى الأمام حثيثا، وينتقل من خير إلى خير، بحكم تضافر الطاقات ويوجهها إلى الإصلاح، ولو سألنا التاريخ وقلبنا صفحاته لوجدنا أن الجيل الفريد قاموا بهذا الأمر خير قيام، فقد كانت الأمة في عهد استقامتها وتمسكها بالسنن، لا تطيق أن ترى بين أظهرها عاصيا ولا معصية، فإذا رأت شيئا من ذلك ثارت عليه ثورة الأسد، ولا تهدأ إلا إذا أذاقت المجرم ما يليق به وما يستحق على قدر جريمته، تفعل ذلك غَيرة على دينها، وطلبا لمرضاة ربها، فالمجرمون إذا رأوا ذلك كفوا إجرامهم، وبالغوا في التستر إذا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون، وإذا لم تستقم الأمة، ولم تراع سنن دينها ضعفت غيرتها، أو انعدمت كلياً في نفوسها، إذ لو شاهدت ما شاهدت من المعاصي والمنكرات إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة على استحياء لا يخاف معها العاصي ولا ينزجر عن معصيته، أو أن الجميع يتفقون على الإغماض عن ذلك العاصي، فيفعل ما يشاء بدون خوف ولا وجل.
أيها الأخوة: إن المجتمع الذي يأتي المنكر فيه كل إنسان على مزاجه،ويتركه الآخرون لما يفعل هو المجتمع المفكك المنحل الذي يمضي إلى الوراء حتما،وينتقل من ضعف إلى ضعف بحكم تبدد الطاقات وانصرافها إلى الشر.
ولا يضعف هذا الركن العظيم إلا حين تستولي على القلوب مداهنة الخلق وتضعف مراقبة الخالق، وتسترسل الناس في الهوى، وينقادون للشهوات، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)) [3].
أيها المسلمون: إن الحصن الحصين والسياج المنيع للأمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، به تحفظ معالم الدين وتصان حرمات المسلمين، إنه مجاهدة دائمة يقوم بها كل مسلم، يستفرغ وسعه وجهده في ذلك، لا أن يكون السعي جهودا مبعثرة في ساعات متفرقة حسب هوى النفس ورغبتها، ولكنه مجاهدة دائمة من أجل بقاء أعلام الدين ظاهرة، والمنكرات مدحورة.
قال الإمام الغزالي رحمه الله: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهمة الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين) [4] ، وقال ابن حزم: (اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها) [5] ، وقد اعتبره فاروق هذه الأمة شرطاً رئيسياً في الانتماء إلى صفوف هذه الأمة، فقد قرأ قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ثم قال: (أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها) [6].
بارك الله لي ولكم...
[1] رواه أحمد 5/388-389 ورقمه 23349
[2] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال ص15
[3] رواه ابن ماجه والترمذي وإسناده صحيح.
[4] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ الغزالي ، تحقيق سيد إبراهيم ص 5
[5] الفصل في المملل 5/19 ت محمد نصر ،
[6] فتح القدير 1/453 ت عبدالرحمن عميرة
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: إن عاقبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حميدة ،فإذا أُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر صلحتِ الأحوالُ، وكثرتِ البركات، وأصبح المجتمع مجتمعاً خيّرا متآلفا مطمئنا يهابه الأعداء وأصبحت المعاصي مستنكرة فيه ،وإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فشت المعاصي والمنكرات حتى يألفها الناس، ينشأ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير.
ويا حسرة على العباد لقد شب أناس وشاخوا وليس لهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم، وهذا تثبيط من الشيطان الرجيم، والنبي مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم بالجسد الواحد فقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [1].
لنتساءل أيها الأخوة :هل أسدى الواحد منا نصيحة لذلك العضو من جسد الأمة الذي سوّل له الشيطان، فافتتح محلا لبيع ما حرم الله؟ هل بين الواحد منا لأولئك أن عملهم هذا محرم وهو إعانة على الإثم والعدوان؟ ثم يا أخي كم مرة دخلت البنك الربوي لاستلام راتبك هل فكرت يوما ما أن تسدي لأخيك الذي يعمل في صرح الربا ونصحته وخوفته بربه ؟جارك الذي لا يصلي هل أجهدت نفسك في إصلاحه ومناصحته؟ كم مرة رأيت منكرا في جريدة سيارة فهل قمت بالاتصال على أصحابها ومخاطبتهم ومناصحتهم أو الكتابة إليهم؟ إن البعض منا لم يكلف نفسه يوما ما أن يطرق باب النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدعوى أنهم لن يستجيبوا!!
إنك أيها المبارك مطالب بالأمر والنهي وإبداء النصيحة للناس، وهداية القلوب بيد علام الغيوب، وإذا علم الله صدق النية أعان، ولو لم يكن من النصيحة إلا إقامة الحجة، ليهلك من هلك عن بينة قال تعالى: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.
ولا يضعف المسلم أو يتوانى بدعوى أنه غير كامل في نفسه، فقد قرر أهل العلم أنه لا يشترط في مُنكر المنكر أن يكون كامل الحال، ممتثلا لكل أمر، مجتنبا لكل نهي، بل عليه أن يسعى في إكمال حاله مع أمره ونهيه لغيره، قال سعيد بن جبير: "لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر" [2].
ألا إنها دعوة أوجهها إلى الغيورين على حرمات المسلمين ومصالحهم، إلى من أدركوا فساد الوضع، وخطورة الموقف، وضرورة الأخذ بالمبدأ القائل: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح به أولها".
ألا إنها دعوة لأن ينفضوا الغبار ويراقبوا الجبار ويهبوا جميعا ويرسلوها صيحة حق، ودعوة هدى إلى إصلاح ما اعوج من أمر المسلمين، وإلى إقامة ما فسد من أمر الأمة.
ألا إنها دعوة لأولئك المتقاعسين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما تهاونا أو تفريطا أو اعتمادا على غيرهم من رجال الحِسبة ـ وفقهم الله ـ أو تسويفا أو جبنا يلقيه الشيطان على قلوبهم وتخويفا أن يتقوا الله في مجتمعهم الذي يجرجر إلى الهاوية وهم يشاهدون وينظرون ولا يتحركون، قال : ((ألا لا يمنعن أحدَكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم)) [3].
ألا إنها دعوة لتلبية نداء: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [4].
هذا وصلوا رحمكم الله على النبي العظيم والمرشد الكريم.
[1] رواه البخاري (10/438) الفتح ، ومسلم (4/1999) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] شبهات حول الأمر بالمعروف د. فضل إلهي ص23.
[3] أخرجه أحمد 3/50ورقمه 11492من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/1151)
البدائل عن التلفاز
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
26/4/1418
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مطالبة البعض ببديل عن التلفاز حين أُفتي بتحريمه 2- التزام السلف بالأوامر الشرعية
من غير طلب بدائل 3- بدائل عن التلفاز
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين: تكلمنا في الجمعة الماضية عن ذلك الجهاز الذي يسمى بالتلفاز هذه آلة كما يقولون سلاح ذو حدين، إن غلب خيره على شره فهو مباح، وإن غلب شره على خيره فهو محرم، ومن عنده أدنى نظر أيها المسلمون فإنه سيعلم أن شره غلب على خيره، ومن قواعد الشرع المطهر أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أيها الأحبة الكرام: الحديث عن التلفاز وأخطاره لا تنتهي، وإنك لتعجب كل العجب من حال الناس بأنفسهم، فبالرغم من قناعتهم بأخطاره وأضراره لا يمكن أن يتصوروا كيف يعيشون بدونه،مع أن فئاما من الناس قد تخصلوا من تلك الأوهام والحيل الشيطانية وجعلوها وراء ظهورهم وعاشوا بدون تلفاز عيشة هنيئة سعيدة، بل والله وجدوا راحة القلب واطمئنان النفس وسكونها لما جربوا هذا الأمر، وأصبح أولادهم من الأوائل والمتفوقين هذا من الناحية الاجتماعية، أما من الناحية الشرعية، فيكفي هذا الحديث الذي تفزع لهوله القلوب، وتشيب منه الرؤوس وترتعد منه الفرائص يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يجد رائحة الجنة)).
فأسألك بالله أيها الأب هل إدخالك مثل هذه الوسائل للبيت وعكوف الصغار والكبار ليلا ونهارا عليها، هل إدخالك مثل هذه الأمور للبيت هو نصح للرعية أو غش لها؟
هل هو نصح لأولادك أو غش لهم؟ اسأل نفسك قبل أن يسألك الله جل جلاله عن هذا الأمر! فأعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.
أيها المسلمون: لعل الكثيرين منكم خرج في الجمعة الماضية وهو يضرب كفا على كف ويقول بلسان حاله أو بلسان مقاله: شخص لنا الداء ولم يشخص لنا الدواء، منعنا من التلفاز ولم يذكر لنا بديلا منه، وهاهنا أنبه أيها المسلمون إلى أمر عظيم غفل عنه الكثيرون وغاب عن بال آخرين، ألا وهو ذلك الخطأ الفادح والأمر المشين وهو مطالبة المسلم دائما بالبدائل في كل شيء منع منه وحرم عليه، مع إن الواجب على المسلم أن يقول سمعنا وأطعنا إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
هذا هو الأصل بالمؤمن فيما جاءه عن الله ورسوله من الأوامر والنواهي، المبادرة والسمع والطاعة، ولذلك يخاطب الله تعالى عبادة المؤمنين بأجل الأسماء وأحبها إليهم لاستجاشة قلوبهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
فالله تعالى يناديهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مذكرا لهم ما اتصفوا به من إيمان، وما تحلوا به من فضائل، من لازمها وطابع المتحلي بها أن يستجيب لأمر الله طائعا رَغَبا ورَهَبا، وهذه الاستجابة الحية للحق سيحيا بها حياة طيبة، حياة عزّ وعمل، نعم، سيحيا يتلألأ له نوره وضاءً في الدنيا بنور البصيرة، وسكنى القلوب، وبقاء الذكر والثناء الجميل، وفي الآخرة سيحيا حياة الخلود، ونعْم الحياة في جنات عدن لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين،) [1] وهكذا كان الجيل الفريد أصحاب محمد من الاستجابة الحية لأوامر الله ورسوله بدون تردد ولا تلكع، فهاهم (لما نزلت آيات الخمر في تحريمه، لم يحتج الأمر إلى أكثر من مناد في نوادي المدينة: ((ألا إن الخمر قد حرمت)) فمن كان في يده كأس حطمها، ومن كان في فمه جرعة مجها،وشقت زقاق الخمر وكسرت قنانيه.. وانتهى الأمر كأن لم يكن سكر ولا خمر) [2].
إذاً لماذا كلما ذكرنا أمرا محرما طالبنا الناس بقولهم: ما هو البديل؟ وكأن القائل يقول إذا لم تحضروا لي بديلا فلن أتراجع عما أنا فيه من المخالفة والعصيان، وذلك ورب الكعبة لهو الخسران المبين قال تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [الرعد:18]. ويقول سبحانه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى:47].
أيها المسلمون: هذا أصل يجب أن يتربى المسلمون عليه يُنشأ عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، ولا بأس أن أذكر بعض البدائل عن هذا التلفاز لعل الله جل جلاله أن يطهر بيوت المسلمين من رجسه ونجسه ويجعلها عامرة بكتاب الله وسنة رسوله.
أولا هذه البدائل: شراء الحاسب الآلي ـ الكمبيوتر ـ فالحاسوب من الأجهزة المسلية النافعة، والتي تنمي قدرات الأبناء، وهذا عند الحرص التام على اختيار الألعاب العقلية التي تنمي عقل الصغير وتفيده،مع الحذر الأكيد والمتابعة المستمرة للأولاد لظهور بعض برامج الحاسوب المليئة بالفساد الأخلاقي، والفساد العقدي.
2 ـ ومن البدائل أن تجعل لأبنائك مكتبة خاصة بهم تحتوى على أشرطة خاصة للصغار من تلاوات للقرآن وقصص ومواقف وأذكار، وتحتوي على بعض الكتيبات والقصص والمجلات الإسلامية الخاصة بالأطفال، ولتكن بشكل جذاب جميل ذو ألوان مميزة ليحرص عليها الصغار وتشد انتباههم، ولو تم وضعها في غرفة مستقلة لوحدها، ولا تفتح لهم إلا في أوقات خاصة وساعات معينة لكانت الفائدة أكبر، فإنه كما يقال كل ممنوع مرغوب، ولا بأس من مشاركتهم والجلوس معهم في بعض الأحيان، بل والقراءة في بعض القصص وروايتها لهم بأسلوب مناسب جذاب، فإن لهذا أثراً كبيراً على سلوكيات وعقلية الصغار، وجرب فالتجربة خير برهان. لماذا لا يجلس الأب أو الأم في بعض الأحيان معهم صغارهم لرواية بعض القصص المناسبة لهم.
3 ـ ومن البدائل: تخصيص وقت للعب وليكن ذلك باستشارتهم وأخذ آرائهم، فإن لذلك أثرا كبيرا على نفسيا تهم أيضا. مع الحرص على شراء اللعاب التي تنمي قدرات ومواهب الصغار بدلا من إضاعة المال بأشياء لا معنى لها، وسرعان ما تتلف.
4 ـ ومن البدائل: اصطحابهم في بعض الأحيان في نزهة خارج المدينة لممارسة بعض الألعاب، وهكذا كان أسلافنا رضوان الله عليهم، فقد أخرج الحاكم من حديث فاطمة رضي الله عنها أن رسول الله أتاها يوما فقال: ((أين ابناي، أي الحس والحسين ـ فقالت ذهب بهما علي، فتوجه رسول الله فوجدهما يلعبان في مشربة ـوهو المكان الذي يشرب فيه، وهي أرض لينة دائمة النبات ـ وبين أيديهما فضل من تمر))، الحديث فهاهو علي بن أبي طالب يخرج بالحسن والحسين للنزهة واللعب.
وأنك لتعجب كل العجب مما يفعله بعض آباء هذا الزمن من الانشغال بالجلسات والدوريات عن أولادهم والجلوس معهم.
فإن كنت صادقا في رغبتك في إخراج جهاز التلفاز فلابد أن تحرص على أن تجالس أولادك، وأن تقضي بعض أوقات الفراغ معهم.
5 ـ ومن البدائل الحرص على مشاركة الأطفال في لعبهم ولو في بعض الأحيان وتوجيه الأخطاء من خلال اللعب، وهذا أفضل وسائل التوجيه، ومداعبة الصغار وملاطفتهم ويتوسط في هذا الأمر، فلا إفراط ولا تفريط، فقد كان يضع في فمه قليلا من الماء البارد ويمج في وجه الحسن فيضحك، وكان يمازح الحسن والحسين ويجلس معهما ويركبهما على ظهره، وكان يخرج لسانه للحسين فإذا رآه أخذ يضحك، وكان يخطب مرة الجمعة فإذا بالحسين يتخطى الناس، ويتعثر في ثوبه الطويل، فينزل من منبره فيرفع الحسن معه،هكذا بأبي وأمي كان منهجه مع الصغار، فلماذا يتكبر بعض الآباء أو بعض الأمهات من تخصيص وقت للجلوس مع الصغار واللعب معهم.
وقد كان عمر يمشي على يديه ورجليه كالحصان فيراه البعض فيقول له: أتفعل ذلك وأنت أمير المؤمنين؟ فيقول نعم ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي. أي في الأنس والسهولة.
هكذا نكون معه في البيت، فإذا كان في القوم كان رجلا، وعندما تخلى الآباء والأمهات عن أبنائهم وملاعبتهم احتاجوا إلى شيء يسلهم فوضعوا التلفاز حلا لمشكلتهم ودفعا لضجيجهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
6 ـ ومن البدائل حلقات تحفيظ القرآن الكريم التي لها الفوائد العظيمة والمنافع الجسيمة فإن خير ما اشتغل به المشتغلون من أعمال القرب كتاب الله تعلما وتعليما وحفظا وذلك مصدقا لقول المصطفى : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) [رواه البخاري]. وقال : ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)) [رواه أحمد].
ومن نعم الله تعالى على هذه البلاد كثرة حلق القرآن الكريم التي هي مشعل هداية، ومحضن تربية، ومائدة من موائد القرآن التي ينهل منها الآداب الفاضلة، والأخلاق العالية، والصفات الحميدة.
7 ـ ومن البدائل: المراكز الصيفية التي تقام في أوقات الإجازات، ففيها منافع شتى، من حفظ للقرآن وتوجيهات تربوية، وألعاب ترفيهية، ومسابقات علمية وغيرها كثير.
8 ـ ومن البدائل يا مسلمون: إشغال الأبناء بالأعمال المنزلية من قضاء حاجات المنزل وإحضار متطلباته ونحو ذلك، وإحساسهم بالمسؤولية.
9 ـ ومن البدائل: مشاركتهم للأعمال التجارية، فيذهب الوالد بهم إلى متجره ومحله ليتعلموا منه الصنعة ويستفيدوا منه الخبرة، ويقضي وقته تحت رعايته ونظره.
10 ـ ومن البدائل: أن يختار الوالد لأولاده صحبة طيبة صالحة وهم بحمد الله كثير، فيجعله يصاحبهم ويجالسهم ويقضي وقته معهم في شتى العلوم والمعارف مع الترفيه الممتع المضبوط بضوابط شرعية، مع المتابعة المستمرة والسؤال عنه في كل حين.
11 ـ ومن البدائل أيضا: الحث والتذكير للأبناء للمشاركة في الدروس العلمية والمحاضرات التربوية التي تقام في المساجد والمشاركة معهم في الحضور.
12 ـ ومن البدائل أيضا: إعداد المسابقات الثقافية المناسبة لجميع فئات العائلة كما يمكن أن توزع عليهم كتيبا أو شريطا مع بعض الأسئلة بحيث يقرأ الكتيب أو يسمع الشريط ويجيب على الأسئلة، ووضع الجوائز الحافزة على ذلك.
13 ـ ومن البدائل أيضا: محادثة الأبناء عن أحوال المسلمين وأخبار العالم الإسلامي وخلق جو من الاهتمام في مثل هذه المواضيع التي تجعله يغار على حرمات الإسلام والمسلمين مما يدفعه إلى ترك الرذائل وهجرها.
فمع هذه البدائل يمتلئ وقت الأبناء، ولا يبقى لهم وقت للجلوس أمام هذا الجهاز، وأهم قضية وأكبرها وهي محاولة إقناع الإبناء بخطورة مثل هذا الجهاز، وتوعية إدراكهم لما يسببه من مضار دينية واجتماعية وعلمية وصحية وغيرها التي يعجز حصرها في مثل هذه الدقائق.
أيها المسلمون: ومع هذه البدائل لابد من الاستعانة بالله تعالى والالتجاء إليه وسؤاله إصلاح الأبناء والتضرع إلى الله آناء الليل وأطراف النهار أن يصلح الله لك ذريتك وأن يجعلهم هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين والله قريب مجيب وقال ربكم ادعوني استجب لكم.
بارك الله لي ولكم...
[1] أحاديث الجمعة ص79 بتصرف
[2] الظلال (2/975)
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1152)
مفهوم التوحيد الصحيح
التوحيد
أهمية التوحيد
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
8/11/1418
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد دعوة جميع الرسل 2- التوحيد لباب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم 3- أمور
يتضمّنها التوحيد , وبعض صور مخالفته 4- العجب بالكفار والتشبه بهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: ما أعظمه! ما أكرمه! هل في الدنيا والآخرة أجل منه وأعظم؟
أن تخلق الخلائق كلها إنسها وجنها من أجله! أن ترسل الرسل وتُنزل الكتب لإحقاقه والأمر به! أن تقوم القيامة، وتقع الصاخة، وتنزل الطامة لمحاسبة الخلق ماذا عملوا به؟
أن تخلق الجنة والنار من أجل مجازاة أهله!!
أن ينقسم الناس من أجله فريق في الجنة، وفريق في السعير!
حقا إنه لأمر عظيم أن توجد الدنيا والآخرة بسببه!!
إنه التوحيد، التوحيد الذي جاءت به رسل الله كلهم من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد مؤكدة هذا الركن الركين والأصل العظيم ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.
لقد مكث بمكة ثلاث عشرة سنة كاملة يدعو قومه إلى هذا المبدأ العظيم! ولكن يا ترى هل اكتفى المصطفى بهذا القدر؟ هل اكتفى أن يمكث في مكة ثلاث عشرة سنة فقط يدعو إلى التوحيد؟ كلا بأبي وأمي هو بل واصل دعوته حتى بعد وصوله إلى المدينة الطيبة، فما زال يقرر هذا الأمر العظيم يعيده ويبديه!. ويوصي أصحابه بأن تكون دعوتهم بادئ ذي بدأ بأمر التوحيد فعن ابْنَ عَبَّاسٍ قال: ((لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى)) الحديث [1].
بل وصل الأمر إلى أعظم من ذلك، ورسول الله في سياق الموت، وهو يلفظ أنفاسه الشريفة، وهو يودع الدنيا يوصي أمته بأمر التوحيد تقول عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ: ((لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا)) [2].
إن شدة الاهتمام بأمر التوحيد من قبل نبينا محمد وغيره من الأنبياء تدل دلالة واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار على أهمية التوحيد، وجلالة قدره، وعظم منزلته!
وكيف لا يكون ذاك؟ والعبد لا يمكن أن يكون له فلاح وفوز إلا بتحقيق التوحيد الذي جاءت به الأنبياء والمرسلين، وهو أن تعبد الله جل جلاله لا تشرك به شيئا، قال عليه الصلاة والسلام: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا)) [3] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ)) [4].
أيها الأخ المبارك: بهذا يتبين لك خطأ أولئك الذين يقولون إن أمر التوحيد أمر لا يحتاج إلى طول وقفه، ولا جلسة تأني، ولا مداومة نظر، ولا إمعان فكر، فالناس قد أدركوا التوحيد، وخالط بشاشة قلوبهم، وأصبح يمشي في عروقهم، فهم نشأوا على التوحيد، وعاشوا في بلد التوحيد، فلا حاجة إذن أن نملئ أسماعنا من هذا الكلام فذاك أمر قد مضى زمانه، وفات آوانه.
ولكن أحبتي الكرام: نظرة متأنية وتفحص ثاقب في مسيرة الناس ،ومجريات حياتهم يتبين لك خطأ تلك النظرية وتهافتها،فإننا نرى ذلك الارتباك الشديد في بعض المفاهيم العقدية، والتي تعتبر من الأصول التي لا تتزعزع، والثوابت التي لا تتغير، مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة.
فمن تلك المفاهيم الغائبة مفهوم التوحيد، ليس التوحيد أيها الأحبة الكرام مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه فحسب، فإن هذا أمر لا يتنازع فيه شخصان، فعباد الأصنام مقرين بلك وهم مع ذلك مشركون.
بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له والذل لجنابه، وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع والعطاء، والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي، والإصرار عليها، قال عليه الصلاة والسلام: ((فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ)) [5] هل حرم الله النار على من قال لا إله إلا الله بلسانه فحسب؟ كلا فالمنافقين يقولونها بألسنتهم وهم في الدرك الأسفل من النار!
لابد أيها الأحبة حتى يتم توحيد العبد أن يتفق القلب واللسان والعمل على هذا المبدأ العظيم فيعتقد بقرارة نفسه أن كلمة التوحيد تعني لا معبود حق في الوجود إلا الله، فكل ما خلا الله جل جلاله باطل، ولابد أن يصحب هذا الاعتقاد ضبط السلوك الإنساني داخل نطاق هذا التوحيد الخالص الذي يجعله يتحرر من عبودية العباد إلا عبادة رب العباد، يتحرر عقله من تلك الخرافات والخزعبلات، يتحرر ضميره من الخضوع والخنوع.. يتحرر من تسلط الفراعنة والطغاة والأرباب والكهنة، ويعلم أن هذه المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له، فلا يتوجه إلا إلى الله، في سرائه وفي ضرائه سواء، ويعلم يقينا أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فلا استنصار إذن إلا بالله، ولا توكل إلا على الله، ولا رغبة ولا رهبة ولا خوف ولا رجاء إلا بالله، ومن الله، إنه بهذا التصور للتوحيد ،يتضح لك بجلاء خطأ أولئك الذين تقاذفتهم الأهواء، واستولت عليهم الفتن والأدواء، من أمثال الذين تعلقوا بالتمائم والحروز، فعلقوها على أنفسهم وأولادهم، بدعوى أنها تدفع الشر، وتجلب الخير، وتذهب بالعين، والله تعالى يقول: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [الأنعام:17]. وقد رأى النبي رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ((ما هذه؟ قال من الواهنة، فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)) [6] ، وقال عليه الصلاة والسلام : ((من تعلق تميمة فلا أتم الله له))، وفي رواية: ((من تعلق تميمة فقد أشرك)).
وإن من المسلمين من قد افتتن بالمشعوذين، والدجاجلة الأفاكين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، بدعوى أنهم يكاشفونهم بأمور الغيب، فيما يسمى مجالس تحضير الأرواح، أو قراءة الكف والفنجان، والله جل جلاله يقول: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [النمل:65]. وقال عليه الصلاة والسلام: ((من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [7].
وإن من الناس من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله واعتقد ذلك بقلبه فقد أشرك شاء أو أبى واتخذ أولئك ربا كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر. إذا كان هذا قول ابن عباس في الخليفتين الراشدين، فكيف بمن ترك قول رسول الله لقول من هو دونهم؟
أيها المسلمون: ومن المفاهيم التي اعتراها الاهتزاز والضعف بل تكاد أن تموت وتتلاشى في القلوب، مفهوم الولاء والبراء، تلك الكلمة التي ظلمها الناس فلم يرعوها حق رعايتها ولم يدركوا معناها ولا مدلولاتها.
إن كلمة التوحيد لن تحقق في الأرض إلا بتحقيق الولاء لمن يستحق الولاء، والبراء ممن يستحق البراء منه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]. قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: (ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم ـ أي الولاء والبراء ـ بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده).
وتبرز اليوم على الساحة العالمية دعوات مشبوهة تنادي بالإخاء والمساواة والاتحاد بين الأمم على اختلاف مشاربها وعقائدها وأهدافها، مع احتفاظ كل ذي دين بدينه، شريطة أن يكون دينا كهنوتيا لا صلة له بالحياة.
وقد ظهرت هذه الدعوات بقوالب متعددة وأشكال متنوعة ربما تتفق في الغايات والأهداف. وذلك مثل: العالمية، الإنسانية، زمالة الأديان، تقارب الأديان، التعايش مع المسلمين، المجتمع الدولي، وهكذا.
ويا حسرة على العباد أولئك الذين نشأوا في ديار التوحيد انساق كثير منهم وراء هذه الدعوات فغاب عنهم المفهوم العقدي للولاء والبراء، وأصبحت ترى مشاهد يندى لها الجبين من أبناء المسلمين وبناتهم، إننا أصبحنا نرى ذلك الإعجاب الذي بلغ منتها لأولئك الكفرة الذين قالوا عن الجبار جل جلاله إن الله فقير ونحن أغنياء، أصبحنا نرى تلك المحاكاة لأولئك في لباسهم وطريقة كلامهم، ولولا سمرة في وجوههم لما استطعت أن تميز بين هؤلاء وأولئك، إنك لتعجب كل العجب أن ترى من يجل هؤلاء ويصفهم بأوصاف الإعزاز والإكبار مع أنهم يقولون عن الله جل جلاله: إن الله ثالث ثلاثة، إنهم لا يألون في مسلم إلاً ولا ذمة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فيا ترى كم درسا، كم موعظة، كم توجيها، نحتاجها لترسيخ تلك المفاهيم في القلوب إلى درجة اليقين!؟ كم نحتاج من جهود لتصحيح تلك المفاهيم السقيمة!؟
آلا فليتق الله أولئك الزاهدون في أمر التوحيد، وليعلموا أن معظم الشرور والنكبات التي أصابت أمة الإسلام، وأشد البلايا التي حلت بهم، كانت بسبب ضعف التوحيد في النفوس ،وغياب تلك المفاهيم عنها، وما تسلط أولئك الأعداء وغاروا على ديار أهل الإسلام، واستأصلوا شأفتهم، واستباحوا حرماتهم، إلا بسبب ضعف التوحيد.
ولكن عندما كان التوحيد راسخا في القلوب، ثابتا في النفوس، تأتيه العواصف من كل مكان وهو قد ضرب جذوره في الصدور فلا تؤثر فيه الرياح ولا تزعزعه العواصف عندها كان للإسلام صولة وجولة، لقد كان الموحد يتلو قول الله تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين فما كانت تهتز هذه العقيدة إذا تعرضت للشدة لأنها عميقة الجذور، لقد كان الموحد يقرأ قول الله جل جلاله: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه [الزمر:36]. فيحمل سيفه المثلم، ورمحه المحطم، ويقاتل الأبطال، ويقذف بنفسه في غمرات الجهاد، يطعن ويضرب، وصدره يعي هذه الآية.
آلا إنها دعوة لتصحيح المفاهيم الخاطئة التي هوت بالأمة من عليائها لتستقر في غبرائها!
آلا إنها دعوة لأن تكون اهتماماتنا بالأصول العظيمة التي هي مفتاح القلوب ومحركها.
بارك الله...
[1] رواه البخاري (7372) ومسلم (19)
[2] رواه البخاري (436) ومسلم (531)
[3] رواه أحمد ورقمه (22108)
[4] رواه البخاري (3435) ومسلم (28) من حديث عبادة بن الصامت.
[5] رواه البخاري ورقمه (425) من حديث عتبان.
[6] رواه أحمد بسند لا بأس به.
[7] رواه الأربعة والحاكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
يا من أعزكم الله بالإسلام، وأكرمكم بأن جعلكم خير أمة أخرجت للناس، إنكم دخلتم التاريخ بتلك العقيدة الفذة، عقيدة التوحيد التي لم تشبها شائبة، ولم يخالطها الشكوك، ولن تقوم لنا قائمة مما نحن فيه إلا بالعودة على ما كان عليه أسلافنا الأوائل من تحقيق للتوحيد في واقع حياتهم، ودعوة الناس إليه وبذل الجهود من أجل تحقيقه في القلوب وترسيخ تلك المعاني العظيمة في النفوس حتى تصبح هي المحرك الوحيد للإنسان، عندها سيتغير الوضع بإذن الله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذا وصلوا...
(1/1153)
الدعاء سلاح المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
24/7/1417
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة المتضرع إلى الله 2- سرعة إجابة الله لمن دعاه 3- أسباب رد الدعاء 4- الابتلاء
بالمصائب والمحن 5- الابتلاء بالخيرات والعطايا
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار يُكنى أبا مِعْلَق، وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره، يضرب به في الآفاق وكان ناسكا ورعا.
فخرج مرة فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له: ضع ما معك فإني قاتلك.قال ما تريد إلى دمي شأنك بالمال.
قال: أما المال فلي ولست أريد إلا دمك. قال: أما إذا أبيت فذرني أُصلي أربع ركعات، قال: صل ما بدا لك، قال: فتوضأ ثم صلى أربع ركعات.
فكان من دعائه في آخر سجدة أن قال: يا ودود ياذا العرش المجيد أسألك بعزك الذي لايرام، وملكك الذي لايضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني، يا مغيث أغثني ثلاث مرات.
فإذا هو بفارس أقبل بيده حربة واضعها بين أُذني فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه فقتله.
ثم أقبل إليه فقال: قم. قال: من أنت بأبي وأمي فقد أغاثني الله بك اليوم؟
قال: أنا ملك من أهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول، فسمعتُ لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعتُ لأهل السماء ضجةً. ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكروب فسألت الله تعالى أن يُوليني قتله (1).
هكذا عندما تنزل المحن وتشتد الخطوب وتتوالى الكروب وتعظم الرزايا وتتابع الشدائد، لن يكون أمام المسلم إلا أن يلجأ إلى الله تعالى ويلوذ بجانبه، ويضرع إليه راجيا تحقيق وعده، الذي وعد به عباده المؤمنين إذ يقول الله تعالى: وقال ربكم ادعوني استجب لكم [فاطر:60]. ويقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [البقرة:186]. فإني قريب..أجيب دعوة الداع إذا دعان..أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع تكاليف الحياة في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان أضاف العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. ولم يقل: فقل لهم: إني قريب..إنما تولى بنفسه جل جلاله الجواب على عباده بمجرد السؤال فقط!، قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء..إنما عجل بإجابة الدعاء: أجيب دعوة الداع إذا دعان.. إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤُنس، والرضى الُمطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها في جناب رضيّ وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين ،قال عليه الصلاة والسلام: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له)) (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) (2).
أيها الأخوة في الله: في ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الحية.. يلفت الله تعالى نظر عباده المؤمنين إلى قضية كبرى وهي أن قضية إجابة الدعاء معلقة بالإستجابة التامة له، والإيمان به فقال: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون الاستجابة الكاملة التي تعني السير على المنهج الأوحد الذي اختاره الله لعباده وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولاتتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [الأنعام:153]. الاستجابة لله تعالى التي تعني الانقياد التام لأمره ونهيه والتسليم لقضائه والخضوع لجنابه، وبدون ذلك ربما تتعذر الإجابة.
والمتأمل في أوضاع الأمة يلحظ أنها في كثير من مواطنها وأوضاعها اختارت غير ما اختار الله، ودانت بمناهج على غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختلطت عليها السبل، واصطبغت بغير صبغة الله، تغيرت أحوالهم، وفرطوا في دينهم، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، أكلوا الربا، وفشا فيهم الفحش والزنا ،تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،و اتبعوا خطوات الشيطان، وتمادوا في معصية الرحمن، وهذه كلها أسباب في عدم إجابة الدعاء، لأن الذنوب والمعاصي قد تكون حائلة من إجابة الدعاء (*) خاصة أكل الحرام، ذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه: "أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم: أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إليّ أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن حين اشتد غضبي عليكم، لن تزدادوا مني إلا بعدا" (3).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيبا)) ، الحديث وفيه: ((ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك)) (1).
ولنا أن نتعجب كما تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل الذي اجتهد في الدعاء، وأخذ بأسباب الإجابة من إطالة السفر، وتواضع المظهر والتضرع في الدعاء! فتشنا تلمسنا نظرنا فوجدنا أن الرجل غارق في لجة الحرام! إذاً كيف يستجاب لمثل هذا! وهو قد جعل طعامه وشرابه وملبسه من حرام!!
عباد الله: إن إجابة الدعاء معلقة بصدق اللجأ والتضرع إليه ،وعدم استعجال الإجابة، وصدق التوبة التي تجعلنا نعود إلى المنهج الذي ارتضاه الله لنا وسار عليه نبينا وسلكه أسلفنا، وأن نقطع الصلة بماضي الآثام، ونستصلح أنفسنا في مستقبل الأيام مع الحذر من الكسب الحرام أو الدعاء بالإثم وقطيعة الأرحام.
عباد الله: إن من المصيبة كل المصيبة والرزية كل الرزية أن يحال بين المرء وبين الدعاء عندما تنزل به الملمات وتشتد به الكروبات، فلا يضرع إلى الله ولا يلجأ إليه بأن يكشف الله ضره ويفرج همه، ولقد بين الله تعالى في القرآن نموذجاً من الواقع التاريخي، نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله، وكيف تكون عاقبة تعرضهم له، وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه، فإذا نسوا ما ذكروا به، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع له ودعائه، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة، كانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لايرجى معه صلاح، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لاتصلح معه للبقاء، فحقت عليهم كلمة الله، ونزل بساحتهم الدمار الذي لاتنجو منه ديار.. فقال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبسلون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [الأنعام:42-45].
في هذه الأيات عرض لنموذج متكرر في أمم شتى.. أمم جاءتهم رسلهم، فكذبوا، فأخذهم الله بالبأساء والضراء، في أموالهم وفي أنفسهم ،في أحوالهم وأوضاعهم.. البأساء والضراء التي لا تبلغ أن تكون "عذاب الله" الذي هو التدمير والاستئصال.
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم، وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله، ويتذللون له، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة، بقلوب موقنة، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب السماء.. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حريا أن يفعلوا، لم يلجأوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عنادهم وعصيانهم، ولم تَرُدَ إليهم الشدة وعيهم، ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم، وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد: ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون.
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله، قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة، والشدة ابتلاء من الله للعبد، فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه، وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه.. ومن كان ميتا حُسبت عليه، ولم تفده شيئا، وإنما أسقطت عذره وحجته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب!
وإذا كانت الشدة لم تفد في تلك الأمم فالله تعالى يملى لهم ويستدرجهم بالرخاء: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون.
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة ،وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ثم تلا: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون تأمل يارعاك الله قوله: فتحنا عليهم أبواب كل شيء تلك الأرزاق والخيرات والمتاع متدفقة عليهم كالسيول، بلا حواجز ولا قيود! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولاكد ولا حتى محاولة!
حتى إذا فرحوا بما أوتوا وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة، واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها بلا شكر ولا ذكر، وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه، وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة، وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع، بعد فساد القلوب والأخلاق، وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها.. عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فكان أخذهم على غرة وهم في سهوة وسكرة فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة، عاجزون عن التفكير في أي اتجاه فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
بارك الله...
(1) سلاح اليقظان لطرد الشيطان لعبدالعزيز السلمان ص138
(1) رواه مسلم ورقمه (1261) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه الترمذي ورقمه (3295) وابن ماجه ورقمه (3817)من طريق أبي المليح المدني.. والحديث رجاله ثقات وأبو المليح وثقه ابن معين وابن حبان والذهبي.
(*) أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي ص24.
(3) نقلا من الجواب الكافي ص25
(1) رواه مسلم ورقمه (1015).
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله: من أحب أن يوفق للجوء إلى الله تعالى عند الشدة والبلاء فليلزم الدعاء والتضرع إليه حال الرخاء والشكر على النعماء، وليسأل ربه اللطف في القضاء والعافية من البلاء قال عليه الصلاة والسلام: ((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء)) (1).
أيها المسلمون: لقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر رفع رأسه إلى السماء فدعا يتلمس الفرج والنجدة من رب السماء، وكم له صلى الله عليه وسلم من الدعوات عند الكروب ونوازل الخطوب فعندما آذته ثقيف جلس صلى الله عليه وسلم إلى ظل شجرة ورفع رأسه إلى السماء ضارعا يقول: ((اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي)) الحديث.
وعندما نازلته قريش في بدر رفع رأسه ويديه إلى السماء وأخذ يدعو الله ويضرع إليه حتى أتم الله له النصر وبعث إليه ملائكة تقاتل مع جيشه.
فاتقوا الله عباد الله وتضرعوا إليه، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، ولا تقعدنكم عن الدعاء الغفلة أو الركون إلى ضلال الضالين وشبه المنحرفين، فإن للدعاء أثره الواضح الفعال في تحقيق الرغائب وبلوغ الآمال، وحسبك أنه هو العبادة التي تفتح بها أبواب الرحمة إذا توجه به العبد إلى ربه راغبا راهبا نال رضاه وبلغ به فوق ما تمناه ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لايحب المعتدين ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:55-56].
هذا وصلوا على..
(1) رواه الترمذي من حديث سلمان ورقمه (3304) وقال عنه الترمذي هذا حديث غريب.وفيه عبيد بن واقد وسعيد بن عطيه وكلاهما ضعيف.محمد.
(1/1154)
حفظ الضروريات الخمس
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
30/1/1421
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شريعة الإسلام جاءت لحفظ مصالح العباد 2- إنسانية المسلمين في جهادهم لعدوّهم
3- صور من حرب ودمار الآخرين للمجتمعات التي تسلّطوا عليها 4- حفظ النفس في الإسلام
وعند الغرب 5- حفظ النسل في الإسلام وعند الغرب 6- وسائل حفظ المال في الإسلام
7- كيفية حفظ العقل
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة في الله: إن شريعة الإسلام، مبنية بناء متينا حكيما، لأنها من العزيز الحكيم الحميد، فهي أثر من آثاره سبحانه وتعالى، وكل صغير وكبير في هذه الشريعة موضوع في موضعه تماما، فكما أن خلق الله تعالى لا تفاوت فيه، فكذلك أمره سبحانه لا تفاوت فيه، فكل أوامره عدل، وكل أمره قد تنزل على وفق العلم التام، والحكمة البالغة ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فالذي خلق هذا الإنسان هو الذي أنزل له ما يصلحه، ويرعى حقوقه تامة من غير نقصان.
فما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وأرشدت إليه ودلت عليه، ولذا اعتنت الشريعة بحفظ الضرورات الخمس والتي هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال.
فحياة البشر في الدنيا لا تستقيم إلا بحفظ هذه الضروريات والتي اتفقت عليها الأديان السماوية، وأقرت بها الأمم الماضية، وإذا فقدت تلك الضرورات فإن حياة الناس لا تستقيم، وأمورهم لا تنتظم، ويحصل من الفساد بقدر ما انتقص من هذه الضرورات، وبفواتها تفوت النجاة في الآخرة، ويرجع الناس بالخسران المبين.
وإن إدراك المسلم لهذه الضرورات الخمس، يُكوّن لديه القناعة الكافية في دينه وشريعته، فيسعى جاهدا للالتزام بأحكامها، والحذر من مخالفتها، ويرفض الاستعاضة عنها، ويمتنع من التهرب منها، أو التحايل عليها، لما سيعود عليه من نتائج وخيمة، وأضرار جسيمة، كما أن معرفة هذه الضرورات تعطى المسلم مناعة كافية ـ خاصة في وقتنا الحاضر ـ ضد الغزو الفكري، والتيارات المستوردة، والمبادئ البراقة، والحقوق المزعومة، التي يستتر أصحابها وراء دعايات كاذبة، وشعارات خادعة.
أيها المسلمون : لقد اهتمت الشريعة بحفظ تلك الضرورات اهتماما بالغا، فأوجب الإسلام على الناس حفظ الدين بالعمل به، والدعوة إليه، والحكم به، ولهذا شُرِع الجهاد في سبيل الله لحفظ الدين، والقضاء على من وقف في وجهه من المعاندين.
هذه الغاية التي من أجلها يقاتلُ المسلمون ويجاهدون، وهي ما عبر عنها ربعي بنُ عامر، وهو يخاطبُ رستم، قائدَ الفرس، بكل ثقة واقتدار. (لقد ابتعثنا اللهُ تعالى لنُخرِجَ من شاء من عبادةِ العباد، إلى عبادةِ الله وحده، ومن ضيقِ الدنيا إلى سعتهِا، ومن جورِ الأديان، إلى عدل الإسلام).
ومن هنا ندرك الغاياتِ العظيمة، التي من أجلها شُرع الجهاد، وجُعِلَ ذروةُ الإسلام، ولم يكن الجيش الإسلامي جيشاً يتشفى بقتلِ خصومهِ، وإذلالهِم لأن الجهادَ في الإسلام، لم يكن بدافع حقدٍ يملأ القلوب، ولا رغبةً في الاستعلاء، ولا الاستكبار في الأرض، ولم يكن يعرف سياسةَ الأرضِ المحروقة، بل كان جيشا نظيفا شجاعا.. لا ترضى له عدالةُ الإسلام، وشموخُ الإسلام، وسماحةُ الإسلام، وعظمةُ الإسلام، لا ترضى له أن يقتلَ شيخاً كبيرا، أو امرأةً ضعيفة، أو يفجع أماً بوليدها، أو يهدمَ صومعةً لعابد، روى مسلم في صحيحه عن بريدة رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: ((اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)) [رواه مسلم].
ولما بَعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيدَ بنَ سفيان، قال له: (إِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلا صَبِيًّا، وَلا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ) [رواه مالك في الموطأ].
قارن بين هذه الصورةِ المشرقة، لجهاد المسلمين، وبين قتالِ الكفارِ وأهدافهِم وغاياتهِم، وتأملْ تاريخهَم الأسود، الملطخَ بالدماء والأشلاء، فهم الذين شنَّوا هجماتهِم البربرية، على الأممِ المستضعفة، في مشارقِ الأرضِ ومغاربهِا، وجاسوا خلالَ الديار، يبحثون عن أسواقٍ لبضائعهِم، وأراضٍ لمستعمراتهِم، واستبدوا بمنابع الثروةِ دون أهلهِا، وأخذوا يفتشون، عن المناجمِ والمعادن، وعما تغلُه أرضُ اللهِ الواسعة، من الحاصلات التي يمكنُ أن تكون غذاءً لبطونِ مصانعهِم ومعاملهِم، يبحثون عن كلِّ ذلك، وقلوبهُم كلُها جشعٌ وشره، إلى المالِ والجاه، وبين أيديهِم الدباباتُ المدججة، وفوق رؤوسهِم الطائراتُ المساندة، ووراء ظهورهِم عشراتُ الألوف من العساكر المدربة، يقطعونَ على البلاد، سُبَلَ عيشهِا، وعلى أهاليَها طريقتهَم إلى الحياةِ الكريمة، يريدون بذلك، أن يهيئوا وقوداً، لنيران مطامعهِم الفاحشة، التي لا تزيدها الأيامُ إلا التهابا واضطراما.فلم تكن حروبُهم في سبيل الله، وإنما كانت في سبيل شهواتهِم الدنيئة، وأهوائهِم الذميمة.
وأما قتالهُم ضد المسلمين على وجهِ الخصوص، فلسنا بحاجةٍ أن نستعرضَ صفحاتٍ من الماضي، فهاهي حملتهم الجديدة، تجري فصولُها الساعة، على أرضِ الشيشان، والتي يعجز المدادُ..أن يصفَ هولَها وبشاعتَها..قد تكالبَ الأعداءُ جميعا،يرمونها عن قوسٍ واحدة، تأملْ ما يجري على أرضِ الشيشان، حين تغيبُ القيمُ السامية، التي من أجلهِا شُرِع القتال، منذ ما يقاربُ سبعةَ أشهر، والروسُ الملحدين، يرتكبون أبْشَعَ الجرائم، ضد شعبٍ محاصرٍ أعزل، يُقصفُ بالطائراتِ والصواريخ، ويُدكُ بالمدفعيةِ الثقيلة، حتى مَلئتْ الجثثُ الشوارع، وضاقتْ بها المقابرُ الجماعية، وأهريقتُ الدماءُ في كل مكان، واختلط دمُ الطفلِ الرضيع بدم أمهِ الثكْلى، وهتكت أعراضُ النساء، ولا مست صرخاتهنُ أسماعهَم، لكنَّها لم تلامسْ نخوةَ المعتصم، فأين حقوق الإنسان!! وأين المواثيق!! وأين العهود!!
أيها الأخوة في الله: ومن الضرورياتِ التي فرضهَا الإسلام، لرعايةِ حقوقِ الإنسان.. حفظُ النفس، فحرمَ الاعتداءَ عليها، وكَفلَ للمظلومِ أن يأخذَ حقَه، يقولُ اللهُ تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بحق، ومن قُتِل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً [الإسراء:33]. فالحياة هبةٌ من الله، لا يجوزُ أخذهُا إلا بشرعٍ من الله! فكيف إذا كان المقتولُ مؤمنا، فإن الأمرَ أشد..قال تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنمُ خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [النساء:93]. وقال : ((لزوال الدنيا أهونُ على الله، من قتل مؤمنٍ بغير حق)) ( [1] ).
إن نظرةَ الإسلام، لحفظِ حياةِ الإنسان، تختلفُ عن النظرةِ الغربية، والتي تدعى الحفاظَ على حقوقِ الإنسان، والواقعُ يُثبتُ خلافَ ذلك، ماذا فعل اليهودُ في الأرضِ المحتلة!! والصربُ في أرضِ البلقان!! والهندوسُ في كشمير!! فعندما استباحتْ الحضارةُ الغربية، قتلَ المئاتِ والألوفَ والملايينَ من أجلِ الأطماعِ والمصالحِ المتصارعة، لم تُجِزْ تلك الحضارةِ الجوفاء، إعدامَ القاتل، الذي يقتلُ عمداً بغير حق، تحت ادعاءِ حقِ الحياة!!
فَهْمٌ مضطرب، وقوانينٌ متناقضة، وممارسةٌ فاسدة.
إن أممَ الغرب، التي حرمتْ قتلَ الفردِ المتعفنِ المعادي للمجتمع، المتعدي على غيرِه، أباحتْ وشجعتْ، قتلَ الآلافِ من البشرِ الأبرياء، أباحتْ قتلَ الأطفال والشيوخ والنساء، إنه في كلِّ يومٍ، تتقدمُ صناعةُ الأسلحةِ تقدماً مخيفا، هذا التقدم الذي يفخر به الغرب، هو تقدمٌ في طُرِق الفتك الجماعي بالبشر، وأعلنوا أخيراً عن قنابلَ تَفتكُ بالبشر، وتقضي على الحيوان، وتبقى على البناءاتِ والمنشآت، فما أهون الإنسان في الحضارة المادية؟!!
أ يها الأخوة في الله: وقد أمر الله تعالى بحفظ النسل، وشرع لذلك الوسائل الكفيلة بحفظه فرغب في كثرته، ورغب في النكاح الذي به يحفظ النسل شرعا..فالإسلام لا يحارب دوافع الفطرة، ولا يستقذرها، إنما ينظمها ويطهرها، ويرفعها عن المستوى الحيواني، ويرقيها حتى تصبح المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية.
فالزواج هو الطريق الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية، وهو الغاية النظيفة لهذه الميول العميقة، ولذا لم يفرض العفة إلا وقد هيأ لها أسبابها، وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء، فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر، إن الإسلام يريد مجتمعا طاهرا نظيفا، وفي الوقت ذاته ناصعا صريحا، مجتمعا تؤدى فيه كل الوظائف الحيوية، وتلبى فيه كل الدوافع الفطرية، ولكن بغير فوضى ترفع الحياء الجميل، مجتمعا يقوم على أساس الأسرة الشرعية المتينة القوائم، وعلى البيت العلني الواضح المعالم، مجتمعا يعرف فيه كل طفل أباه، ولا يخجل من مولده، لا، لأن الحياء منزوع من الوجوه والنفوس، ولكن لأن العلاقات الجنسية قائمة على أساس نظيف صريح، طويل الأمد، واضح الهدف، يرمي إلى النهوض بواجب إنساني واجتماعي، لا لمجرد إرضاء النزوة الحيوانية، والشهوة الجنسية! يقول الله تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون. أين هذه الأحكام التي خففت من هذه الآفة الخطيرة في المجتمع المسلم، من حال الأمم الغربية، ومن جرى على شاكلتهم، حالة يندى لها الجبين، وتنذر بالويل، وضياع المجتمع بانتشار الأوبئة فيه، الأخلاقية والبدنية، ترى النساء شبه العاريات، ينزوين في جوانب الأزقة مع شدة المطر والبرد، ينتظرن من يتقدم ليطلب مضاجعتهن مقابل دريهمات، وترى الفاحشة التي تهدر كرامة الإنسان، كرامة الرجل والمرأة، ترتكب علانية في أماكن عامة، على صورة تستحي منها الحيوانات، أليست إهانة بشرية مريعة أشكال الدعارة وأرقامها المتعاظمة !!انحطت الأخلاق وعدم الحياء حتى أباحوا اللواط والسحاق.. وأصبح للوطيين جمعيات وأحزاب، وسنت من أجلهم القوانين، ووضعت التشريعات مخالفة لسنن الله، وسنن الفطرة، حتى أقروا شريعة زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم بل هم قوم عادون، فأين كرامة الإنسان!! وأي حرية هذه!! وأي حقوق تلك!! فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
أقول قولي هذا فإن كان حقا فمن الله، وإن كان غير ذلك فمني والشيطان واستغفر الله العظيم.
( [1] ) رواه الترمذي من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة في الله: ومن الضروريات التي اهتم الإسلام بها لكفالة حق الإنسان في الحياة حفظ المال، فالمال قوام الحياة، ولا قيام لإنسان ولا بقاء له إلا بالمال، فهو الطعام والشراب والسكن والعدة والعتاد. وقد وصفه الله بذلك بقوله: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً [النساء:5].
وقد شرع الله سبحانه من التشريعات ما يكفل الحفاظ عليه، وتنميته بكل وسيلة صالحة، فالمال لله تعالى هو مالكه سبحانه، يقول الله تعالى: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم وقال: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فمادام المال، مال الله، فهو خاضع إذن لكل ما يقرره الله بشأنه بوصفه المالك الأول، سواء في طريقة تملُكه، أو في طريقة تنميته، أو في طريقة إنفاقه، وليس واضع اليد حرا في أن يفعل به ما يشاء، وقد حرم الله تعالى أكل أموال الناس بالباطل، فقال سبحانه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وقال : ((إن أموالكم عليكم حرام)) [رواه البخاري ومسلم].
ويشمل هذا كل طريقة لتداول الأموال بينهم لم يأذن بها الله، أو نهى عنها.. ومنها الغش والرشوة والقمار واحتكار الضروريات لإغلائها، وجميع أنواع البيوع المحرمة ـ والربا في مقدمتها ـ فهو أشد الوسائل أكلاً للأموال بالباطل.. كما أن الشريعة نهت عن الاعتداء على المال فقال تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا [المائدة:38].
وأخيرا أيها الأخوة: من الضروريات التي اهتمت الشريعة بحفظها صيانة لحقوق الإنسان حفظ العقل، الذي هو أعظم نعم الله على العبد، والذي جعله فرقانا بين البهيمة والإنسان، فبه يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، به يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشئونه، به يتمتع ويهنأ، وبه ترتقى الأمم وتتقدم الحياة، وينتظم المجتمع الإنساني العام، وقد أودع الله تعالى في هذا العقل من الطاقات للحكم على الأمور، واستخلاص النتائج من مقدماتها، والغوص إلى معرفة الحقائق الكونية، والاستدلال بها على عظمة الخالق سبحانه وكمال قدرته وحكمته، ولذا حرص الإسلام على حمايته وحفظه مما يفسده فقال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر [المائدة:91]. وقال : ((كل مسكر حرام)) [رواه البخاري ومسلم].
وبهذا يظهر أن حفظ العقل ضرورة لا حياة بدونها وأن حفظه يشمل صيانته عن العقائد الفاسدة والأفكار الضارة، كما يشمل كذلك وقايته من المفسدات المادية كالخمر والمخدرات ونحوها، وفاقد العقل بالسكر، يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار؛ فيخل بالأمن، ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين.
اللهم إنا نسألك إيمانا يباشر قلوبنا، ويقينا صادقا، وتوبة قبل الموت، وراحة بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين بالمعروف آمرين وعن المنكر ناهين يا رب العالمين اللهم آمن في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور يا عزيز يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون.
(1/1155)
العقوبات الإلهية للشعوب والأمم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
25/12/1420
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة سبأ والعبرة منها 2- مصائب حلّت بالمسلمين حين تنكّبوا عن شرع الله 3- أسباب
العقوبات الإلهية
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: فيقولُ اللهُ تعالى في كتابهِ الكريم: وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون في هاتين الآيتين الكريمتين، يعرضُ القرآنُ الكريم، مثلاً مضروباً، مُسَاقاً للعظةِ والعبرة، لقريةٍ من القرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار، وطمأنينةٍ ورغدٍ من العيش، يأتيها رزقُها من كل مكان، لا يعرفُ أهلُها الجوعَ والخوف، ولا الفاقةَ والحرمان، فهم في أوجِ لذاتِهم، وغايةِ سعادتهِم لكنَّ أهلَ القريةِ المغفلين، ظنوا أنَّ ذلك بسببِ حسبهِم ونسبهِم، ومكانتهِم عند الله تعالى، وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميزهِم عند الناس، فتجرأَ المغفلون، تجرءوا على انتهاكِ محارمِ الله، وتجاوزِ حدودهِ سبحانه، مغترينَ بإمهالِ اللهِ لهم، وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم، فبدلاً من أنْ يشكروا ربهم، ويعترفوا بإحسانِه إليهِم وتفضلِه عليهِم، ويلتزموا حدودَه، ويعرفوا حقوقَه، إذا بهم يتنكرون للمنعِم العظيم، ويتجرءون في سفهٍ وغرور، على العزيزِ الحكيم، الذي يقول: يا عبادي فاتقون ويقول: وإياي فارهبون فماذا كانتْ النتيجة، وما هي النهايةُ والعاقبة، بعد ذلك الإمهالِ، والصبرِ الجميل؟! إنَّ القرآنَ الكريم، يختصرُ العقوبةَ المدمرة، والنهايةَ الموجعة، في كلمتين اثنتين، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
إذاً فرغدُ العيش، وسعةُ الرزق، يتحولُ في طرفةِ عين، ولمحةِ بصر، جوعاً يَذهبُ بالعقول، وتتصدعُ له القلوبُ والأكباد، وإذا البطونُ الملأ، والأمعاءُ المتخمة، يتضورُ أصحابُها جوعا، ويصطلون حسرةً وحرمانا، وإذا الأمنُ الذي، كانوا يفاخرون به الدنيا، وينسونَ في عجبٍ وغرور، المتفضلَ به سبحانه، والمنعمَ به جل جلاله، إذا به ينقلبُ رعباً وهلعا، لا يأمن المرءُ على نفسِه وعرضِه فضلاً عن مالهِ وملكه، فانتشر المجرمون والقتلة، يسفكونَ دماءَ الناس، وينتهكونَ أعراضَهم، ويحوزونَ أموالهَم، وأصبح باطنُ الأرض، خيراً من ظاهِرها، في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومة.
والقرآنُ الكريم، حين يعرضُ بوضوحٍ وجلاء، مآلَ تلكَ القريةِ، الظالمِ أهلُها، ويقررُ أنَّ ما أصابهَم، هو بسببِ ما اقترفتُه أيديهِم، من التمردِ والجحود، ونكران الجميل، حين يعرضُ القرآنُ ذلكَ كلَّه، فهو إنما يخاطبُنا نحن الحاضرين، ويخاطبُ غيَرنا، حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها، يحذرُنا أن نقعَ في ذاتِ الخطأ، الذي وقعوا فيه، فنؤولُ لذاتِ المآلِ الذى آلوا إليه، ولقد ذاقت هذه الأمة، ألوناً من العقوباتِ المدمرةِ، التي يشيبُ من هولهِا الوالدان، ولولا أنَّ الذي سطَّرها في كتبهِم ونَقلَ لنا أخبارَها في مصنفاتِهم، هم أئمةُ الإسلامِ المحققون، كابن كثير والذهبي، وغيرهِما، لظننا ذلك ضرباً من الخيالِ والتهويل.
فإليكم طرفاً، مما حدثَ لهذه الأمة، حينَ كفرتْ بأنعمِ الله، واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان، لعلنا نتعظ ونعتبر، ونلجأ إلى ربنا، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه.
ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ خبرَ الطاعون، الذي أصاب، مدينةَ البصرةَ العراقية، قال: فمات في اليومِ الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني، إحدى وسبعون ألفا، وفي الثالث ثلاثةٌ وسبعون ألفا، وأصبح الناسُ في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، قال أبو النُفيد، وكان قد أدركَ هذا الطاعون، قال: كنَّا نطوفُ بالقبائلِ وندفنُ الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنَّا ندخلُ الدار، وقد مات أهلُها، فنسدُ بابهَا عليهم، وفي أحداثِ سنةِ تسعٍ وأربعين وأربعمائة، من الهجرة، ذكر ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ خبرَ الغلاءِ والجوعِ الذي أصابَ بغداد، بحيث خلتْ أكثرُ الدور، وسُدَّت على أهلِها الأبواب، لموتِهم وفناءِهم، وأكلَ الناسُ الجِيفَ والميتة ،من قلةِ الطعام، ووجُد مع امرأةٍ فخذُ كلبٍ قد أخضَّر، وشَوَى رجلٌ صبيةً فأكلَها، وسقطَ طائرٌ ميت، فاحتوشته خمسةُ أنفس، فاقتسموه وأكلوه، ووردَ كتابٌ من بخارى، أنَّه ماتَ في يومٍ واحد، ثمانيةَ عشرَ ألفَ إنسان، والناسُ يمرون في هذه البلاد، فلا يرون إلا أسواقاً فارغة، وطرقاتٍ خالية، وأبواباً مغلقة، وجاء الخبرُ من أذربيجان، أنَّه لم يسلمْ من تلك البلاد، إلا العددُ اليسير جدا، ووقع وباءٌ بالأهوازِ وما حولها، حتى أطبق على البلاد، وكان أكثرُ سببِ ذلك الجوع، فكان الناسُ يشوونَ الكلاب، ويَنبشونَ القبور، ويشوونَ الموتى ويأكلونهم، وليس للناسِ شغلٌ في الليل والنهار، إلا غسلُ الأمواتِ ودفنُهم، وكان يدفنُ في القبرِ الواحد، العشرونَ والثلاثون، وذكرَ ابنُ كثيرٍ ـ رحمه الله ـ في أحداثِ سنةِ اثنتين وستين وأربعمائةٍ من الهجرة، ما أصابَ بلادَ مصر، من الغلاءِ الشديد، والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وماتت الفيلة، فأكلتْ ميتاتُها، وظُهِرَ على رجلٍ يقتلُ الصبيانَ والنساء، ويدفنُ رؤوسَهم وأطرافَهم، ويبيعُ لحومَهم، فقُتلَ وأُكلَ لحمُه، وكانت الأعراب، يقَدَمون بالطعام، يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول، لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكان لا يجسُر أحدٌ أن يدفنَ ميتَه نهاراً، وإنما يدفنُه ليلاً خُفيةً، لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل، وفي سنةِ ثلاثٍ وتسعين وخمسمائةٍ من الهجرة، ورد كتابٌ من القاضي الفاضل، إلى ابن الزكي يخبُره فيه، أنه في ليلةِ الجمعة، التاسعِ من جمادى الآخرة، أتى عارضٌ ـ يعني سحاب ـ فيه ظلماتٌ متكاثفة، وبروقٌ خاطفة، ورياحٌ عاصفة، فقويَ الجو بها، واشتدَّ هبوبُها، فرجفتْ لها الجدرانُ واصطفقتْ، وتلاقتْ على بعدِها واعتنقتْ، وثار السماء والأرض عجاجا، حتى قيل: إن هذه على هذه قد انطبقت، ولا يحسب إلا أن جهنم، قد سال منها واد ،وعاد منها عادٍ، وزادَ عصفُ الريح، إلى أن أطفأَ سُرجَ النجوم، ومَزَّقت أديَم السماء، فكنا كما قال الله تعالى: يجعلون أصابعهم في آذنهم من الصواعق ويردونَ أيديهَم على أعينهِم من البوارق، لا عاصمَ لخطفِ الأبصار، ولا ملجأ من الَخطْبِ، إلا معاقلُ الاستغفار، وفرَّ الناس، نساءً ورجالاً وأطفالا، ونفروا من دورِهم، خفافاً وثقالا، لا يستطيعونَ حيلةً ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجدِ الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناقٍ خاضعة، وبوجوهٍ عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرفٍ خفي ويتوقعون أيَّ خطبٍ جلي، قد انقطعتْ عن الحياةِ عُلَقُهم، وعميتْ عن النجاةِ طُرُقهم، ووردتْ الأخبار، بأنها قد كُسِرت المراكبُ في البحار، والأشجارُ في القفار، وأتلفتْ خلقاً كثيرا ًمن السُفَّار، (إلى أن قال)، ولا يحسبُ أحدٌ أني أرسلتُ القلمَ محرفاً، والعلم مجوفا، فالأمرُ أعظم، ولكنَّ الله سلم، انتهى كلامه رحمه الله.
أيها المسلمون: إن هذه العقوباتِ المهلكة والكوارثَ المفجعة، ليست ضرباً من الخيال، وليس فيها شيء من التهويلِ والمبالغة، فالله يقول: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد لكن الذي نشأ، منذُ نعومةِ أظفاره، في بحبوحةٍ من العيش، لم يذقْ مرارةَ الجوع، طرفةَ عين، حريٌ به أن يعجبَ مما سمعَ كلَّ العجب، لكنْ سلوا الآباء والأجداد، الذين اصطلوا بنارِ الجوع، ولهيبِ الظمأ، دهراً طويلا، وارتعدتْ فرائصهُم وقلوبُهم من قطاعِ الطريق، وعصاباتِ السطو، في وضحِ النهار، يتضحُ أنَّه ليسَ في الأمرِ غرابةٌ من قريبٍ أو بعيد، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: فإن للعقوباتِ أسباباً كثيرة، ورد ذكرُ بعضهِا في الكتاب والسنَّة، وجامعُها المعاصي والذنوب، والتكذيب والإعراض، فمن أسبابِ العقوباتِ المدمرة، والفواجعِ المهلكة، إقصاءُ الشريعة، عن الحكمِ والتشريع، أو تطبيقُها على أضيقِ نطاق، مع المنةِ والأذى، والله يتوعدُ الأمة، إن هي فعلتْ ذلك بالخزيِ والنكالِ في الحياةِ الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون.
ومن أسبابِ العقوبات في الدنيا قبلَ الآخرة، إشاعةُ الفاحشةِ في الذين آمنوا، وفي ذلك يقولُ ربنا جل جلالهإ: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ومن إشاعةِ الفاحشة، الدعوةُ للاختلاط ونزعِ الحجاب، وعرضُ الفساد والفنِ الرخيص، وبثُ السمومِ والأفكارِ المستوردة، مما لا يتسعُ المقام لسرده، وفي الأثر: "وما أعلن قومٌ الفاحشة، إلا عمتهم الأوجاعُ والأسقامُ التي لم تكن في أسلافهم".
ومن أسبابِ العقوبات، منعُ الزكاة، تلك التي لو قامَ أثرياءُ المسلمين بأدائها، لما وجدتَ بين المسلمين فقيرا ولا محتاجا، واسمع إلى عقوبةِ الأمة، حين تبخل بزكاةِ أموالِها، قال عليه الصلاة والسلام: ((وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمْ لم يمطروا))، وقد يستخفُ أقوامٌ، بهذه العقوبة ويستطرفونها لأنهم اعتادوا تدفقَ المياهِ ووفرتَها في بيوتِهم، لكنهم لو قلبوا النظر يمنةً ويسرة، في البلادِ التي أصابَها القحطُ والجفاف، لعلموا أنهم كانوا واهمين، وعن الصراط لناكبين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك: موالاةُ الكفارِ والتقربُ إليهم بالمودةِ والمحبة، وقد وضح القرآنُ الكريم أنه لا يتولى الكفار، ويتقرب إليهم إلا منافق ظاهر النفاق قال تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً وقد حدثنا التاريخ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلادِ الأندلس عندما وإلى أمراءُ الطوائفِ النصارى، فنفض الصليبيون البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبحتْ هذه البلاد.. حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ للمسلمين، ثم يذكرُ أولئكَ الأوباش، الذين أضاعوا ذلك الفردوس المفقود، بسبب ولائهم لأعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين.
ومن أسبابِ العقوبات كذلك، تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والذي بتركهِ تستفحلُ الفاحشة، وتعمُ الرذيلة، ويستطيلُ الشر، وتخربُ البلادُ والعباد، واسمع لعقوبةِ الأمة، حين تتخلى عن فريضةِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ففي المسندِ وغيرهِ من حديثِ حذيفةَ رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) ألا فضّ الله أفواهاً، وأخرس ألسناً، تريدُ لهذهِ الفريضةِ أن تموت.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك، انتشارُ الظالمِ في المجتمع، وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُ الضعيف، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة، ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: أنتَ ظالم، فقد آن أوانُ العقوبة، واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون. فعند الترمذي وأبي داود قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناسَ إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه)).
ومن أسبابِ العقوبات، فشو الربا وانتشارُه، حيث تعاطاه الكثيرون، وأَلِفه الأكثرون، وقل له الناكرون، واللهُ يقول: يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ويقول سبحانه: يمحق الله الربا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم وذهابُ بركةِ المال، ومحقُ عائدهِ ونتاجهِ ملموسٌ مشاهد، يعترفُ به المرابون، ضمناً وتصريحا، والعالمُ الإسلامي اليوم، يعاني الأزماتِ الاقتصاديةَ الخانقة لتورطهِ بتعاطي الربا، وإعراضِه عن الشرعِ المطهر، واستخفافِه بالوعيدِ الإلهي لأكلةِ الربا، ومدمنيه.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك، ظهور المعازف وشرب الخمور، وقد انتشر الغناء بين الناس حتى عد أمرا معروفا، واستمع يا رعاك الله إلى العقوبة المتعودة لأهله، قال عليه الصلاة والسلام: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)).
أيها المسلمون: أسبابُ العقوباتِ كثيرة، والموضوعُ متشعبٌ وطويل، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العبارة، وما لا يُدرك كلُه، لا يتُرك جُله.
هذا وصلوا رحمكم الله...
(1/1156)
الغناء في ميزان الشرع
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
26/11/1420
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الغناء في نشر التخنّث والضعف 2- أدلة تحريم الغناء 3- أقوال السلف في ذمّ الغناء
وتحريمه 4- الغناء بريد الزنا 5- حكم بيع أشرطة الغناء ونصيحة لبائعي هذه الأشرطة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة في الله: إن القلوب إذا ضعف إيمانها، وأقدمت على المنكر عدة مرات، آنسته وأطمأنت إليه، وأصبح لديها أمراً مألوفا، لا تشعر منه بحرج ولا إثم، وهو مصداق قول النبي : ((إن العبد إذا أذنب ذنباً، نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صُقل منها، وإلا امتدت حتى تعلو قلبه)) ، وذلك الران الذي ذكر الله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فإذا علا القلوب ذلك الران، أصبحت لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، حتى لو عَرفتْ قُبح ذلك الفعلِ وتحريمه، وهي عقوبةٌ بالغة لأصحاب المنكرات والمعاصي، تجُرَؤهم على حدود الله، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، إنها عقوبة، أبلغ من مصائب الأنفس والأموال، لأنها دفع إلى النار وإغراء بها، وأوضحُ مثالٍ على ذلك، منكر خبيث، صيد به قلوب الجاهلين والمبطلين... وشحذ شهواتها الحيوانية، وتعلقت به النفوس، اشد من تعلقها بالطعام والشراب، بل وأحب قوم فيه وابغضوا، مع أنه منكر خبيث طالما ضرر بالأمم والشعوب، وسلبها حضارتها، وما ظهر في قوم، وفشا فيهم، واشتغلوا به، إلا سلط الله عليهم العدو، وبلوا بالقحط والجدب، وولاة السوء.
إنه سماع الغناء المصحوب بالموسيقى الذي تتابعت النصوص على تحريمه، ومنافاته لروح الإسلام الجادة الطاهرة الرفيعة، ومع ذلك فقد ألفه كثير من المسلمين وتعلقوا به، أشد من تعلقهم بالقرآن الكريم أو حديث رسول الله ، بل هو عند بعضهم ـ والعياذ بالله ـ أقرب وأحب إليه من القرآن والحديث، بل إن الأمر يصل ببعضهم إلى أن يبعد مؤشر المذياع، حين يسمع القرآن، حتى إذا سمع مغنية فاجرة تتشدق بمنكر القول، أو مغنيا يتكسر ويتأوه، انتعش فؤاده، ورقص طربا، وأشرق وجهه، وتراقصت أعضاؤه، وتأمل حال الذين ابتلوا بفتنة كوكب الشرق أو غيرها، كيف يسهرون الليالي الطوال، ودموعهم على خدودهم، يتجاوبون مع التأوهات والتكسرات، التي تصدرها المطربة الفاسقة، التي خلعت رداء الحياء وخوف الله سبحانه، ثم تفكر بعد ذلك، كيف يتسنى لأمة، هذا حال أكثر أفرادِها، أن تبني مجدا، أو تستعيد عزا، أو حتى تدفع عن نفسها عدوا أو طامعا.
والتاريخ دليل على أنه ما مِنْ أمة أوغلت في الغناء والموسيقى، إلا أصيبت بالضعف والهوان، والذل والخذلان، كما تردت الأمة الرومانية واليونانية من قبل، وكما تتردى اليوم، الأمة الغربية، في أمراضها القاتلة، كالجريمة والانتحار والانحلال، وذلك لأن الاستماع إلى الموسيقى والغناء الخليع، يولد في النفس الارتخاءَ الدائم، ويشحذُ الشهوات، فتصعب التكاليف، وتتسلط الشهوة، وتعظم الحياة الدنيا ولذاتُها في النفس، وتتلاش الآخرة والعملُ لها، لأن الغناء والموسيقى ذروة اللهو، واللهو ذروة الحياة الدنيا، وفي ذلك كلهِ، تخديرٌ لمشاعر الجهاد والتضحية والفداء، ويكفيك أن تنظرَ إلى تصرفات السامعين، وحركاتهم المنافية للوقار، وتستمع إلى أمانيهم في إشباع شهواتهم، التي ألهبها هذا الغناء والموسيقى، فمن يطفئها؟
يكفيك هذا، لتحكم على هذا المنكر وأثرِه المدمر في الأمم، وهذا نذير للأمم اللاهية الراقصة، وما أكثر ما تميع أخلاق الأمة، على موائد اللهو والطرب، ومن هنا، تعرف يا أُخي، لماذا يركز اليهود في مخططاتهم الإجرامية لإفساد العالم، على نشر الغناء والموسيقى، وتشجيع محترفيها، والدعاية لهم، وقد ذكروا في بروتوكولاتهم، أنهم سينشرون الفن والرياضة، ويخدرون بهما الشعوب، حتى يخلوا لهم الجو، فيحكموا العالم ويتحكموا به.
ومن هنا أيضا تعرف الجريمة التي يرتكبها بعض الآباء في تنفيذ مخططات اليهود، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فبدلاً من أن يوقظوا في أبناءهم العزة الإسلامية، والكرامة القرآنية، ويشعلوا فيهم حماسة الجهاد والتضحية في سبيل الله، ونفض الغبار عن أمتهم التي سامها عدوها سوم العذاب والذل والهوان، بدلا من ذلك، يشجعونهم على استماع الغناء، ولا ينكرون عليهم ذلك، وهنيئا لليهود بأولئك الأعوان المخلصين المحتسبين.
ولهذه الأسباب كلِها ولغيرها من الحكم، فقد حرم الإسلام هذا اللون من اللهو، في كتاب الله وسنة رسوله، وفي استنباط جمهور العلماء والحكماء والعقلاء، فإلى الذين يرددون في كل مناسبة لا إله لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهم يعلمون أنهم يعلنون بهذا، ولاءهم الكامل لله ورسوله ، ويسلمون له قيادهم، إلى المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون، إلى هؤلاء نسوق حكم الله ورسوله في هذا المنكر، الذي أصبح اليوم معروفا، يقول الله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [لقمان:7]. قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء قاله ابن عباس وعبدالله بن مسعود. قال أبو الصهباء سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث فقال: والله الذي لا إله غيره هو: الغناء - يرددها ثلاث مرات-.
أما الغناء مع الموسيقى، فأمره أشد وأنكى، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم عن أبي مالك الأشعري قوله : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) ، وقد حاول قوم أن يطعنوا بهذا الحديث، فقالوا: إنه معلق لا يحتج به، ولكن البخاري رحمه الله رواه بصيغة الجزم، وهو في اصطلاحه صحيح ثابت، وقد روى متصلا صحيحا في كتب أخرى من كتب السنة، فرواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وأحمد وغيرهم، ولو لم يكن في تحريم هذا المنكر إلا هذا الحديث لكفى، لقوته وصحته، وعن عبدالرحمن بن عوف ر ضي الله عنه عن النبي قال: ((نُهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة؛ لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة؛ لطم وجوه وشق جيوب)) [1] ، فهل يؤخذ بعد ذلك قول أحد؟!! إلا أن يكون الدافع إلى ذلك الهوى والشهوة، وإنا نعوذ بالله من زيغ الهوى، وتحكم الشهوة، وما أعظم على الناس فتنته وما أشد على الدين محنته، وهل أبقت الشريعة لقائل مقالا أو لمتصرف بعدها مجالا، ما على الشريعة أضر من هؤلاء يفسدون عقول الأمة بتوهمات وشبهات تشبه المعقول.
ولقد فهم علماء السلف رضي الله عنهم من هذه النصوص وغيرها، تحريم ذلك وخطره على الأمم والشعوب، فاتفق الأئمة الأربعة رضي الله عنهم على حرمته وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه: أما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع )وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنهم متفقون - أي الأئمة الأربعة - على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه) [2].
والله جل جلاله نهى المرأة أن تحرك رجلها حتى لا يُسمع صوتُ خلالها، فكيف بمن تتكسر في صوتها، متميعة في كلامها، تتأوه ووتتغنج، فتثير كامن الشهوات السافلة الدنئية، وقد نص الإمام أحمد على كسر آلات اللهو كالعود والطنبور وغيرها، إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرُها، هذا قولهم في غناء معظمه زهد وحرب، فكيف بهذا النوع السائد اليوم، الذي يحرض على الفاحشة، ويشحذ الشهوات، ويفجر الغرائز الحيوانية.
قال الإمام القاسم بن محمد: الغناء باطل والباطل في النار، ويقول الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا، وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء، وقد قال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنه يذهب الحياء، ويزيد الشهوة، ويهدم المرؤة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا)، وذلك لأن غناء الرجل، ذو أثر كبير على عواطف المرأة ومشاعرها، وقال الشافعي رحمه الله : صاحب الجارية، إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته، وأغلظ القول فيه، وقال :هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا ،قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل، كان سفيها فاسقا، وقد سمع سليمان بن عبدالملك صوت غناء، فاحضر المغنيين وقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينبّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم أمر بخصائهم.
فأي رجل بعد هذا، يملك في نفسه شيئا من الغيرة والرجولة على محارمه ونسائه، يسمح لنسائه وبناته يصغين إلى غزل الفجار، من المطربين السافلين ، ويكفينا ما هو منتشر في مجتمعتنا اليوم، من عشق البنات للمطربين، وتفاخرهن بذلك، في المدارس والبيوت، واحتفاظهن بصورهم، في كل مكان، وليفتش الكثيرون إن شاؤا، ليفتشوا حقائب بناتهم وغرفهن، فإن لم يجدوا، فليفتشوا قلوبهن، فسيجدوا الآثار المدمرة، لهذا المنكر الخبيث، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا ؟! وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان والصبايا ؟! وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا ؟! وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا ؟! وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا ؟! وكم جرّع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة.
وبعد آلا يتق الله أولئك الآباء، الذين يرضون بذلك في أهلهم، ويصغون له تاركين شرع الله وراءهم ظهريا، إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ، فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
بارك الله لي ولكم...
[1] رواه الترمذي وحسنه الألباني.
[2] منهاج السنة (4/439).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة في الله: هذه رسائل أوجهها إلى أخوة لنا في الدين وما زالوا بحمد الله تعالى حريصين على مرضاة ربهم، واتباع سنة نبيهم.
الرسالة الأولى: إلى محبي الغناء أن يتقوا الله تعالى فقد جاءهم النذير فما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، ها أنت قد علمت الآيات الواضحات والأحاديث البينات في تحريمه فلم التمادي والعصيان؟! ولم هذا التجاهل لأحكام القرآن؟! لماذا نراك عند سماع الغناء وقد خشعت منك الأصوات، وهدأت منك الحركات، وتفجرت ينابيع الوجد من قلبك على عينيك، فجرَتْ، وعلى أقدامك فرقصت، وعلى يديك فصفقت، وعلى سائر أعضائك فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسك فتصاعدت، وعلى زفراتك فتزايدت، وعلى نيران أشواقك فاشتعلت، ولو سمعت القرآن من أوله إلى آخره لما حرك لك ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا.
وكما قيل: تقرأ عليك الختمة وأنت جامد كالحجر ،وبيت من الشعر ينشد فتميل كالنشوان، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله فانظر محبة القرآن في قلبك والتلذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء بسماعهم، فإنه من المعلوم، أن من أحب حبيباً كان كلامه وحديثه أحب شيئا إليه كما قيل:
إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي
أما علمت أن حب القرآن وحب الغناء في قلب مؤمن لا يجتمعان!! فلماذا تختار مزمار الشيطان وتقدمه على كتاب الرحمن؟ أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!
حب الكتاب وحب الحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الايمان
واللهو خف عليهم لما رأوا ما فيه من طرب ومن ألحان
يا لذة الفساق لست كلذة الأبرار في عقل ولا قرآن
أما عملت أيها الشاب بالوعيد الشديد عند ظهور المعازف والغناء في الأمة، فعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف)) فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور)) [1] ، وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير)) [2]. فتصور نفسك يا أخي وأنت بين زملائك قد ضربت العود والمرواس وقد خسف الله بكم الأرض أو مسخكم قردة وخنازير فما موقفك؟ وما مصيرك؟ وكيف يكون جوابك أمام الجبار جل جلاله وأنت على هذه الحال ـ عياذا بالله من ذلك.
أما تخشى سوء الخاتمة فإن من أسبابها الإصرار على الذنوب فلربما غلب عليك حب الغناء عند سكرات الموت فيظفر بك الشيطان عند تلك الصدمة، ويتختطفك عند تلك الدهشة، عياذا بالله من ذلك، وإذا كان الشيطان قد استطاع عليك وأنت في حال قوتك ونشاطك، فكيف في حال ارتخاء اليدين وامتداد الساقين وثقل اللسان فالأمر أشد وأخطر، فاتق الله يا عبدالله فالأمر جد خطير، والموقف مهول، نسأل الله السلامة والعافية.
الرسالة الثانية إلى الذين أنعم الله عليهم، وأسبغ عليهم، إلى الذين يبعيون تلك الأشرطة التي قد امتلئت بالفحش والخنا، إلى الذين يؤجرون محلاتهم لمثل هؤلاء.إلى الذين يبيعون أدوت الغناء.أما إنكم قد ساعدتم عدوكم في إفساد أبناء أمتكم، شبابا وشيبا، ذكورا وإناثا، في نشر الرذيلة بينهم، فكم من أعراض قد انتهكت بسبب الغناء؟!! وكم من شباب ضاعوا بسبب الغناء؟! وكم من أموال الأمة قد أهدرت؟!! كم من فضيلة قد تلاشت؟ وكم من خصال رفيعة قد ضُيعت؟!! وكم من سجايا حميدة قد أُهملت؟! كم من شباب رأيناهم قد أحيوا ليلهم في الاستراحات والمقاهي بسماع الأغاني الصاخبة؟!! وكم من شاب طاش عقله بكلمة مغن أو مغنية فراح يتراقص بسيارته بسرعته الجنونية حتى لقي حتفه؟! هؤلاء كلهم تعود أوزارهم إليك، فأنت الذي نشرت بينهم هذه الشرور، قال : ((من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئا)) [3] ، فلماذا تحمل نفسك ما لا تطيق ؟! يقول الله جل جلاله: ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، وهل أغلقت أبواب الرزق في وجهك، حتى إنك لم تجد بابا سوى هذا الباب؟ وحتى لو جرى ذلك لما جاز لك أن تفعله!! قال : ((إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((نهى رسول الله عن ثمن الكلب ومهر الزمارة)) [4] ، وقد أفتى العلماء الأجلاء في تحريم بيع هذه الأشرطة وتأجير المحلات لمن يبيعها قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
أخي التاجر الكريم: إن كسبك من وراء هذه الأشرطة أو هذا التأجير مال سحت، واستمع يا رعاك إلى لما ورد عن كعب بن عجرة قال قال النبي : ((يا كعب بن عجرة انه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به)) [5].
فهل تطيق نار جهنم التي أوقد عليها ثلاثة آلف عام حتى أسودت فهي سوداء مظلمة، وإذا كانت نار الدنيا تفعل بأهلها ما تراه أحيانا أو جربته في أحايين أخرى، فكيف بنار جهنم ؟!! ثم ألم تعلم يا رعاك الله أن الذي يأكل الحرام لا تستجاب له دعوة؟ فهل أنت مستغنٍ عن ربك عز وجل ودعائه؟! عن أبي هريرة قال قال رسول الله : ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ))، ثم ذكر: ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)) [6].
فاتق الله يا عبد الله فإن من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه كما أنه يمكنك أن تجعل محلك مشعل هداية للأمة ببيع الأشرطة الإسلامية التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة أسأل الله تعالى أن يصرف عنك نزغات الشيطان وأن يجعلك من حزب الرحمن.
الرسالة الأخيرة، لدعاة الإسلام، وهداة الأنام، إنكم مطالبون بأداء الأمانة، ونصح الأمة، وبذل الجهد، وإفراغ الوسع في مناصحة من ابتلي بسماع الأغاني أو بيعها والذهاب إليهم، وزيارتهم في أماكنهم، وحثهم على ترك هذا المنكر العظيم، الذي يخشى أن تعاقب الأمة كلها بسببه بخسف أو مسخ ـ عياذا بالله من ذلك ـ وتصور عظيم الأجر، حينما يقلع تاجر عن بيع مثل هذه الأشرطة، فكم من الأجر العظيم ستناله؟ والشر العميم الذي قد أوقفته؟ فلا تحرم نفسك الخير، وكن مفتاحا للخير، مغلقا للشر يقول الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
هذا وصلوا رحمكم الله على النبي العظيم.
فسل ذا خبرة ينبيك عنه لتعلم كم خبايا في الزوايا
وحاذر إن شغفت به سهاما مريشة بأهداب المنايا
إذا ما خالطت قلبا كئيبا تمزق بين أطباق الرزايا
ويصبح بعد أن قد كان حرا عفيف الفرج عبدا للصبايا
ويعطي من به يغني غناء وذلك منه من شر العطايا
[1] رواه الترمذي وصححه الألباني
[2] رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان وابن القيم والألباني.
[3] رواه مسلم.
[4] رواه البيهقي.
[5] رواه ابن حبان وصححه.
[6] رواه مسلم.
(1/1157)
الغيرة بين الجاهلية والإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
14/6/1420
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من غيرة الجاهلية وعِفّتها 2- تأصيل الإسلام لخُلق الغيرة وحمده لها 3- تشريعات
الإسلام لحفظ المجتمع 4- دعوة بعض المستغربين للتحرر 5- المجتمع الغربي مجتمع حيواني
,لا حضاري
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة في الله: لقد كان العرب في الجاهلية يعدون المرأة ذروة شرفهم، وعنوان عرضهم، ولذلك فقد تفننوا في حمايتها والمحافظة عليها، والدفاع عنها زوجة وأماً، ابنة وأختاً، قريبة وجارة، حتى يظل شرفهم سليماً من الدنس، ويبقى عرضهم بعيداً من أن ُيمس.
ولم يكن شيء يثير القوم كالاعتداء على نسائهم أو المساس بهن، ولذلك كانوا يتجشمون في الدفاع عنهن كل صعب، ولا يضنون بأي غال، لقد كانت الغيرة تولد مع القوم وكأنهم رضعوها فعلاً مع لبان الأمهات [1] وفي بيئة العرب التي قامت فيها الأخلاق على الإباء والاعتزاز بالشرف كان لابد للرجال والنساء من العفة ومن التعفف، لأن العدوان على العرض يجر الويلات والحروب، وكان لابد من الغيرة على العرض حتى لا يخدش.
والعفة شرط من شروط السيادة فهي كالشجاعة والكرم، وكان العرب أغير من غيرهم [2] لأنهم أشد الناس حاجة إلى حفظ الأنساب، ولذلك قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها، وقد وصل العرب في الغيرة أن جاوزوا الحد، حتى كانوا يئدون بناتهم مخافة لحوق العار بهم من أجلهن. وأول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، وذلك أنهم أُغِيرَ عليهم فنهبت بنت لأمير لهم، فاستردها بعد الصلح، وخيرت على رضى منها بين أبيها ومن هي عنده، فاختارت من هي عنده، فغضب والدها وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم، وشاع الوأد في العرب بعد ذلك.
ومن نخوة العرب وغيرتهم أنهم يكنون عن حرائر النساء بالبيض وقد جاء القرآن الكريم بذلك فقال سبحانه: كأنهن بيض مكنون وقال امرؤ القيس: (وبيضة خدر لا يرام خباؤها) ويكنون عنها بالنخلة:
ألا يا نخلة في ذات عرق عليك ورحمة الله السلام
ومن نخوة العرب وغيرتهم أنه كان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال، والرعاء ثم النساء إذا صدرت كل الفرق المتقدمة، حيث يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات، ممن يزعجهن، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل.
وكان للغيرة عند القوم مظاهر كثيرة [3] منها حبهم لعفة النساء عامة، ونسائهم خاصة، ومنها حبهم لحيائهن وتسترهن ووفائهن ووقارهن.
وقد أشاد الشعراء بعفة النساء وتمنعهن ووفائهن، قال علقمة بن عبدة:
منعمة ما يستطاع كلامها على بابها من أن تزار رقيب
إذا غاب فيها البعل لم تفش سره وترضى إياب البعل حين يئوب [4]
ومن أجمل ما قيل في خفر النساء وعفتهن قول الشنفري الأزدي في غزله، وهو من الصعاليك الفتاك:
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها إذا ما مشت ولا بذات تلفت
أميمة لا يخزي فتاها حليلها إذا ذكر النسوان عفت وجلت
إذا هو أمسى آب قرة عينه مآب السعيد لم يسل أين ظلت [5]
وكان من مظاهر الغيرة عند العرب ستر النساء ومنعهن من الظهور أمام الرجال، يقول الأفوه الأودي:
نقاتل أقوماً فنسبي نساءهم ولم ير ذو عز لنسوتنا حجلا [6]
على أنهم كانوا يفخرون بغض البصر عن الجارات، ويعتبرون ذلك من العفة والغيرة على الأعراض، كان كشف الستر بجارح النظرات، وهتك الأعراض بخائنة الأعين، وفضح الأسرار باستراق السمع لا يترفع عنه إلا كل عفيف، وما أجمل قول عروة ابن الورد:
وإن جارتي ألوت رياح ببيتها تغافلت حتى يستر البيت جانبه [7]
وقول عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها [8]
أين هؤلاء من بعض الشباب اليوم الذين يتسكعون في الأسواق، أو يتلصصون حول الحرمات، وبعض وسائل الإعلام تعرض المسلسلات الماجنة التي تدرب الشباب على التحلل والعدوان.
لقد كانت عند العرب أخلاق كريمة، بعث نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام ليتممها، ويقوّم ما انحرف منها، ويسمو بها وبأمثالها.
أيها الأخوة في الله: لقد حمد الإسلام الغيرة، وشجع المسلمين عليها، ذلك أنها إذا تمكنت في النفوس كان المجتمع كالطود الشامخ حمية ودفاعاً عن الأعراض، والمؤمن الحق غيور بلا شطط يغار على محارم الله أن تنتهك، وفي الحديث أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال كلاماً بين يدي رسول الله دل على غيرته الشديدة فقال : ((أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني)) [رواه البخاري]. هذه هي الغيرة، غيرة الإسلام على المحارم والأعراض، المنبثقة من غيرة رب العباد، والمتمثلة في خاتم المرسلين، وهي ليست بخافية على أحد من الناس، قال تعالى: إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن [الأعراف: 33]. ويقول : ((لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن)) [رواه البخاري].
ومن أجل أن يكون المجتمع المسلم نظيفاً، أمر الإسلام بعدد من الأوامر والنواهي، ليحفظ هذا المجتمع طاهراً نقياً، وتصبح مظاهر الغيرة فيه جلية.
ومن علامات هذا النقاء: الحجاب. ولذلك فرض الله على المسلمات ستر مفاتنهن، وعدم إبداء زينتهن، يقول تعالى: ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن إلى قوله تعالى: ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [النور:31]. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33]. وحرم الإسلام كذلك الدخول على النساء لغير محارمهم كما حرم الخلوة بهن، قال : ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) والحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقاربه. وقال : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم)) ، فقام رجل فقال: يا رسول الله امرأتي خرجت حاجة، واكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: ((ارجع فحج مع امرأتك)) [رواه البخاري].
تطهير وتحصين لهذا المجتمع الفاضل، فلا خلوة ولا ريبة، وحتى الجهاد يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته، فلا تسافر وحدها، هذه روح الشرع الحنيف والمتأولون كل يوم قد يطلعون علينا بجديد.
ومن لوازم هذه الغيرة: الحياء، قال : ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة)) [رواه ابن حبان]. ومن ذلك أيضاً: غض البصر قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم وقوله: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [النور:30-31]. يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ: (إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين..والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري..كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع النظري العميق بين الجنسين سليماً) ( [9] ).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
[1] المعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي : محمد محمود صيام 350.
[2] انظر : بلوغ الأرب : الألوسي 1/140-143.
[3] انظر : الحر في الحياة العربية ، والمعتقدات والقيم في الشعر الجاهلي
[4] المفضليات رقم 119 ، ص391
[5] المفضليات رقم 20، ص 108.
[6] الأغاني 1/165 ط الثقافة.
[7] الديوان ص 30 ، ت عبدالمنعم الملوحي ، دمشق.
[8] الديوان ص 185 شرح عبدالمنعم شلبي.
( [9] ) في ظلال القرآن 4/2510
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الأخوة في الله: عرفنا مما تقدم أن الغيرة خلق عربي أصيل، ارتفع به الإسلام آفاقاً عالية سامية، وقمماً شامخة، في ظل مجتمع وارف الظلال.
ثم بدأت الأخلاق تتغير عند الكثيرين، مع ضعف الوازع الديني، وهجمة الغرب الشرسة، حتى بدت المظاهر المنحرفة عجيبة في العلاقات الاجتماعية والأخلاقية.
ابتعد كثيرون عن الواقع النظيف، وحتى غيرة أهل الجاهلية، انحدرت وتلاشت في كثير من الأوساط، إذ أصبح الاختلاط (بين ما يسمى بالأسر التقدمية) شائعاً، حيث الأحاديث المشتركة، والموائد المختلطة.
كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: إنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجا مستقلين على الحشائش في فناء الجامعة، قال: فقلت في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه!! ( [1] ) أهل الصعيد لماذا؟ لأنه ما يزال لديهم بعض أخلاق المسلمين وحيائهم.
وفي المطارات ما يراه المسافر من مظاهر شائنة لا تحرك غيرة ولا رجولة، لقد حاولت بعض الأقلام الهابطة أن تنتزع عن الفتاة المسلمة كل خلق أو تقليد، حتى الحياء الذي كانت تتميز به الفتاة المسلمة الشرقية، قال سيد قطب ـ رحمه الله ـ في هذا الشأن ( [2] ) : (وحين تكون القيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية كما هي في ميزان الله هي السائدة في مجتمع فإن هذا المجتمع يكون متحضرا متقدما، أو بالاصطلاح الإسلامي ربانيا مسلما، والقيم والأخلاق الإنسانية ليست مسألة غامضة ولا مائعة، وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة)، (إن المجتمعات التي تسود بها القيم والأخلاق الحيوانية، لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي!)، (وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث تتخلى عن كل ماله علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان، ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة رذيلة أخلاقية، إن المفهوم الأخلاقي ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية أحياناً في حدود مصلحة الدولة)، (مثل هذه المجتمعات مجتمعات مختلفة من وجهة النظر الإنسانية وهي كذلك غير إسلامية لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته..).
وأخيراً: فإن معايير الأخلاق قد اهتزت في عصرنا الحاضر، ولابد من أن نوليها الاهتمام الكافي الذي يوجبه علينا ديننا. وإن التطبيق الواقعي لهذه الأخلاق، في حياة المسلمين اليوم بات واجباً إسلامياً ومنهجاً تربوياً دعوياً،طالما أهمل في قطاعات كبيرة من مجتمعات المسلمين والناس عموماً في هذا القرن.
إلا أن الأمل كبير في الأجيال المؤمنة، لتقوّم الانحراف، وتزرع الفضيلة، وتكون قدوة حسنة، وواقعاً حياً لما كان عليه سلف هذه الأمة.
هذا وصلوا رحمكم الله...
( [1] ) عن واقعنا المعاصر : ص 294-295 محمد قطب.
( [2] ) في ظلال القرآن 3/1258.
(1/1158)
رابطة العقيده وأثرها على المجتمع
الإيمان
الولاء والبراء
محمد بن عبد الله الهبدان
الرياض
9/4/1417
جامع العز بن عبد السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نشأة المجتمع المسلم في ظل رابطة العقيدة 2- المؤاخاة بين الأوس والخزرج 3- قصة
نوح مع ابنه 4- التمييز العنصري في الغرب 5- رابطة العقيدة الإسلامية تصهر القوميات
المختلفة في المجتمع المسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: بدأت الدعوة في مكة دعوة سرية، وكان أنذاك قد أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة الأقربين من قومه وعشيرته، حتى تجمع حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلاً، وكانوا قد استخفوا عن أعين الناس في دار الأرقم بن أبي الأرقم لعبادة الله تعالى سراً من قومهم، وكلهم قد توجهوا الوجهة الجديدة التي تدعو إليها شهادة التوحيد، التي شهد بها قلبه ولسانه وكل جوارحه، ولذا فقد هجر كل واحد منهم من حوله، وأدار له ظهره، وقطع صلته بقرابة الدم وصداقات القوم، وأصبحت شهادة التوحيد منذ شهد بها هي الملاذ والمعتصم، وهي مفرق الطريق بينه وبين أهل الجاهلية.
وحين التقى أولئك النفر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد التقوا بكيانهم كله، والتحمت قلوبهم برباط جديد لم يألفوه من قبل، إنه رباط العقيدة والإخاء في الله.
أيها الأحبة في الله: إن الناس تقوم بينهم روابط وصلات، وصحبة وصداقات، ولكن على أي شيء يلتقي الناس، وعلى أي شيء تقوم هذه الصلات؟ وما سبب وجودها؟
والجواب أيها الأحبة في الله:
إنها إما قرابة الدم، أو اللقاء على الشهوات والملذات، أو المصالح الدنيوية المشتركة، ومن ثم فإنها مهما تقاربت القلوب وتلاصقت تلك الروابط، فإنها لاتصل إلى حد أن تكون كالقلب الواحد، والسبب في ذلك أن هذه الصلات يقوم بينها حاجز يفصل بين القلب والقلب، ألا وهو حاجز الأنانية ، فكل إنسان يقيم سياجا معينا لنفسه، فإذا أاقترب من ذلك السياج أكثر من اللازم حصل التنافر والتناكر، وبدأ بينها الاحتكاك.
