تعظيم قدر الصلاة
فقه
الصلاة
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
3/7/1419
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة ومكانتها في الإسلام 2- فضل الصلاة على غيرها من العبادات
3- ما ينبغي للعبد أن يستحضره وهو في صلاته , والحث على الخشوع في الصلاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس اتقوا ربكم وأطيعوه وادعوه واستغفروه وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين قبل فوات الأوان وقبل أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، أيها الإخوة إن من أعظم ما أمر الله ورسوله به ورغب فيه هي الصلاة التي هي عمود الدين ورأس مال المسلم التي هي نور للعبد في دنياه وأخراه وحياة للقلب بها يجد العابد قرة العين وانشراح الصدر وصرف الهموم والأحزان والإعانة على نوائب الزمان وبالصلاة يناجي العبد ربه ومولاه يستغفره ويناجيه ويدعوه ويتلوا كتابه فهو بين الركوع والسجود قائم بين يدي ربه وقوف الذليل المستجدي والراجي لرحمة الله متأدباً بأدب العبودية وساجداً معفراً أعز أعضائه وهو وجهه بالتراب مستصغراً لنفسه شاكياً حاله وفقره وضعفه وقلة حيلته للغني الحميد، فللصلاة أيها الإخوة المنزلة العالية والدرجة الرفيعة التي إن صلحت صلح سائر العمل وإن فسدت فسد العمل كله ومن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، خمس صلوات بأجر خمسين صلاة، قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وهي الحد الفاصل بين الكفر والإسلام قال النبي : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) أيها الإخوة ولأهمية الصلاة وتعظيم قدرها عند الله أن جعل الله جميع الفرائض تجب في وقت دون الأوقات وليست لازمة في كل الأوقات كالزكاة والحج والصيام إلا الصلاة فهي لازمة في كل حال في اليوم خمس مرات، في حال الصحة والمرض والسفر والإقامة والخوف والأمن والحرب والسلم قال الإمام محمد المروزي رحمه الله: فاعقلوا ما عظم الله قدرها لشدة ايجابه إياها وإلزامها عباده في كل الأحوال إلا لتعظموها إذ عظمها الله ولتجزعوا أن تضيعوها وتنقصوها ولتؤدوها بإحضار العقول وخشوع الأطراف ثم قال رحمه الله: ثم جعل جميع الطاعات من الفرض والنفل متقبلة بغير طهارة ولا ينتقضها الأحداث ولا يفسدها إلا الصلاة وحدها لإيجاب حقها وإعظام قدرها (إلا الطواف بالبيت لأنه صلاة) عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهة فإن الله قبل وجهه إذا صلى)) خ،م فكيف يجوز لمن صدق بأن الله مقبل عليه بوجهه أن يلتفت أو يغيب أو يتفكر أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ومن تشاغل في صلاته فهو معرض عمن أقبل عليه الذي يعلم ويرى إعراضه بقلبه وبكل جوارحه قال أبو هريرة: (الصلاة قربان إنما مثل الصلاة كمثل رجل أراد من إمام حاجة فأهدى له هدية إذا قام الرجل إلى الصلاة فإنه في مقام عظيم واقف فيه على الله يناجيه ويسترضيه قائماً بين يدي الرحمن يسمع لقيله ويرى عمله ويعلم ما توسوس به نفسه فليقبل على الله بقلبه وجسده ثم ليرم ببصره قصد وجهه أو ليخفضه ولا يلتفت ولا يحرك شيئاً بيديه ولا برجليه ولا شيء من جوارحه حتى يفرغ من صلاته وليبشر من فعل هذا ولاقوة إلا بالله)، وكان أبو فاطمة الأزدي قد أسودت جبينه وركبتاه من كثرة السجود فقال لنا ذات يوم: قال لي رسول الله : ((يا أبا فاطمة أكثر السجود فإنه ليس من عبد مسلم يسجد سجدة إلا رفعه الله بها درجة )) ، ورأى ابن عمر فتى قد أطال الصلاة وأطنب فقال: أيكم يعرف هذا؟ فقال: رجل أنا أعرفه، فقال: أما إني لو عرفته لأمرته بكثرة الركوع والسجود فإن سمعت رسول الله يقول: ((إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه))، وقد سئل النبي أي الصلاة أفضل؟ فقال: ((طول القيام)) وقال النبي : ((إذا قرأ ابن أدم فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ويل له أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار)) صحيح، وقال النبي : ((إنما حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة)) وقال عدي بن حاتم: ما دخل وقت الصلاة قط حتى أشتاق إليها، وعن ربيعة الأسلمي قال: ((كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجتة فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)) م، وفي رواية عند أحمد أن النبي قال له: ((من أمرك بهذا؟)) فقلت: والله ما أمرني به أحد ولكني نظرت في أمري فرأيت أن الدنيا زائلة من أهلها فأحببت أن آخذ لآخرتي، اللهم اجعلنا من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون واجعلنا من المخلصين المقبولين الذين أحسنوا صلاتهم فنهتهم عن الفحشاء والمنكر، اللهم أذقنا لذة المناجاة وحلاوة الإيمان واشرح صدورنا لطاعتك ونور بصائرنا بالإيمان والقرآن، اللهم صلي على محمد وآله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وأشكره على تفضله وامتنانه وأذكره وأسبحه وأعظمه وأدعوه وأستغفره تعظيماً لشانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال أبو عبدالله المزوري رحمه الله: فلا عمل بعد توحيد الله أفضل من الصلاة لله لأنه افتتحها بالتوحيد والتعظيم لله بالتكبير ثم الثناء على الله وهي قراءة فاتحة الكتاب وهي حمد لله وثناء عليه وتمجيد له ودعاء وكذلك التسبيح في الركوع والسجود والتكبيرات عند كل خفض ورفع كل ذلك توحيد لله وتعظيم لله وختمها بالشهادة له بالتوحيد ولرسوله بالرسالة وركوع وسجود خشوعاً له وتواضعاً، ورفع اليدين عند الإفتتاح والركوع ورفع الرأس تعظيماً لله وإجلالاً له ووضع اليمين على الشمال بالإنتصاب لله تذللاً وإذعاناً بالعبودية، قال عبدالله بن مسعود سألت رسول الله : ((أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها)) م، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن أتمها وإلا نظر هل من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك)) أيها الإخوة وكان النبي يفزع عند الشدائد إلى الصلاة فإذا رأى بأهله شدة أو ضيقاً أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ولما كسفت الشمس فزع النبي إلى الصلاة ولما تحزبت الأحزاب من كل جانب على رسول الله وأحاطوا بالمدينة وخانه اليهود وتحالف معهم المشركون قال حذيفة: رجعت إلى النبي ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي وفزع يوم غزوة بدر قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله يصلي ويدعو حتى أصبح، وهكذا أيها الإخوة فالصلاة مفزع لكل ذي نائبة وملجأ للمستجيرين والمرضى والفقراء والمنكوبين والحيارى والمظلومين والمهمومين بالصلاة يناجون ربهم ويفيضون إليه وهم ساجدون بشكواهم وذلهم وفقرهم ومسكنتهم ويسجد العبد لربه عند تجدد النعم شكراً لله حتى أن الملائكة في السموات السبع إذا رعبوا فأصابهم هول اعتصموا بالسجود، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي إذا صلى قام حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً)) أحمد، قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمصلي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء يوم القيامة ويشمر للإجابة فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق ويكفرها الندم والخوف والحياء فإذا استعذت فاعلم أن الإستعاذة هي ملجأ إلى الله سبحانه فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: الحمد لله رب العالمين واستحضر لطفه عند قولك: الرحمن الرحيم وعظمته عند قولك: مالك يوم الدين، واستشعر في ركوعك التواضع وفي سجودك الذل لأنك وضعت النفس موضعها ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خلقت منه، واعلم أن أداء الصلاة بهذه الشروط سبب لجلاء القلب من الصدأ وحصول الأنوار التي تتلمح بها عظمة المعبود سبحانه أيها المسلم إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله فانظر إلى قدر الصلاة عندك، أيها الإخوة فما بالنا غافلين عن روح الصلاة وحقيقتها نؤديها بجوارحنا مع ذهول القلب وغفلته ثم لانجد للصلاة لذة وسكينة ولا فرحاً وإقبالاً عليها ثم أصبحت غير معدلة لسلوكنا فلم تنهانا عن الفحشاء والمنكر وأين الفرح بالصلاة وأين العناية بها والتبكير إليها وأين حرارتها في القلوب؟ أيها الإخوة لابد من محاسبة لأنفسنا في موضوع الصلاة التي هي عمود الدين فإذا سقط العمود ضاع دين المسلم وخسر الدنيا والآخرة إن الصلاة رأس مال المسلم وغنيمته الحاضرة التي يستطيع بعد توفيق الله أن يغنم بها رضا الله والجنة وأن ينجو بها من سخط الله والنار فبالصلاة يرفع الله قدرك ويطهر جوارحك وقلبك وتكفر سيئاتك وتفتح أبواب الخير في وجهك وتجد شرح الصدر والفرح بعبادة ربك وبالصلاة يحميك الله من البلايا والشرور والترفع عن دار الغرور وتنال في دنياك وأخراك الفرح والسرور، إن الصلاة أمل الأحياء ورجاؤهم فهم في قبورهم يحاسبون ولا يعملون ويندمون ولا يتوبون فكيف تنام العين وهي قريرة وليس تدري بأي المكانين تنزل؟ وكيف تتوق النفس للجهل والهوى وكيف تغر العبد دنيا ترحل؟ وكيف نقضي العمر باللهو والمنى وعما قليل سوف نغد ونرحل؟ وما المرء في دنياه إلا مسافر يعيش أياماً ثم يقضي فيحمل، وكيف القرار والعيش في القبر؟ إنه هو الحفرة الظلماء نار تهول ولكن هو الروح والإيمان والهناء لمن كان ذا قلب سليم يهلل، كان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه فقيل: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وقال حذيفة: إياكم وخشوع النفاق قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن نرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع، وختاماً أيها الأخ اعتن بوضوئك وأسبغه وبكر إلى المسجد وصل صلاة المودع الذي لايدري هل يصلي صلاة بعدها أم لا، واستشعر عظمة الله عند تكبيرة الإحرام فإنك واقف بين يديه والله قبل وجهك فاستحي منه وحافظ على صلاة الجماعة وحاسب نفسك بعد الصلاة هل خشعت فيها وتدبرت ما تقول؟ وحافظ على النوافل فإنها سبب لمحبة الله للعبد وبها تكمل الصلاة ومن ألح على ربه بكثرة الدعاء في السجود فهو حري بالإجابة والله لا يخيب من رجاه ولا من سأله ودعاه.
(1/982)
ذكر الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة الذكر وفضله وأنه عبادة القلب واللسان وأنه غير مؤقت بوقت 2- القلب يصدأ
بالغفلة والذنْب وأن علاجه بالاستغفار والذكر 3- بعض فوائد الذكر
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: إن ذكر الله من أعظم ما تقرب به المتقربون إلى ربهم كيف لا وهو أن تذكر ربك وتحمده وتسبحه وتهلله وتثني عليه الذي له الحمد كله وله الشكر كله قال ابن القيم رحمه الله: ((والذكر هو قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً وهو عمارة ديارهم وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق وهو ماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق وهو دواء أسقامهم والسبب الواصل وهو العلاقة التي بين العبد وعلام الغيوب، عباد الله وبالذكر يستدفع الذاكرون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم وهو رياضهم وجنتهم التي فيها يتقلبون وهو رؤوس أموالهم وسعادتهم التي بها يتجرون فهو يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة فذكر الله في كل حال قال تعالى: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار وإذا واطأ القلب اللسان في ذكر الله نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضاً من كل شيء، ولقد زين الله بذكره ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، والذكر باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده مالم يغلقه العبد بغفلته قال الحسن البصري رحمه الله: ((تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء في الصلاة والذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق)) وهو روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يارسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)) [مسلم]. وفي المسند مرفوعاً إلى النبي عن أبي الدرداء : ((إلا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيراً لكم من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل)) وروى مسلم في صحيحه عن أبي الأغر قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله أنه قال: ((لايقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)) ، عباد الله وصدأ القلب (أي إعراضه وغفلته) بأمرين بالغفلة والذنب وعلاجه بشيئين بالإستغفار والذكر وقد ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثاً وسبعين فائدة للذكر في كتابه القيم (الوابل الصيب) فمنها أنه يطرد الشيطان ويرضي الرحمن عز وجل ويزيل الهم والغم ويجلب للقلب الفرح والسرور ويقوي القلب والبدن وينور الوجه والقلب ويجلب الرزق ويكسوا الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة، ومنها أن الذكر يورث محبة الله ويورث المراقبة حتى يدخل صاحبه في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه ويورث الإنابة وهي الرجوع إلى الله والقرب منه فعلى قدر ذكره لله يكون قربه منه ويورث الهيبة لربه عز وجل وإجلاله ويورث ذكر الله تعالى للذاكر فأذكروني اذكركم ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفاً وقال النبي يروي عن ربه تبارك وتعالى: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) [خ]، ومنها أنه يورث حياة القلب والروح فهو قوتهما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: ((الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء)) ومنها أنه يحط الخطايا ويذهبها ويزيل الوحشة بين العبد وربه وإن بين الغافل وبين الله عز وجل وحشة لاتزول إلا بالذكر ومنها أنه من ذكر ربه في الرخاء عرفه الله في الشدة ومنها أنه ينجي من عذاب الله قال معاذ بن جبل: ((ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله عز وجل من ذكر الله))، عباد الله ومن فوائد الذكر أنه سبب لاشتغال اللسان بأعظم مذكور وهو الله عز وجل ففيه كف اللسان عن الغيبة والنميمة والفحش والباطل فإن العبد لابد له من الكلام فإن لم يتكلم بذكر الله وذكر أوامره تكلم بهذه المحرمات أو بعضها فلا سبيل إلى السلامة منها البتة إلا بذكر الله، والمشاهدة والتجربة أن من عود لسانه ذكر الله صان الله لسانه عن الباطل واللغو ومن يبس لسانه عن ذكر الله ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولاقوة إلا بالله، ومجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدنيا والآخرة والموفق من وفقه الله فانظر إلى الحرمان الكبير انظر إلى من يعرض عن ذكر الله فيخسر الدرجات والحسنات ويربح الأوزار والسيئات ومنها أن الذكر مع البكاء والخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف ومنها أن الإشتغال بالذكر سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطى السائلين فعن عمر عنه قال: قال رسول الله : قال الله عز وجل: ((من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) [خ].