ولكن أحبتي في الله نوع واحد، وواحد فقط من الرباط لايحدث فيه ذلك التنافر، لأنه يذيب ذلك السياج الزائف الذي ينصبه الإنسان حول نفسه، ومن ثم تظل القلوب تقترب وتقترب حتى تصبح كالقلب الواحد.. ذلك هو رباط العقيدة، الذي لاينشأ بين إنسان وإنسان من أجل مصالح مشتركة، كلا، ولكنه رباط في الله بين عبدٍ لله وعبدٍ لله، خلا قلباهما من ذلك الكبر الظاهر أو الخفي، الذي يحجز القلوب عن التقارب والتلاصق ، وقد ملأ ه بشئ آخر غير مشاغل الدنيا، ومشاغل الحس القريبة.
ذلك الرباط هو الذي وحد تلك القلوب حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدث اللقاء بينها في الله، ولله فقط، فتحابت، فالتحمت فتآخت ذلك الإخاء العجيب الذي يتحدث عنه التاريخ!!
كان الصحابة رضوان الله عليهم يسير الاثنان منهم في الطريق، فتفصل بينهما أثناء المسير شجرة فيعودان، فيسلم أحدهما على الآخر شوقاً إليه من تلك اللحظة التي فصلت بينهما في الطريق!!
وبكى أحد الصحابة حزناً!! لماذا لماذا؟ لأنه فكر في فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار الآخرة، وهو لايطيق فراقه في الدنيا فأنزل الله قوله فيه ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [النساء:69].
ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين الأوس والخزرج فذاب ما بينهما من نزاع وصراع استمر ذلك المدى من الزمن الذي لايعلمه إلا الله، وصار بينهم التآلف والإخاء الذي منَّ الله به عليهم بقوله: واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً [آل عمران:103].
ثم آخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤخاة العجيبة الفريدة في التاريخ حيث كان الأنصار يتنازلون عن شطر ما يملكون للمهاجرين عن طيب خاطر ،ونفس رضية، ومن غير إلزام من الله ولا رسوله.
أيها المسلمون: إن هذه الصلة، وهذه الرابطة هي المعتبرة في كتاب الله عز وجل، وأما غيرها من الروابط والصلات فهي لاتغني من الله شيئا، إذا خلت من رابطة الدين والعقيدة، وقد نبه القرآن في أكثر من موضع أن رابطة العقيدة هي المعتبرة والمعول عليها، وهي التي تفصم الروابط الآخرى كلها وتبقى هي لاتنفصم.
ففي قصة نوح عليه السلام جاء قوله تعالى: ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين [هود:45-47].
فقد وعد نوح من قبل أن ينجو أهله من الطوفان إلا من سبق عليه القول حتى إذا فار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل [هود:40].
ولقد دعا نوح ابنه وكان في معزل ليركب في السفينة الناجية فأبى فأدركه الطوفان وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [هود:42-43].
فلما قضي الأمر واستوت السفينة على الأرض وقد نجا من نجا وهلك من هلك ملأت الحسرة قلب نوح على ولده الهالك، وراح يسأل ربه كيف غرق وهو من أهله، وقد وعده الله أن ينجو أهله، ووعد الله حق لاريب فيه، هنا ينبهه الله تعالى إلى أن الوشيجة الحقيقة ليست وشيجة الدم، إنما هي وشيجة العقيدة يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح وقد انفصمت وشيجة العقيدة حين أبى الابن أن يؤمن، فانفصمت لها كل الوشائج الآخرى، ولم يعد ابن نوح من أهله مع أنه ابنه كما يؤكد القرآن باللفظ الصريح ونادى نوح ابنه إذن تنفصم كل العلائق والأواصر إذا انفصمت رابطة الدين والعقيدة فلا الابن يبقى ابنا ولا الأخ أخا إذا ارتكب أمرا مخلا بعقيدته ودينه كترك الصلاة بالكلية مثلا، أو الاستهزاء بشيء من معالم الدين أو نحوا من هاتيك القضايا.
أيها المسلمون: إن من يظن أنه يمكن أن يحدث رباط أقوى من رباط العقيدة وأبلغ أثرا منه فليوازن بين مجتمع ذلك الجيل الفريد الذي طبق تلك الحقيقة الغائبة وبين المجتمعات الكبرى في التاريخ، خذ مثلاً المجتمع الأميركي فيكفينا من سوآته ومخازيه موقف البيض هناك من السود، وهم إخوان لهم في الوطن والدين، ومع ذلك كله توجد لافتات في المطاعم ودور السينما مكتوب عليها بكل وقاحة (ممنوع دخول السود والكلاب) وتتكرر هذا الوقاحة بصورة أخرى مجموعة من البيض قد تجمهروا حول واحد من الزنوج يضربونه ويطرحونه أرضاً ويركلونه بأقدامهم حتى تزهق روحه، والشرطي الأبيض قد أدار لهم ظهره حتى ينتهوا من "جهادهم المقدس" فيقيد الحادث ضد مجهول!! هذا مع أن الدين واحد، واللغة واحدة والجنس واحد والوطن واحد يحدث بينهم ما قد علمت.فهل بعد ذلك شك وارتياب ولكن وما يعقلها إلا العالمون.
أما ذلك الجيل الفريد جيل الصحابة رضي الله عنهم فقد انبثقت علاقاتهم من رابطة العقيدة التي صهرت كل فوارق الجنس واللون واللغة ،بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، بل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سلمان منا آل البيت)) [1] وقال عمر العربي القرشي عن بلال العبد الحبشي "سيدنا بلال" وقد كان نبي الله يربي أصحابه على هذا المبدأ فعندما قال أبو ذر لبلال الأسود يا ابن السوداء! قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عيرته بأمه !! أنت أمرؤ فيك جاهلية)) فيذهب أبو ذر لبلال، ويضع خده على الأرض ويقول له: طأ خدي بقدمك!!
أيها المسلمون: إن هذه الأمة لن يصلح حالها، ويستقيم أمرها إلا بنصبها بين عينيها تلك القمم السامقة، والقدوات العالية، حتى تكون لها نبراساً يضيء لها الطريق، فتحذي حذوها، وتسير بسيرها، عند ذلك سعيود للأمة عزها التليد وتعود لها كرامتها من جديد.
أيها الأحبة في الله: لابد إن أردنا العزة والكرامة والحياة الكريمة أن تكون علاقاتنا وتصرفاتنا وشؤوننا كلها منبعها هذه العقيدة التي بين جنبينا ،إي ورب الكعبة لو كانت تصرفاتنا مُنبعثة من عقيدة راسخة في قلوبنا لتحقق فينا ذلك التكافل الذي أدى بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتنازلوا عن شطر أموالهم لإخوانهم، فقد كفل الأنصار المهاجرين كفالة غير معهودة في التاريخ، تكافل لايقتصر على حدود الأسرة وروابط الدم، إنما يتسع حتى يسع المجتمع الإسلامي كله، ولايقتصر على حدود الزكاة المفروضة فحسب بل يتسع حتى يصبح إنفاقا عاماً في سبيل الله.
لو تحققت فينا تلك العقيدة لتغيرت أحوالنا، وتبدلت أوضاعنا، تبدلت تلك القلوب التي امتلئت حسدا وحقدا، وغيظاً وكمدا ،وتغيرت تلك النفوس التي أُشربت على حب الدنيا وكراهية الموت، ولزالت تلك القطيعة والتدابر التي فشت بين الأنام، ولأحسن الابن إلى والدية غاية الإحسان، ولأصبح الواحد منا يحرص على كرامة أخيه ومشاعره أكثر من حرصه على نفسه التي بين جنبيه.
إنه باختصار شديد زوال الشرور من النفوس وانقطاع الإجرام بين الأنام، وفشو الإحسان بين الناس، وانتشار المحبة والإخاء الذي به تصفو الحياة وتطيب الخواطر وتستريح الضمائر ويهدأ القلب وتسكن النفس.فهل يعي ذلك أبناء قومي؟
فاتقوا الله يا مسلمون وليبدأ كل واحد منا بنفسه ويسعى لإصلاحها ويروضها على هذا المبدأ العظيم، ولاينظر إلى كثرة الهالكين، فإن هذه سنة رب العالمين وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وكما قيل لاتنظر إلى من هلك كيف هلك، ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا.
بارك الله..
[1] رواه الحاكم (3/598)
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1159)
خلق المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي بن محمد التمديتي
تطوان
جامع الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم مقاصد الرسالة المحمدية غرس الأخلاق الحسنة وإتمامها وكمالها. 2- من
علامات الخير وقبول الطاعات التخلق بالآداب الإسلامية إذ هي ثمرة العلم والعمل به.
3- نماذج من مظاهر الخيرية في حياة المسلم كالتورع عن الشبهات وغض البصر عن المحارم
وصون اللسان والحلم والصبر. 4- نصوص من الوحي في الأمر بالتزام الأخلاق الحسنة وما
أعده الله من عظيم الجزاء الحسن على الأخلاق والآداب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في كل وقت وحين، واسألوه العون على الطاعة والاستقامة، والتمسك بالدين، فإنه سبحانه هو المعين.
أيها الأحبة في الله، نعلم جميعاً أن الخلق الكريم هو الهدف الأساسي لرسالة الإسلام، لما يعبر عنه الرسول في حديثه: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) [رواه أحمد وغيره].
وكما تؤكده الآيات الكثيرة منها قوله تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون.
واعلم أخ الإيمان: إن الخلق الكريم هو دليل الإيمان وثمرته، ولا قيمة للإيمان من غير خلق، وإلى هذا المعنى يشير النبي بقوله: ((ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل)) ؟.
وسئل الرسول ما الدين قال: ((حسن الخلق)) وسئل ما الشؤم قال: ((سوء الخلق)).
وحسن الخلق أثقل ما في ميزان العبد يوم القيامة، فمن فسد خلقه وساء عمله لم يسرع به نسبه قال : ((ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق)).
والخلق الكريم هو محصلة العبادات في الإسلام، وبدونه تبقى طقوس وحركات لا قيمة لها ولا فائدة فقد ورد في الصلاة مثلاً قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقوله : ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً)).
لذا أخي المؤمن: هذه بعض الصفات الأخلاقية التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان ليكون مسلماً في أخلاقه:
1- التورع من الشبهات: أن يتورع عن الحرام ويحتاط من الشبهات لقوله : ((الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي..)) [متفق عليه].
2- غض البصر: إن يغض بصره عن محارم الله، فإن النظر يورث الشهوة، ويستدرج صاحبه للوقوع في الإثم والعصيان.
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم.
3- صون اللسان: من فضول الكلام وفحشاء الحديث وعن عموم اللغو والغيبة والنميمة. وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول في هذا الباب منها: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)).
4- الحلم والصبر: إن من أبرز الصفات التي يجب أن تتوفر في المسلم صفة الصبر والحلم، فالعمل للإسلام يمتلئ بالمكاره وطريق الدعوة محفوف بالمصاعب، فالايذاء والاتهام والتعيير والسخرية كلها من العقبات التي تثبط همم المؤمنين.
لهذا وجب على المسلم أن يصبر على العالم، والجاهل، والعاقل، والمنفعل، وهذا بحاجة إلى الصبر والحلم.
ولذا يقول سبحانه: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:43].
يقول: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
ويقول: وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم. وقوله: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
وقال : ((إن العبد ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم)).
وقال : ((ألا أنبئكم بما يشرّف الله به البنيان ويرفع به الدرجات قالوا: نعم يا رسول الله، قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفوا عمن ظلمك، وتعطى من حرمك، وتصل من قطعك)).
قال : ((إذا جمع الله الخلائق نادى مناد أين أهل الفضل. قال: فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: وما فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا حلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين)).
فاللهم اجعلنا من أهل الفضل يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من اللذين يتحلون بالصبر والحلم.
آمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين لأمته طريق النجاة، وحذر من طريق الغي والهلاك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون:
إن الله أمر المسلمين أن يكونوا مسلمين في كل وقت وحين، من يوم ولد إلى أن صار مكلّفاً راشداً إلى أن يلقى الله وهو راض عنه.
إلا أنه هناك بعض المسلمين الذين يقسمون حياتهم على أهوائهم، فتراهم مسلمين في رمضان وفي موسم الحج، ويغفلون عنه أو يتنكرون له في هذا الموسم الذي هو موسم إعلان الحرب مع الله، هذا الموسم الذي يتساهل المسلمون فيه عن كثير من إسلامهم لما يحدث في هذا الموسم من مناكر، كالعري والانحلال والتفسخ على الشواطئ، أو الاختلاط والمناكر في مناسبات الأفراح وما يحدث فيها من منكر، لذا أيها المؤمنون اتقوا الله واعلموا أن رب رمضان والحج هو نفسه رب هذه الشهور، فالحلال حلال في كل الشهور، والحرام حرام في كل الشهور.
فاللهم رد بنا رداً جميلاً، اللهم خذ بناصيتنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين.
وابتغ فيما ءاتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين.
(1/1160)
كيف أكون مسلماً في عبادتي
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن محمد التمديتي
تطوان
جامع الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبادات في الإسلام شاملة لكل عمل صالح نافع. 2- المحافظة على إقام الصلاة بخشوع
وحضور قلب. 3- الإكثار من النوافل لما جاء في ذلك من الترغيب. 4- المحافظة على قيام
الليل لما فيه من الفوائد والاتباع. 5- المحافظة على ورد دائماً من القرآن الكريم. 6- التوجه
إلى الله تعالى بالدعاء الدائم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واستحضروا عظمته وقدرته في كل وقت وحين، وكونوا عباداً لله ولا تكونوا عباداً للشيطان.
أيها الأخوة المؤمنون: كنا تناولنا في الخطبة السابقة أن المؤمن لا يكون مؤمناً إلا إذا كان مؤمناً في عقيدته كإيمان الرسول وإيمان السلف الصالح، بدون زيادة أو نقصان.
وسأتناول اليوم أيها الأحبة كيف أكون مسلماً في عبادتي.
العبادة في الإسلام هي نهاية الخضوع، وقمة الشعور لعظمة المعبود.
وهي مدارج الصلة بين المخلوق والخالق، كما أنها ذات آثار عميقة في التعامل مع خلق الله وتستوي في ذلك أركان الإسلام: من صلاة وصوم وكاة وحج وسائر الأعمال التي يبتغي بها الإنسان وجه الله.
ومنطق الإسلام يقضي أن تكون الحياة كلها عبادة وكلها طاعة. وهذا هو معنى قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
وقوله: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين.
وعلى هذا حتى أكون مسلماً في عبادتي يجب أن استحضر ما يلي:
- أن تكون عبادتي حية متصلة بالمبعود، وهذه درة الإحسان في العبادة. فقد سئل رسول الله عن الإحسان فقال: ((إن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [متفق عليه].
- أن تكون عبادة خاشعة استشعر فيها حرارة الوصال ولذة الخشوع.
قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه) [أخرجه الأزدي].
وإلى هذا يشير الرسول بقوله: ((كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب)) ، وقوله: ((كم من صائم حظه من صومه الجوع والعطش)) ] أحمد في المسند].
- أن أكون في عبادتي حاضر القلب مُنخلعا عما حولي من مشاغل الدنيا وهمومها، لذا قيل إن الصلة من الآخرة فإذا دخلت فيها خرجت في الدنيا، وروي أحمد في المسند الحسن أنه قال: ((كل صلاة لا يُحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع)).
- أن أكون في العبادة مكثراً لا أشبع منها، أحرص على المفروض، وأستزيد وأتقرب.
- وأتقرب إلى الله بالنوافل استجابة الله تعالى في الحديث القدسي: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما أفترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته)).
- أن أحرص على قيام الليل، وأروض نفسي على ذلك، حتى تعتاده، فإن قيام الليل من أقوى المولدات الإيمانية، وصدق الله تعالى حيث يقول: إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً ، ولقد وصف الله عباده المؤمنين بقوله: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وقوله تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون.
الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين لأمته طريق النجاة وحذر من طريق الغي والهلاك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: إن للعبادة روحاً وأثراً، فروحها هي أن تكون على وفق ما شرع الرسول ، وأثرها هي أن تغير نفس وسلوك من يقوم بها، ومنه يتوصل إلى النموذج الذي صنعه الرسول ، وهم محابته الكرام، وكل من صار على نهج الرسول سوف يصل إلى هذا النموذج الذي افتقد في هذا الزمان. عندما بعدنا عن روح الإسلام وتعاليمه العظيمة.
أخي المؤمن: للوصول إلى هذا النوع يجب على المؤمن أن يكون له مع القرآن الكريم جلسات وتأملات، وخاصة عند الفجر، لقوله تعالى: إن قرآن الفجر كان مشهوداً اقرأ القرآن أخي المؤمن بتدبر وتفكير، وخشوع وحزن، فسوف ترى من نفسك عجباً، إيماناً بقوله تعالى: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
ولحديث: ((أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن)).
وفي حديث عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيُستعتب ولا يُعوج فيقوّم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم (ألم) حرف، ولكن ألف، ولام، وميم)).
وفي وصيته لأبي ذر: ((عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء)).
وأخيراً أن يكون الدعاء معراجى إلى الله في كل شأن من شؤوني، فالدعاء مخ العبادة وصدق الله حيث يقول: ادعوني استجب لكم. وهناك أدعية مأثورة يجب على المسلم أن يحرص عليها، وهي موجودة في كتب الأذكار.
فاللهم اجعلنا من عبادك.
(1/1161)
كيف أكون مسلماً في عقيدتي
الإيمان
خصال الإيمان
علي بن محمد التمديتي
تطوان
جامع الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض الناس إسلامه تقليدي لأنه ولد في بيئة مسلمة. 2- لابد من التعرف على الدين
وأصوله وشروطه وهذا هو الذي يحصل به الإيمان واليقين والاتزام (فلا يكون الدين في واد
وأنت في وادِ آخر). 3- سرد أركان الإيمان وشيء من أدلتها. 4- معرفة الحكمة من خلق الله
تعالى للإنسان والجن. 5- وجوب محبة الله تعالى ورسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في كل وقت وحين، واسأله العون على الطاعة والاستقامة والتمسك بالدين فإنه سبحانه هو المعين.
أيها المؤمنون: إن كثيراً من الناس مسلمون بالهوية، أو مسلمون لأنهم ولدوا من أبوين مسلمين، أو مسلمون بالمظهر الخارجي أي باللباس.
فهؤلاء لا يدركون في الحقيقة معنى أنهم مسلمون، ولا يعرفون مستلزمات هذا الانتماء، لذلك تراهم في واد، والإسلام في واد آخر.
اعلموا أيها الأحبة أن الانتماء إلى الإسلام هو التزام به، وتكيف به في كل جوانب الحياة. هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير.
واعلموا أيها الإخوة: أن الانتماء إلى أي شيء يوجب معرفته وتصوره وما فيه من مبادئ حتى تقتنع بها وتعمل على تطبيقها.
لذا أخي المؤمن: إن أول شرط من شروط الانتماء إلى الإسلام والانتساب إليه أن تكون عقيدة المسلم سليمة صحيحة متوافقة مع ما جاء في كتاب وفي سنة رسوله. يؤمن بما آمن به المسلمون الأوائل سلفنا الصالح وأئمة الدين المشهود لهم بالخير والبر والتقوى والفهم السليم لدين الله عز وجل.
وعليه أخي حتى أكون مسلما في عقيدتي فإن ذلك يوجب علي ما يلي:
1- أن أكون مؤمنا بأن خالق الكون إله حكيم قدير عليم قيوم.
بدليل أن هذا الكون من الاتقان والإحسان والتناسق بحيث يستحيل عليه البقاء والاستمرار بغير قدرة الله تعالى: لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [الأنبياء].
2- أن أكون مؤمنا بأن الخالق جل شأنه لم يخلق هذا الكون عبثاً ولا سدى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم.
3- أن أكون مؤمنا بأن الله سبحانه قد أرسل الرسل، وأنزل الكتب لتعريف الناس به وبغاية خلقهم ومنشئهم ومعادهم، وكان آخر أولئك الرسل الكرام محمد الذي أيده الله بالقران الكريم والمعجزة الخالدة: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة.
4- أن أكون مؤمنا بأن الغاية من الوجود الإنساني هي عبادة الله وطاعته وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وأؤمن بأن جزاء المؤمن المطيع هو الجنة، وأن جزاء الكافر العاصي هو النار فريق في الجنة وفريق في السعير.
5- أن أؤمن بأن التشريع حق الله وحده لا يجوز تعديه أو تعطيله وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب.
6- أن أعبد الله لا أشرك به شيئاً، وأن أخشاه ولا أخشى غيره إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير.
وأن أذكره وأُديم ذكره بأن يكون صمتي فكراً ونطقي ذكراً الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
ويقول: ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدّونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون.
فاللهم اجعلنا من عبادك الصادقين المؤمنين بك يا رب العالمين، أقول قولي هذا واستغفر الله فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين لأمته طريق النجاة، وحذر من طريق الغي والهلاك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اعلموا أن الإنسان مفتقر إلى الله فهو عبد ضعيف لا حول له ولا قوة، فلابد له من حام يحتمي به، ومن قوة يتوكل عليها ألا وهو الله سبحانه وتعالى.
واعلم أن أعظم طريق للوصول إلى الله هي الطاعة والمحبة.
فالمؤمن يجب عليه أن يحب الله حباً يجعل قلبه مشغوفاً بجلاله متعلقاً به. مما يحفزه إلى الاستزادة من الخير دائماً وإلى التضحية والجهاد في سبيله أبداً لا يمنعه عن ذلك حطام الدنيا ولا وشيجة قربى امتثالاً لقوله تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة:24].
وطمعا في حلاوة الإيمان التي أشار إليها الرسول بقوله: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) [البخاري].
وأخيراً من صفات المؤمن التوكل على الله في كل شأنه: ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [رواه الترمذي].
ومما يحرص عليه العبد المؤمن الشكر لله والاستغفار ومراقبته سبحانه في السر والعلن وبهذا يكون المؤمن قد اكتمل إيمانه وصفت عقيدته إن التزم بهذا.
فاللهم اجعلنا من المؤمنين.
(1/1162)
نواقض الشهادتين
الإيمان
نواقض الإيمان
علي بن محمد التمديتي
تطوان
جامع الإمام مالك بن أنس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترك الحكم بما أنزل الله. 2- إذا حادث الأمة عن تطبيق شرع الله تعالى فقد ارتكبت ناقضاً
عظيماً من نواقض الإيمان وشروطه الأساسية. 3- الآيات الموجبة للحكم بما أنزل الله والآمرة
بالتحاكم إلى شرع الله. 4- دلائل هذه النصوص. 5- المصائب والكوارث والنوازل سببها
الإعراض عن شرع الله. 6- لابد من إصلاح التعليم فبصلاحه يصلح الفرد والمجتمع والأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: إن الإسلام هو الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة، فالقرآن ينشئ أمته، ويخرجها إلى الوجود إخراجاً كما قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس.
لقد نشأت هذه الأمة نشأتها بهذا الدين، وقادت نفسها والبشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها وبمنهجه الذي طبع حياتها.
إن الأمة المسلمة تم تحديد الجمعة التي تتلقى منها التشريع ومنهج حياتها، فهذا شرط الإيمان والإسلام.
عباد الله: التقوى والطاعة أمرٌ أمر الله به العباد حتى يكونوا عباد الله. فكونوا عباد الله متقين ومطيعين له في كل ما أمر، ومجتنبين عما نهى حتى تفوزوا برضاه في هذه الدنيا وفي دار القراز يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها الإخوة المؤمنون: عشنا في الخطب السابقة مع مواضع نواقض الشهادتين وتناولنا ما تناولناه وسنتناول اليوم إن شاء الله ما تبقى منها.
اعلموا رحمكم الله أن من نواقض الشهادتين وأخطرها وأعظمها الناقض الذي نحن بصدده، لأنه إذا حصل وتحقق وتبين في الفرد أو من الأمة تحقق به الكفر المطلق: ألا وهو الحكم بغير ما أنزل الله، أو الاحتكام إلى غيره عز وجل أو غير سنة نبيه محمد.
قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
وقال تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يظلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً.
وقال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ، وقال تعالى: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون.
أيها الإخوة المؤمنون: إن المتأمل في هذه النصوص ليدرك بكل بساطة أن من لم يحكم بغير ما أنزل الله، أو لم يتحاكم إلى شرع الله فهو خارج عن الملة، فمن أنواع الردة عن الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله، أو يرى أن هناك ما هو أحسن من حكم الله ورسوله، أو يحكم بغيره كالقوانين الوضعية الكافرة سواء حكم بالقانون في كل شيء أو في بعض القضايا، مادام أنه يرى أن ذلك أصلح له أو للمجتمع. أو أنه أمر جائز ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم.
عباد الله.
هذا خطر داهم المسلمين، فإن كثيراً من حكام المسمين نبذوا كتاب الله واستبدلوه بقوانين استوردوها من الغرب وحكموا بها بين الناس فهذا حرب على الله ودينه.
وما المصائب والنوازل التي تنزل بهم من حروب وزلازل وفتن وفيضانات وتشريد، وإذلال وهوان بين الأمم إلا نتيجة إعلان الحرب على الله، فلو اتقوا الله ورجعوا إلى الحكم بشرع الله لأعزهم الله ولنصرهم.
عباد الله: إن تطبيق شرع الله أمر لازم للفرد والأمة المسلمة، ولا خلاص إلا بالرجوع إليه تطبيقاً وعملاً وتنفيذا، وأول ما نبدأ به في أنفسنا، وذلك بأن نقيم شرع الله في أنفسنا وبيوتنا وفي معاملاتنا وفي جميع أحوالنا، لأن الأصل في الإنابة هو الفرد ثم الجماعة ثم الأمة فإذا لم يصلح الفرد لن يصلح المجتمع.
وما حالنا من تفسخ وانحلال خلقي وضياع الشباب وانتشار الرذيلة كالزنا والقمار والعري والمخدرات، ما هو إلا نتيجة لعدم تطبيق شرع الله في نفوس الأفراد، فالشريعة تطهّر الأمة والأفراد وإلا فهي هالكة في الدنيا والآخرة.
فاللهم رد بنا إلى تطبيق شريعة الله.
اللهم ألهم ولاة أمورنا بتطبيق شريعة الله، اللهم أعنا على تنفيذ الإسلام في نفوسنا وفي بيوتنا وفي جمع أحوالنا آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بين لأمته طريق النجاة وحذر من طريق الغي والهلاك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اعلموا أن صلاح الإنسان والأمة لا يستقيم إلا إذا صلح التعليم، لأن التعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يريد المعلم.
ولا ينفع التعليم إلا إذا كان مراعياً لقيم الأمة وهدفاً إلى انشاء الفرد الصالح لنفسه وأمته مستوفياً لكل مقومات صناعة الإنسان الصالح.
فصناعة الإنسان هي أخطر من صناعة الصواريخ والطائرات وأي مادة كيف ما كانت ونحن مع الأسف الشديد تهتم بالأشياء المادية مغيبين الإنسان نفسه أو التلميذ والطالب بأسلوب أوضح.
فالمدارس والأموات قد بعدت عن هذه الرسالة وهي صناعة الرجل الشريف المؤمن التقي الصالح لنفسه ولمجتمعه القوي الأمين واهتمت بمواد جافة ومجردة من الإيمان وحتى من الحوافز التي تدفع الطالب للعمل بما علم. فالمتعلم أشبه بالصنعة أو الحرفة التي يتعلمها أي إنسان وربما الحرفة قد يسترزق منها بخلاف إذا ربطنا صناعة التعليم ومناهجه بالغاية العظمى، وهي استخلاف الإنسان في الأرض بما يرضي الله، وهذا منهج الرسول فقد صح عنه أنه قال: ((إنما بعثت مُعلماً)).
وقال تعالى في بيان صفة المعلم ومنهجه كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلوا عليكم ءاياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونا تعلمون [البقرة:151].
فاللهم زك نفوسنا أنت خير من زكاها.
(1/1163)
فضل رعاية البنات
الأسرة والمجتمع
الأبناء, المرأة
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رعاية البنات حجاب للمرء من النار وأمان يوم القيامة وسبب لدخول الجنة. 2- الشروط التي يحصل بها هذا الأجر(الإيواء والكفاية والرحمة).3-إيواؤهن ،أنواعه وصوره. 4- رحمتهن،أنواعها وصورها. 5-كفايتهن، وأنواع ذلك.6-بين خيار الجاهلية والإسلام
_________
الخطبة الأولى
_________
حديثنا اليوم إن شاء الله وقدره سيكون حول عمل صالح، يفوز من يؤديه على وجه وبشروطه بثلاثة أمور:
أولها: يُحْجب عن النار، فلا يدخلها.
ثانيها: يحشر يوم الفزع الأكبر مع المصطفى.
ثالثاً: تجب له الجنة، بل ويكون فيها مع النبي.
فما أعظم هذا الأجر، وما أجلّ هذا الثواب، الذي لا يحرمه إلا محروم.
وهذا الجزاء العظيم أيها المؤمنون مقيد بشروط، لابد للحصول عليه أن تؤدى شروطه وتكمل جوانبه.
فما هو هذا العمل، وما هي شروطه؟
فأقول مستعيناً بالله عز وجل:
هذا العمل أيها المؤمنون:
هو رعاية البنات، والقيام عليهن وعلى مصالحهن، وهذا شأن ديننا مع المرأة يكرمها ويصونها ويحفظها ويرغب الرجال في الجنة وعظيم الثواب، إن هم قاموا على رعايتها وحفظها.
فما أعظم نعم الله عز وجل على بنات حواء، وما أكثر ما يكفرن بها وينكرنها!!.
يقول المصطفى في الحديث المتفق على صحته من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كُنّ له ستراً من النار)).
ويقول أيضاً: ((من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وكساهن من جدته كن له حجاباً من النار)).
فهذا هو الجزاء الأول، الذي تناله يا عبد الله، ستر وحجاب من النار، فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز.
جعلني الله وإياكم من الفائزين.
وأما الجزاء الثاني وهو الحشر مع النبي فعن أنس قال، قال رسول الله : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه)) [رواه مسلم].
وأما الجزاء الثالث: فتأمل معي هذه النصوص:
عن جابر: ((من كان له ثلاث بنات يُؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل بعض القوم: وثنتين يا رسول الله، قال: وثنتين)) [أحمد / والبخاري في الأدب المفرد].
عن أبي سعيد: ((لا يكون لأحد ثلاث بنات أو ابنتان أو أختان فيتقي الله فيهن ويحسن إليهن إلا دخل الجنة)).
عن أنس قال: قال رسول الله : ((من كان له أختان أو ابنتان فأحسن إليهن ما صحبتاه كنت أنا وهو في الجنة، وفرق بين إصبعيه)).
فما أعظم هذا الأجر، وما أجلّ هذه المنزلة؟
ولكنها قيدت بقيود ثقال ومهمّات شاتة، تحتاج إلى جهاد وصبر حتى يحققها العبد، فيفوز بهذا الجزاء والأجر.
وتأمل قوله : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء)) ، فسماهن بلية، قال القرطبي في تفسيره سماهن بلاءً لما ينشأ عنهن من العار أحياناً.
فما هي هذه الشروط والقيود التي قُيّد بها هذا الأجر العظيم؟!
الشروط اجتمعت في قوله : ((فأحسن إليهن)).
فالإحسان إلى البنات إحساناً يوافق الشرع، هو الشرط الجامع والقيد الأكبر.
وجاءت الروايات التي استمعتم إليها مفصلة هذا الإجمال، ومبينة له أيما بيان:
فقال : ((يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن)).
قال الحافظ: وهذه الألفاظ يجمعها لفظ الإحسان.
فما معنى الإيواء؟ّ! وما المراد بكفايتهن ؟! وكيف نرحمهن؟!
أما الإيواء، فيكون على ثلاثة أحزب:
أولها: إيواؤها إلى أم صالحة، تكون قدوة لها فأول الإيواء، إيواء البنات إلى أم صالحة تقية عفيفة تصونهن وتحفظهن.
أما سمعت نصيحة المصطفى : ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)).
ثانيها: إيواؤها في خدرها، في بيتها تعليمها أن تقر في بيتها ولا تخرج منه إلا لضرورة أو حاجة أو قربة أو طاعة ((يشهدن الخير ودعوة المسلمين)).
وهذا معنى قوله تعالى: وقرن في بيوتكن فأمر النساء بالقرار في البيت، فهو أستر لهن وأحفظ لحياتهن.
وانظر رحمك الله كيف أضاف الله عز وجل البيوت إلى النساء في ثلاثة مواضع من كتابه مع أنها تابعة لأوليائهن، فقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن.
وقال: لا تخرجوهن من بيوتهن وقال: وقرن في بيوتكن فاحرص على تربية بناتك على القرار في البيوت، وعليك بالحزم فإنه أنفع لدينهن وأعز لك في الدنيا والآخرة.
ثالثها: الإيواء إلى بيت عامر بالذكر والطاعة والعمل الصالح، فبعض النساء لا يخرجن من البيت؟! ولكن بيوتهن عامرة بشياطين الإنس والجن، بيوت لا يحتجب فيها النساء من الرجال الأجانب، فأولادهم والعمة والخال، والخالة من الطوافين الولاجين، لا غطاء ولا حجاب.
والسائق والخادم، كأنه قد شاركهن الرضاعة يدخل على نساء الدار دون حجاب، فدار كهذه لا تصلح أن تكون مأوى، بل هي دار تهتك فيها الأعراض.
وبعض النساء لا يخرجن من البيوت، ولكن بيوتهن عامرة بأجهزة الفساد، وقنوات الغناء والزنا فتتعلم الحرام وتشاهده وتسمعه، وتفتن في دينها وتضل وتفسد، أكثر مما لو كانت في الأسواق والأرصفة.
فهل هذا إيواء يا عباد الله؟!
إن الإيواء الحقيقي يكون في خدر ساتر يحافظ على عرضك ويصونه.
لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إليّ من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني أحب إليّ من لبس الشفوف
((من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة)).
كان هذا هو الإيواء؟ فما المراد بقوله : ((يكفيهن؟!)).
المراد، قد فسره في رواية مسلم بقوله: ((من عال جاريتين حتى تبلغا)) قال النووي رحمه الله: عالهما قام عليهما بالمؤونة والتربية.
ويفسره أيضاً قوله : ((وكساهن من جدته)).
نعم عباد الله، كفاية المرأة حاجاتها الضرورية من طعام ولباس ومؤنة من الواجبات ومن أعظم القربات التي يشتغل بها الرجال.
يكفيهن هذه الأمور، فلا يحتجن إلى الخروج من الدار للعمل والكسب؟! يكفيهن هذه الضرورات فلا يفكرن في المعصية والانحراف؟ّ!
يكفيهن، ولم يقل يطغيهن، كما يفعل بعض الآباء – هداهم الله – فيبالغ في توفير طلبات ابنته، كلما اشتهت اشترى لها، وكلما صاحت تطلب أمراً، سارع بخيله ورجله مستجيباً لها مطيعاً أمرها، حتى إن بعض الآباء، اشترى لبناته في المرحلة المتوسطة جوالاً؟!
وأخرى لها سائق خاص وسيارة خاصة؟!
إن هذا الإغداق مهلك للفتاة موجب لقصر حياتها الزوجية، فما أن تنتقل هذه الفتاة إلى دار زوجها، وتفقد هذا الدلال إلا وتنشز على بعلها وتفتقد ما نشأت عليه.
ورحم الله أحد مشايخنا، كان يقتصر على نوعين من الفاكهة يقول: أخشى أن يتعودن على الأصناف المتعددة فتزوج إحداهن بفقير فتزهقه، تقول أبي كان يفعل كذا وكذا، ويشتري كذا وكذا.
وفي الطرف الآخر، نجد من الرجال من يقصر على النساء في تلبية ضروراتهن، بل ويصيح فيها: لماذا لا تخرجين وتعملين مثل فلانة؟!
فيضجر بتلبية حاجاتها وكفايتها. والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.
القيد والشرط الثالث: الذي يندرج تحت معنى الإحسان إلى البنات، قوله وبرحمهن فما هي حقيقة الرحمة؟! وما المراد بها!!
المعنى الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة، هو المعنى الظاهر والعام للرحمة يرحمهن: أي يعطف عليهن ويشفق عليهن ولا يضربهن إلى غير ذلك من معاني الرحمة. ولا شك أنّ هذا حق. ولكن الرحمة الحقيقية بالبنات معاشر المؤمنين تتمثل في أمرين:
الأول: رحمتهن، بالسعي والعمل الجاد على تجنيبهن النار وبئس القرار. وذلك بتربيتهن على شعائر الإسلام وإقام الصلاة والحجاب والستر والعفاف. يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.
فالرجل الذي يعطف على بناته ويدللهن ويحسن إليهن مادياً ومعنوياً ثم هو لا يأمرهن بصلاة أو صيام ولا ستر أو حجاب، فهذا جبّار، عدو مبين. لأنه لم ينصح لهن ولم يأخذ بأيديهن وحجزهن ويبعدنهن عند النّار.
فهذه هي الرحمة الحقيقية معاشر المؤمنين، يقول : ((إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه)).
النوع الثاني من الرحمة : رحمة غرائزهم ومشاعرهن فمن الآباء من لا يرحم مشاعر بناته ولا يراعي غرائزهن فيدخل في بيته ما يثير الشهوات ويحرك المشاعر، ويدفع إلى الفجور والبغاء، من مجلات هابطة وقنوات ساقطة، فترى الفتاة مناظر تحرك الجبال، فتقع في صراع داخلي بين شهوتها وغريزتها وبين دينها وخوفها من ربها، والبعض منهن ممن لا دين لها تصارع غريزتها وخوفها من العار والعادات، ثم لا يلبث داعي الشهوة والغريزة أن ينتصر ويتغلب ويأخذ بناصية المسكينة إلى شفا النار وغضب الجبَّار.
ما قولكم برجل يعرض ألذ المأكولات على بناته وهن جياع ثم لا يطعمهن، أرحيم هو أم جبّار؟!
إنّ غريزة الجنس، أشد وأقوى من غريزة حب الطعام والشراب. فالجائع أقل شيء يسد ريقه، وأمّا صاحب الشهوة، فإمّا أن يطفئها بالحلال أو بالحرام.
ومن مظاهر عدم رحمة مشاعر البنات، تأخير زواجهن حتى يبلغن سناً، يزهد فيه الشيوخ فضلاً عن الشباب وتذهب سنون هذه المسكينة حسرات عليها، وذلك بسبب تعنت والدها أو حتى كبْره، الذي يمنعه من عرضها على الأخيار والصالحين.
فاتقوا الله معاشر المؤمنين وأحسنوا إلى بناتكم.
واعلموا أنّ الأجر العظيم الذي استمعتم إليه مقيد بهذه القيود الثقال وهي يسيرة لمن يسرها الله عليها مقدورة على من اجتهد وحرص.
والله ولي التوفيق.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد
فهذه صورة واحدة من صور شتى كرّم بها الإسلام المرأة ورفع قدرها. وأي رفعة وتكريم أعظم وأرفع من ترغيب الرجال بالجنة والحشر مع المصطفى وشرهم من النار إن هم أحسنوا إلى البنات، وقاموا عليهن بالرعاية الكاملة.
فما أزهد نساء اليوم في الإسلام، وما أكفرهن بهذه النعم، وما أعظم إحسان الشرع إليهن؟! يردنها جاهلية عمياء، تسير على خطى الجاهلية الأولى التي وصفها ربنا بقوله: وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون.
فأخبر جل وعلا أن أهل الجاهلية الأولى كانوا يغتمون ويحزنون إذا بشّر أحدهم بالأنثى، ويضع هذا الجاهل لنفسه حلين لا ثالث لهما:
أيمسك هذه الأنثى ويبقيها على هون وذل، لما يتوقع منها ويفترض من عار وخزي.
أم يدسها ويدفنها في التراب ويرتاح من شرها.
فحكم الله عز وجل على هذين الخيارين بقوله: ألا ساء ما يحكمون.
والمرأة المسلمة، التي كرمها ربها وحماها وحث الرجال ورغبهم على حمايتها، تريد خطى الجاهلية.
تريد من يسلك بها مسالك الهوان والتبرج والسفور التي كان يقشعر منها جسد الأعرابي الجاهلي؟!
تريد أن تدس وتدفن، لا في تراب طاهر نقي، بل في أوحال الرذيلة والفاحشة.
ألا ساء ما يحكمون.
فاتق الله يا أمة الله، وكوني فخورة بهذا التكريم، وتذكري أن من أواخر ما تلفظ به المصطفى قبل أن يفارق الدنيا: ((استوصوا بالنساء خيراً)).
فأمرنا وأوصانا بك خيراً، فكوني خير معين لأوليائك على أداء هذه المهمة العظيمة، واعلمي أن عزك ومجدك وشرفك في تمسكك بدينك.
اللهم أصلح لنا ديننا...
(1/1164)
مكائد إبليس: الإفراط والتفريط
الإيمان
الجن والشياطين
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداوة إبليس لبني آدم. 2- تزيين الشيطان. 3- الشيطان يخوّفنا أولياءه. 4- إبليس في
صورة الناصح الأمين. 5- اللباس الحسي واللباس والمعنوي. 6-التحذير من الإفراط والتفريط.
7- السنة بين الغالي فيها والجافي عنها.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى إخباراً عن عدوه إبليس حين سأله عن امتناعه عن السجود لآدم وأنه احتج لذلك بأنه خير منه، سأله إبليس أن ينظره إلى يوم القيامة فأنظره ثم قال عدو الله: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.
اعلم يا عبد الله أن عدوك الشيطان قد أقسم لأبيك آدم وأمك حواء أنه لهما لمن الناصحين، وقد علمت كذبه وغشه، ورأيت فعله بهما، وأما أنت فقد أقسم أن يغويك كما قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين فالعجب ممن يصدق عداوته، ويتبع غوايته ولا يحذر من مكايده، واعلم أنه قد قعد لك على كل طريق وسبيل تسلكه، فإنك تارة تأخذ على جهة يمينك وتارة على شمالك وتارة أمامك وتارة ترجع خلفك، فأي سبيل سلكته من هذه وجدت الشيطان عليها يترصد لك، فإن سلكتها في طاعة الله، وجدته عليها يثبطك ويشغلك عنها، ويبطئك حتى تتركها، وإن سلكتها في معصية الله وجدته عليها خادماً ومعيناً ومزينا لها، ويشهد لهذا المعنى قوله سبحانه: وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم أي ألزمناهم قرناء من الشياطين فزينوا لهم الدنيا حتى آثروها على الآخرة ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة والإعراض عنها.
فزينوا لهم ما مضى من خبث أعمالهم فلم يتوبوا منها وزينوا لهم ما يستقبلون من أعمالهم الباطلة وما يعزمون عليه فلا ينوون تركه. وهكذا يفعل عدو الله ويلبس على الناس ويكيد لهم حتى يجعلهم في حزبه أصحاب السعير.
ولكي تحذره يا عبد الله عليك أن تعرف مكايده وحيله التي يصل بها إلى تحقيق غايته، وهي إضلال الناس وغوايتهم وإدخالهم النار.
فمن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم ولا يأمرونهم بالمعروف ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله تعالى عنه فقال: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.
ومن مكايد عدو الله أنه يسحر العقل دائما حتى يتغلب عليه ولا يسلم من سحره هذا إلا من شاء الله، فتراه يزين ويحسن له الفعل الذي يضره حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، وتراه يقبح له الفعل الذي ينفعه حتى يخيل إليه أنه يضره. فكم فتن بهذا السحر من إنسان، وكم حيل به بين القلب وبين الإسلام، وكم أظهر الباطل في صورة حسنة، وأخرج الحق في صورة قبيحة، فهو الذي سحر العقول حتى ألقى أصحابها في البدع والخرافات، بل زين لهم عبادة الأصنام والقبور وقطع الأرحام ووعدهم الفوز بالجنات مع الكفر والفسوق والعصيان، فهو صاحب قابيل حين قتل أخاه، وصاحب قوم نوح حين أغرقوا، وقوم عاد حين أهلكوا بالريح العقيم. وصاحب قوم صالح حين أهلكوا بالصيحة، وصاحب قوم لوط حين خسف بهم، وأتبعوا بالرجم بالحجارة، وصاحب فرعون وقومه حين أخذوا فأغرقوا، وصاحب بني إسرائيل عبّاد العجل حين جرى عليهم ما جرى، وصاحب قريش حين أخرجهم الله يوم بدر، وهكذا لا يزال عدوا الله يصاحب كل هالك ومفتون إلى قيام الساعة.
وأول مكره وكيده لعنه الله أنه كاد آدم وحواء بالأيّمان الكاذبة أنه ناصح لهما، بأنه إنما يريد خلودهما في الجنة قال تعالى: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور. فعلم عدو الله أنهما إذا أكلا من الشجرة بدت لهما عوراتهما، وهذه معصية، والمعصية تهتك ستر ما بين الله وبين العبد، فلما عصيا انتهك ذلك الستر فبدت لهما عوراتهما.
فالمعصية تبدي السوأة الباطنة والظاهرة، ولهذا رأى النبي في منامه الزناة والزواني عراة بادية سوآتهم، ومن هذه الرؤيا قيل إنه إذا رأى الرجل أو المرأة في منامه أنه مكشوف عارٍ دلّ ذلك على فساد في دينه ينبغي عليه أن يراجع نفسه، فإن الله سبحانه أنزل لباسين: لباساً ظاهراً يستر العورة ولباساً باطناً من التقوى يجمّل العبد ويستره، فإذا زال عنه هذا اللباس انكشفت عورته الباطنة، كما تنكشف عورته الظاهرة إذا نزع ما يسترها.
ولما أحس عدو الله من آدم وحواء أنهما يريدان الخلود في تلك الدار في النعيم المقيم دخل عليهما من هذا الباب فإنه باب كيده الأعظم الذي يدخل منه على ابن آدم، وعلم إخوانه وأولياءه من الإنس أنهم إذا أرادوا أغراضهم الفاسدة من الصالحين أن يدخلوا عليهم من الباب الذي يحبونه ويهوونه.
ثم أقسم لهما كاذباً أنه يريد لهما النصح والخير، فغرّهما وخدعهما بأن سمى تلك الشجرة التي حذرهما الله من أن يأكلا منها سماها شجرة الخلد.
وهكذا يسمي أتباعه الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبها النفوس وتقبلها حتى تسّموا الخمر بأم الأفراح أو بالمشروبات الكحولية، وسمّوا الميسر والقمار بلقمة الراحة، وسمّوا الربا بالفائدة، وسمّوا الغناء والرقص بالثقافة، وهكذا يلبّس عدو الله على الخلق ويزين لهم الباطل في صورة الحق حتى يطيعوه فيكونوا من أوليائه، نعوذ بالله منه ومن مكره وكيده وتلبيسه. والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن كيد عدو الله العجيب أنه يتتبع النفس حتى يعلم أي القوّتين تغلب عليها، قوة الشجاعة، أم قوة الضعف والمهانة، فإن رأى الغالب على النفس الضعف زاد في إضعافها وثقّلها عن الواجب، حتى تتركه كله أو تقصر فيه وتتهاون به، وإن رأى الغالب عليها قوة الشجاعة والإقدام على الخير قال له: إن الذي تفعله من الخير قليل، ولا يكفيك، فتحتاج إلى مبالغة وزيادة حتى يوقعه في البدعة والغلو، ولأجل ذلك قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو وتعدٍ على الحد المشروع.
وأكثر الناس قد أخذوا في هذين الواديين وادي التقصير ووادي التعدي والمجاوزة، والقليل منهم جداً من ثبت على الصراط الذي كان عليه رسول الله وأصحابه.
فقوم قصّر بهم الشيطان، فلم يأتوا بواجبات الطهارة، وقوم تجاوز بهم فيها إلى حد الوسوسة، وقوم قصّر بهم عن إخراج الزكاة حتى بخلوا بأموالهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا يسألون الناس ويطمعون في ما بأيديهم.
وقم قصّر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس حتى أضرّوا بأبدانهم وقلوبهم، وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وقوم قصّر بهم في حق الأنبياء والعلماء حتى قتلوهم، وتجاوز بآخرين حتى غلبوا فيهم وعبدوهم.
وقصر بقوم في مخالطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات، فلا يأتون المساجد إلا في الجمعات أو الأعياد، وتجاوز بقوم حتى خالطوا الناس في الظلم والمعاصي والآثام.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكلها، وتجاوز بآخرين حتى اعتدوا على دماء الناس المعصومة.
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله من الزواج، فرغبوا عنه، وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا الفاحشة، وكذلك قصر باليهود في المسيح عيسى عليه السلام حتى كذّبوه ورموا أمه بما برّأها الله تعالى منه، وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلها يعبد مع الله.
وقصر بقوم حتى عبدوا الله بالنجاسات وهم النصارى وأشباههم، وتجاوز بآخرين حتى أدت بهم الوسوسة إلى درجة التشدد وهم أشباه اليهود.
وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات، حتى يمدحونهم، وتجاوز بقوم حتى أظهروا القبائح وتجاهروا بالفسق دوما حياء أو خوفاً.
وقصر بقوم حتى أهملوا قلوبهم وغفلوا عنها، وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم على القلوب ولم يلتفتوا إلى أعمال الجوارح.
وهذا الباب واسع جداً يدخل منه الشيطان ليمكر ويكيد بالإنسان، ولكي تسدّه عليه وتمنعه الدخول منه عليك أن تتبع الطريق الوسط الذي كان عليه رسول الله وأصحابه رضوان الله عليهم في كل الأمور، فإن خير الهدي هدي محمد الذي قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)).
فاللهم أعذّنا من الشيطان، وبصّرنا بمكره وكيده، واجعلنا في حصن منه.
وللحديث بقية كلام في خطب لاحقة إن شاء الله، سبحان الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1165)
مكائد إبليس: الجهل
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الجن والشياطين, العلم الشرعي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجهل مدخل من مداخل الشيطان. 2- تلبيس إبليس على العُبّاد. 3-فضل العلم على العبادة.
4- ذم الوسوسة. 5- تلبيس إبليس في الطهارة. 6- شبهة الوسوسين. 7- تلبيس إبليس في
الأذان. 8- تلبيس إبليس في الصلاة. 9- وجوب صلاة الجماعة. 10- تلبيس إبليس في سنن
الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم يا عبد الله وفقني الله وإياك للعلم النافع، أن أعظم باب يدخل منه إبليس وجنوده على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بسهولة وأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا غفلة أو نسيان، وقد لبس عدو الله على كثير من المتعبدين لقلة علمهم، بل لأنهم اعتزلوا العلم واشتغلوا بالعبادة ولم يحكموا فيها العلم.
فأول تلبيسه عليهم أن أمرهم بتفضيل التعبد على العلم، ولا شك أن العلم أفضل من نوافل العبادات، بل فضل العلم خير من فضل العبادة، حتى قال بعض السلف: باب من العلم تتعلمه أفضل لك من سبعين غزوة تغزوها. وقال آخر: كتابة حديث واحد عن رسول الله أحب إلي من صلاة ليلة.
فلما لبس عدو الله عليهم هذا التلبيس، وهو ترك العلم وتفضيل العبادة على العلم، تمكّن إبليس من التلاعب بهم في كثير من أنواع العبادة.
فمن ذلك التلاعب الذي بلغ به الشيطان من الجهال ما بلغ: الوسوسة التي كادهم بها في أمر الطهارة والصلاة خاصة عند عقد النية، فمنهم من تراه وتسمعه يقول عند الوضوء: نويت الوضوء، أو نويت رفع الحدث، وسبب هذا التلبيس الجهل بهدي رسول الله في الوضوء وأنه لم يكن يتلفظ بالنية لا في الوضوء ولا في غيره من العبادات، إذ أن النية محلها القلب، ولا حاجة للتلفظ بها.
ومنهم من يلبس عليه في الماء الذي يتوضأ به، فيقول له: من أين لك أن هذا الماء طاهر؟ ويقدّر له فيه ألف احتمال بعيد، ولو أنه كان يعلم من الشرع أن أصل المال طاهر لما ترك هذا الأصل واتبع احتمالات الشيطان.
ومن الموسوسين من لبس عليه الشيطان بكثرة استعمال الماء في الطهارة حتى قال له إبليس: إنك في عبادة إذا لم تصحّ فلا تصحّ الصلاة، والحق أن الإكثار في استعمال الماء هو إسراف وتبذير له، وخلاف شريعة رسول الله. ولربّما بلغ بأحدهم أن أطال الوضوء حتى فاته وقت الصلاة أو فاتته الجماعة، ولو علِم المسكين أن النبي كان يقتصد في الماء حتى أنه ثبت عنه الوضوء مرة مرة، ولم يزد على ثلاث، بل كان يتوضأ بمقدار المُد، والمُد أن يملأ الإنسان كفيه، وكان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من إناء واحد فيه أثر العجين، فلو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه وقال: ما يكفيك هذا القدر، والعجين يحلله الماء فيغيّره، هكذا يتتبّع الموسوس كل ما يمليه عليه الشيطان حتى لا تطاوعه نفسه اتباع رسول الله فيجعل عبادته أفضل من عبادة رسول الله والعياذ بالله.
وقد يقول لك الموسوس إنما حملني على الزيادة في الماء الاحتياط لديني، وقد قال رسول الله : ((دع ما يريبك إلى ما لا يرببك)) وقال أيضاً: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) ، فيجاب عليه بأن رسول الله كان مقتصداً في عبادته لربه، وهو أولى بالاتباع كما قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وقال سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، وإن من زاد على عبادة رسول الله فهو متعد ظالم لنفسه، مخالف لهدي رسوله، متبع لسبيل الشيطان، فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين والاعتصام بالسنة.
ومن تلبيس الشيطان على الناس في الأذان التلحين فيه إلى درجة مشابهة الغناء، ومنه أنهم يخلطون الأذان بالذكر والتسبيح والصلاة على رسول الله ، وقد كره العلماء كل ما يضاف إلى الأذان ممّا ليس منه. فينبغي على من يريد الأذان أن يتعلم أحكامه حتى لا يقع في التلحين، وأن يخلص نيته حتى لا يقع في الرياء.
ومن تلبيسه على الناس في الصلاة أن لبس عليهم في نية الصلاة، فمنهم من يقف طويلاً عند إرادة الصلاة فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، نويت أصلي صلاة الظهر فريضة أداء لله أربع ركعات، ثم يصرخ بالتكبير، كأنه يكبر على العدو. فلو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به، فلو كان في هذه الألفاظ خير لسبقونا إليه ولدلونا عليه، فلم يبق بعد الحق إلا الظلال.
ومن الموسوسين من يكبر ثم يشك أنه كبر، فينقض ثم يكبّر ثم ينقض حتى إذا ركع الإمام كبر الموسوس، وركع معه، وما ذاك إلا لأن إبليس أراد أن يفوّت عليه فضل الصلاة، وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، حتى بلغ بأحدهم أنه يحلف بالله ما كبّرت إلا مرة واحدة، بل فيهم من يحلف بالله وبطلاق زوجته أنه ما كبر إلا مرة، وهذه كلها تلبيسات إبليس اللعين عصمنا الله جميعاً منها بالعلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون:
لقد لبّس إبليس على كثير من الناس فتركوا الصلاة مع الجماعة في بيوت الله، إما تكاسلاً منهم، وإما جهلاً بحكم الصلاة مع الجماعة، فيظنون أنهم مخيرون في أداء الصلاة إما في البيت وإما في المسجد، والحق الذي لا شك فيه أن صلاة الجماعة في المساجد من واجبات الصلاة التي دلّت عليها نصوص القرآن والسنة قال تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين.
وأمر الله نبيه أن يقيم الصلاة مع أصحابه وهم في الحرب عند التقاء الصفوف، وصح عنه أن أعمى جاءه وليس له قائد يقوده إلى المسجد فرخص له، فلما ولى الرجل دعاه فقال: ((هل تسمع النداء)) قال: نعم قال: ((فأجب)) ، كما أخبر أن أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وأن الناس لو يعلمون ما فيها من الخير والأجر لأتوها ولو حبواً، فالمنافق تثقل عليه صلاة الجماعة لكن لو يجد شيئا رخيصاً من الدنيا لأسرع إليه، وذلك لأنه لا إيمان في قلبه، ولو كان مؤمناً حقاً لبادر إلى فضل الآخرة وسارع إليه لأن الآخرة هي المآل وهي المستقبل،
فاحذروا أيها المسلمون من أن يلبّس عليكم الشيطان فتتركوا صلاة الجماعة، فيكون شأنكم شأن أهل النفاق والعياذ بالله، قال ابن مسعود : ((من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادي بهن، فإن الله شرع لنبيكم محمد سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة حسنة ويرفعه به درجة ويحط عنه بها سيئة، ولقد أيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النافق أو مريض، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف)).
هكذا كان حال أصحاب رسول الله ، لا يتخلف منهم أحد عن صلاة الجماعة إلا بعذر، ومن تخلف بلا عذر فهو معلوم النفاق عندهم، وعن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله يوماً الصبح فقال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((أشاهد فلان)) قالوا: لا، قال: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما في الصف الأول لتسابقتم إليه)).
فحافظوا أيها المسلمون على صلاة الجماعة وإياكم والتهاون بها فاحذروا أن تعرضوا أنفسكم لعقاب الله وسخطه.
كما لبس إبليس على قوم فتركوا كثيراً من سنن الصلاة، فمنهم من يتخلف عن الصف الأول سواء في صلاة الجمعة أو الجماعة ويقول: المهمّ أن يتقرب قلبي من الله وليس بدّني، ومنهم من يترك القبض في الصلاة ويقول: أكره أن أظهر من الخضوع ما ليس في قلبي، فيقال له: إن وضع اليد على اليد سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا ينبغي تركها مهما كان الدافع أو السبب المزعوم، ولبّس على جماعة من المتعبدين فتراهم يصلون الليل والنهار، ولا ينظرون في إصلاح عيوبهم ولا في طريقة اكتساب أموالهم، فالنظر في ذلك أولى بهم من كثرة التنفل.
فعليكم عباد الله بالعلم فإنه هو الموصل لاتباع طريق رسل الله وما سنه للأمة قولا وعملاً، وهو العاصم بإذن الله من الشيطان ومكايده، ومكره وتلبيسه، فاللهم بصّرنا بهذه المكايد حتى نتجنّبها، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1166)
الكسوف
فقه, موضوعات عامة
الصلاة, مخلوقات الله
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكير في آيات الله الكونية. 2- الشمس والقمر وآيتان من آيات الله تعالى. 3- الكسوف
تخويف من الله. 4- صفة صلاة الكسوف. 5- خطبة الكسوف. 6- بعض أحكام صلاة
الكسوف. 7- عقائد جاهلية في الكسوف. 8- العلم بالكسوف لا يتنافى الشرع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى، وتفكروا في آياته وما يخلقه في السموات والأرض، فإن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، تفكروا في هذه السموات السبع التي رفعها الله بقوّته، وأمسكها بقدرته ورحمته أن تقع على العباد، تفكروا كيف أحكم الله بناءها، فمالها من فروج أي مالها من شقوق، ومالها من فطور أي ليس فيها عيب ولا نقصان.
انظروا كيف زينها الله بالمصابيح التي عمتها بالجمال والنور، وكيف جعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، ثم تفكروا كيف كانت هذه النجوم والشمس والقمر تسير بإذن الله في فلكها الذي وضعها الله فيه منذ خلقها الله حتى يأذن بخرابها، لا تنقص عن سيرها ولا تزيد، ولا ترتفع عنه ولا تنزل، ولا تحيد، فسبحان الله، من سيّرها بقدرته ورتب نظامها بحكمته، وهو القوي العزيز.
عباد الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تدل على كمال قدرته وعظيم حكمته وسعة رحمته، فإذا نظرت إلى عظمتهما وانتظام سيرهما أيقنت عند ذلك بقدرة الله، واذا نظرت إلى ما في اختلاف سيرهما من المصالح والمنافع تبيّن لك كمال حكمة الله وسعة رحمته بعباده، ألا وإن من حكمة الله في سير الشمس والقمر ما يحدث فيهما من الكسوف والخسوف وهو ذهاب ضوئهما إما كله أو بعضه، فإن هذا الكسوف وهذا الخصوف يحدث بأمر الله، يخوف الله به عباده ليتوبوا إليه ويستغفروه ويعبدوه ويعظموه.
ولقد كسفت الشمس في عهد النبي فخرج فزعاً خائفاً يجرّ رداءه حتى أتى المسجد ثم نودي: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فتقدم النبي فصلى بالناس ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان، كبر ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة نحو البقرة حتى جعل أصحابه يخرّون من طول القيام ثم ركع فأطال الركوع ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى ثم ركع ركوعاً طويلاً دون الأول ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وأطال القيام ثم سجد فأطال السجود ثم جلس بين السجدتين وأطال ثم سجد فأطال، ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الأولى غير أنه لم يطل بمثل الركعة الأولى حتى انجلت الشمس، وقد سمعه بعض الصحابة يقول في سجوده: ((رب ألم تعدني أن لا تعذّبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون)) ثم خطب الناس ووعظهم موعظة بليغة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له سبحانه ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فافزعوا إلى المساجد، فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)) وفي رواية: ((فادعوا وتصدقوا وصلوا)) ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)). وقال: ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه وأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال)) قالوا يا رسول الله: لقد أريناك تأخرت وتقدمت في مقامك في الصلاة قال: ((لقد رأيت النار جيء بها يحطم بعضها بعضاً فتأخرت مخافة أن يصيبني من لهبها حتى رأيت فيها عمرو بن لحي – الذي سن لقريش عبادة الأصنام – يجر أمعاءه في النار، ورأيت صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعاً ورأيت أكثر أهلها النساء – قالوا: لم يا رسول الله قال: لأنهن يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيراً قط ورأي الجنة حتى تقدمت في مقامي، فأردت أن أتناول منها عنقوداً ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)).
فيا أمة محمد إن كسوف الشمس أو القمر لحدث عظيم مخيف، وأكبر دليل على ذلك ما حصل لرسول الله عند كسوف الشمس من الفزع إلى الصلاة، وما حصل له فيها من أحوال ومشاهد، ثم تلك الخطبة البليغة التي خطبها، فعلينا عباد الله أن نفزع ونخاف لحدوث الكسوف وأن نلجأ إلى مساجد الله للصلاة والدعاء والاستغفار، وأن نتصدق لندفع البلاء، وقد أمر النبي بإعتاق الرقاب في كسوف الشمس لأن عتق الرقبة معناه نجاة المعتق من النار، فأسباب البلاء والانتقام عند حدوث الكسوف قد انعقدت والفزع إلى الصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار والصدقة وغيرها من أفعال الخير تدفع تلك الأسباب بإذن الله.
فيا أيها الناس: إذا حصل الكسوف كما أخبر بذلك من له علم بحساب جريان الشمس والقمر في أي وقت وفي أية ساعة، فافزعوا إلى الصلاة، لأن النبي أمر بذلك، ولم يحدّد لها وقتاً من الأوقات وإنما وقتها إذا رأيتم الكسوف فلا تصلي إلا إذا شاهدنا ذلك، ولأن صلاة الكسوف هي صلاة فزع ومدافعة بلاء وخوف انتقام العزيز الجبار لدينه ومحارمه.
واعلموا أن السنة أن تصلى جماعة في المساجد كما صلاها النبي وصلى خلفه الرجال والنساء، فإن صلاها الإنسان وحده فلا بأس لكن الأفضل مع الجماعة.
فاللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
فإن بعض الناس يزعمون أن كسوف الشمس وخسوف القمر وزوال هذه النجوم عن مطالعها وما يحدث أحياناً من تغير يزعمون أن شيئا من هذا يحدث لموت رجال عظماء من أهل الأرض كما حدث أن بعض الناس ظنوا أن كسوف الشمس الذي حدث على عهد النبي كان لأجل موت ولده إبراهيم. ألا إن هؤلاء قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله تبارك وتعالى يعتبر بها عباده كما قال النبي : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموه فافزعوا إلى الصلاة)) وبين في رواية أخرى أن كسوف الشمس وخسوف القمر سبب لنزول عذاب الله بالناس فقال: ((ولكنها آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده)) فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس إذا جاءهم ما يضرهم، فلو لم يحصل بالناس ضرر عند الكسوف أو الخسوف ما كان ذلك تخويفاً وقد قال تعالى: وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً. وأمر النبي بما يزيل الخوف، أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة حتى يكشف الله ما بالناس.
وأما العلم بوقت الكسوف والخسوف فهو ممكن إذا أخبر به من يعرف حساب جريان الشمس والقمر ومنازلهما، وليس خبر الحاسب بذلك من باب العلم بالغيب، ولا يترتب على خبره حكم شرعي، فهو كمثل من يعلم أوقات الفصول كأول الربيع والصيف والخريف والشتاء لأنه يعلم أن الشمس تكون قريبة من ذلك النجم، غير أننا لا نصدق الذي يخبر بذلك إلا إذا علمنا أنه صادق، ولا نكذبه إلا إذا علمنا كذبه عملاً بقول النبي : ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوهم، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوهم)) ومع هذا فلا يترتب على هذه المسألة علم أو حكم شرعي طالما أننا لا نصلي هذه الصلاة إلا إذا شاهدنا الكسوف وإن الواجب علينا إذا رأينا هذه الآية أن نسارع إلى التوبة إلى الله وأن يراجع كل واحد منا نفسه مع ربه وأن لا نأمن مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون.
وأذكركم ثانية أنه إذا حصل كسوف يوم الأربعاء إن شاء الله أن نلجأ إلى المسجد للصلاة والدعاء والاستغفار متى رأينا الكسوف، وكلنا خوف وعزيمة على الرجوع إلى دين الله بصدق، ومن كانت له خصومة أو شحناء مع أخيه فليتصارح معه، فإن كل ذلك سبب لرفع البلاء ودفع نقمة الله وغضبه لمحارمه التي انتهكها كثير من الناس دونما خوف ولا حياء. فاللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا، ولا تسلط علينا بذنوبنا عقابك، واكشف عنا العذاب فإننا مؤمنون. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1167)
فتنة القبور
التوحيد, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, نواقض الإسلام
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة القبور. 2- بداية الشرك. 3- شرك القبور في هذه الأمة. 4- سد أبواب الشرك.
5- الزيارة البدعية والشركية. 6-الأنبياء والصالجون يكرهون ما يفعله القبوريون عن قبورهم.
7- التحذير من اتخاذ القبور أعيادا. 8- مفاسد التخاذ القبور أعياداً. 9- المنكرات التي تفعل
عند القبور.
_________
الخطبة الأولى
_________
فمن أعظم مكايد عدو الله التي كاد ولا يزال يُكاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه وأتباعه أن فتنهم بالقبور وبتعظيمها حتى وصل الأمر فيها إلى أن عُبد أصحابها من دون الله، وعبدت قبورهم، وبنيت عليها القباب، ثم جعلت أصناما يُلجأ إليها في الشدائد ويطلب منها قضاء الحاجات ودفع المضرات.
وكان أول من عرف بالشرك قوم نوح عليه السلام: وأول من وقع فيه منهم: القبوريون المنصرفون بقلوبهم إلى الموتى من صلحائهم، فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك، وذهب العلم، عبدت من دون الله). وفي لفظ آخر: (كان في قوم نوح قوم صالحون، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوّروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم).
فهؤلاء القوم جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما رسول الله في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله : ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى)). فجمع النبي في هذا الحديث بين الصور أو التماثيل، والقبور، وهذا كان سبباً في عبادة الأصنام.
فقد رأيتم عباد الله أن سبب عبادة أولئك الصالحين من قوم نوح، وعبادة اللات والعزى في قوم النبي إنما كان من تعظيم قبورهم، ثم اتخذوا لها الصور والتماثيل وعبدوها، وهذا السبب – أي تعظيم القبور واتخاذ الصور والتماثيل الذي لأجله نهى النبي عن اتخاذ المساجد على القبور هو الذي أوقع كثيراً من الناس في الشرك الأكبر، إذ النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، فإن الشرك بقبر الرجل الصالح أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، وقد سمعنا من أناس يذهبون إلى قبور رجال يعتقدون أنهم صالحون، فيتضرعون عندها ويخشعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، بل منهم من يسجد لها ويرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجون في المساجد، ويقولون: لقد جربنا أن نذرنا عند القبر الفلاني فقضيت حاجاتنا، ومنهم من يقول: الدعاء عند القبر الفلاني مستجاب، ومعنى ذلك أنهم دعوا هنا لك مرة فرأوا أثر الإجابة، هذه شبههم التي لبسها عليهم عدو الله إبليس فأطاعوه وزينها لهم فاتبعوه.
ولأجل هذه المفسدة العظيمة وهي الشرك الأكبر حسم النبي كل ما يؤدي إليها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة وإن لم يقصد المصلي بركة المكان بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ حتى وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون.
وأما إذا قصد الرجل بالصلاة عند القبور حصول البركة بالصلاة في ذلك المكان، فهذا قصد مخالف لدين الله، واتباع دين لم يأذن به الله تعالى، فإن المسلمين قد علموا من دين رسول الله أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عند القبور وبناء المساجد والقباب عليها، ففي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله قبل أن يموت بخمس وهو يوصي أمته: ((..ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)).
لكن الكثير من الناس قد أغفل هذه الوصية وعمل بخلافها حتى بلغ الشيطان بهم إلى الشرك العظيم، فاعتقد بعضهم أن زيارة القبور التي عليها القباب والمشاهد إما قبر نبي أو شيخ أفضل من حج بيت الله الحرام، ويسمون زيارتها الحج الأكبر، ومنهم من يرى زيارة قبر النبي أفضل من حج البيت، يفعلون ذلك لأنهم يعتقدون أن ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرّمه الله ورسوله أعظم عند القبوريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد أسست على تقوى من الله ورضوان، فهم يظنون أن زيارة القبور إنما هو لأجل الدعاء عندها والتبرك بها وسؤال الميت ودعائه. يدعون الميت ويسألونه كما يسألون ربهم فيقولون: اغفر لي وارحمني.
ومنهم من تتمثل له صورة الشيخ الذي يستغيث به ويدعوه فإنما هي صورة شيطان قد خاطبه كما تفعل الشياطين بعبدة الأوثان.
واعلم يا عبد الله أن المقبورين المدفونين من الأنبياء والصالحين يكرهون ما يفعله هؤلاء القبوريون عندهم كل الكرامة، كما يكره المسيح عيسى عليه السلام ما يفعله النصارى به، فلا يحسب المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأوثاناً فيه تنقص من كرامة أصحابها. بل هو من باب إكرامهم، وأن من تمام إكرامهم وحبهم أن نتّبع ما دعوا إليه من العمل الصالح ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم. كما قال : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء)).
وفقني الله وإياكم لاتباع هدي النبي وجنبنا الشرك، بجميع مظاهره إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومما افتتن به الناس أن اتخذوا القبور أعياداً كما كان يفعل المشركون في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فأبطلها، فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) فإذا كان قبر رسول الله وهو أفضل قبر على وجه الأرض قد نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، ثم إنه قرن النهي عن اتخاذ القبر عيداً: ((ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً)) أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون شبيهة بالقبور، فأمر بصلاة النافلة في البيوت ونهى عن العبادة عند القبور، ثم إنه عقد النهي عن اتخاذ قبره عيداً بقوله: ((وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) ، يشير عليه الصلاة والسلام بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل سواء كنتم قريبين من قبري أو بعيدين عنه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً.
ثم إن في اتخاذ القبور أعياداً ومزارات من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله تعالى ما يغضب لأجله كل من في قلبه خوف من الله وغيرة على التوحيد وتقبيح للشرك.
فمن أعظم مفاسد اتخاذ القبور أعياداً ومزارات: الصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها والتمسح بترابها وعبادة أصحابها وسؤالتهم النصر والرزق وقضاء الديون وتفريج الكربات وغير ذلك من أنواع الطلبات، حتى أنهم إذا رأوا هذه القبور من مكان بعيد وضعوا لها جباههم، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم، وتباكوا واستغاثوا بمن لا يضر ولا ينفع، حتى إذا اقتربوا منها صلوا عند القبر ركعتين، وظنوا أنهم قد نالوا من الأجر، ما لم ينله من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، فلغير الله بل للشيطان أسالوا الدموع ورفعوا الأصوات، وطلبوا من الميت الحاجات وسألوه تفريج الكربات، فكانت صلاتهم ودعاؤهم وسؤالهم لغير الله رب العالمين.
إن الناظر في أحوال الناس اليوم عند القبور يرى أكثرهم مضاداً لما أمر به النبي ونهى عنه وما كان عليه أصحابه. فنهى رسول الله عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها مساجد، ويسمونها مشاهد تشبيها ببيوت الله، ونهى عن إيقاد النار عليها وهؤلاء يشعلون القناديل والشموع عليها، ونهى أن تتخذ عيداً وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها وعدم رفعها عن الأرض وهؤلاء يبالغون فيرفعونها عن الأرض كالبيت ويبنون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه والكتابة عليه، وهؤلاء ينفقون الأموال من أجل زخرفتها، ويتخذون عليها الألواح من رخام وغيره، ويكتبون عليها القرآن وغيره، والرسول : ((نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه)) ، وهؤلاء الناس يزيدون عليه الآجر والأحجار والجصّ.
فهؤلاء الناس المعظمون للقبور المتخذوها أعياداً، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مخالفون لأمر الله ورسوله.
ومن أعظم تلك المخالفات الذبح عند القبر فقد كانوا إذا مات لهم الميت ذبحوا على قبره وقد نهى النبي عن ذلك فقال: ((لا عقر في الإسلام)) كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. ويدخل في معنى هذا النهي ما يتصدق به أهل الميت من خبز وتمر ونحوه من أنواع الطعام عند القبر.
فعلى العاقل بعد ما عرف هذه المخالفات أن يتقي الله تعالى فلا يقع في شيء من ذلك، وعليه أن ينصح غيره، وأن ينكر هذا المنكر العظيم. وفقني الله وإياكم لما فيه صلاح المسلمين، وجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن والحمد لله رب العالمين.
(1/1168)
مكائد إبليس: الرياء
الإيمان, التوحيد
الجن والشياطين, الشرك ووسائله
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإخلاص شرط في جميع العبادات. 2- معنى الإخلاص. 3- فضل الإخلاص. 4- آفة
الرياء. 5- كيفية القضاء على الرياء. 6- أمثلة للرياء. 7- محاسبة النفس. 8- من فوائد
الإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم وفّقني الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن إخلاص العمل لله وحده لا شريك له شُرط في قبول جميع أنواع الطاعات، فالإخلاص ضد الشرك، الإخلاص أن تريد بطاعتك التقرب إلى الله دون أي شيء آخر من تصنّع لمخلوق أو اكتساب مال أو محمدة أو جاه أو محبة أو مدح من مخلوق.
الإخلاص أن تكون حركتك وسكونك في سرك وعلانيتك لله وحده كما قال جل وعلا: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وقال سبحانه: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء وقال تعالى: فادعوا الله مخلصين له الدين ، وقال جل شأنه: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
وعن أبي هريرة قال قلت: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه)).
وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله : ((من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة)) قيل: وما إخلاصها قال: ((أن تحجزه عن محارم الله)) وفي رواية: ((أن تمنعه عمّا حرم الله)).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش، ما اجتنبت الكبائر)).
وعن أنس بن مالك عن رسول الله قال: ((من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راضٍ)).
وعن أبي الدرداء عن النبي قال: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله)).
إذا فهمتم عباد الله أهمية الإخلاص في العمل، فاعلموا أن عدوّكم الشيطان يسعى جاهداً أن يدخل عليكم من هذا الباب ليشوش على إخلاصكم، فتبطل بذلك أعمالكم، وإن من أظهر تلكم المشوشات على الإخلاص الرياء.
فالشيطان يدخل الآفة على المصلي مهما كان مخلصاً في صلاته. إذا كان حوله أناس ينظرون إليه أو دخل عليه داخل وهو يصلي فيقول له الشيطان: حسّن صلاتك وزد فيها حتى ينظروا إليك بعين الاحترام والتعظيم والصلاح. فتخشع جوارحك وتحسن صلاتك لا لأجل الله، ولكن من أجلهم، وهذا هو الرياء الظاهر.
وحتى تسدّ عليه هذا الباب وتقطع عليه هذه الآفة ينبغي أن تجعل صلاتك في خلوتك مثل صلاتك أمام الناس وتستحي من ربك أن تخشع نفسك عند مشاهدة الناس خشوعاً زائداً على عادته.
فالإخلاص أن تكون صلاتك عند الناس مثل صلاتك منفرداً وهذه الآفات قلّ من يتنبه لها فلا يسلم من الشيطان إلا من دقق النظر وسَعِد بحفظ الله وتوفيقه وهدايته.
وإلا فالشيطان ملازم للمجتهدين في عبادة الله والإخلاص له، لا يغفل عنهم لحظة من اللحظات حتى يحملهم على الرياء في كل حركة إن قدر على ذلك.
ولا يسلم من شرّه وغروره وحيله، ومكره وخداعه إلا العالم البصير بدقائق آفات الأعمال حتى يخلّصها منها.
قال أبو الدرداء: "إن من فقه العبد أن يعلم نزعات الشيطان" أي يعلم متى يأتيه ومن أين يأتيه.
وصدق رحمه الله، إذا فقه العبد عن الله عز وجل أنه لا يقبل من العمل إلا ما خلص وصفا لوجهه الكريم دون خلقه، فإن نفسه وعدوّه إبليس لعنه الله يدعوانه إلى ما يحبط عمله خاف وحَذِر، فعلم حينئذ أن نزغة الشيطان تأتيه من قبل الرياء وغيره.
وقال الحسن البصري رحمه الله: لا يزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عليه عمله، فليس للعبد غنىً عن معرفة ما أمرنا باجتنابه من الرياء وغيره، ولا سيما الرياء الذي وصفه رسول الله بأنه شرك خفي أخفى من دبيب النمل.
فالرياء عباد الله لا يكون إلا من رجل قصرٍ نظره وضعف إيمانه، فإنه هو الذي يتصور أن الناس إذا رأوه يصلي كثيراً أو رأوه يطيل الصلاة أو يصوم النوافل أو يحج ويعتمر دائماً أو يتصدق أو نحو ذلك من أفعال الخير، يتصور أنهم يحسنون به الظن ويعاملونه معاملة خاصة تتركه في دنياه مسروراً فرحاً.
وأما العاقل البعيد النظر الصادق في إيمانه فإنه يعلم علماً يقيناً أن الأمر كله دنيا وأخرى لله وحده لا شريك له، وأن العالم كلّه جنه وإنسه أعجز من أن يدفع أجلاً أو يكثر رزقاً أو يكشف ميبة، كما جاء فذلك في حديث ابن عباس قوله : ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)).
فإذا كان الخلوق بهذا الضعف فلا يلتفت العبد بعمله له إلا إذا كان ضعيف الدين قاصر العقل.
روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلاً يقول: قرأت البارحة سورة البقرة فقال: ذلك حظك منها. فاللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، وهب لنا إخلاص التوكل عليك والاستغناء عن خلقك، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله أخلصوا في أعمالكم كلها، لا فرق بين عمل وعمل، سواء أكنتم تعملون لله عز وجل أم كنتم تعملون لخلق الله، وسواء أكنتم بين الخلق أم كنتم في محل خفي لا يراكم فيه إلا الله. وسواء أكنتم في سراء وقت العمل أم في ضراء.
ذلك الإخلاص هو أن تعمل العمل الصالح لا تريد جزاءً عليه إلا من الله، يكون ذلك قصدك قبل العمل، وأثناء العمل، وبعد الفراغ منه، لا تذكره بلسانك إلا من باب التحدث بنعم الله، أو من باب أن يقتدي بك غافل متبع لهواه.
فعلى المسلم المخلص أن يحذر كل الحذر أن يُخلط عمله بشيء من أنواع الرياء مثل ما يفعله كثير من الناس، تراهم يخرجون زكاة أموالهم خوفاً من ذم الناس لهم بقولهم: هذا ما زكى ماله لله.
أو يدخل وقت صلاة مفروضة وفيه أناس يستحي منهم أن يترك الصلاة، ولو كان وحده ما صلى، ومثل ذلك الصيام لو كان مع أناس أهل دين وطاعة صام، ولو كان وحده أفطر، ومثل ذلك حضور الجمعة ولو لا خوف الذم لما حضرها، ومثله صلة الرحم وبر الوالدين إذا كان يصلهم خوفا من الناس أو رجاءً منهم، لا يفعل ذلك ابتغاء وجه الله، فكم من أعمال يتعب الشخص فيها نفسه، ويظن أنها خالصة لوجه الله، بل يكون فيها مغروراً لأنه لا يخاف عليها أتقبل عند الله أم لا؟ فبالخوف والحذر يتفقد العبد أعماله، ويحرسها من الرياء ومن كل ما يبطلها حتى تكون خالصة مقبولة عند الله، وإن من الفوائد التي يجنيها المخلص بعمله أن صدره ينشرح للإنفاق في وجوه البر، فتجده يؤثرها بجانب من ماله ولو كانت به حاجة.
ومن فوائد الإخلاص أنه يُعلّم صاحبه الزهد في الدنيا فلا يمنعه عرض من الدنيا قدم له من أن يقول الحق أو ينكر على باطل ولو أعطي الشيء الكثير من المال.
ومن فوائد الإخلاص أنه يحمل المعلّم أن يبذل جهده لإيضاح ما خفي على التلميذ، وأن يحرص على اتباع طريقة في التدريس تجدد نشاط الطلاب وتشجعهم على المزيد من العلم.
ومن فوائد الإخلاص أنه يمنع التاجر من الخيانة، فلا يغش في البضاعة أو في قيمتها، ومن فوائد الإخلاص الإتقان في العمل، يَحْمل صاحبه على أن يحسن العمل ويأتي به كاملاً.
ومن فوائد الإخلاص أنه يحمل صاحبه على الابتعاد عن الرشوة. ومن فوائده أيضاً: أنه يحمل المسؤول مهما كانت مسؤوليته، أن يختار للأعمال الأتقى والأرضى والأكُفاء، عملاً بقوله : ((من استعمل رجلاً على عصابة – أي جماعة – وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)).
ومن فوائد الإخلاص أن العمل الخالص القليل منه يجزي كما قال النبي لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: ((أخلص دينك يكفيك العمل القليل)).
ومن أعظم فوائد الإخلاص أن العبد لا ينجو من الشيطان وكيده ومكره إلا بالإخلاص كما قال تعالى إخباراً عما قاله إبليس لعنه الله: قال فبعزّتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
ومن فوائد الإخلاص أنه يميز العمل من العيوب كتميز اللبن من الفرث والدم، فأخلصوا أعمالكم أيها الناس، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا من خلص له، واحذروا أن يدخل عليكم الشيطان من باب الرياء، فيفسد عليكم أعمالكم ويوقعكم في الإشراك بربكم واستعينوا في ذلك بدعاء الله والاستعاذة به من نزغات الشيطان ومكره وخداعه، فإنه سبحانه أرشدنا إلى الاعتصام به من الشيطان بالاستعاذة فقال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم.
(1/1169)
من منكرات يوم الجمعة
فقه
الصلاة
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من التخلف عن الجمعة. 2- من بدع ومنكرات الجمعة. 3- تلاوة سورة (ق).
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
أيها الناس حافظوا على صلاة الجمعة، فقد علمتم ما جاء فيها من فضل وترغيب في أدائها والسعي إليها، وعلمتم أيضاً بعض آدابها التي لا يستغني عنها كل من يريد الخير والدار الآخرة.
ألا فاعلموا عباد الله أن الشارع الحكيم كما ندبكم إلى هذه الصلاة ورغّبكم فيها لأجل المحافظة عليها والسعي إليها فإنه قد رهب وتوعد من تخلف عنها أو تكاسل عن السعي إليها عسى أن يكون ذلك محفزاً لكم على عدم إضاعتها والاعتناء بها وبآدابها، فمن تلكم النصوص ما رواه ابن مسعود أن النبي قال لقوم يتخلفون يوم الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)) [رواه مسلم].
عباد الله: إن أناساً يخرجون بأهليهم أو مع أصحابهم في هذا اليوم المبارك الذي منّ الله به على أمة محمد وأضل عنه اليهود والنصارى يخرجون ويمرحون فيفوّتون صلاة الجمعة، فهؤلاء قد عرّضوا أنفسهم لعقاب الله وسخطه، وفوّتوا على أنفسهم الخير الكثير، فقد روى أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله يقول على أعواد المنبر: ((لينتهين أقوام على ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) [رواه مسلم].
بل الأمر عباد الله أخطر من ذلك وأمرّ، فقد روى أبو الجعد الضمري عن النبي قال: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه)) أي أن الذي يترك ثلاث جمعات يدل على أنه غير مهتم بأمرها استحق أن يختم الله على قلبه غشاوة فلا هو يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
وهناك من الناس من يتخذ أعذاراً في نظره ليتخلّف عن صلاة الجمعة وكذا الجماعة، فقد بين النبي فيما يرويه حارثة بن النعمان قال: قال رسول الله : ((يتّخذ أحدكم السائمة أي القطيع من الإبل أو البقر أو الغنم – فيشهد الصلاة في جماعة فتتعذّر عليه سائمته فيقول: لو طلبت لسائمتي مكاناً هو أكلأ – أي كثير العشب الرطب واليابس – من هذا فيتحول ولا يشهد إلا الجمعة، فتتعذّر عليه سائمته فيقول: لو طلبت لسائمتي مكاناً هو أكلأ من هذا، فيتحول لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، فيطبع الله على قلبه)) [رواه أحمد والحديث حسن].
وقد يصل أمر التهاون بالجمعة إلى أخطر من ذلك، إنه قد يكون سبباً في نفاق العبد، فقد روى يحيى بن زرارة قال: قال رسول الله : ((من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها ثم سمعه فلم يأتها ثم سمعه فلم يأتها طبع الله على قلبه وجعل قلبه قلب منافق)) [رواه البيهقي والحديث حسن]. فإذا كان هذا شأن الرجل الذي ترك الجمعة من أجل سائمته، فما بال أقوام يتخلفون عن الجمعات لمجرد التنزه، لا سيما الذهاب إلى شواطئ البحار في هذا الفصل.
ألا فليتق الله هؤلاء، وليحذروا من الغفلة وليحذروا من أن يختم الله على قلوبهم فيجعلها كقلوب أهل النفاق عياذاً بالله.
ثم إن هناك بدعاً ومنكرات كثيرة تنتشر بين الناس يوم الجمعة وجب التنبيه عليها ليتجنبها المسلمون منها:
التجمل والتزين ليوم الجمعة ببعض المعاصي كحلق اللحية التي نهى النبي عن حلقها وأمر بإعفائها وتركها. هذا بالنسبة للرجال، وأما النساء فيخرجن للجمعة متزينات متعطرات فليعلمن أنهن فعلن ما يغضب الرب سبحانه وتعالى إذ أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج من بيتها متزينة أو متعطرة ولو إلى المسجد.
ومنها أيضاً تخطّي رقاب الناس فقد جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له: ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) [رواه أحمد].
ومنها أيضاً قيام بعض الناس بعد الأذان للصلاة ظناً منهم أنه تشرع صلاة الراتبة يوم الجمعة كما تشرع في سائر الأيام، فاعلموا أنه لا تشرع صلاة الراتبة لا ركعتين ولا أربعاً قبل صلاة الجمعة فإن النبي كان لا يصلي قبل الجمعة شيئاً من الرواتب، لا في بيته ولا في المسجد، إذ لو كان ذلك ثبتاً لنقله إلينا صحابته رضي الله عنهم كما نقلوا سنة الظهر القبلية والبعدية.
وأما سنة الجمعة البعدية فقد ثبتت من فعل النبي فقد كان ينصرف بعد الجمعة فيسجد سجدتين في بيته، [كما أنها ثبتت من قوله ].
وإن مما أؤكد عليه أن كثيراً من إخواننا الغافلين يتعمّدون الخروج في يوم الجمعة إلى التنزه براً أو بحراً، وبدلاً من أن يتعبدوا لله بما ورد في كتابه وفي سنة رسوله في هذا اليوم ويحيونه بالصلاة والصدقة والذكر ونحو ذلك يرتكبون المنكرات في هذا اليوم المبارك من أغاني وطرب وما إلى ذلك من المعاصي التي يخجل الإنسان من ذكرها فضلاً عن ارتكابها، فإلى أولئك المتهاونين وإلى أولئك الذين فتنتهم الدنيا بزينتها ورزقوا حظاً من المال أو الجاه أهدي هذه النصيحة وأذكرهم بأن لا يغتروا بما يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، وأن لا يفتنوا بهذه الدنيا الزائلة، فإن الموت أقرب إلى أحدهم من شراك نعله، وإنه يدخل من غير استئذان، فالحرص الحرص على حسن الخاتمة، وفقني الله وإياكم لذلك والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد فعن أم هشام بنت حارثة قالت: (ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من لسان رسول الله ، يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) [رواه مسلم].
هذه السورة عباد الله – أي سورة – ق – كان يحافظ النبي على تلاوتها يوم الجمعة على المنبر اختياراً منه لأنها سورة اشتملت على الوعظ والتذكير، فيها آيات تدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وأنه هو المتصرّف في شؤون مخلوقاته المدبر لها كما بيّنت مصير الإنسان في تلك الدار، فقال الله جل وعلا. (تلاوة سورة ق).
(1/1170)
مساوئ الأخلاق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, مساوئ الأخلاق
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من مكايد إبليس. 2- ضرورة معرفة مداخل الشيطان. 3- مكامن الضعف في
العبد. 4- وسائل الشيطان في إغواء بني آدم : (الحسد والحرص، والغضب، الشهوة، الطمع،
العجلة). 5- باقي الوسائل : ( فتنة المال ، البخل ، سوء الظن ، الشبع ، الجهل). 6- كيف
علاج الأخلاق السيئة؟
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلموا عباد الله أن الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبيان الكافي، وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي، وتوافقوا على منهاج واحد لم يختلف، فأقبل الشيطان يخلّط هذا البيان بالشبهات، وذاك الدواء بالسم، والمنهاج بالضلالاً. وما زال عدو الله يلعب بعقول الناس حتى عبدوا الأصنام من دون الله في البيت الحرام. وقتلوا البنات ومنعوهن الميراث إلى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس.
فبعث الله تعالى محمداً ليرفع المقابح ويشرّع المصالح، فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره، سالمين من العدو وغروره. فلما انسلخ نهار وجودهم حلّت الظلمات وكثرت الأهواء والبدع ففرّق الأكثرون دينهم وكانوا شيعاً وأحزاباً. ونهض إبليس يلبّس ويزين لهم حين رآهم في ليل الجهل. ولو كان الناس على علم وبصيرة بدينهم وبعدوّهم ومكايده لافتضح أمره ولنكَص على عقبيه وأُحرق بنور العلم.
ولأجل ذلك رأيت أن أحذر نفسي وإياكم من هذا العدو الدود وأن نعلم مكايده ومصايده التي يصطاد بها بني آدم ليكونوا من أتباعه وأصحاب النار.
إذ أن في تعريف الشر تحذيراً عن الوقوع فيه، ففي الصحيحين من حديث حذيفة قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحداً أحب إلى الشيطان هلاكاً مني، فقيل له وكيف؟ فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب فيحملها الرجل إليّ فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه كما أخرجها.
ولما كان قلب ابن آدم هو وسيلة الشيطان التي بها يستولي على صاحبه وجب عليك أيها العبد أن تجعل قلبك مثل الحصن الرفيع لا يتمكن الشيطان أن يدخله ويملِكه ويستولي عليه. ولا يُقدر على حفظ الحصن الرفيع إلا بحراسة أبوابه ومداخله ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرف أبوابه، فحماية القلب عن إفساد الشيطان ضرورة تجب على كل عبد مكلف ولا يقدر الإنسان على دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله فصارت معرفة مداخل الشيطان واجبة.
ومداخل الشيطان وأبوابه هي مكامن الضعف في العبد مثل الغضب والشهوة والطمع والغفلة، وغيرها وهي كثيرة. ولكني أشير إلى أهم وسائله في إغواء الخلق وتسلّطه عليهم بها وجملتها، عشرة وسائل:
• أما الوسيلة الأولى فهي الحسد والحِرص، فمن كانت فيه هاتان الخصلتان عمي وصُمّ، وهما من أعظم مداخل الشيطان أكبر وسائله، فقد روي أن نوحاً عليه السالم لما ركب البحر وحمل في السفينة من كل زوجين اثنين رأى في السفينة شخصاً لم يعرفه فقال له نوح: من أدخلك؟ قال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك، فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك، فقال نوح عليه السلام: أخرج يا عدو الله، فإنك رجيم. فقال إبليس: خمس أهلك بهن الناس، وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثك باثنين. فأوحي إلى نوح إنه لا حاجة لك إلى الثلاث، مره يحدثك بالاثنين، فقال: ما الاثنان؟ فقال: الحرص والحسد، فبالحسد لُعنت وجعلت شيطاناً رجيماً، وذلك حين عصى أمر ربه بالسجود لآدم حسداً من عنده، وبالحرص أصبت حاجتي من آدم، أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة التي عرّف، فوسوستُ له حتى أكل منها.
• وأما الوسيلة الثانية لعدو الله: فهي الغضب، فإنها من أعظم المكايد للشيطان، فمهما غضب الإنسان لعب به الشيطان، وروي عن بعض الأنبياء أنه قال لإبليس: بأي شيء تغلب ابن آدم؟ قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى.
وظهر إبليس لراهب من الرهبان فقال: أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فقال: الغضب والحِدّة. إن العبد إذا كان حديداً قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة. وقيل لإبليس كيف تقلب ابن آدم؟ فقال: إذا غضب جئت حتى أكون على رأسه. وما أكثر الناس الذين يصرعهم الشيطان ويتخبطهم بسبب الغضب.
• وأما الوسيلة الثالثة فهي حب الشهوات والزينة في الدنيا، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالباً على قلب إنسان باض فيه وفرخ. فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدنيا وتزيين سقوفهما وحيطانها وتوسيع البنيان فيها، ويدعوه إلى طول الأمل.
فلا يزال يسوقه من شيء إلى شيء، ويؤمله من أمل إلى آخر إلى أن يتخطّفه الموت وهو لم يصل إلى أمانيه، ومن ذلك يُخشى سوء الخاتمة والعياذ بالله منها.
• وأما الوسيلة الرابعة: فهي الطمع. إذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يُحسّن له التصنع والتذلل لمن يطمع فيه حتى يصير المطموع فيه كأنه معبوده.
فإياكم والطمع فإنه يشرب القلب شدة الحرص ويختم على القلوب بطابع حب الدنيا. وهو مفتاح كل سيئة وسبب إحباط كل حسنة، وذلك هو الغاية في الخسران والهلاك.
• وأما الوسيلة الخامسة: فهي العجلة والتسرع في الأمور، وقد قيل: الأناة من الله والعجلة من الشيطان. وروي أنه لما ولد عيسى عليه السلام أتت الشيطان إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها فقال: إبليس هذا حادث قد حدث، مكانكم فطار حتى جاء فوجد عيسى عليه السلام قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله، فقال لهم: إن نبيا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها إلا هذا فاستيئسوا من عبادة الأصنام بعد هذه الليلة. ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة.
فاللهم بصرنا بعدونا إبليس وجنوده وجنبنا مكايده واجعلنا في حصن حصين منه، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
• وأما الوسيلة السادسة من وسائل عدوا الله إبليس فهي الفتنة بالدراهم والدنانير، وسائر أصناف الأموال التي تكون زائدة على قدر الحاجة فهي مستقر الشيطان.
وروي أن الرسول لما بعث قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو؟ فانطلقوا ثم جاؤوا وقالوا: ما ندري قال إبليس: أنا آتيكم بالخبر. فذهب فجاءهم قال: قد بعث محمد، قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب رسول الله فينصرفون خائبين فيقولون: ما صحبنا قوما قط مثل هؤلاء، نصيب منهم ثم يقومون للصلاة فيمحون ذلك، فقال إبليس: رويداً بهم عسى الله أن يفتح لهم الدنيا فهناك تصيبون حاجتكم منهم.
ولأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط لكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)).
• وأما الوسيلة السابعة: البخل وخوف الفقر، فإن البخل هو أصلٌ لكل شر، حمل الناس على أن سفكوا دماءهم واستباحوا أعراضهم، روي عن إبليس لعنه الله أنه قال: ما غلبني ابن آدم فلن يغلبني في ثلاث: آمره أن يأخذ المال من غير حقه، وينفقه في غير حقه، ويمنعه من مستحقه.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: ليس للشيطان سلاح على الإنسان مثل خوف الفقر، فإذا قَبل ذلك منه أخذ في الباطل ومنع من الحق، وظن بربه السوء، وهو من أعظم الآفات على الدين.
وما استجاب كثير من الناس لفكرة اليهود في تحديد النسل وتقليل الأولاد إلا لأنهم أدخلوا عليهم شبهة الخوف من الفقر.
• وأما الوسيلة الثامنة: سوء الظن بالمسلمين وقد قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم فمن حكم بشيء على غيره بالظن فإن الشيطان يبعثه على أن يطوّل فيه اللسان بالغيبة، فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أو ينظر فيه بعين الاحتقار أو يرى نفسه خيراً منه، وكل ذلك من المهلكات، فمهما رأيت إنساناً يسيء الظن بالناس طالباً لعيوبهم فاعلم أن في نفسه خبثاً إذ أن المؤمن يطلب لأخيه المعاذير، والمنافق يطلب العيوب للخلق ويتتبعها.
• وأما الوسيلة التاسعة: فهي الشبع والإسراف في المأكل الفاخرة فإن الشبع يقوي الشهوات التي هي أسلحة الشيطان التي بها يصول، وقد قيل: البطنة تذهب الفطنة، وربما شبع الإنسان فتثاقل عن الصلاة وعن الذكر.
• وأما الوسيلة العاشرة: فهي الجهل بما تقدم من الوسائل، فإذا جهل الإنسان عدوّه ولم يسدّ عليه أبوابه دخل عليه فاستولى على قلبه وأهلكه ولابد.
فهذه عباد الله أهم وسائل الشيطان ومداخله إلى قلب الإنسان، وبالجملة فليس في ابن آدم صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان ومنفذه لإغوائه وتضليله.
ثم لابد أن تعلم أن علاج هذه الأمور وإزالتها إنما تكون بدعاء الله تعالى والالتجاء إليه في دفعها، فلا يدفعها عنك إلا هو سبحانه، وخير معين على ذلك أن تتعوذ بالله من الشيطان وشره ووسوسته.
ثم بعد الدعاء عليك أن تجتهد في قلع الصفات المذمومة من قلبك، فإن الشيطان مثل الكلب في التسلط على الإنسان، فإذا كان الإنسان متصفاً بهذه الصفات الذميمة من الغضب والحسد والطمع والحرص وغيرها كان بمنزلة من يكون بين يديه لحم، فإن الكلب لاشك سيصول عليه ولا يندفع عنه إلا بمشقة شديدة.
فاجتهدوا في إزالة الغضب بالحلم والرضى، والكبر بالتواضع، والحسد بمعرفة حق المحسود. واعلموا أن الذي اختصّ به فضل من الله فلا يمكن دفعه. وادفع الطمع بالاكتفاء بما أعطاك الله عز وجل، والحرص على الدنيا بتذكر المتوت والدار الآخرة، والشهوة المحرمة بالصبر والصيام وتذكر عذاب الله تعالى، والبخل بالإنفاق على نفسك وأهلك ثم الصدقة والإحسان لغيرك، والجهل بالحرص على التعلم والتفقه في الدين والاجتهاد في ذلك.
فاللهم إنا نسألك أن تبصرنا بعيوبنا فنصلحها، وأن تجنبنا الشيطان ووساوسه، وأن لا تجعل له سلطاناً علينا، ولا سبيلاً إلى إفسادنا، إنك نعم المولى ونعم النصير.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1171)
الزهد في الدنيا ومحبة الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله للعبد. 2- مفهوم الزهد في الدين. 3- مفاهيم خاطئة للزهد. 4- الدين لا ينافي
الحضارة. 5- حقيقة الدنيا. 7- أسباب محبة الله للعبد. 8- كيف يحبك الناس. 9- حب الناس
نعمة من نعم الله إذا كان بحق.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد فعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) [رواه ابن ماجة وغيره، والحديث صحيح].
عباد الله إن محبة الله للعبد من أعظم ما يوفق إليه الإنسان، فمن أحبه الله أكرمه، ووضع له القبول في الأرض، ومن أبغضه وضع له البغضاء في الأرض، ولقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث سبب محبة الله لعبده وسبب محبة الناس له، ومعلوم أن الإنسان يشعر بسعادة عظيمة إذا كان يحيى في مجتمع يحبه، ومن أحبه الناس آلفوه وعايشوه وتعاملوا معه.
فمِن تلكم الأسباب التي تحقق هذه المحبة، والتي جاء ذكرها في هذا الحديث الزهد في الدنيا. والزهد عباد الله هو الانصراف عن كل ما لا ينفع في الآخرة، بأن تخرج يا عبد الله من قلبك حب الدنيا والحرص عليها والرغبة إليها فتصبح الدنيا في يدك. وحب الله والآخرة في قلبك وليس معنى الزهد رفض الدنيا بالكلية والابتعاد عنها، فقد كان نبينا إمام الزاهدين وله تسع نسوة، وكان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك والمال والنساء مالهما، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال والنساء والبنين، ما هو معروف، فليس الزهد في الدنيا بأن تحرّم على نفسك ما أحله الله لك من الطيبات، إذ الحلال نعمة من الله على عبده، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فشكره على نعمته والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقاً إلى جنته أفضل من الزهد فيها، والتخلي عنها، لأن الزهد في نعم الله زهد مخالف لهدي النبي وسنته، لا خير فيه، يظلم القلوب ويعميها ويشوه جمال الدين الذي اختاره الله لعباده، وينفر العباد من دين الله عز وجل ويهدم الحضارة، ويمكن أعداء الله من أمة الإسلام وينشر الجهل.
ومعلوم أن كل الحضارات لا تقوم إلا على العلم والكسب والزواج، وحضارة الإسلام ما قامت إلا على هذا، أمرت بالكسب حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) [رواه البخاري].
وأمر بالزواج فقال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..)). بل جعل النبي الزهد في الزواج مخالفاً لهديه وسنته فقال: ((وإني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وأمر بالعلم الديني والدنيوي فقال عليه الصلاة والسلام: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) هذا من حديث العلم الديني.
أما العلم الدنيوي فلا يختلف اثنان في ضرورة طلب علوم الدنيا من طب وصناعة وزراعة وغيرها مما لا غنى للعباد عنه في هذا الزمان.
وما ضعفت شوكة المسلمين وتدهورت أحوالهم إلا بسبب تقصييرهم في طلب العلم الديني والدنيوي، واكتفوا بأخذ القشور من علوم الدنيا من أعدائهم بينما أخذوا عنهم كثيراً من أمور زائفة زائلة أدت بأهلها إلى الهلاك وضياع الدين والخلق والفضيلة.
ولكي تزهد يا عبد الله في هذه الدنيا زهد الأتقياء والصالحين لابد أن تعرف شأن الدنيا وقيمتها فقد جاءت نصوص كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله تزهد في الدنيا وتبين حقارتها وقلتها وسرعة زوالها، وترغّب في نعم الآخرة الدائمة التي لا تنقطع، فمن تلكم النصوص قوله جل وعلا: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فالدنيا منقطعة زائلة فانية فلا ينبغي للعبد أن يشتغل بالفاني الزائل عن الباقي الدائم. كما دلت الآية على أن الحياة الدنيا غرور وباطل ولعب، وحقيقة اللعب ما لا ينتفع به. واللهو ما يلهي الإنسان عن الآخرة، ودلت الآيات على أنها زينة تصرف المفتون بها عن الآخرة. وأنها تفاخر بين الناس يفخر بعضهم على بعض بنعيمها الزائل من مال وولد وجاه وغيره، ثم شبه ربنا سبحانه سرعة زوال الدنيا بالمطر الذي ينزل على الأرض فتهتز به وتخضر، ثم سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه من جفاف واصفرار وموات، فكذلك حال نعيم الدنيا سرعان ما يزول وينقضي.
وأما من السنة فما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله مر بالسوق بجدي ميت – أي ولد المعز – فتناوله فأخذه بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك – أي صغير الأذنين – فكيف وهو ميت فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) [رواه مسلم].
وكما جاء في الصحيح أيضاً أن النبي قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)).
ومما ينبغي عليك أن تعلمه يا عبد الله أن الذي يحمل العبد على الزهد في الدنيا قوة إيمانه، واستحضاره عظمة ربه، ووقوفه بين يديه واستحضار أهوال يوم القيامة، فإن ذلك يجعل حب الدنيا ونعيمها يضعف في قلبه، فينصرف عن لذائذها ويقتنع بالقليل منها.
ومنها أيضاً شعوره بأن الدنيا تشغل القلوب عن التعلق بالله وتؤخر الإنسان عن اللحوق بدرجات الآخرة، وأن الإنسان سوف يسأل عن نعيمها قال تعالى: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم.
ومما يعينك أيضاً يا عبد الله على الزهد في الدنيا علمك بتحقير القرآن لشأن الدنيا ونعميها وأنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء. فشعور العبد النير القلب بهذا يجعله يزهد في الدنيا ويقبل على ما هو خير وأبقى قال تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى.
وفقني الله وإياكم للزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة حتى ننال محبة الله عز وجل.
_________
الخطبة الثانية
_________
علمت يا عبد الله أن الزهد في الدنيا طريق من طرق محبة الله جل وعلا لعبده، إذ من أحبه الله وفقه لما يحب وأغدق عليه نعمه الظاهرة والباطنة، ألا فلتعلم أن محبة الله لها طرق أخرى وأسباب كثيرة توصلك إلى محبة الله لك، وترفع مقامك عنده نذكر منها:
- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه حتى يتمكن الإنسان من عبادة ربه حق العبادة التي تكون سبباً للتقرب إلى الله ومحبة الله.
- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : يقول الله تعالى: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي ما اقترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) [رواه البخاري].
- ومن الطرق الموصلة لمحبة الله لعبده متابعة الرسول والاقتداء به بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، فإن الله تعالى قال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم.
إن هذه الآية تدل على صدق محبة العبد لربه، إذ لا يتم له ذلك بمجرد دعوة قلبه أو لسانه فكم من أناس يدعون محبة الله بقلوبهم وألسنتهم: وأحوالهم تكذب دعواهم، فعلامة حب العبد لربه وحب الله لعبده طاعة رسول الله.
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، فالإحسان إلى الخلق سبب المحبة قال تعالى: والله يحب المحسنين ، والصبر طريق المحبة أيضاً: والله يحب الصابرين ، والتقوى كذلك فإن الله يحب المتقين. وبالجملة فإن طريق محبة الله طاعة أوامره واجتناب نواهيه بصدق وإخلاص.
وأما طريق محبة الناس فإن النبي علمنا كيف الوصول إليها فقال: ((وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)). ولا يتم ذلك إلا بالتعفف عما في أيدي الناس من حطام الدنيا الفانية، والإنسان عباد الله بحاجة إلى محبة الناس إليه لأنه يشعر بسعادة وانشراح عندما يعيش بين أظهر ناس يحبونه، ويشعر بضيق وانقباض عندما يحيى بين قوم يكرهونه، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)).
ولكن عليك أن تعلم أنه لا ينبغي أن تكون محبة الناس لك على حساب الحق والعدل، فإن هذا لا يجوز في دين الله عز وجل قال : ((من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس)).
(1/1172)
التحايل على شرع الله
الإيمان, فقه
الجن والشياطين, قضايا فقهية معاصرة
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الحيل. 2- الأدلة على تحريم الحيل:
أ- قصة أصحاب الجنة. ب- قصة أصحاب السبت. ج- المسخ والقذف في هذه الأمة.
3- النهي عن التشبه باليهود أصحاب الحيل. 4- صور من التحايل في هذا الزمان (الريا).
5- المتحايل أعظم إثماً من العاصي.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن من أعظم مكايد الشيطان التي يكيد بها الإسلام وأهله التحايل على شرع الله، والخداع الذي يستعمله كثير من الناس من أجل تحليل ما حرّم الله، وإسقاط فرضه، وعصيانه في أمره ونهيه، فمثل هذا النوع من الحيل الذي يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والحق باطلاً، والباطل حقاً.
فهذا النوع اتفق العلماء جميعاً على ذمّه والنهي عن فعله، وزجر أهله، والدليل على أن هذا النوع من الحيل حرام لا يجوز فعله قوله سبحانه وتعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون وقال تعالى: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم فمخادعة الله تعالى حرام، والحيل مخادعة لله، بيان ذلك أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة، وأخبر أنه سبحانه خادعهم وخدْعه للعبد معناه عقوبته من حيث لا يشعر.
كما أخبر سبحانه عن المشركين الذين عاهدوا رسول الله فقال: ((وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله)) ، إذ أظهروا للرسول أنهم يريدون السلم وهم يقصدون بذلك المكر به والخداع من حيث لا يشعر، فيظهرون له الأمان ويخفون له العداء والمكر.
ومن الأدلة على تحريم التحايل على شرع الله لأجل تحليل الحرام أو إبطال حق ما أخبر به سبحانه عن أهل الجنة الذي ذكر قصتهم في سورة القلم وهم قوم كان للمساكين حق في أموالهم إذا جذّوا نهاراً أي إذا قطعوا الثمار في النهار جاء المساكين ليلتقطوا ما يتساقط من الثمر، فأرادوا أن يقطعوا في الليل حتى يسقط حق المساكين، فعاقبهم الله بأن أرسل على جنتهم آفة سماوية فأصبحت كالصريم أي مثل الزرع إذا حصد، أي هشيماً يبسا، فحرموا خير جنتهم لما تحايلوا على إسقاط حق المساكين، فكان ذلك عبرة لكل محتال يريد إبطال حق من حقوق الله أو حقوق عباده.
ومن الأدلة على تحريم الحيلة على شرع الله أن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود أنه مسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرّمه الله تعالى عليهم من الصيد بأن جعلوا الشباك يوم الجمعة. فلما وقع فيها السمك أخذوه يوم الأحد فقال جل وعلا: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقال سبحانه: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إلى قوله: إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم. ومعلوم أن هؤلاء القوم لم يستحلوا هذا الفعل تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة، وإنما هو احتيال ظاهره لا بأس به، ولكن باطنه باطن الاعتداء على محارم الله، ولهذا مسخهم الله قردة لأنهم مسخوا أي غيّروا دين الله فلم يتمسكوا إلا ما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، فكان جزاء هذا المسخ أن مُسخوا قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم.
ولا يختص هذا المسخ ببني إسرائيل بل قد أخبر النبي أن المسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولابد، وهو في طائفتين من الناس: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله الذين، قلبوا دين الله وشرعه، فقلب الله تعالى صورهم كما قلّبوا دينه والمجاهرون بالفسق والمحارم ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة.
فقد روى البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي يقول: ((ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف)) ، إلى أن قال في آخر الحديث: ((ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)).
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله؟ ((يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ، قيل متى يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقنيات واستحلت الخمرة)).
وفي حديث أبي هريرة قوله : ((يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير قالوا: يا رسول الله، أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: بلى، ويصومون ويصلون ويحجون، قالوا: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير)).
قال العلماء: إنما استحق هؤلاء القوم من أمة النبي هذا المسخ من الله لأنهم أحلوا ما حرم الله بأنواع الحيل المحرمة، يحلّل الخمر بتغيير اسمها أو كالذي يحلل آلات العزف والغناء، ويعتقد أنها شبيهة بأصوات الطيور، أو يحل الحرير ويعتقد أنه حلال في كل الحالات قياساً على حال الحكة أو حال الحرب، وهكذا يحلون ما حرم الله بأدنى الحيل، وذلك ما أفسد الدين فإن من فعل محرماً وهو يعترف بأنه وقع في الحرام؟ ترتب على ذلك خشيته من الله ورجاء مغفره وإمكان توبته، أما من فعل محرماً وهو يستحله بنوع من أنواع الحيل المحرمة لاشك أنه يُصر على الحرام، وقد يؤدي به ذلك إلى شر طويل وفساد في الدين. نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا وفي الأولى والأخرى والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)). فهذا نص صريح في تحريم التحايل على شرع الله.
ثم إنه نهانا عن التشبه باليهود، وقد كانوا يستعملون الحيلة في الصيد يوم السبت بأن حفروا حنادق يوم الجمعة تقع فيها الحيتان يوم السبت ثم يأخذونها يوم الأحد، ومن احتيالهم أيضاً أن الله سبحانه وتعالى لما حرم عليهم الشحوم أذابوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا ما أكلنا الشحم، وإنما أكلنا ثمنه، فهم تجاهلوا أن الله تعالى إذا حرّم الانتفاع بشيء فلا يجوز أكل ثمنه.
وهو الذي قصده عمر بن الخطاب لما بلغه أن فلانا باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً ألم يعلم أن رسول الله قال: ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فجملوها – أي أذابوها – فباعوها وأكلوا ثمنها)) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: ((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس – أي يشعلون بزييها المصابيح – فقال عليه الصلاة والسلام: لا هو حرام، ثم قال: قاتل الله اليهود إن الله لما حرّم عليهم شحومها جملوه – أذابوه – ثم باعوه فأكلوا ثمنه)).
فهذا الحديث أصل عظيم في أن كل حيلة يستعملها العبد من أجل الوصول إلى المحرم فهي باطلة، وأنه لا يتغير حكم هذا المحرم ولو تغيرت صوته، أو بدّل اسمه، كما يحدث اليوم في الذين يتحايلون على الربا فيسمونه المعاملة والفائدة، ويغيرون صورته إلى البيع، وإنما هو حيلة ومكر وخداع لله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, أفيظن هذا المتحايل المخادع أن أمره سيخفى على الله؟ أفلا يقرأ قول الله تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه أليس في نيته وقرارة نفسه أنه يريد ما حرم الله ولكن يكسوه بثوب من الخداع والمكر لا يخفى إلا على من جعل الله على بصره غشاوة؟ فأي فرق بين ما يفعله المتحايل على الربا وبين ما فعلته اليهود من استحلال الشحوم لما غيروا اسمها وصورتها، فإنهم أذابوها حتى صارت زيتا ثم باعوه، وأكلوا ثمنه، وقالوا إنما أكلنا الثمن ولم نأكل الشحم.
فالله سبحانه وتعالى إنما حرم المحرمات لأنها اشتملت على المفاسد المضرة بالدنيا والدين ولم يحرمها لأجل أسمائها وصورتها، ولا تزول هذه المفاسد بتبدل الأسماء ولا بتغيّر الصورة والأسماء لِما لعن الله اليهود على تغير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد وتغيير صورة الشحم واسمه بإذابته.
إن الذي يتحايل على محارم الله أعظم إثماً ومفسدة، فزيادة على أنه عاصٍ لله في أمره ونهيه فهو أيضاً مخادع لله ورسوله، غاش لدينه وشرعه، شأنه شأن المنافق يخادع الله كأنما يخادع الصبيان، ولو أنه أتى الأمر على وجهه لكان أهون.
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واحذروا من المعاصي، واحذروا التحليل على محرام الله، وتعاملوا بالمعاملات الحلال، وابتعدوا عن المعاملات الحرام، واسألوا أهل العلم عما خفي عليكم من هذه المعاملات، حتى لا تقعوا في شيء مما حرم الله فيها من الحيل المحرمة. وفقني الله وإياكم للهدى والتقى والعفاف والغنى، وحمانا مما يغضبه ويسخطه آمين. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/1173)
ماذا استفاد المسلمون من رمضان؟
فقه
الصوم
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم وأسرار العبادات. 2- حقيقة التوحيد. 3- حقيقة الصلة والزكاة والحج. 4- فوائد
الصيام. 5- هل استفدنا من رمضان. 6- التحذير من التشبه بالكفار. 7-التحذير من المعاصي.
8- الصيام مدرسة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
يقول ربكم في كتابه: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات.
قال الإمام ابن كثير: "يقول تعالى مخاطباً المؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنيّة خالصة لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة"أ.هـ. فهل حققنا معاشر المسلمين هذه الثمرات في نفوسنا بعدما انقضى رمضان؟ ولا ندري أيعيش إلى قابل، فنستدرك ما ضيعناه في هذا الشهر الكريم أم لا؟!.
وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من صام رمضان إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه الشيخان]. وفي رواية صحيحة: ((ما تأخر من ذنبه)).
وقال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [رواه البخاري].
أيها المسلمون:
إن المسلم الحاذق هو الذي ينظر في حقائق وأسرار وحكم العبادات، ولا ينظر فقط إلى رسومها وحركاتها، فمن الناس من تراه يجهد نفسه في عبادات متنوعة، وليس له منها إلا التعب، لأنه نظر إلى رسوم العبادات ولم ينظر إلى حقائقها ونتائجها التي تعبر بحق عن حقيقية الدين قال تعالى: لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، إن هذه الشريعة جاءت بحكم وأسرار عظيمة لأنها ببساطة صدرت من إله حكيم خبير لطيف، فشرائعه تعالى وأحكامه مبنية على علل وحكم وأسرار، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وفوق كل ذي علم عليم، فها هو التوحيد الذي هو قطب رحى هذا الدين وأساسه الذي بني عليه؟ قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. وقال كذلك: فاعلم أنه لا إله إلا الله وقال كذلك: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين.
ليس التوحيد فقط كلمات تردد باللسان، وإنما هو حياة مبنية على كلمة التوحيد، فلا يتحرك المسلم ولا يسكن إلا في إطار التوحيد كما قال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، فالتوحيد جاء لتحرير الإنسان كل الإنسان من عبودية غير الله لعبودية الله وحده، فالإنسان الحر المتحضر الطليق هو من يعبد الله وحده لا شريك له، وأما الإنسان العبد الخسيس فهو من ترك عبادة الله وعبد غيره من شهوات وهوى وبدع وتقليد للآباء والأعراف الخارجة عن شريعة الله تعالى، قال تعالى: وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير.
وهاهي الصلاة عمود الدين، فهل حققنا آثارها في حياتنا؟ هي صلة بين العبد وربه، ليست كلمات ولا حركات جوفاء، بل هي خشوع لله رب العالمين وقرب منه سبحانه وتعالى، قال : ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)).
والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فهل انتهينا عن ذلك، والصلاة تنهى عن الأخلاق الفاسدة والحيوانية قال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال: إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون.
وهاهو الصوم من أعظم أسراره تقوى الله تعالى، وها هي الزكاة جاءت لتطهر صاحبها من البخل والشح الذي أهلك الأمم من قبلنا، والزكاة تبارك في المال وتزيد فيه قال تعالى: خذ من أمالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وقال كذلك: وما أنفقتهم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين والزكاة ترجمة عملية على التعاون بين المسلمين وسد حاجات الفقراء.
وها هو الحج عبادة فرضها الله مرة في العمر على من استطاع إلى ذلك سبيلاً، فالحج ليس فقط سياحة أو تجارة، ولكنه قدوم على الرحمن ليغفر الذنوب ويستر العيوب؟ إن الحج تذكير بالموقف الكبير في المحشر يوم القيامة إن الحج موعد لاجتماع المسلمين عربهم وعجمهم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم قد أتوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله تعالى شكراً على نعمه.
هذا وكل أحكام الإسلام أنزلها الله لحكم وأسرار من أهمها أنها جاءت لجلب المصالح ودفع المفاسد قال العزّ بن عبد السلام:
الشريعة كلها مصالح إما دفع مفاسد أو جلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فتأمل وصيته بعد ندائه فلا يجد إلا خيراً يحثك عليه أو شراً يزجرك عنه)) أهـ.
قال تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.
أيها المسلمون: إن شهر رمضان شهر التقوى والبركات الألهية فهل حققنا ثمراته الزكية وفوائده الجلية، إن شهر رمضان نفعله يعود على صاحبه، فلا يعود على الله في شيء، فالله غني حميد، قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز.
إن فوائد وأسرار رمضان كثيرة منها:
1- تزكية النفوس بطاعة الله، وتدريب النفوس على العبودية لله والصبر عليها قال : ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، بترك طعامه وشرابه من أجلي كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)) [متفق عليه].
2- إن الصوم فيه إعلاءٌ ورفع للجانب الروحي المهم في الإنسان، فالإنسان ليس مادة فقط بل هو روح كذلك، فالصوم يعزز هذا الجانب فيجعله في الملكوت العلوي قريباً من مرتبة الملائكة وصدق من قال:
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على الروح وإستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
3- إن الصوم يعلم الإخلاص لصاحبه فهو شهر الإخلاص، لأن الصائم يمكنه أن يفطر خفية عن الناس ولكنه يمنعه إخلاصه لله تعالى، والصوم يعلم الصبر، والصبر بمنزلة الرأس من الجسد، فهو قاعدة التكاليف ولولا الصبر ما شرع الصوم ولا شرع الجهاد في سبيل الله، ولهذا أجر الصابر والصائم بغير حساب قال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
4- إن الصوم جاء ليكسر الشهوة الجنسية التي هي أخطر الغرائز في الإنسان إذا لم تنظّم وفق الفطرة الإسلامية، فإن هذه الغريزة هدمت أمماً بأكملها وتهدم آخرين، واسألوا التاريخ واعتبروا يا أولي الأبصار.
ونحن نتعجب كل العجب فالإسلام جاء ينظم هذه الغريزة ويهذبها ويضع لها حدوداً، أما هذه الحضارة الغربية الساقطة فأعطتها كل الحرية وقدستها بحجة أن الإنسان خلق حراً. لابد أن يستجيب لكل غريزة فيه استجابة بيولوجية، وصدق رسول الله إذ قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض البصر وأحصن الفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [رواه البخاري ومسلم].
5- وللصوم ثمرة اجتماعية هي التكافل والشعور بالوحدة لأن الصوم يسوي بين الحاكم والمحكوم والغنى والفقر والقوي والضعيف في الشعور بأنهم على صفة واحدة توجب عليهم التعاون على الخير.
6- إن من أعظم فوائد الصوم تقوى الله تعالى، فله تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة من الآثام.
لكن أيها المسلمون هل حققنا هذه الفوائد في نفوسنا وأسرنا ومجتمعنا في رمضان وما بعد رمضان؟ أم نافقنا وصرنا أصحاب مناسبات ورسوم وحفلات؟ فهناك صائمون ولكن يقلدون أهل الكتاب في أعيادهم والله عزم علينا ألا نتشبه بهم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [رواه أحمد]. وهناك صائمون ولكن يلعبون القمار وينظرون إلى ما حرّم الله، وصائمون ولكن يغتابون الناس ويشعلون الفتن، وصائمون ولكن يغشون في البيع ولا ينصحون في وظائفهم ويأكلون الربا والرشوة، وصائمون ويقضون ليلهم باللهو والغناء الفاحش وبالنهار نائمون.
والحق يقال، إن صيام رمضان مدرسة متميزة يفتحها الإسلام كل عام للتربية العملية ليعلم الناس القيم وأرفع المعاني، فمن اغتنم الفرصة وصام كما أمر الله وشرع فقد نجح في الامتحان، ومن تكاسل وخالف فهو الخاسر ولا يضر الله شيئا، وصدق رسول الله حيث قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [البخاري].
وقال عمر بن الخطاب : ليس الصوم من الشراب والطعام وحده ولكنه من الكذب والباطل واللغو.
وقال جابر بن عبد الله : (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمأتم، ودع أذى الخادم وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك ولا تجعل يوم فطرك ويوم صومك سواء).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1174)
محبة الله تعالى أصل كل عمل صالح
الإيمان
خصال الإيمان
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحبة محبتان: محمودة ومذمومة. 2- حب الله أعلى مقامات. 3- معنى حب الله.
4- دعوى جميع الناس حب الله. 5- علامات حب الله. 6- ما يجلب محبة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين: يقول ربكم: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله.
فهذه آية صريحة وبيّنه في أن المحبة قسمان: محبة محمودة وهي محبة الله، وكل ما يحبه الله والقسم الثاني: محبة مذمومة، وهي المحبة الشركية، وهي محبة غير الله أو محبة محبوب آخر مع الله.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوق يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم وهذه الآية عظيمة الشأن عزيزة القدر يقول ابن كثير فيها: يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإنه يستبدل به من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
وعن أنس عن النبي قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) [رواه البخاري].
اعلموا يرحمكم الله أن محبة الله هي الغاية القصوى من مقامات الإيمان، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها، فحب الله تعالى أصل كل عمل في الدنيا وأصل كل جزاء في الآخرة، فمن فاته حب الله تعالى فاته كل خير، لأن أصل هذا الوجود وأصل هذا الخلق هو الله تعالى وحده لا شريك له، خالق هذا الوجود، فمن أحب غير الله فقد أحب الفرع وترك الأصل، فدل على نقصان عقله وضلاله. وحبه الوالدين والأبناء والأزواج والإخوان والوطن والمال إنما هي تابعة لمحبة الله، فإن عارضت محبة الله أو شاركت فهي محبة مذمومة.
ما معنى محبة الله: هي معرفته تعالى، فمن لم يعرف الله لا يحبه ومن جهل شيئا عاداه قال الإمام ابن القيم: ف"من كان يؤمن بالله وأسمائه وصفاته وكان به أعرف كان له أحب وكانت لذّته بالوصول إليه ومجاورته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه أتم...، فكمال العبد بحسب هاتين القوتين: العلم والحب، وأفضل العلم.
العلم بالله وأعلى الحب الحث له وأكمل اللذة بحسبهما"أهـ.
ومعرفة الله تتمثل في الإيمان بوحدانية، وأنه لا شريك له في ربوبيته وألوهيته ولا شيء مثله في أسمائه وصفاته وأفعاله قال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله وقال: إنما يخشى الله من عباده العلماء والخشية هي ثمرة المحبة، فلما تعرف العلماء على ربهم ومحبوبهم أحبوه، فخشعوا له وأنابوا إليه.
وانما يحب العبد ربه لأنه ينعم عليه بالنعم ويحسن إليه، قال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفّار وقال: وما بكم من نعمة فمن الله والعبد مفطور على محبة من يحسن إليه، وصدق من قال:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فلطالما استعبد الإنسان إحسان
فالله هو الذي خلقنا ورزقنا ويطعمنا ويسقينا، وهو الذي يميتنا ويحيينا، بل كل حركة وسكون فمنه عز وجل قال تعالى: الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون.
معاشر المسلمين: إن محبة الله يدعّيها كل الناس حتى الكافر فيقول أحدهم: أنا أحب الله وهو كاذب، فما أسهل الدعوى وأعز المعنى، فلا ينبغي أن يفتن الإنسان بتلبيس إبليس وخداع النفس الأمارة بالسوء إذا ادعت محبة الله ما لم يمتحنها بعلامات ويطالبها بالبراهين، فنحن نرى ونبصر أن من أحب المال جمعه وتعب من أجله، ومن أحب العلم طلبه ومن أحب الجاه والرئاسة أفنى عمره فيها وما يملك، وقد ذم الله أقواماً قبلنا ادعوا حب الله كذباً وبهتاناً وهم اليهود والنصارى قال تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق.
فلو كانوا حقاً أحباءه ما عذّبهم والقاعدة تقول الحبيب لا يعذّب حبيبه، ومسلمو هذا الزمان يدعون حب الله، ولا يصلون ولا يزكون، ويقدمون الأهواء الباطلة على الشرائع الطيبة، ويعصون الله بأنواع المعاصي ويؤذون إخوانهم بأنواع الأذى ثم يقولون: نحب الله ورسوله، فما هي إذن علامات حب الله حتى يميز الله الخبيث من الطيب قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
1- فأول العلامات التذلل للمؤمنين، فيجب على المسلم أن يكون رحيماً بإخوانه ناصحاً لهم موالياً مستغفراً لأحيائهم وأمواتهم.
2- العزة على الكافرين، وبغضهم والبراءة منهم كما قال تعالى: أشداء على الكفار رحماء بينهم.
3- أن يكون مجاهداً في سبيل الله بالنفس والمال واللسان والقلب.
4- ألا تأخذه في ذلك لومة لائم مهما كان فالله حسيبه.
5- ومن العلامات طاعته فيما أمر ونهى قل تعالى: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين.
قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين. فهذا وعيد من الله لمن قدّم محبة هذه المحاب الثمانية، الأهل والمال والعشرة والتجارة والمساكن فمن آثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله كالجهاد والهجرة ونحو ذلك فهو في خسران مبين.
وانظروا وقارنوا أيها المسلمون حالنا مع حال سلفنا الصالح الذين قدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله مع ما لقوا من البلاء والضرر وقابلوا ذلك بالصبر، ولهذا قال الله في حقهم أولئك هم الصادقون أما نحن فالله المستعان.
ومن علامات حب الله: أن يطاع فلا يعصي، فمن عصى الله تعالى لم يحبه وصدق الله إذ قال: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين. وقال قائلهم:
تعصي الإله وتزعم حبه هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
ومن العلامات: كثرة ذكره بالقلب واللسان، وأعظم الذكر الصلاة والقرآن والتوبة والاستغفار لأن من أكثر الذكر ورثه حب الله.
ومن العلامات: حب لقاء الله والنظر لوجهه قال تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ومن العلامات: بغض ما يبغضه الله قال تعالى: إن الله لا يحب كل مختال فخور وقال: إنه لا يحب الظالمين وقال: والله لا يحب الفساد ، إنه لا يحب المسرفين ، إنه لا يحب الكافرين ، والله لا يحب اليهود والنصارى والمنافقين، فالواجب على المسلم أن يبغض الكفار لأن الله يبغضهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وقد كان بعض السلف يغض بصره عن الكافر إذا لقيه، لأن الكافر ظالم.
ومن أعظم علامات حب الله: محبة رسوله واتباع سنته والتمسك بها ومحاربة كل بدعة تخالف طريقته، فمن ادعى محبة الله وهو يخالف رسوله فهو كاذب في دعواه، قال الحسن البصري: ادعي قوم محبة الله، فأنزل الله آية الاختبار: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.
وثمرة اتباع الرسول هي محبة الله للمتبع وغفران ذنوبه، ومحبة رسول الله واتباع سنته فرض على كل مسلم. قال : ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس جميعاً)) [رواه البخاري].
وقد ظهرت طائفة في هذا الزمان زاغت عن الحق يسمون أنفسهم بالقرآنيين لا يؤمنون بالسنة مطلقا ونحن نحاججهم فنقول لهم: إذاً كيف تصلون وكيف تصومون وتزكون وتحجون وتبيعون وتنكحون، وكل هذه الأعمال وغيرها كثير فصّلتها السنة النبوية المطهرة وصدق الله إذ قال: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.
معاشر المسلمين: إن لكل مطلوب أسبابا توصل إليه، فما هي الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى:
1- لابد من طلب العلم وسؤال العلماء، قال تعالى: لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ومن جهل شيئا عاداه.
2- قراءة القرآن وتدبره وتلاوتِهِ حق تلاوته والعمل به قال تعالى: وكذلك أنزلناه قرءاناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً.
3- التقرب إلى الله بالنوافل بعد إتقان الفرائض قال : ((يقول تعالى من عاد لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة أو فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)).
4- دوام الذكر على كل حال بالقلب واللسان والعمل قال: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ونحن نرى الإنسان إذا أكثر من ذكر شيء دل ذلك على محبته له، فما تلك بذكر أعظم موجود وهو الله جل في علاه.
5- إيثار ما يحبه الله من الأعمال على ما تحبه النفس.
6- التأمل في أسماء الله وصفاته فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.
7- التأمل في نعم الله على العبد، فهذا يدعو إلى محبة المنعم قال تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله.
8- قيام الليل والوقوف بين يديه في ثلث الليل الآخر فهو وقت النزول الإلهي قال تعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا مثل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون.
9- الابتعاد تماماً عن كل ما يحول بين القلب وبين الله، فإن القلب هو محل نظر الله قال : ((إن الله لا ينظر إلى أموالكم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [صحيح].
10- مجالسة الصالحين والعلماء والاقتداء بهم في الآداب.
وختاماً: تحقيق مقام العبودية والافتقار إلى الله في كل شيء.
لأن العبودية معناها كمال الذل لله مع كمال الحب له، والعبادة هي كل ما يحبه الله يرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة والدين كله عبادة والدين هو الإسلام، قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1175)
هل الحوادث الكونية عقوبات ربانية أم ظواهر طبيعية؟
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الآيات المرسلة من الله تخويف للعباد. 2-الذنوب سبب العقوبات والطاعات سبب الرحمات.
3- أول ذنب عصي الله به. 4- إهلاك الله للأمم التي عصت الأنبياء. 5- حالنا اليوم.
6- الكفار يقولون عن الكوارث الطبيعية. 7- خوف المصطفى من عذاب الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
معاشر المسلمين: يقول تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً قال ابن كثير، قال قتادة: (إن الله تعالى يخوف الناس بما يشاء من الآيات لعلهم يعتبرون، لعلهم يذكرون، لعلهم يرجعون) أهـ.
وقال تعالى بعد قصة قوم لوط: وما هي من الظالمين ببعيد ، قال ابن كثير، وما هذه النقمة ممّن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه، ولهذا قال أبو حنيفة وغيره: إن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة، وأفتى على بن أبي طالب بتحريق اللوطية، وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ومعنى الآية: قل للمشركين عبّاد القبور يسيروا في الأرض وينظروا في آثار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، فيعتبروا فإن للكفار مثلهم من العذاب العظيم.
وقال تعالى: فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور قال مجاهد: ولا يعاقب الله إلا الكفور.
وقال تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) [حديث حسن رواه الحاكم].
وقبل الغوص في هذا الموضوع لابد أن نقرّر قاعدة قرآنية قطعية وهي: أن الذنوب بأنواعها سبب رئيسي للعقوبات الربانية، كما أن الطاعات والحسنات سبب الرحمات وسنة الإلهية لا يعذب عباده الصالحين المتقين الملتزمين بدينه لأنهم أحبابه.
وإنما يعذّب أعداءه من الكفار والفجار، ولهذا رد الله على اليهود والنصارى لما زعموا بأنهم أحباب الله فكذبهم حيث قال تعالى: وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبابه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق.
اعلموا أيها المسلمون أن أول ذنب في هذا الكون هو عصيان إبليس لله تعالى حيث أمره أن يسجد لآدم فأتى، فطرده الله ولعنه ومسخه وغضب عليه بعد ما كان أقرب المقربين لله تعالى، وبعده ذنب أبوينا آدم وحواء، لقد أكلا من الشجرة وعصيا ربهم وأطاعا عدوهما وما زالت الذنوب تتوالى بعد هاذين الذنبين.
فهذا نوح أول رسول إلى الأرض، كان الناس على التوحيد فصاروا يعبدون الصور ويعبدون الأصنام والطواغيت، فبعث الله نوحاً يدعو للتوحيد قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ولكن عصت قوم نوح رسولها، فماذا كانت النتيجة الحتمية إنه عذاب الله الطوفان حيث قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون فأنجيناه وأصحاب السفينة.
وهذا هود بعثه الله إلى عاد الأولى وعاد الثانية فنهاهم عن عبادة غير الله تعالى فعصوه حيث قال تعالى: وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ولكن عصوا ربهم فجاءه العذاب قال تعالى: فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وقال عن عاد الثانية: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين.
وهذا صالح يدعو قومه إلى التوحيد ونبذ الشرك، فعصوه بل تحدوه فقالوا له: أخرج لنا ناقة صفتها كذا وكذا من هذه الصخور الصماء، فدعا الله فأخرج لهم الناقة، ولكن عصوه وقتلوا الناقة، فحق عليهم العذاب قال تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ولكن عصوه وتمردوا حيث قال تعالى: فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بعذاب الله إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين وفي آية أخرى: أخذتهم الصيحة.
وهذا شعيب كان قومه يعبدون الأصنام ويطففون في المكيال ويقطعون القبيل، فدعاهم شعيب إلى التوحيد فعصوه قال تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط لكن عصوه واستهزؤوا به فأخذهم عذاب يوم الظلة وأخذتهم الرجفة وهي الزلزلة، قال تعالى: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وقال: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
وهذا لوط يدعو قومه إلى التوحيد وكانوا قوماً يعبدون الأصنام ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، وكانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وأرادوا أن يعتدوا على ضيوف لوط وكانوا من الملائكة، حيث قال تعالى: ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر عصوا لوطاً فأنزل الله عليهم أشد العذاب لم يسبق أن عذب به قوماً مثلهم قال تعالى: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد فأهلك الله قرى اللوطية وقلبها عليهم ثم أمطرها بحجارة شديدة المفعول، أنزلها عليهم من السماء، وقد جاء في التفسير أنها أهلكت ديارهم وأرضهم إهلاكاً وصارت أثراً لا حياة فيها تغمرها المياه وهو ما يسمى الآن بالبحر الميت لانعدام الحياة الحيوانية فيه، وهذا من شؤم الفواحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصدق الله إذ قال: فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
معاشر المسلمين: إذا علمتم أن الذنوب تجلب عقاب الله. وعلمتم أن أكبر الذنوب هو الإعراض عن دين الله، والشرك به، وكذا إتيان الفواحش، والظلم، وأكل الربا والقتل، فإن ما تعيشه اليوم في هذا العالم المتقدم - زعموا - مليء بالذنوب والمخالفات الشرعية، فلابد علينا أن نعتبر كما أمرنا الله فقال: فاعتبروا يا أولي الأبصار والاعتبار هو القياس فنقيس حالنا بحال الأمم السابقة وننظر هل نحن في خير أم في شر؟ فأكبر الذنوب في العالم.
1- الإعراض عن دين الله ودين المرسلين، قال تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون.
2- انتشار الربا في جميع العالم وهو من أكبر الظلم، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله وقال : ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) [صحيح رواه الدارقطني].
3- الفواحش التي ملأت الدنيا فقد ذكرت الاحصائيات أن مليون زوج ذكر يوجد في العالم، كما ذكرت أن من بين كل أربعة مواليد في أوربا يوجد واحد غير شرعي.
وفي دولة السويد وحدها من بين كل أربعة مواليد يوجد اثنين غير شرعيين، وهذا سببه قلة الزواج وانتشار ظاهرة المساكنة والصداقة المحرمة.
كما انتشرت في أوربا ظاهرة الرقيق الأبيض وهو بيع أعراض النساء.
ومن المصائب المنتشرة في العالم تجارة المخدرات التي أصبحت من أكبر التجارات العالمية، وكذا انتشار ما يسمى بالجريمة المنظّمة وغيرها من الذنوب العالمية، فإذن هذه الذنوب الكبار هي بلا شك أوجبت لنا هذا العذاب الأليم المتصل في كثرة الزلازل والفيضانات، وكثرة الأعاصير والرياح التي تبلغ قوتها مائتين كيلومتر في الساعة (200كم/ساعة) وعلماء الغرب الطبيعيون يقولون إن هذه الظاهر الكونية لا تعدوا أن تكون حوادث طبيعية ولا علاقة لها بالغيب، فمرة يقولون: سبب هذه الظواهر هو اتساع ثقب الأوزون، ومرة يقولون: ارتفاع درجة حرارة الأرض، ومرة يقولون:تحرك طبقات الأرض وغيرها من الأسباب العلمية، فهذا الكلام فيه حق وباطل، فنقول إن الشرع والدين لا يخالف العلم الصحيح، فمثلاً ظاهرة الزلزال تدرس من حيث تحرك طبقات الأرض فنقول سبب الزلزال هو تحرك طبقات الأرض ولكن من خلق هذا السبب، فالجواب هو الله تعالى خالق الأسباب، والذي خلق السبب هو الذي أمر الأرض أن تتزلزل بقدرته وليست الطبيعة، وهذا الاعتقاد هو الذي كان عليه المسلمون وكان عليه النبي فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: كان رسول الله إذا عصفت الريح قال: ((اللهم إني اسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت له، وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت له)). وقالت عائشة: وإذا تخبلت السماء تغيّر لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال رسول الله : ((لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا )).
وفي صحيح البخاري قالت عائشة: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه قالت: يا رسول الله الناس إذا رأواه الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر. وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية فقال: ((يا عائشة ما يأمنني أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) ، وجاء في الحديث المتفق عليه قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره))، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)).
نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1176)
ما النصيحة وكيف تكون؟
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النصيحة فرض واجب. 2- فضل النصيحة. 3- معنى النصيحة. 4- الأنبياء أنصح الخلق
للخلق. 5- النصيحة الكاذبة. 6- معنى النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
معاشر المسلمين والمسلمات: قال تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
فالنصح من أعظم الخير وأجمل المعروف، ولذلك فإنه مأمور به وواجب على لسان الشارع الحكيم، واجب على الأمة كل بحسب طاقته، وواجب بالخصوص على العلماء المشهود لهم بالخير والعلم بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من أئمتنا أئمة الفقه والحديث قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، فمن لم ينصح لهذه الأمة، أمة محمد فالله تعالى وعده عذابا شديداً، وقال ابن كثير في الآية: "يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو الشر وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم" أهـ.
أيها المسلمون: إن أعظم حديث يبين معنى النصيحة وحد حدودها الشرعية هو حديث رسول الله الآتي بيانه: الذي يعتبر أعظم قاعدة من قواعد السياسة الشرعية والأخلاق الاجتماعية الرفيعة، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي قال: ((الدين النصيحة ثلاثاً قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [رواه مسلم].
أيها الإخوة: النصيحة خلق من أخلاق القرآن وهدي رشيد من هدي خير الأنام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وفضيلة من فضائل الإسلام العظيمة، فالمسلم دائماً وأبدا يحب النصح والخير لنفسه ولأمته، لأن المسلمين نفس واحدة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، قال تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.
ما هي النصيحة؟
قال الإمام الخطابي: هي كلمة جامعة معناها حيازة الخير للمنصوح له، وأصل النصح في لغة العرب تقول: نصحت العسل إذا خلّصته من الشمع، وتقول نصحت له المحبة إذا أخلصت له المحبة، فالنصيحة هي إرادة الخير بإخلاص للمنصوح له.
والنصيحة هي أعظم صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد كانوا أخلص الناس نصحاً لأقوامهم، يخوّفونهم من عذاب الله إن هم عصوه، ويبشرونهم بالجنات والرضوان إن هم أطاعوه، فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه: قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين 5 قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون وهذا هود عليه السلام يقول لقومه: قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ، وهذا النبي صالح عليه السلام يقول: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين.
وهذا شعيب عليه السلام يقول: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين. ولكن هل قبل هؤلاء الكفار نصيحة أنبيائهم لا والله، لقد استكبروا استكباراً وآذوا أنبياءهم، بل أكثر من ذلك استعجلوا عذاب الله من السماء سخرية بالأنبياء كما قال تعالى: ويستعجلونك بالعذاب ولو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينّهم بغتة وهم لا يشعرون.
معاشر المسلمين: وقد تكون النصيحة خدّاعة وكذّابة فلا يغرنك صاحبها، واعرف عدّوك تنجو منه، وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة عن النصيحة الكاذبة، فإخوة يوسف ادعوا النصيحة ليوسف وهم يريدون قتله، كما قال تعالى: قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون.
وأعظم مثال على النصيحة الخدّاعة ما حكاه الله تعالى عن عدوه إبليس اللعين الذي أقسم بعزة الله أن يغوي البشرية إلا المخلصين قال تعالى: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
فهاهو إبليس يقسم كاذباً مدعيا النصح لأبوينا آدم وحواء ليأكلا من الشجرة حتى يقعا في الإثم قال تعالى: وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين.
نعم، إنه إبليس عدو الإنسان يشوّه الحق في صفة الباطل، ويزين الباطل في صفة الحق، فيوقع أكثر البشر في المعاصي: فتراه يزين الخمر ويسميها بالمشروبات الروحية، والربا بالفوائد، والتبرج بالتحررية، والقمار بالألعاب الرياضية، والغناء الفاحش بالثقافة العالمية إلى آخره، وصدق الله إذ قال: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً.
فالحذر الحذر يا عباد الله من نصائح شياطين الإنس والجن قال : ((الدين النصيحة ثلاثاً)). فسمى الدين بالنصيحة، والدين هو الإسلام قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام الآية، فالإسلام هو النصيحة وكل مسلم لا ينصح لأمته فهو ناقص في إسلامه ودينه، قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين عامتهم)).
1- فالنصيحة لله تعالى: تكون بالإيمان به وإخلاص العبادة له وعدم الشرك به، ووصفه بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، وأنه لا إله إلا هو في ذاته وصفاته وأفعاله وعبادته، وتجنب معصيته والإقبال على طاعته وحبه والحب فيه والبغض فيه، والجهاد في سبيله والتحاكم لشريعته، قال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
2- والنصيحة لكتابه: تكون بالإيمان به وتعظيمه وتنزيهه تلاوته حق التلاوة والوقوف مع أوامره وعند نواهيه، وتدبر آياته والدعوة إليه، وعدم هجرانه والحكم به في كل أمر، والاعتقاد الجازم أنه كلام الله غير مخلوق.
قال الإمام الطحاوي: "وإن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله وحياً وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، وليس لمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر" أهـ.
فهل عظمنا كتاب الله أم هجرناه، فلا نقرؤه إلا على الأموات أو في الحفلات ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
3- والنصيحة لرسوله : قال الإمام القرطبي: "هي التصديق بنبوته والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه، وتوقيره ومحبته ومحبة آل بيته وإحياء سنته بعد موته ونشرها والدعاء إليها وإماتة كل بدعة تخالفها، فمن أحيا سنة فقد أمات بدعة ومن أحيا بدعة فقد أمات سنة، قال تعالى: وإن تطيعوه تهتدوا وقال أيضا: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أهـ.
معاشر المسلمين والمسلمات:
وتكون النصيحة لأئمة المسلمين: وهم الحكّام والقادة، فالواجب طاعتهم في طاعة الله لا في معصية الله، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وتذكيرهم بالحق والدعاء لهم بالخير، والصلاة خلفهم والجهاد تحت رايتهم، وإعانتهم على الحق، وعدم الخروج عليهم بالسيف وإن ظلموا، فإن الخروج فيه الفتنة الكبرى على الأمة قال الإمام الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة ولا نطيعهم في معصية، ولا نخرج عليهم بالسيف" أهـ.
وروى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان ، قال: قلت: ((يا رسول الله إنا كنا بِشرّ فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم، قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم، قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضُرب ظهرك، وأُخِذ مَالُك فاسمع وأطع)). ولا بد هنا أن نذكر كيف كان السلف الصالح ينصحون الحكّام وكيف كان الحكام يقبلون نصيحة العلماء.
دخل سليمان بن عبد الملك المدينة، فأقام بها ثلاثاً فقال: ما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب أصحاب رسول الله يحدثنا؟ فقيل له: هاهنا رجل يقال له أبو حازم، فبعث إليه، فجاء، فقال سليمان: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ فقال له أبو حازم: وأي جفاء رأيت مني؟ فقال له: أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتني؟ فقال: ما جرى بيني وبينك معرفة آتك عليها. قال: صدق الشيخ، يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمّرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، فقال: صدقت، يا أبا حازم فكيف القدوم على الله تعالى؟ قال: أما المحسن، فكالغائب يقدم على أهله فرحاً مسروراً، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه خائفاً محزوناً، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم؟ فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله فإنك تعلم مالك عند الله، قال: يا أبا حازم: وكيف أصيب تلك المعرفة من كتاب الله؟ قال: عند قوله: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ، قال: يا أبا حازم فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين، قال: يا أبا حازم: من أعقل الناس؟ قال: من تعلم الحكمة وعلّمها الناس، قال: فمن أحمق الناس؟ قال من حطّ نفسه في هوى رجل ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، قال: يا أبا حازم فما أنصح الدعاء؟ قال: دعاء المخبتين قال: فما أزكى الصدقة؟ قال: جهد المقلّ، قال: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أعفني من هذا، قال سليمان: نصيحة تلقيها، قال أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة المسلمين ولا اجماع من رأيهم فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قالوا؟ وما قيل لهم؟ فقال بعض جلسائهم: بئس ما قلت يا شيخ، فقال أبو حازم: كذبت إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينُنّه للناس ولا يكتمونه، قال: ياأبا حازم أدع لنا بخير فقال: اللهم إن كان سليمان وليّك فيسره للخير، وإن كان غير ذلك فخذ إلى الخير بناصيته. (أي اهده).
والنصيحة لعامة المسلمين (الأمة): قال الإمام النووي: "إرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكفّ الأذى عنهم، وتعليمهم ما يجهلونه من دينهم، وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم وجلبا لمنافع لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وترك غشهم وحسدهم، وأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك والذب عن أموالهم وأعراضهم بالقول والفعل، بل يصل إلى الأضرار بالنفس من أجل مصالحهم" والله تعالى أعلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1177)
عيد الفطر: التقوى ومحاسبة النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القرآن والتفسير
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأعياد في الإسلام عيدان. 2- تفسير سورة العصر. 3- الوصية بطاعة الله وطاعة رسوله. 4- الوصية بتقوى الله تعالى. 5- محاسبة النفس. 6- سبب هوان المسلمين. 7- الوصية
بالتوبة إلى الله. 8- أهمية الإخلاص والتفقه في الدين والمحافظة على الصلاة في المساجد ،
وأداء الزكاة وفضل الصدقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
معاشر المسلمين والمسلمات، إنه ليوم عيد حقاً شرعه الله لهذه الأمة المباركة رحمة بها وإظهاراً لدينها بين الأديان الباطلة والأرضية الزائفة. وتتمة لنعمه التي لا تحصى عليها، فلا بد علينا أن نعرف حق هذا العيد وحق هذا الدين، فلا ننقص فيه ولا نزيد، فقد كمل كما قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3]. وعن أنس قال: قدم رسول الله المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم الأضحى، ويوم الفطر)) [رواه أبو داود] [1].
فهذا اليوم معشر الإخوان يوم فرح ومرح ولعب، ويوم أكل وشرب، ولكن دون إسراف أو معصية أو بدعة، فالأعياد في الإسلام عيدان لا ثالث لهما: عيد الأضحى وعيد الفطر، وهناك عيد أسبوعي هو عيد الجمعة لقوله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه دخل الجنة وفيه أخرج منها)) [رواه مسلم] [2].
معاشر المسلمين: ما أحوجنا في هذا اليوم الأغرّ أن نتذاكر ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، فلا ندري لعجزنا عن معرفة الغيب هل نعيش إلى عيد آخر أم لا؟!
فإن الموت يأتي بغتة، قال تعالى: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر]. فقد أرشد الله في هذه السورة القصيرة العظيمة التي لو نزلت من السماء وحدها لكفت البشرية كل خير، فقد حصرت هذه السورة الربح في أربعة أمور: الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فمن حقق هذه المقامات والصفات فهو الرابح حقاً، فاستحق من ربه الكرامة والعزة والفوز المبين يوم القيامة، ومن خلا عن هذه الصفات استحق الخسران والهوان في الدارين.
فاتقوا الله عباد الله، وتخلقوا بأخلاق الرابحين، وتواصوا بها فيما بينكم، واحذروا صفات الخاسرين وأعمال المفسدين، وتعاونوا على تركها وتحذير الناس منها قال في الحديث الصحيح: ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [رواه مسلم] [3].
فمن أهم الأمور التي يجب التناصح فيها والتواصي بها تعظيم كتاب الله وسنة رسول الله والتمسك بهما، ودعوة الناس إلى ذلك في جميع الأحوال، لأنه لا سعادة للعباد كل العباد ولا هداية ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بتعظيم كتاب الله، القرآن الذي بأيدينا، وسنة رسول الله اعتقاداً وقولاً وعملاً، والاستقامة على ذلك والصبر عليه حتى الوفاة، لأن الله تعالى أمر عباده بطاعته وطاعة رسوله، وعلّق كل خير بذلك، وتهدد من عصى الله ورسوله بأنواع العذاب والخزي في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَ?حْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى? رَسُولِنَا ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [المائدة:92]. وقال: وَهَـ?ذَا كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ مُبَارَكٌ فَ?تَّبِعُوهُ وَ?تَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]. وقال: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. وقال: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14]. ففي هذه الآيات المحكمات الأمر بطاعة الله ورسوله والحث عن اتباع كتابه المبين، وتعليق الهداية والرحمة والعزة ودخول الجنة بطاعة الله ورسوله.
وتعليق الفتنة كل الفتنة والعذاب المهين بمعصية الله ورسوله، فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وبادروا إلى ما أمركم به، فهو الآمر وهو الناهي لا إله إلا هو، بادروا بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة تفوزوا بكل خير وتسلموا من كل شر في الدنيا والآخرة.
معاشر المسلمين، فإذا عرفتم هذا فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلانية والشدة والرخاء، فإنها وصية الله ووصية رسوله وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]. وكان النبي يقول في خطبته: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) [4].
والتقوى أيها الإخوة كلمة جامعة لكل خير، وحقيقتها أداء ما أوجب الله واجتناب ما حرمه الله بإخلاص له ومحبته، والرغبة في ثوابه والحذر من عقابه، قال عبد الله بن مسعود : (التقوى أن يطاع الله فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى) [5] ، وقال علي : (التقوى الإيمان بالجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل) [6]. وقد أمر الله تعالى عباده بالتقوى ووعدهم عليها تيسير الأمور، وتفريج الكروب، وتسهيل الرزق، وغفران الذنوب والفوز بالجنات قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ [الحج:1]. لماذا هو عظيم؟ الجواب: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ?لنَّاسَ سُكَـ?رَى? وَمَا هُم بِسُكَـ?رَى? وَلَـ?كِنَّ عَذَابَ ?للَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. وقال: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. وقال: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق:15]. وقال: وَ?لآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
معاشر المسلمين، راقبوا الله الرقيب، وبادروا إلى التقوى في جميع الأمور، واتقوا الله ما استطعتم، وحاسبوا أنفسكم عند جميع أقوالكم وأعمالكم ومعاملاتكم، فما كان من ذلك سائغاً في الشرع فلا بأس من تعاطيه، وما كان منها محظوراً في الشرع فاحذروه، وإن ترتب عليه طمع كثير، فإن ما عند الله خير وأبقى قال تعالى: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ [النحل:96]. ومن ترك شيئاً اتقاء الله عوضه الله خيراً عنه.
ومتى راقب العباد ربهم واتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه أعطاهم الله ما يترتب على التقوى من العزة والكرامة والفلاح والرزق الواسع والخروج من المضايق والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
ولا يخفى عليكم معاشر المسلمين أن ما أصاب هذه الأمة الإسلامية من كوارث وأزمات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية إنما سببه الوحيد الأوحد هو البعد عن الدين الذي ارتضاه الله لنا ديناً، فما لنا لا نرضى بما رضيه الله لنا، فبسبب هذا البعد قست قلوبنا فهي كالحجارة أو أشد قسوة، لا نعرف معروفاً ولا ننكر منكراً، زهدنا في الآخرة وهي الباقية، وأقبلنا على الدنيا وهي الفانية، انهمك الناس في الشهوات، ولو كان على حساب العبادات، وأقبلوا على اللهو المحرم، ولو في الأوقات المقدسة تشبهاً بأهل الكتاب من اليهود والنصارى.
معاشر المسلمين، تداركوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم فهو يحب التوابين، وتفقهوا في دينكم فهو أعظم الخير لكم، وبادروا إلى ما أوجب الله عليكم، واجتنبوا ما حرّم عليكم، لتفوزوا بالعزة والأمن والهداية والسعادة في الدنيا والآخرة وإياكم والانكباب على الدنيا وتفضيلها على الآخرة فإن ذلك من صفات الكفرة، وهو السبب في عذابهم الدنيوي والأخروي، قال تعالى في أعدائه الكفرة: إِنَّ هَـ?ؤُلاَء يُحِبُّونَ ?لْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27]. وقال تعالى ناصحاً فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـ?فِرُونَ [التوبة:55]. وقال: وَيَوْمَ يُعْرَضُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ?لنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـ?تِكُمْ فِى حَيَـ?تِكُمُ ?لدُّنْيَا وَ?سْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]. وصدق الله إذ قال: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأَنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
وأنتم - أيها المسلمون - لم تخلقوا للدنيا وإنما خلقتم للآخرة، وأمرتم بالتزود لها، وخير الزاد التقوى، ولكن خلقت الدنيا لكم طيبة لتعمروها بالعمل وتستعينوا بها على عبادة الله تعالى، قال تعالى: وَمَا خَلقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. فقبحاً وسخطاً لمن أعرض عن عبادة الله خالقه ومربيه واشتغل بشهواته.
معاشر المسلمين، ختاماً لا بد من إيراد نصائح لمن أراد الفوز والعبادة في الدنيا والآخرة:
1- الإخلاص لله تعالى وحده في جميع العبادات القلبية والقولية والعملية وإقامة التوحيد الذي هو رأس كل خير، والحذر كل الحذر من الشرك الذي هو رأس الظلم، وإقامة التوحيد ونبذ الشرك هو معنى شهادة: لا إله إلا الله.
2- التفقه في القرآن والسنة والتمسك بهما وفق فهم السلف الصالح؛ لأنهم خير الناس على الإطلاق قال : ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) [7] ، وسؤال أهل العلم المشهود لهم بالعلم والدين، وهذا واجب لقوله تعالى: فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وإياكم واتباع الهوى والصد عن سبيل الله قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [ص:26].
3- إقامة الصلوات الخمس والمحافظة عليها في المساجد، فإنها من أهم الواجبات وأعظمها بعد شهادة الإسلام، وهي عمود الدين والركن الركين، وهي أول شيء يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن تركها فهو على خطر عظيم.
4- العناية بالزكاة والحرص على أدائها، كما أوجب الله تعالى في الزكاة الأجر العظيم والتزكية الواسعة لصاحبه قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. والمسلم الصالح ينفق من ماله - غير الزكاة - في سبيل الله ليوسع على المسلمين ويشكر الله على نعمه، وعلى المسلم أن يعتقد اعتقاداً راسخاً أن المال مال الله أولاً وأخيراً، والإنسان مستخلف فيه فقط، لا يبخل به عن نفسه.
5- يجب على كل مسلم ذكر وأنثى أن يطيع الله ورسوله في كل ما أمر الله ورسوله، وأن يعظم حرمات الله فإنها من تقوى القلوب، وعلى المسلم التوبة وجوباً من المخالفات الشرعية، وعلى المسلم أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله تعالى يوم القيامة. فحاسبوا أيها المسلمون أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، ولوموا أنفسكم اليوم قبل الغد، قال تعالى في الحديث القدسي الصحيح: ((يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [رواه مسلم] [8].
[1] أبو داود في: الصلاة، باب: صلاة العيدين (1134)، والنسائي في: صلاة العيدين (1556)، وأحمد (3/103)، وأبو يعلى (6/439-3820)، والحاكم (1/434) من حديث أنس رضي الله عنه. قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط مسلم". وصححه المقدسي في المختارة (5/274-1908)، والألباني في مشكاة المصابيح (1439).
[2] صحيح مسلم كتاب: الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة (854) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (4/126)، والترمذي في: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (3676)، وأبو داود في: السنة، باب: في لزوم السنة (4607)، وابن ماجه في: المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42) والدارمي في: المقدمة، باب: اتباع السنة (95) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وكذا صححه ابن حبان (1/179-5)، والألباني في الإرواء (2455).
[5] أخرجه الطبري في تفسيره (7/65)، والحاكم في المستدرك (2/323)، وليس فيه: (ويشكر فلا يكفر). وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين".
[6] لم أقف عليه مع طول بحث.
[7] أخرجه البخاري في: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا شهد (2652)، ومسلم في: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم الذين يلونهم (2533) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم كتاب: البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1178)
المخدرات ونعمة العقل
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد القادر ابن رحال
غرداية
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم بني آدم. 2- نعمة العقل. 3- حفظ العقل من أعظم المقاصد الشرعية. 4- الحكمة
من تحريم الخمر والمخدرات. 5- الأدلة على تحريم المخدرات. 6- حكم المتاجرة في
المخدرات. 7- حكم شارب المخدرات. 8- أضرار المخدرات. 9- أعداء الإسلام يروّجون
المخدرات. 10- أسباب انتشار المخدرات. 11- كيف السبيل للقضاء على المخدرات؟.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
معاشر المسلمين: يقول ربكم تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً.
يقول الإمام ابن كثير: "كرّم فجعله يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به.."أهـ.
فمن تعاطى بارك الله فيكم هذه المخدرات المسكرات فقد لحق بأمة الحيوانات ولم يكرم نفسه التي كرّمها الله؟ وأعظم نعمة في الإنسان هي نعمة العقل، الذي جعله الشرع مناط التكليف، فلهذا فالمجنون غير مكلف، والعقل نور، به يفكر الإنسان ويخترع وينتج ما لا يقدر عليه الحيوان أبداً، وقد مدح الله أصحاب العقول والألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.
وذم في المقابل من طمس على عقله فلا يريد الإصلاح ولا الصلاح، حيث قال تعالى: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.
وقال كذلك: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور.
واعلموا رحمكم الله أن حفظ العقل من أعظم مقاصد الشرع الخمسة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب وقيل العرض ، فالشرع جاء لحظ العقل ونهى ومنع عن الإخلال به، بل رتب العقوبة على ذلك، فقد حرم الخمر وكل مسكر مفتر ويدخل فيه المخدرات، وعاقب من تعاطها بالجلد، وحكمة تحريمها هو ما فيها من المفاسد، ومنها ما ذكرها الله حيث قال: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتبنوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم والعداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون.
فبين الله مفاسد الخمر، فهي رجس أي خبيثة مستقذرة، وأنها من عمل الشيطان، وتوقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة وترك الصلاة، من أعظم المفاسد في الدين.
والمخدرات أشد خطراً، والعبرة بالمعنى لا بالمسميات فقد نهى النبي عن كل مسكر ومفتر، والمفتر هو ما يجعل الأعضاء تتخدر وترتخي، وهذه العلة موجودة في المخدرات.
أيها المسلمون: ربما قائل يقول إن المخدرات ليست حراماً، وليست خمراً، ولا يوجد دليل على تحريمها، فإذن ما هو حكم المخدرات؟
فالجواب:
1- قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر قال العلماء: الخمر سميت خمرا لأنها تخمر العقل وتستره وتغطيه، وتفسد إدراكه والعاقل من الناس يرى أن ما تحدثه المخدرات أشد وأشد مما تحدثه الخمر.
حتى قال أهل العلم: "إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع".
2- وقال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث والعاقل من الناس لابد أن يضع المخردات في صف الخبائث لا في صف الطيبات.
3- وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)) [رواه مسلم]. وقال : ((إن من الحنطة خمراً، ومن الشعير خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن التمر خمراً، ومن العسل خمراً، وأنا أنهى عن كل مسكر)) [رواه أبو داود].
وعن وابل الحضرمي أن طارق بن سويد سأل النبي عن الخمر يصنعها للدواء فقال: ((إنها ليست بدواء، ولكنها داء)) [رواه مسلم].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها الموجبة لسخط الله تعالى وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين، المعرّضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين الإنسان وعقله، وخلقه وطبعه وتغيب الأمزجة، حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وتورث مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر، ففيها من المفاسد، ما ليس في الخمر، فهي بالتحريم أولى، وقد أجمع المسلمون على أن السكر حرام، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.." أهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: "إن من قال إن الحشيشة لا تسكر وإنما هي مخدّر، مُكابر فإنها تحدث ما يحدثه الخمر من الطرب والنشوة".
أما حكم زراعتها والمتجارة فيها فهو حرام باتفاق العلماء، وكل ما أدى إلى حرام فهو حرام، وقال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. وقال : ((إن الله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) [رواه البخاري ومسلم].
وقال كذلك في الصحيح: ((إن الله إذا حرم ميتاًً حرّم ثمنه)) ولهذا فإن أموال تجارة المخدرات محرمة، وهي سحت والعياذ بالله.
وللعلم فقد وصل استهلاك الأمريكيين للمخدرات ما قيمته 150 مليار دولار. أما في العالم فقد وصل ما قيمته 300 مليار دولار، بل قد وصل الحد إلى أن دولا وحكومات تعتمد في اقتصادها على المخدرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، وهذا يدل على فساد كبير في العالم الحديث.
ما حكم شارب المخدرات:
حكمه حكمه شارب الخمر لا فرق، ثمانون جلدة على قول أبي حنيفة ومالك ورواية على أحمد، وأربعون جلدة على قول الشافعي.
أما حكم من يزرعها ويروجها فأمره أشد يرجع إلى اجتهاد الحاكم، وفق مقاصد الشريعة وهو ما يسمى بالتعزير، أما الحبس أو الجلد أو القتل.
ودليل هذا قوله في الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن: ((من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه)) ، قال الإمام ابن تيمية: والقتل عند أكثر العلماء منسوخ، وقيل: هو حكم ثابت، وقيل: يفعله الحاكم تعزيراً لمن كثر فساده)) أهـ.
ما هي أضرار المخدرات:
فهي تضر بالدين وتنسي ذكر الله وتضيع على صاحبها صلاته كما تذهب الحياء والغيرة والمروءة، وتساعد على اقتراف المحرمات من السرقة والفواحش والظلم والقتل وعقوق الوالدين وغير ذلك من الصغائر الواقعة في الدين كما أن هناك أضرار بدنية واجتماعية، فهي تفسد العقل وتقطع النسل، تولّد الجذام والبرص وتجلب الأمراض وتحرق الدم وتضيق النفس وتفتت الكبد وتضعف البصر وتجلب الهمْ والوسواس وتخبل العقل، وتورث الجنون وقلة الغيرة حتى يصير آكلها ديوثاً، وتفسد المزاج حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين، وإن لم يجن أصيب بنقص في عقله، والمخدرات تفكك الأسرة وتضيع الأموال وفقد صاحبها القدرة على العمل والدراسة، وتكلف الدولة مبالغ مهمة في محاربتها.
أيها المسلمون: إن أعداءنا في كل مكان يخططون ولا يسأمون في ترويج هذه الحشيشة كي يدمّروا هذه الطاقة المتجددة في الشباب، ولكن لابد أن نقول: إن العيب ليس في أعدائنا فالأعداء هم الأعداء، ولكن العيب في أنفسنا، وفي ضعف تديننا، وعدم تعاوننا على الخير، وهو من الأسباب الكبيرة في انتشار المخدرات.
ومن الأسباب كذلك:
1- ظهور الفقر والبطالة في المجتمع وخاصة بين الشباب.
2- انتشار الفساد الأخلاقي والغزو الثقافي والفكرية عن طريق وسائل الإعلام الفاسدة التي تتحكم فيها الأيادي اليهودية.
3- عدم إدراك الشباب أن من أعظم مخططات اليهود في العالم هو نشر المخدرات بكل أنواعها في أوساط المسلمين حتى يبقى المسلمون في آخر الأمم.
4- عدم مراقبة الأولياء لأبنائهم فإن الرفيق السوء يفسد الأولاد.
5- ضعف الحكومات في محاربته عصابات المخدرات وهو راجع إلى الضعف المالي أو الضعف التقني.
أيها المسلمون: إن من أهم الطرق في القضاء على هذه الآفة القاتلة هو تقوى الله تعالى والتوبة إلى الله والإنابة إليه، والرجوع إلى الكتاب والسنة ففيهما كل الخير، قال تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون والصلاة وكثرة الذكر ولزوم المساجد في أعظم وسائل التربية قال تعالى: وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم.
ويجب التعاون على محاربة المخدرات بكل وسيلة شرعية والتعاون مع الحكومات في ذلك لأن ضرر المخدرات عام فلابد من التعاون العام.
ولابد من إرشاد المجتمع بكل فئاته عن طريق وسائل الإعلام بأن المخدرات سم قاتل، ونحن نرى تقصيراً كثيراً في هذا الجانب الإعلامي.
ولابد من توفير فرص العمل والدراسة ومحاربة البطالة والفراغ في أوساط الشباب.
ولابد من تعريف الناس أن المخدرات من أعظم الذنوب وصاحبها ملعون، فعن أنس بن مالك قال: ((لعن النبي في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له)) [صحيح رواه أبو داود].
ومن أهم العلاجات هو نشر الفضائل بكل أنواعها بين الناس ومحاربة الرذائل بكل أنواعها فإن الحسنة تلد الحسنة، والسيئة تلد السيئة.
وختاماً فيا أيها الناس اتقوا الله واشكروه على نعمه، نعمة الدين ونعمة العقل، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، واعلموا أن الدنيا الغرارة هي أيام تنقضي، والدار الآخرة هي الحيوان لو كنتم تعلمون.
قال تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1179)
المنكرات أسباب العقوبات
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
مصطفى بن سعيد إيتيم
بني مسوس
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاعتبار بالآيات الكونية. 2- الحكمة من الكوارث الكونية. 3- ما يقوله المغفلون عن
الكوارث الكونية. 4- الله جل جلاله عزيز ذو انتقام. 5- المعاصي والمنكرات سبب العذاب
والعقوبات. 6- دعوة إلى التوبة. 7- التذكير بالموت. 8- العذاب إذا حلّ عمّ. 9- الاستمرار
في الدعوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس:
إن في المشاهدة والمعاينة لعبرة لمعتبرين، وذكرى للذاكرين، إن مشاهدة ومعاينة آيات الله الكونية العظيمة المخيفة لتغني عن وعظ الواعظين وتذكير المذكرين، ونصح الناصحين، إنها لأكبر زاجر، وأبلغ واعظ، وأفصح ناصح.
إن هذه الآيات الكونية العظيمة المهيلة رسول من رب العالمين، يحذّر الناس من غضب الله تعالى، وينذرهم بسخطه، إنها تنبيء بغضب الرب، وتنادي بسخطه، نسأل الله السلامة والعافية.
إن هذه الزلازل المخيفة التي تصيب بلادنا وديارنا من حين لآخر في هذه السنوات الأخيرة لتدعو كل مؤمن صادق في إيمانه أن يقف وقفة طويلة، يحاسب فيها نفسه، ويراجع فيها أعماله، ويدقق فيها النظر فيما بينه وبين الله تعالى، وفي الذين بينه وبين عباد الله تعالى.
ولا تحسبوا – يا عباد الله – أن هذه الفتن والزلازل، وهذه البلابل والقلاقل، لا تحسبوا أنها تقع سدى، ولا تظنوا أنها ظواهر طبيعية عاديّة كما يقوله المغفّلون المغرورون المخدوعون الذين لُبّس عليهم بظاهر من العلوم وهم عن الآخرة غافلون، الذين أمنوا مكر الله، وزعموا رضاه، ألم يسمعوا إلى قول الجبّار عز وجل: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ، أولم يسمعوا إلى قوله سبحانه: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير.
فلؤلئك الذين لُبّس عليهم وغرّر بهم نقول: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله وأسلموا له. ولا تنصبوا العداء والحرب بينكم وبين الله عز وجل.
فإن الله سبحانه عزيز ذو انتقام.
إنه سبحانه قوي عزيز.
إنه سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير.
إنه سبحانه شديد المحال.
إنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
إنه هو الرزاق ذو القوة المتين.
إنه سبحانه وتعالى: أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشّى فبأي آلاء ربك تتمارى.
هذا هو ربكم وإلهكم الذي تريدون أن تناصبوه العداء، وهو سبحانه أرحم بكم من الأم بولدها، فكم من حكمة منه لم تعها قلوبكم؟ وكم من موعظة منه عميت عنها أعينكم وصمّت آذانكم؟ وكم من نعمة منه لم تشكرها ألسنتكم ولا أفئدتكم؟ ألا فاعلموا أن الله لن يؤخّر عنكم العقوبة والعذاب، وقد عجِلتم إليه بالذنوب والمعاصي، أم تظنّون أن لكم براءةً في الزبر.
كيف يرضى الله على قوم جاهروا بالسوء والفجور، وتفاخروا بشرب المسكرات والخمور، وتنافسوا في التبرّج والسفور، والصادق المصدوق يقول: ((إن أمتي يشربون الخمر في آخر الزمان، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف، والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف)).
كيف يرضى الله على قوم تركوا سنّة نبيه، وسنة أمهات المؤمنين، واتبعوا سنن أعداء الدين، من اليهود والنصارى والمشركين، اتبعوها ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وحذو القذة بالقذة، حتى وجد في شباب المسلمين اليوم من يوفّر لحيته على صورة معيّنة، لا لأمر، إلا لأن فلاناً من المغنين أو الممثلين أو اللاعبين ممن لا خلاق لهم في الآخرة وفّرها على ذلك الشكل، فيا للهوان ويا للانهزام.
كيف يرضى الله على قوم إذا ذكرت الخرافات البالية قالوا: هذه ثقافة شعبنا، وإذا ذكرت العادات الفاسدة قالوا: هذه تقاليد مجتمعنا، وإذا ذكرت الأفكار الوافدة قالوا: هذه تحضّر وتقدّم أسيادنا، يعظمون التقاليد وإن كانت شركاً، والعادات وإن كانت فسقاً، وما عليه الكفار وإن كان جهلا وسخفاً.
وأما إذا تعلّق الأمر بالشعائر الدينية الشرعية، والسنن النبوية السنية، سلّوا سيوف الجدال واللجاج، وأطلقوا الألسنة الحداد، فقالوا: دعونا من التشدد والتنطح، وذرونا نساير ركب التقدّم والتحضّر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا الله وتوبوا إليه، أنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون.
شباب الإسلام: ارجعوا إلى ربكم، واعتصموا بحبله المتين، وتوبوا إليه توبة نصوحا، فإن أبواب التوبة مفتوحة، وإن الله يفرح بتوبة عبده، وعودته إلى طاعته، خاطبوا عقولكم، انظروا في أمركم، تفكروا في مآلكم، فكمن من شباب مات وهو طري؟ وكم من شاب باغته الموت في شبابه، فذهب إلى ربه بلا زاد ولا متاع، أسأل الله لي ولكم العافية.
فاعتبروا يا أولي الأبصار، اعتبروا يا أولي الألباب، ومن لم يتّعظ بالموت فلا واعظ له، واعلموا أن الدنيا دار بلاء وفناء، وأن الآخرة دار جزاء وبقاء، وأن الله تعالى لن يجمع لعبد أمنين ولا خوفين، فمن خافه في الدنيا أمّنه في الآخرة، ومن أمنه في الدنيا أخافه في الآخرة نسأل الله تعالى الأمن التام والهداية.
عباد الله: ارجعوا إلى دينكم، تعرّفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، اصدقوا الله يصدقكم، واذكروه يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأدّوا إليه حقّه يوفّيكم حقكم فإن الله أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأجود الأجودين.
ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ، أو لم تسمعوا إلى خبر الله عز وجل: والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون. ومن أصدق من الله حديثاً.
واعلموا يا عباد الله: أن عذاب الله إذا حلّ بقوم عمّهم فهو لا يصيب ناساً دون آخرين، قال : ((إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)).
وسألته عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا ظهر الخبث)).
فيا أيها الآباء، ويا أيتها الأمهات، ويا من له سلطان على غيره، مروا أبناءكم وبناتكم، وإخوانكم، وأخواتكم، وأصدقائكم وصديقاتكم، مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصيته مروهم بالصلاة، لا أقول: مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وإنما أقول: مروهم بالصلاة فقد آن الأوان.
أما أنتم أيها الدعاة إلى الله، أيها الشباب الملتزم بدين الله، أيها المرشدون، أيها المصلحون، أيها المربّون لا تقنطوا من رحمة الله، لا يحملنكم انتشار الفساد على ترك الدعوة والنصح والإصلاح، ادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تيأسوا، وأحسنوا الظن بالله، فإنه ناصر دينه ولو كره المشركون، اجتهدوا في جبر ما انكسر، وتقويه ما ضعف، وإصلاح ما فسد من عقائد الناس وعباداتهم وأخلاقهم وعاداتهم، فإن ذلك من أحسن الأقوال وأفضل الأعمال، ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم.
(1/1180)
إفشاء السلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
رضا عبد السلامي
ابن عكنون
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السلام أول ما بدأ به النبي في المدينة. 2- معنى إفشاء السلام. 3- السلام حق من حقوق
الأخوّة. 4- السلام أمر الله به ورسوله. 5- الإسلام من خير الإسلام. 6- السلام سبب المحبة،
وطريق الجنة ، وتحية أهل الجنة. 7- السلام من أسباب المغفرة. 8- السلام اسم من أسماء الله
تعالى. 9- حسد اليهود للمسلمين على السلام. 10- آداب السلام. 11- الإسلام سبيل بناء
المجتمع المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: لقد كتب الله عز وجل على نبيه الهجرة من مكة إلى المدينة حفظا له من بطش الكافرين، فلما قدم النبي المدينة كان أول شيء قاله للناس ما حدث به عبد الله ابن سلام قال:
لما قدم النبي المدينة انجفل الناس قِبله، وقيل: قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله، قد قدم رسول الله. فجئت في الناس لأنظر، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: ((يا أيها الناس أفشوا بالسلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).
فانظروا يا عباد الله، كيف أن النبي أصل وأسس وبنى ذلك المجتمع الذي كان يصبوا إليه على التقوى والألفة والمحبّة.
فوجّه عليه الصلاة والسلام نداء إلى جميع الناس، وخاطبهم بكلام جامع مفهوم، يفهمه الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والعالم والجاهل، وهكذا كان هديه يخاطب الناس بما يفقهونه وبما يفهمونه، كلامٌ قليل يحمل معاني كثيرة، وكذلك ينبغي للشيوخ المدرّسين والأئمة الخطباء أن يكونوا، فكما أن النبي رسول إلى جميع الناس، فكذلك يجب على الإمام أن يكون إماما لجميع لجميع الناس.
قال عبد الله بن سلام : لما قدم النبي المدينة انجفل الناس قِبله، أي خرجوا ونفروا إليه قبل مجيئه لانتظاره، فلما أن أشرف على المدينة صاح الناس فرحاً: قدم رسول الله، قدم رسول الله، قدم رسول الله. قال عبد الله: فجئت في الناس لأنظر فلما تبيّنت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
الله أكبر، ما أصدق فراسته، يقول هذا وهو لما يٌسلم.
يقول هذا الكلام بمجرّد أن رأى وجهه الأبهر وجبينه الأنور، رأى فيه الصدق باديا، والتواضع ظاهرا، والزهد مرتسِما، ورأى غير ذلك من الأخلاق الفاضلة والآداب الكريمة التي لا تكون إلا في الصادقين.
ثم قال : فكان أول شيء سمعته تكلم به أن قال: ((يا أيها الناس أفشوا السلام)).
أمرنا في هذا الحديث بأمر عظيم، ولعظمته بدأ به، ولأهميته بادر إليه، ألا وهو إفشاء السلام.
إفشاء السلام يا عباد الله هو أن يسلّم على أخيه المسلم إذا لقيه، وأن تسلم المسلمة إذا لقيتها: وما أجمل السلام إذا حُلّي بابتسامة، وزين بطلاقة وجه، وكمّل بالمصافحة، وقارن ذلك كله الإخلاص لوجه الله تعالى.
السلام أيها المسلمون، حق من حقوق المسلم على أخيه فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((حق المسلم على المسلم ست – وذكر منها – إذا لقيته فسلّم عليه)).
السلام أيها المسلمون: أمر الله ورسوله به قال الله تعالى: فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم ، وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله بسبع وذكر إفشاء السلام.
السلام أيها المسلمون: من خير الأعمال عند الله، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سأل رجل رسول الله فقال: أي الإسلام خير؟ فقال: ((تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)).
السلام عباد الله من أعظم أسباب الألفة والمحبة، وهو طريق إلى الجنة، وهو تحية أهل الجنة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)) ، وقال الله تعالى: تحيتهم يوم يلقونه سلام.
السلام أيها المسلمون من أسباب مغفرة الله عز وجل.
عن هانيء بن يزيد قال: قال رسول الله : ((إن موجبات المغفرة بذل السلام، وحسن الكلام)).
_________
الخطبة الثانية
_________
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضع في الأرض، فأفشوا السلام بينكم)).
فيا له من مغنم وفير، وخير جمّ كثير أن يذكر المسلم اسم الله تعلى وأن يذكّر به الناس، فيذكرهم بالله تعالى الذي بذكره تطمئن القلوب وتنشرح الصدور، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض، فأفشوا بينكم فإن الرجل المسلم إذا مرّ بقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب)).
فلتفخروا أيها المسلمون بهذه الشعيرة العظيمة، ولتعتزوا بها، فإن اليهود يحسدونكم عليها عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إن اليهود ليحسدونكم على السلام والتأمين)) وفي رواية: ((ما حسدكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين)).
واعلموا يا عباد الله أن للسلام آداباً.
منها أنه ينبغي أن يكون هو أول ما يبدأ به، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله : ((السلام قبل السؤال، فمن بدأكم بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه)). وقال: ((من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)).
ومنها ما حدث به أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير)) فإذا كانا متقاربين في السن فالذي يسبق الآخر بالسلام أكثرهما أجراً، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((إن أولى الناس بالله من بدأكم بالسلام)) وقد كان لتواضعه ورحمته ورأفته إذا مرّ بالصبيان يسلّم عليهم.
ومن آداب الإسلام إتباعه بالمصافحة، فعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله : ((ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه، ويأخذ بيده، لا يأخذ بيده إلا لله فلا يفترقان حتى يغفر لهما)).
ومن آداب السلام أن يكون بأحسن الألفاظ وأكملها: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ويكون الجواب كذلك بمثله أو بأحسن منه قال الله تعالى: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، أما التحية بصباح الخير ومساء الخير، فهذا لا بأس به إذا كان بعد السلام الشرعي.
وبعد عباد الله: فهذا أول ما بدأ به النبي عند قدومه المدينة، حث الناس على إفشاء السلام، وعلى الإحسان إلى الأنام، ليدلّنا على أهمية ذلك في بناء المجتمع المسلم المتماسك الذي لا تخترقه العواصف ولا تزلزله الفتن، وقد حقق ذلك في الواقع، فأسس مجتمعاً كان غرّة في التاريخ، ومضربا للأمثال. مجتمعاً تسوده الأخلاق الفاضلة والمحبة والألفة والإحسان والإيثار والبذل والعطاء. حتى قال أحد المستشرقين.
"لقد كانت تلك المرحلة الزمنية مرحلةً لا نظير لها في التاريخ، بل لم يعرف التاريخ مرحلة مثلها". والحق ما شهدت به الأعداء.
فكم هو جميل يا عباد الله، كم هو جميل أن نقتدي بخير خلق الله، نبي الله وصحابته الكرام، فنكون على قلب رجل الصادقين، الأخلاق الفاضلة النبيلة والخلال الحميدة.
ونتخلّى من النفاق والمداهنة، ونتطهّر من الغلّ والحسد والشحناء والبغضاء.
(1/1181)
أهمية تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
صدّوق الونّاس
برج الكيفان
الرحمة العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان انتشار الفساد في صور مُزيّنة. 2- الأبناء أمانة على أعناق الآباء. 3- قال تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا. 4- حاجة الأبناء إلى التربية الحسنة. 5- تدريب الصبيان على
الصلاة. 6- تدريب الصبيان على الصيام. 7- الرفق في تربية الأبناء. 8- مراقبة الأبناء
والنظر فيمن يصحبون. 9- أهمية التربية بالقدوة الحسنة. 10- التحذير من التناقض بين
الأقوال وبين الأفعال لدى الآباء.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد انتشر الفاسد والانحراف في أوساط المسلمين، انتشار النار في الهشيم، وملأ بيوتنا ومدارسنا وشوارعنا وأسواقنا، فأقبل أولادنا على الحرام، شأن البهائم والأنعام، فلا إيمان يردّهم، ولا عقل يردعهم، ولا قوة تمنعهم، بل جنّدت طاقات وقوى عظيمة، ووسائل خبيثة تدعو إلى الفساد وتزيّنه، تدعو إلى الكفر والإلحاد، والانحراف والشذوذ، والدعارة والمخدرات والخمور تحت أسماء كاذبة وشعارات جذابة، فيرى الشباب على شاشة التلفزيون النساء الكاسيات العاريات يرقصن ويغنين باسم الفن، ويرون الأفلام الجنسية في أقبح وأخبث الصور تحت غطاء الحب، ويرون الأفلام التي تعلّم القتل والإجرام، ويرون أيضاً الفكاهيات [التي تميت القلب] تحت غطاء الترفيه والتسلية، وهذه أدنى أضرارها تضييع الوقت وتضييع الصلاة والغفلة عن ذكر الله تعالى، وكفى بذلك ضرراً.
ومن هذه الوسائل التي تحث على الفساد وتصرف عن طاعة الله قاعات اللعب التي لا يخلو منها حيّ من الأحياء، فإنها تستقطب الصبيان والشباب، فيجتمعون فيها اجتماع الذباب على النجاسات، إلى غير ذلك من الوسائل المفسدة المدمّرة، فكان نتيجة ذلك ما نراه من فساد عريض وشرّ عظيم، ينبئ وينذر بمصائب عظيمة وأخطار جسيمة، لا قِبل لنا بها كالخسف والمسخ والقذف والفيضانات والأعاصير والمجاعات والأوبئة وتسليط الأعداء.
أيها الآباء: ما أعظم الأمانة والمسؤولية التي حمّلكم إيّاها الرب سبحانه وتعالى، وما أغلظ العقوبة التي تلحقكم إذا ضيّعتم هذه الأمانة وأهملتم هذا الواجب الكبير، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيّته، فالإمام راع، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعي في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع راع في مال سيّده، وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) [متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
فسوف تسألون أيها الآباء عن أولادكم، فأعدّوا لهذا السؤال الجواب، فالأولاد فتنة واختبار من الله تعالى لعباده ليرى من يتقي الله فيهم ومن يهملهم ويضيّعهم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. أي: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة.
قال علي في قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا : علّموا أهليكم الخير. [أخرجه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الترغيب].
وقال مجاهد رحمه الله قوا أنفسكم وأهليكم ناراً أوصوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدّبوهم. [أخرجه البخاري معلقا].
فعليكم أن تحفظوا وتنقذوا أنفسكم وأهليكم من النار بالعمل بطاعة الله وبدعوة الأهل إلى ذلك وبحملهم عليه تعليماً وتأديباً.
أرأيت أخي المسلم لو أن ناراً أوشكت أن تحرق بيتك وأهلك وولدك ماذا كنت تفعل. سوف تسعى حتما بكل جهد ووسيلة لإنقاذهم، فهلا بذلت قصارى جهدك ووسعك لإنقاذهم من نار الآخر؟
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لرجل: (أدّب ابنك، فإنك مسؤول عن ولدك ما علّمته وهو مسؤول عن برّك وطاعته لك).
فيجب على الوالدين الاعتناء بالأولاد وتربيتهم، فلا يقتصر على توفير المطالب الدنية من غذاء وكساء ودواء كما يفعل كثير من الآباء، بل حق الأولاد في التعليم والتربية على الأخلاق الفاضلة أعظم وأوكد من حاجتهم إلى غير ذلك.
فإذا صرخ الصبي من الجوع طلبا للطعام، فصراخ قلبه وعقله طلبا للأدب والعلم أشد وأعظم، ولكن أني يسمعه أو يُحسّ به الغافل الأصمّ.
وإذا أمر النبي بإزالة شعر المولود، وأخبر عنه أنه أذى فقال: ((أميطوا عنه الأذى)). فأذى الأخلاق الرذيلة والأفكار الرديئة أولى بالإماطة والإزالة.
علّموا أولادكم أصول الإيمان وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر.
وعلّموهم أركان الإسلام وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج إلى بيت الله الحرام.
علموهم الحياء والعفة والصدق وسائر الأخلاق الفاضلة، وجنبوهم الرذائل والفواحش وجميع المنكرات.
بيّنوا لهم الحق ومنافعه ومروهم به، وبيّنوا لهم الباطل ومضاره وحذّروهم منه.
قال النبي : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع نين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرّقوا بينهم في المضاجع)) ومعناه: إذا بلغ أولادكم سبعا فأمروهم بأداء الصلاة ليعتادوا عليها، ويأنسوا بها، فإذا بلغوا عشرا فاضربوهم على تركها.
فأمر النبي الآباء أن يعلموا أولادهم الصلاة، وما تحتاج إليه من شروط وأركان، وأن يأمروهم بفعلها بعد التعليم.
((وفرّقوا بينهم في المضاجع)) أي فرًقوا بين أولادكم في مضاجعهم التي ينامون فيها حذراً من غوائل الشهوة، وسدّا لباب الفاحشة.
وفي هذا تربية الأولاد على الصلاة، وتعويدهم عليها، وتربيتهم كذلك على الطهر والعفاف بإبعادهم عن الفواحش وأسبابها.
عن الرّبيّع بنت معوّذ رضي الله عنها قالت: أرسل النبي غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ((من أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم)) ، قالت: فكنّا نصومه بعد، ونصوّم صبياننا – زاد مسلم: ونذهب بهم إلى المسجد، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.
ففي الحديث مشروعية تمرين الصبيان على الصيام، وتعويدهم على صلاة الجماعة في المسجد. قال عمر للذي أفطر في رمضان موبّخا له: (كيف تفطر وصبياننا صيام؟).
وعن عكرمة رحمه الله قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يجعل الكبل في رجلي على تعليم القرآن والفقه. والكبل: هو القيد الضخم.
ثم ينبغي أن تكونوا حكماء في تعليم وتأديب أولادكم وأن تتحلّوا باللين والرحمة والشفقة بهم.
وعليكم أن تراقبوهم في حركاتهم وسكناتهم، في ذهابهم ورجوعهم، في أصحابهم وأخلائهم، فإنهم في مجتمع عظم فيه الفساد، وكثرت وتنوّعت وسائله وطرقه، وقلّ المعلمون والمربون الناصحون، فلا يؤمن عليهم في الشوارع، ولا في المدارس، ولا حتى في البيوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعليكم أن تستعينوا بالله، وتتضرعوا إليه وتدعوه بصدق وإلحاح أن يصلح أولادنا، قال الله تعلى في وصف عباد الرحمن والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرّياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا أيها الآباء أن التربية القدوة من أهم وأنجح طرق التربية، فقد غرز في فطرة الصبي الميل إلى الاقتداء بالكبار وتقليدهم.
فالطفل في سنواته الأولى يعتقد أن كل ما يفعله الكبار صحيح، وأن آباءهم أكمل الناس وأفضلهم، لهذا فهم يقلّدونهم ويقتدون بهم، فالطفل يأخذ عن أبيه أقواله، وأخلاقه، ومعاملاته مع الأقارب والجيران وعموم الناس دون أن يشعر الأب بذلك.
فعلى الآباء أن يربوا أولادهم بالتوجيهات القولية، وبالترجمة الواقعية لذلك، المتمثلة في السلوك الإسلامي الصحيح في جميع شؤون الحياة.
فإذا أمرنا أولادنا بشيء فلابد أن نسبق إليه، وإذا نهيناهم عن شيء فلنتركه قبل ذلك. وإذا وعدناهم بشيء فعلينا أن نفي به، فالأولاد يتأثرون بأفعالنا المشاهدة أكثر من تأثرهم بأقوالنا المجرّدة.
قال عبد الله بن مسعود : (لا يعدنّ الرجل صبيه شيئا ثم لا ينجزه له).
وقال أبو هريرة : (من قال لصبي تعال هاك تمرا ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة).
وقد ذم الله تعالى ومقت الذي يخالف أعمالهم أقوالهم فقال: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى قد كنت أمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وأتِيه)) [رواه مسلم].
بعض الآباء مثلا يدخنون أو يشاهدون الأفلام الخليعة، وينهون أولادهم عن ذلك.
ومن الآثار السلبية لهذا الصنيع أن يسقط هذا الأب من عين ابنه، وتزول تلك الهيبة وذلك التوقير، ومن ثم تصبح أوامر هذا الأب لا قيمة لها فلا يطاع فيها ولا يسمع لها.
يقول لابنه: لا تدخن فإنه مضرّ بالصحة، ثم هو يدخن يقول له: إذا رآه مهملا لدروسه مشتغلا باللهو واللعب: لا تضيع وقتك واحرص على الدراسة، ثم هو يضيع وقته ويقضيه في اللغو واللهو واللعب، وفي لعب الورق والدامة والدومينو [1] وغيرها، من الملاهي. ولا يحرص على ما ينفعه.
فاتقوا الله أيها الآباء، واحرصوا على أن تطابق أقوالكم أفعالكم حتى تتيسر لكم تربية أبناءكم التربية الصالحة الصحيحة. والحمد لله رب العالمين.
[1] الدومينو: هي لعبة الأحجار.
(1/1182)
كسوف الشمس
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
صدّوق الونّاس
برج الكيفان
الرحمة العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المؤمن إذا شاهد الكسوف. 2- حال الكافر تجاه حادثة الكسوف. 3- حال النبي حين كسفت الشمس. 4- طاعات مسنونة وقت الكسوف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: إن هذا الحدث الجلل وهو كسوف الشمس، يذكّرنا بقيام الساعة، اليوم كسفت الشمس واسودت على غير عادتها، وغداً تفاجئنا بالطلوع من مغربها، عن أبي موسى قال: خسفت الشمس فقام النبي فزعا نخشى أن يكون الساعة، فهو يخشى أن يكون الكسوف مقدّمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها. فلا يبعد أن تظهر بعد الكسوف علامات الساعة.
وتقع متتالية، بعضها إثر بعض، وقد قال الله تعالى: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب.
وتذكّرنا ظلمة الكسوف – يا عباد الله – بظلمة القبر. ولأجل ذلك أرشد النبي أصحابه في خطبة الكسوف أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر، فظلمة النهار بالكسوف تذكر بظلمة النهار بالقبر، نسأل الله تعالى أن ينوّر علينا قلوبنا وسائر المسلمين.
واعلموا – رحمكم الله – أن حقيقة الاتعاظ والادّكار هو في التمسك بما ينجي يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولهذا لما سئل النبي : متى قيام الساعة؟ قال: للسائل: ((وماذا أعددت لها)).
فينبغي أن تكون همّة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمّه في شغله، ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت النجّار ينظر إلى الأبواب والنوافذ والطاولات والدواليب، والبنّاء إلى الحيطان، والخياط إلى النسيج المخيط والستائر والفرش، وهكذا المؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر. واذا رأى شيئاً مؤلما ذكر العذاب والعقاب. وإذا سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإذا رأى الناس نياماً ذكر الموتى في القبور، وإذا رأى لذّة ذكر الجنة وما فيها من الحور والقصور، واللذات والسرور.
عباد الله: ليس هذا الكسوف عند الكفار وأتباعهم إلا ظاهرة طبيعية من جملة المظاهر، ومنظر من أروع وأجمل المناظر، خرج اليوم في أنحاء العالم كل كافر وفاجر، لرؤية هذا المشهد العظيم وكأنهم في نزهة الخاطر، ولم يعلموا أنهم بذلك قدر ركبوا المخاطر.
أما أهل الإسلام والإيمان فإنهم يعرفون أن هذا الكسوف آية من آيات الله الدالة على وحدانيته وانفراده بالخلق والتصوير، والتصرف والتدبير. وعلى عظم قدرته وشدّة سطوته، فخرجوا خائفين من ربهم، تائبين من ذنوبهم، قصدوا أفضل البقاع بيوت الله، والتجؤوا إليه فهو ملجؤهم ومولاهم، ومنجيهم وناصرهم.
وقد وقع الكسوف في عهد النبي فقام فزعاً مستعجلاً يجرّ رداءه حتى دخل المسجد.
أخرج أبو داود في سننه عن حذيفة بن اليمان قال: كان النبي إذا حزبه أمر – أي اشتد عليه وأهمّه – صلّى.
وهكذا المسلم دائماً يرجع إلى الله تعالى في حال الشدة، فإن لم يفعل فحتما لن يرجع إلى الله في حال الرخاء.
فإذا رأى المسلم من الآيات ما قد يسفر عن العقوبات، أو حلّ به بلاء، وضرب بسياط القضاء. استيقظ من نومته، وأفاق من غفلته، فرجع مسرعاً إلى ربه ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
نعم، خاف ورجع إلى الله تائباً منيباً حتى يرضى الرب، ويكشف الكرب، ويغفر الذنب فتراه يصلي ويدعو ويزكي، ويسبّح ويهلّل ويستغفر، ويتصدق ويعتق.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوّف بهما عباده)) [أخرجه البخاري]. وقال تعالى: وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً.
وعن أبي بكرة أيضاً قال: كنّا عند النبي فانكسفت الشمس فقام النبي يجر رداءه [وفي رواية مستعجلا] حتى دخل المسجد، فدخلنا فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس، فقال : ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، فإذا رأيتموهما فصلوا، وادعوا حتى يكشف ما بكم)) [أخرجه البخاري]. وفي حديث آخر: ((فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة)).
وعن أبي موسى الأشعري قال: خسفت الشمس فقام النبي فزعاً، يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قطّ يفعله، وقال: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعاءه واستغفاره.
وفي حديث آخر قال في خطبة الكسوف: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا وصلّوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)).