أيها المسلمون: وذكر الله أيسر العبادات وهو من أجلها لأن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها ولو تحرك عضو من أعضاء الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة بل لايمكنه ذلك ومن فؤائد الذكر أنه غراس الجنة، قال رسول الله : ((لقيت ليلة أسرى بي إبراهيم عليه السلام فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) [ت]. وعن جابر عن النبي قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) حسن صحيح.
أيها المسلمون: أين المتاجر عند ربه بالحسنات؟ أين من يريد تكفير السيئات ورفعة الدرجات؟ وأين من يريد انشراح الصدر وطعم الإيمان وحلاوة المناجاة ولذة العبادة ورضى الله؟ وأين من يريد الخلاص من معاصيه ويقوى عليها ويولي عنها؟ وأين من يريد حرب الشيطان الذي عشعش في القلوب وغطاها بإغوائه؟ الشيطان الذي خيم اليوم في أكثر بيوت المسلمين التي ولغت في الغفلة والإعراض والغناء والأفلام وتضييع الصلوات أطاعت شياطينها فأوردتها موارد الهلاك والبوار فحرمت رضى الله وصدت عن ذكره وأعرضت عن هديه فلم تذق حلاوة الإيمان ولم تعش حياة المتقين السعداء الذاكرين الشاكرين الذين أنعم الله عليهم بالهدى والرضا واليقين وعشعش الشيطان في أكثر قلوب الخلق ففسدت عهودهم وقلت أماناتهم وكثر الحسد والهوى والبغضاء ونزلت الدنيا في القلوب فصاروا من أجلها يكذبون ويرابون ويتهاجرون ويتشاتمون هكذا لما نسوا الله أنساهم أنفسهم قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ولقد رتب الله على الذكر أعظم الأجور والذكر لايحتاج من المسلم إلى جهد ولا إلى مال ولا إلى كثرة علم قال : ((لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب الي مما طلعت عليه الشمس) ) [مسلم]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قال: لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه)) ، ((ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) متفق عليه، اللهم اعنا على ذكر وشكرك وحسن عبادتك، اللهم افتح على قلوبنا ونور بصائرنا واملأ قلوبنا بخوفك ورجائك ومعرفتك ومحبتك والإنابة إليك والتلذذ بذكرك وحلاوة مناجاتك، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبيه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين المنيبين المستغفرين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كان يذكر الله على كل أحيانه القائل: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) [خ]، عباد الله إن اسم الله العظيم ما ذكر على شيء إلا يسره وباركه ولا قليل إلا كثره ولا عسير إلا يسره ولا مكروب إلا نفسه ولا مريض إلا شفاه ولا خائف إلا أمنه وذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من شيطانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده فينفرط عليه أمره وتضيع مصالحه وتحيط به أسباب القطوع والخيبة والهلاك ولا سبيل إلى الأمان من ذلك إلا بدوام ذكر الله تعالى واللهج به وأن لايزال اللسان رطباً وأن ينزله منزلة حياته التي لاغنى له عنها ومنزلة غذائه ومائه ولباسه لأن هلاك الروح والقلب لايرجى معه صلاح ولا فلاح قال تعالى: قل ياعبادي الذين آمنوا اتقو ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فالمحسن يجازيه الله أولاً في هذه الدنيا بانشراح صدره وانفساح قلبه وسروره ولذته بمعاملة ربه عز وجل وذكره ونعيم روحه بمحبته وذكره والإقبال عليه والإنابة إليه والرضى به وعنه والفرح والسرور بمعرفته فهذا ثواب عاجل وجنة وعيش لاتعدلها سعادة أبداً قال شيخ الإسلام: ((إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة)) وقال ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((علم الله مارأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقرهم قلباً وأسرهم نفساً تلوح نظرة النعيم على وجهه ثم قال: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوة وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها، قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وماذاقوا أطيب مافيها قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته، وذكره الذي هو قرة عين المحبين وحياة العارفين.
عباد الله وهذا بخلاف ما يجازى به المسيئ من ضيق الصدر وقسوة القلب ووتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه وهذا من احتوشته الشياطين وزينت له القبائح فأصبح يركض وراء شهواته المحرمة يريد السلوى والسعادة وهو يقاسي الهموم والغموم والأحزان وهي عقوبات عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة، ومن فوائد الذكر أنه يسير العبد وهو قاعد على فراشه وفي سوقه وفي حال صحته وسقمه وسفره وإقامته فليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثل الذكر فيسبق الذاكر وهو مستلق على فراشه يسبق غيره القائم مع الغفلة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنها أن الذكر نور للذاكر في الدنيا وفي القبر ويوم القيامة يسعى بين يديه على الصراط فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله تعالى: أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وعلى حسب نور الإيمان في قلب العبد تخرج أعماله وأقواله ولها نور وبرهان وهكذا يكون نور أعماله إذا صعدت إلى الله تعالى كنور الشمس وهكذا نور روحه إذ قدم بها على الله وهكذا نوره الساعي بين يديه على الصراط وهكذا نور وجهه في يوم القيامة ومنها أن الذكر رأس الأمور فهو منشور الولاية فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الإقبال على الله عز وجل فليتطهر ويسأل ربه كل ما يريد ومنها أن في القلب خلة وفاقة لايسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل فإذا صار الذكر شعار القلب واللسان تبع له فإنه يسد الخلة ويغني الفاقة فيكون صاحبه غنياً بلا مال وعزيزاً بلا عشيرة ومهيباً بلا سلطان فإذا كان غافلاً عن ذكر الله فهو بضد ذلك فهو فقير مع جدته المال وهو ذليل مع كثرة عشيرته ومنها أن الذكر يجمع المتفرق من الهمم والإرادات والعزائم ويفرق المجتمع من الذنوب والهموم ويقرب الآخرة ويبعد الدنيا فتصغر الدنيا في عينه وتعظم الآخرة في قلبه ومنها أن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه من سنته والذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون ومنها أن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه معية خاصة معية القرب والولاية والنصرة والتوفيق إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون كما في الحديث القدسي قال الله: ((أنا مع عبدي ماذكرني وتحركت بي شفتاه)) [خ]. قال ابن مسعود : لأن أسبح لله تعالى تسبيحات أحب إلي من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله ومنها أن الذكر رأس الشكر فما شكر الله تعالى من لم يذكره ومنها أن في القلب قسوة لايذيبها إلا ذكر الله تعالى قال رجل للحسن: يا أبا سعيد أشكوا إليك قسوة قلبي قال: إذن بالذكر، وعن أبي موسى ،عن النبي قال: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لايذكره مثل الحي والميت)) [ ق]. ولفظ مسلم ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لايذكر الله فيه مثل الحي والميت)).