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: لقد أمر النبي بالعتاقة في كسوف الشمس، وإن تعذّرت العتاقة لانعدام الرقاب والعبيد، فإنه يقوم مقامها كلمة الإخلاص، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنه، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) [أخرجه البخاري].
عباد الله: كل ما ذكر من أنواع الطاعة يرجى من الله تعالى أن يدفع به ما يُخشى من أثر ذلك الكسوف.
لقد أمر النبي في خطبة الكسوف باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة والصدقة، وزجر عن المعاصي التي هي أسباب جلب البلاء، وخصّ منها الزنا، لأنه من أعظمها في ذلك، فإن من آثار غيرة الله تعالى السخط والانتقام من أهل الفساد والإجرام، قال : ((ولم تظهر الفاحشة في قوم قطّ حتى يعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأوباء التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).
فاتقوا الله يا عباد الله، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، وأكثروا من الدعاء بإخلاص وإيقان، وتصدقوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1183)
عباد الله هلمّوا إلى الحج
فقه
الحج والعمرة
صدّوق الونّاس
برج الكيفان
الرحمة العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس تجاه نداء الله بالحج. 2- ذمّ من لم يجب داعي الله مع قدرته. 3- التعجيل
بالحج. 4- العبرة بحجّ القلب. 5- منافع الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد دعا ربنا عباده إلى بيته الحرام، ليعطيهم ويكرمهم أعظم العطاء والكرم، وحق على المزور أن يكرم زواره وضيوفه.
فأجاب هذا النداء المهتدون السعداء أبى المعتدون الأشقياء، وآثروا القعود والبقاء، لكن لا جناح على أهل الأعذار، بل هم بمنزلة من حج وزار، وإن كانوا حبيسي الديار.
قال الله تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن ينادي في الناس بالحج ويدعوهم إليه.
فاستجاب المؤمنون الموحدون المخلصون الراغبون فيما عند الله وأقبلوا إلى بيت الله الحرام معبرين عن استجابتهم وإخلاصهم ولزومهم لطاعة الله بقولهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
انطلقوا إلى بيت الله مشاةً وراكبين من كل طريق بعيد، من كل الجهات والأقطار، فارقوا الأوطان والديار، وتركوا الشهوات والأوطار، وأنفقوا الدرهم والدينار، رجاء المغفرة والعتق من النار.
واعلموا عباد الله أن من لم يجب هذا النداء مع استطاعته – تهاوناً وتكاسلاً – فقد أتى ذنباً عظيما وأصاب جرماً كبيراً. ناهيك بمن تركه جحوداً وإنكاراً.
قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.
وقال عمر : (من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانياً).
ولا يجوز لمن استطاع الحج أن يزجّل، بل عليه أن يتعجل، فقد يجيئه بغتة الأجل.
قال النبي : ((من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتحرض الحاجة)).
وقال كذلك: ((تعجّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
وقال أيضا: ((التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)).
فيا من يسر الله عليه وأمده بالصحة والأموال اعجّل إلى الحج وبادر، واسع في الخير وثابر، قبل زيارة المقابر، فكأني بك قد سبق المجدّون وفازوا وأنت متأخر خاسر.
ولكن لا يتعجل إلى الحج إلا المؤمن الذي يريد مغفرة الله ورضاه، الذي استجاب لله تعالى وللرسول في المنشط والمكره، وفي الشدة والرخاء، ولم يكن عبداً للشهوات والأهواء.
فمن ترك صلاة الجماعة مثلا وهو يعلم وجوبها فإنه قطعاً لا يرغب في الحج.
إنه لم يجب النداء بالصلاة المكتوبة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، مع اليسر والسهولة، فكيف يجيب النداء بالحج مع ما فيه من جهدٍ ومشاق، وبذلٍ وإنفاق، وبعد وفراق.
وإذا حج مع ذلك فاعلم أنه لم يرد بحجه وجه الله، وإنما أراد حظوظ النفس من تجارة وجاه، فليس له حينئذ من حجه إلا ما نال من حظوظه، وهذا في كل العبادات فإن الله تعالى لا يقبل من الطاعات إلا ما كان خالصاً له سبحانه.
فكم من واصلٍ إلى بيت الله وقلبه منقطع من رب البيت، فالعبرة بسفر القلب إلى الرب، وأما أن يسافر بالبدن والقلب حبيس الشهوات فهذا بعدٌ وضلال وخسران.
واعلم أخي المسلم أنك إن أجبت هذا النداء والدعاء بالحج فإن الله تعالى يجيب دعاءك ونداءك ويقضي حاجتك ويكشف كربتك.
قال النبي : ((الحجّاج والعمّار وفد الله دعاءهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) فاستجب لله إن أردت إن أردت أن يستجيب لك، وإن أعرضت عنه سبحانه وتعالى أعرض عنك، وتخلّى عنك، وتركك فريسة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وحبيس الشهوات والوساوس، ومصب المصائب والمحن.
قال الله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، الذي هدانا للإسلام، وفرض علينا حج بيته الحرام، والصلاة والسلام على محد خير الأنام، وعلى آله وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان ما دامت الليالي والأيام.
عباد الله: ما أعظم المنافع والخيرات التي تنالها وتصيبها في الحج كما قال تعالى: ليشهدوا منافع لهم أي منافع الدنيا والآخرة، وأجلّها وأعظمها مغفرة الله تعالى ورضاه. فسارعوا إلى هذه الخيرات ولا تدعنّ شيئا يحول بينكم وبينها.
إن موسى عليه السلام ذهب مسرعاً مستعجلا إلى جبل الطور لسماع كلام الله طلباً لرضاه. قال الله تعالى حاكياً عنه، أي عن موسى: وعجلت إليك رب لترضى أي أعجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني.
فمن ترك الحج فإنه محروم من هذه الخيرات العظيمة وهذا هو الحرمان.
قال النبي : ((إن الله يقول: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسّعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليّ لمحروم)).
ومن ترك الحج فلم يحج ولو مرة واحدة في حياته، أفلا يكون أولى بالحرمان؟ بلى إنه لمحروم غاية الحرمان.
واعلم أخي الحاج أنك منذ خرجك من بيتك وأنت في خيرات عظام، حتى ترجع إلى أهلك طاهراً من الذنوب والآثام.
واسمع إلى هذا الحديث العظيم الذي ما سمعه مؤمن إلا لزمه الشوق إلى البيت الحرام، وانطلق متحمّلاً المشاق والآلام، حتى ينال رضى ذي الجلال والإكرام.
قال النبي لبعض أصحابه: ((أمّا خروجك من بيتك تؤمّ البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو عنك بها سيئة.
أما وقوفك بعرفة، فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثا غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبا غسلها الله عنك.
وأما حلقك رآسك، فإن الله بكل شعرة تسقط حسنة.
فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمّك)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
(1/1184)
لقد استعدّ رمضان للرحيل
فقه
الصوم
صدّوق الونّاس
برج الكيفان
الرحمة العتيق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بشرى لمن أحسن في هذا الشهر (شهر رمضان). 2- دعوة إلى التوبة لمن قصّر في هذا
الشهر. 3- ختم صيام رمضان بالاستغفار. 4- ختم صيام رمضان بعتق الرقاب. 5- التوحيد
والاستغفار سرّ النجاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الذين اتقوا وأحسنوا في هذا الشهر فصاموا عن الطعام والحرام، وقاموا بالليل والناس منهم نيام، ومنهم المكبّون على الشهوات كالأنعام، وهؤلاء الصالحون أطعموا الطعام، وألانوا الكلام، قد فازوا بالرحمة والإحسان، من الله ذي الجلال والإكرام، قال الله تعالى: إن رحمة الله قريب من المحسنين ، وقال: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ، وقال: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
لقد أعدّ الله لهم عظيم الأجر، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جزاء على إحسان العبادة للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، رزقنا الله وإياكم لذة النظر إلى وجهه لمنّه وكرمه.
أما نحن فقد أثقلتنا الأوزار، وارتكبنا الذنوب الكبار التي توجب النار، وكبلتنا خطايانا عن الطاعات، ودفعتنا إلى الزلات، وجلبت علينا الويلات، فماذا نصنع حتى نتدارك ما فات؟ ورمضان قد تهيّأ للرحيل فلم يبق منه إلا ليلة أو ليلتان.
علينا – يا عباد الله – بالاعتراف بذنوبنا، وبالتوبة الصادقة النصوح، وبالتوجه إلى الله تعالى بالدعاء بالمغفرة والعتق من النار.
فاغفر لنا يا ربّنا وأعتقنا من النار، ألم تقل يا ربّنا: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ألم تقل يا ربنا: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.
يا رب عبدك قد أتاك وقد أساء وقد هفا
يكفيه منك حياؤه من سوء ما قد أسلفا
حمل الذنوب على الذنوب الموبقات وأسرفا
وقد استجار بذيل عفوك من عقابك ملحفا
رب اعف وعافه فلأنت أولى من عفا
وأما من استغفر بلسانه وقلبهُ على المعصية معقود، وهو عازم بعد الشهر إلى المعاصي أن يعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود، كيف لا؟ وقد قابل نداء الله: ((يا عبادي..)) بالإعراض والصدود.
فكم بين من حظّه في رمضان القبول والغفران، ومن حظّه فيه الخيبة والخسران.
أيها المسلمون: إن الاستغفار هو ختام الأعمال كلّها. فيختم به في الصلاة كما في صحيح مسلم أن رسول الله كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا.
ويختم به في الحج، قال الله تعالى: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، بعد هذه الشعيرة العظيمة وهي الوقوف بعرفة والحج عرفة، ينطلق الحاج إلى مزدلفة وهو يستغفر الله تعالى.
ويختم به قيام الليل، يمدح الله تعالى عباده المتقين ويصفهم فيقول: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ، وقال تعالى كذلك في وصفهم: وبالأسحار هم يستغفرون.
قال الحسن رحمه الله: قاموا الليل إلى وقت السحر ثم جلسوا يستغفرون، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر.؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
ويختم به كذلك في المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع لها، وإن كانت لغوا كان كفّارة لها.
وكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.
فمن أحب منكم أن يحطّ الله عنه الأوزار، ويعتقه من النار، فليكثر من الاستغفار بالليل والنهار، لا سيما في وقت الأسحار.
ومما يستحسن ختم هذا الشهر به أيضاً عتق الرقاب.
فقد كان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجوا بعتقها العتق من النار.
وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي ابن الحسن قال: قال أبو هريرة : قال النبي : ((أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من اللنار)). قال سعيد من مرجانة: فانطلقت به إلى علي بن الحسين، فعمد علي بن الحسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار فأعتقه.
ومن فاته عتق الرقاق لانعدامها فليكثر من شهادة التوحيد فإنها تقوم مقام عتق الرقاب.
قال : ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشراص كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل)) [أخرجه البخاري].
وقال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلا أحدٌ عمِل أكثر من ذلك)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة].
واعلموا عباد الله أن الجمع بين شهادة التوحيد والاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والنجاة من النار، وكشف الكربات قضاء الحاجات. لهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك. وفي قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
فأكثر أخي المسلم من طاعة الله لا سيما من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأكثر من الاستغفار وغيرها من الأذكار والأعمال الصالحة قبل فوات هذه الفرصة العظيمة، فإنه إن لم يغفر لك في هذا الشهر فمتى يغفر لك؟
قال قتادة رحمه الله: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه.
غفر الله لنا ولكم في هذا الشهر العظيم. وجعلنا من عباده الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1185)
تمكين ذي القرنين: الحدث والعبرة
سيرة وتاريخ
القصص
سليمان بن حمد العودة
بريدة
28/2/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التمكين في الأرض مطلب للأقوياء والملوك وغيرهم
2- التمكين من غير إيمان يعني متعة وشهوات قد تنقلب في الدنيا قبل الآخرة إلى حسرات و
نكبات 3- ذو القرنين ملك عادل توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في نبوته
4- مسير ذي القرنين إلى مشرق الدنيا ومغربها 5- عدل ذي القرنين في الأمم التي ملكه الله
أمرها 6- بناء ذي القرنين للسد مع عدم أخذ الأجرة عليه
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأخوة المسلمون: وحيث سبق الحديث عن التوكل وآثاره، وعن صنف من غير المتوكلين وسلوكياتهم، فقد آن الأوان لعرض نموذج من المتوكلين على الله، أولئك الذين فهموا حقيقة التوكل على الله، وما عطلوا الأخذ بالأسباب المأذون بها شرعا، فأورثهم ذلك استقامة على الهدى وتمكينا في الأرض، ورضى الخالق، ومحبة الخلق، دون علو واستكبار، ودون ضعف ومسكنة واستجداء الآخرين، أو تعلق وركون إلى الكافرين.
تلك وربي هي حقيقة التمكين التي تستحق الإشادة والذكر، وسواها من أنواع الغلبة والرئاسة لا تعدو أن تكون تسلطا على رقاب الناس، وتحكما في مصالح الخلق ومعاشهم، وحجرا أبلها على أفكارهم ومعتقداتهم، لا تلبث أن تزول لأنها لا تملك مقومات الثبات، ولا تستخدم أسلوب الإقناع، أو تسمع للدليل، بل تقيس الأمور بمقياس السادة والعبيد!
هذا التمكين في الأرض مطلب يبحث عنه السادة والزعماء، ويظل يلهث في بيداء سرابه المغرمون بالكراسي، فتنقطع أنفاس الكثيرين منهم دون أن يحققوه، لأنه منحة إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله إلا من شاء من خلقه.
وغاية ما يمكن أن يحققه الكثير منهم رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، واقتيد الملوك الأباطرة، وأصبحوا في عداد العبيد المأسورين، وتضاءل الملك العريض من حوله، وكان نصيبه من الدنيا ملجأ ضيقا يستتر به إن لم يكن حظه سجنا مظلما يغيب فيه.
وإذا كان هذا جزاء وفاقا لمن تنكبوا عن صراط الله المستقيم، ونحوا شرع الله عن أرضه وخلقه، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، فتعالوا بنا لنقف على صورة أخرى من التمكين رضي الله عنها، وخلد القرآن ذكرها.
وكان ذو القرنين نموذجا لها : إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً [الكهف:84-85].
وذو القرنين من عباد الله الصالحين، ونتوقف في نبوته، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: ((وما أدرى أتبع نبي أم لا؟ وما أدري ذا القرنين كان نبيا أم لا (2) ))
لقد أعطاه الله ملكا عظيما فيه من أدوات التمكين والجنود مما لم يؤتاه الملوك، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمى بذي القرنين.
وليس يتم التمكين إلا بالعلم الذي يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدمار والهلاك، وبهذا فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدى وقتادة والضحاك قوله تعالى: وآتيناه من كل شيء سبباً يعني علما (3).
أجل، إن ذا القرنين مع توكله على الله، لم يتواكل ويغفل الأسباب المؤدية إلى تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف الخلق بالخالق، وتحطيم قوى الشرك وإذلال المشركين، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، مما هو في مكانة أمثاله من ملوك الأرض، ولم يصنع شيئا يستحيل أن يصنعه البشر، وما ينسج عنه في ذلك من الإسرائيليات والقدرات الخارقة للعادة، لا تستقيم مع النقد، ولهذا أنكر معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار، في حوار لطيف، حين قال له: أنت تقول أن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذاك فإن الله تعالى قال: وآتيناه من كل شيء سبباً.
ثم علق ابن كثير على هذه المحاورة بقوله: وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في الإنكار (4 ).
إخوة الإيمان: وحتى تعلموا طرفا من علم ذي القرنين وعدله ودستوره وسياسته في الملك في البلاد التى افتتحها في معنى قوله تعالى: حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في حين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً [الكهف:86-88].
قال أهل التفسير: إنه سلك طريقا حتى بلغ إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، حتى أبصر الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط في عين حمئة، قيل: ماء وطين أسود، وقيل: إنها حارة لمواجهتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وبه جمع العلماء بين مختلف الأقوال في العين الحمئة (2).
المهم أنه بلغ أمة من الأمم ، ذكر أنها كانت عظيمة من بنى آدم، وحين مكنه الله منهم، وحكمه فيهم، وأظفرهم بهم خيره، إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى، فعرف عدله وإيمانه حين قال: أما من ظلم أي استمر على كفره وشركه بربه فسوف نعذبه أي في الدنيا بنوع من العذاب ، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً أي في الآخرة، وفيه إثبات المعاد والجزاء فله جزاءً الحسنى في الدار الآخرة عند الله عز وجل وسنقول له من أمرنا يسراً أي قولا معروفا.
وهذه غاية العدل، وقمة العلم، وعلامة الهدى ودليل التمكين في الأرض دون جهل أو استعلاء، وتلك تجربة خاضها ذو القرنين، فما أفشى القتل جزافا، ولا استخدم البطش تجبرا وتسلطا.
ومن مغرب الأرض إلى مشرقها يصل ذو القرنين، ويمكن الله له في الأرض ويقهر الأمم، ويدعوهم إلى الله فإن هم أطاعوه وإلا أذلهم، وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم، واستخدم من كل أمة ما يستعين به – بعد الله – ومع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم، وهكذا جاب الأرض، طولها وعرضها، في مدة قال بنو إسرائيل: إنها بلغت ألفا وستمائة سنة، والله أعلم.
ولما انتهى إلى مطلع الشمس، وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترا، قيل: المعنى أنهم كانوا يسكنون سهولا شاسعة، ولا يوجد عندهم جبال تحجب عنهم الشمس، وقيل كانوا لا يملكون بيوتا أو أبنية تمنع عنهم أشعة الشمس وحرها، وقيل: ما كانوا يملكون شيئا يغطون به أجسادهم، وكانوا عراة فإذا أشرقت أصابتهم بأشعتها (1).
وإذا كان القرآن لم يقص علينا من أخباره معهم كما قص في أخبار من كانت الشمس تغرب عندهم، فلا شك أن المعاملة بالعدل والحسنى، والدعوة إلى الإيمان والهدى، منهج داوم عليه ذو القرنين في كل الممالك التى مر بها والقرى، استوجبت ذكره في القرآن، ورضي عنه الرحمن، وكان بذلك نموذجا صالحا للممكنين في الأرض..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
اللهم انفعنا بالقرآن، واملأ قلوبنا بالإيمان، ولا تجعلنا من أهل الشقوة والخسران.
(2) رواه الحاكم والبيهقي ، وصححه الألباني ( صحيح الجامع الصغير 5 / 121 ).
(3) تفسير ابن كثير 5 / 185 ، 186.
(4) تفسير ابن كثير 5 / 186.
(2) تفسير ابن كثير 5 / 188.
(1) مع قصص السابقين في القرآن / صلاح الخالدى / 333.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، مالك الملك يؤتى الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء بيده الخير، وهو على كل شىء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الخلق خلقه، والأمر أمره، وإليه المرجع والمآل وحده، كل شىء هالك إلا وجهه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أوحى إليه ربه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وتلك من دلائل نبوته، وصدق رسالته.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعل آله وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين... وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد إخوة الإسلام، فلم يكن تطواف ذي القرنين ينتهي عند حدود مغرب الأرض ومشرقها، بل هيأ الله له من الوسائل والإمكانيات، ما بلغه شمالها، وهناك وجد أمة لا يكادون يفقهون قولا: وذلك لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس (1).
وهى أمة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، واتكالية ترغب من الآخرين حل مشكلتها، ولذلك قالوا لذي القرنين: فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً [الكهف:94] (3)
وهذه الأمة تجاورها أمتان كثير عددها، ويستفحل خطرها، وتعيث فسادا فيما حولها، إنهما يأجوج ومأجوج الذين قال الله في وصفهم: وهم من كل حدب ينسلون [الأنبياء:96].
هما أمتان من سلالة آدم عليه السلام، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، وهما المكثرتان لبعث النار، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها فيقال: إن فيكم أمتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج (5) )).
لقد كان من رحمة الله لهذه الأمة أن وصلها ذو القرنين، وكان بناؤه السد برهانا آخر على تمكينه في الأرض، فكيف وقع ذلك كله؟
لقد بلغ ذو القرنين بين السدين، وهما جبلان متقابلان، بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على تلك البلاد، فيعيثون فيها فسادا، ويهلكون الحرث والنسل، ويقال إن هذه المنطقة الواقعة جنوبي جبال القوقاز، وهى المسماة الآن بأرمينيا وجورجيا وأذربيجان – والله أعلم (1).
فطلب القوم الذين يسكنون فيها من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدا، ويعطوه من المال ما يعينه على هذه المهمة... ولكن ذا القرنين، بعلمه وتمكين الله له، رد عليهم بقوله ما مكني فيه ربى خير يعنى: ما أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعون، وكذلك قال سليمان – عليه السلام - حين جاءته هدايا وأموال (بلقيس) صاحبة سبأ أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون [النمل :36].
وكذلك تلتقي كلمات الصالحين مع كلمات الأنبياء والمرسلين، عليهم السلام، وكلها الثقة بالله، والتوكل عليه وحده، والاستغناء بما عنده، وكذلك يظهر لك توكل ذي القرنين، واعتماده أساسا على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3].
ثم شرع ذو القرنين في بناء السد، وكان عملا جبارا، وتخطيطا رائعا، فهو أولا يطلب من هذه الأمة المشاركة بمجهودها العضلي، وما تملكه من آلات البناء، ثم يطلب قطع الحديد حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولا وعرضا قال: انفخوا: أي أججوا عليه النار، ولك أن تتخيل حجم وضخامة هذه النار التى يلزمها صهر هذه الأطنان من الحديد في هذا الممر الشاهق الارتفاع.
ولما كانت هذه المجموعة مشغولة بجمع قطع الحديد وصهرها، فهناك مجموعة أخرى تجمع النحاس، وتذيبه في القدور.
فلما تم صهر الحديد في الممر، وتم صهر النحاس في القدور – أو في أي مكان آخر – جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل بناء السد قال آتوني أفرغ عليه قطراً والقطر كما قال ابن عباس وغيره: النحاس المذاب، فأمرهم بصب النحاس المصهور المذاب على الحديد المصهور المذاب فتخلل النحاس وسط الحديد واختلطا وصارا معدنا واحدا قويا متينا ثم تركا حتى جمدا، فصار سدا منيعا عجيبا مدهشا.
وإذا أردت أن تعلم مرة أخرى علم ذي القرنين، وتدرك حجم تمكينه في الأرض، وتفقه معنى قوله تعالى إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً فاقرأ كتابا متخصصا في الصناعة الحديثة، وقف على ما انتهى إليه عالم اليوم بمصانعه الضخمة، وآلياته الجبارة، المتقدمة، وستدرك أن ذا القرنين، بما علمه الله سبق هذه الصناعة بقرون، وعلمه الله ما لم يعلمه غيره إلا بعد آلاف السنين.
يقول سيد قطب – رحمه الله – (وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إلى الحديد تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله (1) ).
وهكذا إخوة الإيمان، ينبغي أن تكون دعائم التمكين في الأرض توكلا على الله، ينفي الاعتماد على غيره، أو الاستعانة بما سواه.
قوة وتخطيط تأخذ بكل أسباب القوة الممكنة شرعا عقلا، فلا تدع مجالا للتواكل والتراخي، وإضاعة الفرص، وهدر الطاقات سدى.
وسياسة حازمة عادلة مع خلق الله، تسوسهم بشرع الله، تكافئ المحسن وتفرق بين المؤمنين والكافرين، وتكرم العلماء والصلحاء، وتأخذ على أيدي الفسقة والسفهاء، وتأطرهم على الحق أطرا.
إن الأرض أرض الله، وإن الخلق خلقه، والسموات مطويات بيمينه، وتعسا لمن يحارب الله وهو الذي أوجده ومكنه، ولن يفلح قوم نصبوا العداوة لشرعه، وعادوا أولياءه، وما أنكد عيش من كان همه صرف الناس عن العبودية الحقة لله، ومهما طال ليل الظالمين فالعاقبة في النهاية للمتقين، ولا يقدر التمكين حق قدره إلا المؤمنون، فبالحق يحكمون، وبالعدل يسوسون، ولا تغتر بالمستكبرين، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
(1) ابن كثير 5 / 192.
(3) الخالدي ، مع قصص السابقين / 338.
(5) انظر صحيح البخاري مع الفتح 8 / 441 في تفسير سورة الحج ، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان ، باب بعث النار.
(1) الخالدي / 337.
(1) في ظلال القرآن 4 / 2293.
(1/1186)
حقيقة الإيمان
الإيمان
حقيقة الإيمان
سليمان بن حمد العودة
بريدة
29/3/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية الأنبياء بالإيمان والثبات عليه 2- تفاوت إيمان الناس بالغيب
3- الإيمان منزلة لا يدركها بعض من يدعيها 4- العلاج لهذه الفاحشة
5- اختلاف أهل البدع في حقيقة الإيمان 6- خوف المؤمنين من الله وخوفهم من النفاق
7- ينبغي أن يظهر أثر الإيمان في سلوكنا
8- من الإيمان التحاكم إلى شرع الله ونبذ شرائع غيره
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: والإيمان هو الحقيقة الكبرى في هذا الوجود من أجلها خلق الله الخلق وبعث الأنبياء وأنزلت الكتب: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [الأنبياء:25].
والإيمان هو ميدان الصراع بين الحق والباطل، وأوذي وفتن من أجله المؤمنون ولم يسلم من التهديد والمطاردة في سبيله المرسلون: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [العنكبوت:102-103].
وقال تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد [إبراهيم :13-14].
وقال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين ءامنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا [الأعراف:88].
والإيمان لاهميته تواصى به الانبياء عليهم السلام: كما قال تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:133].
ومازال محل تذكير الآباء للابناء حتى حضور الموت: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون.
أيها المسلون: الإيمان الحق هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، والإيمان الحق هو التصديق الجازم بعالمي الغيب والشهادة، وإذا تساوى الناس في الإيمان بعالم الشهادة، وهو ما يشاهدونه حاضرا بأم أعينهم تفاوتوا في الإيمان بالغيب الذي غيبه الله عن أنظارهم وحواسهم في هذه الحياة، وأخبرهم عنه خبر صدق في كتبه المنزلة وبواسطة أصدق خلقه من أخبار الأمم الماضية وأهوال يوم القيامة وأشراط الساعة ونحوها.
هنا يتفاوت الناس حسب إيمانهم، فمنهم من يؤمن بها كأنه يراها رأي العين، ومنهم من يجحد وينكر، وما يجحد بآيات الله إلا الظالمون، ومنهم من يبقى شاكا مترددا فإن لم يرد الله به خير ويهديه للإيمان عاش معذبا في هذه الحياة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى...نسأل الله السلامة والعصمة.
عباد الله: والإيمان بالله منزلة علية تشرأب لها الأعناق، والإيمان بالله ملاذ عند الشدائد والكروب، ولذا فليس كل من ادعى الإيمان مؤمنا: قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [الحجرات:14].
بل لقد ادعاه فرعون حين أحس الهلاك ففضحه الله وجعله عبرة للمعتبرين حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إله إلا الذي ءامنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ءالئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون [يونس:90-92].
وإذا كان الأمر كذلك فما هي حقيقة الإيمان؟ وما نوع الأعمال التي تبلغ بصاحبها إلى هذه المنزلة الرفيعة.
يعرف علماء السنة والجماعة الإيمان بأنه: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
ويعنون بقول اللسان: النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما.
أما اعتقاد القلب فهو: النية والإخلاص والمحبة والانقياد والاقبال على الله والتوكل عليه ولزام ذلك وتوابعه.
أما عمل بالجوارح فهو: عمل الصالحات القولية والفعلية والواجبة والمسنونة مما يندرج تحت شعب الإيمان التي قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
وهذا المفهوم الواضح الشامل للإيمان يرد على الطوائف الضالة التي يعتقد بعضها أن الإيمان مجرد لاصق وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب كالمرجئة ومن سايرهم، ويرد كذلك على الذين يكفرون بالذنب الذي يرتكبه المسلم وهم الخوارج ومن شايعهم، أو يغالون في الدين وينسبون لله ما ليس منه كالرافضة والباطنية على اختلاف نحلهم.
إخوة الإسلام: الإيمان الحق اعتقاد للمبدأ الحق وثبات عليه دون تردد أو ارتياب إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسله ثم لم يرتابوا (3).
وهو جهاد بالمال والنفس وتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الله وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [الحجرات:15].
الإيمان الحق خوف من الجليل يقود لفعل الجميل والتوكل على العزيز الرحيم إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون [الأنفال:2].
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [المؤمنون:60].
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق ولكنهم يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم (4) )).
قال سفيان بن عيينة: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض هؤلاء الكلمات: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه (5).
خوف المؤمنون يا عباد الله ليس خوفا سلبيا يقعد بهم عن عمل الصالحات، لكنه تخوف من عدم القبول لكونهم قصروا في شروط القبول يدفعهم إلى تحسين العمل واتقانه وهو خوف من أن يسلب منهم هذا الإيمان ،وهو يدفعهم إلى مزيج العناية به واستشعار حلاوته قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((ما لي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم، والذي نفسي بيده لو إن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، وما خاف عبد على إيمانه إلا منحه، وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه (6) )).
خوف المؤمنين صيانة للنفس عن النفاق الذي تبدو صورته الظاهرة حسنة للعيان، والله أعلم بما تكن الصدور وتنطوي عليه القلوب من الكفر والعصيان، ولذا أخرج البخاري في صحيحه تعليقا ووصله غيره عن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه (7).
وقال الحسن البصري رحمه الله: والله ما أصبح ولا أمسى على وجه الأرض مؤمن إلا ويخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق (8).
أيها المسلمون: الإيمان الحق الذي نحتاجه جميعا هو عدل في القول ووفاء بالعهد ونطق بالحق وسكوت عن الباطل: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله اوفوا [الأنعام:125].
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)).
وهو خلق رفيع وحسن أدب مع الخالق والمخلوق: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء (2) )).
وهو لحسن خلقه وكرمه لا يتفطن للشر وقد جاء في الحديث الحسن: ((المؤمن غِر كريم، والفاجر خب لئيم (3) )).
والمعنى كما قال صاحب النهاية: إن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة وقلة فطنته للشر وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلا ولكن كرم وحسن خلق (4).
والمؤمن الحق يتجاوز دائرة ذاته ويهتم ويألم لأحوال إخوانه قال عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس (1) )).
وهو بين الناس طلق المحيا، كريم الندى، لطيف المعشر يألف ويؤلف ((ولا خير من لا يألف وخير الناس أنفعهم للناس (2) ))
وهو مع ذلك كله آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر والمؤمنون بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [التوبة:71].
وبالجملة فأهل الإيمان هم المحافظون على جلائل الأعمال القولية والفعلية مثل قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون [ المؤمنون:1-9].
جعلني الله وإياكم من أهل الإيمان ونفعني بهدي القرآن.. الخ.
(3) انظر : معارج القبول ، الحكمي 1/20-30
(4) رواه أحمد والترمذي.
(5) الإيمان لابن تيمية /60
(6) أخرحة البيهقي في شعب الإيمان.. ثلاث شعب....1/191
(7) انظر : الفتح 1/109
(8) رواه البيهقي في الشعب ، ورواه البخاري طرفاً منه ، الفتح 1/111، الشعب 1/191 192
(2) أخرجه أحمد ،وغيره بسند صحيح ، وصحيح الجامع 5/89
(3) رواه أبو داود والترمذى والحاكم ، وصحيح الجامع 5/89
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر ، ابن الأثير ، 3/354 ، 355
(1) حديث حسن رواه أحمد عن سهيل بن سعد ، صحيح الجامع 6/7
(2) صحيح الجامع 6/7
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين انعم على عباده المؤمنين إذ هداهم للإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرح صدور المسلمين للإيمان فهم على نور من ربهم، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أكمل المؤمنين إيمانا وأحسنهم خلقا اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون: والإيمان ضمان للثبات في مواقف الامتحان وهو مركب للنجاة في طوفان الفتن والمحن، به يميز الله الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب [آل عمران:179].
يفرق المؤمنين بين عذاب الله وفتنه الناس، يصبرون على البلوى ويشكرون على السراء ((عجبا لأمر المؤمن إن اصابته ضراء صبر وكان خير له)) وفي حديث آخر: ((المؤمن بخير على كل حال تنزع نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله (2 ))).
والإيمان معلم هاد في بيداء الصحارى المهلكة إذا تاه الدليل أو خيم الظلام أو كان حبيس الغم أو ضاقت على المرء الضوائق فيؤنسه الإيمان بخالقه ويتسع له المكان مهما كان ضيقاً ومنعزلاً: وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء:87-88].
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً [الكهف:16].
الإيمان الحق سبب للأمان إذا انتشر الرعب وساد القلق وتخطف الناس ولم يأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [الأنعام:82].
والمؤمنون هم الذين تزيدهم الشدائد ثباتا ورؤيتهم لتكالب الأعداء عليهم إيمانا وتسليما ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً [الأحزاب:22].
أما غير المؤمنين فتطير قلوبهم لكل نازلة فاذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [الأحزاب:19].
والمؤمنون رحماء بينهم هينون لينون كافون عن الأذى باذلون للمروءة والندى، وليس من الإيمان إيذاء المؤمنين قولا وفعلا: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً [الأحزاب:58].
المؤمنون يتحاكمون إلى شرع الله ويرضون بالإسلام حكما ولا يجدون في انفسهم حرجا بل يرضون ويسلمون تسليما انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [النور:51].
أما غير المؤمنين فيأنفون من حكم الله ويتحاكمون إلى الطاغوت وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله وأولئك هم الظالمون [النور:48-50].
المؤمنون حقا يتحرون الحلال في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، وهم حريصون على الحلال جمعا وإنفاقا لا يشربون الخمر ولا ياكلون السحت ولا يتعاملون بالربا أو ضروب المعاملات المحرمة الأخرى في البيع والشراء، نفقتهم عدل ووسط بين التقتير والإسراف، أمرهم ربهم بالحلال فامتثلوا، ونهاهم عن الحرام فانتهوا، قال لهم في الأولى: يا أيها الذين امنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [البقرة:172]. وقال لهم في الأخرى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفحلون وقال كذلك: يا أيها الذين ءامنوا لا تاكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون [المائدة:90].
أما غير المؤمنين فلا يتورعون عن الحرام ولا يحتاطون في الحلال، أمرهم فرط ، وربما ملكوا القناطير المقنطرة، وقد يخيل لمن لا يعرفهم أنهم من شدة اللهاث جوعى، وربما انقلبت موازينهم فجأة فأصبح الغني فقيرا، والدائن مدينا، فلا الإيمان أسعفهم بالنزاهة والشكر على المال جمعا، وليس غير الإيمان يسليهم على فقده صبرا من يهن الله فما له من مكرم [الحج:18].
عباد الله: هذه دعوة لنا جميعا لنعلم حقيقة الإيمان ونتخلق بأخلاق الإسلام، وليست حصرا لحقائق الإيمان ولا احصاء لصفات المؤمنين، لكنها الاشارة بالبعض إلى الكل، أما النتيجة التي يجب أن نخلص إليها فهي أن الإيمان ليس بضاعة مزجاة تباع وتشترى بأبخس الأثمان أو مجرد دعوى وألقاب تجوز على كل لسان، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان نهج متكامل، فهو عبادة الله خاشعة ومعاملة لخلقه كريمة، وأخلاق رفيعة، هو كسب نظيف وإنفاق مشروع.
الإيمان الحق اعتقاد سليم وعمل صحيح، جهاد وتضحية، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولاء وبراء، مظهر ومخبر، بذل للندى، وكف عن الاذى، وخروج عن الأنانية المقيتة ونصرة للنفس المسلمة المظلومة.
وبهذا يتبين خطأ نظرتين للإيمان إحداهما جافية، والأخرى غالية.
أما الجافية فترى أن مجرد الإيمان بالله كاف حتى وإن ضيعت الصلاة وقُصر في أداء الزكاة واختلطت المعاملات الحلال بالحرام، بل يكثر هذا الصنف الجافي من القول: لا داعي للتركيز على المظاهر، فالمخابر هي الأساس، وهؤلاء يهدمون الإسلام لبنة لبنة، حتى إذا لم يبق إلا شبح البناء تهاوى وبكى على الأطلال.
أما الصنف الغالي فهم يعظمون الصغير ويكفرون على الذنب الكبير، وربما فتحوا معارك في خطأ علاجه بالحسنى أجدى وأولى، وربما جعلوا احتقار الناس دينا والتنقص من أمرهم دينا وشرعا والله يقول: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [النجم:32].
إن دين الله هو وسط بين الغالي والجافي، والحكم عند التنازع: كتاب الله وسنة رسوله صلى عليه وسلم ونظرة واسعة لهما وفهم عميق.
اللهم سددنا في أقوالنا وأفعالنا، وهب لنا ايمانا تصلح به سرائرنا وعلانيتنا...الخ.
(2) صحيح الجامع
(1/1187)
دروس قصة موسى عليه السلام مع فرعون
سيرة وتاريخ
القصص
سليمان بن حمد العودة
بريدة
4/1/1416
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الله بموسى وولادته ونشأته في سجن قلب العدو رغم حذر فرعون من ولادة الطفل
الذي يهلك عرشه 2- نجاة موسى من بطش فرعون 3- محاجة موسى لفرعون وغلبته عليه
بالحجة 4- غلب موسى للسحرة وإيمانهم به 5- المؤمنون بموسى من آل فرعون 6- أمر الله
لبني إسرائيل بالصلاة والصبر، والإذن لهم باتخاذ بيوتهم مساجد 7- هلاك فرعون الطاغية
8- يوم عاشوراء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله، ثقوا بنصر الله إذا توفرت أسبابه من الصدق والإخلاص والاستقامة على شرعه والتضرع بين يديه ورجائه والخوف منه وحده دون سواه.
ايها المسلمون: تكثر القصص في القرآن بشكل عام، وفي كل قصة عبرة، وما يعقلها إلا العالمون.
وتحكى قصص القرآن صوراً للصراع القديم بين الحق المؤيد من السماء والباطل الذي يلوذ به الملأ والكبراء خداعاُ وعناداُ واستكبار وحفاظاُ على الذوات ليس إلا ، كما تكشف القرآن عن مواقف المؤمنين وحقيقته وآثار الإيمان ومواقف الظالمين ونهاية الفجار.
ولئن كانت القصص تشغل مساحة عريضة في القرآن. فإن قصة موسى عليه السلام مع فرعون تتميز بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها وهي من أطول قصص الانبياء عليهم السلام في القرآن، فما الحكمة من كثرة ذكرها؟
قال المفسرون: لأنها من أعجب القصص. فإن فرعون حذِر من موسى كل الحذر فسخره القدر لتربية هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع ، وعقد الله له سببا من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم.
وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويؤمن برسالة الله ، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة الأبية، وقوي رأسه وتولى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجرأ على الله وعتا وبغى، وأهان حزب الإيمان من بنى إسرائيل.
والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون _ عليهما السلام _ ويحوطهما بعنايته ويحرسها بعينه التى لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلات والآيات تقوم على يدي موسى شيئاُ فشيئاُ، ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب، ومما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله. وما نريهم من آية إلا هى أكبر من أختها [الزخرف:48].
وصمم فرعون وملؤه – على التكذيب بذلك كله.. حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في صبيحة واحدة: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [1].
اجل أخوة الإيمان: لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل، لأنه بلغه أن غلاماً منهم سيولد ويكون هلاك ملك مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام – ولا يغني الحذر عن القدر –.
ومع حرص فرعون وطغيانه وجبروته فقد قدر الله أن يولد موسى عليه السلام في السنة التى يقتل فيها كل مولود لبنى إسرائيل. وأن ينجو من بأسه وقتله وقد حزنت أمه حين حملت به خوفاُ عليه، وحين وضعته. واستمر الخوف يلاحقها حتى أوحى إليها أن ترضعه، فإذا خافت عليه فلتضعه في صندوق ثم تلق به في البحر وسيحفظه الله ويرده إليها وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [2] [القصص:7].
ولكم معاشر المسلمين أن تعجبوا من قدر الله وأمواج البحر وقد بدأت تقذف بتابوت الرضيع موسى عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال حتى أوصلته إلى بيت فرعون.
وكأن الله تعالى أراد – فيما أراد – أن يظهر عجز فرعون وضعفه أمام قوة الله الجبار وقدرته.
فإذا كان فرعون يقتل الغلمان من أجل هذا الغلام. فها هو الغلام يولد. ويسلم من القتل رغم المتابعة الدقيقة، فإذا سلم ووصل إلى بيت فرعون دون عناء أو بحث، فهل يستطيع الملك الطاغية أن يقتل غلاماً مازال في المهد؟
كلا وعناية الله تحيط بالغلام ورعايته سبحانه تتولاه، وصدق الله إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين [3] وتحقق وعد الله فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [القصص:14].
ويبدأ موسى عليه السلام في دعوة فرعون وملئه.. ويصر أولئك على الكفر والمعاندة، ويستمر بلين الدعاة بالقول تارة،وبالحجة الباهرة تارة، ويؤكد موسى وهارون عليهما السلام نبوتهما بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة، ويظل الحوار مع فرعون صريحاً جاداً تظهر فيه الربوبية الحقة لله رب العالمين، وتسلخها من فرعون الدعي العنيد وتنسف الدعوة الكاذبة،ويظهر الحق رغم المكابرة والاستهزاء والتهديد: قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [الشعراء:23-28].
وحين شعر فرعون أن موسى عليه السلام قد غلبه بالحجة والبرهان لجأ إلى القوة والسلطان وهدد بسجن موسى إن هو عبد الله وحده ورفض ما عليه الناس من عبودية فرعون: قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين [الشعراء:29].
أيها المسلمون: وحين نتجاوز كثيراً من المشاهد والمواقف ونصل إلى نهاية القصة نجد العبرة فيها والدروس أبلغ، وموسى والمؤمنون معه يفرون بدينهم من وجه الطاغية بأمر الله، ويصر فرعون وجنده على اللحاق بهم، بل ويرسل فرعون في المدائن حاشرين، ويقول عن المؤمنين: إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون [الشعراء:53-55].
و يبلغ الكرب بالمؤمنين نهايته والبحر أمامهم والعدو خلفهم، وهم لا يدرون ماذا في غيب الله وعلمه فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [الشعراء:61-68].
إخوة الإيمان : وبين البدء والنهاية في هذه الملحمة العظيمة التي وقعت في اليوم العاشر من هذا الشهر، شهر الله المحرم عدد من الدروس والعبر المهمة، ومنها:
1- أن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثروا في عقول الدهماء فترة من الزمن واستمالوهم بالمنح والعطايا فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه ، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقي وأما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [الأعراف:113-122].
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين.
وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان [4].
وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها ولم تفتنها الدنيا ومباهجها.
وضرب الله بها مثلا للمؤمنين وقالت رب ابنِ لى عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين [التحريم:11].
ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم [غافر:28].
بل وجد سوى هؤلاء ذرية من آل فرعون آمنوا بموسى رغم الخوف وخشية الفتنة في الدين فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على الخوف من فرعون وملئيهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين [يونس:83].
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما – في تأويل هذه الأية – ( فإن الذرية التى آمنت لموسى من ناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون وامرأة خازنه.
وقال ابن كثير: قليل من قوم إسرائيل، لا من قوم فرعون.
وقال ابن كثير: وفى هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب، وإنهم من بني إسرائيل، والمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به، وكانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة. [5]..
وكذلك يبدد نور الإيمان دياجير الظلام في أجواء تَخنق فيها العبودية لله رب العالمين ويكره الناس على العبودية من دون الله..
[1] تفسير ابن كثير 4/ 220 و221
[2] القصص/7
[3] القصص/8
[4] الظلال 3/1352
[5] تفسير ابن كثير 4/222
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد له رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثنى عليه الخير كله، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء وعلى آله وصحابته أجمعين.
أيها المسلمون: أما الدرس الثاني من قصة موسى عليه السلام مع فرعون: فقد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفا عصيبة ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم قال الله تعالى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين [يونس:87].
و المعنى: كما قال العوفي عن ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم.
وقال مجاهد: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة.. أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سراً وكذا قال قتادة والضحاك. [1]
الدرس الثالث: وفى ظل هذه الظروف العصيبة أمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية:
أ) الصبر والصلاة، قال الله تعالى لهم وأقيموا الصلاة قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا [الأعراف:128]. وقال لهم ولغيرهم: يا أيها الذين ءامنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين [البقرة:153]. فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء وحين الشدة والضراء.
ب) والايمان بالله والتوكل عليه ضروري للمسلم في كل حال، وهما في حال الشدة عدة وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [يونس:84].
ج) وكذلك الدعاء وصدق اللجوء إلى الله يصنع أملاً من الضيق، وفيه فرج من الكروب وخلاص من فتنة الظالمين ونجاة من الكافرين.
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين [يونس:85-86].
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاءه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [يونس:88].
ومع ذلك فلا بد من الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعملون [يونس:98]. قال ابن جريج: يقال: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وقال محمد بن علي بن الحسين : مكث أربعين يوماً. [2]
أمة الإسلام: وأما الدرس الرابع فتكشفه قصة الحوار بين موسى عليه السلام والمؤمنين معه، وفرعون وملئه، فهو الخداع الذي يمارسه المجرمون على رعاع الناس وجهالهم، وتأملوا في مقالة فرعون للسحرة – حين آمنوا – كما قال تعالى قال فرعون أمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون [الأعراف:123].
وقال في الآية الأخرى: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [طه:38].
قال ابن كثير رحمه الله: وفرعون يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل، فإن موسى عليه السلام بمجرد مجيئه من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر له من المعجزات ما جعله يبعث في مملكته لجمع السحرة لإبطال سحر موسى كما زعم، وموسى عليه السلام ، لا يعرف أحداً منهم، ولا رآه، ولا اجتمع به.. إلى أن يقول ابن كثير: ( وفرعون يعلم ذلك وإنما قاله تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم ، كما قال تعالى فاستخف قومه فأطاعوه فإن قوماً صدقوا في قوله أنا ربكم الأعلى من أجهل خلق الله وأضلهم ،.انتهى كلامه رحمه الله [3].
أيها المؤمنون: ومع الخداع والتدليس على الدهماء تقلب الحقائق ، واتهام الأبرياء – وهذا هو الدرس الخامس – فلم يكتف فرعون وقومه بالقول عن المؤمنين الصادقين إن هؤلاء لشرذمة قليلون [الشعراء:35]. بل اتهم الملأ وجلساءُ السوء موسى والمؤمنين بالإفساد في الأرض: وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون [الأعراف:127].
وهكذا إخوة الإيمان : فليس كل من ادعى النزاهة والعدالة محقا صادقاُ، وليس كل من رمي بالتطرف أو اتهم بالفساد مبطلاً كاذباُ، وليست تغير الألفاظ والاتهامات الباطلة من واقع الأمر شيئاً، لكنها السنن في الابتلاء تمضي في الأولين والآخرين؟
ومن حق ابن كثير أن يعجب لهذه المقولة الكاذبة ويقول: (يالله، للعجب صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه ، ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون [4] ).
الدرس السادس: أن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين.. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة: قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) [الأعراف:128].
أجل فلا ينبغى أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين للمؤمنين.
أيها المسلمون: ويحس المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنين من قوم موسى عليه السلام المحنة كذلك ينبغي أن يتجاوزها المسلمون في كل عصر وملة، وكما صام موسى يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شكراً لله على النصر للمؤمنين صامه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصون بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، ويرجون بره وفضله.
وقد قال عليه السلام بشأنه: ((..وصوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)) [5] وفي لفظ ((وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [6].
فقدروا لهذا اليوم قدره... وسارعوا فيه إلى الطاعة واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا _ تطوعاً لله – يوماً قبله أو يوماً بعده إن صمتم العاشر، فذلك أكمل مراتب الصيام كما قال ابن القيم رحمه الله [7].
[1] تفسير ابن كثير 4/224
[2] تفسير ابن كثير 4/226
[3] التفسير 3/454و455
[4] تفسير ابن كثير 3/456
[5] رواه أحمد ومسلم والترمذي، صحيح الجامع 3/251
[6] رواه الترمذي وابن حبان، صحيح الجامع 3/ 262
[7] زاد المعاد 2/76
(1/1188)
دلائل الإيمان في القرآن
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
الربوبية, القرآن والتفسير
سليمان بن حمد العودة
بريدة
2/4/1417
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة صنع الله لمخلوقاته المبثوثة حول الإنسان. 2- دعوة للتفكر في مخلوقات الله الدالة
على عظمة الخالق. 3- دورة الرياح والمطر وعجائب خلق الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ولزوم طاعته، فتلك وصية الله للأولين والآخرين ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنياً حميداً [النساء:131].
أيها المسلمون: ويقلب العقلاء أفئدتهم وأبصارهم في ملكوت الله العظيم فيزيدهم ذلك إيمانا بعظمة الخالق، ودقة الصانع: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [البقرة:164].
ويتأمل المختصون بعلوم البحار في عالم البحار، وقاع المحيطات فيرون في اختلاف مياهها ملوحة أو عذوبة، حرارة أو برودة وأنواعا من الحيتان تختلف أشكالها، وطعومها، وأحجامها، وخلقا آخر، وجواهر، ودررا لا يحيط بها إلا من خلق وهو اللطيف الخبير.
فمن أقام بين البحرين حاجزا، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا؟ ومن أزجى الفلك وسيرها على ظهره وأجرى الرياح وسخرها ليبتغي الناس من فضله؟ أوليس الله رب العالمين... فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير [الشورى:32-34].
ويقرأ العالمون بالفلك ويرى غيرهم في عالم السماء كيف رفع الله السبع الشداد بلا عمد، وجعل فيها أنواعا من المخلوقات لا يعلمها إلا الله، وأودع فيها من الغيوب والأرزاق ما اختص الله بعلمه، وينزل للناس في حينه بقدر، ويبصر الناس، كل الناس، كيف زين الله السماء الدنيا بمصابيح يهتدي بها المسافرون، ويرجم بها الشياطين، وجعل للنجوم مواقع، وللشمس والقمر منازل بها يستدل الحاسبون، ويعرف الناس الأزمان والشهور.. ترى من أجراها على الدوام وسخرها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؟ إنه الله الولي الحميد.
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [القصص:71-73].
ويح أولئك الذين لا يشكرون، وما أكثر الذين هم بنعم ربهم غافلون الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر فهل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير [الملك:3-5].
أيها المسلمون: ويبحث علماء الجغرافيا أو الجيولوجيا في طبقات الأرض العلوية أو السفلية، فيرون مختلف الجبال وأنواع الصخور، فهذه جدد بيض وتلك حمر مختلف ألوانها، وثالثة غرابيب سود، ويلفت نظرهم قمم الجبال العالية وبطون الأودية السحيقة، وبين هذا وذاك تنبت أنواع من النباتات وتنتشر أنواع من الحيوانات، وإذا اعتدل الهواء في المناطق المتوسطة باتت قمم الجبال العالية السوداء بيضاء من الثلوج النازلة، وفى حين تنعدم الحياة في المناطق الاستوائية لشدة الحرارة.... ترى من قدر لهذه وتلك قدرها.. وهل في إمكان البشر أن ينقلوا جو هذه إلى تلك أو العكس... أو يبعثوا الحياة في الأرض الميتة..؟!
كلا بل هو الله العلي القدير، ويدرك العالمون أكثر من غيرهم أن جوف الأرض يحتفظ بأنواع من المياه الجوفية تختلف في مخزونها، وفى مذاقها، وقربها أو بعدها، فمن يمسك البنيان إذ يبنى على ظهر الماء؟ ومن يمنع الأرض أن تتحول إلى طوفان بطغيان الماء في أعلاها وأسفلها إلا الله الذي أنزل من السماء ماء بقدر فأسكنه في الأرض، وهو القادر على أن يذهب به متى يشاء.
وعلى سطح البسيطة تنتشر أنواع من البشر، تختلف في ألوانها وألسنتها، وتختلف في عوائدها وطرائق حياتها، فمن بثها وبعث الحياة فيها وألهم كل نفس فجورها وتقواها؟ إنه الله يعرفه ويخشاه العالمون، ولا يكفر به إلا الظالمون المعاندون.
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور [فاطر:27-28].
إخوة الإيمان: ودلائل الإيمان تبدو للإنسان نفسه حتى وإن كان أميا، وهو يتأمل في نفسه، ويبصر عظمة الخلق فيها، كيف خلقها الله ابتداء من ماء مهين، ثم كانت بهذا الشكل القويم، وأدوع فيها من أسرار الخلق ما يعجز الطب عن كنهه، ويبقى الأطباء في حيرة منه ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً [الإسراء:85].
وهذا نموذج للإعجاز والتحدي.
ترى من يرعى دقات قلب المرء في حال اليقظة والنوم؟ وأقرب الناس إليه لا يملك من أمره شيئا، بل وهل يملك الإنسان نفسه التصرف في حركة التنفس؟ فيتنفس متى يشاء، ويوقف أنفاسه إذا لم يشاء، ألم يرى الإنسان كيف يدخل الطعام مدخلا ثم يخرجه الله مخرجا آخر؟ أله في ذلك قدرة وشأن؟ وما حيلته لو اختنق النفس أو احتبس البول؟ كم في جسم الإنسان من جهاز وطاقة؟ وكم فيه من أعضاء وخلية؟ أيملك التصرف بشيء منها؟ وصدق الله وهو أصدق القائلين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وهو القائل لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [التين:4].
إن القرآن يا عباد الله كتاب مفتوح للتأمل في ذات الإنسان وفي ملكوت الله، وخلقه الآخر، وكم تلفت آيات القرآن النظر للتأمل والعبرة، وتدعو للتفكر، وتشنع على العقول الخاملة، والقلوب الميتة، وكم في القرآن من مثل ودعوة..... وكم من مثل قوله تعالى أفلا تفكرون ، أفلا تذكرون ، أفلا تعقلون ، أفلا تؤمنون...
فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج:46].
فهل يزداد المسلم إيمانا حين يتلو آيات القرآن؟ وهل يتعاظم الإيمان في قلبه حين يطلق لفكره وقلبه التأمل في مخلوقات الله العظام؟
إن العلم يدعو إلى الإيمان، وإن دلائل القرآن تؤكد نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فمن أين لمحمد الأمي أن يخبر عن حركات الأمواج في الظلمات في البحار اللجية، ويقول للناس: أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور [النور:40].
ترى أركب البحر محمد صلى الله عليه وسلم، أم توفر له في حينه ما توفر في عالم اليوم من الغواصات والآلات؟ كلا إن هو إلا وحي يوحى [النجم:4].
بل ومن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش في بيئة يقل فيها العلم، وينتشر فيها الجهل أن يخبر عن أطوار خلق الجنين في بطن أمه، كما قال تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فانى تصرفون [الزمر:6].
وإذا لم يعلم محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الظلمات قبل تعليم الله إياه، أفتراه يعلم أو يقول من ذات نفسه عن خلق الإنسان ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [المؤمنون:12-14].
ترى هل مارس محمد صلى الله عليه وسلم الطب أم كان على صلة بالأطباء، وهل كان الأطباء حينها يعلمون ذلك؟ كلا، بل هو كما قال تعالى وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون [العنكبوت:48-49].
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أعطى كل شىء خلقه ثم هدى، وأشهد أن لا إله إلا ألله وحده لاشريك له، أمات وأحيا، وخلق الزوجين من نطفة إذا تمنى، أمسك السموات والأرض أن تزولا، وأهلك عاد الأولى، وثمود فما أبقى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأى آلاء ربك تتمارى...
وأشهد أن محمد عبده ورسوله أنزل الله عليه من البينات والهدى ما تخشع له الصخور الصم، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر االنبيين.
عباد الله: ويجد المتدبر لكتاب الله ألواناً من المواعظ والعبر، تدعوه إلى الإيمان إن كان في بحثه صادقا، وتثبت إيمانه وتزيده إن كان من قبل مؤمنا، وقل أن يستفيد من وقفات القرآن من يهذه هذّ الشعر أو يقرؤه كما يقرأ الكتاب أو الجريدة، كحال من يحفظون القرآن وهم لا يفقهون منه شيئا..
إن أثر القرآن عظيم في النفوس حين تقشعر منه الجلود، ثم تلين له القلوب، وإن مواعظه وعبره أكثر من أن تحصى حين يقرأ بتأمل وتدبر... وحسبنا في هذه الوقفة أن نذكر بمنهج القرآن في تثبيت الإيمان من خلال دلائل الكون في الأنفس والآفاق، ومن عظمة القرآن أن تبقى مواعظه صالحة نافعة في كل زمان ومكان، أبى الله أن يبلى كتابه، أو يخلق من كثرة الترداد على تعاقب الأجيال.
وإليكم نموذجا يلفت فيه ربنا تبارك وتعالى أنظارنا من خلال آي القرآن إلى التأمل والاعتبار، في مشاهد تتكرر في كل آن، ونراها رأي العيان، ومع ذلك فقد نغفل عنها كثيرا، أو لا تدعونا لمزيد من الإيمان... للجهل بها أو لكثرة إلفها، أو لثباتها، علما بأن في ثباتها واستمرارها دليلا على بقاء موجدها على الدوام.
تأملوا الحدث واستلهموا العبرة، وجددوا الإيمان، يقول تبارك وتعالى: ألم ترى إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً فلا تطع الكافرون وجاهدهم به جهاداً كبيراً وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً ويعبدون من دون الله ما لاينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيراً [الفرقان:54-55].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات: من هاهنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة.
ونقل عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم أن المقصود بالظل في الآية هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولو شاء لجعله ساكنا، أي مستمرا، ولولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً ثم يقبض الله الظل حتى لايبقى منه في الأرض إلا ما كان تحت سقف أو شجرة ( تفسير ابن كثير عند آيات الفرقان ).
يقول صاحب الظلال: هذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين هو طرف من منهج القرآن في استحياء الكون دائما في ضمائرنا، وفى إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي أفقدها طول الإلفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة، وطرف من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب (2).
أيها المسلمون، كم في إرسال الرياح وإنزال المطر من آية تدل على أن مرسلها ومنزل المطر بعدها واحد قادر، والرياح كما يقول العلماء أنواع في صفات كثيرة من التسخير:
فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرا، ومنها ما يكون قبل ذلك تقم الأرض، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر، وإلى ذلك أشار ربنا في قوله: وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته [الفرقان:48]. وآيات غيرها في القرآن كثير.
فإذا أنزل الله المطر أحيا به الأرض، روى عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبتت بها في الأرض عشبة، أو في البحر لؤلؤة.
ومع هذه القدرة البالغة، فلله القدرة كذلك على تصريفه من مكان لآخر، وسقى هذه الأرض أو البلد دون تلك ولقد صرفناه بينهم ليذكروا.
قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: ليس عام بأكثر مطر من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية لقد صرفناه بينهم ليذكروا والقدرة هنا مذكرة بالقدرة على إحياء الموتى بعد أن كانت عظاما ورفاتا، أو ليذكر من مُنع المطر أنما أصابه ذلك بذنب أصابه، فيقلع عما هو فيه... كذا نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الذكرى هنا (2).
عباد الله:
ومن ماء السماء إلى ماء الأرض يقص علينا القرآن عجائب قدرة الله وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج فالحلو منها كالأنهار والعيون والآبار، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير، وقال ابن كثير: وهذا المعنى لا شك فيه فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات..
أما الملح الأجاج فهو هذه البحار والمحيطات الكبيرة في المشارق والمغارب، وهذه البحار حين أراد الله أن تكون ساكنة لا تجري، بل تتلاطم أمواجها وتضطرب، أو يحصل فيها المد والجزر بقدرة الله وهي ثابتة في أماكنها... حين أراد الله لهذه المياه الغامرة لجزء كبير من سطح الأرض أن تكون بذلك القدر، وله الحكمة البالغة، أن تكون مياهاً مالحة... أتدرون لماذا؟
قال أهل العلم: خلقها الله مالحة لئلا يحصل بسبها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة (1).. أليس ذلك تقدير العزيز العليم؟
بل قيل في حكمة الله وتقديره لعدم اختلاط البحرين: أن مجاري الأنهار غالبا أعلى من سطح البحر، ومن ثم فإن النهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا نادرا، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر، وهو أضخم وأغزر، على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات، فتبارك الله أحسن الخالقين (2).
أيها المسلمون، وثمة ماء ثالث هو أعجب من ماء السماء وماء البحر.. إنه ماء الحياة.. إنه الماء المهين الذي ينشأ منه البشر أجمعون، وتنتشر فيه الحياة والأحياء، وتأملوا القدرة الإلهية في قوله: وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً فالمخلوق في ابتداء أمره ولد نسيب، ثم يتزوج فيصير صهرا، ثم يصير له أصهار وأختان وأقرباء... وكل ذلك من ماء مهين...
تلكم من عجائب قدرة الله... وتلكم أدلة على وحدانية الله.. ألا وإن فيها بواعث للإيمان واليقين لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد...
(2) الظلال 5 / 2569.
(2) تفسير آيات القرآن 3 / 513.
(1) تفسير ابن كثير...
(2) في ظلال القرآن.
(1/1189)
زلازل الذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الكبائر والمعاصي
سليمان بن حمد العودة
بريدة
2/7/1416
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عكرمة بن أبي جهل في معسكر الكفر 2- هروب عكرمة يوم الفتح بعد إهدار دمه
3- إسلامه وجهاده واستشهاده 4 - كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون 5- التمادي
في الذنوب واستصغارها من المهلكات 6 - للطاعة جزاء في الدنيا وللمعصية مثلها
7- ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة 8- البهائم تتأذى من معاصي الإنسان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الايمان: يقول الحق تبارك وتعالى: وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفوراً أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصباً ثم لاتجدوا لكم وكيلاً أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً [الإسراء:67-69].
وهكذا تقرر الآيات ضعف البشر أمام الله وقدرته، وتؤكد ألا مفر من الله إلا إياه، فلا مستقل البحر بمأمن من عذاب الله إذا نزل، ولا سائر في البر بأمن من خوف الخسف والزلازل، والأمطار المصحوبة بالحجارة إذا أراد الله.
أجل ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوا أمره، واستطعموا رزقه, ولم يشكروا نعمته، بالصحة والامن ورغد العيش، فلم يكترثوا بأمره ونهيه، وما هذه الغشاوة على القلوب وهي تستمرأ المنكر وتضيق بالمعروف، وما هذه السكرة بالنعم؟ فتنسيها اللحظة الحاضرة مشاهد القيامة وأهوال الساعة، وما هذه الغفلة عن سنن الله في الإهلاك والتدمير؟ وأين حياة القلوب وهي ترى المصائب تحل ذات اليمين وذات الشمال، ثم لا تلين لذكر الله ولا ترعوي؟
لقد لانت قلوب الجبابرة والمجرمون أمام جبروت الله وقدرته وتفجرت الأنهار من الحجارة الصم بإذن الله وتشقق بعض منها فخرج منها الماء وهبط بعض منها خشية لله, أفتكون الحجارة الصم أخشى لله من قلوب الخلق ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ومالله بغافل عما تعملون [البقرة:74].
ولقد آمن بآيات الله الكافرون، وأسلم لوجه الله الشاردون وهم يبصرون النذر توقظ ضمائرهم والمخاوف تحيط بهم، فلا ملجأ من الله إلا لله، ولا منقذ إلا هو وحده.
وهاك نموذجاً لهؤلاء:
لقد آذى عكرمة بن أبي جهل، رضي الله عنه- قبل أن يسلم- رسول الله والمؤمنين معه، ومع مرور الزمن بدأ صوت الحق يعلوا وصوت الباطل يخف حتى أذن الله بفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وعفا الرسول صلى الله عليه وسلم عمن آذوه وطردوه، وقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وكانت تلك لمسة وفاء، حسن صفح بلا جزاء،وهي من عظيم أخلاقه وشمائله عليه الصلاة والسلام.
ومع أنه صلى الله عليه وسلم أمن الناس كلهم إلا أنه استثنى نفرا من المشركين، منهم عكرمة، وأمر بقتلهم، وذلك لشدة أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولما صنعوا من أذى وتنكيل بالمسلمين.
وكيف لا يكون عكرمة في طليعة هؤلاء وهو ابن فرعون هذه الأمة.. وربما خُيل لعكرمة يوماً أنه سيخلف أباه، وربما بلغ به الغرور أنه سيحطم الدعوة أو يشل من حركة المؤمنين، لكن أمام عظمة الله كل الدواعي سراب وغرور.. فها هو عكرمة يفر مكة إلى اليمن، هائماً على وجهه خوفاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يركب البحر ليدخل الحبشة مع قوم مسافرين فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض: أخلصوا لا يغن من له الحق دون حجاب وقال قالته العاقلة: والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك على عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فأضع يدي في يده، فلأجدنه رؤوفا رحيما، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسلم وحسن إسلامه (1).
مع شؤم المعصية التى اقترفها عكرمة ،ومع الصدود والاعراض وايذاء هذا الدين بعد.. وهاهو عكرمة يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: يا رسول الله لا أنزل مقاماً قمته للصد عن سبيل الله إلا أنفقت مثلها في سبيل الله عز وجل , حتى يوم اليرموك نزل فترجل فقاتل قتالا شديدا فقتل رحمه الله، فوجد به بضع وسبعون بين طعنة وضربة ورمية رضي الله عنه وأرضاه (2).
أيها المسلمون : يمهل الله ولا يهمل، ويرى الناس من آياته وعجائب قدرته ما تشهد به قلوب المؤمنين ويغفل عنه المستكبرون وتحيط القوارع والنذر بالناس أجمعين، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.. وتتوالى الفتن وتعصف بالناس عواصف المحن، والقلة القليلة منهم هي التى تتذكر وتستغفر: أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون [التوبة:126].
ومن ذا الذي لا يقع في معصية، ومن منا لا يقترف الخطيئة ,وهذا الحبيب المصطفى يقسم ويقول: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر لهم (2) )).
لكن الإيمان والتقى يذكر صاحبه إن عصى فيرعوي ويستغفر ولا يصر على الخطأ والمنكر والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [آل عمران:135].
أما الجهل والطغيان فيسهل على صاحبه المعصية ويهون المعصية ويهون أمر الله عنده، فلا يزال عن الحق معرضا، وللشر والباطل واردا حتى يهلك غير مأسوف عليه فما بكت عليهم السماء والأرض [الدخان:29].
معاشر المسلمين: تأملوا أحوالكم مع خالقكم، وفتشوا عن أنفسكم، ففرق بين من يقترف المعصية وهو لها كاره، وهو من ربه خائف مشفق ينظر إلى الذنوب كأصل جبل يخاف أن يقع عليه، وبين من يمارس الذنب أثر الذنب ولا يتمعر من خشية الله، بل يرى ذنبه أشبه بذباب وقع على أنفه فقال بيده يهشه هكذا.
وهكذا يتفاوت الناس في أحوالهم حين مقاومة المعاصي, وفرق بين من يراها كالجبال وآخرون يرونها كالذباب، وتأمل هذا النص وصنف نفسك حيث هي:
فقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن السماك أنه قال: أصبحت الخليقة على ثلاث أصناف من الذنب: تائب، موطن لنفسه على هجران ذنبه، لا يريد الرجوع إلى شىْ من سيئته هذا هو البر، وصنف يذنب ثم يندم ولا يحزن، ويذنب ولا يبكي، فهذا الكائن الحائر عن طريق الجنة إلى النار.
يا أخا الإسلام: إياك من الفرح بالخطيئة، وإياك أن تنسيك لذة الهوى مرارة الخطيئة وأن تحرق نار الهوى بذرة الإيمان في قلبك، واياك إياك والمجاهرة بالذنب أو عدواة من يهديك للحق أو استحقار من يعلمك الخير أو التضايق ممن يصدقك الحديث، فصديقك حقا من صدقك القول لا من صدقك في كل مكان ما تقوله، وتأمل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانون يفترون [الأعراف:52-53].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
(1) تفسير ابن كثي 5/93
(2) أسد الغابة – بهامش الاصابة 8/122
(2) رواه مسلم 2749
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
وأشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له فالق الاصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم, أشهد أن محمداً عبده رسوله وخيرته من خلقه, اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
أيها المسلمون: ويتخوف المؤمنون من كثرة ما يسمعون من محن ومصائب وما يقع من زلازل وفتن في بلاد المسلمين وهم يقرؤون أمثال قوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [الروم:41].
وإذا كانت الآية الكريمة تربط بين كثرة الفساد في الأرض ومعاصي الخلق وتدعوهم إلى التأمل في ذوات أنفسهم والعودة إلى خالقهم بالتوبة والطاعة فثمة آيات أخر تربط بركات السماء والأرض بالإيمان والتقى، كما قال تعالى: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [الأعراف:69].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجنالسهم ومللهم ونحلهم على أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته, والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأن ضدها من الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمتة بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه (3) كيف لا أخوة الإسلام والقرآن الكريم يذكرنا بمصير السابقين ويقول جل ذكره: فلما عتوا ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول تعالى: فلما آسفوا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين وقال تعالى: فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية [الحاقة:10]. وقال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير [الشورى:30].
وتأملوا معاشر المسلمين قوله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال [الرعد:11].
وقال علي رضي الله عنه: ( ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة) (4).
أيها المسلمون: والفساد الناشىء في الأرض لكثرة خطايا العباد وإسرافهم في الذنوب لاتنتهي آثاره على العصاة وحدهم، بل يعم الناس إذا لم يتناصحوا ويأخذوا على أيدى السفهاء ((إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
ولا تقف العقوبة عند حدود الآدميين، بل يطال شؤم المعصية الأحياء والمخلوقات الأخرى، وقال أبو هريرة رضى الله عنه: ((إن الحبارى لتموت في وكره من الظالم (5) ))
وقال مجاهد رحمه الله: (إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم).
أيها المسلمون: أما العصاة أنفسهم، أما المفسدون في الأرض، فيكفيكم مذلة المعصية وهوانهم على الله ومن يهن الله فما له من مكرم [الحج:18].
قال الحسن البصري رحمه الله: هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد كما قال تعالى: ومن يهن الله فما له من مكرم وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم، فهو في قلوبهم أحقر شىء وأهونه (1).
ويكفى العصاة المفسدين في الأرض أيضا محق بركة أعمارهم وأموالهم وعلمهم وعملهم، فكل وقت عصى الله فيه, وكل مال عصي الله فيه، أو بدن أو جاه إن علم أو عمل فهو على صاحبه ليس له، إذ ليس له من ذلك إلا ما أطاع الله فيه.
ولهذا قال العارفون: فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها، ويكون عمره لا يبلغ عشر سنين أو نحوها، كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويكون ماله في الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها، وهكذا الجاه والعلم (2).
وقد صح الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم (3) )). وفي الحديث الآخر: ((الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ماكان لله (4) )).
إخوة الايمان: تذكروا أنكم خلق من خلق الله، وأن خلق السموات والأرض أكبر من خلقكم، وهذه السموات والارض في قبضة الله وليس له من شريك في تصرفاتهم: إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا أن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً [فاطر:41]. الم تر أن الله سخر لكم ما في الارض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم [الحج:65].
أجل إن الله جعل الأرض ذلولا يمشي الخلق في مناكبها، ويأكلون من رزقه، وإذا شاء حركها فمادت من تحتها تذكيرا لهم، فهم غير آمنيين من خسف الله بهم، وهم غير آمنين من أن يرسل عليهم حاصبا من السماء فيهلكهم: أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير [الملك:16-17].
ألا فاشكروا الله على نعمه، ولا تستعينوا بنعم الله على معصيته، ولا تغتروا بإمهال الله لكم، ولا تمرن عليكم الزلازل والمحن والمصائب والفتن، دون أن تعقلوا مراد الله منه، فتشوا عن أنفسكم، وكل أدرى بنفسه، وتوبوا إلى بارئكم، وتناصحوا بينكم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن ياتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ماأنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوىً للمتكبرين وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون [الزمر:54-61].
اللهم قنا عذابك يوم تبعث عبادك. اللهم وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك.
(3) الداء والدواء 38 39
(4) الداء والدواء 142.
(5) الداء وادواء.
(1) الداء والدواء 112.
(2) الداء والدواء ، تحقيق يوسف بديوى ، دار ابن كثير / 160 ، 161.
(3) رواه الترمذي وحسنه 2322.
(4) رواه احمد الترمذي في الزهد (28 ) وقال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه خداش ، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات [المجمع 10/222 ].
(1/1190)
عبودية الضراء وحاجتنا إلى الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سليمان بن حمد العودة
بريدة
26/10/1416
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صبر الأنبياء على الضراء 2- الأمر بالصبر والتقوى
3- الصبر ُعدة المسلم حين نزول البلاء
4- جزاء الصبر في الآخرة
5- فضل الصبر والاحتساب في الدنيا
6- علق الله الصبر في الدنيا بعشرين من منازل السائرين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن مع الصبر والتقوى لا يضر كيد العدو ولو كان ذا تسليط:
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط [آل عمران:120].
والصبر والتقوى طريق العز والتمكين، كذلك أخبر الله عن يوسف عليه السلام: إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [يوسف:90].
أيها المسلمون:
حديث اليوم عن عبادة الضراء، وعدة المسلم حين نزول البلاء، وزاد المؤمن حين وقوع الابتلاء، عن الطاقة المدخرة في السراء، والحبل المتين في الضراء.. إنه الصبر تبدو مرارته ظاهرا، ويصعب الاستشفاء به عند الضعفاء، لكن مرارته تغدو حلاوة مستقبلا، ويأنس به رفيقا الأقوياء النبلاء.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم.
ويكبر في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
جعل الله الصبر جوادا لا يكبو، وصارما لا ينبو، وجندا لا يهزم، وحصنا حصينا لا يهدم ولا يثلم.
وهو كما قيل أخي المؤمن: يجول ثم يرجع إليها، مثله للإنسان مثل العروة تثبت في الأرض أو الحائط، تربط بها الدابة، فتتحول ثم تعود إليها.
وهو ساق إيمان المؤمن، فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمان به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة.
فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعالي المنازل بشكرهم، فساروا بين جناحي الصبر والشكر إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم (1).
أيها المؤمنون: لا غنى عن الصبر في هذه الحياة، وإذا استوى الأبرار والفجار في حاجتهم للصبر على نكد العيش ومفاجأة الحياة، فاز الأبرار بالثواب العظيم على صبرهم لأنهم يصبرون في ذات الله، وخاب الفجار لأنهم لا يرجون من وراء صبرهم جزاء ولا شكورا.
وإذا كانت مرارة الدواء يعقبها الشفاء، فقد رتب الله على الصبر المحتسب عظيم الجزاء فقال جل من قائل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10]. قال الأوزاعي رحمه الله: (ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفا (3) ).
عباد الله: وإذا كان المسلم محتاجا للصبر في كل حال فحاجته إليه أشد إذا مرجت العهود، وضعفت الذمم واختلت المقاييس والقيم، ونحتاج للصبر إذا خون الأمين، وسود الخؤون، وألبس الحق بالباطل، وسكت العالمون، وتنمر الجاهلون.
والصبر المشروع هنا ليس يأسا مقنطا، ولا عجزا مقعدا، إنه الثبات على الحق، والنصح بالتي هي أحسن للخلق، والشعور بالعزة الإيمانية مع الظلم والهضم، والثقة بنصر الله وإن علت رايات الباطل برهة من الزمن، فالصبر والنصر - كما قيل - أخوان شقيقان، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر.
أيها المسلم والمسلمة: وأنت محتاج للصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله وعلى أقدار الله.
تحتاج للصبر على الطاعة شكرا للمنعم، وأنسا بالخالق، واستجلابا لراحة القلب وطمانينة النفس، وتحتاج للصبر على الطاعة لطول الطريق، وقلة الرفيق، وكثرة الأشواك.
كما تحتاج للصبر عن المعاصي لقوة الداعي، وضعف النفس، وكيد الشيطان وغروره، وأماني النفس بتقليد الهالكين.
تحتاج للصبر هنا لآفات الذنوب والمعاصي عاجلا، وقبح المورد على الله آجلا.
وتحتاج للصبر على أقدار الله حين تطيش النفس بفقدان الحبيب، وتعلو خفقات القلب للنازلة المفاجئة، وتصاب بالحيرة والاضطراب للمصيبة الجاثمة.
أجل: إن الله يفتح بالصبر والاحتساب على عباده آفاقا لم يحتسبوها، ويغدو البلاء في نظرهم نعمه يتفيؤون ظلالها ويانسون بخالقهم من خلالها، ويتحول الضيق في تقدير غيرهم إلى سعة يغتبطون بها، ولسان حالهم ومقالهم يقول: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا، وربما ذهبت إلى مصاب مبتلى معنَّى ـ في نظرك ـ فتجاسرت على تعزيته في مصيبته فكان المعزى هو المعزي وعاد المعزي يذكر لك من أنعم الله عليه ما خفف المصاب عنه وأنسى، فلا اله إلا الله لا يتخلى عن أوليائه في حال الضراء إذا كانوا معه في حال السراء وما أجمل الصبر عدة للمؤمن في حال الشدة والرخاء.
أيها المسلمون: كم تسلينا آيات القرآن بالصبر فلا نرعوي، وكم تحدثنا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونظل بعد في حيرة من أمرنا، ليس عبثا أن يتكرر الصبر في القران وفي تسعين موضعا، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد عد لها العارفون أكثر من عشرين معنى، ليس تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين إلا نموذجا لها كما قال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [السجدة:24].
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (2).
وعلق خصال الخير بالصبر فقال تعالى: ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون [القصص:80].
وحكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر فقال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [العصر:1-3].
وقرن الصبر بأركان الاسلام ومقامات الايمان: يا أيها الذين امنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين [البقرة:153]. إنه من يتق الله ويصبر [يوسف:90]. إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور [إبراهيم:5]. والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات [الأحزاب:35].
أيها المسلمون: ومن مشكاة النبوة قبس يسلى الصابرين: يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر (1) )).
وكم هي إضاءة قوله عليه السلام: ((والصبر ضياء)) (2). قال النووي رحمه الله: (والمراد أن الصبر محمود، ولا يزال صاحبه مستضيئا مهتديا مستمرا على الصواب ) (3). وقيل: أن عاقبة الصبر ضياء في ظلمة القبر، فيصبره على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا، جازاه الله بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته) (4).
وهل علمت أن الصبر من أعلى درجات الايمان.. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أى الايمان أفضل؟ قال: الصبر والسماحة)) (5).
وعلق عليه ابن القيم بقوله: (وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى أخرها، فان النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة، وترك ما نهيت عنه، والبعد عنه، فالحامل عليه الصبر) (6).
أجل لقد كان في وصية النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضى الله عنهما: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)) (1).
يا أخا الاسلام، وعرف السلف للصبر مكانته وقدره، فقال علي رضي الله عنه: (ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد – فإذا انقطع الرأس بان الجسد – ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له) (2).
وقال عمر بن عبد العزيز يرحمه الله: (ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعو
ضه مكانها الصبر، ما عوضه خيرا مما انتزعه) (3).
وتمثل بعضهم:
صبرت فكان الصبر خير مغبة وهل جزع يجدي علي فاجزع
ملكت دموع العين حتى رددتها إلى ناظري فالعين في القلب تدمع (4)
اللهم اجعلنا ممن اذا أعطي شكر، واذا ابتلي صبر، واذا أذنب استغفر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [البقرة:155].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه... الخ.
(1) عدة الصابرين ، ابن القيم / 12.
(3) تفسير ابن كثير 7 / 80.
(2) عدة الصابرين : 122.
(1) متفق عليه ( البخاري ح 1469. مسلم ح 1053)
(2) رواه مسلم ح 223.
(3) النووي على مسلم 3/103
(4) مشكاة المصابيح2/8.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في الايمان ، والبيهقي في الزهد بسند صحيح ( انظر: تحفة المريض / عبد الله الجعيشن/45).
(6) مدارج السالكين 2/167.
(1) رواة احمد وصحيحه القرطى وحسنه ابن حجر.(تفسير القرطبى 6/398، تخريج احاديث المختصر لابن حجر1/326، وحسنه غيرها : تحفة المريض ، للجعيثن.
(2) ابن تيميه الفتاوى10/40.
(3) صحيح البخاري مع الفتح 11/303 معلقا ، ووصله أحمد في الزهد بسند صحيح.. الفتح 11 / 303.
(4) عدة الصابرين / 151.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا ظاهرا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله قدوة الصابرين، وإمام المجاهدين، وخير البرية أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله المؤمنين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: ويرد السؤال: ماهي حقيقة الصبر؟ ومتى ومن يحتاج إليه؟ وقد قيل: الصبر ثبات باعثه العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة.
وهذا يعني أن الصبر ناتج عن العقل والدين، وأن الجزع والخور سائقهما الهوى والشهوة.
سئل الجنيد عن الصبر فقال: (تجرع المرارة من غير تعبس) (2).
هو باختصار كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل (3).
الصبر سيد الاخلاق، وبه ترتبط مقامات الدين، فما من خلق فاضل إلا ويمر بقنطرة من الصبر، وإن تحول إلى اسم اخر، إن كان صبرا عن شهوة فرج محرمة سمي عفة، وإن كان عن فضول عيش سمي زهدا، وإن كان عن دواعي غضب سمي حلما، وان كان صبرا عن دواعي الفرار والهرب سمى شجاعة، وإن كان عن دواعي الانتقام سمي عفوا، وإن كان عن أجابة داعي الإمساك والبخل سمي جودا.. وهكذا بقية الأخلاق فله عند كل فعل وترك اسم يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كله (الصبر) فأكرم به من خلق، وما أوسع معناه، وأعظم حقيقته (1).
والصبر ملازم للانسان في حياته كلها، وفي حال فعل الطاعات أو ترك المعاصي، وحين نزول البلاء.
قال السعدي يرحمه الله: فالصبر هو المعرفة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه، وخصوصا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر وتجرع المرارة الشاقة، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها، وهي في محل قدرة العبد، وكذلك البلاء الشاق خصوصا إن استمر، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية ويوجد مقتضاها، وهو التسخط إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله والتوكل عليه (2).
أيها المسلمون: ويظن بعض الناس أن الصبر يحتاج إليه في وقت الضراء فحسب، والعارفون يرون الصبر في حال السراء أشد، قال بعض السلف: (البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون). وقال عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه: (ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر). (3)
ويقول ابن القيم رحمه الله: وإنما كان الصبر على السراء شديدا لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره. (4)
والصبر في حال السراء والضراء يرشدك إلى اقتران الصبر والشكر وحاجتك إلى كليهما، قال بعض الائمة: (الصبر يستلزم الشكر ولايتم إلا به، وبالعكس، فمتى ذهب أحدهما ذهب الاخر، فمن كان في نعمة ففرضه الشكر والصبر، أما الشكر فواضح، وأما الصبر فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، أما الصبر فواضح وأما الشكر فالقيام بحق الله عليه في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء، كما له عبودية في النعماء) 1).
يا أخا الاسلام: وإذا علمت أنك محتاج للصبر في حال السراء والضراء وفي حال النعمة أو البلية، فاعلم كذلك أنك محتاج للصبر قبل العمل وأثناء العمل، وبعده، فإن قلت كيف ذلك؟ أجبت: بأن حاجتك للصبر قبل الشروع في العمل، وبعده، فإن قلت وكيف ذلك؟ أجبت: بأن حاجتك للصبر قبل الشروع في العمل تكون بتصحيح النية والإخلاص وتجنب دواعي الرياء والسمعة وعقد العزم على توفية المأمورية حقها، أما الصبر حال العمل فيلازم العبد الصبر عن دواعي التقصير والتفريط فيه، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية وعلى حضور القلب بين يدى المعبود، أما الصبر بعد الفراغ من العمل فذلك بتصبير نفسه عن الاتيان بما يبطل عمله، وعلى عدم العجب بما عمل والتكبر والتعظم بها فإن هذا أضر عليه من كثير من المعاصي الظاهرة، وأن يصبر كذلك على عدم نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سرا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نقل إلى ديوان العلانية فلا يظن أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل.
وهذا تقرير نفيس فافهمه واحرص عليه. (1)
وبعد يا أخوة الاسلام: في حاجة ماسة للصبر في كل أحوالنا، وكذلك ينبغي أن نستصحب هذه العبادة في كل شأن من شؤون حياتنا.
فالصبر سلوتنا على الطاعة لله إخلاصا ومتابعة وديمومة وحفظا.
والصبر عدتنا عن مقارعة المعاصي ومغالبة الشهوة والهوى، والرضى بأقدار الله المؤلمة حين تفجؤنا، وما أحوجنا للصبر في تعلم العلم وتعليمه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحسنى.
والصبر رفيق الدرب حين تظلم الدنيا في وجوهنا فيفتح الله به علينا ما لم يكن في حسباننا، نحتاج للصبر حين يظلم القريب ويجور البعيد، ونحتاج للصبر في الثبات على الحق المجرد من كل قوة إلا قوة الجبار جل جلاله، والخالي من كل منحة إلا منح الرحمن يوم القيامة، ونحتاج للصبر في عدم الاغترار بالباطل إذا دعم بالمال وتكاثر حوله أشباه الرجال، واستشرفت له النفوس، وتطاولت له الأعناق حرصا على مغنم عاجل أو خوفا من بأس ينزل، واذا علم الله صدق النوايا، وتميز الصابرون الصادقون، وانقطعت العلائق بأسباب الارض، وتعلقت القلوب بالله وحده، ورجي النصر منه دون سواه، جاء نصر الله والفتح، وتحققت سنة الله في النصر لعباده الصابرين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون: حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين [يوسف:110].
هذه معاشر المسلمين بعض المفاهيم والمعاني حول الصبر، ويبقى حديث عن مقامات الصبر وأعظم أنواعه، أقسام الناس في الصبر وأفضل الصابرين، ونماذج للصبر، وآثار الصبر عاجلا وآجلا، والأمور المعينة على الصبر وما يضاد الصبر ونحوها من مفاهيم أخرى أرجىء الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم والمسلمين من الصابرين الشاكرين، وأن يرزقنا العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
هذا وصلوا...
(2) عدة الصابرين/ 25
(3) السابق/21.
(1 ) السابق/21.
(2) عدة الصابرين / 27، 28.
(3) تفسير كلام المنان 1/176.
(4) أخرجه الترمذي وحسنه 4/2464.عدة الصابرين/98.
1) ابن حجر : فتح الباري 11/205.
(1) عدة الصابرين / 100، 101.
(1/1191)
فاحشة الزنا: الأسباب والعلاج
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
سليمان بن حمد العودة
بريدة
7/7/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رفض الحيوان لفاحشة الزنا 2- ازدراء الجاهلية للزنا 3- الأسباب المؤدية للزنا:
أ) ضعف الإيمان واليقين ب) إطلاق البصر
ج) الاختلاط د) الإعلام الفاسد
4- العلاج لهذه الفاحشة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون والمؤمنات وقد سبق الحديث عن مقدمات وروادع فاحشة الزنا، تلك التي يكفي أن الله قال في شأنها: ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلاً [الإسراء:32].
وعدها العلماء من أكبر الكبائر الثلاث: الكفر، ثم قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا كما رتبها الله في قوله: والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماًَ [الفرقان:68].
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك)).
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: ولهذا الترتيب وجه معقول، وهو أن قوى الإنسان ثلاثة قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة (4).
هذه الفاحشة التي ترفضها الفطر والعقول السليمة يأنف منها غير الادميين من الحيوان والطير، فقد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي أنه رأى في الجاهلية قردا يزني بقردة فاجتمعت القرود عليه حتى رجمته.
وقال ابن تيمية: وحدثني بعض الشيوخ الصادقين أنه رأى نوعا من الطير قد باض، فأخذ الناس بيضه وجاؤوا ببيض جنس آخر من الطير، فلما انفقس البيض خرجت الفراخ من غير الجنس، فجعل الذكر يطلب جنسه حتى اجتمع منهن عدد، فما زالوا بالأنثى حتى قتلوها. قال الشيخ: ومثل هذا معروف في عادة البهائم (1).
أختاه في الله: ولعظم جرم الزنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء على عدم مقارفته، كما يبايعهن على عدم الإشراك بالله تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين [الممتحنة:12].
وكان العرب وهم مشركون يحرمون الفواحش، وربما قتل بعضهم البنات خشية العار، فنهى القران عن قتلهن بغير حق، ورتب العقوبة المناسبة للفاحشة، ولهذا استغربت هند بنت عتبة بن ربيعة، حين بايعها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فيما بايعها، على عدم الزنى.
و قالت: أو تزني الحرة؟ وكان الزنى معروفا عندهم في الإماء (3).
أيها المسلمون والمسلمات: وليس شئ يقع إلا وله أسباب، ومعرفتنا بالأسباب والعوامل المؤدية لفاحشة الزنى تضع أيدينا على الداء، والوقاية منها وسد الطرق الموصلة إليها يكمن فيها العلاج والدواء، والعاقل من وعى هذه الأسباب، وأبعد نفسه عن مخاطرها، وتأمل طرق العلاج وألزم نفسه فيها.
وأول الأسباب المؤدية للزنى وأحراها ضعف الإيمان واليقين، فإذا ضعف هذا العامل نسي المرء أو تناسى الوعد والوعيد، وأمن العقوبة، وتباعد الفضيحة، وقل في حسه ميزان الرقابة، وانحسر ميزان الرقابة، وانحسر الخوف من الجليل، وقد سبق الحديث: ((لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن)) وفي الحديث الاخر ((من زنى خرج منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عليه (1) )) ، ومن صفات المؤمنين ـ كما جاء في القران الكريم ـ أنهم لا يزنون.
السبب الثاني: النظرة المحرمة، إذ هي سهم من سهام الشيطان، تنقل صاحبها إلى موارد الهلكة، وإن لم يقصدها في البداية ولهذا قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهم ويحفظن فروجهن [النور:30-31].
وتأمل كيف ربط بين غض البصر وحفظ الفرج في الآيات، وكيف بدأ بالغض قبل حفظ الفرج لأن البصر رائد القلب، كما أن الحمى رائد الموت، كما قال الشاعر:
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب إلف
وفي السنة بيان لما أجمله القران في أثر النظرة الحرام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله كتب على ابن ادم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان، وزناهما النظر...الحديث))
فاتقوا زنا العينين، قال أهل العلم: لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ـ الأجنبية ـ ولا المرأة إلى الرجل ـ الأجنبي عنها ـ فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها (3).
إخوة الإيمان: وكم نظرة محرمة قادت إلى نظرات أخرى، وقادت النظرات إلى همسات، ثم مواعد فلقاء، ومعظم النار من مستصغر الشرر:
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور جاء بالضرر
قال الإمام القرطبي رحمه الله: ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا، وحرام على الرجل النظر إلى ذات محرمه نظرة شهوة يرددها (1).
فاذا كان هذا في القرن السابع الهجرى فماذا لو رأى القرطبي زماننا نحن، وماذا عساه يقول عن كلام الشعبي؟ وإذا كان هذا في النظر إلى المحارم فكيف يكون الحال في النظر إلى الأجنبيات او إلى الصور الخليعة او المسلسلات الهابطة التى تختلط فيها النساء بالرجال؟
ومن الأسباب الداعية للزنا أيتها المرأة المسلمة: كثرة خروج المرأة وتبرج النساء، وتكسرهن في المشية، وإلانتهن القول، فهذه وتلك فواتح للشر تطمع الذي في قلبه مرض. وتفتن المستمسك إلا أن يعتصم بالله، وقد نهى الله نساء المؤمنين عن ذلك كله حماية لأعراضهن وصونا لغيرهن عن مواطن الريب، قال تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [ال أحزاب:33].
ويقول تعالى مخاطبا نساء النبى صلى الله عليه وسلم - وغيرهن من باب أولى فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً [الأحزاب:32].
إن مما يؤسف له أن تملأ نساء المسلمين الأسواق العامة، وأن تظهر المرأة بكامل زينتها، وأن ينزع الحياء منها فتخاطب الأجانب وكأنما هم من محارمها، وربما ساءت الأحوال فكانت الممازحة والمداعبة، وتلك وربي من قواصم الظهر ومن أسباب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
إذا كانت هذا منطق الإسلام وهدي سيد الأنام فما بال أقوام يتعللون بالثقة أحيانا ويتذرعون بالحاجة أحياناً أخرى، والثقة شئ وسد الذرائع الموصلة إلى الحرام شيء آخر، والمعرفة المجردة بالأحكام شيء، والانصياع والتطبيق والرضا والتسليم لشرع الله شيء آخر: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [ال أحزاب:36].
أمة الإسلام: ومن أعظم دواعي الفاحشة استقدام الخدم والسائقين تلك المصيبة التى عمت وطمت، وامتلأت بها البيوت لحاجة ولغير حاجة، واعتاد الرجال على الدخول مع النساء المستخدمات وكأنهن من ذوات المحارم وربما تطور الأمر عند الآخرين فجعلها تستقبل الزائرين وتقدم الخدمة للآخرين؟
وليس أقل من ذلك إتاحة الفرصة للسائقين الأجانب بدخول البيوت دون رقيب، إن أحداث الزمن وواقع الناس يشهد بكثير من الجرائم والفواحش من وراء استقدام السائقين والخدم، ولكن التقليد الأبله، والثقة العمياء ربما حجبت الرؤية عند قوم وأصمت آذان آخرين.
اتقوا الله معاشر الرجال في قوامتكم ومسؤوليتكم، واتقين الله معاشر النساء في رعايتكن للبيوت ولا تطلبون من الأزواج ما خالف الشرع أو كان سببا للفحش، ومن يتق الله يجعل الله مخرجاً.
(4) الفتاوى 15/428
(1) الفتاوى 15/147 0
(3) الفتاوى 15/146 0
(1) حديث حسن ( صحيح الجامع الصغير 5/296 )
(3) تفسير القرطبي 12/227.
(1) تفسير القرطبي 12/227.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين مستحق الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله ذي المجد والثناء، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أنار الطريق للأمة وتركها على المحجة البيضاء فلا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلى وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون والمسلمات: ويبقى سبب مهم من الأسباب الداعية لفاحشة الزنا، وهو سماع الغناء والخنا، والعكوف على مشاهدة المسلسلات الهابطة والنظر إلى الأفلام الخليعة، تلك التي تبثها وسائل الاعلام بمختلف قنواتها، إن هذه المشاهد المؤذية تروض البنين والبنات على الفحش، وتذهب عنهم ماء الحياء، وإذا نزع الحياء من أمة فقد تودع منها.
وإني لأعجب كيف لكلمات الآباء وتوجيهات الأمهات أن تصل إلى الاولاد وهم يستقبلون كل يوم عشرات المشاهد والكلمات التى تنسخ بالليل ما سمعوه منهم بالنهار، ويظل الشيطان بالإنسان يغريه ويغويه حتى ينتقل من مرحلة إلى أخرى وكأنما خلق للهو والعبث فلا يكفيه أن يشاهد من الداخل بل يطمع بمشاهدة كل جديد ولو كان فيه حتفه، ولا ينصب بعضهم أعمدة البث المباشر في أول الامر حتى إذا أمن عقوبة الناس أو تخفف بعض الشيء من نقدهم أعلنها وأعلاها، وكان نقد الناس هو العائق عن المجاهرة.
أما ما تحويه هذه الدشوش من بلاء وفتنة، وما تحمله من سموم مبطنة فتلك آخر ما يفكر فيها، وأما ما تحمله هذه المادة المبثوثة من غزو للأفكار فهي أمور مقصودة، ومن تدمير للأخلاق مبرمجة ومدروسة، فذلك ما تغيب عن باله في سبيل اللذة الآتية، والنهم في معرفة ما لدى الآخرين، ومن العجب أنك لا تجد أحدا ـ حين المناقشة ـ يخالفك الرأي في الأثر السيء لسماع الغناء والخنى، والنظر إلى المشاهد المثير للغرائز والعواطف، في أي وسيلة وعبر أي قناة... ومع ذلك تحس بالإصرار على الخطأ أحيانا، وتحس بالتجاهل لنتائج الدراسات العلمية لهذه البرامج على النشئ مستقبلا، لا اعتقد أن البعض جاهل إلى هذه الدرجة، والماساة لا تحل به وحده، بل تطبع جيلا من أبنائه وأبناء غيره لا همّ لهم إلا ضياع الأوقات في زبالات الأفكار الورادة، والاستجابة لتربية الغرباء بدلا من تربية الأمهات والآباء، وإنما القضية ضعف في اتخاذ القرار وانشطار في القوامة بين الرجل والمرأة في البيت.
وكان الواجب يفرض عليهما التعاون على البر والتقوى لما فيه الرشد والفلاح، وسيحس الأبوان حينها بإشراق البيوت بنور الله، وامتلاء القلوب بذكر الله، وستفر الشياطين كالحمر المستنفرة، وستحل محلها الملائكة تشهد الخير وتترك معها السكينة والرحمة، والفرق بين الحالتين كبير، والتجربة أكبر برهان.
يا أمة القرآن: وليس يخفي أن من العوامل الخطيرة لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا صيحات المنافقين، ودعوات العلمانيين، ومن سار في ركبهم لتحرير المراة من كل حشمة ووقار، ومطالبتها بالخروج والاختلاط بالرجال، وهى دعوات مبطنة تتخذ أساليب عدة ـ ليس هذا موضع تفصيلها ـ لكني أنبه إليها بإجمال ليحذر المؤمنون والمؤمنات أولئك الذين يخرجون باسم التقدم والحضارة
في بلادنا بفضل الله بلغت الأمة مبلغا من العلم والوعي لم تعد فيه تنخدع ولا تستجيب لهذه الدعوات التى يعرف أصحابها في لحن قولهم: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم [محمد:29-30].
أيها المسلمون: وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية، فالسفر للبلاد الإباحية دونما حاجة، والتردد كثيرا على البلاد التي ينتشر فيها الفساد وتعلن الرذيلة أسباب جالبة لوقوع الزائر في الشراك، وإن لم يقصدها، وضعف رقابة الآباء والأمهات على البنين والبنات، وغلاء المهور، وضعف التوعية في مدراس البنين والبنات عن مخاطر جريمة الزنا ـ كل هذه وتلك إذا وجدت فهي أسباب من الأسباب المؤدية إلى الزنا ـ نسأل الله السلامة لنا ولسائر المسلمين.
أيها الإخوة والأخوات: وتبقى طرق العلاج رهينة معرفة الأسباب ومرتبطة بعلاجها، فمعرفة السبب وإزالة الداعي إلى الفتنة أول طريق للعلاج، وبالتالي فإن تقوية الإيمان في النفوس، وصرف الأبصار عن الحرام - ((إنما لك الأولى وليس الثانية))- ولزوم الحجاب الشرعي للمرأة، وعدم اختلاطها بالرجال أو خلوتها بهم، والوعي بمخاطر سفر المراة دون محرم، وعدم التهاون بذلك والتنبيه لمخاطر الهاتف والإعراض عن السفهاء، وعدم استقدام السائقين والخدم إلا لضرورة وبالمواصفات الشرعية، فالسائق مع زوجته، والخادمة مع زوجها، والاقتصار على المسلمين دون غيرهم، والحذر من وسائل الاعلام وما تبثه من برامج ساقطة وعدم الانخداع بدعوات المغرضين، أو الاستجابة لأصوات المنافقين، وتيسير المهور، ومراقبة البيوت، والإشراف ومزيد الاهتمام بالبنين والبنات، والاقتصاد في السفر للخارج ـ كل هذه اذا وضعها المسلم نصب عينه، وأولاها من العناية ما تستحق فستكون باذن الله عوامل ناجحة في العلاج وطرق مهمة لقطع دابر الفتنة.
ويبقى بعد ذلك دور الجهات المسؤولة في تنفيذ الأحكام، فلا تأخذ المسؤول لومة لائم في تطبيق الحدود وإقامة شرع الله كما أمر، فالله تعالى ((يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن )) ، وبعض الناس يخيفه عذاب الدنيا ويخشى العار من الخلق أكثر من خوفه من عذاب الله، وخشيته من الفضيحة في الدنيا من الفضيحة الكبرى، وهؤلاء لا تردعهم إلا القوة، ولا يصلح معهم الضعف والمسامحة، والله تعالى وهو أرحم الراحمين يقول في تطبيق الحدود على الزناة: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [النور:2].
ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى كلاما جميلا ومما قاله: وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء:107].
فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير إذ هو في ذلك جاهل أحمق.. إلى أن يقول: ومن الناس من تأخذه الرافة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وذوقه ما ذاقوا من قوة الشهوة وبرودة القلب والدياثة فيترك ما أمر الله به من العقوبة، وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظائره، وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم فوجد كبيرهم مرارته فترك شربه ونهى عن سقيه للباقين [1] ).
نعوذ بالله من الخذلان، ونسالك اللهم البعد عن الفواحش، والدياثة وسئ الخلق.
[1] الفتاوى 15/290/291.
(1/1192)
من أحكام الحج وأخطاء الحجاج
فقه
الحج والعمرة
سليمان بن حمد العودة
بريدة
28/11/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية استحضار الإخلاص عند عزم السفر 2- كتابة الوصية قبل السفر 3- سنن الإحرام
4- الفرق بين أنواع النسك الثلاثة 5- خطأ التلفظ بنية الإحرام 6- آداب وسنن دخول البيت
7- صفة طواف القدوم 8- فضل يوم عرفة 9- صفة الحج
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصي نفسى وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء:131].
إخوة الإيمان: وحديثي إليكم عن شئ من أحكام الحج وأخطاء الحجاج.
وأبدأ الحديث مذكراً بأهم أمر ينبغي أن يتذكره المسلم ويتمثله في كل عبادة لله – ومنها الحج – ألا وهو إخلاص العمل لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعبادة الله وفق ما شرع الله، فلا رياء ولا سمعة، ولا جهل، ولا إخلال بالسنة، أولئك هم الذين يرجون لقاء ربهم، وأولئك هم الذين يتقبل الله أعمالهم. قال تعال: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً (3) [الكهف:110]. إنما يتقبل الله من المتقين [المائدة:27].
وحري بمن عزم على السفر على الحج أن يوصي أهله بتقوى الله، وأن يكتب وصيته، وماله وما عليه، وأن يبادر التوبة النصوح، ورد المظالم وقضاء الديون، لأنه لا يدرى ما يعرض له، كما أن عليه اختيار الرفقة الصالحة، ومعرفة أحكام السفر والحج.
فإذا وصل الميقات سن له أن يغسل ويتنظف، ويأخذ من شعره وأظافره ما يحتاج إلى أخذ، ليس هذا من خصائص الإحرام، ولكنه مطلوب عند الحاجة، وهو سنة، ولذا قال بعض أهل العلم، أما من كانت له أضيحة وعزم على الحج فإنه لا يأخذ من شعره وأظافره إذا أراد الإحرام، لأن هذا سنة، فيرجح جانب الترك المنهي عنه على جانب الأخذ المسنون، وهذا بخلاف التقصير أو الحلق للعمرة أو للحج فإن ذلك نسك فلا بد منه (1).
فإذا اغتسل، وتنظف، وتطيب في جسده – دون إحرامه – ولبس ثياب الإحرام استحب له أن يحرم عقيب صلاة مفروضة إن كانت، وإلا فيس للإحرام صلاة تخصه كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله (2).
واستحب له كذلك قبل الدخول في الإحرام أن يحمد الله، ويسبحه، ويكبره، لحديث أنس رضي الله عنه، وفيه: ((ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله، وسبح، وكبر، ثم أهل بحج وعمرة)) (3).
وهذا من السنن التى قلّ من يتفطن لها، ولذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وهذا الحكم وهو استحباب التسبيح، وما ذكر معه قبل الإهلال قلّ من تعرض لذكره مع ثبوته (4) ).
ثم ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريد، فإن كان قارناً قال: لبيك عمرة وحجاً، وإن كان متمتعاً قال: لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج، وإن كان مفرداً قال: لبيك حجة (5).
ومعنى التمتع أن يحرم بالعمرة ثم يفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه، وعليه هدي كما أن عليه طوافاً وسعياً للعمرة، وطوافاً وسعياً آخر للحج، ولكثرة أعماله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به أصحابه، اعتبره عدد من العلماء أفضل أنواع النسك (6).
أما القران فمعناه أن يحرم بالحج والعمرة جميعاً، وعليه هدي كالمتمتع، وليس عليه إلا سعي واحد بين الصفا والمروة، فإن سعى مع طواف القدوم كفاه عن سعي الحج مع طواف الحج أيام التشريق، لأن هذا الطواف ركن في الحج لجميع الحجاج لا يبدأ إلا في يوم العيد.
أما الإفراد فهو أن يحرم بالحج وحده، وليس عليه هدي، أما في الطواف والسعي فهو مثل القارن ليس عليه إلا سعي واحد، أما الطواف فيلزمه طواف الحج في أيام التشويق، ولو طاف للقدوم (1).
ومن الأخطاء التى يقع فيها بعض الحجاح إعلانهم النية، كأن يقول: اللهم إني نويت الإحرام بالحج متمتعاً أو قارناً أو مفرداً، فهذا لا ينبغي لأن النية محلها القلب، والتلفظ بها بدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بذلك، كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة؟ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسلمين شيئاً من ذلك، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيء من ألفاظ النية، لا هو ولا أصحابه (2).
وهذا التلفظ بالنية المنهي عنه غير رفع الصوت بالتلبية في النسك الذي يريد – كما تقدم – فهذا مطلوب، فيكتفي الحاج المتمتع بالقول لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج، والقارن: لبيك عمرة وحجاً، والمفرد: لبيك حجاً.
ويسن رفع الصوت بالتلبية للرجال، وتخفيها النساء، وهي من شعائر الحج، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((مامن ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهناك)) (3).
قال عليه الصلاة والسلام: ((أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال فإنه من شعائر الحج)) (4).
فإذا وصل الحاج إلى البيت قدم رجله اليمنى، وقال ما ورد عند دخول المسجد، ثم قصد الحجر إن تيسر له ذلك دون مزاحمة، وإيذاء الآخرين، وقبله وإلا استلمه بيده اليمنى، فإن لم يتيسر له يبدأ الطواف قائلا: ( بسم الله، والله اكبر) اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ويكثر من الدعاء والذكر وتلاوة القرآن بقلب خاشع متأمل، وليس للطواف أدعية مخصوصة بكل شوط.
ومن أخطاء الحجاج أنهم يصطحبون معهم حال الطواف أدعية مكتوبة قد لا يفقهون معناها، بل ولا يحسنون نطقها، ولو أنهم دعوا بما عرفوا ويفقهون لكان أولى لهم وأحرى باستجابة دعائهم.
فإذا وصل إلى الركن اليماني استلمه من غير تقبيل إن تيسر، يقول بين الركنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).
وكلما مر بالحجر الأسود كبر مرة واحدة، وأشار إليه بيده اليمنى إن لم يتيسر تقبيله ولا استلامه.
وهنا خطأ يقع فيه كثير من الحجاج وهم يقبلون أو يستلمون أنهم يتمسحون بجوانب من البيت أو المقام، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين فإن النبي صلى الله عليه وسلم استلمهما لأنهما على قواعد ابراهيم، والآخران هما في داخل البيت.. وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم، وسائر ما في الارض من المساجد وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومغارة إبراهيم.. وصخرة بيت المقدس فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة (1).
ويستحب في طواف القدوم الاضبطاع والرمل والاضطباع ان يجعل وسط ردائه تحت ابطه الايمن وطرفه على عاتقه الايسر، فيكون المنكب الايمن مكشوفا اظهارا للجلادة في مقام العبادة، ويظن البعض أن الاضبطاع من حيث يحرم إلى أن يخلع ثياب الإحرام، وإنما محله الطواف فقط، قال ابن عابدين: (والمسنون الاضطباع قبيل الطواف إلى انتهائه لاغير (2) ).
أما الرمل فهو إسراع المشي مع تقارب الخطا من غير وثب، وهو في الأشواط الثلاثة الأولى فقط إن تسير، فإذا فرغ من الطواف سوى رداءه وصلى ركعتي الطواف خلف المقام، أو في أي مكان من البيت إن لم يتيسر، يقرأ في الأولى (الكافرون) وفي الثانية ( قل هو الله احد) ويرقى عليه، ويستقبل القبلة ويوحد الله ويكبره ويقول: لا اله الا الله وحده لا شريك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير، لا اله الا الله وشريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده – يكرر هذا ثلاث مرات، ويدعو بين ذلك رافعا يديه – كما ثبت ذلك من حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم رقم (1218).
وهذا الذكر والدعاء قلّ من يتمسك به مع ثبوته، ثم يسعى إلى المروة، ويسرع بين العلمين الأخضرين، ويدعو ويذكر الله بما شاء، أو يتلو القرآن، ومن الأدعية الثابتة في السعي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ((رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم (3) ) ).
وعلى الحاج أن يتذكر بشكل عام عظمة هذه المشاعر وهو يؤديها، فلا يتحرك جسمه، وقلبه سارح عن الهدف والحكمة منها، وفي السعي مثلا، قال أهل العلم في حكمته:
1 – أن يشعر الساعي بأن حاجته إلى الله وفقره إلى خالقه كحاجة وفقر أم إسماعيل عليه السلام في ذلك الوقت الضيق والكرب العظيم.
2 – وليتذكر أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه السلام، لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه، وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح ـ كما قال الشنقيطي رحمه الله (1) ـ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوف ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة:197].
(3) الكهف / 110.
(1) مجالس عشر ذي الحجة،الفوزان / 17 ـ 37 ، وأحال إلى الشيخ العثيمين في مفيد الأيام 1 / 319.
(2) الفتاوى 26 / 108.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه / ح1551.
(4) الفتح 3 / 412.
(5) الفتاوى 26/ 104.
(6) الفتاوى 26 / 34 ، 54 ، مجالس عشر ذي الحجة / 41 ، 42.
(1) مجالس عشر ذي الحجة ص 55.
(2) الفتاوى 26 / 105.
(3) رواه ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح ، مناسك الحج للألبانى / 17، مجالس الفوزان / 41.
(4) رواه احمد وابن خريمة وسنده صحيح ، الفوزان / 40.
(1) الفتاوى 26 / 1211.
(2) الفوزان ص 51.
(3) صححه الألباني ، كما نقل الفوزان / 54
(1) أضواء البيان 5 / 318.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان : فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن، أحرم من لم يكن محرما بالحج، فإذا كان فجر التاسع تحرك الحجاج إلى عرفات ((والحج عرفة)) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف بها يبدأ من زوال الشمس إلى تحقق الغروب، وينبغي التأكد من الوقوف بعرفة، فإن بطن عرنة ليست من الموقف، ولا يجوز للحاج أن ينصرف إلا بعد تحقق الغروب وينبغي استشعار عظمة هذا اليوم واستثماره بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن مع حضور القلب وخضوعه، فما رئي الشيطان أحقر ولا أذل منه في يوم عرفة إلا ما يروى في يوم بدر، ويخطئ بعض الحجاج في عدم استثمار هذا اليوم وإضاعته بكثرة الأحاديث التي لا قيمة لها، أو غيرها أولى منها، ويخطئ آخرون بإضاعة وقتهم في صعود جبل الرحمة، فهو لا أصل له ولا فضيلة فيه، قال الشنقيطي: وما قاله الطبري والماوردي في استحباب ذلك لا يعول عليه (1).
قال عليه الصلاة والسلام مبينا قيمة الدعاء في هذا اليوم ((خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير)) (2).
فإذا تحقق الغروب سار الحجاج إلى مزدلفة ملبين بسكينة ووقار، فإذا وصلوا مزدلفة صلوا بها المغرب والعشاء جمعا وقصرا ثم يبيتون بها، حتى إذا أصبحوا صلوا الفجر في أول وقتها – كما جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم – ثم يستقبلون القبلة يذكرون الله تعالى ويدعونه حتى يسفروا جدا، ثم يدفعون إلى منى قبل طلوع الشمس ملبين وعليهم السكينة، والمبيت بمزدلفة واجب لا ينبغي التساهل فيه، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء أو أصحاب الأعذار بالدفع منها بعد مغيب القمر.
فإذا وصل الحجاج إلى منى رموا جمرة العقبة – وهي أقرب الجمرات إلى مكة – بسبع حصيات، ولا يرمون غيرها في هذا اليوم.
أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر فيرمي الجمرات الثلاث مبتدئا بالصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، وهنا عدة أمور يحسن التنبيه عليها في الرمي:
- أن الرمي كغيره من أعمال الحج لإقامة ذكر الله – كما ورد في الحديث – وهنا حكمة خاصة ألا وهي تذكر موقف إبراهيم عليه السلام حين أتى المناسك فاعترض له الشيطان في جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون).
فالاقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام مطلب، واستشعار عداوة الشيطان مطلب، كذلك الرمي بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة (1).
من السنة بعد رمي الجمرة الأولى والثانية التوقف بعدهما للدعاء، فتلك من السنن المهملة عند كثير من الحجاج، أما جمرة العقبة فلا دعاء عندها لا يوم للنحر ولا أيام التشريق.
- ينبغى أن يتأكد الرامي من وقوع الحصى في المرمى (موضع الرمي) مجتمع الحصى لا ما سال منه ولا الشاخص، ويخطئ من الحجاج من يرمي من بعد، وقد تقع في المرمى وقد لا تقع، ويظهر آخرون أصواتا عند الرمي لم ترد، ويستخدم البعض النعال عند الضرب، وكل هذا من الجهل.
- ومن أشد الأخطاء التى تمارس حال الرمي إظهار القوة واستخدام العنف مع المسلمين مما يتسبب في مضايقة المسلمين، وربما أدى إلى هلاكهم، فليتق الله الحجاج، وليرفقوا بأنفسهم وإخوانهم المسلمين.
- ويتسامح بعض الحجاج في التوكيل بالرمي، ولو لم يكن هناك حاجة، والأدهى والأمّر أن بعضهم يوكل ويسافر عائدا إلى بلده، والأَولى عدم التوكيل إلا لحاجة شرعية.
ويجوز تأخير الرمي في اليوم الحادي عشر إلى اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر، لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، فيرمي عن الحادى عشر ثم يرجع ويبدأ الرمي عن اليوم الثاني عشر، وهذا أولى من التوكيل.
كما يجوز الرمى ليلاً قال النووي: (الرمى في الليل فيه وجهان أصحهما الجواز) (1).
وبعد رمي جمرة العقبة ينحر المتمتع والقارن هديه – وكل أيام التشريق وقت للهدي – لكن هنا ينبغي التنبيه لكون النحر في الحرم، فمن ذبح هديه خارج حدود الحرم في عرفة أو غيرها من الحل لم يجزئه على المشهور (2).
وينتبه للسنن المشروعة في الهدي، ويأكل ويهدي ويتصدق منها ثم يحلق رأسه أو يقصر والحلق أفضل، فإذا أتم الحجاج رمي الجمار في اليوم الثاني عشر لمن تعجل، وفي الثالث عشر لمن تأخر، وعلى من أراد التعجل أن يخرج قبل غروب الشمس.
ثم يغدوا إلى البيت ليطوفوا طواف الوداع لمن طاف للحج وسعى، ومن أخر طواف الإفاضة – وهو طواف الحج – فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع، لكن ينويه للحج لأنه ركن، وطواف الوداع يدخل ضمنه.
وعلى الحاج أن يسال الله ويبتهل إليه دائما بالدعاء وطلب القبول، ومغفرة الذنوب... فتلك مواطن تسكب فيها العبرات، وتستجاب فيها الدعوات، ويكفر الله بها السيئات.
وعلى الحاج كذلك أن يتعرف على إخوانه المسلمين، ويعاون المحتاج منهم، ويعلم الجاهل، فالحج فرصة لتعارف المسلمين، وتآلفهم، وتعاونهم على البر والتقوى.
وإطعام الطعام من بر الحج، وإهداء الأشرطة أو الكتيبات النافعة من سبيل الدعوة إلى الله.
أيها المسلمون جميعاً: وستظلكم هذه الأيام أيام فاضلة عند الله، ألا وهي عشر ذي الحجة، أقسم الله بها في كتابه فقال: والفجر وليال عشر [الفجر:1-2].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضلها بقوله: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء (2) )).
فاغتنموا هذه الأيام رحمكم الله بأنواع الطاعات، ولا تكن الأيام عندكم سواء، واسألوا الله التوبة والمغفرة والقبول، وألحوا على الله بإصلاح أحوال المسلمين، ونصرة هذا الدين، فان الله سميع مجيب.
واعلموا – رحمكم الله – أنه يجب على من أراد أن يضحى أن يمسك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ويخطئ بعض المضحين، ولا سيما النساء، حين يوكل قريبا له في أضحيته حتى يأخذ أو تأخذ هي من شعرها، وهذا غير صحيح، فالحكم متعلق بالمضحي، سواء وكل غيره أم لا، والذي يظهر كما قال أهل العلم أن هذا الحكم يخص صاحب الأضحية، ولا يعم الزوجة ولا الأولاد إذا أراد أن يشركهم في الثواب، إلا إن كان لأحدهم أضحية تخصه (1).
اللهم هيئ للمسلمين في حجهم يسراً، ويسر للمسلمين عباداتهم.. وتقبلها منهم إنك سميع الدعاء.
(1) أضواء البيان 5 / 263 ، 264.
(2) حديث حسن رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما (صحيح سنن الترمذي 2/184 صحيح الجامع الصغير 121).
(1) ذكره الشنقيطي رحمه الله ، أضواء البيان 5/316.
(1) شرح المهذب – عن مجالس عشر ذي الحجة ص 63 ، ويجوز الرمي ليلاً ، وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء ، نقله ابن بسام في : نيل المآرب 2/438 ، الفوزان والمجالس ص 64.
(2) شرح المهذب 8/190 ، 191 ، الفوزان / 60.
(2) أخرجه البخاري وغيره.
(1) ابن عثيمين : أحكام الأضحية والذكاة ص 55.
(1/1193)
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقصة التحكيم
سيرة وتاريخ
معارك وأحداث
سليمان بن حمد العودة
بريدة
30/10/1415
جامع الراشد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأشعريين 2- أبو موسى الفقيه 3- أبو موسى الإمام المعلم
4- ثناء عمر وثقته بأبي موسى 5- عبادة أبي موسى الأشعري
6- قدح الرافضة في الصحابة
7- تضعيف رواية عزل الأشعري لعلي في التحكيم
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإيمان: وما أجمل العيش في سير القادة العظماء، ويطيب أكثر إذا كان في مواقف وأخبار السادة النجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هم أبر الأمة قلوبا، وأنقاها سريرة وأصلحها سيرة، ويتحتم أكثر فأكثر حين يكون ذودا عن المتهمين زورا وكذبا، وإيضاحا للحقيقة صدقا وعدلا.
أجل لقد جاء الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ونوه الله بذكرهم في التوراة والإنجيل فقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه [الفتح:29].
وفي هذه الخطبة استجلاء لشخصية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، رضي الله عنه، الذي ربما غابت بعض مواقفه البطولية عن بعض الناس، وربما ترسخ في أذهان آخرين ما تنسبه إليه بعض الروايات التاريخية الساقطة من التغفيل والجهل بأبسط قواعد السياسة والحكم في قصة التحكيم، وهو العالم والفقيه والقاضي والوالى والقارئ والكيس الفطن، ويكفيه فخرا أن القرآن نزل في الثناء عليه وعلى قومه كما في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة:54].
أخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هم قومك يا أبا موسى وأومأ إليه [1] )).
وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لأبي موسى وعمه أبي عامر الأشعري في قصة تكشف عن شجاعة وصدق أبي موسى وعمه، وطلب عمه من النبي صلى الله وسلم الاستغفار له وهو في سياقة الموت، وشملت الدعوة أبا موسى، فقد روى البخاري ومسلم – في صحيحيهما – عن أبي موسى قال: ((لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقى دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته، فقلت: ياعم من رماك؟ فأشار إليه، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى ذاهبا، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيا؟ ألا تثبت؟ قال: فكف، فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزّ من الماء، فقال: ياابن أخي: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وقل له: يستغفر لي، واستخلفني أبو عارم على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فلما قدمنا وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم رفع يديه ثم قال: ((اللهم اغفر لعبدك أبي عامر))، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال " ((اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك)) قلت: ولي يا رسول الله؟ فقال: ((اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً [2] )).
إخوة الإسلام: وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه في عداد العلماء الفقهاء أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال صفوان بين سليم – أحد فقهاء التابعين الثقات -: (لم يكن يفتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء: عمر وعلي ومعاذ وأبو موسى (2).
وقال مسروق: كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد، وأبو موسى [3].
ولكفاءة أبي موسى وغزارة علمة، وحسن رأيه، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذاً في اليمن، وولي أبو موسى أمر الكوفة لعمر رضي الله عنه، وكذلك البصرة، وأحسن السيرة في أهلها حتى قال الحسن البصري: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى [4].
ومع هذه السير الحسنة والعدل في الرعية، فلم تكن الولاية في ذهن أبي موسى وغيره من صلحاء الأمة شهوة جامحة، أو سبيلاً للاستعلاء والسيطرة.
وهذا عمر رضي الله عنه، يطلب أبا موسي في رهط من المسلمين بالشام ويقول له: إني أرسلك إلى قوم عسكر الشياطين بين أظهرهم، قال أبو موسى: فلا ترسلني، قال عمر: إن بها جهاداً ورباطاً فأرسله إلى البصرة [5].
وكذلك تكون رغبة الجهاد والمرابطة في سبيل الله ضماناً لموافقة أبي موسى وقبوله بالولاية.
أيها المسلمون: ويظهر الفهم الدقيق – في شخصية أبي موسى رضي الله عنه – لأمور الولاية في الإسلام، فهو الأمير والقاضي، وهو المقرئ ومعلم الناس القرآن، وهو الكيّس الفطن، وهو القائد الفاتح.
فقد قال أبو شوذب: كان أبو موسى إذا صلي الصبح استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم [6].
وعن أنس قال بعثني الأشعري إلى عمر، فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القرآن، فقال عمر: اما إنه كّيس ولا تسمعها إياه [7].
وفي مجال الفتوح، فقد افتتح في أثناء ولايته: البصرة، الأهواز، والرها، وسمساط، وفتح أصبهان [8].
ولذا كتب عمر في وصيته: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين (5).
هذا نموذج لولاية أبي موسى وحسن سياسته، وهو كما ترى مزيج بين الدين والدنيا، أما هذا الانشطار الغريب في الولاية بين أمور الدين والدنيا فلم يكن يعرفه أبو موسى ومن على شاكلته من ولاة المسلمين فيما مضي.
وإن تعجب – يا أخا الإسلام – من حسن سياسته وفهمه لمسؤولية الولاية والإمارة، فالعجب أشد حين تعلم شيئاً من نزاهته وترفعه عن متاع الدنيا وحطامها الفاني، فما ملك القصور والضياع ولا جمع المال والمتاع، ولم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا، كما قال الإمام الذهبي: كان أبو موسى صوماً قواماً ربانياً زاهداً عابداً، ممن جمع العلم والعمل، والجهاد وسلامة الصدر، لم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا [9].
وقال ابنه أبو بردة حدثتني أمي قالت: خرج أبوك حين نزع عن البصرة وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله [10].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
يا أخا الإسلام: وكما أن الأشعري من فرسان النهار، ومن صلحاء أهل الولاية في الإسلام، فكذلك الأشعري كان من رهبان الليل، ومن أهل الذكر والدعاء والصلاة وتلاوة القرآن، فقد روى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ويدي في يده، فإذا رجل يصلي يقول: ((اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
فلما كانت الليلة الثانية دخلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، قال: فإذا ذلك الرجل يقرأ، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتراه مرائياً - ثلاث مرات -، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو مؤمن منيب، عبد الله بن قيس أو أبو موسى أوتي مزماراً من مزامير آل داود، قال: قلت: يا نبي ألا أبشره؟ قال: بلى، فبشرته فكان لي أخا [11] )).
بل هو مؤمن منيب، تلك والله هي الشهادة العظمى، وأكرم بتزكية من لا ينطق عن الهوى، وعجبك لا ينقضي من هذا الصحابي المجاهد حتى لحظات حياته الأخيرة، وقد ورد أن أبا موسى، رضي الله عنه اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً فقيل له: لو أمسكت ورأفت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من عمري أقل من ذلك [12].
توفي أبو موسى رضي الله عنه سنة أربع وأربعين للهجرة على الصحيح كما قال الذهبي [13] ، رضي الله عنه وأرضاه، وألحقنا به وحشرنا في زمرته...
أقول ما تسمعون وأستغفر الله.
[1] السمتدرك 2/313 ، الطبقات لابن سعد 4/107 ، سير أعلام النبلاء 2/384.
[2] البخاري: المغازي 8/34، غزوة أوطاس ، ومسلم / 2498، في فضائل الصحابة ، سير أعلام النبلاء 2/385.
(2) تاريخ ابن عساكر 9/502، مخطوط عن : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2/228.
[3] سير أعلام النبلاء وسنده صحيح 2/388.
[4] سير أعلام النبلا 2/389.
[5] سير أعلام النبلاء 2/389.
[6] ابن عساكر / 504 ، سير أعلام البنلاء 2/398.
[7] أخرجه ابن سعد ورجاله ثقات 4/18.
[8] السابق 2/390 ، 391.
(5) ابن عساكر / 522، السابق 2/391.
[9] سير أعلام النبلاء 2/396.
[10] رواه ابن سعد في الطبقات 4/111، سير أعلام النبلاء 2/400.
[11] انظر شرح السنة البغوي 5/37، 38، سير أعلام البنلاء 2/386.
[12] سير أعلام النبلاء 2/393.
[13] سير أعلام النبلاء 2/398.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته وهداه، وأضل من شاء بعلمه وحكمته، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يمتحن الناس في هذه الحياة الدنيا، فيغتبط الصالحون ويندم المفرطون المفسدون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ربى صحابته على الإيمان والتقى، فكانوا منارات يستضاء بها في الأرض كحال النجوم في السماء، اللهم صل على محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.... وبعد:
فأي عقل لبيب وأي منطق سليم يرضي ويقنع بروايات أهل البدع والأهواء في هذا الجيل الفريد، وقاتل الله الرافضة فكم شوهوا في تاريخنا وكم حرفوا في مروياتنا.
ولقد نال أبا موسى الأشعري رضي الله عنه من هذا التشويه والتحريف ما أصبح مادة لمن في قلوبهم مرض، فراموا تشويه تاريخ الصحابة بهدف تشويه الدين أساساً، وتأمل مقولة الإمام مالك رحمه الله في هدف الذين يقدحون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه، حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين [1].
ومما ذاع وشاع في التاريخ قديماً وحديثاً موقف الحكمين: أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما في قصة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، حين وقعت الفتة، وأن موقف أبي موسى رضي الله عنه يمثل موقف المغفل المخدوع، بينما يمثل موقف عمرو بن العاص موقف الماكر الخادع.
إذ اتفقوا – كما تقول الرواية الساقطة – على أن يخلع كل منهما صاحبه أمام المسلمين وتولي الأمة من أحبت، فابتدأ أبو موسى وخلع صاحبه علياً، فلما جاء دور عمرو بن العاص وافق على خلع علي وأثبت صاحبه معاوية؟ فهل تليق هذه المراوغة بالصالحين من أبناء المسلمين فضلاً عن نسبتها للمؤمنين الصادقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟
إن المقام لا يتسع للحديث عن شخصية عمرو بن العاص الإيمانية ومواقفه الجهادية، وعسى أن تتاح الفرصة لذلك قريباً.
ولكن القضية مرفوضة أولاً بميزان العقل والمنطق، فكيف يتهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بالتغفيل، وقد أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زبيد وعدن، واستعمله عمر رضي الله عنه على البصرة حتى قتل، ثم استعمله عثمان على البصرة، ثم على الكوفة وبقي والياً عليها إلى أن قتل عثمان، فأقره علي رضي الله عنه، فهل يتصور أن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفاؤه من بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التى ترويها قصة التحكيم [2] ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقا على حديث البخاري في بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: واستدل به على أن أبا موسى كان عالماً فطناً حاذقاً، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج والرافض فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة، لما صدر منه في التحكم بصفين [3].
وكيف يسوغ أن يتهم الفقيه القاضي، والعالم المتجر بمثل هذا؟ بل ويقطع الفاروق عمر رضي الله عنه بكياسة أبي موسى، ومن هو أفضل من الفاروق في تقويم الرجال: (ألا إنه كيّس، ولا تسمعها إياه).
والقضية مرفوضة ثانياً بميزان العلم والنقد، وليس نقد السند بأقل من نقد المتن، فرواتها الذين صدروها ابتداء متهمون، وهم من أهل الأهواء والبدع، ويكفي أن فيها أبا مخنف، لوط بن يحيى، وهو شيعي محترق كما قال أهل العلم: هو مشهور بالكذب والافتراء والدس والتشويه في التاريخ عموماً، وأحداث الفتنة بين الصحابة خصوصاً.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ولا ريب أن غلاة الشيعة يبغضون أبا موسى رضي الله عنه لكونه ما قاتل مع علي، ثم لما حكمه على نفسه عزله وعزل معاوية، وأشار بابن عمر فما انتظم من ذلك حال [4].
إخوة الإسلام: وإذا رفضنا هذه المرويات الكاذبة لسقوطها سنداً ومتناً فما هى الرواية الصحيحة في التحكيم والتى تليق بمقام الصحابة رضوان الله عليهم، هناك رواية أخرجها البخاري في تاريخه مختصراً بسند رجال ثقاة، وأخرجها ابن عساكر مطولاً عن الحضين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو بن العاص فقال له: (إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره – يعني في مسألة التحكيم بينه وبين أبي موسى الأشعري – فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا، ولا والله ما كان ما قالوا، ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قال – عمرو – فقلت أين تجعلنى من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغني عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما [5].
فأين الخداع، وأين الكذب، وأين التغفيل والمراوغة، في مثل هذه المرويات الصحيحة؟.
إن تاريخ الأمة المسلمة محتاج إلى استجلاء وتصحيح ونظر وتدقيق، وإن تاريخ الصحابة بالذات محتاج إلى تمحيص وفقه لأخذ الدروس والعبر، ومعرفة الطريق الأبلج، والمنهج الإسلامي، وكم من كنوز هذا التاريخ تحتاج إلى استخراج، وكم من عبر تنتظر السالكين إلى الله.. ويأبى الله إلا أن يدافع عن الذين آمنوا ولو كذب المنافقون، ولو تزيد المزايدون. قال تعالى: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [الرعد:17].
أيها المسلمون: إن من أعظم الدروس التي نستفيدها من هذا الحدث، أن تدرك كيف تُروج إشاعات، وكيف تُساق جزافاً الاتهامات، وإذا كان هذا في جيل محمد صلى الله عليه وسلم، فغيرهم من باب أولى!.
فهل يتثبت المسلمون في أخبار الموتورين، وهل يتأكدون من الشائعات قبل ترويجها... وهل نحافظ جميعاً على سمعه الخيرين من المبطلين.. وهل نزن الأمور بميزان الشرع والحق، لا بميزان الهوى والباطل... إن ذلك خليق بالمسلم الذي يقرأ قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [الإسراء:36].
[1] الصارم المسلول / 513 ، مرويات أبى مخنف / 10.
[2] أمحزون : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2/266، 277.
[3] الفتح 8/62.
[4] سير أعلام النبلاء 2/394.
[5] أنظر : مرويات أبى حنف في تاريخ الطبرى : يحيى اليحيى / 408.
(1/1194)
وصايا العام الدراسي الجديد
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد بن محمد المختار الشنقيطي
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1-تذكير المعلمين والمعلمات بعظم الأمانة الملقاة على عواتقهم. 2-قدوة المعلمين. 3-توجيه أولياء أمور الطلاب لاحترام المعلمين. 4-دعوة الطلاب للإخلاص والتقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله: في الغد القريب تفتح مدارس العلم أبوابها، ويقبل عليها طلابها وطالباتها فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا العام عاماً مباركاً، وأن يجعله عام عزة ونصرة للإسلام والمسلمين.
يا معشر المعلمين والمعلمات: والمربين والمربيات الفاضلات: يا من جعلكم الله مشاعل للنور والرحمة هاهم أبناء المسلمين وبناتهم قد أقبلوا عليكم محبين مجلين أقبلوا عليكم بكل شوق وحنين ينتظرون منكم علوماً نافعة، ينتظرون منكم الوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، فخذوا بمجامع تلك القلوب إلى الله، ودلوها على محبة الله ومرضاة الله، واغرسوا فيها الإيمان والإحسان والعبودية لله ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين [فصلت:33].
يا مشاعل النور والرحمة: ما كان لله دام، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، فأخلصوا -رحمكم الله- لله القول والعمل.
قال الحسن البصري رحمه الله: لايزال الرجل بخير إذا قال: قال لله، واذا عمل: عمل لله، الإخلاص هو الهدى والنور، عاقبته الرضا والسرور، وجنات الفردوس والحبور، ما كان في قليل إلا كثره، ولا يسير إلا باركه، قال بعض السلف رحمهم الله: كم من عمل قليل كثرته النية.
فيا مشاعل النور والرحمة: أخلصوا لله ذي العزة والجلال، أخلصوا له في القول والفعال تنالوا رحمة في الدنيا وفي المال.
يا مشاعل النور والرحمة: رسالة العلم رسالة التعليم إئتساء واقتداء بأشرف الخلق سيدنا محمد ، كان خير المعلمين إمام المربيين والموجهين، كان خير المعلمين، قال معاوية وأرضاه: ((فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله ما كهرني ولا ضربني ولاشتمني)) 2 ، وقال أنس بن مالك وأرضاه: (ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله ، ولقد صحبته عشر سنين ما قال لي يوماً أف) 3.
كان خير المعلمين، كان خير المربين، حينما كان حليماً رحيماً رفيقاً رقيقاً، ييسر ولايعسر، ويبشر ولا ينفر، كان خير المعلمين حينما كان طليق الوجه دائم البشر والسرور، قال جرير وأرضاه: (ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي) 4.
أقبل أبناء المسلمين على المعلمين، وأقبلت البنات على المعلمات، حقوق وواجبات، أمانات ومسئوليات برأت من حملها الأرض والسموات، وأشفقت من عبئها الجبال الشم الشامخات الراسيات، حمل هذه الأمانات المعلم، حملتها المعلمة، حملها كل واحد منهما أمانة على ظهره ووضعها في رقبته وعنقه، لكي يرهن بها بين يدي الله ربه، فطوبى ثم طوبى للمخلصين والمجدين والمجتهدين والمثابرين الناصحين، ثم ويل وويل للمستهزئين والمستخفين والمضيعين وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليُسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [العنكبوت:13].
يا معشر المعلمين والمعلمات والمربين والمربيات: انعقدت عليكم الآمال بعد الله ذي العزة والجلال، انعقدت عليكم في هداية الناس من الضلال، في تعليم الجاهل وتربية السفيه، سيأتيكم أقوام وفئام، يأتيكم الجاهل بجهله، والسفيه بسفهه، فاصبروا رحمكم الله وصابروا واغرسوا بأيديكم بذوراً قريباً يكون ثمارها، وقريباً يكون حصادها، اغرسوا بأيديكم العلوم النافعة، واغرسوا بأيديكم الأخلاق الجامعة لخيري الدنيا والآخرة.
التعليم رسالة عظيمة تقلدها الأنبياء، وورثها العلماء، وقام بها الأخيار والصلحاء، فطوبى لمن عرف حقها، وأدى حقها على الوجه المطلوب الذي يرضي الله جل جلاله.
يا معشر الآباء والآمهات: الله الله في حقوق المعلمين والمعلمات وحقوق الأبناء والبنات، اغرسوا في قلوب أبنائكم وبناتكم حب العلم والعلماء، اغرسوا في قلوب أبنائكم وبناتكم إجلال المعلمين والمعلمات وتوقيرهم وإحترامهم طلباً لمرضات الله سبحانه وتعالى، علموهم الأدب قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطلب.
هذه أم النبراس والقبس الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه وعليها، لما أرد أن يطلب العلم ألبسته أحسن الثياب ثم أدنته إليها، أدنته تلك المرأة الصالحة، ومسحت على رأسه، وقالت: يا بنيّ أذهب إلى مجالس ربيعة، وأجلس في مجلسه، وخذ من أدبه ووقاره وحشمته قبل أن تأخذ من علمه.
علمته قبل أن يجلس في مجلس الدرس والطلب.
وهذا رب العزة والجلال يخاطب حبيبه وكليمه موسى صلوات الله وسلامه عليه فيقول: اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [طه:13-14].
علمه سبحانه الأدب: اخلع نعليك علمه أدب الحديث: فاستمع لما يوحى ثم أوحى إليه بالتوحيد والشريعة: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري.
الأدب ثم الأدب قبل أن يجلس الإنسان في مجالس العلم والطلب، يتعلم للعلم الوقار، يتعلم له الحشمة والقرار.
وينطلق الأبناء والبنات وقد غرس الآباء والأمهات في نفوسهم المعاني السامية معاني الإسلام الكريمة التي تدعوهم إلى احترام الكبير، وتوقير كل من أمر الله له بالتوقير.
يا معشر الآباء والأمهات: تضيع رسالة العلم إذا ضاعت حقوق المعلمين والمعلمات، إذا أصبح الآباء ولأمهات لايتابعون الأبناء والبنات، ولا يسألون عن أحوالهم، ولا يتفقدون حالهم.
تضيع رسالة العلم بضياع هذه الأمانة العظيمة فاشحذوا هممكم رحمكم الله واحتسبوا الأجر عند الله بالمتابعة والملاحظة والتوجيه للأبناء والبنات.
يا معشر الآباء والأمهات: أعينوا الأبناء والبنات على ماللعلم من مشاق ومتاعب.
هذه أم سفيان الثوري رحمة الله عليه وعليها، يا لها من أم صالحة، توفي أبوه وكان صغير السن حدثا، فنشأ يتيماً لا أب له، ولكن الله رزقه أماً صالحة كانت عوضاً له عن أبيه، أم وأي أم هذه الأم الصالحة، لما توفي زوجها تفكر سفيان رحمه الله في حاله وحال إخوانه وحال أمه فأراد أن يطلب العيش والرزق، وينصرف عن طلب العلم، فقالت له تلك الأم الصالحة مقالة عظيمة مباركة قالت له: أي بني اطلب العلم أكفك بمغزلي، فانطلقت الأم تغزل صوفها وتكافح في حياتها حتى أصبح سفيان علماً من أعلام المسلمين، إماماً من أئمة الشريعة والدين.
وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة الصالحة أعظم الله ثوابها عن المسلمين.
يا معشر الآباء والأمهات: في الآباء آباء وأي آباء، وفي الأمهات أمهات وأي أمهات، فاحتسبوا الأجر عند الله عز وجل في القيام بحقوق الأبناء والبنات، وإسداء الخير إليهم.
تضيع رسالة العلم، وتقتل المعنويات، وتضيع الأمانات إذا استخف الآباء والأمهات بحقوق المعلمين والمعلمات، حينما ينطلق الأبناء والبنات إلى مقاعد الدراسة دون توجيه ولا إرشاد ولا تربية، يعبث هنا وهناك، ويلغوا كيف يشاء حتى تضيع طاقات وإمكانات بعبث العابثين وسخرية المستهزئين حتى إذا أوذي ابنه وقوم على السبيل أقام الدنيا وأقعدها، فانطلق ذلك الآب لكي يسب هذا ويشتم هذا ويستخف بالمعلمين ويهينهم أمام المدرسين، فأي معنوية ننتظرها إذا أهين المعلم أمام إخوانه من السفلة والرعاع، أصبح كثير من المعلمين لايستطيعون القيام بكثير من الواجبات والحقوق بسبب تفريط الآباء، كذلك المعلمات أضعن كثيراً من الأمانات والواجبات بسبب تدخل الأمهات وكثرة الشكاية هنا وهناك.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله اتقوا الله في حقوق المعلمين عليكم، واتقوا الله في حقوق المعلمات عليكم فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
من منا الكامل؟ وأنت بين أبنائك وبناتك كم تظلم، وكم تؤذي، وكم تضرب، وكم تجاوز من حدود الله جل وعلا؟ ولكنك تنسى الإساءة في عظيم إحسانك إلى أبنائك، فكيف بهذا المعلم الذي أقام لابنك وعلمه وأدبه، ويريد الخير له، فاحتسبوا رحمكم الله في إكرام المعلمين والمعلمات:
إن المعلم والطبيب كلاهما لاينصحان إذا هما لم يكرما
فاقنع بدائك إن جفوت طبيبها واقنع بجهلك إن جفوت معلماً
أكرموا المعلمين والمعلمات، واغرسوا في قلوب الآبناء والبنات حبهم وتوقيرهم وإجلالهم والصبر على أذيتهم يكن لكم في ذلك خير كثير.
عباد الله تضيع رسالة التعليم إذا ضاعت حقوقه وواجباته، تضيع رسالة التعليم من المعلمين والمعلمات بالسهر إلى ساعات متأخرة بالليل مع الأصحاب والأحباب، فتضيع حقوق الطالبات والطلاب، ويأتي المعلم إلى درسه وقد خارت قواه.
وتأتي المعلمة وهي في غاية الكسل والخمول، الناس في ذرى العلياء وهم يجدون ويجتهدون، فكونوا عباد الله خيراً منهم، وارتقوا عن هذه الأمور التي تضيع بها الحقوق والواجبات.
اللهم إنا نسألك السداد والرشاد، ونسألك صلاح الحال في الدنيا والآخرة.
2 - أخرجه مسلم في كتاب المساجد/باب تحريم الكلام في الصلاة ( 5/20) بشرح النووي.
3 - أخرجه البخاري في كتاب المناقب/ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (6/654) فتح، ومسلم في كتاب الفضائل باب رقم 51.
4 - أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار /باب ذكر جرير بن عبدالله البجلي (7/164) الفتح، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل جرير بن عبدالله ( 16/35) بشرح النووي ، عن جرير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آل بيته الطيبين والطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر الميامين، وعلى جميع من سار على نهجهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
يا معشر الطلاب والطالبات: هاهي أيام العلم قد أقبلت فأقبلوا عليها بجد وإخلاص.
خير الوصية وأجمعها وأعظمها على الإطلاق وأشرفها: الوصية بتقوى الله عز وجل، وصى الله بها الأولين والآخرين، وذكّر بها الأنبياء والمرسلين، وحث عليها الأخيار والصالحين فقال في كتابه المبين: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله
اتقوا الله فإن الله يهدي بالتقوى من الضلالة، ويعلم بتقواه من الجهالة، ومن يتق الله يجعل له فرقاناً: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
يا معشر الطلاب والطالبات: تذكروا حديث رسول الله : ((من تعلم العلم ليماري به السفهاء أو يجادل به العلماء فليتبوأ مقعده من النار)).
يا معشر الطلاب والطالبات: إذا سلكتم سبيل العلم فاذكروا قول رسول الله : ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)).
أشرف العلوم وأزكاها وأحبها إلى الله جل وعلا علوم الدين، وأشرفها علم العقيدة والإيمان ثم علم الشرائع والأحكام، فجدوا واحتسبوا، ننتظر منكم خيراً كثيراً، وما ذلك على الله بعزيز: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
إذا علم الله في قلبك أنك تريد أن تكون من أهل العلم الصلحاء، ومن الأخيار العلماء الأتقياء وفقك وسددك وألهمك ويسر لك الخير حيثما كنت.
كما نريد العلماء ونريد من يقوم بثغور الدين، فإننا كذلك نريد من يقوم بسد ثغور الدنيا، ننتظر العلوم على اختلافها مالم تعارض شريعة ربنا، ننتظر الطبيب بطبه، والمهندس بهندسته، وكل عالم ينفع الأمة بعلمه، ننتظر الخير الكثير، وهذه ثغور الإسلام نتنظركم يا شباب الإسلام فجدوا واجتهدوا، واعلموا أن الغايات والأهداف النبيلة لاتدرك بالمنام، ولا تطلب في الأحلام، ولكن تريد الجد والإجتهاد والكفاح والصبر والصلاح والإصلاح، فإذا أخذ الله بيد عبده وفقه وفتح له أبواب الخير ويسرها له.
أتقنوا يا معشر الطلاب والطالبات العلم ولا ترضوا بالقليل، واسموا إلى المعالي، وتخلقوا بالأخلاق الكريمة والفضائل، واجتنبوا سفاسف الأمور والرذائل.
إضاعة الحصص والمحاضرات في الضحك واللهو والفكاهات دمار لك أخي الشاب وإن كان يصنعه غيرك فاردعه، فإنه يؤذيك في مستقبلك، ويضيع عليك في تحصيلك، فتعاون رحمك الله للبلوغ إلى المصالح العظيمة، ودرء المفاسد الكثيرة.
ألا وصلوا وسلموا على خير خلق الله الرحمة المهداة والنعمة المسداة، فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً)).
عباد الله إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه وآلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/1195)
الحقوق الزوجية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
إحسان بن محمد شرف الحلواني
الطائف
ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المفهوم الخاطئ للعلاقة الزوجية عند بعض الأزواج. 2- العلاقة الزوجية تقوم على المودة والرحمة. 3- أسباب المشاكل العائلية. 4- معنى القوامة والشراكة في العلاقة الزوجية. 5- بدعة المولد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون:
فإنه على قدر صلاح الأسرة يكون صلاح الفرد، وما يحدث من مشاكل وكوارث ومصائب في الأسر إنما هو نتيجة عدم علم كل من الزوج والزوجة بالحقوق والواجبات، بالحقوق المترتبة عليهما لقاء عقد الزوجية المبرم بينهما، هناك حقوق وهناك واجبات يرتبها الإسلام بموجب العقد الشرعي.
مما يؤسف له أن الكثير من المسلمين من الرجال أو النساء لا يدركون هذه الحقوق ولايعرفون هذه الواجبات والمسؤوليات، وكل الذي يفهمونه من الحياة الزوجية أنه لقاء جنسي يقضي الإنسان وطره من زوجته، وتقضي المرأة وطرها من زوجها ثم لايعود لهما بعد ذلك أي اهتمام بما يترتب على هذا العقد من الحقوق.
وأدى هذا الفهم المغلوط إلى وجود الانفصام والانفصال وعدم وجود التربية الإسلامية الصالحة في البيوت فإن البيت إذا امتلأ بالشحناء والبغضاء والمشاكل والمخاصمات والسب والشتم والقطيعة، انعكست كل هذه الأخلاق على النشء، ووجد جيل خامل جيل فاشل، لأنه اكتسب هذه الأخلاق كلها من الأبوين الأم والأب.
الحياة الزوجية في نظر الإسلام شركة فيها طرفين: الزوج والزوجة، على الزوج حقوق وواجبات، وعلى الزوجة حقوق وواجبات، وقد جعل الله عز وجل الحياة الزوجية آية من الآيات الدالة عليه فقال جل من قائل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
هذه الشركة قائمة على عنصرين الأول: المودة، والثاني: الرحمة، وإذا لم يتوفر هذان العنصران في الحياة الزوجية تحولت إلى حياة بهيمية، يلتقي فيها الرجل والمرأة كما يلتقي البهيم بالبهيمة، ولا علاقة ولامودة ولارحمة ولاتقدير ولا احترام، وإنما مشاكل على مشاكل حتى تصبح حياة كل من الرجل والمرأة معقدة، ويترتب على ذلك كراهية الإنسان حتى لنفسه، وكل هذا نتيجة عدم علم كل من المرأة والرجل بالواجب والمسؤولية الملقاة على عاتقهما تجاه بعضهما البعض.
والذي ينظر في حال مجتمعنا اليوم فإنه يجد بالإضافة إلى نسبة الطلاق المرتفعة، والذي هو أبغض الحلال إلى الله، يجد أيضاً أن كثيراً من البيوت تعيش مشاكلاً وهموماً مستعصية لأنها لا تقوم على المودة والرحمة، بل تقوم على السباب والإهانة والاحتقار والشتم والتسلط والسخرية والكراهية، وحتى تتضح الأمور ويعرف كل إنسان ماله وما عليه، وكيف يمكن أن يحقق السعادة مع زوجته ومع أولاده فإننا نبدأ بذكر بعض الحقوق والواجبات التي فرضها الشرع الإسلامي على الرجل تجاه امرأته: فالله فرض للمرأة من الحقوق مثل مافرض للرجل من الحقوق فقال تعالى: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فللمرأة من الحقوق مثل الذي عليها من الواجبات وللرجال عليهن درجة ، والدرجة هي المسؤولية والقوامة، باعتبار أن الحياة الزوجية شركة لابد لها من مسؤول واحد فقط، إذ لو كان فيها مسؤولان اثنان فإن الشركة تتخبط وتفشل، ولم نسمع في العالم كله أن هناك شركة لها مديران لهما نفس الصلاحيات والمسؤوليات، ولم نسمع في العالم كله أن هناك دولة مستقرة يديرها ملكين أو رئيسين، فوجود أكثر من مسؤول في مكان واحد يؤدي إلى تضارب في التوجيهات والأعمال، والحياة الزوجية شبيهة بالشركة أو الدولة، فالمسؤول الأول فيها هو الزوج، ونائب الرئيس هي الزوجة، وبقية أعضاء الشركة هم الأبناء وأفراد الأسرة، فإذا انطبع هذا الشعور في ذهن الزوج إنه المسؤول الأول لكنه ليس مستبداً وليست الكلمة الأولى والآخيرة دائماً له، إنما يستشير ويطلب الرأي ويطلب النصح ويتقبله، فهذا رب شركة زوجية صالحة، وأما إن ظن أن المسؤولية استبداد وعدم أخذ للرأي وتسلط وعدم إقامة وزن لأحد ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فإن فعل ذلك فإن رئاسته فاشلة وسيأتي يوم من الأيام يدير فيه هذه الأسرة لوحده ليس فيها غيره.
فلا أحد معصوم إلا رسول الله وليس معنى قوامة الزوج أن يكون معه الحق دائماً، وليس معنى قوامته أن لايقول له أحد: أنت مخطئ، وليس معنى قوامته أن لا يستشير أحداً.
إن الزوج له واجبات وعليه واجبات، وإن من الناس – للأسف- من يرى أن زوجته ملك عنده أو خادمة عنده، فهي طوع أمره ورهن إشارته، ومن الرجال من يخالف زوجته ولو كانت على حق، فمعنى القوامة عنده أنه إذا قالت: شرق. قال: غرب. وإن قالت: شمال. قال: جنوب وإن قالت: نعم. قال: لا. وإن قالت: لا، قال: نعم، فيعاكسها ويخالفها في كل شيء، فإن قلت له لماذا تفعل ذلك؟ قال: لأظهر سلطتي وقدرتي، إني أنا الرجل، إني صاحب القرار، صاحب الكلمة إنني الأول والأخير في الأسرة، وإن الأسرة لا رأي لها، سبحان الله ومن قال لك يا هذا أن هذا هو الإسلام؟ ومن أخبرك بهذا؟
إن أجل نعمة أنعمها الله على المسلمين هي نعم الحرية، حرية الرأي وحرية الكلمة فلا يجوز لأحد أن يمنعها ظاناً أن ذلك من الإسلام ومن مبادئه.
أيها الزوج: أنت صاحب القرار، لكن لابد لك من أخذ رأي الرعية، ثم حاول أن تكون آراؤك متوافقة ومنسجمة مع آراء من يعيشون معك ليل نهار في الحق، خذ رأي زوجتك وأبنائك لكن إن كان مخالفاً للشرع فالواجب عليكم جميعاً رفضه، أما إن جاء الحق مع زوجتك، ورأيت أنه من العيب أن تأخذ الحق من لسانها فهي امرأة وأنت رجل فتقول: لا إنها إمرأة والله لا نأخذ برأيها، وتأتي بالباطل من رأسك فتفرضه فهذا منتهى الفساد.
في عمرة الحديبية أمر الرسول الصحابة أن يحلوا بعد عقد صلح الحديبية على أن يرجعوا تلك السنة ويعودوا في العام المقبل، فصعب ذلك على الصحابة، وكانت كل بنود الإتفاقية صعبة عليهم، ولكن الله أمره بذلك، فلما لم يحلوا من عمرتهم خاف عليهم الرسول من العذاب لعدم تنفيذهم أمر الله، فدخل مغضباً على زوجه أم سلمة وقال: هلك قومك، قالت: لماذا يا رسول الله؟ قال: آمر فلا أطاع، قالت: يارسول الله أدع بحلاق واحلق شعرك، فما أعظم عقلها وحكمتها، قالت: فإنهم سيقتدون بك وينتبهون من ذهولهم بمجرد أن يروا فعلك، وهذا ما حدث فما إن بدأ الحلاق بشقه الأيمن حتى تهاوى الصحابة بعضهم على بعض يحلقون ويتحللون، والرسول هنا لم يرفض رأي أم سلمة لأنها امرأة، بل إن للمرأة رأيها واحترامها ومكانتها ورأيها مقبول مادام موافقاً لشرع الله تعالى، وأما إن كان رأيها مخالفاً للشرع فإنه مردود لا لأنه صادر من امرأة بل لأنه مخالف للشرع، والباطل مردود من أي مصدر جاء رجل أو امرأة.
إن على الرجل والمرأة على السواء أن يعلموا أن الحياة الزوجية عهدة ومسؤولية، الله سائلهم عنها يوم القيامة، يوم الوقوف عليه.
أنت أيها الرجل مسؤول عن زوجتك وستسأل عنها يوم القيامة، فهي أمانة في عنقك، يقول الرسول : ((فاتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم)) أي أسيرات عندكم، مسكينة زوجتك أيها الرجل، سلمها لك أبوها لتكون في حمايتك ورعايتك وإكرامك، ولا يدري أبوها ماذا تصنع بها؟ ولا تدري أمها ماذا تصنع بها؟ ولا يدري أخوها ولا أقاربها، تعذبها في البيت فلا تخبر أهلها حتى تعيش معك وحتى لايضيع الأولاد، وتهينها وتسبها لا يدري أهلها عنها، لكن الله يعلم ويرى ويطلع على حالك وحالها.
إنها أسيرة يقول الرسول : ((إنهن عوان عندكم أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) ، وكان يقول: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)) أفضلكم عند الله منزلة من كان أفضلكم وأحسنكم عند أهله، فأهله يحبونه ويحترمونه لمعاملته الحسنة والله يحبه من أجل ذلك، إن الذي ليس فيه خير لأهله ليس فيه خير لنفسه أو للناس خارج الأسرة.
هذا هو معنى القوامة الحقيقي، وسنذكر إن شاء الله في الأسبوع القادم حقوق المرأة التي على الرجل، نسأل الله أن يجعلنا بارين مقسطين مؤدين لحقوقنا وواجباتنا حتى تتحقق السعادة والرضى في أنفسنا وبيوتنا وأسرنا ومجتمعاتنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأصلي وأسلم على محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه ومن سار على دربه ونهج طريقه واقتفى إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن من علامات حب الله وحب رسوله اتباع أمر رسوله وعدم مخالفتها، ففي ذلك الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، وأما أن يخالف المسلم أوامر الله وأوامر رسوله، ثم يعتقد أنه بإحتفاله بذكرى مولد رسول الله ، يعتقد بذلك أن سيغفر له وأنه بذلك قد وجبت شفاعة الرسول له فهذا غير صحيح ومخالف لسنة الله الكونية، فإن لكل مجتهد نصيب، فمن فعل الأمور التي بينها رسول الله وجبت له شفاعته ((من تمسك بسنتي عند فساد أمتي وجبت له شفاعتي)) أما أن يقارف الإنسان المعاصي والشهوات والملاذ ثم يرجو أن يدخل في عداد الصديقين والنبيين بلاعمل ولا إخلاص ولا توحيد، فهذا لا يكون.
ولنعلم عباد الله أن الله لايعبد إلا بما شرع، فلم يشرع الله ولا رسوله الاحتفال بمولده ولافعله الصحابة ولا التابعون ولا تابعوا التابعين. ثم ابتدع هذا الأمر بعد ذلك، وأما إقامة أعياد سوى عيدي المسلمين المعروفة: الفطر والأضحى فهذا ليس من الإسلام في شيء، بل هو تقليد نصراني، إذ هم يحتفلون بعيد الميلاد وعيد الأم وعيد الأب وعيد الكذب وعيد رأس السنة (أي عيد ميلاد المسيح) إلى آخر أعيادهم التي لاتنتهي والتي يجعل فيها من الفجور وشرب الخمور والرقص والغناء فلا يرض عنه لا المسيح ولا محمد رسول الله ، ولن يرض الله ولا رسوله عن أعياد يقيمها المسلمون وترتكب فيها المعاصي والموبقات والمخالفات الشرعية سواء كانت باسم الرسول أو باسم الأم أو الأب أو الابن.
فاتقوا الله عباد الله وأعلموا أننا نتشرف أن نكون عبيداً لله مطيعين لأوامره.
ومما زادني شرف وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
نسأل الله أن نكون من عباده الصالحين المطيعين المخبتين المنيبين المتبعين لا المبتدعين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم إنا نحمدك حمداً يوافي محامد خلقك كفضلك على سائر خلقك إذ فضلتنا على كثير من خلقك تفضيلاً.
(1/1196)
الزلزال والمصيبة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, حقيقة الإيمان
إحسان بن محمد شرف الحلواني
الطائف
20/4/1413
ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المصائب منها ما هو عقوبة ومنها ما هو بلاء. 2- فوائد البلاء للعبد المؤمن. 3- الزلازل سنن كونية يقدرها الله متى شاء. 4- الزلازل عقوبة إلهية لمعاصي البشر. 5- الزلزال الأكبر يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن المصائب من سنة الله تعالى في الكون، وكل إنسان لابد أن يصاب بشيء منها، يقول الله تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، ويقول: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، والمصائب ليست بالضرورة للانتقام والإهانة، قال الله تعالى: وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا.. وإنما هي امتحان له حكم كثيرة، ومن أهم هذه الحكم:
1 – إقامة الحجة، لأن الله سبحانه لايحاسب الإنسان إلا على ماقدم من نية أو قول أو عمل بعد أن بين الله له ما يجب عليه وما يستحب، ولو أن الله خلق الناس دون أن يدخلهم الامتحان في هذه الحياة، وقال لفئة منهم: أدخلوا النار لقالوا ياربنا أعطنا فرصة، مرنا بما شئت وسنفعل كل ما تأمرنا به، وإن لم يعطوا هذه الفرصة فسيشعرون بأنهم ظلموا، فأراد الله أن يعطيهم هذه الفرصة لإقامة الحجة عليهم، ومع ذلك يقسم المشركون يوم القيامة أنهم ما أشركوا، يقول الله: قالوا والله ربنا ما كنا مشركين.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله فضحك، فقال هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((من مخاطبة العبد ربه، يقول: يارب ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز (أي لا أقبل) على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه فيقال لأركانه: أنطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لك وسحقاً، فعنكن كنت أناضل)) وهو معنى قوله تعالى: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون وقوله تعالى: حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، فكل هذا الإنكار بعد أن أشركوا وعصوا وشهدت عليهم جوارحهم، فكيف لو لم يعطوا هذه الفرصة؟
أيها الإخوة المؤمنون: ومن حكم هذه الإبتلاءات والمصائب: التمحيص، فالشدائد تكشف حقائق الناس وتميز الطيب من الخبيث، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، وفي ذلك فائدة عظيمة للمجتمع الإسلامي، يقول الله سبحانه وتعالى في الآيات التي تتحدث عن غزوة أحد وما نال المسلمين فيها، مبيناً جانباً من الحكمة في هذا الإبتلاء: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب كما أن الشدائد تميز للإنسان الأصدقاء الحقيقيين من أصدقاء المصلحة كما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد كل خير وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني عرفت بها عدوي من صديقي
ومن حكم المصائب: تكفير الذنوب والسيئات، فقد يختار الله تعالى للإنسان أن يعاقب بذنبه في الدنيا وأن لا يؤجل له إلى الآخرة، ولا شك أن عذاب الدنيا مهما عظم فهو أخف من عذاب الآخرة مهما صغر، قال تعالى: ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعملون والرسول يقول: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)).
ومن فوائد وحكم هذه الابتلاءات: رفع الدرجات كما في بلاء الأنبياء وغيرهم من الصالحين الذين إذا ابتلاهم الله صبروا، فترتفع بالصبر درجاتهم عند الله سبحانه وتعالى يقول الرسول : ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)).
ومن فوائد المصائب أيها الإخوة: التذكير بنعم الله تعالى على الإنسان، لأن الإنسان الذي خلق مبصراً – مثلاً – ينسى نعمة البصر ولايقدرها حق قدرها، فإن ابتلاه الله بعمى مؤقت ثم عاد إليه بصره أحس بكل مشاعره بقيمة هذه النعمة، فدوام النعم قد ينسي الإنسان هذه النعم فلا يشكرها، فيقبضها الله ثم يعيدها إليه تذكيراً له بها ليشكرها.
بل إن في المصائب تذكيراً للإنسان ولغيره بنعم الله، فإذا رأى الإنسان مجنوناً أحس بنعمة العقل، وإن رأى مريضاً أحس بالصحة، وإن رأى كافراً يعيش كالأنعام أحس بنعمة الإيمان وإن رأى جاهلاً أحس بنعمة العلم، هكذا يشعر من كان له قلب متفتح يقظ، أما الذين لا قلوب لهم فلا يشكرون نعم الله بل يبطرون، ويتكبرون على خلق الله.
ومن حكم المصائب عدم الركون إلى الدنيا، فلو خلت الدنيا من المصائب لأحبها الإنسان أكثر ولركن إليها وغفل عن الآخرة، ولكن المصائب توقظه من غفلته وتجعله يعمل لدار لامصائب فيها ولا ابتلاءات.
ومن حكمها: صقل شخصية المؤمن، فالمصائب تصقل الشخصية وتقويها، ولذلك لم يكن عبثاً أن اختار الله لنبيه أن يكون يتيماً، وأما الأطفال المدللون كما نرى في واقع الحياة – فغالباُ ما تفسد شخصياتهم وتتميع، فالابتلاءات كالدورات التدريبية القاسية التي تبرز الطاقات وتنميها.
ومن أعظم حكم المصائب والابتلاءات: التنبيه والتحذير عن التقصير في بعض الأمور ليتدارك الإنسان ما قصد فيه، وهذا كالإنذار الذي يصدر إلى الموظف أو الطالب المقصر، والهدف منه تدارك التقصير، فإن فعل بها ونعمت، وإلا فإنه يستحق العقاب، ولعل من الأدلة على ذلك قوله تعالى: فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ماكانوا يعملون.
ومن الحكم المترتبة على سابقتها – أيها المؤمنون – الإهلاك عقاباً لمن جاءته النذر، ولكنه لم يستفد منها ولم يغير من سلوكه، واستمر على ذنوبه قال تعالى: فأهلكناهم بذنوبهم وقال تعالى: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ، وقال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ، نسأل الله أن يرزقنا الصبر عند المصائب وحسن الإستفادة منها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نزل عليه قوله تعالى: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، شهادة تحول بيننا وبين الفساد، وتدفعنا إلى إصلاح شئون البلاد والعباد، وتكون ذخيرة لنا يوم المعاد، يوم الفزع الأكبر، يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أما بعد:
فإن لله سبحانه وتعالى سنن ثابتة معروفة مستقرة، ومنها أن الأرض مستقرة وفيها قرار يعيش عليها بنو البشر ويعمر فيها، فالله هوالذي وضع الجبال لتثبيت الأرض وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ، أمن جعل الأرض قراراً ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ، والله القدير هو سبحانه القادر على أن يغير هذه السنة متى شاء وكيف شاء، فقدرة الله لا يحدها حد، ولا يقف أمامها سد، أوليس الذي وضع هذه السنة هو القادر على تبديلها وتغييرها؟
وهذه هي آيات القرآن تترى وتحكي لنا كيف خسف الله بأقوام أرتجت بهم الأرض رجت ودكت بها دكاً، فلماذا نحن في غفلة عن آيات الله في الكون، وحتى متى؟ ألم يذكرها لنا القرآن؟ أذكرت لمجرد التسلية أم للعبرة والعظة، فهذه سورة القصص تحكي لنا ماذا حل بقارون بعد أن كذب الآيات وطغى في الأرض، وتحدثنا الآيات عن أنواع العذاب الذي أصاب الأمم من قبل: ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ويحذرنا الله تحذيراً واضحاً: أأنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور.
وإذا بالآيات تتحقق في حياتنا نظراً لكثرة المكذبين، وإذا بوعد الله يتحقق، وإذا بأرض الكنانة (مصر) يعتريها زلزال وبعده آخر ويعقبه ثالث، إذا بجزء من وطننا الإسلامي الكبير تصيبه هزة أرضية، وبعد سنوات طويلة من الثبات إذا بالأرض تهتز وإذ بالناس يترنحون ويتأرجحون، والأرض من تحتهم تهتز وتمور، إذا العمائر تتساقط ولا يحتمي أحد من قدر الله، وإذا الناس يهرعون إلى الطرقات بعد أن كانوا يحتمون بالبيوتات وإذا مئات الضحايا تتساقط والآلاف الجرحى تئن وتتوجع، وآخرون تحت الأنقاض، الله أعلم بحالهم.
وهي هزة في طبقة القشرة الأرضية؟ ودرجة محددة لقوة الزلزال على مقياس رصد الزلازل؟ والله ثم والله ثم والله إنها – حقيقة – هزة للقلوب الغافلة، وصيحة قوية مزلزلة، فكم صدر تجار الرذيلة واللحوم البشرية هناك للناس من الفساد والرقيق الأبيض في صورة فنون جميلة وإعلام هابط، وأفلام متردية، إن الله يمهل ولا يهمل.
إن في ذلك لآية لأهل الربا ولأهل المنكرات ولمن يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى لو كان لهم قلوب، ولنا أن تساءل: لماذا لم يستطع العلماء رصد الزلزال رغم تقدم الأجهزة العلمية وتطورات التقنيات الحديثة؟ أهو لضعف التقنيات في هذا البلد وعدم توافر الأجهزة الحساسة؟ ولماذا أصابت الأعاصير المدمرة والفيضانات المغرقة أكثر الدول تقدماً كأمريكا وغيرها؟ إن من أعظم الحكم أمثال هذه الزلازل الدنيوية، تذكرنا بزلزال يوم القيام الأكبر: إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالها فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، سورة ما أكثر ما نقرؤها في صلواتنا ونوافلنا ما أقل ما نتدبر فيها، الزلزال الحقيقي العظيم وتخرج الأرض ما فيها من بشر ومعادن وغيرها ويسأل الله الإنسان ما الذي حدث؟ فتحدث بأن الله أوحى لها أمرها.. أليس هو الذي خلقها؟ فإذا أمرها أطاعت مباشرة، فيخرج الناس أفواجاً وجماعات ليأخذوا صحائف أعمالهم إما باليمين وإما بالشمال، فيرى الجليل والدقيق حتى مثقال الذرة، والتي كان يضرب لها الأمثال في السابق بالبعوضة أو الحبة وإذا بالعلم الحديث يكشفلنا ذرات ودقائق أصغر كلها يراها الإنسان معروضة أمامه، وفي هذا ذكرى للقلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر. وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائم، ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال، إنها قلوب تعلقت في الأرض، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب.
اللهم يا ربنا يا من خلقتنا ورزقتنا وأحسنت إلينا يا أمان الخائفين.. يا رب العالمين.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا ممن يأخذون صحائف الأعمال باليمين في يوم الزلزال الأعظم، اللهم يا رحمن يا رحيم كن لعبادك المستضعفين في كل مكان، يا ربنا.. مَن للمستضعفين من ضحايا الزلزال يا ربنا من لمن ظلوا تحت الأنقاض، يا ربنا مَن للجرحى والمتألمين، يا ربنا من لمن تيتم أو ترمل، يا ربنا من لمن فقد العائل أو السكن والمال، يا ربنا أرحم ضعف إخواننا، وأنصر المجاهدين في سبيلك في يوغسلافيا وفي أفغانستان والفلبين، وفي إريتريا وفلسطين، وفي كشمير وبورما وجميع أوطان المسلمين، الله أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك الكريم وسنة نبيك الأمين، اللهم ول على المسلمين خيارهم وانزعها اللهم من شرارهم.
(1/1197)
حقوق الزوجة على زوجها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا الأسرة
إحسان بن محمد شرف الحلواني
الطائف
12/4/1410
ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل من الرجل والمرأة حقوق وواجبات. 2- اعرف واجبك قبل حقوقك. 3- من حقوق الزوجة العشرة بالمعروف. 4- صور العشرة الطيبة. 5- العطف على النساء والأبناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فسنكمل الحديث عن حقوق المرأة على زوجها حتى لا يتصور إنسان أننا ننحاز إلى طرف دون آخر أو أن هذا الكلام في صالح النساء، بل إنه في صالح الرجال قبل النساء، فالمرأة رابحة إن أدي حقها في الدنيا، فهو حق لها إن لم يؤد في الدنيا فستأخذه في الآخرة بين يدي الله عز وجل، وستأخذ حقها من حسناتك أيها الرجل، وقد تكون عاقبتك إلى النار بسبب نقص حسناتك لأنك لم تؤد حقوق زوجتك، فالكلام في صالحك أيها الزوج في الدنيا بصلاح زوجتك وبأدائك لواجباتك، وتستفيد منه في الآخرة حيث تقف بين يدي الملك الديان بوجه أبيض وكتاب أبيض وعمل صالح، ويجب على كل إنسان أن يعرف واجبه ومسؤلياته ويتعرف على هذا الواجب ويدرك الدور المطلوب منه في عمله وفي كل شؤونه وخاصة فيما يتعلق ببيته وحياته الخاصة وزوجته التي ترافقه أزماناً طويلة، وقد تستمر العشرة إلى الممات بل إلى ما بعد الممات، فلو كان كل منهما محباً للآخر ومقدراً له كانت زوجته في الآخرة في الجنة بالإضافة إلى الحور العين.
عليك أيها المسلم قبل أن تسأل عن حقوقك التي لك أن تسأل عن الحقوق التي عليك فإن أديت ما عليك قامت زوجتك بواجباتها، وأما إن تجاهلتها تجاهلتك وعاملتك بالمثل فكما تدين تدان، والنفوس البشرية قد طبعت على هذا، وهذا ما يجده كل من يتأمل في البيوت التي تهدمت: خلافات ومشاكل وطلاق، تجد الزوج يشكو من زوجته، والواقع أن الزوجة تشكو أيضاً من زوجها، فكل منهما مقصر في حق الآخر، وكل منهما لايريد الاعتراف بهذا التقصير، فنسأل الله الهداية.
أيها المسلمون: لقد تكلمنا في بعض الحقوق التي على الزوج تجاه الزوجة، وذكرنا أمرها بطاعة الله إطعامها من حلال والإنفاق عليها وحسن العشرة، ويقول الله تعالى آمراً بحسن العشرة وعاشروهن بالمعروف وأكد في آية أخرى أن لهن من الحقوق مثل الذين عليهن فقال جل من قائل: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ولقد كان رسول الله من ألطف العالمين بنسائه، كان حسن العشرة معهن يعاشرهن أعظم ماتكون العشرة، لأنه رسول الله ، ولذا لما وسع الله على رسوله وعلى المؤمنين، وبدأت الأمور المادية تتحسن طلب بعض أزواج الرسول تحسين أوضاعهم المادية والمعيشية، وطلبوا من الرسول التوسيع عليهم في المسكن والنفقة، فنزل تخيير الله تعالى لهن: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ، فخيرهن الله بين رغد العيش وكمال المعيشة والدنيا وبين أن يعشن مع رسول الله العيشة التي تخيم عليها السعادة، عيشة هنية رضية وسعادة قلبية وسعادة روحية لاسعادة دنيوية مادية، فأخترن كلهن أن يبقين مع رسول الله وقد قالت عائشة حين خيرها رسول الله : ((أفيك أختار يارسول الله، أختار الله ورسوله)) فما اخترن العيش مع رسول الله إلا لكرم عشرته، إن كرم العشرة وحسن المعاملة يعوض المرأة كل ما تفقده من الماديات، ولو أسبغت على الأرض كل مافي الأرض من ماديات وكل وسائل الترف والرفاهية وألبستها الحرير وأسكنتها العمارات والقصور، لكن عشرتك سيئة ووجهك عبوس ولسانك بذيء ويدك ممدودة، فإنها ستبقى في عذاب معك رغم النعيم المادي ولو افتقدت في حياتها معك كل الإمكانيات المادية، وعوضتها بحسن المعاملة وحسن العشرة لشعرت بسعادة لايمكن أن تشعر بها مع غيرك، ولذلك أمر الله تعالى بحسن العشرة فقال: وعاشرون بالمعروف.
ومن معاني العشرة بالمعروف:
- أن تذكر اسم الله حين دخولك لبيتك وتذكر دعاء الدخول إلى المنزل، فإن الشيطان حريص على الدخول معك وعلى أن يشاركك في الطعام والشراب والسكنى وحتى في نكاح زوجتك، ثم توطن نفسك أنك داخل على أم أولادك، أنك داخل على هذه المسكينة التي تتعب في خدمتك وتبقى في المنزل طوال يومها، وهي تنتظر منك كلمة طيبة وبسمة صادقة، وعليك مجاملتها بالكلمة الطيبة فتثني عليها وعلى مظهرها وتشكرها على إعداد الطعام وتمدح طعامها حتى لوكان فيه عيب، امدح ثم وجهها فيما بينك وبينها بأسلوب طيب.
- ومن حسن العشرة أن تسلم على أهلك وتبتسم في وجه زوجتك ((فتبسمك في وجه أخيك صدقة)) ، وهذا من حق إخوانك المسلمين الذين تراهم في الشارع فكيف بزوجتك وأقرب الناس إليك.
- ومن حسن العشرة السؤال عن زوجتك وعن حالها، ومحادثتها وعدم العبوس في وجهها.
- ثم ملاعبة الصغير وتقبيله والسؤال عنه، والسؤال عن المريض من أبنائك إن وجد وتقبله، فهي تشعر بأن لها دوراً في الاعتناء بأطفالك، فإن رأت اهتماماً منك بصغارها شعرت بالرضا عن عملها وانعكس ذلك على سلوكها وأخلاقها.
- وعليك دائماً بالابتسامة في وجه زوجتك وعدم التجهم، فالزوجة من أعظم الأمانات وعليك بأداء الأمانة يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ، والرسول أوصى بهن فقال: ((استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندك عوان)) أي أسيرات.
- ومن حسن العشرة أيضاً تحمل زوجتك والنظر إلى محاسنها وعدم النظر إلى المساوئ فقط، فإن الكمال في الناس وخاصة النساء غير موجود، ((فإنهن خلقن من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فاستمتعوا بهن على عوجهن)) كما قال رسول الله وقال في حديث آخر: ((فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستمتعوا بهن على عوجهن)) بغض الطرف عن الأخطاء وصرف السمع عما لايرضيك، ولاتقم على كل كلمة قضية ومحكمة، فإن من الناس من يطلق زوجته من أجل قشة، ويتجاهل جهدها وإحسانها كله.
وبعض الناس يريد أن تكون له الكلمة الأولى والأخيرة في كل شيء، وهذا لايمكن أن يكون معه سعادة، فعليك بغض الطرف إلا أن يكون الخطأ في الدين، فكل مايتعلق بالكنس والطبخ والغسيل يمكن تلافيه ويمكن تجاهله ويمكن علاجه وهو هين يسير، أما الخطأ في الدين فله علاج آخر، لعلنا نتناوله فيما بعد.
جاء رجل إلى عمر يريد أن يشكو طول لسان زوجته عليه، وأنها بذيئة عليه، فلما دخل فإذا زوجة عمر تتكلم من وراء الحجاب بلسان شديد، رغم هيبة عمر ورغم أن الناس تخاف منه حتى الشياطين، قال عمر: (أما يرضيك أنها طباخة طعامي ومغسلة ثيابي ومربية ولدي وكانسة بيتي وأقضي منها وطري، أما أتحملها في بعض الجزئيات البسيطة)، فيا أيها الرجل قدر هذه النعمة أن سخر لك هذه المرأة لرعايتك وخدمتك رغم أنها أجنبية عنك.
دخل مرة الأقرع بن حابس على عمر بن الخطاب فوجده يقبل أبناءه، فقال: أتقبل أولادك يا أمير المؤمنين فإني إذا دخلت من الباب استيقظ النائم، وقعد الواقف، وسكت المتكلم.
ويقول الرسول : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره من خلقاً رضي آخر)) أي لا يكره.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1198)
فضل عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
إحسان بن محمد شرف الحلواني
الطائف
1/12/1408
ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام الأوقات. 2- التذكير بفضل أيام العشر من ذي الحجة. 3- فضل يوم عرفة. 4- الحج المبرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واغتنموا أعماركم بالأعمال الصالحة فإنه تنقضي سريعة ويقول الحسن البصري: (ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك).
والوقت أنفس ما عنيت بجمعه وأراه اسهل ما عليك يضيع
واعلموا إنها تمر بكم أوقات الفضائل ومواسم الخير والنفحات، فالسعيد من تنبه لها وإستفاد منها والشقي من غفل عنها وضيع نفسه، قال : ((الكيس من دان نفسه – يعني حاسبها – وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)).
إن الله سبحانه وتعالى يدعوا عباده لزيارة بيته العتيق لا للنزهة ولا لمجرد الزيارة ولكن ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات على مارزقهم من بهيمة الأنعام فأمرهم الله جل جلاله أن يأتوا من كل فج عميق ملبين، - لبيك الله لبيك – ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق فمن تقبله الله منهم رجع بحج مبرور وسعي مشكور ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ، ((من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) والرفث: هو قبيح الكلام.
لقد أقبلت علينا أيام عظيمة جليلة وهي عشر ذي الحجة التي يقول الرسول فيها: ((ما من ايام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام – يعني أيام العشر – قالوا يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) [رواه البخاري].
وقد أقسم الله تعالى بها في كتابه الكريم حيث قال: والفجر وليال عشر والشفع والوتر والأعمال الصالحة مثل الصدقة والصيام والصلاة والصلة.
وفي تلك الأيام العشر: يوم عرفة الذي فيه وقوف الحجاج في هذا المشعر العظيم، وهو ركن الحج الأعظم قال النبي : ((الحج عرفة)) ، ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله في عبيداً من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة)) ، والسنة لمن لم يحج أن يصوم يوم عرفة فهذه كفارة لسنتين سابقة ولاحقة.
وفي تلك العشر يوم عيد الأضحى المبارك الذي هو يوم الحج الأكبر، لما انتهى يوم عرفة يتقربون إليه بذبح الهدي والأضاحي، فأهل الحج في ذلك اليوم يرمون الجمرة ويكملون مناسكهم، وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له، ثم يعقب ذلك أيام التشريق التي هي أيام الأكل والشرب وذكر الله عز وجل، وهي الأيام المعدودات التي قال الله تعالى فيها: واذكروا الله في أيام معدودات.
فعلينا عباد الله المبادرة إلى الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة، ولنتابع فعل الخيرات في بقية الأيام، فإن حياة المسلم كلها مجال للعمل الصالح، وإنما خصصت بعض الأيام بمزيد فضيلة لتتاح الفرصة للمسلم كي يحصل على مزيد من الأعمال الصالحة نظراً لقصر عمره وشدة حاجته للحسنات وتكفير السيئات.
أيها المسلمون: لقد صح عن رسول الله من رواية البخاري ومسلم وغيرهما أنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ، وأنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ، والحج المبرور قيل هو: الذي لا يقع فيه معصية، وقيل: هو الذي تكون حالة الإنسان في الطاعة بعده أحسن منها قبله، وروى البخاري أن رسول الله قال: ((أفضل الجهاد حج مبرور)).
ومن أسباب كون الحج مبروراً أن تكون النفقة فيه من كسب حلال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا خرج الحاج حاجاً بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء، لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور)) [رواه الطبراني].
ومن أسباب كون الحج مبروراً، أن يجتنب الحاج المعاصي، قال تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلارفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
ومن أسباب كون الحج مبروراً: التواضع فيه في المركب والمنزل والتعامل مع الناس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حج النبي على رحل رث وقطيفة خلقة تساوي أربعة دراهم أولا تساوي، ثم قال: ((اللهم حجة لارياء فيها ولا سمعة)) [رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجة].
ومن علامات كون الحج مبروراً أن تكون حال الحاج بعده في الطاعة والاستقامة أحسن منها قبله، فإن من علامة قبول الحسنة فعل الحسنة بعدها.
ومن أسباب كون الحج مبروراً أن يؤدى على الوجه المشروع لانقص فيه ولابدع ولا مخالفات، وبعض الحجاج يتلاعب بحجه ولايصبر على أدائه على الوجه المشروع، لايتأكد من حدود المشاعر فيقف داخلها، بل يقف خارج عرفة أو في بطن عرنة، ويبيت خارج مزدلفة وينصرف من عرفة قبل الغروب، ويرمي الجمرات في غير وقت الرمي من غير ضرورة ولايستقر في منى أيام التشريق ولياليها، وينفر قبل وقت النفر – حتى أن من الحجاج من يرجع إلى أهله في يوم العيد أو في اليوم الحادي عشر ويوكل من ينوب عنه في بقية أعمال الحج، ومن الحجاج من لايطوف للوداع، ومن الحجاج من لايتجنب محظورات الإحرام، وهكذا تقع من بعض الحجاج مخالفات كثيرة قد تكون مبطلة للحج، وهذا نتيجة عدم المبالاة بأحكام الحج، ومثل هذا لاهو حج فاستفاد، ولا هو ترك الحج فاستراح وأراح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام، أحمده واشكره على توفيقه وهدايته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا محمد رسول الله الأمين اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
واعلموا عباد الله أن الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، وإنما يجب على المسلم مرة واحدة في العمر إذا كان مستطيعاً، وما زاد فهو تطوع، وقبل الحج لابد من تحقق أربعة أركان للإسلام وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان.
وإن الذين يهتمون بالحج ويضيعون بقية أركان الإسلام كمن يعالج عضواً من جسم مقطوع الرأس، فاتقوا الله عباد الله وأقيموا الدين كله ولا تنقصوه.
واعلموا عباد الله أن من أراد أن يضحي فلا يحلق الشعر ولا يقلم الأظافر خلال الأيام العشر، ويوم العيد يستحب له الإمساك حتى يأكل من أضحيته.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
(1/1199)
هكذا كانوا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
إحسان بن محمد شرف الحلواني
الطائف
15/12/1408
ابن باز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تواضع عمر بن عبد العزيز. 2- همة عمر بن عبد العزيز. 3- المؤمن لا تشغله الدنيا عن الآخرة. 4- زهد السلف وتقديمهم الآخرة على الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
ذكر رجاء بن حيوة الكندي أنه بات ليلة عند عمر بن عبدالعزيز وكان رجاء من جلسائه، فكاد السراج أن ينطفئ، فقام إليه ليصلحه فأقسم عليه عمر بن عبدالعزيز ليقعدن، وقام هو فأصلحه، قال رجاء: فقلت له: تقوم أنت يا أمير المؤمنين؟ فقال: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.
وقال رجاء بن حيدة أيضاً: أمرني عمر بن عبدالعزيز أن أشتري له ثوباً بستة دراهم، فأتيته به فجسه (أي لمسه) وقال: هو على ما أحب، لولا أن فيه لينا، قال رجاء: فبكيت، قال عمر: ما يبكيك؟ قال: أتيتك وأنت أمير بالمدينة بثوب بستمائة دراهم فجسسته وقالت هو على ما أحب، لولا أن فيه خشونة، وأتيتك وأنت أمير المؤمنين بثوب بستة دراهم فجسسته وقلت: هو على ما أحب لولا أن فيه لينا، فقال: يا رجاء إن لي نفساً تواقة تاقت إلى فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوليتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت الجنة فأرجوا أن أدركها إن شاء الله عز وجل.
أيها الإخوة الأكارم: من صفات المؤمن العظيمة التي يستحق عليها الثناء والتكريم ألا يغتر بالحياة الدنيا، ولايلهيه نعيمها وزخرفها وزينتها وكل مافيها من عظمة وجاء عن التوجه للآخر والعمل للقاء ربه، فالإسلام لايمنع الإنسان من التمتع بطيبات الحياة والتنعم بملذاتها إلا أنه يحذر من التوغل فيها والحرص عليها، والتكالب على طلبها من أي الطرق وبأي وسيلة وينبه المسلم دائماً أن يكون حذراً من غرورها ومفاتنها فيقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون. ويقول: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب.
لذلك كان المؤمنون السابقون يتطلعون دائماً إلى الدار الآخرة ويتحرون في أعمالهم وجميع تصرفاتهم كل ما يرضي الله عز وجل ويستوجب ثوابه، فقد يكون المؤمن غنياً يرتع ببحبوحة من المال والمتاع لكن ذلك لا يصرفه عن طاعة ربه وعن التقرب إليه، وقد يكون صاحب وظيفة مرموقة وجاه عريض، ولكن ذلك لايحول بينه وبين رضاء ربه وطلب ثوابه، بل يجعل من وظيفته وجاهه طريقاً لإظهار الحق، ومساعدة ذوي الحاجة، وإغاثة الملهوف، فيكون قد فاز بعز الدنيا ورضاء الله، وقد يكون ذا سلطان عظيم وأمر مطاع وكلمة نافذة، ولكن ذلك كله لايصرفه عن آخرته، ولا يصده عن العمل ليوم الحساب.
من هنا كان المؤمنون الصادقون يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويمهدون لها سبيل النجاة قبل أن يعذبوا، ومن هنا كان عمر بن عبدالعزيز وأمثاله يزهدون بما في أيديهم من متاع الدنيا ويترفعون عن مباهجها وزينتها متطلعين إلى دار البقاء، راغبين بما أعد لهم فيها من نعيم مقيم هم فيه خالدون.
قال أبو جعفر المنصور يوماً للربيع بن يونس -وكان وزيراً له- : ويحك يا ربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال له الربيع: ما طابت الدنيا إلا بالموت، قال: وكيف ذلك؟ قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، وكان المنصور قد جلس للنظر في المظالم، فقال: صدقت.
وهكذا يحذر رجالاً من المؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه يتواضعون وهم ملوك، ويزهدون والدنيا تحت أيديهم ويصدقون، ولو أدى ذلك إلى الخطر والموت، يعملون لدينا وهم لاينسون آخرتهم، أسود في النهار ورهبان في الليل، اشتهر ربعي بن حراش الكوفي بالصدق، وعهد عنه أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان في زمن الحجاج، فقيل للحجاج: إن أباهما لايكذب قط، لو أرسلت إليه فسأل عنهما فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ قال: هما في البيت، قال: قد عفوت عنهما لصدقك.
وروي أبن أبي الدنيا بسنده عن طاووس أنه قال: بينما أنا بمكة استدعاني الحجاج فأتيته فأجلسني إلى جانبه واتكأني على وسادة فبينما نحن نتحدث إذ سمع صوتاً عالياً بالتلبية فقال: عليّ بالرجل، فأحضر فقال له الحجاج: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، فقال: إنما سألتك ممن البلد والقوم، قال: من أهل اليمن، فقال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ يعني أخاه. وكان والياً على اليمن - فقال: تركته وسيماً جسيماً لباساً حريراً، ركاباً خراجاً ولاجاً، فقال: إنما سألتك عن سيرته، فقال: تركته مخشوناً ظلوماً، مطيعاً للمخلوق عاصياً للخالق، قال: أتقول فيه هذا وقد علمت مكانه مني؟ فقال الرجل: أتراه بمكانه منك أعز من مكاني من ربي، وأنا مصدق نبيه ووافد بيته؟ فسكت الحجاج، وذهب الرجل من غير إذن، قال: طاووس فتبعته وقلت: الصحبة، فقال: لاحباً ولا كرامة، ألست صاحب الوسادة الآن؟ وقد رأيت الناس يستفتونك في دين الله، قلت: إنه أمير مسلط، أرسل إلي فأتيته كما فعلت أنت، قال: فما ذلك الإتكاء على الوسادة في راحة بال، هلا كان لك من واجب نصحه وقضاء حق رعيته بوعظه والحذر من بوائق عسفه، ما يكدر عليك تلك الطمأنينة؟ قلت: استغفر الله وأتوب إليه، ثم اسألك الصحبة، فقال: غفر الله لك، إن كان مصحوباً شديد الغيرة عليّ، فلو أنستُ بغيره رفضني، ثم تركني وذهب.
وهكذا نرى المؤمنين الصادقين يتقون تلك الموافق الجريئة المشرفة لايخشون في الله أحداً فينظر أحدهم إلى من هو فوقه إيماناً وخلقاً وثباتاً على الحق، فيقتدي به ويرغب في صحبته ويحرص على نصحه، فهل فينا من هذه الصفات شيء؟
قال تعالى: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
_________
الخطبة الثانية
_________
مر إبراهيم بن أدهم في أسواق البصرة، فاجتمع عليه الناس، وقالوا: يا أبا إسحاق إن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: ادعوني استجيب لكم ونحن ندعوا دهراً فلايستجاب لنا، فقال ابراهيم: يا أهل البصرة، ماتت قلوبكم من عشرة أشياء:
أولها: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه.
الثاني: قرأتم القرآن ولم تعملوا به.
الثالث: ادعيتم حب رسول الله وتركتم سنته.
الرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه.
الخامس: قلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها.
السادس: قلتم نخاف النار ورهنتم انفسكم بها.
السابع: قلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له.
الثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم ونسيتم عيوبكم.
التاسع: أكلتم نعمة الله ولم تشكروها.
العاشر: دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم.
نسأل الله أن نكون ممن يذكرون فيتذكرون، وممن يوعظون فينتفعون، وممن يقولون فيعملون.
(1/1200)
الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم إن ذلك من عزم الأمور إن المعروف إذا لم يؤمر به ولم يحي بالعمل به والتواصي فيه ضاع واضمحل فانهدم بذلك جانب من دينكم وصار العمل به بعد ذلك منكرا مستغربا بين الناس وإن المنكر إذا لم ينه عنه ويحذر الناس بعضهم بعضا منه شاع وانتشر بين الناس وأصبح معروفا لا ينكر ولا يستغرب وقيسوا ذلك بما انتشر من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم.
إن كثيرا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل ولكنهم يتقاعسون عن ذلك إما تهاونا وتفريطا وإما اعتمادا على غيرهم وتسويفا وإما جبنا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفا والله يقول: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وإما يأسا من الإصلاح وقنوطا.
أيها المسلمون ويا أيها المؤمنون: إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه أو تسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك أمر لا بد منه إلا أن يشاء الله امتحانا من الله وابتلاء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمدا : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فإذا كان قائما مقام الرسل فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله كما قد لاقى الرسل.
ولقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوامهم أشد الأذى وأعظمه حتى بلغ ذلك إلى حد القتل قال الله تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم فهذا أول الرسل نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فكان ملؤهم وأشرافهم يسخرون منه ولكنه صامد في دعوته يقول: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى قالوا متحدين له: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين وقالوا مهددين له: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين أي من المقتولين رجما بالحجارة.
وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء لبث في قومه ما شاء الله يدعوهم إلى الله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فما ثنى ذلك عزمه ولا أوهنه عن دعوته مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات وأزال منكرهم بيده فغدا إلى أصنامهم فكسرها حتى جعلها جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما رجعوا إلى أصنامهم وعلموا أن الذي كسرها إبراهيم طلبوا أن يؤتى به ليوبخوه على أعين الناس فيشهد الناس ما يقول فهل جبن أن يقول قول الحق في هذا المقام العظيم كلا بل قال لهم موبخا: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون فعزموا على تنفيذ ما هددوه به: قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين فأضرموا نارا عظيمة وألقوا إبراهيم فيها وهي أشد ما تكون اتقادا ولكن رب العزة قال لها: كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت بردا لا حر فيه وسلاما لا أذى فيه.
وهذا موسى ماذا حصل له من فرعون المتكبر الجبار؟ دعاه موسى إلى الله العلي الأعلى وقال: إني رسول رب العالمين فقال فرعون ساخرا به: وما رب العالمين وقال لملئه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ثم توعد موسى قائلا: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين فهل خاف موسى من ذلك؟ وهل وهنت عزيمته عن الدعوة إلى الله عز وجل؟ بل مضى في ذلك حتى بين لفرعون من آيات الله ما يهتدي به أولو الألباب ولكن فرعون استمر في غيه واستكباره وقال مهددا موسى بالقتل ومتحديا له أن يدعو ربه: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال لوزيره هامان ساخرا بالله رب العالمين: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ولكن موسى صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه حتى كانت العاقبة له وكانت نتيجة فرعون وقومه ما ذكر الله: إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين.
وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام أوذي من جانب اليهود فكذبوه ورموا أمه بالبغاء أي الزنى ويعزموا على قتله واجتمعوا عليه فألقى الله شبهه على رجل فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله قال الله تعالى مكذبا لما ادعوه من القتل والصلب: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم أعظم الخلق جاها عند الله هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ لا بل ناله على ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله ولم يثنه ذلك عن دعوته إلى الله عز وجل دعاهم إلى عبادة إله واحد: وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب وكانوا إذا رأوا النبي اتخذوه هزوا وقالوا ساخرين به: أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ، وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون فآذوا النبي بكل ألقاب السوء والسخرية ولم يقتصروا على ذلك فحسب بل آذوه الأذى الفعلي فكان أبو لهب وهو عمه وجاره يرمي بالقذر على باب النبي فيخرج النبي فيزيله ويقول: ((يا بني عبد مناف أي جوار هذا)). وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: ((بينما النبي قائم يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال قائل منهم: أيكم يذهب إلى جزور آل فلان أي ناقتهم فيجئ بسلاها ودمها وفرثها فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فذهب أشقى القوم فجاء به فلما سجد النبي وضعه على ظهره بين كتفيه قال ابن مسعود وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي منعة فجعل أبو جهل ومن معه يضحكون حتى يميل بعضهم إلى بعض من الضحك ورسول الله ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءت ابنته فاطمة تسعى وهي جويرية حتى ألقته عنه فلما قضى النبي الصلاة قال: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش ثم سمى فلانا وفلانا)). وفي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((بينا رسول الله يصلي بفناء الكعبة إذا أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ ولما اشتد به الأذى من قومه خرج إلى الطائف رجاء أن يؤوه ويمنعوه من قومه)). فلقى منهم أشد ما يلقى من أذى وقالوا: اخرج من بلادنا وأغروا به سفهاءهم يقفون له في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه قال النبي : ((فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب)).
أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه النبي وإخوانه لأكبر عبرة يعتبرها المؤمنون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ليصبروا على ما أصابهم ويحتسبوا الأجر من الله ويعلموا أن للجنة ثمنا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1201)
فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد السلام بن محمد زود
سدني
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البحر خلق من خلق الله ينفع به بعضاً من عباده ويهلك آخرين به. 2- نجاة موسى وغرق فرعون في البحر. 3- يونس عليه السلام في بطن الحوت. 4- هلك قوم لوط. 5- غرق السفينة (تيتانك). 6- غرق الغواصة الروسية (كورسك).
_________
الخطبة الأولى
_________
إخواني في الله: إن البحر بأمواجه آية من آيات الله تعالى، وإن ماءه ليملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض، ولولا إمساك الرب جل وعلا للبحر بقدرته ومشيئته لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها، ولجعل عاليها سافلها، وفي البحار أمواج عاتية في أعماق دهماء مظلمة، حالكة الظلام، وعلى عمق ستين مترا عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلما في البحار، قال الله تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
والبحر خلق من خلق الله، يعبد الله ويوحده، ومن عجائبه التي تدل على إدراكه وعبوديته لله تعالى، أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله تعالى مع حلم الله عليه، فيتألم البحر لذلك، فيتمنى هلاك عصاة بني آدم، بل وأخبر النبي أن البحر يستأذن ربه في ذلك، ففي مسند الإمام أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب أن النبي قال: ((ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم -على العصاة- فيكفه الله)) [1]. - قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي حدثنا الحسن بن سفيان، عن إسحاق بن راهويه، عن يزيد -وهو ابن هارون- عن العوام ابن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال: خرجت ليلة لمحرسي، لم يخرج أحد من الحرس غيري، فأتيت الميناء، فصعدت، فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي رؤوس الجبال، فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال: حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله قال: ((ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل)) بمنه وكرمه، فلا إله إلا الله، البحر يتمعر ويتمنى إغراق العصاة ويستطيع ولكنه مأمور.
والآن إليكم إخواني بعض الحوادث التي حدثت في البحار، فتأملوها يا أولي الألباب:
ولكن قبل الشروع فيها، اعلموا أن البحر جند من جنود الله، ينتقم به ويهلك فيه من شاء من أعدائه، وينصر وينجي به من شاء من أوليائه، والمعركة بين الحق والباطل مستمرة إلى يوم القيامة، حتى ينصر الله أولياءه ويهلك أعداءه.