أيها المسلمون: وأنواع الذكر ثلاثة ثناء ودعاء ورعاية فذكر الثناء مثل سبحان الله والحمد الله وذكر الدعاء مثل: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وأما ذكر الرعاية فمثل قول الذاكر: الله معي الله ناظر إلي، اللهم صل قلوبنا فيك ولا تجعل لقلوبنا متعلقاً سوى الاشتغال بما يرضيك اللهم اجعلنا ممن يذكرك على كل أحواله ويشكرك على نعمك وآلائك، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ياخير الناصرين ويارب المستضعفين المظلومين، اللهم عليك بالصرب النصارى الحاقدين اللهم أرفع عنهم يدك وأذقهم بأسك ونقمتك اللهم زلزل تحتهم الأرض وأسقط عليهم كسفاً من السماء، اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا.
عباد الله: صلو على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.
(1/983)
فضل الشهر المحرم
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
7/1/1417
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصيام في شهر المحرّم وفضل صيام عاشوراء ومخالفة اليهود في صومه بأن
يُصام ويُصامَ يومٌ قبله 2- الحث على الاجتهاد في الصيام في هذا الشهر والتزوّد من الخير
واستحضار نصر الله لأوليائه كما نصر موسى عليه السلام على فرعون وقومه في يوم
عاشوراء 3- الحث على المداومة على الأعمال الصالحة لأن الأعمال بالخواتيم 4- الحساب
الشرعي العربي مبنيٌ على الشهور الهلالية وأن عمر رضي الله عنه أرّخ بالهجرة وجعل
المحرّم أول شهور السنة 5- الحث على تقوى الله والحرص على طاعته
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: أنتم في شهر الله المحرم أحد الأشهر الأربعة الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وهذا الشهر فيه من الفضائل ما ليس في غيره ومن ذلك فضل الصيام فيه فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)) ومن خصائص هذا الشهر أن فيه فضيلة صيام عاشوراء وهو العاشر من محرم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء أفطره) وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا:هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله : فنحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه رسول الله وأمر بصيامه)) وعن سلمة بن الأكوع أن النبي : ((أمر رجلاً من أسلم أن أذن في الناس من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم يوم عاشوراء)) وعن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي عن صيام عاشوراء فقال: ((احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) [مسلم]. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر يعني عاشوراء)) [مسلم]، مخالفة لليهود، فاجتهد أيها المسلم في صيام التاسع مع العاشر وإن لم تفعل فصم العاشر في هذا الشهر الحرام واجتهد فيه بصيام غير عاشوراء كالإثنين والخميس وأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وتزود من الخيرات لتقدم لنفسك زاداً تجده غداً أمامك والله يقول: فمن يعمل مثقال ذرة خير يره.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن عليك الليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم ساكن عند الصباح بقصره وعند المساء قد كان من ساكني القبر
واعلموا يا عباد الله أن شهركم هذا شهر نصر وعز لنبي الله موسى وقومه على فرعون الطاغية المتجبر على رغم كثرة عددهم وعدتهم وخيلائهم فإن الله ينصر أولياءه الداعين إليه ولا يخذلهم ويجيب رجاءهم قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فتفطن أيها المسلم في هذا الشهر وأنت تصلي وتصوم لله وتسارع في الخيرات صائماً مخلصاً تفطن أنك منصور وأن الله راض عنك يحفظك ويؤيدك واستشعر عندما تكون في طاعة ربك فإن الله يحبك وسيجزيك أحسن الجزاء لأن الله لا يوفق لطاعته إلا من يحب ولا يهدي إليه إلا من ينيب، فكم حرم من الخلق من حرم من نعمة الصلاة والزكاة والصيام والحج وأنت فرض الله عليك بتوفيقه فوهبك هذا الخير من العبادات التي أنت فيها وتأتي إليها مسرعاً حريصاً على مرضاة ربك فافرح بهذا الخير واحرص عليه ولا تتهاون فيه وخف عليه من الحبوط والرد والنقصان وخف من سوء الخاتمة واحرص على حسن الختام فإن الأعمال بالخواتيم، قال رسول الله : ((فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) متفق عليه، وقال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامه فلا تظلم نفسُ شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وإتباع سنة نبيه أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه ونشكره على جوده وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، عباد الله إن من رحمة الله أن جعل الحساب الشرعي العربي مبنياً على الشهور الهلالية لأن لها علامة حسية يفهمها الخاص والعام وهي رؤية الهلال في المغرب بعد غروب الشمس فمتى رؤي الهلال فقد دخل الشهر المستقبل وانتهي الشهر الماضي فابتداء التوقيت اليومي من غروب الشمس لامن زوالها فأول الشهر يدخل بغروب الشمس، ولقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث جمع الناس سنة ست عشرة أو سبع عشرة من الهجرة فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ فقال بعضهم: يبدأ من مولد النبي وقال بعضهم: يبدأ من بعثته وقيل: يبدأ من هجرته وقيل: من وفاته، ولكنه رجح أن يبدأ من الهجرة لأن الله فرق بها بين الحق والباطل فجعلوا مبتدأ تاريخ السنين في الإسلام سنة الهجرة لأنها هي التي كان فيها قيام كيان مستقل للمسلمين وفيها تكوين أول بلد إسلامي يحكمه المسلمون، ثم شاور عمر الصحابة من أي شهر يبدأون السنة فقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجراً إلى المدينة وقال بعضهم: من رمضان، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ويلي ذي الحجة ويلي الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولوية شهر المحرم، عباد الله إن علينا أن نشكر الله على ما يسره لنا من هذا الحساب البسيط الميسر في معرفة التاريخ اليومي الذي يبدأ من الهجرة (هجرة النبي من مكة إلى المدينة) وأن علينا جميعاً فرادى وأمة مسلمة أن نكون أمة متميزة بأخلاقها ورأيها ومعاملاتها تميزاً عن سائر الأمم الكافرة غير المهتدية بهدي الإسلام الطاهر النقي لنكون أمة عدل وخير وأمة صدق مع الله في كل تصرفاتنا ليحصل لنا صلاح أحوالنا مع أنفسنا فنعيش الرضى والطمأنينة والسكينة وإنشراح الصدر وقرة العين بالإيمان الصادق ويحصل لنا صلاح أحوالنا مع الناس جميعاً، لأن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ، ومن توكل على الله كفاه ويحصل لنا النصر على الأعداء المقبوحين المرذولين فتعيش الأمة حياة العزة والإباء ويتحقق قول الله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله فإن الخيرية والرفعة والسؤدد والتوفيق من الله يحصل بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، فجددوا أيها الإخوة المسلمون إيمانكم في بداية عامكم هذا وتوبوا إلى ربكم وصلوا قلوبكم فيه تفوزوا بجنته ورضوانه في الدنيا والآخرة فإن الله يحب المستجيبين لأمره وينصرهم ويرحمهم ويشرح صدورهم ويقوي قلوبهم بالتوكل عليه قال تعالى: وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
(1/984)
خطر الأفلام
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
25/1/1416
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على تقوى الله تعالى 2- جلوس كثير من الناس على مشاهدة الأفلام والمسلسلات
وأثر ذلك على قلوبهم 3- مفاسد وأضرار مشاهد الأفلام 4- الحث على التوبة إلى الله تعالى
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: لقد أوصانا الله عز وجل بتقواه ومخافته فقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون ولقد بين لنا ربنا الطريق الموصل إلى رضاه وجنته وحذرنا من طريق أهل الزيغ والضلال الموصل إلى سخطه والنار فقال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
أيها المسلمون: إن طاعة الله هي الحصن الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وإن معصية الله: هي الشر المستبين الذي من سلكه لحقته المخاوف والهموم وأصابه الله بالذل والهوان قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى بخلاف من استجاب لربه خائفاً منيباً فإن له الحياة الطيبة الرضية في هذه الدنيا وله الجنة في الآخرة، قال تعالى: للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد.