1 - لقد أمر الله البحر أن يحمل موسى طفلا رضيعا إلى قصر عدوه فرعون، لتبدأ المعركة بين الحق والباطل من هناك، من قصر الطاغية، قال تعالى آمرا أم موسى: أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه:39]. واستمرت المعركة بين موسى عليه السلام وفرعون لعنه الله بالحجة والبرهان زمنا طويلا، ولما بلغت المعركة أشدها، أوحى الله تعالى إلى موسى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فضربه بها، فانفلق بإذن الله " طريقا لموسى ومن معه، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ أي صارت كل قطعة من البحر قائمة عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، قال ابن عباس: صار البحر اثني عشر طريقا لكل سبط طريق، زاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وقام الماء على حيلة كالحيطان، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض، قال الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى [طه:77]. وقال تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ - أي قربنا فرعون وقومه إلى البحر- وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ – فجعل الله لهم البحر أرضا يابسة فمشوا عليها ولم يغرق منهم أحد- ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ -أغرق الله فرعون وقومه بإطباق البحر عليهم، بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه، فلم ينج منهم أحد- إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ المنتقم من أعدائه، الرحيم بأوليائه. [الشعراء: 63-68]. وزيادة على ذلك فقد أخبر تعالى عنهم بأنهم كانوا ظالمين فقال: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ [الأنفال:54].
2 – ولما ركب يونس عليه السلام في السفينة المحملة بالبضائع، هاجت الرياح من كل ناحية، حتى كادت السفينة أن تغرق بمن فيها، فاتفق ركابها على عمل قرعة، ومن تقع عليه يُلقَى في البحر، لتخف حمولة السفينة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه السلام ثلاث مرات، وهم يضنون به أن يلقى من بينهم، فأرسل الله له حوتا فابتلعه، وأمر الله الحوت أن لا يكسر له عظما أو يخمش له لحما، وطاف به البحار، وغاص به إلى أعماقها، وبقي بداخله أياماً عدة، حتى سمع تسبيح حيواناتها وحيتانها، فسبَّح الله تعالى واستغفره من هنالك، فقال تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [الصافات:139-148]. وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. فقد أخبر تعالى أن يونس عليه السلام كان من الظالمين، عندما استعجل العذاب على قومه، لما دعاهم إلى الله ولم يستجيبوا له، ولولا أنه استغفر الله وسبحه لبقي في بطن الحوت في قعر البحر إلى يوم القيامة، لكن الله تعالى نجاه كما قال: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88].
3 – قبل هؤلاء جميعا قوم نوح، فإن الله تعالى لما أراد إهلاكهم، أمر نبيه نوحا عليه السلام أن يصنع سفينة فصنعها، ولما بدأ الطوفان أمره الله بالركوب فيها مع من آمن معه، وعم الطوفان الدنيا حتى بلغ قمم الجبال العالية، فنجاه الله تعالى ومن معه من المؤمنين، وأغرق من كفر بالله رب العالمين، قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64]. وأخبر تعالى أنهم كانوا ظالمين أيضا فقال: فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14]. وهكذا فإن عاقبة الظلم وخيمة في الدنيا قبل الآخرة.
4 – وقوم لوط، الذين كانوا يعملون فاحشة اللواط التي ما سبقهم إليها أحد من العالمين، كانت عقوبتهم كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82-83]. وقوم لوط كانوا في قرى سدوم بالأردن، فرفعهم جبريل عليه السلام على جناحه إلى السماء مع قراهم ومدنهم، حتى سمعت الملائكة صياح الديكة، ونباح الكلاب، ثم قلبها بهم وصار عاليها سافلها، فغاصوا في الأرض [600] متر تحت سطح البحر، والمكان الذي قلبهم فيه جبريل عليه السلام يعرف اليوم بالبحر الميت. فهذه إخواني كانت بعض الحوادث التي ذكرها القرآن الكريم عمن أهلكهم أو نجاهم في البحر.
5 - وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، صنع الإنكليز باخرة عظيمة كانت - كما يقولون- فخر صناعاتهم، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية، على متنها علية القوم ونخبة المجتمع - كما يصفون أنفسهم- وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الكبر والغرور، فسموها [الباخرة التي لا تقهر] تايتنك بل سُمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخرا أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته: [حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب] جل الله وتعالى وتقدس أن يعجزه شيء في السموات أو في الأرض، وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي، وفي خضم كبرياء صناعها وركابها، شاء الله تعالى أن تصطدم بجبل جليدي عائم، فيفتح فيها فجوة بطول [90] مترا، وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة -التي زعموا أنها لا تقهر- تستقر في قعر المحيط، ومعها [1504 ركاب] ألف وخمسمائة وأربعة ركاب، وحمولة بلغت [46] ألف طن، فلا إله إلا الله، ما أهون الخلق على الله تعالى إذا عصوه، فالله الله إخواني، إياكم والمعاصي، فإنها تذر الديار خرابا، والعزيز ذليلا، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/43) عن عمر بن الخطاب ، قال أحمد شاكر – رحمه الله – في تعليقه على المسند (رقم 303) : إسناده ضعيف لجهالة الشيخ الذي روى عنه العوام بن حوشب أبو صالح مولى عمر لجهول أيضاً.
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني في الله: ولا زال الله عز وجل يفعل من هذه الحوادث وغيرها ما شاء متى شاء، وقد فعل بروسيا هذه الأيام ما شاء أن يفعل، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لكن مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. ففي صبيحة يوم الأحد قبل الماضي الواقع في الثاني عشر من هذا الشهر [آب أغسطس/ 12/8/2000] وبينما كانت غواصات البحرية الروسية تشارك في مناورات عسكرية في بحر [بارنتس Barents sea ] في المحيط الأطلسي، شاء الله تعالى أن يخفف وطأة الجيش الروسي عن إخواننا المسلمين في الشيشان، وأن يشفي صدورهم وصدور المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وينتقم للمستضعفين من الرجال والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون في هذه الحرب حيلة ولا يهتدون سبيلا، وينتقم للأخوات اللواتي انتهك عرضهن على أيدي الروس الملحدين، ويزيد من نقمة الشعب الروسي على رئيسه، ويوقع روسيا وجيرانها الكفار في أزمة طويلة وخطيرة تشغلهم عن المسلمين بعض الوقت، فأمر الله البحر - وهو جند من جنوده- أن يأخذ أقوى غواصة من تلك الغواصات، فتحرك البحر مباشرة لتنفيذ أمر المنتقم الجبار جل جلاله، وجمع قوته حول أكبر وأحدث غواصة نووية طولها أكثر من [100] متر، ووزنها [14] ألف طن، تسمى (كورسك) فابتلعها كلمح البصر، وهوى بها لتستقر بعد دقيقتين في قعر البحر معطوبة مشلولة منكوبة بمن فيها، على عمق 108 أمتار عن سطحه، والله أكبر، ولله الحمد.
هذا وشاء الجبار المتكبر جل في علاه أمرا آخر عقب إغراق الغواصة، ألا وهو أنه أمر جنداً آخر من جنوده، ألا وهي الرياح والأمواج، أمرها أن تتحرك لقطع الطريق على من سيحاول النجدة والمساعدة، وبالفعل فقد ساءت حالة الطقس في المنطقة كما ذكرت وسائل الإعلام، وهبت مباشرة رياح عاتية، وأمواج عالية، وضباب كثيف لم يعهد له مثيل، أعاق عمل سفن الإنقاذ التي أخذت تجوب المكان في حالة استنفار، كما أحبطت الرياح والأمواج محاولة إنزال قطعة بحرية لانتشال البحارة من الغواصة، كما هي عادتهم عند غرق الغواصات، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
ثم أمر الله تعالى مياه البحر أن تتسرب إلى داخل الغواصة العملاقة المحكمة الإغلاق، فتحركت المياه مستجيبة لأمر خالقها ومجريها، وبدأت بالتسرب إلى داخل الغواصة، متنقلة من غرفة إلى غرفة، ومن كبينة إلى أخرى، حتى وصلت إلى الكبينة الثامنة والتاسعة، فوجدت أمامها [118] عدوا من أعداء الله ورسوله والمؤمنين، من بينهم [54] ضابطا عسكريا روسيا، من إخوان الجيش الذي يحارب الله ورسوله والمؤمنين في الشيشان وغيرها من بلاد المسلمين، فأخذوا يصارعون ويتخبطون لا يدرون ماذا يفعلون، لأن الروح عزيزة، وخروجها صعب للغاية، قال الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال:50-51].
ولا شك أن طاقم الغواصة منذ أن هوت وهو يحاول الاتصال طالبا النجدة، كما ذكرت الأخبار أن طاقم الغواصة اتصل بعمال الإنقاذ بواسطة الطَّرْقِ على بدن الغواصة، إلا أن صوت ضرباتهم أخذ يخف شيئا فشيئا، وما درى المساكين أن ملك الموت كان يقبض أرواحهم في تلك اللحظات، لتخرج إلى سخط من الله وغضب، قال تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا -أغضبونا- انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55]. أجل لقد أغرقهم أولا ثم أماتهم ثانيا، ليجمع لهم بين الخوفين، خوف الغرق وخوف الموت، قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98]. هل ترى منهم أحدا في ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الغواصة؟ أو تسمع لهم ركزا أي صوتا أو حسا ولو خفيفا؟ لا والله، لأنهم قد ماتوا.
وبعد غرقها وموت من فيها، بدأت البحرية الروسية البحث عن مكان الغواصة، الذي أخذ وقتا طويلا في تحديد مكانها، كما سارعت جهات دولية مبدية استعدادها للمساعدة، لكن بعد ماذا؟ بعد أن انتهى كل شيئ، وكان أمر الله قدرا مقدورا؟!! قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94]. تركتم كل شيء، وذهب عنكم كل شيء، حتى من كنتم ترجون مساعدتهم، لا زالوا حتى الآن يبحثون عنكم، داخل الغواصة.
وبعد أيام من وصول الغواصين النرويجين والبريطانيين إلى الغواصة المنكوبة المشلولة في قعر البحر، شاء الله تعالى أن يعثروا على أول جثة من الضحايا بالقرب من منفذ النجاة فانتشلوه معهم، ويبدو أنه هرب من الموت حين داهمته المياه، فخرجت روحه بالقرب من منفذ الطوارئ، ليقول بلسان حاله لروسيا وللعالم بأسره: لا تتعبوا أنفسكم في البحث عنا، ها نحن قد متنا جميعا، وأنا رسولهم إليكم، فابدءوا بطقوسكم عن أرواحنا، التي بدا لها من الله ما لم تكن تحتسب.
إخواني في الله: وما حدث من غرق الغواصة الحربية النووية الروسية، لم يكن الأول من نوعه والحمد لله، بل سبقته حوادث مماثلة كان آخرها في شهر أبريل نيسان عام 1989، عندما غرقت الغواصة الروسية (كومسومولتس) في نفس البحر على بعد حوالي [300] كيلومتر شمالي السواحل النرويجية، وراح ضحية الحادث يومها [69] جنديا وعسكريا روسيا لا ردهم الله.
هذا والمشكلة التي تواجهها روسيا في هذه الأيام، هو كيفية انتشال الجثث التي أكدت التقارير أن انتشالها سيكون عملية خطيرة، وتستغرق وقتا طويلا ربما إلى نهاية السنة، وأن دخول الغواصين إلى داخل الغواصة المظلمة، والمليئة بالمياه، أمر ينطوي على مخاطر. - ومشكلة أخرى تخشى منها روسيا والدول المجاورة لها، ألا وهو تسرب إشعاعات نووية من المفاعلين النوويين اللذين تحملهما الغواصة، يُعَرِّضُ المنطقة بأكملها لخطر محدق، والأخبار الآن بدأت تتضارب حول الإشعاعات النووية هل بدأت بالتسرب في البحر أم لا؟.
وهكذا إخواني: لقد تحول الماء -وهو سبب الحياة لكل من عليها.
تحول إلى سبب دمار وهلاك لقوم نوح عليه السلام زمن الطوفان، وغرق وهلاك ودمار أيضا لفرعون وجنده، وللغواصة الإنكليزية، واليوم للغواصة النووية الروسية، التي أصبحت بمن فيها حديثا يتناقله الناس على مستوى العالم، حيث مزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث للناس، انتقاما لأوليائه، وشفاء لصدور عباده المؤمنين. - أما الإعتذارات، وإعلان الحداد، وإيقاد الشموع، وتنكيس الأعلام، وتوقف محطات الإذاعة والتليفزيون عن بث البرامج الترفيهية، فكل ذلك لن يجدي نفعا، بعد أن كان أمر الله مفعولا.
هذا وليعلم الروس الملاحدة وغيرهم من الدول الكافرة، المعادية للإسلام والمسلمين، ليعلموا جميعا أنهم إنما يحاربون الله وأن الله موهون كيدهم، فمهما حاربوا الإسلام والمسلمين، فإن ربك لهم بالمرصاد، وهذه الكارثة آية من آيات الله خوفهم الله تعالى وأنذرهم بها، فعليهم الرجوع عما هم عليه من إلحاد وبغي وظلم واعتداء على عباد الله الآمنين. - وعلى الأمم عامة أن تنسجم مع الظواهر الكونية الأخرى في الخضوع لله تعالى، وذلك ببذل خيرها وكف شرها، لكي تنسجم معهم تلك الظواهر هي الأخرى، فلا تكف عنهم خيرا، ولا تضطرب منفعلة باضطرابهم، فتغمرهم شرا.
والمهم إخواني: أن الدرس الذي يجب أن نأخذه مما سمعنا: هو أن الظلم ودولته لا يدومان، وأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأن الله تعالى يمهل ولا يهمل، كما قال تعالى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]. وأنه جل وعلا ينتقم لأوليائه من أعدائه متى شاء وكيف شاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وأن على المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله، فوالله الذي لا إله غيره، إن الذي نصر الأنبياء والمرسلين لقادر على أن ينصر أتباعهم المؤمنين، ليس في الدنيا فقط، بل في الدنيا والآخرة، ولو طال الزمان، لقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [فاطر:51]. لكن ما علينا إلا أن ننصر الله تعالى، وذلك بالتزام شرعه قولا وعملا واعتقادا، والإنتهاء عما عنه نهى وزجر قولا وعملا واعتقادا، وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/1202)
التعليم في مصر
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عمر بن عبد الكافي شحاته
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح حكمة من قول علي &. 2- ما أفسدته لجنة مراجعة المناهج ونماذج منه. 3- نصيحة للابن باحترام معلمه. 4- نصيحة للمعلم بالقيام بحق الأمانة. 5- نصيحة للمعلمة المتبرجة وولي أمرها. 6- كلمة في أذن أولياء الأمور. 7- عودة إلى مناهج التعليم وما في بعض مقرراتها من سخافة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المسلمون: من حكم أمير المؤمنين سيدنا علي أبن أبي طالب رضي الله عنه حكمة جليلة، وهو ربيب بيت النبوة وتلميذ المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان دائماً كلامه حكماً غالية تصلح أن تكون للإنسان نبراساً ومصباحاً يضيء له الطريق، يقول سيدنا علي رضى الله عنه: (أيها الناس ألا إنما الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة، إن النفس طماعة فعودوها القناعة، إن الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا أينعت نعت، وإذا جلت أوجلت، وكم من فتىً مدت له رباعها، فلما مدت له بَاَعَها باعها، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات، ولا يبقى غير وجه ربك ذو الجلال والإكرام).
أيها الأخ المسلم الكريم: حكمة لو وضعها كل واحد منا نصب عينيه لاستقام على طريق الله عز وجل (ألا إنما الدنيا ساعة) لكننا نظن أن الدنيا طويلة، ولا يذكر الإنسان الموت إلا عندما يموت له عزيز لديه، وربما أيضاً لا يذكر الموت عند موت عزيز عليه، ويقول لقد كان مريضاً، لقد كان كبير السن، لقد دهمته سيارة، لقد احترق في طائرة، أما أنا فأسير على الأرض، فالموت مني بعيد، هذا إنسان قد فقد العقيدة وفقد اليقين، ونسي رب العباد سبحانه وتعالى: ونسوا الله فأنساهم أنفسهم ، اللهم لا تنسنا أنفسنا، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
(الدنيا ساعة فاجعلوها طاعة) إذا كانت الدنيا ساعة فليجعلها العبد طاعة لله عز وجل، لأن العبد كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه، إن كان خيراً سوف يحصد خيراً كبيراً، وإن كان غير ذلك نسأل الله عز وجل أن يزحزحنا عن النار، وأن يدخلنا الجنة دون سابقة عذاب، وأن يجعلنا وإياكم من الذين يعرفون الحق ويرونه حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، وأن يبغض إلينا الحرام وأن يباعد بيننا وبينه بعد المشرقين، وأن يحبب إلينا الحلال، وأكل الحلال إنك يا مولانا على ذلك قدير.
أيها الأخوة الكرام: غداً بمشيئة الله عز وجل تفتح مدارسنا وجامعاتنا أبوابها لأبنائنا وبناتنا، ولابد لنا في أول العام الدراسي كلمة نهمس بها إلى أربعة: القائمين على أمر التعليم في مصر الذين سوف يسألهم الله عز وجل عن مسئوليتهم، المدرسون والأساتذة والمدرسات، أبنائنا الطلبة والتلاميذ والطالبات، أولياء الأمور في البيوت، ولابد أن يكون بكل واحد من هؤلاء شق في الحديث، اللهم اجعلنا من الذين يتبعون القول فيتبعون أحسنه، واعصم أبنائنا وبناتنا من كل سوء، واطرد عن أبنائنا وبناتنا شياطين الإنس والجن، واعصم المجتمع الإسلامي كله من كل سوء إنك على ما تشاء قدير.
منذ أعوام ثلاثة قام رجال يقال أنهم لجنة متخصصة بدراسة أحوال التعليم في مصر، وقامت بتطوير مناهج أبنائنا وبناتنا في مراحل التعليم المختلفة، فغيرت مناهج أبنائنا وبناتنا، وكثير من الآباء والأمهات لانشغالهم بمشاكل الحياة وتكاليف العيش وغلاء المعيشة يغفلون عن النظر في الكتب التي يدرسها أبنائه وبناته، وهو مسئول أمام الله عز وجل بعد هؤلاء الذين يسألون عن التعليم في أي بلد مسلم، لأن القضية لا أن أشغل نفسي بالطعام والشراب والكساء فقط، ولكن أتي بتربية خالصة ناصعة لكي أوضح لأبنائي وبناتي ما هو الغث والسمين، ما هو المصلح وما هو المفسد، ما هو المستقيم وما هو المنحرف.
أولاً: انظروا إلى ما صنع رجال تطوير التعليم بكتب أبنائنا، ألغيت أمور غريبة ووضعت بينها موضوعات غريبة وعجيبة، ماذا تقول أنت لابنك وابنتك عندما يدرس في السنة الأولى الإعدادية قصيدة للشاعر نزار قباني تسمى ( عند الجدار )، طفل في الثالثة عشر من عمره في بداية سن المراهقة يدرس عن شاب أحب واحدة، ولما صدته بكى علي وسادته وبللت دموعه الوسادة، فبكت أمه لحاله، ويبث الابن في القصيدة علي لسان الشاعر أشواقه وحبه لهذه الفتاة، ماذا أقول لابني أو ابنتي عندما أشرح له هذه القصيدة ؟، ماذا يقول مدرس اللغة العربية عندما يقف أمام بناتنا في الفصل وهن قد وصلن إلي سن المراهقة، ونحن نقول للآباء والأمهات حجبوا بناتكم إذا دخلن الإعدادية وصرن بالغات، ماذا يقول المدرس وهو يشرح أمام بناته؟، ماذا يشرح له من وكيف يشرح له من هذه القضية؟، هذا هو تطوير التعليم.
وانظر إلي كتاب السنة الثانية الابتدائية وموضوع الأصدقاء، يقول الكتاب في نسخته القديمة أنه يجب علي الإنسان أن لا يخاصم أخاه لأن هذا شيء لا يحبه الله ولا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا أحدثت لجنة التطوير؟، قالت: إن هذا أمر لا يحبه الله وألغت لا يحبه رسول الله، لما؟ قالوا: لأن هذه صعبة علي عقل التلميذ، سبحان الله، ما الصعوبة فيها؟، لكن لأننا نحافظ علي إطار الوحدة الوطنية التي لا أدري من الذي يثير هذه الفتن، ولا أحد أبداً يثير أمر الفتنة الطائفية إلا الذين يتحدثون فيها، النصارى يعيشون في كنف الحكم الإسلامي منذ عمرو بن العاص إلى عصرنا أفضل مما عاشوا في كنف الحكم المسيحي، وهذه شهادة يشهد بها التاريخ كله، زملائنا في العمل مسيحيون نعاملهم أفضل معاملة، ويعاملوننا معاملة طيبة، جيراننا في البيوت مسيحيون، لا غبار في مسألة الفتنة إلا ما يثيره هؤلاء الذين يستعدون السلطة علينا، أناس مرضى في قلوبهم وعقولهم لا يتقون الله في دينهم ولا في أوطانهم، ويظنون أن مكراً يحاق، حتى إنني قابلت كثيراً من العقلاء المسيحيين المخلصين لوطنهم قالوا: لقد حزنا لأن وزارة التربية والتعليم ألغت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من كتب القراءة والمحفوظات لأننا تذوقنا الأدب من خلال القرآن ومن خلال كلام محمد صلى الله عليه وسلم. فماذا يقول القائمين على أمور التعليم في مصر؟، (هذا أمر لا يحبه الله ورسوله)، قالوا: إن هذا صعب.
في كتاب السنة الثانية الابتدائية أيضاً يقول الكتاب في النسخة القديمة: (إذا مررت بقوم ألقيت إليهم السلام) ماذا صنعت لجنة التطوير؟ قالت: إذا مررت علي قوم ألقيت عليهم التحية، إذن نهارك سعيد هذه تحية، صباح الخير هذه تحية، لكن لما لا نعلم أبناءنا السلام عليكم، هل هناك صعوبة ؟، كانت الموضوعات تدرس في المرحلة الإعدادية وكانت هناك قصة عمرو بن العاص، وكانت تدرس فتوحات عمرو وإدخال الإسلام والخير لمصر علي يديه، ألغيت وتدرس لأبنائنا وبناتنا قصة غادة رشيد، مينو القائد الفرنسي الذي جاء بعد كليبر وجاء في حملة نابليون وحبه للفتاة الرشيدية، هذا ما يدرس لأبنائنا، هل نلغي عمرو بن العاص وندرس هذا لأبنائنا ؟، هل هذا يعقله عاقل ؟، هل القائمون علي أمر التطوير أناس يتقون الله عز وجل؟.
المرحلة الثانوية كان التاريخ الإسلامي والوسيط، والوسيط هو دراسة العصور الوسطى من نهضة أوربا، ولما جمعت عدد الصفحات التي تتحدث عن التاريخ الإسلامي في كتب الثانوية، عمر بن الخطاب ناله تسع صفحات، عثمان بن عفان ناله خمس صفحات، الخلفاء الراشدين الأربعة لم ينلهم أكثر من تسعة عشرة صفحة، الفراعنة والنهضة الأوربية مائة وتسعون صفحة، كيف تربط أنت أبنائنا وبناتنا بتاريخ إسلامهم وتاريخ أمتهم وتاريخ عظمائهم الذين نشروا الحضارة والنور بين الناس، وعاشت أوربا علي الحضارة الإسلامية سنوات طويلة، إلي أن نمنا نحن في النور واستيقظوا هم في الظلام، فتلقفوا الكرة وساروا في طريق الحضارة، ونمنا نحن نوماً نغط فيه غطاً عميقاً، ثم تأتي لجنة التطوير لتزيد الطين بلة، ألغيت جميع الأناشيد الدينية التي في كتب المحفوظات في الابتدائية وموضوعات الجهاد في سبيل الله، موضوع الربا الذي كان في السنة الثانية الإعدادية ألغي ووضع الآن موضوعات أن أرباح البنوك حلال، ووضع موضوع عن الغناء والموسيقى وأنها تخاطب الحس الراقي وتصعد بالعواطف، هكذا يقول المؤلف في كتاب التطوير، بدلاً من قصة أبي ذر رضي الله عنه وعبد الله بن الزبير رضى الله عنه، صار أبنائنا يدرسون أشياء أخرى عن عظماء أوربا، هذا في لجنة تطوير التعليم في مصر.
أمريكا وهي التي يقال أنها أعظم دولة الآن في العالم شعرت أنها قد تخلفت في مسألة التعليم فاهتزت الولايات الأمريكية كلها، وهب المسئولون فيها لما تخلف المتعلمون الأمريكيون عن غيرهم في أوربا وفي الاتحاد السوفيتي أيام ما كان، ودرسوا ووصلوا إلى أمور كثيرة حتى قال رونالد ريجان الرئيس الأسبق: إن تدهور التعليم في الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة بُعد الأساتذة والقائمين على التعليم والأبناء عن تعاليم الكتاب المقدس. هكذا يقول عن سبب التعثر في التعليم هناك، ونحن للأسف نحذف كل شيء يمت للولد بصلة إلى دينه وإلى إيمانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
أريد أن أسأل سؤالاً هل الذين طوروا التعليم في مصر مسلمون بحق؟ أم أنهم مسلمون بشهادة الميلاد؟ ماذا سوف يقولون أمام الله يوم القيامة وهو يسألهم ماذا صنعتم في أبناء المسلمين وبناتهم؟ ماذا ستكون الإجابة؟ من يرضي الإنسان؟، أيرضي رب العباد أم يرضي العباد ؟، أنت يجب أن ترضي الله ولا تخاف في الله لومة لائم، أريد من لجنة تطوير التعليم أن تعيد حساباتها مرة أخرى، وأن تستيقظ وتصحو ولتعلم أنها تدمر جيلاً بأكمله، وأن تتقي الله في أبنائنا وبناتنا، وأن تعيد الحس الإسلامي في كتبنا وفيما يدرس لأبنائنا وبناتنا لينشئوا على رعاية من الإسلام وحفظ لكتاب الله وحفظ لسنة الحبيب المصطفى وتاريخ أجداده، هذا إن أردنا لمصر خيراً وإن أردنا لهذه الدولة أن تخطو بخطوات وئيدة. اللهم جنب وطننا الفتن والمصائب والكوارث يا رب العالمين.
الكلمة الثانية: لأساتذتنا والمدرسين والمدرسات الذين يشرفون علي أبنائنا، إن لم تكن خطبة الجمعة من واقع الحياة وتعود بالنفع علي القائل والمستمع فلا فائدة فيها.
إخوتي الأعزاء الأساتذة والمدرسين والمدرسات في مراحل التعليم المختلفة: أبنائنا وبناتنا أمانة في أعناقكم، عندما يرى ابني وابنتي صراعك يا أستاذ مع زميلك: من يأخذ هذا الفصل، ومن يأخذ ذاك الفصل، هذا الفصل آباؤه من الأغنياء، وهذا الفصل آباؤه من الفقراء، فيتناحر المدرسان من يرسو عليه العطاء ليدرس لهذا الفصل لتكون الدروس الخصوصية من نصيبه هو لأن آباء هؤلاء قادرون على الدفع وآباء هؤلاء ربما يدخلونهم في مجموعات للتقوية، ولن يستفيد المدرس بهذا، ولقد بلغني أن بعض المدرسين يدفع خلواً لزميله في سبيل أن يأخذ الفصل، هل سمعت عن الخلو في التعليم ؟، فعندما يرى ابني هذا التناحر هل ينشأ على المحبة والود والإخاء والتعاون؟ ماذا سيقول ابني عندما أقول له يا بني كان جدك من الصحابة يضع التمرة في فم أخيه فيجد حلاوتها في فمه هو ؟، سوف يقول ابني إن أبي رجل متخلف وهذا الرجل لا يعيش العصر، إن أبي في قصر عاجي لا يرى ماذا يحدث في المدارس أو في غير المدارس، سوف يستهين أبناؤنا في المسجد عندما نقول لهم ذلك، لأنهم يرون صراع الأساتذة بعضهم مع بعض علي أشياء تافهة، صراع غريب بين إدارة المدرسة وبين المدرسين، نريد أن نقول إن أبنائنا أمانة وإن ضيعتم أبنائنا فقد ضيعتم الأمانة، وأنتم قد حملتم الأمانة كما نحملها جميعاً إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً فكل منا قد حمل الأمانة وكل في موضع عمله يتقي الله رب العالمين.
أريد أن أقول: عليك أيها الأخ الكريم، أيها الأستاذ بالجامعة والمدرسة والمعهد أن لا يكون هدفك الدرس الخصوصي، بل يكون هدفك هو الإخلاص لله في عملك، لكي يبارك الله لك في مالك وفي صحتك وفي أبنائك وفي زوجتك، المدرس الذي عنده السعار علي الدروس الخصوصية لا يبارك له لا في زوجته ولا في أبنائه ولا في بناته ولا في صحته ولا في مرتبه، ثم هل يحق لمدرس من المدرسين أن يدخل بيتاً ليس فيه زوج؟ يدخل الساعة الواحدة بالليل لأن جدوله مشحون ليدرس لبنات في الثانوية العامة، هل هذه بيوت يسكنها رجال من أمتي ونسوة من أمتي ؟، هل هؤلاء البنات كما قلنا في الجمعة السابقة هم حفيدات أسماء بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر والصحابيات الجليلات رضي الله عنهن؟ هل من الإسلام أن ينام المدرس طوال الحصص ليفرغ صحته وجهده ووقته للدروس بعد الظهر؟،
نعم الدروس الخصوصية ليست حراماً، ولكن بشروط: أن يشرح الأستاذ بجد ويتقي الله ربه، ويشرح بإخلاص كما لو كان يعطي درساً خصوصياً.
نسأل الله عز وجل أن يثير الحمية في قلوبنا للإسلام وأن يعيد الإيمان إلى قلوبنا، وأن يجعلنا وإياكم من المتوكلين عليه وحده سبحانه الرزاق ذو القوة المتين، ويجعلنا جميعاً نقول الحق لا نخاف في الله لومة لائم.
أيها الأخ المسلم الكريم: مازلت أقول لإخواني من الأساتذة ومن المدرسات اتقوا الله رب العالمين، أنت أيتها الأخت المسلمة المعلمة، أنت قدوة لبناتنا في المدارس لا تذهبي بفساتين قصيرة، ولا تذهبي بأدوات مكياج في الوجه، يستحي الإنسان أن ينظر إلى هذا المنظر السقيم حتى تنظر البنت إلى وجه المدرسة تراها صورة من الفنون غير جميلة، فتقول البنت في نفسها: أمي متخلفة، وعمتي متخلفة، وخالتي متخلفة، لأنهن محجبات ولأنهن سائرات في طريق الله، لكن هذه المدرسة تعيش عصرها، أنت أيتها الأخت المسلمة اتقي الله في أبنائنا وبناتنا، فأنت قدوة، إذا وقفت المدرسة أمام تلاميذ في السنة الثالثة الثانوية ووقفت تكتب علي السبورة وتلبس فستاناً قصيراً ظهر منها أكثر مما تستر، ماذا يقول الابن الذي وصل إلى هذه السن؟ هل يستوعب مسألة التعليم أم يستوعب شيئاً أخر؟ يا أخوتاه يجب أن نتقي الله رب العالمين.
أقول لزوجها لا تخرجها من بيتك إلا وهي تلبس زياً كما أمر الله سبحانه وتعالى ما دامت مضطرة إلي العمل، نحن لا نحرم عليها هذا، ولكن نقول لها اتقي الله رب العالمين، وليت القائمين علي أمرنا يجعلون المدرسات للبنات فقط، ويجعلون المدرسين للأبناء فقط، لكي تسير العملية وينزل الرضا علي هذا البلد، ويحل الخير كله في أبنائنا وبناتنا وجيلنا.
وللأخوة المدرسين والمدرسات لا تعاملوا أبناءنا الملتزمين علي أنهم متطرفون أو على أنهم خارجون على القانون، كلا اجعلوا أنفسكم آباء لهم، ضموهم إلى صدوركم، انظروا ماذا يريدون ؟، يريد الولد أن يستقدم عالماً ليقول ندوة في الجماعة، لا تمنعوه إذا منعتم الغذاء الروحي والغذاء الديني عن أبنائنا تلقفته الأيدي الأخرى، تلقفه الإدمان والانحراف، لكن الدعاة إلى طريق الله المخلصين هم أناس يدعون الناس إلي طريق الله وأولى الناس بالدعوة هم أبناؤنا وبناتنا في مراحل التعليم المختلفة، يجب علينا أن نتقي الله في هذه النقطة.
الكلمة الثالثة: يجب أن يعلم أبناؤنا وبناتنا أنهم مستقبل هذه الأمة، وأننا نرجو لهم الخير كله، وأن عليهم أن يرفعوا علم الإسلام ويتلقفوا الكرة مرة أخرى ليعيدوا عصر عبد الله بن الزبير، ويعيدوا عصر هارون الرشيد، ويعيدوا عصر عمر بن عبد العزيز، ويعيدوا عصر هؤلاء الذين أدخلوا الناس في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى، يوم كانوا أقوياء وعلماء.
أيها الأبناء الأعزاء: أريد منكم طاعة لأساتذتكم، لا يرفع أحدكم صوته على أستاذه، لا ينظر واحد منكم نظرة كبر لأستاذه، أستاذك كأبيك تماماً، ومدرستك أيتها البنت المخلصة المستقيمة كأمك، يجب عليك أن تبريها وتحسني معاملتها، هكذا إذا أردنا خيراً.
استذكروا بجد دروسكم وانووا خيراً بأنكم بذلك تنصرون الإسلام، نريد أطباء نابهين، نريد محاميين يدافعون عن حقوق الناس، نريد مهندسين يصنعون ويشيدون الخير، نريد باحثين يستنبطون ويفكرون بالأشياء التي تعود علي المسلمين والدولة بخير، نريد مدرسين من الذين يعلمون الناس التقوى والهدى والعفاف والاستقامة، نريد حرفيين متعلمين نستطيع أن نفاخر بهم أمام الناس.
أيها الأبناء: اعلموا أنه لا أمل لنا بعد الله عز وجل إلا فيكم فأنتم أكثر من عشرين مليون، نرجو لكم الخير والتوفيق، وإياكم من هؤلاء الشباب والشابات الذين يدخنون، اتقوا الله في أموال آبائكم وأمهاتكم، فالولد في مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته، واعلموا أنكم منذ بلوغكم سن التكليف وقد بدأ ملك الحسنات وملك السيئات يكتب عليكم ما تصنعون، فاتقوا الله واعلموا أن عليكم من الله رقيباً. نسأل الله لنا ولكم التوفيق، ونسأل الله أن يطرد عنكم شياطين الإنس والجن.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
بقيت كلمة رابعة: لأولياء الأمور في البيوت، أيها الأخوة الكرام ليست القضية في تربية الأبناء أن نأتي لهم بالزي وأن ندفع مصاريف المدرسة وأن نيسر أمر وسيلة الانتقال إذا كان البيت بعيداً عن المدرسة أو الجامعة، نعم هذه مسئولية لكن هناك مسئولية أعظم، مسئولية تربية البيت، فالبيئة في البيت هي التي نستطيع من خلالها أن نرى الابن في المدرسة أو الكلية، فنحكم على الأب والأم من خلال سكوت الولد، فإذا رأينا ولداً يشيح في وجه أستاذه فاعلم أنه يشيح في البيت في وجه والده، وإنك إن رأيت بنتاً في المدرسة تنظر إلى مدرستها باحتقار اعلم أنها تعامل أمها هذه المعاملة، ربوا أبناءكم علي كتاب الله، ربوا بناتكم على تقوى الله، ربوا بناتكم على العفاف وعلى الحجاب وعلى الاستقامة وعلى عدم الكذب.
صادقوا أبناءكم وبناتكم أيها الآباء والأمهات، لا تجعلوا بينكم وبينهم حواجز، إنما اجعلوهم لكم أصدقاء كما علمنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم أن تلاعب ابنك سبع سنين، وأن تؤدبه سبع سنين، وأن تصادقه منذ سن الدخول في الرابعة عشرة، ثم اترك له الحبل علي غاربه بعد ذلك، وقل له وكلتك للحي الذي لا يموت، يجب أن تعلم أصدقاء أبنائك.
ونقول ثانية ماذا عن المناهج التعليمية التي تدرس؟
أنا لا أريد أن أتحدث عن مناهج القصص الأدبي في الكتب الإنجليزية التي تدرس في كليات التربية وكليات الآداب، هذا كلام لا أستطيع أن أقوله فوق المنبر ولا تحت المنبر، هل تتخيل إذا كان ابنك أو ابنتك دارسين للغة الإنجليزية، وانظر في أي قصة من التي تدرس لأبنك في أي كلية من كليات التربية قسم اللغة الإنجليزية، وانظر إلى فلانة كيف أنها زوجة وأنها غير زوجة ولا شرف لها، كلام لا يقال أبداً علي منبر رسول الله، أقول ما شعور الولد الذي بلغ العشرين من عمره وهو يدرس في هذا الأمر، الفتنة نائمة هدى الله من أيقظها، ولكن كيف تنام الفتنة وزميلته تلبس زياً يكشف من جسدها أكثر مما يستر، ماذا نقول لأبنائنا ؟، إن لم نكن جميعاً يداً واحدة في سبيل الخير ونصرة الإسلام وإلا فسوف يحيق بنا ما حاق بدول كثيرة، الدول والحضارات تضمحل إذا كانت الأخلاق هي التي تضمحل:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يقول الأديب الايرلندي الساخر برنارد شو ( لقد درست اثنين وخمسين نوعاً من المدنية والحضارة فوجدت أنها انهدمت علي مر التاريخ عندما انحدر الجانب الخلقي ).
و يقول ابن خلدون في مقدمته ( أيها الناس إن العرب لا تصلح إلا برسالة، فإن تركت العرب الرسالة صاروا كالبهائم العجماء يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ) وهذا كلام صدق، العربي لا يصلح إلا بالدين، والمصري فطرته بفضل الله عز وجل مع الدين ومع اليقين، ما الفائدة أن أحذف الكلام عن خالد بن الوليد وعن الخلفاء الراشدين وأدرس للأولاد "قصة السيد البدوي وما فيها من تخاريف غريبة، وما فيها من أبيات من الشعر نسأل الله الهداية، إذا قرأتها خرجت عن دائرة الموحدين".
أيها الأخوة الكرام: المسئولون عن التعليم الأساتذة، أولياء الأمور، الأبناء والبنات: كلنا مسئولون مسئولية تامة أن يبدأ كل واحد منا بنفسه وفي حدود مسئوليته، لأن الله سوف يسألنا عن الإسلام يوم القيامة.
(1/1203)
النبي صلى الله عليه وسلم معلماً
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
منقذ السقار
مكة المكرمة
جامع بن خليفة
_________
الخطبة الأولى
_________
أولاً: إطلاق اسم المعلم على نبينا صلى الله عليه وسلم:
لا ريب أن مهمة النبي والرسول إنما هي تعليم أمته ودلالتهم على الخير قال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [الجمعة:2].
كما أرسلنا فيكم رسول منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون [البقرة:151].
وخرج يوماً على أصحابه فوجدهم يقرؤون القرآن ويتعلمون فكان مما قال لهم: ((وإنما بعثت معلما)) [1]. وقال : ((إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً وميسراً)) [2].
يقول معاوية بن الحكم: ((ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه)) [3] ، وفي رواية أبي داود: ((فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم)) [4].
ثانياً: النبي صلى الله عليه وسلم أعظم معلم:
ترى الدراسات التربوية أن أفضل طرق قياس مستوى المعلم تقييم طلابه، ولو اعتمدنا هذه الدراسات لتوصلنا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أعظم مربٍ ومعلم، فعن طلابه وتلاميذه قال الله كنتم خير أمة أخرجت للناس [آل عمران:110].
ثالثاً: شمائل النبي التي يحتاجها كل معلم:
لا ريب أن شمائل النبي وأخلاقه العظيمة من الكثرة بمكان، ونعرض هنا للشمائل التي يحتاجها كل معلم يود أن يقتدي بالنبي في أداء مهمته التعليمية والتربوية.
أ) الحرص:
لقد جاءكم رسول أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128].
((يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي)) [5].
((إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه،فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه)) [6].
ب) الرفق واللطف في التوجيه:
((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) [7] ، وفي مسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا شانه ولا ينزع من شيء إلا شانه)) [8].
ومن رفقه ما ذكره أنس بن مالك عن النبي أنه قال له: ((يا بنيّ)) [9].
يقول أنس خادم النبي : (كان رسول الله من أحسن خُلقاً فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: لا والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله.
فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي.
قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنيس أذهبت حيث أمرتك؟ قال قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله).
ومن رفقه ما ذكره عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حيث قال: ((ثم مسح على رأسي ثلاثاً)) [10].
ومن رفقه تحببه إلى أصحابه حتى يظن كل منهم أنه الأثيرعنده.
يقول عمرو بن العاص: ((كان رسول الله يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليّ حتى ظننت أني خير القوم.
فقلت: يا رسول الله: أنا خير أو أبو بكر؟ قال: أبو بكر.
فقلت: يا رسول الله: أنا خير أو عمر...)) [11].
ويقول جرير بن عبد الله البجلي: (ما حجبني النبي منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي) [12].
يقول جابر بن عبد الله: ((ما سئل رسول الله شيئاً قط فقال: لا)) [13].
قال أنس: ((والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا)) [14].
وفي رواية لأحمد: ((ما قال لي فيها أف)) [15].
وفي رواية أيضاً له: ((والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف)) [16].
وفي قصة معاوية بن الحكم وقد عطس أمامه رجل في صلاته فشمته معاوية وهو يصلي يقول: فحدقني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمياه مالكم تنظرون إليّ.؟ قال: فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت.
فلما انصرف رسول الله دعاني، بأبي هو وأمي، ما ضربني ولا كهرني ولا سبني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه [17].
وقام أعرابي فبال في المسجد ((فتناوله الناس، فقال لهم النبي : دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) [18].
ج) التواضع:
مما ينبغي على المعلم أن يتواضع لطلابه، فيرعى حال ضعيفهم، وقد يخصه بمزيد بيان وشرح ووقت.
قال أبو رفاعة انتهيت إلى النبي وهو يخطب قال، فقلت: يا رسول الله: رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال: ((فأقبل عليّ رسول الله وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله ، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها)) [19].
وعن أنس بن مالك: ((أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك)) ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها.
وقد يرضى من ضعيفهم ما لا يرضى من قويهم.
لما وفد عليه ضمام بن ثعلبة دعاه وذكر له فرائض الإسلام فقال ضمام: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" قال رسول الله : ((أفلح إن صدق)) [20].
لكنه لم يرض من آخرين فرائض الإسلام فقط، بل أضاف إليها غيرها مما قد يدخل في السنن والمندوبات يقول عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) [21].
د- الإجابة عما يترجح عنده جهل طلابه به، وذلك بذلاً منه للعلم عند أهله، وقد يجيب عما يراه يجيش في صدورهم من المسائل وإن لم ينطقوا به.
"سأل رجل رسول الله ، فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟
فقال رسول الله : ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)) [22].
فقولهإ: ((الحل ميتته)) زيادة علم أفاد بها رسول الله السائل عن حكم الوضوء من ماء البحر، ومن جهل هذه كان بتلك أجهل.
أن رجلاً سأله ما يلبس المحرم؟ فقال: ((لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا ثوباً مسّه الورس أو الزعفران، فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين)) [23].
أن رجلاً قال للنبي : يا رسول الله أخبرنا عن سبأ ما هو، أرض أم امرأة؟ فقال: ((ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن ستة، وتشاءم أربعة)) [24].
وقال يوماً لأصحابه: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)) [25].
و- التريث في الإجابة عن السؤال، وترك القول بلا علم.
أ - ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كان عنه مسؤولاً.[الإسراء 36]
ب - سأل جابر بن عبد الله النبي فقال: ((يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية المواريث)) [26].
ج - جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أي البلدان شر؟ فقال: ((لا أدري حتى أسأل ربي، فلما أتاه جبريل عليه السلام قال: يا جبريل أي البلدان شر؟...)) [27].
رابعاً: كيفية التعامل مع المخطئين والمقصرين:
ولما كان القصور والخطأ والجهل أمراً معهوداً في الأبناء والطلاب فإننا نتساءل كيف تعامل النبي مع أمثال هذه الحالات، وفي هذه الأمثلة نقرأ الإجابة وتستلهم المنهج.
تقول عائشة : ((ما ضرب رسول الله شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله)) [28].
لما تخلف كعب بن مالك عن الجهاد في تبوك، ورجع النبي من غزوه جاءه كعب فيقول: "فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب" [29].
بينما هو في المسجد دخل أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله : مه مه، قال: قال رسول الله : ((لا تزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال.
ثم إن رسول الله دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن..)) [30].
وفي رواية للترمذي أنه قال لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) [31].
قصة الشاب الذي جاء يستأذن رسول الله بالزنا فزجره الصحابة فقال رسول الله : ((ادنه فدنا منه قريباً، قال: فجلس قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونهم لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟... اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)) [32].
هجر رسول الله كعب بن مالك في تخلفه عن تبوك، وأمر أصحابه أن لا يكلموه [33].
كان عنده رجل به أثر صفرة قال: وكان رسول الله لا يكاد يواجه أحداً بشيء يكرهه، فلما قام قال للقوم: ((لو قلتم له: يدع هذه الصفرة)) [34].
سبق حديثه مع المتكلم في الصلاة، وأنس المتأخر عن قضاء حاجته.
وأقر رسول الله التأديب بالضرب كما في قصة أبي بكر مع غلامه وقد أضاع بعيره قال: فطفق يضربه، ورسول الله يتبسم ويقول: ((انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع)) [35].
خامساً: سبق النبي إلى الوسائل التي يتنادى إليها التربويون اليوم ومن ذلك.
ضربه الأمثال:
وهو كثير، منه تشبيه المؤمن بالنخلة [36]. والمجتمع بالسفينة [37]. والصاحب السيء بنافخ الكير [38].
ب- تحفيز الأذهان بالسؤال:
وهو كثير، منه قوله: ((أتدرون ما المفلس...)) [39].وقوله: ((أتدرون ما الغيبة...)) [40]. وقوله: ((أتدرون أي يوم هذا..)) [41].
ج- تحفيز الأذهان بذكر معلومة أو خبر لم يذكر مقدمه أو أوله ،وله أمثلة كثر،منها
((قال: رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف. قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة)) [42].
ومرّ بجنازة فأُثنى عليها خيراً فقال نبي الله: ((وجبت وجبت، ومر بجنازة فأثنى عليها شراً فقال نبي الله: وجبت وجبت، قال عمر: فدىً لك أبي وأمي، مر بجنازة..)) [43].
وذات مرة قال : ((أُحضروا المنبر، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين. فلما نزل قلنا يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه..)) [44].
د- قلة الكلام وإعادته ليتمكن في قلب السامع.
تقول عائشة : (إن كان رسول الله ليحدث الحديث لو شاء العد أن يحصيه أحصاه) [45].
ويقول أنس : (كان إذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً) [46]. وفي رواية أخرى للبخاري زاد (حتى تفهم منه) [47].
[1] رواه ابن ماجة برقم 229 في حديث عبد الله بن عمرو ، وفي سنده ضعف.
[2] رواه مسلم برقم 1478 من حديث جابر.
[3] رواه برقم 537.
[4] رواه أبو داود برقم 931.
[5] رواه مسلم برقم 1826 من حديث أبي ذر.
[6] رواه مسلم برقم 2284 من حديث أبي هريرة ، ومثله في البخاري برقم 3427.
[7] رواه البخاري برقم 6927 من حديث عائشة.
[8] رواه مسلم برقم 2594.
[9] رواه أحمد في المسند برقم 12648.
[10] رواه أحمد في المسند برقم 1763.
[11] رواه الترمذي في الشمائل برقم 295.
[12] رواه البخاري برقم 5739.
[13] رواه الترمذي في الشمائل برقم 302.
[14] رواه مسلم برقم 2310 من حديث أنس.
[15] برقم 1609.
[16] برقم 12622.
[17] رواه النسائي برقم 1218 من حديث معاوية ، وأبو داود برقم 930.
[18] رواه البخاري برقم 220 ونحوه في مسلم برقم 284 في رواية أبي هريرة.
[19] رواه مسلم برقم 876 من حديث أبي رفاعة.
[20] رواه البخاري برقم 46 من حديث طلمة بن عبد الله.
[21] رواه البخاري برقم 6774 من حديث عبادة بن الصامت.
[22] رواه البخاري برقم 69 من حديث أبي هرير.
[23] رواه البخاري برقم 134 من حديث ابن عمر ، ومسلم برقم 1177.
[24] رواه أبو داود برقم 3988.
[25] رواه البخاري برقم 3276 من حديث أبي هريرة ، ومسلم برقم 134.
[26] رواه البخاري برقم 6723 من حديث جابر ، ونحوه في مسلم برقم 1616.
[27] رواه أحمد في المسند برقم 16302 من حديث جبير بن مطعم.
[28] رواه مسلم برقم 2328 من حديث عائشة رضي الله عنها.
[29] رواه البخاري برقم 4156 من حديث كعب بن مالك.
[30] رواه مسلم برقم 285من حديث أنس.
[31] رواه الترمذي برقم 147.
[32] رواه أحمد برقم 21708 من حديث أبي أمامة.
[33] ذكره البخاري في صحيحه برقم 4156 من حديث كعب بن مالك.
[34] رواه الترمذي في الشمائل برقم 297 من حديث أنس، وفي اسناده ضفيف.
[35] رواه أبو داود برقم 1818 من حديث أسماء.
[36] في حديث البخاري برقم 61 من حديث ابن عمر.
[37] في حديث البخاري برقم 2540 من حديث النعمان بن بشير.
[38] في حديث البخاري برقم 5214 من حديث أبي موسى.
[39] رواه مسلم برقم 2581 من حديث أبي هريرة.
[40] رواه برقم 2589 من حديث أبي هريرة.
[41] رواه البخاري برقم 1654 من حديث أبي بكرة.
[42] رواه مسلم في صحيحه برقم 3551 من حديث أبي هريرة.
[43] رواه مسلم برقم 949 من حديث أنس.
[44] رواه الحاكم من حديث كعب بن عجرة.
[45] رواه أبو داود برقم 3654 من حديث عائشة.
[46] رواه البخاري برقم 94.
[47] رواه البخاري برقم 95.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/1204)
صيحة.. حذار من التنصير
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, مذاهب فكرية معاصرة
علي بن محمد الباروم
مكة المكرمة
3/6/1421
منار الإسلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سؤال في بلاد الحرم عن الكتاب المقدس. 2- القنوات الفضائية والعمل التنصيري.
3- الدعوة إلى تقارب الأديان ووحدتها ، ونداءات العولمة النصيرية. 4- حزب الشيطان
يتكاتف ضد أمة الإسلام. 5- حكم النظر في كتب النصارى الدينية. 6- دعوة لإخراج صحون
الاستقبال للقنوات الفضائية في بيوت المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أحدثكم اليوم عن نبأ وأي نبأ، وخبر وأي خبر، إنه حديث عن أمر جلل وحدث حصل، كثير من الناس عنه متغافلون أو غافلون، بل ربما بعض أهل الغيرة عنه معرضون، ما كنت أظن وقوعه أو أحسب حدوثه في مهبط الوحي ومنبع التوحيد – الحرم-، وما كنت أتصور الحديث عنه يليق بمثل هذا المقام حتى أدهشني سماعه وأزعجني نداؤه، إنه التنصير لأهل الحرام، نعم، إنه التنصير في الحرم، نعم عباد الله إنه التنصير لأهل الحرم، قول لا يُسمع وأمر لا يُعهد، ولكنه حصل، وذلك عندما سألني بعض المصلين لا الملحدين في الحرم سؤالاً، أجبته بسؤال وردّدته بجواب.
قال يا شيخ: ما رأيك في الكتاب المقدس؟
قلت: ماذا تقول؟
فردّدها مراراً: ما رأيك في الكتاب المقدس؟ فقلت له: هل هو عندك؟
فنفى ذلك نفياً قاطعاً.
قلت: وماذا يعنيك؟
قال: رآه بعض جيراني في القنوات الفضائية.
نعم ومن هنا نبدأ في بعض القنوات الفضائية، القنوات الفضائية.
سؤال يطرح نفسه: هل يمكن أن يتنصر أهل الحرم؟ وهل يمكن للتنصير أن يجد مرتعاً خصباً في الحرم؟
نعم عباد الله يمكن أن يتنصر الناس، بل يمكن أن يتنصر أهل الحرم عند غفلة أهل الحق عن الحق، لأن الأمر كما قال الأولون: لا قيام لأهل الباطل إلا في غفلة الحق –، نعم لا قيام لأهل الباطل إلا في غفلة الحق.
قد تستغرب قولي، وحق لك التكذيب لأنه غريب، نعم إنه غريب، ولكن رحمك الله تلمس بفطنة وذكاء وعقل يقظ ونفس حاضرة، تلمس أحوال من حولك من الناس نعم أخي الكريم تلمس أحوال من هو لك من الناس جماعات وأفراداً تعرف الحقيقة غاية المعرفة، وبرهانها قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن الناس إذن)) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
عباد الله: الأمر خطير جداً، خطير فلابد من صيحة نذير، نعم صيحة نذير، وأي نذير.
حذار حذار من التنصير، حذار حذار من التنصير.
واعلموا يقيناً أن الله عز وجل قرر في محكم كتابه بخبر ثابت ونبأ حقيق ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى.
نعم عباد الله إن الصراع قائم، نعم الصراع قائم بين العقائد لا الحضارات أو الترهات التي يمليها على أسماع المسلمين المستسلمون أو المتأسلمون.
ولكن الأمر كما قال الله عز وجل: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتخذوا منهم أولياء إذاً فلا مجال لحوار الأديان المزيف المزعوم ولا التقارب المنكوب المزكوم الذي تنادي به شخصيات وللأسف متأسلمة، كما ينعق بذلك مفتي الفضائيات، من أمرض قلوب الناس بأمراضه، ومنظمات ليت شعري مستسلمة.
عباد الله: اتقوا الله عز وجل في أنفسكم، واسمعوا نداء الله عز وجل لكم: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم [آل عمران:100-101].
يقولون: عولمة، نعم إنها عولمة التنصير في مسوح التبشير، فهلا جعلناها عولمة دعوة النذير البشير والسراج المنير صلوات الله وسلامه عليه تحت لواء عالٍ شامخ واضح أبلج قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم.
أقول هذا القول وأسأل الله عز وجل لي ولكم الصيانة من الضلالات والترهات.
اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال أو نذل أو نضل من تحتنا.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من خالف أمره وعصاه، والحمد لله قاصر ظهور القياصرة وكاسر شوكة الأكاسرة، مذل الكافرين الملحدين الزائغين المضلين، والصلاة والسلام على النذير البشير والسراج المنير الداعي إلى دعوة الحق: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، دعوة الإسلام التي لا يقبل دين سواها ولا يقبل من العمل إلا ما كان متمثلاً به، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه بإحسان واقتفى واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين فاتقوا الله تعالى حق التقوى وعظموا شعائر المولى وتمسكوا بالعروة الوثقى وكونوا عباداً مخلصين داعين للحق مصلحين.
أمة الإسلام لا عجب في نصرة النصارى لدينهم، ولا عجب في تكالبهم على الإسلام كتكالب الأكلة على قصعتهما، ولا عجب في تشويههم الإسلام ومنهج الإسلام وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولا عجب في صدهم عن سبيل الله وهم يعلمون أنه الحق من ربهم فلا تكونن من الممترين.
ولا عجب في مضايقتهم لقنوات الخير وإجلابهم عليها بخيلهم ورجلهم، ولا عجب في مشاركتهم بعض المسلمين في إجلابهم على المسلمين بخيلهم ورجلهم، ومشاركتهم المسلمين في أنفسهم وأموالهم وفي إملائهم المسلمين وتذييقهم وتضليلهم وتعطيلهم، وما ذلك كله - أعني عدم العجب – إلا لكونه كيداً للشيطان وقد قال الله عز وجل: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً وقال الله سبحانه وتعالى: ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.
وتأذن الله عز وجل بنصرة دينه وتأييده ولو كره المجرمون، ولو كره الكافرون المشركون، ولكن إن تعجب فعجب تخاذل بعض المسلمين عن نصرة دينهم، وإن تعجب فعجب حجب بعض المتأسلمين الناس عن دينهم، وإن تعجب فعجب سد أبواب رد هجمة المنصرين الشرسة وإن تعجب فعجب تضليل المتأسلمين للمسلمين بعبارات باردة وأفكار خبيثة ماردة كدعوى أن النصارى على دين حق، وأنهم إخوانهم في الدين، ولا بأس في مشاركة النصارى في أعيادهم وتهنئتهم والصلة بهم إلى غير ذلك من الدعاوى المغرضة والأقوال المناوئة للدين التي يتزعمها ويدفع لواءها ولواء أقرانها مفتي الفضائيات.
فمن الأمور التي تبث بين الناس ولا يكاد يفقه تلبيسها كثير من الأكياس ما يزعم بالتقارب بين الحضارات ودعوى اندماج الديانات فكل من اليهود والنصارى – كما قالوا- على دين حق، ونحن نقول: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين كل هذه دعاوى فاجرة وأفكار ماكرة لا تقبل في الدين، بل هي مردودة مصفوع بها وجه قائلها ولو كان من كان، في أي مكان كان أو أي قائل.
كان ينبغي أن يرد قوله وألا تقبل بهرجته.
عباد الله: لا يجوز للإنسان أن يقارب بين الإسلام والكفر، وبين التوحيد والشرك، بين الاستقامة، والإلحاد، وبين سبيل الله بين صراط الله المستقيم، وصراط الملاحدة الشياطين.
لا يجوز ذلك وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتعبوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.
ومما هو قريب من ذلك ما يلوكه بعض المثقفين، والأصح المسقفين الذي تسقفوا بالأسقف الغربية التي لا أساس لها في الدين ولا قرار، وإنما هي محض إفتراءات وهذرمة لا تقوم على قرار.
ما يقوله أولئك الملحدون أو العقلانيون أو المثقفون المغفلون أو ضعاف النفوس من المتأسلمين ما يقوله ألا حرج على الإنسان أن ينظر في ضلالات النصارى وأن يأخذ ما عندهم من الحق وأن يرد ما سوى ذلك.
نقول ذلك إلحاد لا يعرف في دين الله وإنما هو معصية كبرى وأمر خطير، وباب من أبواب جهنم يفتحه أولئك المغفلون أو المستغفلون لعموم الناس، واسمعوا رحمكم الله إلى الحديث الصحيح الذي فيه أن عمر رضي الله عنه أتى رسول الله بشيء من أخبار بني إسرائيل في التوراة المحرفة فجاء بها إلى رسول الله ليسترشده ويسأله وليأخذ ما فيها من خير فقال النبي : ((والله لو كان موسى بين أظهركم عليه الصلاة والسلام ما وسعه إلا اتباعي)) ما وسعه إلا اتباعي.
فلا يجوز للإنسان أن ينظر في أديان أولئك الملحدين بل يكفي الإنسان أن يتأمل في هذا الدين الحنيفي القويم وأن يأخذ به بأصوله وفروعه، بلبه ولبابه، بأصوله وتلبابه، أن يأخذ بذلك كله وأن يجعله منهاجاً يسير عليه، يسير على الصراط المستقيم لينجو بنفسه من المهاوي والضلالات.
عباد الله: فمن هنا أنادي بملء فيّ نداءً علياً شجياً، نداءً يوقظ النائمين وينبه الغافلين، أنادي من الحرم أنادي كل مسلم ومسلمة، أنادي ندائي، أنادي نداء من الحرم إلى كل مسلم ومسلمة، إلى كل من رفع للدين راية، إلى كل من له على الخاص والعام ولاية، أناديهم بتقوى الله عز جل وأن يغاروا على دين الله سبحانه وتعالى.
أناديهم وأسألهم بين يدي الله عز وجل عن هذا النداء أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم وأهليهم عباد الله يا كل من يسمعني: أخرجوا الدشوش من بيوتكم قبل أن يذهب عليكم دينكم، قبل أن ترجعوا إلى أهليكم وقد تنصروا بالمقال أو الحال أو الفعال.
اتقوا الله عز وجل في أنفسكم فإن الله موقفكم وسائلكم عن رعيتكم هل نصحتم فيها؟ ماذا فعلتم معها؟ هل نصحتم أم غششتم؟ ((ومن ولي من أمر المسلمين أمراً فغشهم فإنه لا يريح رائحة الجنة)).
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1205)
منزلة المحاسبة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المحاسبة في الدنيا تخفف حساب الآخرة. 2- المقايسة بين النعم وشكرها. 3- أركان
المحاسبة (العلم – سوء الظن بالنفس – التفريق بين النعمة والنقمة). 4- أمور يحاسب عليها
العبد يوم القيامة (الصلاة – العمر – الشباب – المال – حقوق العباد).
_________
الخطبة الأولى
_________
فيقول الله عز وجل آمراً عباده والمؤمنين:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي: لتنظر كل نفس مؤمنة في أعمالها وأقوالها أتصلح لغد؟! أتصلح ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب شديد.
والمحاسبة في الدنيا، ويخفف على صاحبها محاسبة الآخرة، وكلما كان العبد دقيقاً واضحاً في محاسبة نفسه هان عليه الوقوف يوم العرض الأكبر.
وفي الأثر المعروف عن الفاروق كما عند الترمذي: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)).
فما هي المحاسبة؟ وما هي أركانها؟ وكيف تكون؟!
اعلموا رحمني الله وإياكم أن المحاسبة تقتضي المقايسة بين نعم الله عز وجل على العبد وفعل العبد تجاه هذه النعم. والمقايسة بين ما أوجب الله على عبده من عبادات وطاعات ومدى استجابة العبد لأوامر ربه فهي نظر في رأس المال والربح والخسارة.
فرأس المال الواجبات والفرائض، والربح النوافل والطاعات والقربات، والخسارة قد تكون في رأس المال، وهذه مصيبة وقاصمة وقد تكون في الربح، فتكون نذيراً مدعاة للانتباه. وفي الحديث القدسي، يقول الرب عز وجل: ((وما تقرب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)).
والمحاسبة لها أركان، لابد منها حتى تؤتي أكلها ويظهر أثرها على سلوك العبد وعمله.
أول هذه الأركان:
العلم، فلابد من معرفة الحلال والحرام والسنة والبدعة والطاعة والمعصية. والله عز وجل قد أخبر أن أخسر الناس أعمالاً الجهال، قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف].
لذا كانت البدعة محببة إلى إبليس أكثر من المعصية؟ لأن المبتدع يظن أنه على خير وأنه على قربة وطاعة، بخلاف العاصي، فإنه يعلم أنه عاصٍِ لربه متبع لهواه. فالعلم بداية المحاسبة وأساسها وبدون علم لا تكون محاسبة، وصدق المصطفى إذ يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) فجعل الفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام من علامات إرادة الله الخير بعبده.
وأما الركن الثاني:
فهو سوء الظن بالنفس؟
فالذي يحسن الظن بنفسه لا يحاسبها!! إذ كيف يحاسبها وهو يظن أنها نفس تقية قائمة لله بحقوقه وواجباته. فهو بذلك غافل عن المحاسبة بعيد عنها.
وهذا حال كثير من العوام فإنهم يمنون علينا بصيامهم وصلاتهم وزكاتهم. فيقول أحدهم: ألست أصلي؟! ألست أصوم؟ ألست أزكي؟ ألست أعطي حقوقي؟! ففيم التشديد عليّ، ساعة لربي وساعة لقلبي!!
وخير رد على هؤلاء المساكين، قول الله عز وجل: والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ولما سمعت أمنا عائشة رضي الله عنها هذه الآية ظنت أن المراد بها أصحاب المعاصي، يعصون الله ثم يخافون أن تؤثر معاصيهم على قبول أعمالهم الحسنة. فقالت: يا رسول الله أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال : ((لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)).
فهذا حال المؤمنين المتقين، يخافون أن ترد أعمالهم ويخافون أن لا تقبل صلاتهم وصيامهم وزكاتهم، يخافون لا لأنهم موسوسون، ولكن لأنهم يعرفون قدر أنفسهم ويعرفون قدر ربهم عز وجل قبل ذلك. فأيقنوا أن أعمالهم مهما بلغت من الإتقان والكمال، فإنها لا تصلح أن تقدم بين يدي الكبير المتعال سبحانه وتعالى.
أرأيت الرجل منا يدعو إلى بيته ثرياً أو وجيهاً فيقدم له أصناف الطعام والشراب ويعتذر له أي اعتذار لأنه يعلم أن هذا الثري غير محتاج لطعامه ولا لشرابه وأنه متعود على أرفع وأكمل وألذ وأشهى من هذا الطعام، فمهما قدمت له لن تغلب ما عنده، فتشعر بحرج ولا تنفك عن الاعتذار، ولله المثل الأعلى، فلو تأمل أحدنا أن لله عز وجل ملائكة عظاماً لا هم لهم ولا شغل إلا الطاعة والعبادة، وأنه ما من موضع قدم في السماء إلا وملك واضع جبهته ساجد لله عز وجل، حتى أطت السماء وحق لها أن تئط ولو تذكر هذا العبد أن كل شيء، نعم كل شيء من حجر وشجر ودواب يسبح بحمد الله، ولكننا لا نفقه هذا التسبيح، لو تأملنا هذا وخطر على قلوبنا، لخجل أحدنا من طاعته ولعلم أنها قاصرة في حق الله عز وجل. استمع إلى المولى عز وجل وهو يأمر عباده بعد الوقوف في عرفة وبعد أداء الركن الأعظم وبعد المن عليهم بالعفو والمغفرة والعتق من النيران ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
واستمع إلى ثناء المولى عز وجل على أهل الليل وعباده، وبالأسحار هم يستغفرون؟! يقول الحسن واصلوا صلاتهم بالتسبيح والاستغفار.
سبحان الله العظيم ممن يستغفر هؤلاء؟؟ ألم يقوموا لله والناس نيام؟! ألم يتركوا فرشهم الوثيرة وزوجاتهم ولذاتهم وقاموا يرجون الآخرة ورحمة ربهم!! ففيم الاستغفار؟! إنه معرفة العبد لقدر ربه أولاً ثم لقدر نفسه ثانياً فلما علم عظمة خالقه، وغناه عن خلقه، استصغر نفسه واحتقر عمله.
وأما الركن الثالث معاشر المؤمنين الذي لابد منه في محاسبة العبد لنفسه، فهو إدراك الفرق بين النعمة والنقمة!!
فالسعيد من وفق وهدي لمعرفة هذا الركن الهام والذي لابد منه في محاسبة العبد نفسه.
فالله عز وجل ينعم على عباده بنعم شتى، ولكن العبد يجعل منها نقمة وحجة عليه. فكان لزاماً على المحاسب نفسه أن يدرك الفرق وأن يحاسب نفسه بناء عليه.
والضابط والمعيار في التفريق بين النعمة والنقمة هو في استخدامها، وكيفية الإفادة منها.
فالمال نعمة من الله، إن أعانك على طاعة الله، وعلى صلة الرحم وتفقد المحتاجين والإحسان إلى الخلق. ونقمة وأي نقمة إن أعانك على شراء آلات اللهو والفساد وأدرت قلبك كبراً وتيهاً وتعالياً على الخلق.
ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
والصحة قد تكون نعمة وقد تكون نقمة، لذا قال : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ)).
وأي غبن أعظم من تسخير الصحة والعافية في المعاصي والموبقات وعدم صرفها في الطاعات والقربات.
والجاه والمنزلة الرفيعة، نعمة إذا استخدمها صاحبها في الشفاعة للخلق وقضاء حوائج المحتاجين والوقوف مع المظلومين.
ونقمة أيما نقمة إن استخدمها في جمع الحطام بغير حق، واستقطاع الأراضي والمنح على حساب المحتاجين وذوي الدخل المحدود.
وكم من ذي جاه ومنزلة، ظلم وطغى واستبد، فحول نعمة الله إلى نقمة.
فلا بد إذاً، معاشر المؤمنين من النظر في استخدامنا لنعم الولى عز وجل، فإن كان استخدامها في خير ومعيناً على خير وبر، فهي نعمة، وإلا فليحذر العبد من نقمة الله عليه.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم أما بعد:
فكيف تكون المحاسبة؟! وبأي شيء نبدأ؟! نبدأ معاشر المؤمنين، بما سيبدأ به المولى عز وجل يوم العرض الأكبر، فإن محاسبة الدنيا، كما نص تهون حساب الآخرة فالذي يحاسب نفسه ويردعها ويأطرها على الحق أطراً يهون عليه الحساب يوم القيامة.
وقد ثبت الحديث أن النبي قال: ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة؟!)).
نعم أيها العبد المؤمن حاسب نفسك تجاه الصلاة!!
هل تحافظ على الصلوات الخمس التي كتبها علينا ربنا عز وجل؟!
فإن كان الجواب بنعم؟! هل تحافظ على أدائها في أوقاتها؟؟ فإن الله عز وجل فرضها في مواقيت محددة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً.
فإن كان الجواب بنعم؟؟ فهل تؤديها جماعة مع المسلمين؟.
فإن نجحت في هذا الحساب، فانتقل إلى الحساب الثاني الذي وردت به النصوص عن المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه إذ قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)) فها هو المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه يخبرنا بأن المرء لن تزول قدماه قبل أن يسأل هذه الأسئلة ! فهل جوابك عليها أيها المؤمن جواب مطمئن، جواب يجعلك تنام قرير العين مرتاح البال؟!
هل أفنيت عمرك فيما يرضي المولى عز وجل؟!
شبابك، فترة قوتك ونشاطك هل قضيته في طاعة الله أم في معصية الله؟ إن لم تكن إجابتك مرضية فتب إلى الله عز وجل فإنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
وهذا المال الذي يتقاتل الناس على اكتسابه من كل الطرق دون مبالاة، أمن حلال اكتسبه أم من حرام. لن تزول قدماك حتى تسأل عن مصدر كسبه؟ هل هو مصدر حلال بين أم مصدر محرم؟ أم مصدر مليء بالشبهات التي أورثتها الشهوات؟!
فماذا أعد المؤمن لسؤال كهذا؟ وكيف يهنأ أكلة الربا وأهل الرشوة ومن تربى على الاختلاسات والسرقات من الأموال العامة والخاصة.
ولو سلم مالك من الحرام حال كسبه، فهل أنفقته في طاعة؟ أو في قربة أو حاجة أو على أقل تقدير في أمر مباح دون إسراف أو مخيلة؟!
كم من أناس كسبوا أموالاً من مصادر طيبة لا شبهة فيها ولكنهم أسرفوا وأنفقوا دون حساب ودون مراعاة لمشاعر الفقراء والمحتاجين ودون تدبر لثناء المولى عز وجل على المؤمنين إذ قال والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.
وأما من ينفق ماله في الحرام والمعاصي والمنكرات، فما أكفره بنعم الله وما أبطره على هذه النعم.
فليتق الله ربه وليعلم أنه مسؤول في يوم يشفق فيه الأنبياء والمرسلون كل يقول: نفسي نفسي وكل يتذكر ذنبه ويبكي على خطيئته، فحاسب نفسك أيها اللبيب، أيها المؤمن، فاليوم دار عمل وتوبة وإنابة وغداً دار حساب وجزاء.
ومن الأمور التي يجب على العبد أن يحرص على محاسبة نفسه فيها، ما ورد ذكره في الحديث التالي الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ، وهو حديث جامع مانع، عظيم الفائدة واضح المعاني لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل أذكر به نفسي وإياكم، سائلاً المولى عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، يقول المصطفى : ((أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع!. فقال : إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).
فماذا تنتظر أيها المؤمن بعد هذا البيان المفصل؟! أتنتظر أن يتكالب الناس على حسناتك؛ على صلواتك وصيامك وزكاتك وسائر عملك الصالح؟!
بادر بالتوبة وبادر باستسماح من ظلمت وتحللت منهم وأرضهم، واصدق نفسك وانصحها ولا تغشها تفلح وتفز.
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
(1/1206)
أحمد بن حنبل
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/8/1407
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مولد الإمام أحمد ونشأته وطلبه للعلم. 2- بعض من خلال الإمام أحمد وخصائله. 3- فتنة
خلق القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
منذ زمنٍ ، وأنا أقدم رجلاً وأأخر أخرى ، في فتح ملف إمام أهل السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، لا لشيء ، إلا لمعرفتي بنفسي من قلة بضاعتي وضعفي وتقصيري في إعطاء هذا الموضوع حقه من الكلام ، هذا جانب.
وجانب آخر ، هو أنني كلما تأملت في قصة هذا الإمام وقلبت كتب التاريخ تحتار من أي جانب من جوانب هذا الرجل تتحدث ، فهل تتحدث عن صفاته وأخلاقه وتعامله مع الناس. أم تتحدث عن علمه وتعليمه وبذل كل حياته في سبيل الله. أم تتحدث عن دعوته وجهاده ، وقيامه في وجوه المبتدعة. أم تتحدث عن تلك المدرسة الفقهية التي أسسها ، وأرسى قواعدها ووضع أصولها ومناهجها ، فجاء الأصحاب من بعده فأخذوا عنه ونشروه في أقطار المعمورة ، حتى صار مذهبه من المذاهب المعتبرة التي تتبناها دول ، فضلاً عن أفراد أو مجتمعات. أم نتحدث عن تلك المحنة ، محنة خلق القرآن ، والتي دخلها الإمام وخرج منها أنقى وأصفى من الذهب. أم نتحدث عن أولئك العلماء الذين وقفوا في وجه الإمام أحمد ، حسداً وبغضاً حتى ألبوا عليه الولاة ، فماذا كانت نهاية كل واحد منهم بعينه ، فكم في نهايتهم عبر لأولئك العلماء الذين يقفون في أوجه علماء حسداً وكراهة والله المستعان إلى غيرها من الجوانب الكثيرة في حياة هذا الإمام.
فهذه الخطبة فاتحة أولى أوراق ذلك الملف والذي أسأل الله جل وتعالى الإعانة على إكماله وإعطائه حقه. وتتبعه إن شاء الله خطب لا يلزم أن تكون متتابعة ، ولكن بحسب ما ييسر المولى جل وعلا.
نود في هذه الجمعة ، أن نقف معكم مع سيرة علم من أعلام المسلمين ، من الذين حفظ الله عز وجل على يديه هذا الدين ، وهو إمام أهل السنة ، أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني المروزي البغدادي. ولد الإمام أحمد رحمه الله تعالى في ربيع الأول على المشهور سنة 164هـ في بغداد ، وتوفي أبوه وهو إذ ذاك صغير لا يدرك شيئاً. نشأ رحمه الله تعالى يتيماً وقامت أمه على تربيته ، صفية بنت ميمونة بن عبد الملك الشيباني.
نشأ الإمام ببغداد ، وتربى فيها تربيته الأولى ، وقد كانت بغداد إذ ذاك تموج بالناس الذين اختلفت مشاربهم ، وتخالفت مآربهم ، وزخرت بأنواع العلوم معارفهم. ففيها القراء ، والمحدثون ، وعلماء اللغة ، وغيرهم ، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي. حتى إذا حفظ القرآن ، وعلم اللغة ، اتجه إلى الديوان ليتمرن على التحرير والكتابة. شب الإمام أحمد على هذا واستمر في طلب العلم بعزم صادق ، وأمه تشجعه على ذلك وترشده ولما بلغ سن السادسة عشرة من عمره اتجه إلى كتابة الحديث وكان أول من تلقى عنه علم الحديث القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة. واستمر الإمام أحمد في بغداد يأخذ عن شيوخ الحديث حتى رحل إلى البصرة ثم الحجاز ثم اليمن في طلب العلم. وقال عنه الشافعي رحمه الله خرجت من بغداد ما خلفت بها أحداً أورع ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل ، ولم يزل على ذلك مكباً على الحديث والإفتاء وما فيه نفع المسلمين ، والتف حوله أصحابه يأخذون عنه الحديث والفقه وغيرهما ، وألف المسند في مدة ستين سنة تقريباً ، وكانت حياة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى حياة زهد وقناعة ، وكان على قدم السلف الصالح فلم يقبل هدايا الخلفاء والسلاطين ، وكان يأكل من عمل يده ، وإذا وجد خصاصة كان يؤجر نفسه للحمل في الطريق – وهو إمام المسلمين يومئذ -.
وكان مع هذه الزهادة وخصاصة العيش ، جواد النفس ، وكان يقول: "يؤكل الطعام بثلاث ، مع الإخوان بالسرور ، ومع الفقراء بالإيثار ، ومع أبناء الدنيا بالمروءة"، ومن أقواله أيضاً " لو أن الدنيا ، تقل حتى تكون في مقدار لقمة ، ثم أخذها امرؤ مسلم ، فوضعها في فم أخيه المسلم ، ما كان مسرفاً".
وكان كثير العفو عمن يسيء إليه. أغلظ له رجلٌ الكلام ، وتركه مغاضباً ، ثم عاد إليه نادماً ، وقال له معتذراً: يا أبا عبد الله. إن الذي كان مني على غير تعمد ، فأنا أحب أن تجعلني في حل. فقال الإمام أحمد: "مازالت قدماي من مكانها حتى جعلتك في حل".
وقد وضع الله له القبول في قلوب العباد ، وطار ذكره في الآفاق ، ودعا له المسلمون وتقربوا بحبه إلى الله ، وهو يخاف على نفسه من الاستدراج. وكان مع هذا التواضع مهيباً وقوراً ، وكان الناس مدفوعين إلى إجلاله ، يقول أحد معاصريه: دخلت على إسحاق بن إبراهيم ، نائب بغداد ، وفلان وفلان من السلاطين ، فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل.
عباد الله: أما فتنة القول بخلق القرآن ، تلك الفتنة التي ابتليت بها الأمة في عصر الإمام أحمد ، في زمن الخليفة المأمون فقد حفظ الله عز وجل دينه من دخول العقائد الفاسدة عليه ، على يد هذا الإمام الجليل.
ظهرت بعض الفرق الضالة زمن الإمام أحمد ، وبدأوا في نشر عقائدهم الفاسدة بين الناس ، ومن بين هذه الفرق المعتزلة ، الذين يعتقدون بخلق القرآن ، وهو قولهم بأن القرآن مخلوق ، ومن قال بهذا يا عباد الله ، فإنما قال بقول كفري ، لأن القرآن كلام الله عز وجل ولا يجوز أن نعتقد بأنه مخلوق، ولكن المعتزلة استطاعوا أن يصلوا إلى الخليفة، فأقنعوا المأمون بهذه العقيدة ، حتى اعتقدها وألزم الناس بها ، فتصدى لهذا التيار الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ، وابتلى في هذه المحنة، ولاقى ما لاقى من العذاب صابراً محتسباً ، مدافعاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
عباد الله: فلما تولى المأمون الخلافة وكان يميل إلى المعتزلة ويقربهم ، وكان أستاذه أبو الهذيل العلاف من زعماء المعتزلة ، وكذلك قاضيه ، أحمد بن أبي دؤاد ، وبعد أن اعتنق المأمون هذه العقيدة الفاسدة وهي القول بخلق القرآن ، تردد هل يلزم الناس بها أو لا يلزم ، لأنه بقى عدد من العلماء والمشايخ على عقيدة أهل السنة والجماعة ، وخاف من الفتنة ، فأشار عليه ابن أبي دؤاد وجلساء السوء بإظهار القول بخلق القرآن ، وإلزام الناس به ، خصوصاً العلماء والقضاة والمفتين ، وعندها كتب المأمون إلى واليه على بغداد إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة والعلماء ، ويلزمهم بالقول بخلق القرآن ومن أبى حبسه أو عزله أو قتله ، وقد حُبس وعذب وقتل في هذه المحنة خلائق لا يحصون ، وصارت هذه المحنة هي الشغل الشاغل للدولة والناس ، خاصتهم وعامتهم ، وأصبحت حديث مجالسهم ، وأنديتهم وحاضرتهم وباديتهم ، في العراق وغيره ، كل هذا بسبب ما أدخله المأمون على الناس من هذه العقيدة الفاسدة ، والله حسيبه ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية ، ما أظن أن الله تعالى يغفل عن المأمون على ما أدخل على المسلمين.
وثبت في بادئ الأمر في بغداد ، أربعة من العلماء ، الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح ، واثنان آخران ما لبثا أن تراجعا وقالا مثل ما قال الناس ، وبقي الإمام أحمد ومحمد بن نوح.
ثم بعد ذلك أمر المأمون أن يحمل له الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح ، فأرسلا مقيدين على بعير واحدة ، فأما محمد بن نوح فمات في أثناء الطريق قبل أن يصل إلى طرسوس ، حيث مقر الخليفة المأمون ، وبقي الإمام أحمد بن حنبل فدعا الله عز وجل في أثناء الطريق أن لا يريه المأمون ، وأن لا يجتمع به ، فاستجاب الله عز وجل دعاء الإمام أحمد ، فمات المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد.
ويروى في كتب التاريخ أنه قبل وصول الإمام أحمد إلى طرسوس ، جاءه رسول من قبل المأمون في الطريق. فقال له: إن الخليفة قد أعد لك سيفاً ما يقتل به أحداً ، فقال الإمام أحمد: أسأل الله أن يكفيني مؤونته ، وما هي إلا مدة قصيرة وإذا بالخبر يصل بوفاة المأمون. فأعيد الإمام أحمد إلى السجن مرة أخرى.
ثم تولى الخلافة بعد المأمون ، المعتصم ، وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد ، والاستمرار بالقول بخلق القرآن ، وأخذ الناس بذلك ، وكان الإمام أحمد في السجن ، فاستحضره المعتصم من السجن ، وعقد له مجلساً مع ابن أبي دؤاد وغيره من علماء السوء ، وجلسوا يناقشونه في خلق القرآن ، والإمام أحمد يستدل عليهم بالنصوص الواردة ، ويقول لهم: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وانفض المجلس ذلك اليوم دون شيء ، وأمر المعتصم برده إلى السجن ، وفي اليوم التالي أحضر من السجن وعقد المجلس ، وكان موقفه رائعاً جليلاً كموقفه في الأمس ، ورغم المحاولات والمناقشات ، صمم الإمام أحمد على كلامه ، وفشل القوم كفشلهم بالأمس ، وانفض الاجتماع ورُد الإمام أحمد إلى السجن ، وفي اليوم الثالث أعيد انعقاد المجلس ، وأُحضر الإمام أحمد من السجن ، وأعيدت المناقشة ، وكان المعتصم عند عقد مجلس المناظرة ، قد بسط بمجلسه بساطاً ، ونصب كرسياً جلس عليه ، وازدحم الناس إذ ذاك ، كازدحامهم أيام الأعياد ، وكان مما دار بينهم ، أن قال للإمام أحمد ، ما تقول في القرآن ، فقال كلام الله غير مخلوق ، قال الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله قال هل عندك حجة غير هذا ، قال نعم ، قول الله تعالى: الرحمن علم القرآن ولم يقل: خلق القرآن وقال تعالى: يس والقرآن الحكيم ولم يقل والقرآن المخلوق.
فقال المعتصم: أعيدوه للحبس وتفرقوا ، فلما كان من الغد ، جلس المعتصم مجلسه ذلك وقال: هاتوا أحمد بن حنبل فاجتمع الناس ، وسمعت لهم ضجة ببغداد ، فلما جيء به وقف بين يديه ، والسيوف قد جردت ، والرماح قد ركزت ، والأتراس قد نصبت ، والسياط قد طرحت ، فسأله المعتصم ، عما تقول بالقرآن ، قال أقول غير مخلوق ، واستدل بقوله تعالى: ولكن حق القول مني قال فإن يكن القول من الله تعالى ، فإن القرآن كلام الله ، وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة ، فناظروه بحضرته ثلاثة أيام ، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحجج القاطعة ، ويقول أعطوني دليلاً من كتاب الله أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المعتصم قهرنا أحمد ، وتحدث الوشاة عنده من علماء السوء ، أنه قد غلب خليفتين ، فأخذته العزة بالإثم ، فشتمه وهدده بالقتل ، فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)) فبم تستحل دمي وأنا لم آت شيئاً من هذا ، يا أمير المؤمنين تذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل ، كوقوفي بين يديك ، فلما رأى المعتصم ثبوت الإمام أحمد وتصميمه ، لان ، فخشى ابن أبي دؤاد من رأفته عليه ، فقال: يا أمير المؤمنين ، إن تركته قِيل إنك تركت مذهب المأمون ، أو أن يقال ، غلب خليفتين ، فهاجه ذلك ، ثم أعيد إلى السجن مرة أخرى ، وأخرج في رمضان وهو صائم وجعلوا والعياذ بالله يضربونه ، وأتى المعتصم بجلادين كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين ، تأخر وتقدم الآخر ، والمعتصم يحرضهم على التشديد في الضرب ، وهو يقول شدوا عليه قطع الله أيديكم ، ثم نزل المعتصم من كرسيه وجاء للإمام أحمد ، وهو يقول له ، قل بما قلت لك بأن القرآن مخلوق ، فيقول الإمام أحمد: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به.
بعد ذلك جردوه من ثيابه رحمه الله تعالى ، ولم يبق عليه إلا إزاره ، وصاروا يضربونه حتى يغمى عليه ، فيفيق ، ثم يعاد عليه الكرة يقول الإمام أحمد: فذهب عقلي عند ذلك ، فلم أفق إلا وقد أفرج عني ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرت صلاة الظهر ، فصليت ، فقالوا صليت والدم يسيل منك ، فقلت قد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دماً ، ثم نقل بعد ذلك إلى بيته ، وهو لا يقدر على السير من شدة ما نزل به رحمه الله تعالى فلما مكث مدة من الزمن في بيته وبرئت جراحه ، وقوى جسمه ، خرج إلى المسجد ، وصار يدرس الناس ، ويملي عليهم الحديث. ولم يمنع من ذلك حتى توفي المعتصم.
رحم الله الإمام أحمد ، وأجزل له مثوبته ، وجزاه الله عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
أقول قولي هذا واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل إثم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
اللهم ثبتا على دينك واجعلنا من الصابرين على المحن إذا نزلت، واجعلنا من القائمين على أمر هذا الدين والدعاة إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
توفي المعتصم ، واستخلف من بعده الواثق ، فاتصل به علماء السوء ، ابن أبي دؤاد وغيره ، وحرضوه على أن يحمل الناس على القول بخلق القرآن ، وفعلاً أعاد المحنة مرة أخرى والعياذ بالله ، إلا أنه لم يتعرض للإمام أحمد ، لكنه كتب إليه ألا تساكنني في بلد ، فاختفى الإمام أحمد رحمه الله تعالى مدة خلافة الواثق ، وهي خمس سنوات تقريباً ، وفي آخر خلافة الواثق منّ الله عليه بالهداية فرجع عن القول بخلق القرآن ، وسبب هداية الواثق ، أن من جملة ما يجاء بالناس مقيدين بالأغلال ، فيدخلون عليه ، ويجبرهم على القول بخلق القرآن ، فإن قالوا وإلا قتلهم ، والعياذ بالله.
فجيء ذلك اليوم برجل مقيد بالأغلال ، فعندما دخل عليه سلم ، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال: لا سلمك الله ، ولا عليك سلام الله ، فقال له الرجل: إن الذي أدبك ما أحسن تأديبك ويشير إلى ابن أبي دؤاد لأنه هو شيخه ، وكان عنده حاضراً ، وقال الرجل: إن الله تعالى يقول: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وأنت ما حييتني بمثلها ولا بأحسن منها ، فتعجب الخليفة ، وأمر ابن أبي دؤاد أن يناظر الرجل ، فقال له ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن ، قال الرجل ، ما أنصفتني أنا الذي أبدأ بالسؤال ، فقال الخليفة: دعه يسأل فسأل ، فقال الرجل ، ما تقول أنت في القرآن يا ابن أبي دؤاد ، قال إنني أقول إن القرآن مخلوق ، فقال له الرجل: مقالتك هذه التي حملت الناس والخلفاء عليها ، هل قالها رسول الله وأبي بكر وعمر أم لم يقولوها؟ فقال ابن أبي دؤاد ، ما قالوها ، فقال له هل كانوا جاهلين بذلك أم عالمين؟ قال: كانوا جاهلين بها. فقال الرجل: شيء يجهله رسول الله وأبي بكر وعمر ، ويعلمه ابن أبي دؤاد ، فقال: لا، بل كانوا عالمين ، فقال الرجل: هل وسعهم أن يسكتوا أم أنهم حملوا الناس على ما حملتهم عليه ، فقال: لا بل سكتوا ، فقال الرجل: شيء وسع الرسول وأبا بكر وعمر ما وسعك أنت.
فسكت ابن أبي دؤاد ، فقال الواثق ، اصرفوا الرجل ، ولم يأمر بقتله ، فاختلى بنفسه الواثق وصار يفكر ويردد قول الرجل ، شيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ما وسعك أنت ، ثم خرج وأمر بإطلاق سراح الرجل ، ورجع عن القول بخلق القرآن.
وبعدما توفي الواثق ، جل الله بعده خليفة صالحاً وهو المتوكل ، ومن يوم أن تولى المتوكل الخلافة أعلن السنة ، وكتب إلى العلماء في الآفاق بأن يوقف الناس من الخوض في هذه المسألة ، وأصدر إعلاناً عاماً في كافة أنحاء الدولة ، نهى فيه عن القول بخلق القرآن ، فعم الفرح في كل مكان ، وحصل على يديه خير كثير وزالت بذلك هذه المحنة ، وانتصر الحق على الباطل ، ولهذا لما قيل للإمام أحمد أيام المحنة: يا أبا عبد الله ، انتصر الباطل على الحق ، قال والله ما انتصر الباطل على الحق.
انتصار الباطل على الحق ، أن تهوى القلوب الباطل وتدع الحق ، وأما أن يفرض فرضاً ، فليس ذلك بانتصاره.
عباد الله: وهكذا تنتهي هذه القصة التي لا تزال حجة ببطولة الإمام أحمد ، وقوة العقيدة ، وعجائب الإيمان ، وقد كان من ثبات ابن حنبل ، وشجاعته وإخلاصه ، أن انطفأت عقيدة خلق القرآن ، وانطفأت معها حركة الاعتزال ، حتى بقيت مدفونة في كتب الملل والنحل ، وانتصر الإمام أحمد ، بإيمانه وشجاعته ، وكان انتصاره دليلاً على انتصار الإخلاص والعزم على القوة ، وانهزمت أمام هذا الرجل ، حكومة هي من أقوى الحكومات في عصرها ، وخرج أحمد بن حنبل من هذه المحنة ، خروج السيف من الجلاء ، والبدر من الظلماء ، وقد سد ثلمة عظيمة ، كادت تحدث في الإسلام ، وشبهوا يوم المحنة بيوم الردة ، وقرنوا ذكر أحمد بن حنبل بذكر أبي بكر الصديق ، قال علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة ، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".
عباد الله: ومضت السنين ، حتى جاء سنة 241هـ ، وهي السنة التي توفي فيها الإمام أحمد بن حنبل ، قال المروزي: مرض أبو عبد الله ، ليلة الأربعاء ، لليلتين خلتا من ربيع الأول ، ومرض تسعة أيام ، وصار الناس يدخلون عليه أفواجاً ، يسلمون عليه ، وتسامع الناس وكثروا ، وسمع السلطان بكثرة الناس ، فوكل ببابه وباب الشوارع المؤدية إلى بيته ، من الحرس ، ثم أغلق باب الشوارع ، حتى تعطل بعض الباعة وحيل بينهم وبين البيع والشراء ، وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه ، ربما دخل من بعض الدور ، وربما تسلق ، من شدة الزحام.
وقبل وفاته بيوم أو يومين ، كان يصلي قاعداً ، ويصلي وهو مضطجع لا يكاد يفتر ، ويرفع يده في إيماء الركوع ، واشتدت علته يوم الخميس ، وثقل ليلة الجمعة ، فلما كان يوم الجمعة الموافق اثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول عام 241هـ ، توفي صدر النهار لساعتين منه ، فصاح الناس ، وعلت الأصوات بالبكاء ، حتى كأن الدنيا قد ارتجت ، وامتلأت الشوارع بالناس.
قال المروزي: أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة ، وقال عبد الوهاب الوثاق: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية والإسلام مثله ، حتى بلغ من حضر جنازة الإمام أحمد ، سبعمائة ألف من الرجال ، ومن النساء ستين ألف امرأة ، هذا سوى من كان على السفن في الماء. ومكث الناس ما شاء الله ، يأتون فيصلون على قبره. وبهذا الاحتشاد العظيم في جنازته تحقق ما قاله بقوله: "قولوا لأهل البدع ، بيننا وبينكم الجنائز".
اللهم اغفر للإمام أحمد وأجزل له المثوبة والأجر.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات ، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين ، الذين شهدوا لك بالوحدانية ، ولنبيك بالرسالة ، وماتوا على ذلك ، اللهم اغفر لهم وارحمهم ، وعافهم واعف عنهم ، وأكرم نزلهم ، ووسع مدخلهم ، واغسلهم بالماء والثلج والبرد ، ونقهم من الذنوب والخطايا ، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ،
وارحمنا اللهم برحمتك إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
(1/1207)
أحمد بن حنبل ونهاية الظلمة
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
آثار الذنوب والمعاصي, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/5/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التاريخ لا يأبه لموت أعداء الإمام أحمد. 2- نهاية مخزية لابن أبي دؤاد. 3- نهاية مخزية
لأعوانه في الجلادين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عرضنا في الجمعة الماضية لجانب من حياة إمام أهل السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، وتوقفنا قليلاً مع تلك المحنة العظيمة التي عصفت بالدولة والناس وقتاً من الزمن ، تعاقب عليها ثلاثة من الخلفاء: المأمون ، والمعتصم والواثق ، ولم تنطفأ إلا في زمن المتوكل ، وكم تصدى لتلك الفتنة الهوجاء الإمام أحمد رحمه الله ، ولاقى في سبيل أن تبقى عقيدة أهل السنة صافية نقية ، من شوائب المعتزلة ، لاقى الكثير من المعاناة والشدة ، حتى وصل إلى ما سمعتم في الجمعة الماضية ، أن يجرد من ثيابه ، ويضرب وهو صائم حتى الإغماء ، ودمائه تسيل ، ويبقى في السجن لسنوات ليتنازل عن القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، فيبقى الإمام صامداً كالجبل فينصر الله عز وجل الحق على يديه ، ثم تمضي الأيام ، فيموت الإمام أحمد ، ومن قبله يموت المأمون والمعتصم والواثق ، ويموت أيضاً أولئك المجرمين ، من حاشية السلطان ، الذين كانوا ضد دعاة أهل السنة في ذلك الوقت ، وكانوا يمثلون السلطة الدينية الرسمية لدى الدولة ، أمثال أحمد بن أبي دؤاد ومن على شاكلته ، لكن السؤال ماذا حفظ لنا التاريخ من سيرة الإمام ، وماذا حُفظ لنا من سيرة ابن أبي دؤاد أو حتى الخلفاء أمثال المأمون أو الواثق. هذا جانب.
الجانب الآخر: كيف كانت خاتمة كل واحد منهم.
كيف كانت خاتمة الإمام ابن حنبل ، وكيف كانت نهاية كل من كان له دور في إشعال تلك الفتنة ابتداءً أو إذكاء نارها ، سواءً كانوا من العلماء الرسميين أو الوزراء أو الحاشية ، أو السجانين والجلادين.
أما حفظ التاريخ: فيكفي أن الناس لا تعرف من هو ابن أبي دؤاد عند ذكره ، ليس له سيرة يذكر بها ، ناهيك عن النكرات أمثال ابن الزيات وهرثمة وأبو العروق وأبو ذر، ومحمد بن فضيل ممن سأنبئك بأخبارهم وكيف كانت نهايتهم بعد قليل.
أما ابن حنبل فيكفي أن ملايين الناس منذ مئات السنين ، كلما عرض لهم مسألة في الفقه أو العقيدة ، سألوا عن قول الإمام أحمد. فضلاً عن أنه كلما قرأ الناس ومنذ مئات السنين حديثاً وقالوا: رواه الإمام أحمد في مسنده ، سجل ذلك في ميزان حسناته.
أما عن الخاتمة والنهاية ، فكم والله أيها الأحبة فيها من العبر لمن يعتبر. لقد كانت نهاية كل فرد شارك في تلك الفتنة ، نهاية سيئة والعياذ بالله، ماتوا شر ميتة.
إن القضية والعبرة أيها الأحبة ، ليست في شخص الإمام أحمد ، أحمد بن حنبل رجل من المسلمين ظلم ، ليست النهاية ، والخاتمة السيئة لتلك الشرذمة ، ليس لأنهم ظلموا أحمد بن حنبل أو حتى سجنوا أحمد بن حنبل لأن هناك آلاف بل ملايين من المسلمين ممن ظلم وضرب وتعدي عليه على مر التاريخ ، ولم يلزم من ذلك أن تكون نهاية من ظلمهم أو تعدي عليهم نهاية مؤلمة. وخاتمة سيئة في الدنيا يتحدث الناس بها.
إنما قصة ابن حنبل ، وسوء نهاية من شارك في تلك المحنة ، هو الوقوف في وجه الحق أن ينتشر ، محاولة صد الناس عن معرفة الحق والصواب ، محاولة وضع الحواجز والسدود أمام وصول العقيدة الصافية السليمة لجمهور المسلمين.
باختصار: نقل لنا التاريخ كما سأنقله لكم الآن سوء نهاية من شارك في تلك المحنة ، أو شارك في محنة مشابهة لها كنت قد عرضتها قديماً وهي قصة مقتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي ، هذا الإمام الذي قتل أيضاً على يد الواثق بسبب مسألة القول بخلق القرآن ، فكل من ساهم في سجن وتعذيب ابن حنبل أو قتل الخزاعي - وكلاهما من أئمة أهل السنة ومن أصحاب الحديث ومن العلماء يمكن أن نطلق عليهم باختصار - وقفوا في وجه الحركة الإصلاحية في ذلك الزمان.
كم في هذه القضية لوحدها عبرة لمن يعتبر ، إنه يخشى والله أيها الأحبة على كل واحد منا من سوء الخاتمة ، إن كان له دور لو بكلمة أو مشورة ، إذا وقف خصماً لعمل إصلاحي ولو بسيط في حي أو حارة أو مقر عمل. ناهيك عن الحركات الإصلاحية على مستوى الأمة.
إنه أمر خطير ، وجد خطير ، أن يكون هناك شخص يحاول أو يصلح فساداً ، أو يقيم معوجاً ، أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر ، وأنت تقاوم وتضع العثرات في طريقه ، إنها بمعنى آخر وأوضح ، وقوف في طريق الإسلام من الانتشار، وقوف في طريق الخير من التمدد ، وقوف في وصول الحق للناس ، وهذه بالضبط هي قصة الإمام أحمد بن حنبل ومن قبله قصة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وكيف عاقب الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة ، من وقفوا في وجه الشيخين ابن حنبل والخزاعي.
أيها الأحبة: ثم أما بعد: إليكم نهايتهم والله المستعان:
أحمد بن أبي دؤاد:
هذا الرجل كان من المقربين للخليفة ، وكان قاضياً ، لكن مع كل أسف كان على عقيدة المعتزلة وقد لعب دوراً كبيراً في الفتنة ، قُرب من الولاة حتى عينوه قاضي القضاة ، بمعنى أن مرجعية مجلس القضاء كان بيده ، وبقى على هذا المنصب مدة ثلاثة من الخلفاء حتى جاء المتوكل فعزله.
لقد ألب ابن أبي دؤاد الولاة على الإمام أحمد وكان يفتيهم بجواز ضربه وسجنه ، بل حتى قتله والعياذ بالله ، وقد قتل في زمن المأمون والواثق خلائق لا يحصيهم إلا الله عز وجل ، وكان ابن دؤاد يفتي بجواز قتل كل من لم يقل بخلق القرآن، حتى أنه بعدما قتل الواثق بنفسه أحمد بن نصر الخزاعي ، كُلّم المتوكل بعده بأن الإمام أحمد بن نصر قتل مظلوماً ، كلمه في ذلك الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني صاحب كتاب الحيدة ، فدخل في نفس المتوكل شيء ، فسأل المتوكل ابن أبي دؤاد عن قتل أخيه الواثق للخزاعي ، فقال له: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً ، والفالج عافانا الله وإياكم مرض يصيب الإنسان ، يذهب بشقه ، يرضى بعض البدن فلا يستطيع الشخص الحركة ويبقى محبوساً في جلده.وشاء الله جل وتعالى بقدرته وعظمته ، وأمره وحكمته ، أن يصاب هذا الرجل في آخر حياته بالفالج ، ويبتليه الله عز وجل به أربع سنوات قبل موته ، ويبقى طريحاً في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده ، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح.
سجنه الله عز وجل في جلده ، كما تسبب هو في سجن الإمام أحمد ، فأصبح بالفالج ميتاً بين أحياء ، وقد زاد الله عليه همه وغمه ومرضه ، أن عزله المتوكل من وظيفته. كما تسبب هو في فصل عشرات ومئات الأشخاص من وظائفهم ، بل أمر المتوكل بمصادرة جميع أمواله بسحبها كلها منه. دخل عليه أثناء مرضه عبد العزيز بن يحيى المكي فقال له: والله ما جئتك عائداً ، وإنما جئتك لأعزيك في نفسك ، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن ، ثم خرج عبد العزيز المكي وهو يدعو عليه ، بأن يزيده الله مرضاً ولا ينقصه، فازداد مرضاً إلى مرضه ، ومما زاد الله عليه ، أن ولده محمد صودر من أمواله ألف ألف دينار ، ومائتي ألف دينار.وأخذه الله قبل أبيه بشهر ، وعليك أن تتخيل أخي المسلم الألم الذي يصيب الإنسان إذا مات ولده.
إنها أيها الأحبة عقوبات إلهية لأولئك المحاربين لعقيدة أهل السنة والجماعة إنها عقوبات إلهية للمحاربين لدعوة الإصلاح. وما نهاية ابن أبي دؤاد إلا نموذج لعشرات بل لمئات وألوف من النماذج على مر التاريخ. ممن جعلهم الله عز وجل عبرة لمن يعتبر ، فأين المعتبر.
نسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا من المعتبرين ومن الداعمين لأعمال الإصلاح.
أقول هذا القول وأستغفر الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وممن جعلهم الله عز وجل عبرة لغيرهم من تسبب في إيذاء الإمام أحمد بن حنبل أولئك الجلادين ، الذين كانوا يضربون الإمام بالسياط. كان هناك رجلان أحدهما يسمى أبو ذر والآخر يسمى أبو العروق. أما أبو ذر فكان ممن يضرب الإمام بين يدي المعتصم ، أهلكه الله عز وجل شر ميتة. أصيب بالبرص فتقطع ببرصه ، نسأل الله العفو والعافية.
أما أبو العروق ، فهلاكه كان أسوأ من صاحبه ، يقول عمران بن موسى: دخلت على أبي العروق ، الجلاد الذي ضرب الإمام أحمد لأنظر إليه ، فمكث خمسة وأربعين يوماً ينبح كما ينبح الكلب. سبحان الله ، ابتلاه الله بمرض فصار ينبح كالكلاب ، والناس تدخل لتنظر إليه. والله إنها لعبر ، هذا ما أصابهم في الدنيا وما رآه الناس وسمعوه ، أما الآخرة فعلمها عند ربي.
أيها الأحبة: هل نفع الجلادين حجة أن يقول أحدهم: أنا عبد مأمور ، إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. كثير ممن كان له ضلع بالمحنة نال من الله جزاءه في الدنيا قبل الآخرة ، حتى أولئك الذين كانوا يتناولون ابن حنبل بألسنتهم أصابهم بعض الشيء. يقول محمد بن فضيل فيما رواه ابن عساكر في تاريخه: تناولت مرة أحمد بن حنبل فوجدت في لساني ألماً ، فلم أجد القرار ، فنمت ليلة فأتاني آتٍ فقال: هذا بتناولك الرجل الصالح ، هذا بتناولك الرجل الصالح يقول فانتبهت فلم أزل أتوب إلى الله تعالى حتى سكن.
فرحماك ثم رحماك يا رب ، كم مرة تناولنا بألسنتنا أناساً صالحين ، وإذا لم يصبنا شيء في الدنيا كما أصاب محمد فضيل ، فماذا يدرينا عن آخرتنا وما أُعد لنا.فنسألك يا رب المغفرة والتوبة ، مما نطقت به ألسنتنا في رجالاً صالحين ، كما نتبرأ ممن صار دينهم التكلم في الصالحين.
أيها المسلمون: وممن سألهم المتوكل عندما ساءه ما سمع من أخيه الواثق بقتله الإمام أحمد بن نصر الخزاعي ، الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات وهرثمة.
أما ابن الزيات فقد قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر فقال: يا أمير المؤمنين: أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً.
أما هرثمة فقال: قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً. فماذا كانت نهاية كل واحد منهم.
أما ابن الزيات فكان كما قلنا وزيراً للواثق، وكان المتوكل يبغضه لأنه دائماً كان يحرض الواثق على أخيه المتوكل ، وكانت له محاولات في إقناع الواثق أن يعطي الخلافة من بعده لولده محمد ولا يعطيها لأخيه المتوكل ، لكن الخلافة آلت للمتوكل رغم أنف ابن الزيات ، وقد حاول ابن أبي دؤاد أن يلطف الجو بين المتوكل وابن الزيات ، فحصل بعض الوقت ، لكن بقي ما في النفس ما يزال مشحوناً منذ زمن.
وفي أحد المرات ساءت الأحوال بين المتوكل وابن الزيات وتعكر الجو فأصدر أمراً بالقبض عليه واعتقاله ، فجاءه الشرط وأخذوه من بيته بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه ، فذهبوا به إلى أمير الشرطة وهناك قيد بالحديد وأدخل السجن ، ثم أمر المتوكل بتفتيش بيته ومصادرة كل ما فيه ، فذهب الشرط وأخذوا جميع ما فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والجواري والأثاث ، ووجدوا في مجلسه الخاص داخل بيته آلات الشرب والسكر. وأمر المتوكل في الحال بمصادرة بساتينه التي بسامراء. ثم أمر أن يُعذب وأن يمنع من الكلام والنوم. فصار الشرط يساهرونه وكلما أراد الرقاد نخسوه بحديدة حتى يبقى مستيقظاً زيادة في تعذيبه.
ثم وضع بعد ذلك في تنور (أذكركم بكلامه أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا) وضع في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها ، ووكل به من يمنعه من القعود والرقاد ، فمكث كذلك أياماً حتى مات وهو كذلك ، ويقال أنه أخرج من التنور وفيه رمق، فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب ، ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه ، فنبشت الكلاب الجثة، فأكلت ما بقي من لحمه وجلده.
أما هرثمة الذي قال هناك ، قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً. فهرب من المتوكل ولم يستطع القبض عليه فمر بقبيلة خزاعة وهو هارب التي منها أحمد بن نصر الخزاعي ، فعرفه رجل من الحي ، فصرخ بالناس: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر ، فاجتمع الناس عليه وقطعوه إرباً إرباً. وجزاء سيئة بمثلها.
وهكذا أيها الأحبة كانت نهاية أولئك القوم الذين تسببوا في إيذاء الإمامين. وكما قلت ليست القضية شخص ابن حنبل أو الخزاعي ، إنما القضية معاداة ما يحمل هذان الرجلان من الحق ، والوقوف في طريقة إيصالها للناس.
(1/1208)
أحكام الوصية
فقه
الفرائض والوصايا
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/2/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية باب من الخير يلجه الإنسان بعد موته. 2- اختلاف حكم الوصية بحسب حال
الموصي وما عليه من حقوق. 3- حكم تنفيذ الوصية إذا أمرت ببدعة أو حرام. 4- أحكام
متفرقة متعلقة بالوصية. 5- صيغة مقترحة للوصية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ما زلنا أيها الأحبة في موضوعنا الذي بدأناه قبل شهر، في الأحكام المتعلقة بانتقال العبد عن دار الفناء إلى دار البقاء. ولعلها تكون آخر حلقات السلسلة حول الأحكام المتعلقة بالوصية. فكلنا يعلم بأن الإنسان يتنقل من مرحلة إلى أخرى ومن طور إلى طور في هذه الحياة، بل تمر به أحوال من العسر واليسر، والفقر والغنى والحزن والسرور والصحة والمرض والقوة والضعف، والإنسان في الغالب له حقوق على نفسه، ولغيره حقوق عليه، ومثل تقلبات هذه الأحوال قد ينسى الإنسان مثل هذه الحقوق، من ديون وودائع وأمانات أو ذوي فقر وحاجات أو حتى فرصته لفتح الإنسان على نفسه باب أجر، يجمع له بعد موته، لكل هذا ولغيره شرع الله بلطفه ومنه وكرمه لهذا العبد الضعيف شرع له هذا الباب، باب الوصية فسحة وأمل، شرع له ميدان حسنات حال الحياة وبعد الممات. قال الله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين ، وقال تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين ، وقال النبي : ((إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم)).
أيها المسلمون:
الوصية سميت بهذا الاسم لأنها تصل ما كان في الحياة بما بعد الممات، ولأن الذي يوصي قد وصل بعض التصرف الجائز في حياته ليستمر بعد موته. فأول أحكام الوصية، أن هناك وصية واجبة ووصية مستحبة.
أما الواجبة: فذلك حين يكون على الإنسان حقوق لغيره، فهذه يجب عليه إثباتها لئلا تضيع على أصحابها قال رسول الله صلى في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين – وفي رواية – ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده)) قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى قال ذلك إلا وعندي وصيتي، متفق عليه.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: من صواب الأمر للمرء أن لا تفارقه وصيته.
فيا أيها المسلمون من لزمته حقوق شرعية لله، أو لعباد الله من زكوات وكفارات وديون وودائع فليسارع في أدائها وليبادر في قضائها مادام قادرا على الأداء، متمكنا من القضاء، وإلا فليوص بذلك وصية واضحة في لفظها ومعناها، مجودة في كتابتها، عادلة في شهودها، لأنها حقوق أيها الأحبة، وسيتعلق برقبتك أصحابها يوم القيامة، ولأجل أن تحمد سيرتك ولا يبقى أهلك من بعدك في منازعات، ولكي تلقى الله عز وجل وقد أديت ما عليك، وأبرأت ذمتك، وابيضت صحيفتك، وحسنت بإذن الله خاتمتك، وخفّ في الآخرة حسابك، ومن قصر تعرض لحرمان الثواب، أهمل براءة الذمة فليعد للسؤال جوابا.
أما الوصية المستحبة: فهو لمن لم تكن عليه حقوق ولم تلزمه واجبات، فهذا يستحب له بأن يوصي بشيء من ماله يصرف في سبيل البر والإحسان ليصل إليه ثوابه بعد وفاته، وهذا من لطف الله بعباده لتكثير الأعمال الصالحة لهم، وهذا باب واسع من الوصايا لا تنحصر، فلك أن توصي بشيء من مالك في عمارة المساجد وخدمتها، أو بناء الأربطة والمساكن للمحتاجين، أو في قضاء ديون المعسرين، أو في الصدقة على المحاويج أو في الإنفاق على طلبة العلم وتعليم القرآن، أو تعبيد طرق المسلمين، أو طبع الكتب النافعة ونشرها، أو الوصية بالحج والأضاحي عن نفسك أو غيرك أو غيرها وغيرها من أبواب البر والخير الإحسان.
لكن هذه الوصية لمن له مال كثير، وورثته غير محتاجين لقوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية والخير هو المال الكثير – وإنه لحب الخير لشديد.
فيقول أهل العلم بأن الوصية تكره من رجل ماله قليل ووارثه محتاج، وذريته ضعفاء فالأولى أن يبدأ بهم ولا يقدم عليهم وصيته لأنهم أحق بماله وأولى بمعروفه، وأعظم في ثوابه وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً وقد قال رسول الله صلى لسعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: ((إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)) متفق عليه. وقال الشعبي رحمه الله – ما من أعظم أجرا من مال يتركه الرجل لولده ويغنيهم به عن الناس، وقد مات كثير من صحابة رسول الله صلى ولم يوصوا.
ومن أحكام الوصية: إنها لا تصح في الأمور المبتدعة والمسائل المحرمة كالوصية للكنائس ومعابد الكفرة والمشركين، أو الوصية لعمارة الأضرحة وإسراجها أو الوصية بالنياحة والتبذير والبناء على القبور والتكفين بالحرير والدفن في مسجد أو في بيت خاص، كل هذا من الوصايا التي لا يجوز تنفيذها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لو حبس الذمي من مال نفسه شيئا على معابدهم لم يجز للمسلمين الحكم بصحته، لأنه لا يجوز لهم لحكم إلا بما أنزل الله، ومما أنزل الله أن لا يتعاونوا على شيء من الكفر والفسوق والعصيان، فكيف يعاونون بالحبس على المواضع التي يكفر فيها.
ومن أحكام الوصية أنها تجوز إلاّ في حدود ثلث المال فأقل، ولا تجوز بأكثر من الثلث لمن له ورثه، لأن ما زاد على الثلث حق لهم. لكن تجوز الوصية بأكثر من الثلث بل بكل المال لمن لا وارث له، لأن المال الآن لم يتعلق به حق وارث ولا غريم، فأشبه ما لو تصدق بكل ماله في حال صحته. قال ابن القيم: فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله.
ومن أحكامها أنها لا تصح لأحد من الورثة، بمعنى أنك لا توصي لشخص له حق في الميراث لقول النبي : ((لا وصية لوارث)) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي.
ومن أحكام الوصية: أن الموصى له لا تنتقل له الوصية، ولا يملكها إلا بعد موت الموصي لأنه قد يغير رأيه، ولهذا فمن أحكامها: أنه يجوز للموصي الرجوع في وصيته ونقضها أو الرجوع في بعضها، وهذا متفق عليه بين أهل العلم كأن يقول: رجعت في وصيتي أو أبطلتها ونحو ذلك.
ومن أحكامها: أنه قبل تنفيذ الوصية يخرج الواجب في تركة الميت من الديون والواجبات الشرعية أولاً لقوله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين فيبدأ بالدين ثم الوصية ثم الإرث.
ومن أحكام الوصية أن الوصية تصح لكل شخص يصح تملكه، بمعنى أنه يصح الوصية من مسلم لكافر، لأنها من باب الصدقة، والصدقة تجوز دفعها للكافر، وقد كسا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخاً له وهو مشرك، وصفية أم المؤمنين أوصت بثلثها لأخ لها يهودي، وقد قال الله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين.
ومن الأحكام: أنها تصح الوصية للحمل الذي في البطن إذا تحقق وجوده، ولا تصح الوصية لحمل غير موجود، كما لو قال: أوصيت لمن ستحمل به هذه المرأة السنة القادمة. لأنها وصية لمعدوم.
ومن الأحكام: عدم صحة الوصية لمن لا يصح تمليكه كمن يوصى لشخص ميت، أو كمن يوصى بعض ماله لبهيمة أو حيوان، كما نسمع أحيانا مما يصلنا من تفاهات الغرب وزبالة معتقداتهم أن وصى أحدهم بعدة ملايين لكلب له أو لقطة، فهذا غير جائز في شريعة الإسلام.
ومن أحكام الوصية: أنه لو أوصى بثلث ماله، فاستحدث مالا بعد الوصية، دخل في الوصية لأن الثلث إنما يعتبر عند الموت في المال الموجود حينه، ولأوضح بمثال: رجل يملك مليون ريال فأوصى بثلثها في مجال الخير، وقبل وفاته صارت المليون خمسة ملايين فالثلث يكون من الخمسة لا من المليون.
ومن الأحكام: أنه لو أوصى لشخص بشيء معين من ماله، مزرعة معينة، ثم قبل موت الموصى أو بعده تلفت المزرعة، بطلت الوصية، وليس له حق بالمطالبة بقيمتها أو مثلها من باقي ماله، لزوال حقه بتلف ما أوصي له به.
هذه بعض أحكام الوصية، نسأل الله جل وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبيه.
أقول هذا القول واستغفر...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
اعلموا أيها المسلمون: أنه يستحب للعبد أن يكتب وصية عامة، يوصى المسلم بها بنيه وأهله وأقاربه ومن سيطّلع على وصيته يوصيهم بتقوى الله تعالى، وطيب العمل يذكر فيها معتقده ثم يوصى من بعده من أولاد وبنات وزوجة بشرائع الإسلام وكليات العقيدة وخصال الخير العامة ويحذرهم من ضدها.
وليس هناك صيغة ثابتة تكتب بها الوصايا، لكن من جملة ما وصى به بعض أئمة الإسلام وكتبوه، وذكرت في بعض الكتب أنه يوصي الرجل فيقول.
أوصى فلان بن فلان، وهو يشهد.............
يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. إلها واحدا. فردا صمدا. لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ولم يشرك في حكمه أحدا. ويشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ويشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق وما أعده الله لأوليائه، والنار حق، وما أعده الله لأعدائه، وهو قد رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالقرآن إماما، على ذلك يحيى، وعليه يموت إن شاء الله، ويشهد أن الملائكة حق، والنبيين حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور.
فيا أيها الأولاد، ويا أيها البنات وأنت أيتها الزوجة، وأنتم أيها الأقارب والأرحام: إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيَسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده، وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق، حسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملا، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملا يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة:132]. يا بنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:13]. يا بني أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور [لقمان:17-18]. أعظم فرائض الله بعد التوحيد: الصلاة، الله الله في الصلاة، فإنها خاصة الملة، وأم العبادة، والزكاة أختها الملازمة، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى، والحج مع الاستطاعة ركن واجب، هذه عمد الإسلام وفروضه، فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين وعلى من يناوئكم ظاهرين. وتلقوا ربكم غير مبدلين ولا مغيرين. واسلكوا في الاعتقاد مسلك السلف الصالح وأئمة الدين، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه، وعليكم بالعلم النافع، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة، وشريطة الإخلاص والخشية لله مع الخيفة وخير العلوم علوم الشريعة، اجتنبوا الفتن وأسبابها، ولا تدخلوا في الخلاف، والزموا الصدق فإنه شعار المؤمنين، والكذب عورة لا توارى، وحافظوا على الحشمة والصيانة، فيها أيتها البنات والنساء حافظوا خصوصا في هذا الزمان فإنه زمان قلة حياء ورقة دين وانتشار للمنكرات، وأوفوا بالعهد، وابذلوا النصح، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تطغوا في النعم، ولا تنسوا الفضل بينكم، ولا تتنافسوا في الحظوظ السخيفة، وإذا أسديتم معروفا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وأصلحوا ذات بينكم، واحذروا الظلم، وصلوا الأرحام، وأحسنوا إلى الجيران، واعرفوا حق الأكابر، وارحموا الأصاغر، واحذروا التباغض والتحاسد، واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله كان الله خليفتي عليكم في كل حال، وموعد الالتقاء دار البقاء، والسلام عليكم من حبيب مودع، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع، ثم اعلموا بأن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة...
(1/1209)
أحكام الجنائز
فقه
الجنائز
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/2/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت حقيقة يصير إليها كل الناس. 2- وصف الموت في القرآن. 3- هدي الإسلام في
التعامل مع الميت أكرم الهدي وأفضله. 4- تلقين المحتضر. 5- تجهيز الميت وتغسيله وتكفينه.
6- الصلاة على الميت. 7- محظورات المقابر. 8- زيارة الميت وبدع المقابر والجنائز.
9- زيارة النساء للمقابر. 10- عزاء أهل البيت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
لا يمر أسبوع أو شهر إلا ونفقد قريباً أو صديقاً، لا يمر أسبوع أو شهر إلا ونواري أحب الناس إلى قلوبنا التراب.
أيها المسلمون عباد الله: الموت حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حي فلا يملك لها رداً ولا يستطيع أحد ممن حوله دفعا، وهي تتكرر في كل لحظة، وتتعاقب على مر الأزمنة، يواجهها الجميع صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، مرضى وأصحاء، قال الله تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون نهاية الحياة واحدة، الجميع يموت كل نفس ذائقة الموت إلا إن المصير بعد ذلك مختلف فريق في الجنة وفريق في السعير وقد خلق الله الموت والحياة لشأن عظيم وأمر جسيم فقال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور.
وقد وصف سبحانه وتعالى شدة الموت في أربع آيات:
فقال في الأولى: وجاءت سكرة الموت بالحق.
وقال في الثانية: ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت.
وقال في الثالثة: فلولا إذا بلغت الحلقوم.
وقال في الرابع: كلا إذا بلغت التراقي.
ولعظم ما نحن مقدمون عليه وصائرون إليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)). ففي الموت عظة وتذكير وتنبيه وتحذير، وكفى به والله الذي لا إله إلا هو من تقرير، والموت هو الخطب الأفظع والأمر الأشنع والكأس التي طعمها أكره وأبشع، وإنه الحادث الهادم للذات والقاطع للراحات والجالب للكريهات فإنه أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، ولكننا نسيناه أو تناسيناه، وكرهنا ذكره ولقياه، مع يقيننا انه لا محالة واقع وحاصل، ولا مفر منه ولا حائل.
فالحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة ونغّص على تلك النفوس الظالمة الفاجرة،
فليت شعري بعد الموت ما لدار
يرضى الإله وإن فرطت فالنار
فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
الموت باب وكل الناس داخله
الدار جنة عدن إن عملت بما
هما مصيران ما للمرء غيرهما
أيها الأحبة: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدى، مخالفا لهدي سائر الأمم مشتملا على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت، وكان من هديه في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإحسان إلى الميت وتجهيزه في رحلته إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها، ووقوفه صلى الله عليه وسلم ووقوف أصحابه صفوفا يحمدون الله ويستغفرون للميت ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه في حفرته ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره، والسلام عليه والدعاء له كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا. انتهى.
فأول ذلك تعاهده في مرضه وتذكيره الآخرة، وأمره بالوصية والتوبة وأمر من حضر بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله، لتكون آخر كلامه من الدنيا.
أيها المسلمون: يستحب تلقين المحتضر: لا إله إلا الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقنوا موتاكم: لا إله إلا الله)) [رواه مسلم].
وذلك لتكون هذه الكلمة الطيبة آخر كلامه، ويختم له بها فقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام احمد وغيره مرفوعا: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) ولأن الشيطان يعرض للإنسان في حالة احتضاره ليفسد عقيدته، فإذا لقن هذه الكلمة العظيمة، ونطق بها فان ذلك يطرد عنه الشيطان، ويذكره بعقيدة التوحيد.
ثم إذا مات العبد فإنه يسرع في تجهيزه: من تغسيله وتكفينه، والصلاة عليه ونقله إلى قبره، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)) [رواه أبو داود]. قال ابن القيم رحمه الله: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم: الإسراع بتجهيز الميت إلى الله وتطهيره وتنظيفه وتطييبه وتكفينه في الثياب البيض. قال: وكان يأمر بغسل الميت ثلاثا أو خمسا أو اكثر بحسب ما يراه الغاسل ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة، وكان يأمر من ولي الميت أن يحسن كفنه، ويكفنه بالبياض، وينهى عن المغالاة في الكفن.
والرجل يتولى تغسيله الرجال، والمرأة يتولى تغسيلها النساء، ويجوز للرجل أن يغسل زوجته، وللمرأة أن تغسل زوجها، ومن تعذر غسله لعدم الماء أو لكون جسمه محترقا أو متقطعا لا يتحمل الماء، فإنه ييمم بالتراب، وإن تعذر غسل بعضه غسل ما أمكن غسله منه، ويمم عن الباقي.
والسقط إذا كان له أربعة أشهر غسل وصلي عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة)) [رواه أحمد وأبو داود وغيرهما].
فإذا غسل الميت وكفن، فإنه يصلى عليه، والصلاة عليه جماعة أفضل لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه. قال ابن القيم رحمه: ومقصود الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قول الله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره)، لما نهى الله نبيه عن الصلاة على المنافقين كان دليلا على أن المؤمن يصلي عليه قبل الدفن، ويقام على قبره بعده.
ودلت الآية أيضا على أن الصلاة على المسلمين من أكبر القربات وأفضل الطاعات، ورتب الشارع عليها الجزاء الجزيل كما في الصحاح وغيرها، ودلت الآية على أن الصلاة عليه كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم وأمراً متقرراً عند المسلمين. انتهى.
وكلما كثر المصلون كان أفضل، لما روى مسلم في صحيحه: ((ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)). وله من حديث ابن عباس: ((وما من مسلم يموت، فيقوم على قبره أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعوا فيه)).
ومن فاتته الصلاة على الميت قبل دفنه صلى على قبره، لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وذلك أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا ماتت، فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني؟)) قال: فكأنهم صغروا أمرها، فقال: ((دلوني على قبرها)) فدلوه، فصلى عليها.
ثم بعد الصلاة على الميت يُبَادر بحمله إلى قبره، ويستحب للمسلم حضور الصلاة على أخيه المسلم وتشييع جنازته إلى قبره، بسكينة وأدب وعدم رفع صوت لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)) قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)) [متفق عليه].
ويسن توسيع القبر وتعميقه، ويوضع الميت فيه موجها إلى القبلة على جنبه الأيمن، ويسد اللحد عليه سدا محكما، ثم يهال عليه التراب. ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ويكون مسنما، أي: محدبا، وذلك ليرى فيعرف أنه قبر فلا يوطأ، ولا بأس أن يجعل علامة عليه، بأن يوضع عليه حجر ونحوه ليعرفه من يريد زيارته للسلام عليه والدعاء له.
ولا تجوز الكتابة على القبور، لا كتابة اسم الميت ولا غيرها، ولا يجوز تجصيصه ولا البناء عليه، ولا تجوز إضاءة المقابر بالأنوار الكهربائية ولا غيرها، لحديث جابر قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه)) [رواه مسلم].
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله، ونهى عن الصلاة إلى القبور، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيداً، ولعن زوارات القبور، وكان هديه أن لا تهان القبور وتوطأ، وألا يجلس عليها ويتكأ عليها، ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها، أو تتخذ أعيادا وأوثانا.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور أصحابه يزورها للدعاء لهم والترحم عليهم والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنها لأمته وشَرع لهم وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.
وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت من الدعاء والترحم والاستغفار. فأبى المشركون من بعض الفرق الضالة إلاّ دعاء الميت والإشراك به والإقسام على الله به وسؤال الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت.
أيها المسلمون: هناك بعض البدع تحصل من بعض الناس إذا مات لهم ميت، فمن هذه البدع المحدثة القراءة عند الجنائز، أو عند القبور، قراءة الفاتحة أو قراءة شيء من القرآن. يزعمون أن ذلك ينفع الميت، وهذا بدعة لأنه لم يكن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن بدع الجنائز بل من عوائد الكفار ومن يقلدهم من جهلة المسلمين إلقاء أكاليل الزهور على القبور، ومن عوائد الكفار ومن يقلدهم من جهلة المسلمين اليوم إعلان الإحداد على الأموات، ولبس السواد، وتنكيس الأعلام، وتعطيل الأعمال الرسمية من أجل ذلك، والوقوف والصمت بضع دقائق لروح الميت وما أشبه ذلك من عوائد الجاهلية الباطلة، فيجب على المسلمين الحذر من تقليدهم والتشبه بهم، ومن البدع ما يسمى بإحياء ذكرى الأربعين، وهو أنه بعد (40) يوم من وفاة الميت، تحيا هذه الليلة، وربما تم توزيع بعض الصدقات ونحو ذلك، وهي بدعة سيئة فرعونية الأصل، لا أصل لها في دين الإسلام.
أيها المسلمون: إن الذي ينفع الميت بعد موته هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم من المبادرة بقضاء ديونه، فإن المسلم مرتهن بدينه حتى يقضي عنه وتنفيذ وصاياه الشرعية، والدعاء له والتصدق عنه والحج والعمرة عنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له)).
ومما يجب أن يعلم أنه يحرم على النساء اتباع الجنائز وزيارة القبور. لحديث ام عطية رضي الله عنها قالت: ((نهينا عن اتباع الجنائز)). والنهي يقتضي التحريم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله لعن زائرات القبور. رواه الخمسة وصححه الترمذي. فالمرأة لا تزور القبور، لا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره، وإنما زيارة القبور خاصة بالرجال. فاتقوا الله عباد الله ولا تنسوا الموت فتغفلوا عن العمل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. خلق الخلق ورزقهم ولم يتركهم هملا بل أنزل عليهم الكتب، وأرسل إليهم رسلا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته ولم يرتضوا بها بدلا وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله شرع الصبر عند المصائب، ووعد الصابرين بجزيل الثواب، ونهى عن التسخط والجزع، وتوعد على ذلك بأليم العقاب، فنهى سبحانه عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث والنشور، من لطم الخدود، وشق الجيوب، وحلق الرؤوس، ورفع الصوت بالندب والنياحة، وتوابع ذلك.
أما البكاء الذي لا صوت معه، وحزن القلب فلا بأس بهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب)) [رواه البخاري].
وتستحب تعزية المصاب بالميت، وحثه على الصبر والاحتساب ولفظ التعزية أن يقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. قال ابن القيم رحمة الله: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة، وكان من هديه السكون والرضا بقضاء الله، والحمد لله والاسترجاع. ويبرأ ممن خرق لأجل المصيبة ثيابه، أو رفع صوته بالندب والنياحة، أو حلق لها شعره.
وكان من هديه أن أهل الميت لا يُكلفون الطعام للناس، بل أمر أن يصنع الناس لهم طعاما يرسلونه إليهم، وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشيم والحمل عن أهل الميت، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس.
ثم اعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين.
(1/1210)
أبو بكر وعمر
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/7/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اقتران أبي بكر بعمر في كثير من المواطن. 2- تشبيه الصاحبين بالسمع والبصر. 3- يوم
في حياة الصديق. 4- عندما يختلف الصالحون. 5- بأي شيء فاق الصديق الصحابة.
6- التنافس بين الصاحبين في أعمال الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كان هناك حديث مستقل عن أبي بكر، ثم كان بعده حديث مستقل عن عمر، وهذا حديث خاص عن أبي بكر وعمر.
إن لهذين الإمامين مزّية خاصة عن بقية الصحابة، حتى الصحابة أنفسهم كانوا يدركون ذلك، قال علي رضي الله عنه: لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنت وأبوبكر وعمر، وفعلت وأبوبكر وعمر، وانطلقت وأبوبكر وعمر. وقال في غير ما حديث: ((إني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)).
فعلاً المتأمل في حياة العمرين يرى العجب، فهذه بعض تأملات :-
أولاً: في مبحث للامام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه بدائع الفوائد (1/72) عن أقوال العلماء في أفضلية السمع والبصر قال في آخر المبحث: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ونوّر ضريحه: وفصل الخطاب أن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص به. انتهى كلام شيخ الإسلام، ثم قال ابن القيم: وهذا هو الشاهد :وقد ورد في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: ((هذان السمع والبصر)) ، ثم بدأ يذكر احتمالات أوجه كونهما السمع والبصر فقال: أحدهما: أن يكون المراد: أنهما مني بمنزلة السمع والبصر. الثاني: أن يريد أنهما من دين الإسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم بمنزلة القلب والروح وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين، وعلى هذا فيحتمل وجهين:
أحدهما: التوزيع، فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر.
والثاني: الشركة، فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاستين ثابتاً لكل واحد منهما.
فكل منهما بمنزلة السمع والبصر. ثم رجح ابن القيم وقال: والتحقيق أن صفة البصر للصديق وصفة السمع للفاروق، ثم شرح رحمه الله تعالى لماذا كان الصديق هو البصر والفاروق هو السمع فقال: ويظهر لك هذا من كون عمر محدّثاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد كان في الأمم قبلكم محدّثون فان يكن في هذه الأمة أحد فعمر)) والتحديث المذكور هو ما يلقى في القلب من الصواب والحق، وهذا طريقه السمع الباطن، وهو بمنزلة التحديث والإخبار في الأذن. وأمّا الصدّيق فهو الذي كمّل مقام الصديقية لكمال بصيرته حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما باشر قلبه، فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلاّ حجاب الغيب، فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره، وهذا لكمال البصيرة، وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يكرم بها وليس بعد درجة النبوة ألا هي ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وهذا هو الذي سبق به الصديق.
ثانياً: إن هذين الشيخين كانا يسيران على الأرض، وهما من أهل الجنة وقد بشّرا بذلك في غير ما حديث، فكانا يعلمان أنهما من أهل الجنة، لكن هل اتّكلا على ذلك، الجواب: لا، كانا يقدمان من الأعمال ما يعجز عنه كبار الصحابة غيرهما وهما يعلمان أنهما من أهل الجنة، اسمع ما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد (ص37): وكذلك كل من بشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له، لم يفهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها، كالعشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصدّيق – والكلام لا يزال لابن القيم – شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر، فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يفهم أحد منهم من ذلك الإطلاق والإذن فيما شاءوا من الأعمال. انتهى كلامه رحمه الله.
أفلا يحسن أن نتفكر نحن في حالنا، نسير في هذه الحياة وكأن الواحد منّا قد ضمن الجنة، والله المستعان، ما هي أعمالك التي قدمتها؟ ما هي وجوه البر التي تطرقها يومياً؟ هل لك أن أحدثك عن يوم واحد في حياة الصدّيق:
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَة ؟ً قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه: أَنَا، قَالَ فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)).
فهذا يوم واحد في حياة الصدّيق، أصبح صائماً وتبع جنازة مسلم حتى دفنت وأطعم أحد فقراء المسلمين وزار أخاً له كان مريضاً، كل هذه الأعمال يعملها في يوم واحد وغيرها وهو ضامن للجنة، فهل من وقفة محاسبة مع النفس، وهل من تأمل في الحال وندم وحسرة على ضياع الأعمار، ومحاولة الاستدراك، وأخذ قبس من حياة أحد العمرين.
ثالثاً: إن الفاضل قد يقع منه خلاف الأولى.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَسَأَلَ أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالُوا: لا. فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ فَجَعَلَ وَجْهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي -مَرَّتَيْنِ-، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا)).
الشاهد أن الصدّيق وهو الأفضل بلا خلاف لكن وقع منه شيء – إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت – ومثله ما حصل بين أبو بكر وربيعة بن جعفر، أخرج الإمام أحمد من حديث ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه أرضاً وأعطى أبابكر أرضاً، قال فاختلفا في عذق نخلة، فقلت أنا – أي ربيعة – هي في حدّي، وقال أبوبكر: هي في حدّي، فكان بيننا كلام، فقال أبو بكر كلمة ثم ندم فقال: رد عليّ مثلها حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((مالك والصدّيق – فذكر القصة – فقال: أجل فلا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبابكر، فقلت، فولى أبوبكر وهو يبكي)) (الفتح 7/26).
لا نقاش أن أبا بكر هو الأفضل والأكمل، لكن لا ننسى أنه بشر، فببشريته يقع منه أحياناً خلاف الأولى الذي ينبغي أن لا يقع من مثله، لكن في جميع المواقف تجد أن الصدّيق كان رجّاعاً إلى الحق، بل وبسرعة، لماذا؟ لأنه كان هو الأكمل ديناً، فصاحب الدين هو الذي يسرع في الرجوع إلى الأَولى، فهاهنا أهمس في أذنك بإشارتين:
الأولى: قد يقع ممن تتعامل معهم وترى أنهم قدوات لك، أقول قد يقع منهم خلاف الأولى في بعض المواقف، فلا ينقص ذلك من قيمتهم، ولا تنظر إليهم نظرة دنوّ، فإنهم بشر، وما حصل منهم إنما هو بسبب بشريتهم.
الثانية: قد تقع أنت في خلاف الأولى ويحصل منك مواقف لاينبغي لمثلك أن يقع فيها، فلا سبيل الى رجوعك للحق بسرعة إلا أن تكون صاحب دين متين، فاحرص على تقوية دينك، فكلما كان الشخص أقوى ديناً كان أسرع رجوعاً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد أن ذكر حديث ربيعة: وفي الحديث من الفوائد: فضل أبي بكر على جميع الصحابة، وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه، وفيه ما طبع عليه الإنسان من البشرية حتى يحمله الغضب على ارتكاب خلاف الأولى، لكن الفاضل في الدين يسرع الرجوع إلى الأولى كقوله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا – وفيه أن غير النبي صلى الله عليه وسلم ولو بلغ من الفضل الغاية ليس بمعصوم -... وذكر فوائد أخرى جميلة يمكن لمن أرادها أن يرجع إليها في الفتح.
رابعاً: ما فاق أبو بكر الناس بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
هذه العبارة ذكرها غير واحد، لكن المصيبة أنه قد تعلّق بها من ضعفت هممهم عن العمل والبذل، ومن خارت قواهم أمام التحديات التي تواجههم، ويأسوا من انجاز ما حمّلوا به من تكاليف، فقالوا بأن الصدّيق لم يفق الناس بكثرة صلاة ولا صيام ولا عبادة ولا عمل، ولكن بشيء وقر في قلبه، فالمهم ما في القلب من قوة إيمان وإخلاص، وهذه شبهة يوافق على آخرها، وهو أن المهم ما يكون في القلب من إيمان وإخلاص، لكن يرد على أولها أن العبرة ليس بكثر الأعمال، لأن عند أهل السنة أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد بكثرة الطاعات وأعمال الخير والبر، وكلما زاد الإيمان زاد العمل والبذل، والشاهد هو أعمال أبي بكر، انظر في أعمال الصدّيق وانظر في أعمال غيره من الصحابة، وقد مر معنا حديث مسلم: من تصدق على فقير؟ من تبع جنازة؟ من؟ من؟. وهذه كلها أعمال، وكان الصدّيق في مقدمة الصحابة، مع أننا لانخالف أن الأعمال وإن كانت كثيرة ولم يكن معها إخلاص فإنها لا تنفع صاحبها، فالمطلوب الأمران: صحة العمل مع تجريد القلب لله، ولا ننسى أن الغرض من هذه الوقفة تعرية قول من ضعفت وخارت قواهم أمام المسؤوليات والتعلق بكلام حق لكن أرادوا به باطلا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والتوفيق له على شكره.
أما بعد:
الوقفة الخامسة في سيرة الشيخين، وهو حول ما اشتهر أنه كان بينهما من التنافس في الخير، وأن كل واحد منهما كان حريصاً على أن يسبق الآخر في أعمال الخير والبر، وهذا الكلام يوافق عليه، وأيضاً لا يوافق عليه، وقد أجاد شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تجلية هذه القضية بكلام لامزيد عليه في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى في فصل تكلم فيه عن الحسد كمرض من أمراض القلوب، ثم تكلم بعد ذلك عن الغبطة المباحة وعن التنافس المشروع في أعمال الخير، ملخص كلامه أن التنافس كان من جهة واحدة، وهو من جهة عمر رضي الله عنه فقط، وهذا هو الجانب الذي يوافق عليه، والذي لا يوافق عليه أن التنافس كان من الطرفين، فالصديق رضي الله عنه لم يكن أصلاً يفكر في أن ينافس عمر، وإنما كان يسبقه دائماً بطبيعة حاله وسجيته، فلم يكن يتكلف المواقف، وإنما هذه هي أعماله وهذا هو حاله، ولذا كان هو الأكمل، وإن كان فعل عمر مشروعاً لكن حال الصديق أكمل وأولى. قال شيخ الإسلام (10/116): هذا وعمر بن الخطاب نافس أبا بكر رضي الله عنه ٍالإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر: لا أسابقك إلى شيء أبداً)) قال شيخ الإسلام معلقاً على هذا الحديث: فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة، لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه، وهو أنه خال من المنافسة مطلقاً لا ينظر إلى حال غيره.
ثم ضرب شيخ الاسلام مثالاً جميلاً على صحة ما ذهب اليه فقال: وكذلك موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج، حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: ((أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي)) قال شيخ الاسلام: وعمر رضي الله عنه كان مشبهاً بموسى، ونبينا حاله أفضل من حال موسى فانه لم يكن عنده شيء من ذلك.
ثم أتى شيخ الإسلام بمثال آخر فقال: وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع هذه الأمور، فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة، وإن كان ذلك مباحاً، ولهذا استحق أبو عبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة، فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته، ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان، ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لايزاحم على الكبرى، ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه، وإذا اؤتمن من في نفسه خيانة شبّه بالذئب المؤتمن على الغنم، فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه. انتهى كلامه النفيس رحمه الله.
هل عرفت يا أخي لماذا كان الصديق أكمل، لأنه لم يكن يلتفت إلى الخلق أبداً، بل كان يعمل لله، وهذا هو التوحيد الذي صعب على كثير من الخلق الوصول إليه، اسمع لهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده في نفس ما نحن بصدد الحديث عنه قَيْسِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ أَتَى عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلًا يُمْلِيَ الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضِبَ وَانْتَفَخَ حَتَّى كَادَ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ فَقَالَ: وَمَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَمَا زَالَ يُطْفَأُ وَيُسَرَّى عَنْهُ الْغَضَبُ حَتَّى عَادَ إِلَى حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ هُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، وَسَأُحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِي اللَّه عَنْه اللَّيْلَةَ كَذَاكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّهُ سَمَرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا مَعَهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، فَلَمَّا كِدْنَا أَنْ نَعْرِفَهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَطْبًا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)) قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ الرَّجُلُ يَدْعُو فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: ((سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ)) ، قَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَغْدُوَنَّ إِلَيْهِ فَلَأُبَشِّرَنَّهُ قَالَ فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ لِأُبَشِّرَهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ، وَلَا وَاللَّهِ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا وَسَبَقَنِي إِلَيْهِ.
واضح حرص عمر رضي الله عنه على سبق الصديق، لكن أبا بكر لم تكن المسألة في حسابه أصلاً، فانه لا يلتفت إلى عمر ولا إلى غيره.
وبمناسبة هذا الحديث الجميل لعلي أهمس في أذنك هنا، حرص أولئك القوم على إدخال السرور إلى قلوب إخوانهم ولو بالبشارة الطيبة، فبمجرد ما سمع أبوبكر وعمر تأمين الرسول صلى الله عليه وسلم على دعاء ابن مسعود، ومعلوم أن الرسول مستجاب الدعوة، صار كل واحد منهم يرقب الصبح ليسرع إلى بشارة أخيه، فما أن انطلق عمر ووصل إلى بيت ابن مسعود، حتى وجد الصديق قد خرج، فعلم أن البشارة قد وصلت.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.
أيها الأحبة في الله: وما يزال الجمع مستمراً لصالح المسجد، وسيقف بعض إخوانكم بالأبواب للجمع من بقية الأعمال التي لم تنتهي بعد في مسجدكم هذا، أسأل الله جل وتعالى أن لايحرمكم الأجر، وأن يجعل كل ريالٍ تنفقونه في صحائف أعمالكم، وأن تروا صدقاتكم تتقدمكم يوم القيامة الجنة، إنه سميع مجيب.
اللهم صلِّ على محمد...
(1/1211)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/10/1410
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جيل الصحابة فاق الخيال. 2- تفضيل الصديق على سائل الصحابة. 3- ذكر بعض فضائل
الصديق. 4- موقف الصديق في الردة. 5- وفاة الصديق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم في هذه الجزيرة، بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله. فأدى عليه الصلاة والسلام، الرسالة التي بعث من أجلها خير أداء، فأكمل الله عز وجل به الدين، وجعل الأمة من بعده على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وقد منَّ الله عز وجل على الرسول صلى الله عليه وسلم بأن جعل له من الصحابة الكرام، ذوي الفضائل العديدة، والخصال الحميدة، الذين نصر الله بهم الإسلام فكانوا خير صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قدَّموا بين يديه الغالي والرخيص، وضربوا من الأمثال والوقائع، ما تعجز عن تصوره العقول في بعض الأحيان، ولولا صحة هذه الأخبار التي نقرأها عن الصحابة، لقلنا بأنها ضرب من الخيال. وفي مقدمة هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الأئمة المهديون، الذين قاموا بالخلافة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم خير قيام، فحافظوا الدين، وساسوا الأمة بالعدل والحزم والتمكين، فكانت خلافتهم أفضل خلافة في التاريخ، وكان حكمهم أحسن حكم، فما ظهر ولن يظهر حكم، كحكم الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم، ورحمهم رحمة واسعة، وجزى الله الإسلام والمسلمين عنهم خير الجزاء، وإنه لتشهد بذلك أفعالهم، وتنطق به آثارهم، وقليل من المسلمين من يعرف عنهم، ويقرأ سيرتهم.
ولقد كان أجلهم قدرا، وأعلاهم فخرا، أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خيرٌ من أبي بكر، خَلَفَ النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، بإشارة من النبي ، فقد ثبت في صحيح البخاري - أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت أرأيت إن لم أجدك، قال: ((فائتي أبا بكر)).
وهمّ صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً لأبي بكر، ثم قال: ((يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)) وفي رواية، ((معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر)).
وقد خلَّفه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك جعله أميراً على الناس في الحجسنة تسع من الهجرة، وكل هذا إشارة إلى أنه الخليفة من بعده، ولو كان هناك أحدٌ يستحق الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سوى أبي بكر، لخلَّفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والحج.
كان أبو بكر رضي الله عنه، من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم، شهد له ابن الدَّغنة، أمام أشراف قريش، بما شهدت به خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال له، إنك تُكسب المعدوم، وتصلُ الرحم، وتحملُ الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بادر رضي الله عنه إلى الإيمان به وتصديقه، ولم يتردد حين دعاه للإيمان، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم طوال إقامته بمكة، وصحبه في هجرته، ولازمه في المدينة، وشهد معه جميع الغزوات، أسلم على يديه، خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف.
واشترى سبعة من المسلمين الذين كان يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم، فأعتقهم، منهم بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعامر بن فهيرة، الذي صحبهما في هجرتهما إلى المدينة، ليخدمهما.
وكان رضي الله عنه، أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدلول كلامه وفحواه، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وقال: ((إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)) ففهم أبو بكر رضي الله عنه، أن المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى فعجب الناس من بكائه لأنهم لم يفهموا ما فهم.
وكان رضي الله عنه، أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس، ((إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته)).
وجاء مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى، فأقبلت إليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يغفر الله لك يا أبا بكر)) ثلاثاً. ثم إن عمر ندم فأتى فنزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر، قالوا لا، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق الصديق رضي الله عنه أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر ما يكره، فجثا على ركبتيه، فقال يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فهل أنتم تاركون لي صاحبي)) فما أوذي بعدها.
وكان رضي الله عنه أثبت الصحابة عند النوازل والكوارث، ففي صلح الحديبية، لم يتحمل كثير من الصحابة، الشروط التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، حتى إن عمر راجع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وشق عليه الأمر، وراجع أبا بكر، فكان جواب أبي بكر كجواب النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.
ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، اندهش المسلمون لذلك، حتى قام عمر رضي الله عنه، وأنكر موته، وقال: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليبعثنه الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من خلاف). ولكن أبا بكر رضي الله عنه، جاء فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبله وقال: (بأبي أنت وأمي، طبت حياً وميتا) ثم خرج إلى الناس فصعد المنبر، فخطب الناس بقلب ثابت، وقال: (ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وتلا قول الله عز وجل: إنك ميت وإنهم ميتون وقوله تعالى: وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.
ولما أراد أن يُنفذ جيش أسامة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، راجعه عمر وغيره من الصحابة، أن لا يُسير الجيش من أجل حاجتهم إليه، في قتال أهل الردة، ولكنه رضي الله عنه، صمم على تنفيذه وقال، والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا.
يقول عنه علي ابن أبي طالب (كنتَ أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأحسنهم صحبته وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتا، وأكرمهم عليه، خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا، ولزمتَ منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت كالجبل، لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند الله، أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم).
وسَأل مرة - أي علي بن أبي طالب – (أخبروني من أشجع الناس، فقالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم. قال: أبو بكر، إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحدٌ إلا أبو بكر، شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوى إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس).
قال علي رضي الله عنه: (ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فذا يجبأه وهذا يتلتله، وهم يقولون، أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً؟ قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجبأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم رفع عليّ رضي الله عنه بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟فسكت القوم فقال: ألا تجيبونني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن أيمانه...).
أما عن إنفاقه في سبيل الدين، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أجود الصحابة، قال الله تعالى: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى قال ابن الجوزي: أجمعوا على أنها نزلت في أبي بكر.
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نفعني مالٌ قط، ما نفعني مال أبي بكر)) فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي في مال أبي بكر، كما يقضي في مال نفسه ". وأعتق سبعة كلهم يعذب في الله رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم.
بارك الله..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
إلا النبي وأوفاها بما حملا
وأولُ الناسِ منهم صدق الرسُلا
إذا تذكرتُ شجواً من أخي ثقةٍ
خير البرية أتقاها وأعدلها
والثاني التالي المحمود مشهدهُ
أيها المسلمون: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب ومنعوا دفع الزكاة، عزم الصديق رضي الله عنه على قتالهم، فراجعه بعض الصحابة في ذلك. ومنهم عمر بن الخطاب، فقال له أبو بكر، أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام يا عمر، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
فتحرك جيش الصديق، لقتال المرتدين، فاهتزت جزيرة العرب لهذا الحادث الجلل، فكاد أن ينفرط عقد الإسلام، فثبته الله جل وتعالى بالصديق وعاد إلى دائرة الإسلام من كان قد خرج منه بفضل الله، ثم بهذه الوقفة الصديقية في وجه تيار الردة، الذي أوشك أن تعم بلواه أطراف الجزيرة، وربما كانت ستأخذ صوراً أخرى غير صورة منع دفع الزكاة.
أيها المسلمون: إنها القيادة الحكيمة من الصديق رضي الله عنه، والقيادة الحازمة في وقت لا يناسبه إلا السيف، ولعل البعض يظن بأن فتنة المرتدين قد وأدها الصديق رضي الله عنه إلى غير رجعة.
والخليفة أبو بكر قد وأدها في عصره، لكن هذه الردة رجعت وانتشرت وعم خطرها، خصوصاً في وقتنا هذا، وتحتاج إلى وقفة صديقية أخرى.
لقد برز في هذا العصر ألوان متعددة من الردة عن الإسلام. ولعلي بهذه المناسبة أشير إلى أبرزها وأخطرها وما يتعبه من أمور. إنها ردة ما يسمى بالحرية الشخصية.
ما معنى الردة أولاً:الردة عن الإسلام أيها الأحبة هي باختصار إبدال عقيدة الإسلام بغيره، وإبدال منهج الإسلام بغيره، أو إنكار شيء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ردُّ ما ثبت من الدين بالضرورة أو الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض.
وما الحرية الشخصية التي يُنادى لها الآن ويروج، إلا إحدى الصور التي ذكرت.
إن التحرر الذي ينادى له أرباب الخط العلماني، والحرية التي يروجون لها هي: العبُّ من الشهوات والانطلاق وراء الرغبات، والتحلل من الفضائل والأخلاق والكرامات، وتنحية شريعة الله عن واقع الحياة.
إن الحرية الشخصية التي تطفح النداءات لها عبر كل القنوات. هي أنه لا دخل لأحد في أحد، فكل شخص يفعل ما يريد دون أي ضابط أو رادع، هذه هي الحرية التي يريدون. إن هذه الظاهرة تعد من أخبث وأخطر الظاهر التي تواجه المسلمين في عصرهم الحاضر، حيث يراد لهذه الظاهرة أن تمحو شريعة الله من الأرض، وتقصيها من واقع حياة المسلمين، ودعاة هذه الظاهرة مازال خبثهم مشتهراً، ودعوتهم تسري سريان النار في الهشيم، وعامة أمة محمد غافلون لاهون لا يدرون ماذا يحاك لهم.
إن هذه الدعوات التي تنطلق هنا وهناك، يراد لها أن تصل إلى قلوب المسلمين، ولهم في ذلك طرق ملتوية، إما من خلال برامج تليفزيونية، أو مقابلات إذاعية أو كتابات صحفية، أو هجوم شرس بشتى الصور والألوان على أصحاب المناهج المستقيمة. إن أهل الكفر الذين يغذون هذه الظاهرة ظاهرة الحرية الشخصية، والتي في حقيقتها ردة عن الإسلام، أقول إن من يغذي هذه الظاهرة قد يتسامحون بشيء من الإسلام، ولكن بالإسلام الذي لا يقاوم الاستعمار المبطن، لأن الاستعمار الصريح قد ذهب وقته.
إنه لا مانع أن يصلي الناس، ويبكون في التراويح، لكن بدون إثارة.
إن أعداء الإسلام من أرباب مذهب الحرية الشخصية، يجوزون للإسلام أن يستفتى في نواقض الوضوء، وجوب منع الحمل، لكنهم لا يجوزون أن يستفتى أبداً في أوضاع المسلمين، ولا يستفتى في قتل الأنفس البريئة وتشريد المجتمعات المسلمة في فلسطين أو في البوسنة، أو في غيرها من بلاد الله.
إنه باختصار ردة ولا أبا بكر لها. إنها قضية العالم الإسلامي الكبرى، إنها مشكلة الأمة الأولى، ولا أبا بكر لها.
إنها ليست مسألة نقص في الأخلاق، أو مسألة ضعف في العبادات، بل هي مسألة كفر وإيمان، إنها مسألة بقاء للإسلام أو خلع لثوبه.
فنسأل الله جل وتعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وأن يهيئ لهذه الأمة وقفات صديقية ترد عنها أعوان الردة.
اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أيها المؤمنين.. عباد الله: لما كان يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، اغتسل رضي الله عنه، وكان يوماً بارداً، فحمّ خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة.
وتوفى رضي الله عنه، ليلة الثلاثاء، بين المغرب والعشاء، ليلة ثلاث وعشرين من جمادى الثانية، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وله ثلاث وستون سنة.
وكانت ابنته عائشة رضي الله عنها عند رأسه، فلما ثقل تمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يُغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك، ولكن قولي: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد.
انظروا ثوبي هاذين فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت.
ودفن بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رأسه عند كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألصق اللحد بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل معه في قبره عمر، وعثمان، وطلحة، وابنه عبد الرحمن.
وكان من بركته أن خلف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن هذا من حسناته رضي الله عنهما وعن جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين.
(1/1212)
أسباب هلاك الأمم –2-
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/2/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أسباب هلاك الأمم التنافس في الدنيا. 2- من أسباب هلاك الأمم ظهور الربا والزنا.
3- من أسباب هلاك الأمم الشح. 4- من أسباب هلاك الأمم الظلم والتهاون في إقامة الحدود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ومواصلة لما ذكر في الجمعة الماضية. من أن كثرة الخبث مما يهلك الأمم ويزيل الدول ويشقي المجتمعات.إليك أخي المسلم عدداً من هذه الأسباب جمعتها لك هذا الأسبوع.
تبييناً لها ، وتحذيراً من إتيان أسبابها ، ومحاولة لتركها والتوبة منها لو كنا واقعين فيها.
أيها الأحبة في الله:
وعندما نقول بأن هذه أسباب يُهلكَ اللهُ بها الأمم ، ويخرب بها الدول ، فإنا لا نأتي بهذه الأشياء من رؤوسنا ، أبداً.
إنما هو تتبع لنصوص الكتاب والسنة وذكر ما فيهما هذه الأمور تحذيراً للناس ، فمن أخذ بها فهو الناجي ، ومن خالف هذه النصوص فلا يلومنّ إلا نفسه.
وإليكم أيها الأحبة بقية الأسباب كما ذكرنا لكم في الجمعة الماضية ، بأن أسباب هلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمعات كثيرة ، وأن الله عز وجل لا يحابي ولا يجامل أحداً ، فأية أمة أتت وفعلت كل هذه الأسباب أو بعضها ، كان ذلك سبباً في هلاكها بأمر الله عز وجل.
وقد تكلمنا في الجمعة الماضية عن سبب واحد من أسباب دمار الدول وهو كثرة الخبث.
نواصل معكم ذكر بقية الأسباب:
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة عامر بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف ، فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ، فقالوا أجل يا رسول الله ، قال: فابشروا وأمّلوا ما يسركم ، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).
إنه التنافس في الدنيا ، والرغبة فيها ، والمغالبة عليها ، وحب الانفراد بها من التكاثر والتفاخر ، إن التنافس في الدنيا ، سبب في هلاك الأمم ، هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ((ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتهم)).
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون)).
فانظر أخي المسلم ، إلى ماذا يصل التنافس في الدنيا بالإنسان ، نعم يصل به إلى التحاسد ثم التدابر ثم التباغض ، وهذا قمة الدرك الأسفل من السقوط الخلقي ، فيقضي على كرامة الإنسان ، ويحلق دينه حلقاً ، كما ورد في الحديث ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين قال الله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير وقال سبحانه: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى.
وهناك صنف من الناس لهم نفوس طيبة صالحة ، ينتفعون بالمال والغنى ، ويكون لهم أعظم بُلغة وأكبر معين على الدين ، وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح: ( (نعم المال الصالح للرجل الصالح)).
وهناك صنف آخر من الناس ، همهم هو الدنيا ، حتى صاروا عبدة الدنيا والدرهم ، والبطون والفروج والملذات وهوى النفس ، وفي هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القطيفة ، تعس عبد الخميلة ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)).
فاتقوا الله أيها المسلمون في ديناكم ، لا يُوصلكم حب المال والجاه إلى حد التنافس غير المشروع ، فإن في ذلك سبب للهلاك ، ولقد هلكت أمم وسقطت دول ، وخربت مجتمعات بسبب التنافس على الدنيا.
ومن أسباب الهلاك العظيمة التي تخرب الديار وتهلك الأمم وتفسد المجتمعات وتقضي على الكرامة وترفع العفة وتخلط الأنساب وتهضم الحقوق وترفع العفة وتخلط الأنساب وتهضم الحقوق وتجلب الفوضى وتنشر الظلم وتخرم النظام في العالم ظهور الربا وانتشار الزنا.
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)) [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].
الربا مهلك المجتمعات ومورث الأحقاد والعداوات، الربا الذي لم تأتِ جريمة هدد الله فيها بمثل قوله: فأذنوا بحرب من الله ورسوله. أصبح الآن في بلاد المسلمين من الأمور العادية والعادية جداً. بل أصبحت أنظمتها مدعومة ، والجهر بها معلن ، وتعاطيه لا يوجب تعزيراً ولا توبيخا.
الربا الذي ضرب بأطنابه في أراضي المسلمين أكثر مما ضرب تحكيم كتاب الله عز وجل بين الناس أطنابه.
في الحقيقة لا ندري ماذا نقول عن الربا ، ومن أصلاً سيقتنع بكلامك وأنت تتكلم ، أو يسمع لك ، وبيوت الربا أبوابها مفتوحة ، وخدماتها ميسرة ، وإغراءاتها تأخذ بقلوب جميع الناس إلا من رحم الله عز وجل.
أيها الناس: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)) وقبل هذا قال الله تعالى في كتابه وأخبر عن حال المرابين ، وعلى أي هيئة يقومون فقال عز من قائل: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم.
وقال جل علاه: يا أيها الذين آمنوا تقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله.
فأذنوا بحرب من الله ورسوله - من يستطيع أن يحارب الله عز وجل ، من الذي بإمكانه محاربة الله، إنها والله لداهية عظمى ، وطامة كبرى ، وخزي وذل وهوان وخسارة دائمة وشقاء مستمر، إنها محاربة الله ورسوله ، فما أعظمها من رزية، نعوذ بالله من موجبات سخطه وأليم عقابه، أما عن الزنا فلا تسأل عن انتشاره وكثرته:
الزنا. ذلك الخلق البشع ، والجريمة النكراء ، والأمر الفتاك الهدام ، الذي بسببه تخرب الديار وتشقى المجتمعات ، ويكثر انتشار المرضى بينهم.
تأملوا رحمكم الله في انتشار الزنا في ديار المسلمين ، شرقيها وغربيها ، أليس الحال منذر بالهلاك والدمار ، نسأل الله السلامة والعافية، من كان يتصور أن يأتي يوم على بعض البلاد الإسلامية ، أن يُفتح فيها بيوت الزنا ، كما تفتح المطاعم.
بل من يستطيع أن يتخيل أن أنظمة بعض الدول الإسلامية تحمي الزنا ، وتجعل له مواد مقننة ، فإذا بلغت الفتاة الثامنة عشرة من عمرها وزنت ، فلا عقوبة عليها ولا على من زنا بها ، ولا أحد من أهلها له الحق في المطالبة حتى ولا أبوها ، ومحاكمهم تحكم وتعمل بهذه القوانين.
فهل هناك ظهور وإعلان ، بل ورفع لأمر الزنا أكثر من هذا ، يصل ببعض الديار الإسلامية قلة الحياء والديوثية في ولاتها ومخالفة شرع الله عز وجل علناً ، إلى مساندة ودعم الزنا من خلال أنظمة البلاد ، الزنا الذي ، حتى بعض البهائم تستقبحه وتستنكره.
فلنتق الله أيها المسلمون: فإن لم تكن العودة إلى شرع الله عز وجل ، وتحكيمه ، ويكون الرجوع على مستوى الأمة بأكملها ، وإلا فما يحصل الآن في ديار وأراضي المسلمين أمور ، تُنذر بالهلاك والدمار والخراب على الجميع.
فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته ، وأن يُعجل لهذه الأمة فرجها.إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سبب آخر من أسباب هلاك الأمم ، وهو ما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) رواه مسلم.
هل تعلمون أن الشح بالمال والبخل به من أسباب خراب الديار؟لماذا؟ وما السبب في ذلك؟لأن الشح بالمال ، يورث الاستبداد به ، ثم كنزة ثم منع حقوق الله تعالى.من الصدقات والزكوات ثم منع حقوق عباد الله ، فإن ذلك من أسباب خراب الشعوب وهلاكها ، ألا يوجد بيننا من منع إخراج زكاة ماله ، بسبب الشح ، ألا يوجد في مجتمعنا من يأكل حقوق غيره بسبب الشح ، كم سمعنا وكم نسمع أن بعض أصحاب الأعمال يظلمون موظفيهم ويبخسونهم حقوقهم ، ويؤخرون رواتبهم بسبب الشح ، ألا يوجد من يأكل حتى أموال بعض اليتامى ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً.
إن الشح بالمال أيها الأخوة ، لابد أن يسبب الظلم ، إما ظلم النفس وإما ظلم الغير ، ولهذا ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما في هذا الحديث فذكر الظلم في أوله والشح في آخره.
فاتقوا الله أيها المسلمون ، اتق الله يا عبد الله يا من لا تدفع زكاة مالك ، يا من تأكل حقوق غيرك ، يا من تشح بمالك حتى على أولادك لا تكن سبباً في إهلاك نفسك فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن الأسباب الخطيرة في إهلاك الله عز وجل للأمم وخراب الدول ، عدم المساواة في القصاص وإقامة الحدود بين أفراد الشعب وهضم حق الضعيف والتعدي عليه وإهانته ، ورفع وتقديس الشريف ذي الثروة والجاه والمكانة ، وغض الطرف عما يقترفه من آثام وإجرام ومخالفات.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه أسامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) رواه البخاري.
نعم يا عباد الله إن عدم المساواة بين الناس من قبل ولاة الأمور في إقامة الحدود والتعزيرات سبب في خراب الدول وهلاك الأمم.
والحديث قد سمعتموه: ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).
والدلالة من الحديث ظاهرة ، حيث أن بعض الأقوام السابقين كانوا يتهاونون في إقامة الحدود ، فيتركون أهل الجاه والرياسة وينفذونها في الضعاف والمساكين ، ولا يساوون في تنفيذها بين سائر طبقات الناس.فأهلكهم الله تعالى وأضلهم ، وأوقع بهم أليم عذابه وأنواع نقمه ، لأن هذا ظلم ظاهر وخروج عن أحكام الله المنزلة على سائر أنبيائه ، فالناس بالنسبة للأحكام الشرعية سواء ، لا فرق بينهم ، لا فرق بين غني وفقير ، ولا شريف ووضيع، ولا عالم وجاهل، ولا صالح وطالح.
فهل هذا مطبق في ديار المسلمين ، هل الناس الآن سواسية فيما يطبق عليهم من أحكام وأنظمة، فليتق الله كل من ولى شيئاً من أمور المسلمين ولينفذوا أحكام الله ، ولا يحيفوا ويجوروا ، وليسووا بين الناس ، ولا يكونوا سبباً لجلب الوبال والهلاك على شعوبهم ، والله تعالى لا يُقدر أي أمة ولا يرفع من شأنها ولا ينصرها وهي لا تعطي حق الضعيف منها ، بل تظلمه وتهضم له حقه.
واسمعوا هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه وغيره: عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال :رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: يا رسول الله ، بينا نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قُلة من ماء. فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتها فانكسرت قُلتها ، فلما ارتفعت التفتت إليه ثم قالت: ستعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين ، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون ، فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت ، صدقت ، كيف يقدس الله قوماً لا يُؤخذ لضعيفهم من شديدهم ، كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)).
فاتقوا الله أيها المسلمون: كيف يطهر الله أمة وينصرهم ، ويرفع شأنهم ، وهم لا يأخذون حق ضعيفهم من قولهم ، كيف يوفق الله أمة وينصرهم ، وهم يحابون فيمن يقيمون الأنظمة عليهم من شعوبهم.كيف يريدون نصر الله لهم على أعدائهم ، وهم لا ينصرون العاجز إذا أكل حقه من ذويهم ، إما في أرض أو في عقار وهم قادرون على ذلك.
فما أعجب حالنا إن كنا نظن أننا مع تمادينا في ذلك ، سوف يرفع الله شأننا ، ويرفع أمرنا.
فلا شك أن من كان هذا حالهم في الظلم والتعدي وهضم حقوق الضعفاء ، وعدم تمكينهم من حاجاتهم كان مآلهم الهلاك المحقق والتأخر والانحطاط وانتصار أعدائهم عليهم.
الله إنا نسألك أن تعجل لهذه الأمة فرجها.
(1/1213)
أسباب هلاك الأمم (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/2/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطاعة سبب للسعادة ، والمعصية سبب للمصائب. 2- عقوبات الأمم السابقة متنوعة.
3- من أسباب هلاك الأمم كثرة الخبث وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فكلنا يعلم بأن الله رؤوف رحيم بعباده ، وأن الله أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا، أرأيتم عطف الوالد الحنون على ولده الصغير إذا مرض ، فإن رحمة الله عز وجل وحلمه بنا أكبر من عطف الوالد بولده.
لكن أيها الأخوة: هناك سنن كونية ثابتة في هذا الكون ، والذي جعل هذه السنن ثابتة هو الله العزيز الحكيم.
فهذه السنن لن تتبدل ، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
فمن ذلك يا عباد الله ، بعض الأمور التي لو وقعت من العباد وفعلوها كانت سبباً في إنزال الهلاك والدمار بهم ، فالله عز وجل ، كما قلنا أنه غفور رحيم ، لكنه عز وجل أيضاً شديد العقاب.
فالله يغار على دينه ، والله يغار على أوامره أن تنتهك ، وهو عز وجل يمهل ولا يهمل.
يرشد العباد إلى توحيده وإتباع أوامره، فإن أطاعوا كان لهم السعادة في الدنيا والآخرة ، وإن هم خالفوا وعصوا وأتوا بأسباب العذاب سلط الله عليهم بأسه وغضبه ، وعندها لا يلوم الناس إلا أنفسهم.
أيها المسلمون: إن لهلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمع أسباب.
وسوف نحاول بعد توفيق الله عز وجل أن نتعرف على هذه الأسباب ، لكي نحذرها ولا نغفل عنها إن لم تكن موجودة فينا ، وأن نتوب منها ونجتنبها ، إن كنا واقعين فيها.
فإن الله سبحانه وتعالى عندما أهلك بعض الأقوام والأمم قبلنا ، لم يهلكهم إلا لأسباب وأمور فعلوها ، كانوا قد حُذّروا منها ، فبعد أن تمادوا كان لابد من هلاكهم.
عباد الله: وقبل أن أسرد عليكم أسباب هلاك الأمم أقول بأن عذاب الله وعقابه للأمم ليس بنوع واحد ولا لون معين ، بل جرت سنة الله تعالى في تنويعه على ألوان مختلفة متنوعة ، فقد يكون الهلاك بصاعقة أو بغرق ، أو يكون فيضاناً أو ريحاً أو خسفاً أو قحطاً ومجاعة ، أو ارتفاعاً بالأسعار أو أمراضاً ، أو ظلماً وجوراً ، وذلك بأن يسلط على بعض عباده حكام ظلمة ، يسومون الناس سوء العذاب ، أو يكون فتناً بين الناس واختلافاً أو مسخاً في الصور، كما فعل ببني إسرائيل فمسخهم قردة وخنازير أو مطراً بالحجارة ، أو رجفة ، فالكل عقاب من الله تعالى وعذاب يرسله على من يشاء من عباده تأديباً لهم وردعاً لغيرهم.
وقد جاءت كل هذه الأنواع في القرآن الكريم والسنة المطهرة ، فاقرأوا مثلاً قول الله عز وجل في الصاعقة: فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ويقول في الغرق: فأغرقناهم في أليم. ويقول في الفيضان والطوفان: فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ويقول في الريح: وأما عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية ويقول في الخسف: فخسفنا به وبداره الأرض ويقول في القحط والمجاعات وارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض وبلوناهم بالحسنات والسيئات ويقول: فأخذناهم بالبأساء والضراء فالسيئات تعم كل ما يسوء الإنسان: والبأساء ، الفقر. والشدة والجوع والقحط ، والضراء هي الآفات ومنها الأمراض ، ويقول عز وجل في الظلم والجور: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ويقول سبحانه: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ويقول في الفتن بين الناس والاختلاف والتحزّب والعذاب العام: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض وقال تعالى في مسخ اليهود قردة وخنازير: فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول: قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.
ويقول تعالى في المطر بالحجارة: وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك ويقول في الرجفة: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
فاتقوا الله عباد الله: هذا بعض عذاب الله وعقابه للأمم والدول قبلنا في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فاتقوا الله أيها المسلمون: إن هؤلاء الأقوام أتوا بأسباب العذاب فأهلكهم الله بأفعالهم وأعمالهم.
وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا واسطة، فنحن أيضاً لو أتينا بأسباب عذاب الله لعذبنا. ووالله لقد أتينا الكثير والكثير منها ، فإن الله يهلكنا كما أهلك غيرنا ، ويسلط علينا عقوباته في الدنيا قبل الآخرة ، كما سلطه على غيرنا.
فلنتق الله أيها المسلمون ، ولنأخذ بأسباب النجاة ، فإن هلاك الإنسان ونجاته بيده.
أيها المؤمنون: لأنتقل بكم إلى سرد أسباب هلاك الأمم فأولى هذه الأسباب ، ما ورد في حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب ، فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟قال: نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري ومسلم.
الشاهد من الحديث: ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)).
إذا كثر الخبث فإن الله يهلك القوم جميعاً.
إذاً من أسباب هلاك الأمم ، كثرة الخبث.
أيها المسلمون: الرسول صلى الله عليه وسلم يرسم لنا في هذا الحديث سنة إلهية في هلاك الأمم وخراب البلدان والدول والحضارات ، هذه السنة هي إذا كثر الخبث فإنه مؤذن بخراب الأمم.
وهذه السنة يا عباد الله لا يمكن أن تتخلف ، لأن الذي أخبر بها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأملوا رحمكم الله في واقعنا ، وانظروا إلى أحوال مجتمعاتنا ، هل كثر فينا الخبث أم لا.بل إن واقعنا خبث كله - نسأل الله العافية - إلا من رحم الله عز وجل.
إن وجود الخبث أمر طبيعي في كل مجتمع ، حتى مجتمع الصحابة كان فيه بعض المخالفات وبعض الأخطاء أحياناً، أما أن يكثر ، فإذا كثر الخبث ، كان إيذاناً بهلاك القوم.
أيها المسلمون: إن هناك علاقة بين كثرة الخبث ، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالخبث لا يكثر إلا إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو.. أو حُد من عمله أو ضيق عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في غير ما حديث بذلك ، وأن كثرة الخبث يكون بترك الأمر والنهي. فقال: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم يقدرون أن يغيروا فلا يغيروا إلا عمهم الله بعقاب)) وقال صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). وهذا العقاب هو ((أنهلك وفينا الصالحون)).
أيها المؤمنون: وصل الخبث إلى حد في مجتمعنا حتى صار أمراً طبيعياً ، فكم من الأشياء كنا نستقبحها في الماضي ، صارت جزء من حياتنا الآن. بل زاد الأمر سوءاً ، حتى صرنا نخجل من تغييرها. صار المنكر، وصار الخبث هو الأصل ، وصار محاولة إنكاره هو الذي يخجل منه حتى أصبحت أموراً لا تلفت نظر الناس.
ثم تطور الأمر بعد ذلك.فصرنا نبحث عن مسوغات وفتاوى تبيح لنا ذلك.
إن الخبث يا عباد الله ، إذا انتشر وإن كان الذي يعمل به القليل ، لكن انتشاره يضر الخاص والعام.
أيها الأخوة: إذا تأملنا هذا الحديث ، وإذا وقفنا مع ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. فإنه يجب أن يصيبنا الخوف ، والله لابد أن نخاف ، لأن سنة الله تمضي على الجميع ، والمتأمل حال العالم الإسلامي كله ، يرى من أصيب بأرضه ، ومن أصيب بأهله ، ومن أصيب بماله.
بعض الناس ، قد يفسر هذه المصائب في العالم الإسلامي بتفسيرات قريبة ، وهو تسلط الأعداء ، وتسلط الغرب علينا.
وهذا صحيح ، لا يمكن أن نغفله ، لكن لابد أن ننتبه للسبب الشرعي أيضاً ، وهو كثرة الخبث ، وأن خراب البلدان ، وسقوط الدول ، يكون بكثرة الخبث، ((أنهلك وفينا الصالحون ، قال نعم إذا كثر الخبث)).
فاتقوا الله أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: إن الخبث والمنكرات قد فشت وعمت وطمت في بلادنا، والمصيبة أن القلة القليلة هي التي تتضايق وتحاول الإنكار ، والغالب لا يرفع رأساً للتغيير.
فاتق الله في نفسك يا عبد الله ، وانظر إلى أي مدى بذلت في تغيير الخبث في بيتك ، وفي شارعك، هل ننتظر حتى يأتي غيرنا من الخارج ويغير الخبث في بيوتنا.
لا تكن يا عبد الله سبباً في هلاك الناس ، بسبب الخبث الذي تحدثه والخبث الذي تسكت عنه. لا يكفي يا قوم هز الرأس أو زم الشفتين ، أو ترديد قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ، إذا سمعنا أو رأينا الخبث ، فإن هز الرؤوس لا يرفع غضب الله ، إن هز الرؤوس لا ينجي المجتمع من الهلاك ، ولن ينجي السفينة من الغرق. يقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
بعض الناس ، إذا أُمر أو نُهي ، قال: ما شأنك بي؟ أنا حر ، أفعل ما أشاء ، بيتي وأنا حر فيه ، زوجتي وأنا حر فيها.
هذه نعرة دخلت علينا من حرية الغرب ، ولا أصل لها في دين الإسلام.فليس هناك حرية مطلقة في الإسلام.
لا يمكن أن نتركك وشأنك ، لا يمكن أن ندعك، ولهذا شرع الإسلام الحسبة تنشر خبثك في أوساطنا ، لتكون سبباً في إهلاك الجميع. قضية أنا حر ، هذه ليست في بلاد المسلمين ، إذا أردت الحرية المطلقة ، فابحث لك عن أرض غير إسلامية ، وافعل فيها ما تشاء ، أما في شرع الله عز وجل ، حتى الذي يلي أمر المسلمين ، حتى السلطان. لو أراد أن ينشر خبثه ، أوقف عند حده ، كما قال ذلك الرجل لعمر ، لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بالسيف. وقال الآخر: لا سمع لك ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا الرداء الذي تلبسه.
وبغير هذا فالهلاك والدمار على الجميع ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين.
وقال عز وجل: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن أسباب هلاك الأمم كثيرة ، وما ذكرناه في الخطبة الأولى ما هو إلا سبب واحد ، ولعلنا نرجئ الأسباب الأخرى في مناسبات قادمة إن شاء الله تعالى.
إن واقع كثير من البلاد اليوم أيها الأخوة ، والله إنه لينذر بهلاكها ، فالتهور الخلقي قد بلغ منتهاه إضافة إلى انحرافات خطيرة في العقيدة ، مما ترتب عليه انحرافات كذلك في السلوك ، إلى مظاهر خليعة ووقاحة بالغة ، إلى مخامر ومراقص ومقابر في ديار المسلمين ، إلى انتشار الربا ومحاربة الله عز وجل علناً ، إلى فشو الزنا ، الزنا الذي أصبح من الأمور العادية السهلة جداً ، وكأن شيئاً لم يحصل ، إلى تفكك كامل من العفة والصيانة إلى كثرة الفتن بكل ألوانها وأوصافها ، إلى مصائب وويلات تهددنا وتهدد العالم أجمع بالخراب والدمار.
فحالتنا اليوم بحق تستحق العويل والرثاء ، لأن مجتمعنا المسلم الظاهر أصبح في جاهلية جهلاء ، فكل أنواع المعاصي والجرائم والفسوق والفجور ، بل والإلحاد والكفريات على اختلاف أشكالها وألوانها بادية بأحلى مظهر عرفته البشرية ، وذلك لاستيلاء سلطان الهوى على النفوس ، وتوغل الناس في الإنهماك في شهوات بطونهم وفروجهم ، مع اقتفائهم أثر أوربا والغربيين المجانين.
فنسأل الله عز وجل أن يتغمدنا برحمته وأن يأخذ بأيدينا ، وأن يدلنا عليه.
وما أقوله من كلام وأضرب لكم به هذه الأمثلة ليس تيئيساً وتخذيلاً ، وأنه لا فائدة ، ومادام الأمر كذلك فلنستسلم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. بل إنه مع هذا الشر والخبث فإن الخير ولله الحمد موجود والصالحون غيورون ، لكنهم قليل في مقابل الشر القائم، فنقول مثل هذا الكلام لينتبه الناس وإلا ، فإنه لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
(1/1214)
أسباب الرزق
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/5/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من ظلم العمال. 2- أسباب الرزق (التوبة – الاستغفار – التقوى – صلة الرحم -
الإنفاق في سبيل الله – التجرد لله – الحج والعمرة – الهجرة في سبيل الله – التوكل على الله).
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس مسألة الرزق والبحث عن لقمة العيش، ترى بعض الناس قد تغرب عن أهله ووطنه، وآخرين قد ظهر على وجوههم التعب والاجهاد من آثار السعي في جمع المال. وعلى صعيد آخر يعيش مجموعات من الموظفين والعمال تحت رحمة أرباب الأعمال والكفلاء فترى الواحد منهم يعصره، همه الخصومات من مرتبه، فنهاره يترقب القرارات الصادرة من رئيسه التي تتعلق به وبراتبه، وفي الليل تسيطر عليه كوابيس شتى فهو يعيش في رق الوظيفة ليله ونهاره.
ويسهم أيها الأحبة إسهاماً كبيراً في جعل هذه القضايا ظواهر ذات نطاق واسع فئة من أصحاب المؤسسات والشركات ممن لا يخافون الله عز وجل، يتعاملون مع الموظف والعامل كما يتعاملون مع الآلات، وعند الله تجتمع الخصوم.
هذه طبيعة الدنيا لا يصفو فيها حال إلا بشئ من الكدر.
فنذكر إخواننا المسلمين على اختلاف طبقاتهم من غني وفقير وكفيل ومكفول ورئيس ومرؤوس، نذكرهم جميعاً بأنهم لن يصلهم من الدنيا إلا ما قدّر الله لهم، فقد كتب الله جل جلاله رزقك يا ابن آدم وأنت في بطن أمك.
أيها المسلمون: يوجد هناك من يعتقد أن التمسك بالإسلام والالتزام بأوامر الله يعتقد أن هذه الأمور لا تجتمع مع الغنى، وهذا سوء ظن بالله عز وجل.
إنك أخي المسلم تدعو ربك في كل صلاة فتقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فهل تدرك معنى هذه الدعوة؟ لقد كان هذا أكثر ما يدعو به المصطفى صلى الله عليه وسلم. إنه سؤال الرب عز وجل أن يؤتيك من الدنيا ما تتعفف به عن الآخرين وتكتمل لك السعادتان سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
إذن شرع الله لا يهمل مسألة الرزق وكسب العيش، بل إن التمسك بشرع الله حقاً من أعظم أسباب الرزق، وذلك أن تعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: سأذكر لكم في هذه الخطبة بعض ما جاء في شرع الله من أسباب كسب الرزق وزيادته ونماءه، لكن قبل ذلك ينبغي أن نعلم جيداً بأن ما يُذكر لا ينتفع به صاحبه وإن فعله وطبقه إذا ضعف يقينه بالله، هذا إن فعل فكيف بالذي لا يفعل ما يذكر به، فاحذر أخي المسلم وأنت تسمع نصوص الكتاب والسنة أن يضعف يقينك في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فرقٌ بين من يعمل العمل وهو يستيقن أن الله عز وجل وعده صدق وكلامه حق وبين من يقرئه وهو متردد في ذلك.
إن من أعظم أسباب الرزق أيها المسلمون المؤمنون: التوبة إلى الله، والرجوع إليه واستغفاره، قال الله تعالى: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.
نعم يوجد فئات كثيرة من المستغفرين ربما يستغفرون كثيراً لكنهم لا يزدادون إلا فقراً، فتسأل؟ الجواب: أنه استغفار اللسان فقط، هذا الاستغفار الذي ربما أنت تستغفره كل يوم وبعد كل صلاة قد يكون نوعاً من العبث، بل إن استغفارك أخي المسلم دون وعي ودون عمل ربما يكون ذنباً يجب عليك أن تقلع منه، ولذلك قال أحدهم: استغفر الله، من استغفر الله من كلمة قلتها لا أدري معناها. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيات السابقة: إي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم، وسقاكم ربكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع وأدرّ لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين أي أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها.
قل لي بربك أيها المؤمن: هل في يوم من الأيام - واستعرض شريط حياتك - هل في يوم من الأيام لما ضاقت بك السبل وضاق عليك أمر المعاش لجأت إلى الله تعالى بالإستغفار والتوبة. أدع الجواب لك.
شكى رجل إلى الحسن البصري شدة الجدب ونقص الماء فقال له: استغفرالله.. وشكى آخر الفقر فقال له: استغفرالله.. وقال ثالث: يا أبا سعيد أدعوا الله أن يرزقني الولد فإني عقيم، فقال له: استغفر الله.. وشكى رابع جفاف بستانه فقال له: استغفر الله.. فقال أحد الجالسين: أتاك رجالاً يشكون أنواعاً فأمرتهم جميعاً بالاستغفار، فقال الحسن رحمه الله إن الله تعالى يقول: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً.
أيها المسلمون: وممن تفطن لثمرة الاستغفار وأنه من أسباب الرزق نبي الله هود عليه السلام حيث قال: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
فيا أيها الأحبة إن كلام الله حق وصدق، فإذا ما استغفرت يا عبد الله ولم تجد نتيجة فاعلم أن الخلل فيك أنت لا في غيرك، وأن استغفارك لم يتجاوز اللسان، فابحث في حالك وفتش في نفسك، لعلك واقع في ذنب عظيم حرمك الله بسببه أثر الاستغفار.
ومن أسباب الرزق، بل ومن أعظم أسباب الرزق الشرعية: تقوى الله عز وجل في السر والعلن والخوف منه وامتثال أمره واجتناب نهيه والبعد عن المعاصي قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب قال ابن كثير رحمه الله: أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي من جهةٍ لا يخطر بباله.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أكبر آية في القرآن فرحاً ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.
وقال تبارك وتعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أين نحن أيها المسلمون المؤمنون بنصوص الكتاب والسنة من هذه الآيات، أين الذين يخافون على أرزاقهم إذا تركوا العمل المحرم، أين الذين يظنون أنه لن يتقدم اقتصاد المسلمين إلا إذا ربط باقتصاد الغرب من يهود ونصارى، ألا يقرؤون هذه الآية: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض إنه ليس رزقاً بسيطاً تحصل به الكفاية، كلا، لكنه فتح من الأرض وفتح من السماء، ولو فتح الله باب السماء للعبد والمجتمع والأمة فمن الذي سيمنعه أو يوقفه أو حتى ينقصه ويقلله، فلماذا يربطون اقتصادهم بالكفار؟ ولماذا يخافون من أزمات اقتصادية كما يقال وبين أيدينا إن كنا مسلمين حقاً هذه الآيات الواضحات البينات. قال الله تعالى: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقال جل جلاله: وألّوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً وقال سبحانه: لئن شكرتم لأزيدنكم.
كثير من المسلمين من أصحاب الشركات والمؤسسات بل وبعض الموظفين يعلمون أنهم يقعون في مخالفات شرعية بغض النظر عما يظهرون من القول، هم يعلمون قبل غيرهم جيداً أنهم يقعون في محرمات كالربا والقمار والعقود المحرمة والتعاون على الإثم، وبعضهم يعلم يقيناً أنه قد تورط، لكن حب المال والخوف من الفقر يجعلهم يتمسكون بالحرام وأحسن منهم حالاً من يقول لك: أعطني إذا سمحت البديل حتى أترك ما أنا فيه من المحرمات.
فيا سبحان الله كيف تريد البديل من الله وأنت لم تترك المحرم ابتداءً من أجله، ثم أنت وحدك المسؤول عن المحرم الذي فعلته، والبديل هو الترك أولاً.
وثانياً: ينبغي أن تعلم أنت وغيرك بأن الفتح من الله لن يحصل إلا إذا صدق اعتماد العبد عليه وكمل يقينه بموعود الله.
ولبعض الصالحين تجارب كثيرة مع هذه الآيات وكيف أن تقوى الله عز وجل والخوف منه مع الصبر يفتح أسباباً من الرزق لم تدر في خاطره يوماً من الدهر.
إن القضية تحتاج منا إلى جرئة وعزيمة إيمانية يعاهد العبد ربه على التقوى وترك المحرم، وبعد ذلك ينتظر الفرج من رب كريم رحيم لا تنقص خزائنه ولا ينقطع خيره.
- وأيضاً من الأسباب المؤدية إلى كثرة المال والرزق في الدنيا: صلة الرحم. نعم صلة الرحم. والمقصود بالرحم هم الأقارب، وهم كل من بينك وبينهم نسب من جهة الولادة سواءً كان ذلك من طريق الأب أو الأم.
وصلة الرحم معناه تقديم الإحسان بكل أنواعه حسية ومعنوية، وسواءً كانوا صغاراً أو كباراً نساءً أو رجالاً يسكنون في بلدك أو بعيدون عنك، روى الامام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) ولهذا بوب البخاري رحمه الله فقال: باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم.
لعلك أخي المسلم تستغرب إذا وجدت بعض المسلمين قد فتح الله لهم أبواب تلو أبواب من الرزق وهم قليلو النشاط وضعيفو الخبرة قياساً بغيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، ولكنك إذا فتشت عن حاله وجدته ممن يصل رحمه، بل لا تستغرب أخي الحبيب إذا أخبرتك بأن بعض العصاة والفساق بل وبعض الفجرة قد تنمو أموالهم بسبب صلة الرحم، اسمع لما رواه ابن حبان في صحيحه بسند جيد عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة له من قطعية الرحم، والخيانة، والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)).
إن هذا الحديث يفسر لنا ظاهرة ربما كانت موضع استغراب عند كثيرين، نعم أيها الأحبة: ((إن اهل البيت ليكونوا فجره، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)).
- ومن أسباب فتح أبواب الرزق: الإنفاق في سبيل الله. فمتى ما أنفقت من مالك يا عبد الله كان ذلك سبباً لكثرته، وهذه قاعدة صحيحة في باب الرزق، كلما أخرجت زاد المال لا كما يظن الماديون أنهم ينقص إذا أخرج زكاته أو تصدق قال الله تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي مهما أنفقتم من شيء مما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفكم ويخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، ولذا لما أمر الله عز وجل بالإنفاق في سبيل الله قال بعد ذلك الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم قال ابن القيم رحمه الله: إن وعد الشيطان لابن آدم بالفقر ليس شفقة عليه وليس نصيحة له، وأما الله عز وجل فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الله تبارك وتعالى: ((يا ابن آدم أنفق أنفق عليك)).
((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدها: أللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة. ((أنفق يا بلال ولا تخش من ذا العرش إقلالا)) رواه البيهقي.
بعض المسلمين لا يتصور نفسه من المنفقين، ولا يمكن أن يتخيل أن يكون في يوم من الأيام من الذين ينفقون في سبيل الله إلا إذا كان من أصحاب الملايين وهذا خطأ، لأن كلاً يمكنه أن ينفق بحسبه ووضعه وإمكانياته، فقد يكون الريال الواحد الذي تنفقه في سبيل الله بصدق وإخلاص أعظم من المليون الذي ينفقه غيرك لأنه أراد الشهرة مثلاً، والله هو أعلم بالنيات قال الله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف لهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون واعلم بأن هذا الأمر وهو العناية بالضعفاء والمحتاجين من أعظم أسباب الرزق لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)).
- ومن الأسباب الشرعية لكسب الرزق في الدنيا التعبد الحق لله عز وجل وذلك أن تعبد الله بقلب فارغ عما سواه، لا تعبد ربك وأنت تفكر في غيره، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم: تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك)) حديث صحيح. والتفرغ المطلوب أيها الأحبة لا يعني ترك كسب الرزق فيصير العبد عالةً على غيره، بل ذلك بأن يفرغ العبد قلبه أثناء العبادة عما سواه، فمثلاً الصلاة، لا تكن من الذين يصلون بأجسادهم وقلوبهم تحلق يميناً وشمالاً. نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وأيضاً من الأسباب في زيادة الرزق في الدنيا: المتابعة بين الحج والعمرة، وذلك بزيارة البيت الحرام كلما سنحت الفرصة سواء كان ذلك لحج أو عمرة، وهذا أمر قد لا يتفطن له كثيرون: أنهم إذا ذهبوا إلى الحج والعمرة كان ذلك سبباً بإذن الله لزيادة الرزق والمال، والله على كل شيء قدير وفضله واسع، روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة)) وفي رواية: ((أديموا الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
- ومن الأسباب أيضاً: الهجرة في سبيل الله قال الله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومعنى مراغماً: أي سبباً لإرغام أنف أعداء الله، وكم من رجال هاجروا فأغاظوا أعداء الله تبارك وتعالى، فيحصل هذا مع السعة، وهو السعة في الرزق كما فسرها حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
- ومن الأسباب: التوكل على الله حق التوكل، وذلك بأن يعتمد القلب على الله وحده فتُظهِر أيها العبد عجزك واعتمادك على خالقك، روى الإمام أحمد والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطانا)).
- ومن الأسباب: أن تنفق أخي المسلم من مالك على طلبة العلم الشرعي، وهذا باب مع كل أسف غفل عنه الكثيرون، فتراه ينفق على فقير محتاج، لكن إذا دعي لمشروع دعوي من أجل طلب علم شرعي، أو حلقات تحفيظ القرآن الذي هو أعظم العلم تراه يحجم ولا يشارك ويقول بأن سد حاجة الفقير أولى، وهذا خطأ أحياناً.
خذ هذا المثال: الإنفاق على الجهاد في سبيل الله يكون في كثير من الأحيان أعظم من إطعام فقير، لأن الفقير لا يموت جوعاً، أما الجهاد إذا عطّل في الأمة كما هو الآن فإن الأمة كلها قد تنكب ويصيبها الذل والهوان، وليس باب العلم الشرعي بأقل من باب الجهاد لأن ذاك جهاد بالسيف والسنان، وهذا جهاد بالقلم والبيان، والأمة محتاجة للأمرين معاً , روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: كان إخواني على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم – قال الشارح: أنه يأتيه لطلب العلم – والآخر تحترف – يعني عنده صنعة – فشكى المحترف أخاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((لعلك ترزق به)).
وقد ذكر بعض أهل العلم أن المتفرغين لطلب العلم الشرعي داخلون في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً.
أيها المسلمون: لا شك أن الرزق في الدنيا والسعي فيها أمر يحرص عليه كل مسلم بلا استثناء، ولا شك أيضاً بأن العاقل من سلك هذه الأسباب الشرعية التي مر ذكرها. وخير من ذلك كله أن ترتفع همة الصبر عند العبد، فينظر ببصيرته إلى نعيم الآخرة، إلى تلك الدار التي لا يلحقها فناء ولا يكدر صفوها موت أو مرض، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)).
(1/1215)
المستقبل لهذا الدين
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/6/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشارة بمستقبل الدين رغم مرارة الواقع. 2- تنسم رسول الله النصر في أضيق الظروف
وأصعب الأوقات. 3- أسباب تأخر النصر لن تمنع تحققه ولو بعد حين. 4- ما يبذله العدو من
مال وجهد إلى تباب. 5- أحاديث البشارة النبوية بانتصار الإسلام. 6- واقع الإنسانية وإفلاس
المدنيات المختلفة يبشر بالنصر القادم. 7- الصحوة الإسلامية العارمة تبشر باقتراب النصر.
8- متى يقترب النصر. 9- هل يتحقق النصر في ظل تكالب العدو وعجز الصديق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كثيراً ما يرد على أسماع المصلحين والدعاة وطلاب العلم أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأن النصر قادم إن شاء الله تعالى. فيقول القائل في مرارة وحسرة: أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان، أية بشرى وأيّ أمل وقد بُتر من جسد الأمة القدس الحبيب، أولى القبلتين ومسرى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام - على اختلاف مشاربهم وتعدد دياناتهم - على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، أية بشرى وأي أمل وقد مات العام الماضي ثلة من علماء الأمة الربانيين والمصلحين المخلصين واحداً تلو الآخر رحمهم الله تعالى جميعا، وبالرغم من كل هذا بل وأكثر من هذا نقول:
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرةً رغم المكائد تخرج
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين كما فعل يوم الأحزاب. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
نعم أيها المؤمنون فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله جل وعلا لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أنه معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، معنا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى رصيد الفطرة.
فقال في فصل جميل له بعنوان رصيد الفطرة، قال: يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائن من كان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟ لقد وقع الذي وقع من غلبة هذا المنهج لأنه تعامل من وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة. انتهى.
إذن معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إنه وعد الله وكلمته ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام.
أيها المسلمون: قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جداً، ولكنه آت بإذن الله تعالى في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد.
نعم، فمع بشائر القرآن العظيم: قال الله تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وقال تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ووعد الله المؤمنين بالنصر فقال: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله. ومن البشائر وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله عز وجل، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق.
ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات: قال الله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله عز وجل، ولكن بموعود الله عز وجل فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
نعم فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين، وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة، وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة، والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة، النتيجة بإذن الله عز وجل وموعوده: فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ، وتأمل في قول الله تعالى: إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا وقوله عز وجل: ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين فهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته، فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين.
في وثيقة التنصير الكنسي صرخ بابا الفاتيكان بذعر لكل المنصرين على وجه الأرض قائلاً: "هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا".
سبحان الله إنه دين الله، تأمل أخي الحبيب جهود بسيطة لكنها مباركة تفعل فعلها في نفوس الكافرين، ترعبهم وتزعجهم، إنه دين الله، ووالله الذي لا إله إلا هو لو بذل الآن للإسلام مثل ما يبذله أعداء الإسلام لأديانهم لم يبق على وجه الأرض إلا الإسلام.
وستظل هذه البشائر القرآنية تبعث الأمل في القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله جل وعلا، وإن تأخر النصر وطال الطريق.
أيها المسلمون: وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة، اسمع يا أخي المحب: روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)).
ومن البشائر النبوية أحاديث الطائفة المنصورة وقد وردت عن عدد من الصحابة، جاء في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقوداً تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.
أيها المسلمون: إن البشائر النبوية التي سمعتها لهي بشائر عامة مطلقة، وقد جاءت أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة، فمن ذلك مثلاً قتال اليهود.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود)) وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولاً)) يعني: القسطنطينية. قال العلامة الألباني رحمه الله: وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين.
وقد جاءت البشائر النبوية أيضاً بأن للمسلمين صولة وجولة وملاحم عظيمة مع الروم تكون فيها الغلبة للمسلمين والنصر لعباده المؤمنين، روى ذلك مسلم في صحيحه في كتاب الفتن وأشراط الساعة، وعد صادق وقد خاب من افترى.