عباد الله: ومما وقع فيه كثير من الناس اليوم من معصية الله هو مشاهدة الأفلام والمسلسلات سواء عن طريق الدش أو الفيديو والتلفاز فأطالوا الجلوس والعكوف عندها وأشرب حبها في قلوبهم وعاشوا معها فتعلقت بها قلوبهم يريدون إشباع غرائزهم يبحثون عن السعادة والسلوى ليستغلوا حياتهم بهوى النفوس وطاعة الشيطان بلا خوف من الله ولا حياء فمرضت قلوبهم ولم يشعروا بالمرض وتخلفوا عن الصلوات دون وعي وذهبت لذة الخشوع والعبادة وهم غافلون وارتكبوا المعاصي والمنكرات وهم يضحكون وأحيوا ليلهم ماكثين على غيهم وضلالهم مغترين بصحتهم وإمهال الله لهم، يريدون أن تكون حياتهم لهواً ولعباً بحثاً عن الشهوات المحرمة فما شكروا نعم ربهم وما قدروا الله حق قدره فاستعملوا أسماعهم وأبصارهم وأفكارهم وعقولهم وأجسامهم فيما حرم الله إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً وباتوا يحادون الله عاكفين على الأفلام والمشاهد الخبيثة ناسين أو متناسين أن الله بالمرصاد وأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنما تخفي عليه يغيب
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أيها المسلمون: واستمعوا الآن إلى مفاسد وأضرار مشاهدة الأفلام التي تعرض المنكرات من قصص الحب والغرام وإثارة الغرائز وصور النساء بمفاتنهن والغناء الماجن والرذائل الخلقية والدلالة على الزنا والاستهتار بأوامر الله الناهية عن كل ذلك، فمن تلك المفاسد: ضياع الوقت وتبذيره فيما لا منفعة فيه بل فيما فيه مضرة والوقت سيحاسب عليه المسلم يوم القيامة قال : ((لاتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ومنها عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه)) [ت]. ومنها السهر الطويل المخالف لهدي النبي والتعرض لترك صلاة الفجر مع الجماعة أو التأخر عن وقتها ومنها أيضاً النظر إلى الصور المحرمة من صور النساء المتبرجات المبديات لشعورهن وزينتهن المثيرات للفتنة الكاسيات العاريات وحدث ما شئت من فتك هذا النظر في القلوب والنفس وتعلقها بما حرم الله وصدودها وإعراضها عن ذكر الله وحدث عن غفلتها عن الله والدار الآخرة وعن مكر الشيطان بها وعن اشتغالها للعبادة وحدث عن الحسرات والآلام التي تكابدها تلك القلوب بسبب تعلقها بالهوى والمفاتن.
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وحدث عما يقع في النفوس من التعلق بالحرام من الزنا واللواط والبحث عنه وحدث عن بعدهم عن الخير وأهله عن المساجد وحلق الذكر وحدث عن رغبتهم ومجالستهم لأهل الفسوق والفجور أهل الغفلة والفواحش أهل الاستهانة بأوامر الله والاجتراء على حرمات الله والله يقول: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ومن مفاسدها التشجيع على السفور والاختلاط والخلوة وسقوط الحشمة والتهاون بعلاقة الرجل مع المرأة وكأن الأمر عادي جداً، ومنها نقل عادات وتقاليد البلاد الكافرة والمناقضة للإسلام في العلاقات الاجتماعية والتربية واللباس حقاً إنها موائد الكفار ومكرهم وتخطيطهم وغيهم وضلالهم يجلس عندها المسلم ليتربى عليها ويربي أبناءه عليها لينهلوا من أخلاقهم وأفكارهم وكأنه منهم ينفذ في نفسه وعقله وأبنائه وبناته ما صنع الأعداء له فما أعظمها من بلية وما أشدها من خيانة أن يربي المسلم نفسه وأهله على الفجور وأعمال الفاجرين يبيع دينه وأخلاقه وعرضه وحياءه من أجل شهوةٍ عارضة أو تقليد مقيت فإن لم يكن هناك خوف من الله وحياء منه فأين العزة والشهامة والغيرة على العرض؟ وربنا أخبرنا عن الكافرين فقال: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل إنهم أضل من الحمير والبهائم فكيف نقلدهم ونرضع من أفكارهم وندنس قلوبنا وبيوتنا وأبناءنا بخبثهم ومجونهم وهم ساقطون في الرذيلة لأنهم يعتبرونها هي المدنية والحرية والتحضر وهم قبل ذلك كفار ملعونون فليس بعد الكفر ذنب، ومن المفاسد زهادة المشاهد في دينه والتقليل من شأنه وغياب خوف الله من قلبه ونفسه لأن الأفلام الخليعة تنادي المنحرفين لتصدهم عن الدين الذي يحرمها ويحبس الشهوات عنها ومنها اضطراب ذهن وتفكير الصغير والجاهل الذي يتعلم في المدرسة والمسجد واجبات الدين والتأكيد عليها ثم هو يرى في الأفلام ما يناقضها ويدعوا إلى نبذها والاستخفاف بها، ومنها نشر الجريمة الخلقية وجريمة السرقة والاحتيال ونشر الدجل والخرافة والشعوذة والسحر والكهانة المنافية للتوحيد، ومنها إظهار شعائر أهل الكفر ورموز أديانهم الباطلة كالصليب ومزار المقابر المقدسة وما ينطبع في حس المتفرج من توقير ممثلي الأديان الباطلة كالأب والقسيس والرهبان ومنها التشكيك في قدرة الله أو خلقه، ومنها القضاء على مفهوم البراءة من أعداء الله في نفوس المشاهدين بما يرونه من أمور تبعث على الإعجاب بشخصيات الكفار ومجتمعاتهم وكسر الحواجز النفسية بين المسلم والكافر فإذا زال البغض في الله بدأ التشبه والتلقي عن هؤلاء الكفرة وتصوير الحياة في بلاد الكفر على أنها الحياة الراقية المثلى التي يتمناها المنهزمون والكفار وهم أعداء الله المجرمون الذين هم أضل من الأنعام وهم شر من الحمير والجعلان قال تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ومنها الدعوة إلى الجريمة بعرض مشاهد العنف والقتل والخطف والاغتصاب ومنها ذهاب الغيرة المحمودة من استمرار النظر إلى مشاهد الإختلاط وكشف الزوجة للأجانب وسفور البنات والأخوات والتأثر بالدعوة إلى تحرير المرأة ومنها الدعوة إلى إقامة العلاقات بين الجنسين وتعليم المشاهد كيفية بناء العلاقة والتعرف وتبادل أحاديث الحب والغرام وتشابك الأيدي ومنها الوقوع في الزنا والفاحشة بفعل الأفلام التي تعرض ذلك صراحة حتى أن بعضهم يقلد ما رآه في الفيلم مع بعض محارمه والعياذ بالله ومنها ابراز الساقطين من الممثلين والمغنين والراقصين واللاعبين على أنهم النجوم والأبطال والرموز بدلاً من القدوات الصالحة من الأنبياء والصالحين والعلماء والمجاهدين ومنها الطعن في بعض ما جاءت به الشريعة من أحكام كالحجاب وتعدد الزوجات وتشويه التاريخ الإسلامي وطمس الحقائق، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين أيها المسلمون إن آثار الأفلام وأخطارها عظيمة وكثيرة لانستطيع لها حصراً إن المسلم في هذه الحياة خلقه الله لمهمة عظيمة ورسالة كبيرة خلقه الله لعبادته وطاعته والنظر فيما يرضيه والبعد عما يسخطه والبعد عما يرديه إن الساعات التي تهدر وتقضى في مشاهدة الأفلام وسماع المعازف يومياً إنها تتحول إلى ملايين كثيرة في السنة الواحدة (تصل إلى مائتين وخمسين مليون يوم عمل في بلد عدد سكانه عشرة ملايين نسمة يشاهد من سكانه الربع فقط) فكيف لو صرفت تلك الأوقات في طلب العلم النافع والدعوة إلى الله ومساعدة المحتاجين وإقامة المصانع والمعامل والاستغناء عن الأيدي الكافرة والدفاع عن الأمة؟ عباد الله ومن الأضرار الصحية في مشاهدة الشاشة ضعف البصر ففي إحدى الإحصائيات ذكر أن 64 من المشاهدين يصابون بضعف البصر و44 يصابون بتقييد حركة الجسم والحرمان من الرياضة، ومن الآثار الضرر الإقتصادي وذلك بشراء أجهزة الإستقبال مع الصيانة مع تأثير الدعاية في شراء بضائع لا حاجة لها ومنها التأخر في الزواج وتفشي الطلاق وانصراف المرأة للأزياء العالمية والموضات وتقليد المرأة الغربية في الخروج من المنزل ومحادثة الرجال وسيطرة المرأة على الرجل وضعف قوامة الرجل على المرأة بدعوى الحرية وتساوي الحقوق، ومن منكرات الأفلام أنها تعود الأمة على حياة الهزل واللعب والمجون وتقصيها عن حياة الجد والجهاد والاشتغال بالنافع المفيد ثم هل تطيق أيها المسلم الغيور أن ترى ابنتك أو زوجتك أو أختك تتفرج من خلال نافذة بيتك على بعض الشباب وتتفرس في وجوههم وتتمتع برؤيتهم فأي فرق بين هذا ومن اشترى الجهاز الذي يستقبل أعمال الكفرة والفجرة وأدخله في بيته يتعلم منه الأولاد كل قبيحة ورذيلة؟ ثم إذا انحرف الأولاد ووقعوا في الفواحش والمهلكات وفرطوا في الصلوات وتعرضوا للقضايا السلوكية أصبح الوالد يتحسر ويشكوا ضياع أولاده وفجورهم، إنه يشتكي من الأولاد وهو السبب في ضياعهم ومكرهم وبعدهم عن الله حتى وجد من يفعل بإخوانه وأخواته الجريمة بسبب هذه الأفلام التي تسبب الوالد في إحضارها لأبنائه ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم إننا نقول لهؤلاء اتقوا الله في أنفسكم وأولادكم إنها الخيانة الكبرى للنفس والبيت والأولاد، إنكم الجناة على أنفسكم وأهليكم قال رسول الله : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) [خ]. ويقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
عباد الله: ألا من توبة قبل الموت قبل فوات الأوان توبة يقبل بها العبد على ربه منيباً صادقاً ضارعاً يسأل ربه الغفران والعفو على تفريطه وصدوده وإعراضه توبة نطهر بها قلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وبطوننا وفروجنا وكل جوارحنا عماحرم الله ومن أقبل على ربه صادقاً يريد مرضاته فليبشر بمغفرة ذنوبه جميعاً وتكفير سيئاته ورفعة درجاته فإن الله ينادينا إلى التوبة ويحبها منا ويفرح بها وهو سبحانه يبدل السيئات حسنات قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم أيها المسلمون ألا من رجوع إلى الله إلى الطاعة بعد المعصية إلى الذكر بعد الغفلة إلى الإقبال بعد الإدبار إن الشيطان اللعين يعظم أمر التوبة ويجعلها ثقيلة غير مقدور عليها أمام الذي يريدها قال الله عن الشيطان، قال: فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وحقيقة أمر التوبة أنها هينة سهلة ولكنها تحتاج إلى الصدق والصبر في البداية ثم تجد الطريق مفتوحاً أمامك وتجد باب الرحمات يناديك لتجد الأفراح وقرة العين وسلوى النفس وشرح الصدر وتجد لذة العبادة وعفاف النفس وطعم الخشوع، عباد الله إن من دأب واستمر على التسويف والتساهل ومجرد الأماني ولم يأخذ الأمر بجد بل قابله بالتهاون وعدم المبالاة فإنه يخشى عليه سوء الخاتمة ويخشى عليه من موت القلب بحيث لا يستيقظ ولايدّكر ويغفل عن الموت ووحشة القبر ومنكر ونكير والجنة والنار فأي شيء عظيم ينتظرنا وأي مصير قد توعدنا الله فيه؟ فكيف يلهو ويغفل من هو بين الجنة والنار ولا يدري إلى أيهما يصير؟ وإن من عاش على شيء مات عليه، قال : ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) [الحاكم]. فأنظر لنفسك أيها المسلم على أي حال أنت الآن فإن كنت على الطاعة والخير والذكر ومحبة ما يحب الله ورسوله فأبشر بالخير لأن العزيز على ربه هو الذي يوظفه فيما يحبه ويرضاه وإن كنت على الفسق والتفريط والغفلة ومجالسة الأشرار فإنها الطامة الكبرى والداهية العظمى فإن الهين على ربه يشتغل بما يسخط الله من رذائل الأعمال وقبائحها فيامن عكفت على الملاهي والأفلام هل أنت من الطائعين لربك أم من العاصين؟ وهل أنت من المؤمنين أم من الفاسقين؟ قال تعالى: أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لايستوون.