أيها المسلمون: إن الإسلام قادم والله الذي لا إله إلا هو، لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً. إن الدين عند الله الإسلام ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين وفطرة الله وسنته في خلقه، ومن ذلك أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالرسالات السماوية قد نسخت وحرف فيها وبدّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر، فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو منزّل لأدائه، أراده أعداؤه أم لم يريدوه.
ومن البشائر: أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، وصدق الله العظيم: ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.
سلام على قلب من الطهر أطهر وروح شفيف في رُبى الخلد يَخطُر
وأطياف جنات وأنسام رحمة وحبٌ عفيف رائق الذل أخضر
وساعات إسعاد يظل غمامها على كل ساحات المحبين يمطر
ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر وسود الرزايا في الظلام تزمجر
ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهمٌ شتى عليه تكسّر
ففي أرض شيشان الشهيدة مأتم فهل تسمع الدنيا الضجيج وتُبصر
وفي الشام أنّاتٌ ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر
وفي دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجدٍ أحرقوه ودمروا
حنانيك يا بغداد صبراً فربما يُتاح لهذا الكفر سيل مطهّر
لماذا دموع الحزن لستِ وحيدةً وأنتِ على الأيام عزٌ ومفخر
وكل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر
تماثيلُ لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر
جراح بني الإسلام غاب أُساتها وأنّاتهم في كل أرض تضّور
تساقيهم الدنيا كؤوس مذلة على أنهم عُزّل الأكف وحُسّر
وتجتمع الأحلاف تحت مظلة السلام لتربي فارساً لا يُعفّر
ويحشد أرباب الصليب حشودهم ليستنجزوا الوعد الذي لا يؤخر
فيا فارساً أطل زمانه تعال فما كلٌ على الصبر يصبر
وعودك حق لم نزل في انتظارها وكل الرزايا في جوارك تصغر
وجندك منصور وجيشك قادم ونورك في كل الدياجير يُسفر
تخطيت أسوار الولايات كلها لأنك من كل الولايات أكبر
وترهبك الدنيا وما أنت لعنةٌ ولكنك السيف الذي لا يكسّر
وأنت لكل الظالمين نهايةٌ فلا غرو إن صالوا وجالوا وزمجروا
فيا أيها المستكبرون توغلوا وعيثوا فساداً إن أردتم ودمروا
وسوموا عذاب الهون كل شعوبكم وقولوا لهم غير الحقيقة واسخروا
وظُنوا بأن الأمر طوع يمينكم وأنكم الحتم الذي لا يغيّر
فهذي ديار الظالمين تجيبكم وهذا غد الإسلام في الأفق يخطر
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، ومن البشائر بأن المستقبل لهذا الدين: هذا الذي يلوح في الأفق ويشرق كالفجر ويتحرك كالنسيم، إنه أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة، هذا الحدث الكبير الذي هز كيان العالم كله متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي نسأل الله أن يبارك فيها، تلك الصحوة الكريمة التي يغذيها كل يوم بل كل ساعة شباب في ريعان الشباب وفتيات في عمر الزهور، ينسابون من كل حدب وصوب، يمشون على الشوك، ويقبضون على الجمر في بعض البلدان تمسكاً بدين الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه الأمل إنه هذا الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام وانشرحت بصيرته لتقبل الحق ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف الخاطف للأبصار، ولم يؤثر فيه سحرها المغير للعقول والأفكار، فحيثما توجهت بفضل الله عز وجل وجدت رجوعاً خاشعاً خاضعاً إلى الله تعالى، ووجدت نفوساً متعطشة إلى دين الله مشتاقة إلى الإسلام بعد أن أضناها لفح الهاجرة القاتل والظلام الدامس وحيثما توجهت سمعت آهات التائبين ودموع الخشوع تزين الوجوه تردد في خشوع وتبتل آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.
وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين، وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله قد قال: ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ومن أصدق من الله قيلا وهو الذي لا يخلف الميعاد، ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غداً أم بعد سنوات؟
الجواب: كما قال سيد قطب رحمه الله: في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال، ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله وعد صادق وخبر يقين، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض. انتهى.
ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر، لنقرأ الإجابة في قوله عز وجل: حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير، لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة قال الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين عن خباب رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: ((لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) ما أحسن الكلمة وما أروع العبارة، لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان ((ولكنكم تستعجلون)) استدراك عجيب منه صلى الله عليه وسلم ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر، ذاك الطريق الاستقامة على شرع الله والدعوة إليها المليء بالعقبات، وذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لاييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين.
وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من الأذى والبلاء، وهو خليل الله وسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، نعم إن من رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفاً بالأشواك والمصائب، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم، فمنها تمييز الصادقين من غيرهم، واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله، والهداية والتوفيق لأنصار دينه، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة.
أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزّلٌ من السلاح؟.
إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا بجهدهم ولا قوتهم قال الله تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم وينسى هذا السائل ثانياً أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم، وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمح بالبصر والله غالب على أمر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وينسى رابعاً أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكراً على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف قال الله تعالى: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وتلك الأيام نداولها بين الناس، فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه فإن الله ناصر دينه ومعلي كلمته، من كان يظن ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه وهو ساجد وفي تلك الحالة يعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكنوز كسرى وقيصر.
فما هي إلا سنوات قليلة إلا وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب المسجد فتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله عز وجل: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
وبعد فترة يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وتبرز فتنة الردة بوجهها الكالح حتى ظنّ بعض من في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة، فنهض الصديق رضي الله عنه، ووقف وقفته الخالدة، وانتهت الفتنة، وازداد الإسلام رفعةً وعزةً.
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الحاسمة التي سطرها التاريخ.
أيها المسلمون: إن المستقبل بل كل المستقبل للإسلام، فلتكن كلك للإسلام دينك لحمك، دينك عرضك، دينك دمك.
سر في الزمان وحدث أننا نفرٌ شم العرانين يوم الهول نفتقد
عدنا إلى الله في أعماقنا قبس من السموات لا يغتالها الأبد
جئنا نعيد إلى الإسلام عزته وفوق شم الرواسي تنصب العمد
(1/1216)
أخلاق يهودية
أديان وفرق ومذاهب
أديان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/11/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
ما ذكره القرآن من أخلاق اليهود هي أخلاقهم في كل زمان ومكان. 2- من أخلاق اليهود
والكذب. 3- من أخلاق اليهود الخيانة ونقض العهود. 4- من أخلاق اليهود التحايل على دين
الله. 5- من أخلاق اليهود الاستهزاء وازدراء الحق. 6- من أخلاق اليهود الإفساد في الأرض.
7- لعن الله لليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أخصص لكم أيها الأخوة هذه الخطبة في ذكر واستقصاء أخلاق اليهود، من خلال آيات القرآن الكريم.
إن اليهود يا عباد الله توفرت فيهم مجموعة من الرذائل الأخلاقية، والمفاسد السلوكية بصورة عجيبة ، لا يمكن أن توجد في أي أمة أخرى ، والعجيب أن هذا الفساد في الأخلاق والوقاحة في الممارسات السلوكية لم تتمثل في جيل يهودي واحد ، ولا في مجموعة يهودية معينة ، إذن لهان الأمر ، ولكنها تحققت في الإنسان اليهودي المشوه أينما كان، فكل يهودي باستثناء الأنبياء والمؤمنين الصالحين من بني إسرائيل ، هو نموذج إنساني مجسم مشاهد لهذه الأخلاق ، ولا يسلم من هذا ذلك اليهودي الذليل الذي عاش زمن فرعون ولا اليهودي المحرر الذي يقيم على أرض فلسطين الآن.
إن المفاسد الأخلاقية اليهودية سمات عامة ليهود كل اليهود ، وإنها جينات وراثية ثابتة لكل يهودي في كل زمان ومكان. وإذا أردت أن تعرف اليهودي على حقيقته فاستحضر في ذهنك طائفة من الأخلاق الذميمة ، فإنها تمثل بمجموعها اليهودي قائماً أمام عينيك.
إن الأخلاق اليهودية ، تذكرني بقول الشاعر ابن الرومي ، وهو يهجو رجلاً اسمه "عمرو” فيقول:
وفي وجوه الكلاب طول
يزول عنها ولا تزول
وجهك يا عمرو فيه طول
قبائح الكلب فيك طُراً
أيها المسلمون: لنستعرض لكم بعض نصوص القرآن ، ولنتعرف من خلالها على بعض أخلاق اليهود ، فنقول أولاً: اليهود كذابون ، قال الله تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون وقال تعالى: وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون وقال عز وجل عنهم أيضاً: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلاً انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبينا فاليهود بواقعهم كاذبون في حياتهم الدينية وعباداتهم ونظرتهم إلى الله ، واليهود كاذبون على الأعداء وعلى الأصدقاء ، اليهود كاذبون على المحالفين والمحاربين والمعارضين، والعجيب أنهم جعلوا هذا الكذب ديناً وعقيدة ، وعبادة وقربى تقربوا به إلى ربهم ، ويقول الله تعالى عنهم أيضاً: سماعون للكذب أكالون للسحت فهل بعد هذه النصوص الصريحة الواضحة من كلام ربنا مجال لتصديقهم والثقة بهم. إذا قلنا أنهم صادقون في هذه المرة ، فهذا معناه أننا نكذب نصوص القرآن ، وهذا أمر خطير ، فنعوذ بالله من الخذلان.
أيها المسلمون: خلق آخر: كذلك أيضاً اليهود خائنون قال الله تعالى عنهم: فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم وبعد هذا يخدع بعض السذج بعهود اليهود ومواثيقهم ، ويظنون أن اليهود قد استقاموا وتخلوا عن خياناتهم، ولكن الآية تطالبهم بفتح أعينهم وتقول لهم: ولا تزال تطلع على خائنة منهم.
كذلك اليهود ينقضون العهود والمواثيق ، لن تجد قوماً مثل اليهود في الاستخفاف بالعهود والمواثيق ، وفي عدم مراعاتهم أو الالتزام بها ، بل جرأتهم على نقضها وإبطالها وإلغائها.
وإليكم نماذج من العهود والمواثيق التي أخذت على اليهود ، ومع ذلك نقضوها قال الله تعالى: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.
وقال تعالى: وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين وقال عز وجل أيضاً في نقضهم للعهود والمواثيق: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون وقال سبحانه: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وقال تعالى: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم إثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه فهل بعد هذه الآيات الواضحات حجة لأحد. فإن للقوم تاريخ أسود في نقض المعاهدات.
كذلك أيها الأخوة ، فاليهود متحايلون :اليهود يا عباد الله تحايلوا على الأحكام الشرعية ، الموجهة لهم من عند الله ، أفلا يتحايلون مع البشر؟ ولقد سجل القرآن عليهم نماذج لتحايلهم على أحكام الله ، فنذكر لكم بعضها. قال الله تعالى: وإذ قلنا ادخلوا القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الأراضي المقدسة ساجدين مستغفرين يقولون ربنا حُط عنا ذنوبنا ، فتحايلوا على هذا الأمر الرباني ودخلوا يُرجعون على أستاهم ويقولون:حبة في شعيرة ، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من نماذج تحايلهم ، أن الله حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم مثل شحوم الأنعام كما قال تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون فتحايلت يهود على هذا الأمر الرباني وأخذوا الشحوم المحرمة وأذابوها ثم باعوها وأخذوا ثمنها ، فلعنهم الله بسبب ذلك.
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله اليهود ، حُرمت عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنا)) وأيضاً من تحايل اليهود ، عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ، قاموا وصاروا ينصبون شباكهم يوم السبت ويأتون يوم الأحد ويأخذون ما صادته شباكهم ، قال الله تعالى عن هذه الحيلة: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسيئن.
فنسأل الله أن يكفينا حيلهم ومكرهم وشرهم وأن يلعنهم الآن ، كما لعنهم من قبل ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
نواصل في ذكر نماذج أخرى من أخلاق اليهود من خلال كلام الله عز وجل ، لتعرفوا هذه الفئة من البشر على حقيقتها، وأنهم وإن تبسموا ، لكنه تبسم اللئيم :
ومنهم عدو في ثياب الأصادق
له فيكم فعل العدو المفارق
ومنهم عدوٌ كاشر عن عدائه
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه
أيها المسلمون : ومن أخلاق اليهود السخرية والاستهزاء، اليهود مستهزئون. وقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن اليهود يستهزئون بالإسلام وقيمه وشعائره ، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنهم قوم لا يعقلون.
كذلك أيها الأخوة: اليهود بخلاء عبدة للمال ، يحرصون على جمعه وكنزه وعبادته، وقد سجل التاريخ النّهمَ اليهودي للمال ، وقد أشار القرآن إلى نماذج من حرص اليهود على المال وعبادتهم له وبخلهم به قال تعالى: أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً يخبر تعالى عنهم أنه لو كان لهم نصيب من الملك وكان توزيع المال والرزق لهم ، فإنهم سيبخلون به ولا يؤتون الناس منه شيئاً فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً وقال تعالى عنهم: ولا يحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير.
اليهود مفسدون في الأرض ، وهذه من أبرز السمات في أخلاقهم ، والفساد في الأرض ملازم لهم ، منذ أيامهم الأولى مع نبيهم موسى عليه السلام. فها هو قارون اليهودي الذي كان من قوم موسى كان مفسداً في الأرض ، استخدم ما منحه الله من المال ووهبه من العلم للإفساد ، قال الله تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي.
وموسى عليه السلام من خلال تجربته مع بني إسرائيل ومعرفته بهم جيداً ، كان دائماً يحذرهم من الإفساد في الأرض ، فقال لهم كما في آية البقرة: كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ولما توجه إلى الطور لمناجاة الله ، جعل مكانه أخاه هارون وقال له: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ويقول الله تعالى عنهم أيضاً: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً وقال سبحانه وتعالى عنهم أيضاً: كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين وهذه الآية لوحدها تصلح أن تكون عنواناً لتاريخ اليهود كله ، وتحقق الإفساد فيهم بكل ألوانه ونماذجه- كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين.
وصدق الله العظيم ، فمعظم الحروب في العالم وبخاصة الحروب العظمى المعاصرة ، خطط لها يهود ، وأوقد لها يهود ، وأشعلها اليهود ، لينشروا الفساد في الأرض ، ويحققوا أهدافهم على حطام البشرية وضحاياها
اليهود يوقدون الحروب ، ويشعلون نارها ، والذي يوقدها لا يحترق.
أيها المسلمون: نختم مجموعة الأخلاق اليهودية التي ذكرتها لكم وكلها بنص كتاب الله ، نختم كلامنا ، بأمر آخر متعلق باليهود ، وهو أن اليهود أمة ملعونة ، وهذا جزء من عقيدتنا ، نعتقد ونؤمن بأن اليهود ملعونون.
واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله وقد وردت آيات كثيرة تقرر هذا الحكم الرباني على اليهود ، قال الله تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية وقال تعالى: قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شرٌ مكانا وأضل عن سواء السبيل وقال تعالى: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان وقال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وقال تعالى: وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين وقال الله تعالى عنهم أيضاً: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مُسمع وراعنا لياً بألسنتهم وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أعقابها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثماً مبينا ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً.
فهل يشك أحد بعد هذه الآيات بلعن اليهود ، وأن لعنة الله دائمة ثابتة عليهم ، لا تفارقهم في تاريخهم كله.
وقد كتبت عليهم إلى يوم الدين.
(1/1217)
أحمد بن نصر الخزاعي
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/3/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور أحمد الخزاعي في الأمر بالمعروف. 2- موقف أحمد الخزاعي في فتنة خلق القرآن.
3- قتل الواثق لأحمد الخزاعي وصلبه. 4- المتوكل يعود عن بدعة المعتزلة. 5- مصارع
الظالمين. 6- صفات العلماء الربانيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإليكم أيها الأحبة قصة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، رحمه الله، الذي ذكره الحافظ بن كثير في كتابه البداية والنهاية في الجزء العاشر وهي قصة عجيبة، ترسم بعض الخصائص والصفات التي كان عليها بعض الأعلام من أئمة أهل السنة والجماعة، ومدى صبرهم وبلاءهم في نشر معتقد أهل السنة، ومحاربة البدع، والصدع بكلمة الحق، مهما كلفهم ذلك وإن كان روحه التي بين جنبيه.
إليكم أيها الأحبة قصة مقتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق أسوقها بطولها كما ذكرها الحافظ رحمه الله.
قال ابن كثير: ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه قال ابن خلكان:وكان خزاعياً من موالي طلحة الطلحات الخزاعي، وقد كان أبو تمام يمدحه، فدخل إليه مرة فأضافه الملح بهمدان فصنف له كتاب الحماسة عند بعض نسائه.
ولما ولاه المأمون نيابة الشام ومصر صار إليها وقد رسم له بما في ديار مصر من الحواصل، فحمل إليه وهو في أثناء الطريق ثلاثة آلاف دينار، ففرقها كلها في مجلس واحد، وأنه لما واجه مصر نظر إليها فاحتقرها وقال: قبح الله فرعون، ما كان أخسه وأضعف همته حين تبجح وتعاظم بملك هذه القرية، وقال:أنا ربكم الأعلى.وقال:أليس لي ملك مصر.فكيف لو رأى بغداد وغيرها. وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي وكان جده مالك ابن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة.
وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد، وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن، فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها.فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداداً، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي، فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة، فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان - وهي ليلة الجمعة - يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه ديناراً ديناراً، وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس، وكانا يتعاطيان الشراب، فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم، واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد، وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبل في الليل فاجتمع إليهما الناس، فلم يجئ أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل، فأعلموا نائب السلطنة، وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان نائبا لأخيه إسحاق بن إبراهيم، لغيبته عن بغداد، فأصبح الناس متخبطين، واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فاحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادماً له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسُرَّ من رأى، وذلك في آخر شعبان، فأحضر له جماعة من الأعيان، وحضر القاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله وقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال: هو كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال هو كلام الله.
وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وشد على عورته ما يسترها فقال له. فما تقول في ربك، أترّاه يوم القيامة؟فقال: يا أمير المؤمنين قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)). فنحن على الخبر. قال الواثق: ويحك! أيرى كما يرى المحدود المتجسم! ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته.
ثم قال أحمد بن نصر للواثق: وحدثني سفيان بحديث يرفعه ((إن قلب ابن آدم بإصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء)) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)). فقال له إسحاق بن إبراهيم:ويحك، انظر ما تقول. فقال: أنت أمرتني بذلك. فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك؟ قال: نعم، أنت أمرتني أن أنصح له.
فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون في هذا الرجل؟فأكثروا القول فيه.فقال عبد الرحمن بن إسحاق -: وكان قاضياً على الجانب الغربي فعُزل، وكان مواداً لأحمد بن نصر قبل ذلك -: يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين.قال الواثق: لابد أن يأتي ما تريد.وقال ابن أبي دواد: هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل.
فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي.ثم نهض إليه بالصمصامة- وقد كانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير - فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعاً رحمه الله على النطع ميتاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.رحمه الله وعفا عنه.
فضرب عنقه وحز رأسه، وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة فصلب فيها، وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الغربي أياماً، وعنده الحرس في الليل والنهار، وفي أذنه رقعة مكتوب فيها:هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، من قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن، ونفى التشبيه وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه.
ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحواً من تسع وعشرين رجلاً فأودعوا في السجون وسموا الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم.
وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسمع الحديث من حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وسمع من الإمام مالك بن أنس أحاديث جيدة، ولم يحدث بكثير من حديثه، وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال: رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له. وقال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا، وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد ابن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله.
وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ: آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون قال:فاقشعر جلدي. ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله. وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق.
وقد دخل عبد العزيز بن يحيى الكناني على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون، فإنهم أساءوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم، فأمره أن ينزل جثة محمد بن نصر ويدفنه ففعل، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراماً زائداً جداً كما سيأتي بيانه في موضعه.
والمقصود أن عبد العزيز قال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أو مارئي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر، وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن.
فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر. فقال: يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً.
ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال: قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً.
ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً، قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار. وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه. فقطعوه إربا إربا. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني بالفالج - ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً. نماذج من البطانة السيئة.
أيها المسلمون: هذه قصة مقتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، أحد علماء المسلمين.وقد صورت لك القصة نموذجين ممن يحمل العلم.نموذج أحمد بن نصر الذي جاد بنفسه وروحه، في سبيل الدين، ونموذج عبد الرحمن بن إسحاق أحد القضاة. الذي داهن للواثق.
أما الصنف الثالث، وهو صنف أحمد بن أبي دؤاد، الذي يمثل علماء السوء والخبث والإجرام، فلا حديث مع هذا الصنف.
من خلال القصة يمكن أن يستلهم بعض صفات العلماء الربانيون، الذين كانوا طوال تاريخ الإسلام بمثابة السور الآمن الذي حمى الأمة من عواصف الانحلال والفساد، ولا شك أن الناس بدون العلماء جهال، تتخطفهم شياطين الإنس والجن، وتعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب.ومن هنا كان العلماء من نعمة الله على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى وأئمة الهدى فلندع الخطبة الثانية نقاطا نذكر فيها بعض صفات العلماء الربانيون أمثال أحمد بن نصر الخزاعي.
بارك الله لي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فهذه بعض صفات العلماء الربانيون، المحبون الخير للأمة، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر حقيقة، المتصفون بخلق المرسلين، الذين يقولون للمفسدين أفسدتم، والمحسنين أحسنتم، الذين لا يكتمون حكماً شرعياً في أية قضية يعلمون منها خيراً للأمة.ويمكن إجمال صفاتهم فيما يلي:
1- الإخلاص في القول والعمل:
وهو أن يريد العالم بعلمه وجه الله والدار الآخرة، في الحديث: ((لا تعلموا العلم لتباهو به العلماء أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار)) ، وإن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة رجل تعلم القرآن وقرأ القرآن لغير الله، وفي الحديث الآخر: ((من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)).
2 - العمل بما علم ودعوة الناس إلى ذلك:
فإنه لا فائدة من علم لا يتبعه العمل، ولهذا فإن العلماء العدول تجد علمهم في حركاتهم وسكناتهم وصمتهم وكلامهم ومواقفهم، يقول علي - رضي الله عنه -: يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره وتركه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل، وفي الحديث عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيمَ علم)).
3 - خشية الله ومراقبته في القول والعمل :
قال سفيان الثوري: إنما يطلب الحديث ليتقى به الله، قال ابن عبد البر:وليعلم المفتي أنه مُوَقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك، وعن مالك - رحمه الله - أنه كان إذا سئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وقال بعض أهل العلم لبعض المفتين:إذا سئلت عن مسألة فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولاً.
4 - قول الحق وإظهاره:
ومن أهم واجباتهم الرد على شبهات أهل الزيغ والضلال وإنكار المنكرات المعلنة الظاهرة وبيان خطرها، وإعلام الأمة بذلك، وعدم التدليس عليهم لئلا يتخذ الناس سكوت العلماء عن المنكر الظاهر والظلم والبغي حجة في اعتقاد أن ذلك حق لاسيما مسائل الاعتقاد:كالحكم بغير ما أنزل الله، مثل القوانين الوضعية واستحلال ما حرم الله وتقنينه وإلزام الناس به، وموالاة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين، التي يترتب على السكوت عنها ضياع الفهم الصحيح لدين الله واندراسه، وانقلاب الحق باطلاً والباطل حقاً في نفوس عامة الناس، مما لا يجوز السكوت عليه..هذا البيان للحق هو الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم بقوله: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون.
إن العلماء هم أقدر الناس على قول الحق وبيانه مما يكون السكوت عنه مفسدة عامة على جميع الأمة.
5 - التعاون والتشاور والتناصح:
وذلك بتبادل الرأي والمناداة إلى اجتماع كلمة المسلمين على الحق حتى تتحقق المصالح العامة، ولا شك أن العلماء هم أولى الناس بجمع كلمة المسلمين، إذ الأمة إنما تجتمع على علمائها فإذا اجتمعت كلمة العلماء، وتوحدت وحصل بينهم التعاون والتناصح، فإن ذلك أدعى إلى اجتماع الأمة وتعاونها وتضامنها في وجه عدوها.
6 - مناصرة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها:
إن مسؤولية العلماء ليست محصورة بقطر أو ببلد، بل ينبغي أن يعيشوا ويعايشوا هموم الأمة، ويناصروا المسلمين، ويردوا على أعدائهم ويرفعوا الظلم عنهم بما يستطيعون، لا يخشون في ذلك أحداً إلا الله سبحانه، وذلك أسوة بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن دعوتهم ورسالتهم لا ينبغي أن تحصرها الأقطار ولا الجنسيات لاسيما في أيام الفتن وظهور البدع وانتشار الفساد والظلم والعدوان.
7 - كشف سبيل المجرمين:
وذلك بتحذير الأمة من خطر أصناف المجرمين، وطرق الظالمين وخداع المنافقين وهذا هو جزء من بيان الحق وإظهاره، وكما قيل :"وبضدها تتبين الأشياء"، والعلماء هم أعرف الناس بشبه المنافقين وخفاياهم، الذين يمثلهم اليوم بكل وضوح - أصناف العلمانيين -، ولهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين، وكشف سبيلهم لتحذر الأمة من الوقوع في غوائلهم، ومن الانخداع بمظاهرهم الكاذبة.
8 - الحذر من مجالسة أهل الأهواء:
أولئك القوم الذين لا تزال آثار الهوى والحسد تظهر في أقوالهم وأعمالهم، فهم باب فتنة في كل زمان ومكان، ومفتاح شر على الأمة في السابق واللاحق، وهل ما أصاب الإمام أحمد، وابن تيمية وغيرهما من علماء الأمة إلا بسبب هذا الصنف من الناس؟والأصل في علماء الأمة أن يتولوا الرد على أهل الأهواء، ويحذروا الناس من مخالطتهم، لأن الناس تبع لعلمائهم، فإذا رأوا علماءهم يلاطفون أهل الأهواء، فإنهم يقعون في شباكهم ويظنون أن ما عندهم هو الصواب!!
إن علماء المسلمين هم الذين كانوا يقودون حملات الجهاد ويرفعون رايات الإصلاح، ويدافعون عن حقوق أمتهم، فلم ينزلوا في مساجدهم أو منازلهم أو يقتصروا على تدريس طلابهم، وافتاء الناس في قضاياهم الخاصة من طلاق ووضوء وصلاة وبيع وشراء وغيرها مع أهمية ذلك كله، بل كانوا يعلمون أن مسؤوليتهم أكبر من ذلك بكثير، وأن واجبهم تجاه الأمة يتعدى هذه الأمور كلها ليصل إلى مناصرة المسلمين، ومناهضة الكافرين، وكشف ضلال الفاسقين ورد الظالمين عن ظلمهم، وحماية شرع الله من التحريف أو التعديل ونبذ التحاكم إلى القوانين الوضعية أو التلاعب بأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(1/1218)
إن الله اشترى من المؤمنين... الآية 2
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/8/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمر بالمعروف. 2- القعود عن هذا الواجب سبب فشو البدع والمعاصي.
3- مشاهدة المنكرات وإلفها سبب موت القلوب. 4- حفظ حدود الله والقيام بواجباته. 5- نعم
ينبغي أن نحافظ عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين.
أيها الأخوة المؤمنون: تكلمنا في الجمعة الماضية عن هذه الآية ، وذكرنا بأن هذه البيعة تقع بمجرد إسلام الشخص، وأنه لا خيار له في هذه البيعة.
ثم بدأنا في شرح موجز لصفات أولئك النفر الذين بشرهم الله جل وعلا بأن لهم الجنة، وهم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ، وبشر المؤمنين.
وبقي صفتان لم نتكلم عنها في الأسبوع الماضي وهي: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله.
فنقول بأن الصفة السادسة لهؤلاء أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر.
اعلموا رحمكم الله بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حصن الإسلام الحصين ، والدرع الواقي من الشرور والفتن ، والسياج من المعاصي والمحن ، يحمي أهل الإسلام من نزوات الشياطين ، ودعوات المبطلين ، إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين ، وتحفظ به حرمات المسلمين.
فإذا أردت يا عبد الله أن تكون من المؤمنين الذين بشرهم الله بأن لهم الجنة ، فاحرص أن تتصف بهذه الصفة ، لكي يُنال على يديك شيء مما تقدم من فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون: وهل تظهر أعلام الشريعة وتفشو أحكام الإسلام إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا تستوفي أركان الخيرية هذه الأمة المحمدية ، إلا به: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
إنه مجاهدة دائبة دائمة من كل مسلم حسب طاقته لإبقاء أعلام الإسلام ظاهرة ، والمنكرات قصية مطمورة ، وهو فيصل التفرقة بين المنافقين والمؤمنين والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. يقول بعض أهل العلم: الذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين.
أيها الأخوة المؤمنون: بارتفاع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو أهل الحق والإيمان ، ويندحر أهل الباطل والفجور والعصيان، يورث القوة والعزة في المؤمنين المستمسكين ، ويذل أهل المعاصي والأهواء والمخالفين. يقول سفيان رحمه الله:إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق.
عباد الله: إذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميزت السنة من البدعة ، وعرف الحلال من الحرام ، وأدرك الناس الواجب والمسنون والمباح والمكروه ، ونشأت الناشئة على المعروف وألفته ، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.
أيها الأخوة المؤمنون:إن صاحب البصيرة يدرك أن ما أصاب كثيراً من بلاد المسلمين من جهل بالسنن والواجبات ، وفشو المعاصي والبدع والمحرمات ، ما هو إلا بسبب تقصير أهل العلم في هذا الجانب.حتى نشأت الأجيال لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكرا ، إلا من رحم الله.
إذا تعطلت هذه الشعيرة يا عباد الله ، ودك هذا الحصن ، وحطم هذا السياج ، فعلى معالم الإسلام السلام.
وقد بدرت بوادر تعطيل هذه الشعيرة والتضييق عليها، وسلب صلاحياتها فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعندها فويل للفضيلة من الرذيلة ، وويل لأهل الحق من المبطلين ، وويل لأهل الصلاح من سفه الجاهلين وتطاول الفاسقين.
أيها الناس: لا تكون ضعة المجتمع ولا ضياع الأمة ، إلا حين يترك للأفراد الحبل على الغارب ، يعيشون كما يشتهون ، ويفعلون ما يريدون ، يتجاوزون حدود الله ، ويعبثون بالأخلاق ، ويقعون في الأعراض ، وينتهكون الحرمات ، من غير وازع أو ضابط ، ومن غير رادع أو زاجر.
إن فشو المنكرات يؤدي إلى سلب نور القلب ، وانطفاء جذوة الإيمان ، وموت الغيرة على حرمات الله فتسود الفوضى ، وتستفحل الجريمة ، ثم يحيق بالقوم مكر الله، حتى إن كثرة رؤية المنكرات يقوم مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز وقوة الإنكار ، لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها ، ذهبت من القلوب وحشتها فتعتادها النفوس ، فلا يخطر على البال أنها منكرات ولا يميز الفكر أنها معاصي.
يقول بعض الصالحين:إن الخوف كل الخوف من تأنيس القلوب بالمنكرات ، لأنها إذا توالت مباشرتها ومشاهدتها آنست بها النفوس ، والنفوس إذا أنست شيئاً ، قل أن تتأثر به.
وهذا الذي خيف منه ، هو الحاصل الآن ، فمن كثرة مشاهدة المنكرات قل ما يتأثر به أحد إلا من رحم الله.يقول محمد صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((كلا والله ، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا – أي تلزمونه به إلزاما – أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) – يعني بني إسرائيل –.
فاتقوا الله أيها المسلمون.واعلموا أنه لو طوى بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأهمل علمه وعمله ، لتعطلت الشريعة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الغفلة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة.واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، وحينئذٍ يحل عذاب الله ، وإن عذاب الله لشديد.
أخرج النسائي وأبو داود من حديث أبي بكر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا فلا يغيروا ، يوشك أن يعمهم الله بعقاب)). وأخرج أبو داود من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً فتدعون فلا يستجيب لكم)) [أخرجه الترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه].
فيا أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم.
إن من كان قبلكم من اليهود والنصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لعنهم الله على لسان أنبيائهم ، ثم عموا بالبلاء.كما قال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون. فهل تريدون أن يحل بنا ما حل بمن قبلنا؟.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد ، يعز فيه أهل طاعتك ، ويذل فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ، إنك على كل شيء قدير.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
أقول هذا القول وأستغفر...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: ونقف مع الصفة السابعة ، من صفات هؤلاء المؤمنين ، الذين أسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ، ويحشرنا معهم ، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
الصفة الأخيرة لهم في هذه الآيات والحافظون لحدود الله بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله ، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلاً وتركا. الحافظون لحدود الله ، جميع ما حدّهُ الله عز وجل وجميع ما شرعه، فإن هؤلاء يحافظون عليه محافظة كاملة شاملة.كما يحافظون على أموالهم وأولادهم. فانظر في نفسك يا عبد الله ، إذا أردت أن تكون مع هؤلاء المؤمنين هل تحافظ على حدود الله ، وهل تحافظ على أوامر الله كما تحافظ على نفسك ومالك وولدك.
إذا كنت كذلك فابشر بتلك البشرى العظيمة ، وبشر المؤمنين.وإلا فعليك مراجعة سجلاتك وأوراقك قبل أن تفوتك الفرصة.ويأخذ غيرك دورك.
حافظوا رحمكم الله على حدود الله ، فقد مدح الله عز وجل الحافظين لحدوده في قوله: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب.
حافظوا رحمكم الله على حدود الله كلها ، ومن ذلك ، المحافظة على الصلاة ، قال الله تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ، وقد مدح الله عز وجل المحافظين عليها بقوله: والذين هم على صلاتهم يحافظون ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة)). وقال في حديث آخر: ((من حافظ عليهن كن له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة)).
حافظوا رحمكم الله أيضاً على الوضوء ، فإنه من المحافظة على حدود الله ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ، كما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
حافظوا أيها الأخوة أيضاً على الأيمان. امتثالاً لقول الله عز وجل: واحفظوا أيمانكم فإن الأيمان مما يقع الناس فيها كثيراً ، ويهمل فيها الكثير.
ومما أمرنا بالمحافظة عليه ، ضمن المحافظة على حدود الله ، حفظ الرأس وحفظ البطن ، كما جاء في حديث ابن مسعود المرفوع ، الاستحياء من الله حق الحياء ، أن تحفظ الرأس وما وعى ، وتحفظ البطن وما حوى.
فحفظ الرأس يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وتأملوا يا عباد الله تفريط الناس في هذه الأمور ، وعدم المحافظة على حدود الله في هذه الأشياء. فإنا نسأل الله العافية ، نطلق العنان لأسماعنا ولا نبالي ، ونطلق العنان لأبصارنا ولا نبالي.ونطلق العنان لألسنتنا ولا نبالي ولا نحاسب.
فأين ينطبق علينا ، بأننا من المؤمنين المحافظين لحدود الله ، قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أيضاً، حفظ البطن ، من الحدود التي حدها الله ، وأمرنا بالمحافظة عليها. ويتضمن حفظ البطن وما حوى.حفظ القلب أولاً عن الإصرار على ما حرم الله ، قال تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ويدخل في حفظ البطن حفظه من إدخال الحرام إليه ، من المآكل والمشارب.حفظه من أكل الربا ، حفظه من أكل أموال الناس بالباطل ، حفظه من أكل حقوق المظلومين.
ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل ضمن المحافظة على حدود الله، حفظ اللسان والفرج. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)) والمراد بحفظ ما بين اللحيين هو اللسان. وحفظ ما بين الرجلين الفرج. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حفظ ما بين فقميه – أي لحييه – وفرجه دخل الجنة)) فهل حفظت لسانك يا عبد الله من الغيبة ومن النميمة ، ومن الكذب ، ومن السب والشتم، ومن الهزل الفارغ ، ومن الضحك المستهتر.وغير ذلك مما يخرج من لسان بني آدم.
فإن اللسان من أهم ما يجب على المسلم المحافظة عليه ، ضمن المحافظة على حدود الله.
وأيضاً حفظ الفرج ، فقد أمر الله عز وجل بحفظ الفروج ، ومدح المحافظين لها فقال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقال تعالى: والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً وقال سبحانه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى قوله تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون.
أخي المسلم: ما ذكرته لك طرفاً مما يجب عليك أن تحافظ عليه ، ضمن المحافظة على حدود الله ، وإلا فهي تشمل الدين كله، فإن جميع أوامر الله يجب المحافظة عليه.وجميع ما نهى الله عنه ، يجب أن ينتهي عنه.
لنتصف بأننا المحافظين لحدود الله.لكي ننال الجزاء من عند الله وهي تتمة الآية وبشر المؤمنين.
وماذا يتمنى الإنسان بعد أن يأتيه البشارة من الله رب العالمين ، فأنعم به من بشرى.إنها هي البشارة التي تستحق أن يبذل لها الإنسان كل ما يملك ، وأن يقدم الغالي والرخيص من أجلها. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والحافظين لحدود الله. نحفظ حدود الله في أسماعنا ، أبصارنا ، ألسنتنا ، جوارحنا كلها. اللهم أعز الإسلام.
اللهم آت نفوسنا تقواها.
(1/1219)
إن الله اشترى من المؤمنين.... الآية 1
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/8/1411
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفقة البيع في آية سورة التوبة. 2- كيف نكون ممن دخل في هذا البيع. 3- نظرة في
واقعنا السيء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله تعالى ، في محكم تنزيله في سورة التوبة: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين.
أيها المسلمون: نقف معكم بعد توفيق الله عز وجل في جمعتنا هذه ، وفي هذا الاجتماع الطيب المبارك الذي أسأل الله عز وجل أن يجعله اجتماعاً مرحوما ، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوما ، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما.
نقف معكم في ظلال هاتين الآيتين الكريمتين من سورة براءة.
عباد الله: إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين بمجرد أن يدخل الإنسان في هذا الدين ، وبمجرد أن يعلن إيمانه وإسلامه ، فإن البيعة تقع ، وأبشر بها من بيعة ، ويا سعادة من وفق في هذه التجارة ، ويا خسارة من يعرض عن هذا البيع أو يخل بشيء من شروطه بعد أن تقع.
أيها المسلمون: هل تعلمون من البائع ومن المشتري ، وكم وما هو الثمن المدفوع. وعلى ماذا انعقدت هذه البيعة.
الجواب كله في قوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
إن البائع في هذه الصفقة هو المؤمن ، والمشتري هو الله عز وجل. والثمن المدفوع بأن لهم الجنة ، وانعقدت البيعة عن الأنفس والأموال إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
ماذا تقولون في بيعة ، المشتري هو رب السماوات والأرض ، مالك الملك ، الله جل جلاله الذي يملك البائع ويملك نفسه وماله ، ويملك الكون كله بما فيه ، جل وعلا.
ولكنها منة وفضل وكرم وإحسان من الله عز وجل.
لكن أين المؤمن الذي يتنبه لهذا ، ويستيقظ من غفلته، وإلا فما قيمة النفس والمال الذي يبيعه المؤمن في هذه البيعة ، مقابل الثمن الذي يقبضه. جنة عرضها السموات والأرض. جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. جنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، من أنواع اللذات والأفراح والمسرات.
فلا مقارنة يا عباد الله بين ما يُدفع وما يُؤخذ لا تقارن يا عبد الله بين ما تبذله لله وما تأخذه ، فإن نفسك ومالك لا يقابل شيء بما أعده الله لك في جنته ومع ذلك ، تجد من يعرض عن هذه البيعة ومن يغفل عنها ، بل من يستكبر عنها ، نعوذ بالله من المهانة.
أيها المؤمن: يا من عُقدت هذه البيعة من أجلك ، وأنت لا تعرف مقدارها وقيمتها.
إذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة ، فانظر إلى المشتري من هو ؟ هو الله جل جلاله. وتأمل في العوض ، وهو أكبر الأعواض وأجلها ، جنات النعيم.
وإلى الثمن المبذول فيها وهو النفس والمال الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع ، وهو أشرف الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وبأي الكتب رُقم ، في كتب الله الكبار ، المنزلة على أفضل الخلق ، في التوراة والإنجيل والقرآن.
أيها المسلمون: إن قضية الاختيار في هذه البيعة منتفية إنه لا خيار لك أخي المسلم في الموافقة وعدم الموافقة في هذه الصفقة. إنك لم تُسأل ، ولم تستشر. لكي يكون لك رأي في القضية.
وإذا تأملنا الآية الكريمة ، وجدنا هذا ظاهراً ، يقول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين -الآية لم تقل بأن الله يشتري أو يريد أن يشتري. لكي يكون لنا الخيار هل نبيع أو لا نبيع. وإنما اشترى وانتهت البيعة ، ثم بعد ذلك ، يا سعادة من استمر على هذه البيعة ، ويا خسارة من أبطل البيع.
أيها المسلمون: إن الذين باعوا هذه البيعة ، وعقدوا هذه الصفقة ، لاشك أنهم صفوة مختارة. الذي ضحى بنفسه وماله في سبيل الله ، لابد أن يكون ذات صفات مميزة.
فمن هم هؤلاء المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ ما هي الصفات الجميلة والخلال الجليلة ، لأولئك الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟
بمعنى آخر إذا أردت يا عبد الله أن تكون ممن يربح هذه البيعة ، وتفوز بجنة الله. وإذا أردت أن يسهل عليك بذل نفسك ومالك في سبيل الله. فما هي الأمور التي تفعلها لكي يهون عليك ذلك ، ولكي تربح هذه البيعة ، وتفوز برضوان الله؟.
إن الآية التي تليها ، تشرح هذا السؤال أتم شرح ، فإذا أردت ذلك يا عبد الله. فما عليك إلا أن تتمثل قوله تعالى: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين.
ذكر جل وعلا أول صفة لهؤلاء فقال: التائبون: أي الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات ، التائبون من الذنوب كلها التاركون للفواحش.
يقول الله عز وجل: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى. فهل كل ما أذنبت ذنباً يا عبد الله أعقبته بتوبة وما أكثر ما نذنب وما أكثر من نخطئ. وكما قال ابن مسعود: ما نزل البلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة. فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
استجمعوا شروط التوبة كلها لكي تحققوا التوبة النصوح. اقلعوا عن الذنوب ، اعزموا على ألا تعودوا إليه ، اندموا على ما فات من عمر ومن وقت ومن مال وأنتم في معصية الله عز وجل وهل يهلك المجتمعات ويفسدها إلا الذنوب والمعاصي.
فيا أيها الناس: إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ، قال عليه الصلاة والسلام: ((باب من قبل المغرب ، مسيرة عرضه ، أو قال يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة ، خلقه الله يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة ، لا يغلق حتى تطلع الشمس منه)).
الصفة الثانية ، لمن أراد أن يكون من تلك الزمرة الفائزة قال: العابدون.
إن المتصفون بالعبودية لله ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين، فقس نفسك يا عبد الله ، هل أديت ما عليك من واجبات ، وتركت ما نهيت عنه من منهيات. لكي يطلق عليك أنك من العابدين. أم قصرت في ذلك كثيراً. فيجب عليك إذن الرجوع والتوبة ومحاسبة النفس ، وتبدأ في القيام بحق الله عز وجل والمحافظة على عبادة الله في الأقوال والأفعال ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة.
الصفة الثالثة: الحامدون: الحامدون لله في السراء والضراء ، واليسر والعسر المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار. اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
الصفة الرابعة: لأولئك المؤمنين الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات أنهم السائحون ، فسرت السياحة في كتب المفسرين بالصيام لحديث – ((السائحون هم الصائمون)). وفسرت بالجهاد لحديث: ((سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)). وقيل في السياحة بأنه السفر في القربات كالحج والعمرة والجهاد وطلب العلم وصلة الأقارب ونحو ذلك.
وأياً كان معناها ، من هذه المعاني التي ذكرناها ، فإنها كلها داخلة في إطار العبادة لله. أين هذا من فهم كثير من المسلمين هذه الأيام للسياحة ، وما هو سياحة الناس هذه الأيام.
إن العامة ، لا تفهم من السياحة إلا شواطئ أوربا ، ومنتزهات باريس وغيرها. لا يدركون من السياحة ، إلا انتظار عطلة الصيف ثم السفر إلى بلاد الكفار والدعارة ، وقضاء شهر أو شهرين في تلك الأجواء العفنة بالإلحاد والكفر بالله ، والتبرج والسفور. بينما كان سياحة سلف هذه الأمة هو الجهاد في سبيل الله ، وتقديم النفس رخيصة في سبيل الدين. والإقبال على الموت بلذة وفرحة لنيل الشهادة.
والموت يرقص لي في كل منعطف
فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي
وما أبالي به حتى أحاذره
ثم بعد ذلك نريد توفيق الله عز وجل. وآيات القرآن نفهمها على غير مرادها.
فنسأل الله عز وجل ، أن يبصرنا في ديننا ويلهمنا رشدنا ، وأن يدلنا إلى ما فيه خيري الدنيا والآخرة إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الصفة الخامسة: الراكعون الساجدون أي المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود فهؤلاء لا يصلون فقط ، ولا يؤدون المفروضات الخمس في اليوم والليلة ، ولكن غلب الصلاة على أفعالهم ، بحيث أنهم وصفوا بـ الراكعون الساجدون فمع أداء الواجب عليهم من الصلوات ، فهم لا شك أنهم يتطوعون عليها ، وكلما وجدوا وقت فراغ ، قاموا إلى الصلاة ، متمثلين قول الله عز وجل: فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب.
إنهم إذا قاموا إلى الصلاة وجدوا لذة وفرحة ، لا يقومون إليها كحال بعض المسلمين هداهم الله ، بثقل وكسل ، وكأنه همٌ يريد أن يزيله عن كاهله ويتخلص منه.
إن الركوع والسجود ، له أثر في حياتهم ، ينهاهم هذا الركوع وهذا السجود عن الفحشاء والمنكر ، وهذا يدل على أنها ليست مجرد حركات فارغة ، كما هو حال بعض المصلين ، الذين يصلون من جهة ، وهم غارقون في معاصيهم ومنكراتهم جهة أخرى.
فانظر أخي المسلم من أي القسمين أنت تجاه ركوعك وسجودك؟ هل أنت من المكثرين أم المقلين؟ هل أنت من الخاشعين أم الغافلين؟ إذا أردت أن تكون مع أولئك النفر.
أيها المسلمون: أنبه على قضية ولا أطيل فيها لأنه قد سبق الكلام عليه مراراً ، لكن وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، لا يزال يا عباد الله عدد من يجلسون في بيوتهم من المسلمين أضعاف أضعاف أضعاف من يحضرون إلى المساجد.
فاتقوا الله أيها المسلمون. إلى متى لا نرجع إلى الله ، إلى متى ونحن مقصرون في أهم وأعظم ركن وشعيرة في ديننا بعد الشهادتين. أما يكفينا ما حصل لنا. كل هذه الصفات في وجوهنا ، ولم ينفع إلى الآن ، كل هذه الضربات فوق رؤوسنا ولم يفد حتى الآن.
فاتقوا الله أيها المسلمون في أنفسكم ، واتقوا الله فيمن أنتم مسئولون عنهم.
تفتح أبواب المساجد في كل فرض ولا يأتي إلا القليل ينتظر المصلين في الفجر إلى آخر الوقت ، ثم يُصلى بكسرة صف ، تسأل أين المصلين أين المسلمين. كل متلحف في فراشه. والغالب يقضيها بعد طلوع الشمس. أسألكم ، هل هذه حال ترضي الله عز وجل. أنت لو أمرت ولدك بأمر ، ثم لم يسمع كلامك ، ماذا تفعل معه ، لا شك أنت تعاقبه ، ولا تعطيه مصروفه ، أقل الأحوال أنك تغضب عليه. هذا حالنا مع الله عز وجل، ولله المثل الأعلى. يأمرنا ولا نطيع ، ينهانا ولا ننتهي.
لا نريد أن ندخل في تفاصيل الأمور التي نفعلها. والمخالفات التي نرتكبها ، إنما كلمتنا ونصيحتنا عن الصلاة فقط.
أيها الأخوة: إلى متى لا نحافظ على الصلاة ، إلى متى وتبقى مساجد المسلمين تشكو إلى الله عز وجل خصوصاً صلاة الفجر. كل هذه الآيات والنذر التي تمر فوق رؤوسنا لا تستحق أن نؤدي شكرها ، أقل ما نقدمه لله أن نحافظ على الصلاة؟ والله إنها لآية عظيمة من آيات الله ، هذا الذي حصل قبل أيام ، لكن لن يتعظ ويعتبر. يأتي قدر الله عز وجل ، ثم يسقط في أرض المسلمين ، ولا يختار إلا فئة أرادهم الله عز وجل ، اختارهم لذلك. وهناك حولهم من لم يصبه شيء. تخيل يا أخي لو تقدم هذا الذي سقط عدة أمتار ، أو تأخر عدة أمتار ، ثم سقط عليك وأهلكك أنت وأولادك وزوجتك وجيرانك. والله إنها لآية عظيمة تستحق لوحدها خطبة كاملة لما فيها من المؤشرات. و|ن هناك جنود لله عز وجل لو صدق المسلمون مع الله لسخرها لهم. ولا يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر.
فنقول ألا تستحق هذه النعمة وغيرها كثير كثير أن تؤدي شكرها يا عبد الله ، وتقبل على ربك وتحافظ على صلاتك. وإلا فنخشى والله أن يصيبنا ما أصاب غيرنا ، أو ينطبق علينا قوله تعالى: وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب.
اللهم أرنا الحق حقا.
(1/1220)
إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/1/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من هم المتقون. 2- الفرق بين المتقين والدهماء أنهم إذا ذكروا وتذكروا. 3- طمس
الشيطان على البصيرة. 4- العاصم من الشيطان الالتجاء إلى الله والعمل الصالح. 5- الرجوع
إلى الحق. 6- طواف الشيطان وبحثه عن باب يلج منه. 7- طائف الشيطان أنواع مختلفة
وأساليب متنوعة. 8- ما الذي يتذكره المؤمنون المتقون. 9- المعركة مع الشيطان مستمرة حتى
الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: إن الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذاهم مبصرون. فهذه عشرة نقاط أوسمها خواطر سجلت وقيدت حول آية الأعراف إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
أولاً: هذه الآية تتحدث عن حالة معينة تحصل لأهل التقوى إن الذين اتقوا.
إذن فهي ليست حديثا عن أهل المخدرات، والإجرام، وليست حديثا عن الصف المنافق بين صفوف المؤمنين، وليست حديثا عن اليهود ولا النصارى ولا العلمانيين، إنما هي حديث عن المتقين.
إنها حديث عن أولئك الذين يعملون بطاعة الله على نور من الله يرجون ثواب الله ويتركون معصية الله على نور من الله يخافون عقاب الله.
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً
إن هؤلاء المتقين الذين يخافون من الجليل، ويعملون بالتنزيل، ويقنعون بالقليل ويستعدون ليوم الرحيل، هؤلاء يقرر المولى جل وتعالى أنهم قد يمسهم طائف من الشيطان.
إن أهل التقوى قد يخدعون وقد يقعون في شراك الشيطان في بعض القضايا وبعض الجوانب، فإذا كان الأمر كذلك فها هنا أمران:
الأول: لا تغتر أيها لأخ الكريم بالتزامك، ولا تغترر يا عبد الله بمحافظتك على الصلوات كلها مع جماعة المسلمين، ولا أنك تعتمر في كل رمضان، ولا تغتر أيها الشاب بأنك من شباب الصحوة، أو بأن لك مساهمات ومشاركات في هذا المجال أو ذلك المجال، أو بأنك داعية إلى الله عز وجل، أو بغيرها من صالح الأعمال التي يقدمها المسلم.
لاشك بأن هؤلاء إلى خير وهم أفضل من غيرهم وقد يكونون في كثير من الأحيان هم صفوة المجتمع، لكن كل هذا لا يمنع أنهم قد يمسهم طائف من الشيطان، فالإنسان إذا كان على خير وهدى فإنه قد تأتيه فترات ضعف، فيغلبه شيطانه ويوقعه في بعض ما لا يرضي الله، وهذا الذي قد وقع فيه قد لا يكون فعل محرم، بل قد يكون ترك واجب أو نحو ذلك، فتأمل يا عبد الله.
الأمر الثاني: إنه إذا كان هذا المتقي الورع الداعية قد يمسه طائف من الشيطان فما بال من دونه، كيف يكون حال من لا يحضر الجماعات إلا الجمع، وما بال من لا يعرف صحبة الأخيار، وما بال من يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في كثير من أعمال الخير، إن كل هؤلاء لا شك أنهم أقرب إلى الشيطان من غيرهم، فاحذر يا عبد الله فإنك على خطر عظيم.
ثانياً: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا تذكروا.
إن شأن المتقين أنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا، وهذا هو الفرق بينهم وبين غيرهم من عوام الناس ودهمائهم، الفرق هو أن المتقين إذا زلوا أو اخطأوا أو وقعوا تذكروا ورجعوا، إنهم لا يستمرون في المعصية والخطأ، بل بمجرد التذكر يكون الرجوع والإنابة والاستغفار.
أما غيرهم فالله المستعان يعبون من الحرام، وكأنهم يشربون كأس الماء البارد في حر الصيف، ليس المتقي ذلك الذي لا يزل أبدا، ولا يخطأ ولا يقصر، لكن المتقي من إذا زل رجع، وإذا أخطأ تذكر، أما غيرهم فإنهم يأكلون ويشربون ويعصون ويسرقون ويظلمون وربما يخططون ويدبرون ويوقعون، ولا يرجعون ولا يعترفون ولا يرعوون، وسيعلم الذين كفروا أي منقلب ينقلبون.
ثالثاً: إن مس الشيطان يعمي ويغلق البصيرة. تأمل أخي المسلم في حال الكثيرين ممن لهم علاقة قوية مع الشيطان، تجد أن الشيطان قد أعماهم وطمس على بصائرهم وأغلق قلوبهم، حتى إن هذه الحالة يحصل للطيبين وللصالحين، بل حتى لطلاب العلم، بل ولا يستغرب أنها تحصل حتى للعلماء، تجاه نظرتهم لبعض الأمور والقضايا، تجد بأن الله قد فتح عليه أبواباً وأبواباً من العلم والمعرفة والبصيرة والتحقيق، لكن في بعض الجوانب لا يقبل ولا حتى النقاش.
وإليك مثالاً سريعا على مثل هذه الحالة تحصل لبعض الطيبين يعجز عنه الشيطان من الدخول عليه بعد محاولات ومناورات، لكنه يأتيه من ثغرة أخرى، يملي عليه شعورا وهميا بكمال زائف للمجتمع، فيحس بأنه ليس هناك دواع معقولة تقتضي التصحيح أو تستوجب التحسين، فنحن ولله الحمد أحسن من غيرنا الصلوات نصليها ولله الحمد في المساجد ونصوم رمضان، وربما نعتمر أيضا، وليس هناك محلات لبيع الخمر علانية، ولا بيوت للدعارة قياسا بغيرنا من المجتمعات.
ثم يكتفي بظواهر طفيفة من الإسلام، حتى يصل إلى درجة الشعور بالكمال، ولو لم يقر بذلك صراحة، إنه الكمال، إنه والله الكمال العقيم، الذي لا نتيجة إيجابية بعده، والذي يبقى فيه ذلك الشخص أيا كان موقعه من الإعراب، يبقى في حالة من الركون والأمن المفرط، والغرور بالموضع والحال، ليصبح بذلك ممن يأمن مكر الله، فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون. لأنها ألعوبة شيطانية كفيلة بأن تحجر الفرد وتجمده حول قناعات خاصة وأمسى وكأن ما يحمله فقط هو الصواب. وهي في الحقيقة من الطمس الشيطاني وإغلاق البصيرة والعمى.
رابعاً: ما الذي يزيل العمى والطمس وإغلاق البصيرة؟ إنه لا مزيل لها إلا التقوى، عليك أخي المسلم أن تلتمس المواطن والأعمال والأشياء التي تزيدك تقوى وترفع من نسبة التقوى لديك، من قراءة للقرآن وتعبد وتدرب على المراقبة، وصحبة للصالحين وغيرها من الأمور التي لا تخفى على مثلك. وكلما ازددت تقوى لم يجد الشيطان عليك مدخلا، سئل أحد الحكماء عن قول الله عن إبليس ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم فقيل له: ما الحكمة في أن لم يعط إبليس اثنان من ابن آدم وأعطي أربع؟ أعطى من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، من الجهات الأربع ولم يعط إبليس أن يأتيه من فوق ولا من تحت؟ فقال: لأن الأربع جهات تدخلها المشاركة في الأعمال، وفوق هو موضع نظر الرب جل جلاله إلى قلوب عباده المؤمنين وتحت، هو موضع سجود الساجدين بين يدي رب العالمين.
خامسا: فإذا هم مبصرون. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. فإذا هم مبصرون فإذا تذكروا أبصروا الحقيقة وقبلها لم يكونوا مبصرين، لكن لو أتيت إليه وناقشته في فعله وأنه على غير الجادة، لم يقتنع أنه لا يبصر، وهذه هي مشكلة أغلب الناس، وكل واحد منا يعتقد بأن عقله أرجح من غيره، كل مقتنع بتفكيره خصوصا ممن تقدمت بهم السن يصعب جدا إقناعه، بأن ما يمارس من سلوكيات أو تصورات أنها خاطئة. وهذه المشكلة موجودة حتى في صفوف الذين يعملون للإسلام، ويخدمون شريعة رب العالمين. الكل يظن بأن عقله أرجح من غير ه، لذا لا أقول هو يقبل أن يأخذ من الغير النافع والمفيد، إنه لا يقبل حتى النقاش، لأن ما لديه في حكم المسلّمات التي لا تقبل صرفا ولا عدلا ولا نقاشا ولا تحويلا ً.
إن من يعيش بهذه العقلية، سواء كان فردا أو داعية أو عالما أو جماعة، فإنه يحرم نفسه من إصلاح أخطائه من جهة، ومن جهة أخرى يحرم نفسه الاستفادة من الصواب الذي يأتي به الغير.
إن الشعور الدائم بالتقصير هو الشعور الإيجابي المثمر، إن تغير ما بالنفس من مفاهيم وتصورات خاطئة عن طريق الآخرين أيا كانوا من شأنه أن يغير ما بنا من واقع إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وفي المقابل الشعور بالكمال شعور عاطفي خاطئ، لن ينفي عنا تقصيرنا، كما أنه لا ينفي عنا تحملنا لأية مسؤولية مترتبة عليه سواء كانت دينية أو دنيوية ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به فالأمر إذن ليس بالأماني ولا بالعواطف ولا بالإحساس أني على صواب، ولا باعتقاد أن عقلي وتفكيري هو الأرجح، إنما هو الخضوع لسنة العمل والاجتهاد المنتج ضمن إطار المنهج الصحيح، وفق معتقد أهل السنة والجماعة.
بارك الله لي ولكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
النقطة السادسة ضمن تأملات هذه الآية: الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. إن مس الشيطان عمى، والتذكر والرجوع إلى الله إبصار. إن مس الشيطان ظلمة، والاتجاه إلى الله نور، إن مس الشيطان فتور ونكوص وقعود عن العمل. والتذكر عزم وجد واجتهاد وعمل.
إن مس الشيطان نهى عن المعروف وأمر بالمنكر، والتذكر أمر بمعروف ونهي عن منكر.
إن مس الشيطان إيذاء للمؤمنين، ومحاربة للأولياء المتقين.والتذكر نصرة للمؤمنين ودعوة وجهاد وبذل في سبيل رب العالمين.
إن مس الشيطان مقاومة لدينه، وملاحقة لأتباعه. والتذكر نشر لدينه وبذل في سبيله، وتحمل من أجله وانتظار لثوابه وغفرانه.
إن مس الشيطان تخويف وتثبيط وتيئيس والتذكر إقدام وشجاعة وثقة بالله.
إن مس الشيطان بُعد عن منهج الله وتعطيل لكتاب الله ومحاربة لسنة رسول الله، والتذكر دعوة إلى دين الله، ومطالبة بكتاب الله، واتباع لمنهج رسول الله.
سابعاً: طائف من الشيطان إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان الطوف والطواف والطيف بالشيء هو الاستدارة، وفي هذا إشارة إلى أن الشيطان سواء كان من شياطين الجن أو من شياطين الإنس يدور ويطوف حول هذا المتقي وحول هذا المؤمن، سواء كان فردا أو كان مجتمعا، ليجد منسما ينفذ من خلا له. لأن المؤمن فردا كان أو مجتمعا أبوابه ليست كلها مفتحة، بل الأغلب عليها الإقفال، لأنه مؤمن، ومتقي، لكن الشيطان يشم قلب المؤمن، ويتعرف على مواطن الضعف فيه ويطوف حوله، ويدرس جميع الجهات والجوانب، حتى يجد مدخلا ولو صغيرا فيدخل، فإذا دخل صار أيضا يطوف في قلب المؤمن، وأيضا في قلب المجتمع، الذي يمكن أن نسميه، دراسة لأحوال لمجتمع فينظر أو قل فينظرون ماذا يناسب من وسائل الشر والفساد والرذيلة فينشر في وقته المناسب. بدأوا بنشر الدخان وانتهُوا بالمخدرات، ولا ندري ماذا يكون بعده. بدأوا بالشاشة الصغيرة، وأغلبه كما يقال برامج دينية أو علمية، وانتهينا بعده بالدشوش التي يعرض فيها الزنا علانية أمام الصغار والكبار والنساء وقل مثل ذلك في النواحي الاجتماعية والعادات، والأخلاق، والتعاملات المالية وغيرها، تبدأ باليسير حتى تصل إلى العظائم، إذن هي عملية طائف من الشيطان ودوران حول الفرد والمجتمع ودراسة وتخطيط ثم تنفيذ وعمل.
ثامنا: طائف من الشيطان لا ينحصر في لون، فقد يكون فعل معصية، وقد يكون ترك واجب، وقد يكون عداوات بين المسلمين. وقد يكون بأن يزين الشيطان لأصحاب الملل والنحل – تحقير المخالفين – ويصور لهم طريقا إلى الحرص على طلب العلم وحب أهله – زعموا – ، ثم يبدأون بتخطئة مخالفيهم بل وتبديعهم حتى ولو كانوا علماء أجلاء، وينقضي عمر ابن آدم وهو في بحر الأماني يسبح، وفي سبيل الغواية يخوض – يعده الشيطان ويمنيه المحال – والنفس ضعيفة تتغذى بوعده، وتتلذذ بأباطيله ويفرحون كما يفرح الصبيان، لو أوذي هذا أو قطع رزق هذا، أو ضيق على أطفال هذا، والله المستعان.
تاسعا: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا. تذكروا ماذا؟ قيل تذكروا أن هذا من عدوهم الشيطان، وقيل: تذكروا ما أمر الله به وما نهى عنه، وقيل تذكروا عقاب الله لمن عصاه وثوابه لمن أطاعه، وقيل: تذكروا وعده ووعيده، والصحيح أن الآية تعمها كلها وغيرها، كما تفيده قاعدة حذف المفعول.
عاشراً: الآية واضحة من الدلالة على تنازع دواعي الخير والشر في نفس الإنسان، وأنك أخي المسلم دائما في صراع مع نفسك ومع الشيطان سواء جنيا أو إنسيا، وأن هذه المعركة لا تنتهي إلا بموت أحدكما، والشيطان قد كتب له الخلود إلى يوم يبعثون، فما بقي إلا أنت.
فتأهب أخي المسلم لهذه المعركة وكن على استعداد وحذر. وابحث عن جنود صالحين يصفُّون تحت رايتك في هذه المعركة ويعينونك على نفسك وعلى شيطانك، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
(1/1221)
إن التاريخ يكتب
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/1/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ماذا تراه يكتب التاريخ عن واقعنا المعاصر. 2- دعوة للتوبة من الذنوب التي تكتبها
الملائكة. 3- في شهر رمضان وقعت معركة بدر وفتحت مكة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لابد أن نعلم ، بأن التاريخ لا يترك شيئاً إلا سجله وسطره. هذه حقيقة لابد أن تكون واضحة في أذهاننا.
التاريخ ، سوف لا يترك شيئاً. وسيكتب التاريخ عنا كل شيء كما شاهده ورآه كما كتب تاريخ من قبلنا ، ونقله إلينا، إننا نقلب صفحات تاريخ من سبقونا ، ونتعجب من بعض ما حدث في تلك الأزمان ، من معارك وغزوات لا سبب لها ، من قيام دول وسقوط أخرى. من ظلم وعدل. من جور وإنصاف.
نقرأ في كتب التاريخ ، سير علماء ودعاة وولاة وتجار وزهاد ، سير رجال ونساء وشيوخ. وفي بعضها تتعجب وأنت تقرأ.
دولة تسقط بسبب الظلم ، وأخرى تقوم أيضاً بسبب الظلم تقرأ عن تجار قصصاً أحياناً تقف حيراناً أمامها تقرأ مواقف لعلماء تندهش من مواقفهم ، وتقرأ لعلماء مواقف معاكسة تندهش أيضاً من مواقفهم، تقرأ عن زعماء كيف كيد بهم ، وكيف قُتل بعضهم بأيدي أقرب الناس إليهم.
تقرأ عن مجاهدين.. صولات وجولات ، وتقرأ في المقابل عن وزراء وسلاطين خيانات وخذلان.
نقلب صفحات تاريخهم لنأخذ العبرة والعظة، وسيأتي بعدنا من يقلب صفحات تاريخنا. فسيرى العجب العجاب ، أيضاً ليأخذ العبرة والعظة.
يا جامعى حطب التاريخ في قلم لا تحرقون سوى الأيدى بلا حذر
هلا وعيتم دروس الأمس دامية هلا استجبتم لضم القوس للوتر
فالقلب إن يعزف الإيمان نبضته كان الجناحان ملئ السمع والبصر
أيها المؤمنون: لقد دخل علينا عام هجري جديد والجو خانق ، تظلل غمامة سوداء على ربوع هذه الأمة. وقد بدت بوادر زوالها ، وإن كان هذا الزوال الوهمي ، سوف يحمل الأمة الإسلامية تبعات كثيرة ، لكن لعل قدوم هذا الشهر ، في هذه الفترة ، يغسل ما علق في قلوبنا ، من لوثات تلك الفترة ، ويغسل عن الأمة الإسلامية دنس الذل والخضوع لغيرها من الأمم.
فيكون في هذا الصيام ، تجديد عهد مع الله ، واستنشاق لنسائم الإيمان ، وبعث في الروح قوة صادقة وعزيمة مخلصة.
أيها المسلمون: إنني أسأل نفسي كثيراً ، ماذا سيكتب التاريخ عن هذا الشهر ، هل سيسجل انتصارات للمسلمين حققوها. أم سيسجل فتوحات للجيوش الإسلامية وهي تفتح أراضي الكفار ، تنشر دين الله في كل مكان أم سيسجل التاريخ بداية تفرق الكلمة ، وبداية التنازع من جديد وتشتت القوى الإسلامية وإشعال نار الحقد والحسد والتباغض ، على جميع المستويات.
أسأل نفسي وأسألكم. هل سيكتب التاريخ عن هذه المرحلة ، التحام المسلمين ، ووقوفهم صفاً إلى صف ، وجنباً إلى جنب ، ضد أعدائهم لتكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى.
أم أن التاريخ سيكتب وقوف بعض صفوف المسلمين بجانب الكفار ضد إخوانهم المسلمين وإشعال ملحمة دموية ، وهتك للأعراض ، وسلب للأموال ، وانتهاك للحرمات ، وظلم وعدوان على المسلمين بأيدي المسلمين. يقتل بعضهم بعضا ، ويسبى بعضهم بعضا.
أيها المسلمون: هل سيكتب التاريخ صفحات بيضاء لأمتنا وهي تقاوم المنكرات وتنشر المعروف وتقاوم الرذيلة. أم سيكتب التاريخ بأن أخزى مرحلة من عمر الأمة في نشر الرذيلة والترويج للنساء وقلة الحياء ، وتفسخ النساء ، وكثرة الديوثين هي هذه المرحلة.
هل سيكتب التاريخ بأن هذه المرحلة كانت فترة ازدهار للعلم وتأليف للمؤلفات ونشر الكتب وفترة علمية لطلاب العلم وبث للتصورات الصحيحه والعقائد السليمة. أم أن التاريخ سيكتب عكس ذلك.
بل وسيكتب أنها مرحلة كتبت فيها كتابات في الردة والكفر والعلمنة والخلاعة ونشرها الناعقون بين الناس باسم العصرنة وباسم التجديد والتطور وغيرها من العبارات الرنانة.
هل سيكتب التاريخ مواقف بطولية ، ومواقف شجاعة ، لعلماء الأمة ، والدعاة وطلاب العلم ، حيث كان لهم دور بارز ، في نصح الأمة ، والصدع بكلمة الحق التي لم يسمعها كثير من المسلمين حتى الآن.
وكان لهم دور في إيضاح المنهج الصحيح ، منهج أهل السنة والجماعة ، وصدق فيهم قول الشاعر ، الذي كان يصف العلماء الأفذاذ ، الذين كانت لهم مواقف يشهدها التاريخ لهم ، تجاه القضايا التي كانت تمر في عصرهم فيقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داراهمُ هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أُكرما
ولم أقضِ حق العلم إن كان كل ما بدا طمع صيرته ليّ سلما
أأشقى به غرساً أو أزينه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكنهم أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أم أن التاريخ سيكتب عن مواقف معاكسة بعض العلماء ، حيث كانت لهم مواقف مؤلمة ، ومع الأسف لم يكونوا على مستوى الأحداث، وفي المقابل كان البعض منهم يصفق وراء كل ناعق ، ويرد ما يقوله غيره دون وعي بالواقع الذي يعيش فيه. فاتبعتهم العامة في أقوالهم ، وساروا وراءهم.
وعظموا بعض الشخصيات ، تبعاً لما قاله العلماء في بلادهم. وصار حال كثير من المسلمين ، في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي ، أنها تعظم أصناماً. لكن أصناماً من لحم ودم ، وليست أصناماً من حجر.
هرعنا نصنع الأوثان لحماً وكانت عندهم حجراً وطينا
نأله كل سلطان منيع تربع فوق هامتنا سنيناً
وليس العيب في الأصنام إنا أقمناها فكنا الظالمينا
وصار لكل إنسان إله بداخله يقود له السفينا
أيها المسلمون، في الوقت الذي يسطر التاريخ كل هذه الأحداث يكتب كل شيء. وسيظهر بعد زمن كثير من الأمور هي خافية اليوم.
أقول في الوقت الذي يرصد التاريخ هذه الأحداث ويكتب كل شيء. اعلموا رحمكم الله. أن هناك كتب آخر ، غير كتابة التاريخ.
وهو كتابة الملائكة. فإنه ما من إنسان إلا وعليه ملكان ، يكتبان كل ما هو فاعل إلى يوم القيامة. كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون عن اليمين وعن الشمال قعيد. وكتابة الملك ليست ككتابة التاريخ. والمحاسبة التي تكون من كتابة الملك ليست كالمحاسبة من كتابة التاريخ.
فإننا أيها الأخوة: من هذا المكان وفي هذا اليوم العظيم ، وفي وسط هذا الشهر الكريم نناشد كل مسلم أياً كان مكانه ، وفي أية جهة كان، وفي أي المستويات جعل نفسه. أن يرجع عما سلف ويستغل هذا الشهر، ويجعله شهر توبة مما سلف.
فكل من حصل منه زلة لسان ، أياً كانت هذه الزلة ، سواء كانت في حق عالم ، وفي حق شعب ، أو في حق مظلومين أبرياء ، أو مظلومين.
كذلك من حصلت منه خيانة ، أياً كانت هذه الخيانة ، وفي أي مستوى كان. فليستغل عمره قبل أن ينقضي، وليستغل الشهر ويجعلها شهر توبة. لأن الخيانات اليوم. سوف تظهر غداً.
وقد سجل التاريخ تلك الخيانة ، وسجل الملك أيضاً تلك الخيانة. ربما كتابة التاريخ لا تمحى ولن تزال ، وليس بمقدور الإنسان أن يمحو أو يغير ما كتبه التاريخ ، لكن بإمكانه أن يمحو ما كتبه الملك. بتوبة صادقة مخلصة. ورد حقوق الناس. إذا كان في ذمته لغيره حق.
اللهم ارزقنا توبة صادقة مخلصة.
واجعل شهرنا هذا شهر توبة. ولا تمتنا إلا وأنت راضٍ عنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: لقد سجل التاريخ لأسلافنا في رمضان فتوحات وانتصارات عظيمة. لقد كان شهر رمضان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح هو شهر الجهاد. فإن أعظم معركتين على سبيل المثال في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانتا في شهر رمضان الكريم.
أولاهما: معركة بدر الكبرى التي كانت فرقاناً فرق الله تعالى به بين عهد الذل والاستضعاف وعهد العزة والتمكين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولأنها كانت فرقاناً وفيصلاً ومنعطفاً خطيراً في مسيرة الدعوة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يرفع يديه إلى السماء ويبتهل إلى الله عز وجل حتى سقط رداؤه عن منكبيه وهو يقول: ((اللهم نصرك الذي وعدتني ، اللهم نصرك الذي وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض)) فنصر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم نصراً مؤزراً في تلك المعركة الحاسمة. ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون.
ولقد أجاد الشاعر وهو يصف غزوة بدر فيقول:
أتطفئ نور الله نفخة كافر تعالى الذي بالكبرياء تفردا
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
هنالك التقى الجمعان جمع يقوده غرور أبي جهل كهرٍ تأسدا
وجمع عليه من هداه مهابةُ وحاديه بالآيات بالصبر قد حدا
وشمر خير الخلق عن ساعد الفدا وهز على رأس الطغاة المهندا
وجبريل في الأفق القريب مكبرٌ ليلقى الوغى والرعب في أنفس العدا
وسرعان ما فرت قريش بجمعها جريحة كبر قد طغى فتبددا
ينوء بها ثقل الغرام وهمه وتجرحها أسرى تريد له الفدا
وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى وداسته أقدام الحفاة بما اعتدى
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سدى
المعركة الثانية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هي فتح مكة ، وهي أيضاً من أخطر وأهم المعارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن مكة كانت مركز الجزيرة العربية ومكان الحج والعمرة ومهوى أفئدة الناس في كل مكان.
وكانت الوثنية تسيطر عليها على مدى ثماني سنوات بعد هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، حتى لقد منع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية من دخولها وأداء العمرة ، فلما دخلها فاتحاً في السنة الثامنة ، دانت له الجزيرة كلها، ولهذا جاءت الوفود في السنة التالية مباشرة من أنحاء الجزيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام. ولذلك يصح أن يقال أن فتح مكة هو الوقت الذي زالت فيه غربة الإسلام وأصبح عزيزاً في أرجاء الجزيرة العربية وسقطت سلطة الوثنية فيها.
والتاريخ الإسلامي ، ملئ بالمعارك العظيمة والانتصارات الكبيرة التي كانت في رمضان ، ومنها أيضاً مثلاً معركة عين جالوت ، التي نصر الله فيها المسلمين بقيادة المماليك على النصارى الصليبيين ، فانكسرت شوكتهم ، وانحسر مدّهم ولم تقم لهم بعدها قائمة.
فنسأل الله عز وجل ، أن يجعل من رمضاننا هذا أيضاً ، انكساراً لشوكة الصليبيين الحاقدين ، وانحساراً لمدهم ، وأن لا تقم لهم قائمة. وأن يسجل التاريخ توبة نصوحة صادقة على مستوى الأمة ، وأن ترجع الأمة كلها إلى ربها لكي يحقق الله على يديها نصره الذي وعدها به ، إذا هي قامت ونصرت دين الله.
إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.
اللهم إنا نسألك نصرك لجندك وأوليائك وعبادك الصالحين.
الله أعز الإسلام.
(1/1222)
أضرار المعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/11/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخطأ والزلل من جبلة البشر وطبيعتهم. 2- كلنا يخطئ ولكن منا من يحب المعصية ومن
يبغضها. 3- المعاصي سبب المصائب والشقاء والعذاب. 4- المعاصي محق للبركة والرزق
والجاه. 5- خطورة احتقار المعاصي والتهاون فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرمه واصطفاه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وأودع في النفس البشرية خلالاً وصفاتٍ، وسجايا وطبيعاتٍ، ومن تلك السجايا والصفات التي فُطرت عليها النفس البشرية: طبيعة التقصير والخطأ، والإنحراف والهوى، فالمعصية طبعٌ جبلّي وخلق بشري، متى ما كان الوقوع فيها بدافع الشهوة والشبهة، دون محبةٍ أو رغبة، مع كره القلب لها، ونفور النفس منها.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى واتصافه بصفات المغفرة والرحمة أن يقع العباد في الذنوب والآثام، ثم يرجعون إلى الله مقبلين تائبين فيغفر لهم ويتجاوز عنهم بمنّه وكرمه، ولو شاء الله لآمن من في الأرض أجمعين ولهدى الناس كلهم، لكن حكمته اقتضت أن يملأ الجنة والنار من خلقه.
ما للعباد عليه حقٌ واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضائع
إن عُذّبوا فبعدله أو نُعّموا فبفضله وهو الكريم الواسع
عباد الله: من ذا الذي لم تصدر منه زلّة؟ ومن الذي لم يقع منه هفوة؟ ومن لم يقع في معصية؟ وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) [رواه مسلم في صحيحه].
وروى الترمذي وابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بني آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون)). فأيّ نفس يا عباد الله غير نفوس الأنبياء المعصومة ترتقي إلى درجةٍ ومنزلةٍ لا تدركها كبوة، ولا تغلبها شهوة. ولكن المؤمن الصادق في إيمانه مع ذلك كله يدرك خطورة المعصية وشناعتها وأنها جرأةٌ على مولاه، فإذا وقع فيها تحت ضعف بشري واقعها مواقعة ذليل خائف يتمنى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلص من شؤم المعصية.
أيها المسلمون: إن الواقعون في المعاصي أحد رجلين:
إما رجلٌ يقع في المعصية حباً لها وشغفاً بها، تتحكم المعصية في قلبه وتسطو على تفكيره، حتى يسعى بكل جوارحه للوقوع فيها، وقد يبذل مالاً أو جاهاً حتى يقع فيها، فإذا حال بينه وبين الوقوع فيها حائل أخذته الحسرات وعصره الندم على أنه لم يتمكن من فعلها، كل ذلك دون رادعٍ من دين أو خلق أو ضمير، فلا يفكر بالتوبة ولا يقيم لها وزناً، فهذا وأمثاله لا تزال خطواته تقوده من معصية إلى أخرى ومن صغيرة إلى كبيرة حتى تكبّه على وجهه في النار عياذاً بالله. هذا هو الرجل الأول.
وأما الآخر فهو يبغض المعصية ويُقبل على الطاعة، لكنه تأخذه في لحظةٍ من اللحظات حالة ضعف بشري، فيواقع المعصية أياً كانت، وما إن يفارقها حتى يلتهب فؤاده ندماً وحسرةً وخوفاً ووجلاً من الله تعالى، فيحتقر نفسه ويمقتها ثم يتجه إلى الله طارقاً بابه راجياً عفوه وغفرانه، فهذا وأمثاله ممن قال الله فيهم والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلى الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون. ولقد صوّر ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن مع المعصية تصويراً بليغاً دقيقاً فقال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرّ على أنفه فقال به بيده فطار). قال المحب الطبري رحمه الله تعالى: (وإنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته وسخطه، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قلّ خوفه من الله واستهان بالمعصية).
أيها المسلمون: المعاصي سببُ كل عناء، وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجى من نجى وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، فإن ما أصاب الناس من ضُرّ وضيق في كل مجال من المجالات فردياً كان أو جماعياً إنما بسبب معاصيهم وإهمالهم لأوامر الله عز وجل، ونسيانهم شريعته.
وصدق الله سبحانه إذ يقول: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وكتاب الله تعالى خير شاهد، فقد عمّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقُلبت قرى قوم لوط عليهم فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
أيها المسلمون: وحين طغت على كثير من الناس النظرة المادية فضعف عندهم ربط الأسباب بمسبباتها وغفلوا عن إدراك سنن الله الكونية وآياته الظاهرة، يؤازر ذلك ويساعده تتابع الفتن والشهوات على الناس، صُدّوا عن السبيل، ووقعوا في المعاصي دون أدنى رقيب أو محاسبة.
نعم عباد الله! لقد انتشرت الفواحش، وعمّت المنكرات، واستبيحت المحرمات، ووقع الناس في الذنوب والموبقات، لمّا غاب عنهم الرقيب وضعف في نفوسهم الإيمان، فهانوا على الله فلم يبال بهم في أيّ أوديته هلكوا. ذُكر للحسن البصري رحمه الله أن قوماً وقعوا في المعاصي فقال: "هانوا على الله فعصوه ولو عزّوا عليه لعصمهم".
نعم أيها الإخوة! لقد وقع الناس في المعاصي والذنوب لمّا استحكمت الغفلة من القلوب، وران حب الدنيا على النفوس فأمنت مكر الله.
عباد الله: المعاصي مزيلة للنعم، جالبة للنقم، مؤدية إلى الهلاك والدمار، فقد روى ابن ماجة وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
أيها المسلمون: إن أضرار المعاصي وشؤم الذنوب عظيمٌ وخطير، فهي موجبةٌ للذل والحرمان، جالبة للصد عن سبيل الرحمن، تفسد القلوب، وتورث الهوان، وتوجب اللعنة من الله ومن رسوله، تزيل النعم، وتجلب النقم، وتلقي الرعب والخوف في القلوب، تعمي البصيرة، وتسقط الكرامة، توجب القطيعة وتمحق البركة، ما لم يتب العبد منها ويرجع إلى الله تعالى خائفاً وجلاً تائباً طائعاً، قال ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر تقول: هذا بشؤم معصية بني آدم".
اعلموا رحمني الله وإياكم أن للمعصية ظلمة يجدها العاصي في قلبه لا يبددها ويجلوها إلا التوبة إلى الله تعالى والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق وقوة في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق". قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). رواه الإمام أحمد.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".
إن للمعاصي أيها المسلمون من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمها إلا الله، من حرمان للرزق، ووحشة يجدها العاصي بينه وبين الناس وبينه وبين الله، ومِن تعسّر الأمور عليه، وحرمان التوفيق والظلمة في القلب، وحرمان الطاعة، ونقص في العمر، ومحق للبركة، وأعز من ذلك كله نقص العلم وحرمانه، قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم: بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
وكذا هوان العبد على ربه، وسقوطه من عينيه ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء. ووقوع العاصي في الذل والمهانة، لأن العز كله في طاعة الله. قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
بارك الله لي..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن المعاصي إنما تُحارب بطاعة الله تعالى ومراقبته والخوف منه، واستعظام الذنوب والتوبة منها عند الوقوع فيها قال الله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
عباد الله: إن استعظام الذنب يتولد منه لدى صاحبه استغفار وندم وتوبة وإلحاحٌ على الله عز وجل بالدعاء وسؤاله سبحانه أن يخلصه من شؤمه ووباله، وما يلبث ذلك أن يولد لدى الانسان دافعاً قوياً يمكّنه من الانتصار على الشهوات والسيطرة على الهوى.
أما أولئك الذين يحتقرون الذنوب فقد يشعر أحدهم بالندم ويعزم على التوبة، لكنها عزيمة باردة ضعيفة سرعان ما تنهار مرةً أخرى أمام دواعي المعصية.
قال بعض السلف: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت". روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنّا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات". وروى ابن أبي عاصم عن حذيفة رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المجلس الواحد أربع مرات".
إن المسلم ليقف أمام هذه الآثار متسائلاً: ماذا عسى خير القرون أن تقول أو تفعل من أفعال تعدّ من الموبقات إذا ما قورنت بما نقع فيه يا عباد الله من الجرائم العظام والذنوب الكبار التي لا نبالي بها والله المستعان.
إن احتقار الذنوب معاشر الإخوة والتهاون بها أمر خطير، فقد روى الإمام أحمد والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنهنّ يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لهنّ مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها)). وهذا تشبيه بليغ من أفصح الناس صلى الله عليه وسلم لشؤم المعصية وخطرها على العبد وهو لا يبالي بها، فالعود لا يصنع شيئاً، والثاني كذلك لكنها حين تجتمع تصبح حطباً يُشعل النار ويأكل الحسنات.
ورحم الله ابن المعتز حين قال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ كبيرةً إن الجبال من الحصى
أيها المسلمون: وبقدر ما يصغر الذنب عند العاصي بقدر ما يعظُم عند الله، وبقدر ما يعظم عند العاصي يصغر عند الله. فكم يا عباد الله من كلمة لا نلقي لها بالاً يهوي بها الواحد منا في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، سخريةً بمسلم أو همزٍ له أو وقوع في عرضه أو كلمة غير صادقة، وكم من تقصير في واجبٍ لا نعبأ به وارتكاب لمحرم لا نتورع عنه، وهكذا تتراكم علينا الذنوب وبعد ذلك نسأل! لماذا تقسو القلوب؟ ولماذا تُظلم النفوس وتضيق الصدور؟ ولماذا ندعو فلا يستجاب لنا ونسألُ فلا نعطى ونستغفر فلا يغفر لنا؟
نحن ندعو الإله في كلّ كربٍ ثم ننساه عند كشف الكروبِ
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سددنا طريقه بالذنوبِ
وأخيراً: إياك ثم إياك يا عبدالله إن وقع منك شيء بالمجاهرة بالمعصية فبتّ وقد سترك الله، فتصبح تكشف ستر الله عليك، فهذا أيها الأحبة إثمه أعظم من إثم المعصية وخطره أكبر وعقابه أشد، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلاّ المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه)) [رواه البخاري ومسلم].
فاتقوا الله عباد الله واحذروا المعاصي صغيرها وكبيرها، وعليكم بملازمة الاستغفار والتوبة فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، وبعدها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات..
أيها المسلمون: سيقوم مركز الدعوة والإرشاد بالجمع في هذه الجمعة لصالح شعبة الجاليات التابعة لمحافظة الخبر. وفق الله الجميع.
اللهم صلي على محمد..
(1/1223)
التذكير بالنار
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/1/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شيء مما جاء في القرآن عن النار وخزنتها واتساعها وأبوابها وكلامها. 2- النار مصير
أكثر العالمين. 3- ذنوب مصيرها الكفر (الشرك – أكل أموال الناس بالباطل – الربا – عدم
دفع الزكاة – الغفلة – الإجرام – الفسق – قطع شجرة السدر في الحرم – تعلم العلم للدنيا).
4- صفة العذاب في النار. 5- الأمور المنجية من عذاب النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى ، واتقوا غضبه، واتقوا عذابه وعقابه، ومن أعظم عقوبات الله وعذابه نار جهنم أجارنا الله وإياكم منها. فاتقوا نار جهنم ، اتقوا هذه النار بكل ما تستطيعون ، وبكل ما تملكون ، يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة. هل تعلمون أيها الأخوة ما هي النار؟ لاشك أنكم تعلمون ، لكن أضيفوا إلى علمكم ، واتعظوا لما يقال لكم ، بأن النار هي الدار التي أعدها الله للكافرين ، المتمردين على شرعه ، المكذبين لرسله، وهي عذابه الذي يعذب فيه أعداءه ، وسجنه الذي يسجن فيه المجرمين ، وهي الخزي الأكبر ، والخسران العظيم ، الذي لا خزي فوقه ، ولا خسران أعظم منه ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. وكيف لا تكون النار كما وصفنا ، وفيها من العذاب والآلام والأحزان ، ما تعجز عن تسطيره الأقلام وعن وصفه اللسان إنها ساءت مستقراً ومقاماً هذا وإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد.
عباد الله: يقوم على النار ملائكة ، خلقهم عظيم ، وبأسهم شديد ، لا يعصون الله الذي خلقهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وعددهم تسعة عشر ملكاً ، كما قال تعالى: سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر.
النار يا عباد الله ، شاسعة واسعة ، بعيد قعرها ، مترامية أطرافها ، الذين يدخلونها أعداد لا تحصى.الذين يدخلونها يكون ضرس الواحد منهم في النار مثل جبل أحد ، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام.ومع ذلك فإنها تستوعب هذه الأعداد الهائلة التي وجدت على امتداد الحياة الدنيا ، من الكفرة والمجرمين ، ويبقى فيها متسع لغيرهم.روى البخاري ومسلم ، حديث أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، وينزوي بعضها إلى بعض ، فتقول: قطٍ قط ، بعزتك وكرمك)) ومما يدل على بعد قعرها أن الحجر كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم ، أنه يهوى سبعين سنة ، حتى يصل إلى قعرها ، يؤتى بجهنم يا عباد الله ولها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها.فتخيلوا رحمكم الله ، عظم هذه النار ، الذي احتاج إلى هذا العدد الهائل من الملائكة الأشداء الأقوياء ، الذين لا يعلم مدى قولهم إلا الله تبارك وتعالى.
النار يا عباد الله لها سبعة أبواب ، وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ، قال ابن كثير: أي قد كتب لكل باب منها جزء ، من أتباع إبليس ، يدخلونه لا محيد لهم عنه ، أجارنا الله منها ، وكل يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر في درك بحسب عمله وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين.
هل تعلمون أن نار جهنم تتكلم وتبصر ، قال تعالى: إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج يوم القيامة ، عنق من النار ، لها عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق ، تقول :إني وكلت بثلاثة:بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر ، وبالمصورين)) [رواه الترمذي].
عباد الله: جاءت نصوص الكتاب والسنة تقرر حقيقة خطيرة مهمة، إذا لم يحسب لها الإنسان حساباً دقيقاً ، فقد يكون من الخاسرين ، هذه الحقيقة هو أن الكثرة من بني آدم يدخل النار ، والقلة تدخل الجنة قال الله تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وقال تعالى: ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين وقال الحق تبارك وتعالى: لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.
والسبب في ذلك أيها الأخوة اتباع الشهوات ، ذلك أن حب الشهوات مغروس في أعماق النفس الإنسانية ، وكثير من الناس يريد الوصول إلى هذه الشهوات ، عن الطريقة التي تهواها نفسه ويحبها قلبه ، ولا يراعى في ذلك شرع الله ، يقول عليه الصلاة والسلام: ((حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره)). فاتقوا الله أيها المسلمون ، خافوا على أنفسكم من النار لا تعرضوا أنفسكم لعذاب الله وسخطه ، والسبب شهواتكم.
أيها الأحبة في الله : هناك ذنوب كثيرة ، وانتبهوا يرحمكم الله لما يقال ، وخلصوا أنفسكم من بعض ما سيذكر لو كنتم واقعين في بعضها - هناك ذنوب متوعدٌ صاحبها بالنار، وهناك ما هو متحقق دخوله نار جهنم والعياذ بالله نذكر بعضها: أولها وفي مقدمتها ، الكفر والشرك بالله جل وعلا قال تعالى: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، وقال جل وعلا: قال من كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير وقال عن الشرك: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.
ومن ما توعد صاحبه بالنار النفاق إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً ، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم. ومن الذنوب الكبر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى: "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار)).
ومن الذنوب والكبائر التي توعد صاحبها بالنار ، وهي بلية هذا الزمان ومصيبتها العظمى الربا الربا. قال الله تعالى في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له: ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون واتقوا النار التي أعدت للكافرين.
ومن الذنوب أيضاً:أكل أموال الناس بالباطل ، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً.
ومن الذنوب عدم دفع الزكاة والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون.
ومما قد يدخل النار ، الغفلة عن الآخرة والرضا والاطمئنان بالدنيا إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ، من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ومما توعد صاحبه بالنار الركون والميل إلى الظلمة ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون.
الإجرام بكل صوره وأشكاله من الذنوب التي توعد صاحبه بالنار وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ، ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ، إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر.
فليفكر كل مجرم في حاله وليتذكر هذه الآيات خصوصاً إذا كان إجرامه في حق غيره.
ومما يتوعد صاحبه بالنار ، استبدال نعمة الله بالكفر ، بل والزام القوم والشعب بذلك قال تعالى: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار.
ومما قد يوجب النار الفسق ، بكل أنواعه ودرجاته: أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.
ومما توعد صاحبه بالنار معصية الله ورسوله قال: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً ، ومن يعصي الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين.
ومما توعد صاحبه بالنار والعياذ بالله إضاعة الصلوات وعدم الاهتمام بها، وهذا لا يكون إلا عن طريق اتباع الشهوات ، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا.
ومن الذنوب التي يستحق فاعلها النار ، والتي قد تكون مستغربة لديكم ، الذي يقطع شجرة السدر ، الذي يستظل به الناس ، عن عبد الله بن حبيش قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قطع سدرة ، صَوّب الله رأسه في النار)) [رواه أبو داود].
وعن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الذين يقطعون السدر ، يصبون في النار على رؤوسهم صبا)) ، هذا الذي يقطع ظل شجرة ينتفع الناس بها فكيف بالذي يقطع ظل الشريعة.
ومن الأمور أيضاً يا عباد الله ، المتوعد صاحبها بأن يعذب بسببه في نار جهنم ، وهذا خاص بطلاب العلم ، وهو عدم الإخلاص في طلب العلم.
عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا ، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) -يعني ريحها-رواه ابن داود والحاكم.و عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا تماروا به السفهاء ، ولا تخيروا به المجالس ، من فعل ذلك فالنار النار)) [رواه ابن ماجه وابن حبان].
أيها المسلمون: إن أهل النار ليسوا على درجة واحدة من العذاب ، فهم يتفاوتون ، وكل بحسب ما قدم من الأعمال. يقول عليه الصلاة والسلام ، فيما رواه مسلم في صحيحه فقال في أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته)). وكذلك يا عباد الله فليس كل أحد يعذب كالآخر ، وأيضاً فصور العذاب تختلف.
فمن المعذبين في جهنم ، أجارنا الله وإياكم منها من يحرق جلده ، وكلما احترقت بُدّل بجلد غيره ليحترق من جديد ، وهكذا دواليك. إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً ومن الناس من يصب الحميم فوق رأسه ، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره ، فلشدة حره تذوب أمعاءه فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود.
ومن الناس من يأتيه العذاب عن طريق وجهه ، وأكرم ما في الإنسان وجهه ، ولذلك نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه ، ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة ، على وجوههم عمياً وصماً وبكما ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصما ، مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ، ويلقون في النار على وجوههم ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ثم إن النار تلفح وجوههم ، وتغشاها أبدا ، لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ، أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة.
وانظروا يا عباد الله إلى هذا المنظر ، الذي تقشعر لهوله الأبدان ، وهو قول الله عز وجل: يوم نقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، أرأيتم كيف يقلب اللحم على النار ، كذلك تقلب وجوههم في النار نعوذ بالله من عذاب أهل النار ومن الناس من يسحب في النار إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر الذي يزيد في العذاب أنهم حال سحبهم في النار ، يكونون مقيدين بالقيود والأغلال والسلاسل فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون.
ومن الناس من يسود وجهه في النار ، بفعله السيئات في الدنيا والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
نسأل الله عز وجل أن..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عباد الله: لعله من المناسب بعد أن سمع الإنسان ما سبق ، أن يدور في خلده ويسأل ، كيف يتقي الإنسان نار الله ، ما هي الأعمال التي تنجي الإنسان من هذه النار ، فنقول بأنها كثيرة ، لكن تذكر منها: محبة الله عز وجل ، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((والله لا يلقى حبيبه في النار)).
ومن الأعمال أيضاً ، مخافة الله:"ولمن خاف مقام ربه جنتان"وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يلج النار من بكى من خشية الله ، حتى يعود اللبن في الضرع".
ومن الأعمال أيضاً:الجهاد في سبيل الله ، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار)) ومن الأعمال أيضاً الصوم: ورمضان الآن على الأبواب أيها الأخوة: فإنها والله فرصة لمن يوفقه الله عز وجل ، ويستغل شهره لتخليص نفسه من عذاب الله ، يقول عليه الصلاة: ((الصوم جنة من عذاب الله)) وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: الصيام جنة ، يستجن بها من النار)) والجنة أي وقاية. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام يوماً في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)).
فاتقوا الله عباد الله ، جنبوا أنفسكم هذه النار ، فإنها والله نار محرقة ، وقد أجاد من قال: ومن الأعمال الصلاة ، الذكر ، القرآن ، الدعوة ، صلة الرحم ، الأمر بالمعروف ، النهي عن المنكر ، طلب العلم.
وعن مقاساة ما يلقون في النار
خوفاً من النار قد ذابت على النار
فيسحبون بها سحباً على النار
وفي الفرار ولا فرار في النار
إليهم خُلقت من خالص النار
من العذاب ومن غلي على النار
من ارتقاء جبال النار في النار
صُبوا بعنف إلى أسافل النار
ماءٌ صديدٌ ولا تسويغ في النار
ترمي بأمعائهم رمياً على النار
بئس الشراب شرابُ ساكن النار
ولا منام لأهل النار في النار
أو يستغيثوا فلا غياث في النار
بمقمع النار مدحوراً إلى النار
وهم من النار يهرعون للنار
ولا تفتر عنهم سورة النار
في الفرقتين من الجنات والنار
فما وجودك لي صبرٌ على النار
فكيف أصبر يا مولاي للنار
منكم وإلا فإني طعمةُ النار
أما سمعت بأهل النار في النار
أما سمعت بأكباد لهم صَدَعت
أما سمعت بأغلال تُناط بهم
أما سمعت بضيقٍ في مجالسهم
أما سمعت بحياتٍ تدبُ بها
أما سمعت بأجسادٍ لهم نَضجت
أما سمعت بما يُكلَّفون به
حتى إذا ما علوا على شواهقها
أما سمعت بزقوم يُسوغه
يسقون منه كئوساً مُلئت سقما
يشوي الوجوه وجوهاً ألبست ظُلماً
ولا ينامون إن طاف المنام بهم
إن يستقيلوا فلا تقال عثرتهم
وإن أرادوا خروجاً رُدّ خارجهم
فهم إلى النار مدفوعون بالنار
ما أن يخفف عنهم من عذابهمُ
فيا إلهي ومن أحكامه سبقت
رحماك يا رب في ضعفي وفي ضعتي
ولا على حر شمس إن برزت لها
فإن تغمدني عفوٌ وثقت به
(1/1224)