وقد هيؤك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
إنك تعيش اليوم في صحة وعافية وطمأنينة ونعمة، فلا تفسد نعمتك بمعصية الله وتذكر يوم رحيلك عن بيتك وأصحابك وأهلك إلى حفرة ضيقة ترقد فيها فريداً وحيداً لا أنيس ولا جليس سوى عملك الصالح فعليك بالصالحات التي تقربك إلى ربك وترضيه عنك والحذر الحذر من المعاصي المهلكات المنسيات، فعاهد ربك يا عبدالله من هذا المكان الطاهر وفي هذه اللحظات المباركة وفي هذا اليوم الشريف، عاهد ربك على ترك المنكرات والإقلاع عنها وبغضها عهداً صادقاً على ألا تقربها وأن تخرجها من بيتك وأن تحزم مع أولادك وألا تتنازل عن شيء فيه معصية الله من أجل أولادك أو أصدقائك بادر إلى هذا قبل حلول الأجل يوم لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
(1/985)
في الأطوار التي مر بها المسجد الأقصى
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة, معارك وأحداث
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- احتلال اليهود المسجد الأقصى وإظهار شعائر الكفر فيه. 2-مكانة المسجد الأقصى وفضله.
3- قصة بني إسرائيل وخروجهم مع نبي الله يعقوب من الأرض المقدسة إلى مصر ثم عودتهم
مع نبي الله موسى. 4- خروجهم ثانية من الأرض المقدسة على يد ملوك الفرس والروم.
5- فتح المسلمين للأرض المقدسة في عهد عمر. 6- استيلاء الصليبين على المسجد وتطهره
منهم في عهد صلاح الدين. 7- استيلاء اليهود والصليبين على المسجد مرة أخرى في العصر
الحديث. 6- السبيل إلى تحرير المسجد الأقصى من اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: فلقد مضى على احتلال اليهود للمسجد الأقصى أكثر من ثماني سنوات وهم يعيثون به فسادا وبأهله عذاباً وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكما بجواز تعبد اليهود في نفس المسجد الأقصى ومعنى هذا الحكم الطاغوتي إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة. إنه المسجد الذي أسري برسول الله إليه ليعرج من هناك إلى السماوات العلى إلى الله جل وتقدس وعلا. إنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: ((قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)). إنه لثالث المساجد المعظمة في الإسلام التي تشد الرحال إليها لطاعة الله وطلب المزيد من فضله وكرمه قال النبي : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى)). إنه المسجد الذي يقع في الأرض المقدسة المباركة مقر أبي الأنبياء إبراهيم وابنيه سوى إسماعيل، مقر إسحاق ويعقوب إلى أن خرج وبنيه إلى يوسف في أرض مصر فبقوا هنالك حتى صاروا أمة بجانب الأقباط الذين يسومونهم سوء العذاب حتى خرج بهم موسى فرارا منهم وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل بهذه النعمة الكبيرة وذكرهم موسى نعم الله عليهم بذلك وبغيره إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحد من العالمين في وقتهم وأمرهم بجهاد الجبابرة الذين استولوا على الأرض المقدسة وبشرهم بالنصر حيث قال: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم وإنما كتبها الله لهم لأنهم في ذلك الوقت أحق الناس بها حيث هم أهل الإيمان والصلاح والشريعة القائمة: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين ، ولكنهم نكلوا عن الجهاد: قالوا إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها وقالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولنكولهم عن الجهاد ومواجهتهم نبيهم بهذا الكلام النافر حرم الله عليهم الأرض المقدسة فتاهوا في الأرض ما بين مصر والشام أربعين سنة لا يهتدون سبيلا حتى مات أكثرهم أو كلهم إلا من ولدوا في التيه فمات هارون وموسى عليهما الصلاة والسلام وخلفهما يوشع فيمن بقي من بني إسرائيل من النشء الجديد وفتح الله عليهم الأرض المقدسة وكان يعقوب قد بناه قبل ذلك. ولما عتا بنو إسرائيل عن أمر ربهم وعصوا رسله سلط الله عليهم ملكا من الفرس يقال له بختنصر فدمر بلادهم وبددهم قتلا وأسرا وتشريدا وخرب بيت المقدس للمرة الأولى ثم اقتضت حكمة الله عز وجل بعد انتقامه من بني إسرائيل أن يعودوا إلى الأرض المقدسة وينشأوا نشأً جديدا وأمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا فنسوا ما جرى عليهم وكفروا بالله ورسوله: كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون فسلط الله عليهم بعض ملوك الفرس والروم مرة ثانية واحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس وتبروا ما علوا تتبيرا. كل هذا بسبب ما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ثم بقي المسجد الأقصى بيد النصارى من الروم من قبل بعثة النبي بنحو ثلثمائة سنة حتى أنقذه الله من أيديهم بالفتح الإسلامي على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب في السنة الخامسة عشرة من الهجرة فصار المسجد الأقصى بيد أهله ووارثيه بحق وهم المسلمون: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. وبقي في أيدي المسلمين حتى استولى عليه النصارى من الفرنج أيام الحروب الصلبية في الثالث والعشرين من شعبان سنة 492هـ فدخلوا القدس في نحو مليون مقاتل وقتلوا من المسلمين نحو ستين ألفا ودخلوا المسجد واستولوا على ما فيه من ذهب وفضة وكان يوما عصيبا على المسلمين أظهر النصارى شعائرهم في المسجد الأقصى فنصبوا الصليب وضربوا الناقوس وحلت فيه عقيدة إن الله ثالث ثلاثة – أن الله هو المسيح بن مريم والمسيح ابن الله – وهذا والله من أكبر الفتن وأعظم المحن وبقي النصارى في احتلال المسجد الأقصى أكثر من تسعين سنة حتى استنقذه الله من أيديهم على يد صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب رحمه الله في 27 رجب سنة 583 هـ، وكان فتحا مبينا ويوما عظيما مشهودا أعاد الله فيه إلى المسجد الأقصى كرامته وكسرت الصلبان ونودي فيه بالأذان وأعلنت فيه عبادة الواحد الديان ثم إن النصارى أعادوا الكرة على المسلمين وضيقوا على الملك الكامل ابن أخي صلاح الدين فصالحهم على أن يعيد إليهم بيت المقدس ويخلوا بينه وبين البلاد الأخرى وذلك في ربيع الآخر سنة 626هـ، فعادت دولة الصليب على المسجد الأقصى مرة أخرى وكان أمر الله مفعولا واستمرت أيدي النصارى عليه حتى استنقذه الملك الصالح أيوب ابن أخي الكامل سنة 642 هـ، وبقي في أيدي المسلمين وفي ربيع الأول سنة 1387هـ، احتله اليهود أعداء الله ورسوله بمعونة أوليائهم من النصارى ولا يزال تحت سيطرتهم ولن يتخلوا عنه وقد قالت رئيسة وزرائهم فيما بلغنا إن كان من الجائز أن تتنازل إسرائيل عن تل أبيب فليس من الجائز أن تتنازل عن أورشليم القدس نعم لن تتنازل إسرائيل عن القدس إلا بالقوة ولا قوة إلا بنصر من الله عز وجل ولا نصر من الله إلا بعد أن ننصره: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم وإن نصرنا لله لا يكون بالأقوال البراقة والخطب الرنانة التي تحول القضية إلى قضية سياسية وهزيمة مادية ومشكلة إقليمية وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله. إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا بالإخلاص له والتمسك بدينه ظاهرا وباطنا والاستعانة به وإعداد القوة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا وتطهر بيوته من رجس أعدائه.
أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا ثم نسكنهم قلوبنا بالميل إلى منحرف أفكارهم والتلطخ بسافل أخلاقهم أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون أو يستمرئون صديد أفكارهم ثم يرجعون يتقيؤنه بيننا. أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلام فاتنة وصحف مضلة. أما أن نحاول طردهم من بلادنا مع ممارسة هذه الأمور فذلك التناقض البين والمسلك غير السليم والفجوة السحيقة بيننا وبين النصر: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ، نعم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر لا كما قال بعض المذيعين أيام الحرب مع اليهود في عام 87 هـ غدا تغني أم كلثوم في قلب تل أبيب. صلى الله على رسوله وسلم لقد صلى غداة فتح مكة ثماني ركعات إما شكرا لله تعالى على الفتح خاصة أو تعبدا بصلاة الضحى والعبادة من الشكر وهكذا حال الفاتحين في الإسلام يعقبون الفتح بالشكر والتقوى فاتقوا الله أيها المسلمون وأنيبوا إلى ربكم وأقيموا شريعته وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/986)
في تحقيق التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين العلم والمعرفة. 2- بعض صور الشرك الوثنية التي أسقطها الإسلام.
3- الدعوة إلى توحيد الله ونبذ صور الشرك. 4- سد ذرائع الشرك ومنها إزالة الصور
والصلبان. 5- انتشار الصلبان في ألعاب أطفالنا وملابسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما منّ به عليكم أن بعث فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ، رسولا أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل الإحسان ومن ظلمات الفوضى الفكرية والإجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [الزمر:22]. كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد [إبراهيم:1-2].
لقد بعث الله نبيه محمدا والناس يتخبطون في الجهالات ففتح لهم أبواب العلم : أبواب العلم في معرفة الله تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدأ والمنتهى والحساب والجزاء قال الله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [المؤمنون:12-16].
وفتح الله لعباده بما بعث به نبيه محمدا أبواب العلم في عبادة الله تعالى والسير إليه وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجه حلال، فما من شيء يحتاج الناس لمعرفته من أمور الدين والدنيا إلا بين لهم ما يحتاجون إليه فيه، حتى صاروا على طريقة بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب.
لقد بعث الله تعالى محمدا والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد المسيح بن مريم، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار حتى كان الواحد منهم إذا سافر ونزل أرضا أخذ منها أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها تحت القدر وينصب الرابع إلها يعبده، فأنقذهم الله برسوله من هذه الهوة الساحقة والسفه البالغ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فحقق التوحيد لرب العالمين تحقيقا بالغا، وذلك بأن تكون العبادة لله وحده يتحقق فيها الإخلاص لله بالقصد والمحبة والتعظيم، فيكون العبد مخلصا لله في قصده مخلصا لله في محبته مخلصا لله في تعظيمه مخلصا لله تعالى في ظاهره وباطنه لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله تعالى والوصول إلى دار كرامته: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:162-163]. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له [الزمر:54]. وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [البقرة:163]. فإلهكم إله واحد فله أسلموا [الحج:34].
هكذا جاء كتاب الله تعالى وتلته سنة رسوله بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه حتى إن رجلا قال للنبي : ما شاء الله وشئت فقال النبي : ((أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده)) فأنكر النبي على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجل واتخاذ الند لله تعالى إشراك به.
وحرم النبي أن يحلف الرجل بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف: والنبي أو وحياة النبي أو وحياتك أو وحياة فلان بل يحلف بالله وحده أو يصمت عند الحلف.
ولما ((سئل عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له؟ فقال: لا)) فمنع من الانحناء عند التسليم لأن ذلك خضوع لا ينبغي إلا لله رب العالمين، فهو سبحانه وحده الذي يُركع له ويُسْجد، وكان السجود عند التحية جائزا في بعض الشرائع السابقة، ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد منعت منه وحرمته إلا لله تعالى وحده.
وفي الحديث أن معاذ بن جبل قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم (زعمائهم) وذلك قبل أن يسلموا فلما رجع معاذ سجد للنبي فقال النبي : ((ما هذا يا معاذ))؟ فقال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله يعني أحق من أساقفتهم بالسجود فقال النبي : ((لو كنت آمرا أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها)).
وروى النسائي بسند جيد عن أنس بن مالك أن ناسا جاؤوا إلى النبي فقالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال : ((يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) ، ولقد بلغ من سد النبي ذرائع الشرك ووسائله أن لا يترك في بيته صورة شيء يعبد من دون الله تعالى أو يعظم تعظيم عبادة.
ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه.
والتصاليب هي الصلبان التي يتخذها النصارى شعارا لدينهم أو يعبدونها والصليب كل ما كان على شكل خطين متقاطعين هكذا عرفه صاحب المنجد ومعناه أن يكون على شكل خط مستقيم رأسه إلى فوق يعترضه خط رأسه إلى الجانب سواء كان هذا الخط المعترض في وسط الخط المستقيم أو فوق وسطه ، يزعم النصارى أن المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام صلب عليه وقتل وقد قال الله تعالى في القرآن مكذبا من زعموا أنهم قتلوه: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [النساء:57]. وقال تعالى: وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً [النساء:157-158].
فكان النصارى يقدسون الصليب يضعونه فوق محاربهم ويتقلدونه في أعناقهم فكان من هدي النبي إزالة كل ما فيه تصاليب حماية لجانب التوحيد وإبعادا عن مشابهة غيرا المسلمين ولقد كانت بلادنا هذه ولله الحمد من أعظم البلاد الإسلامية محافظة على توحيد الله تعالى ومتابعة رسوله بما منّ الله عليها من علماء مبينين وولاة منفذين وصارت عند أعداء الإسلام قلعة الإسلام فغزوها من كل جانب بكل شكل من أشكال الغزو حتى كثرت الفتن فيها وصارت صور الصلبان على بعض الألعاب للأطفال بل وعلى الفرش لتكون نصب أعين المسلمين صبيانهم وكبارهم فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بنا يا رب العالمين إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/987)
فيمن عليه مسؤولية رعاية المرأة
الأسرة والمجتمع
المرأة
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نقص عقل المرأة ودينها. 2- المرأة سهم من سهام إبليس. 3- التبرج عند بعض نسائنا.
4- حال نساء السلف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وقوموا بما كلفكم الله به من رعاية أولادكم وأهلكم خصوصا النساء فإن النساء يحتجن إلى زيادة العناية بالرعاية لأنهن ناقصات في العقل وناقصات في الدين ناقصات في العقل وفي التفكير وبعد النظر والعاطفة، تفكيرها مضطرب غير موزون ونظرها قريب لا يتجاوز قدميها وعاطفتها متداعية كل سبب يجذبها وكل هوى يطيح بها وناقصة الدين لأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم ولأنها تكثر اللعن وتكفر العشير.
أيها المسلمون يا رجال الإسلام اشكروا هذه النعمة التي حباكم الله بها وقوموا بها على الوجه الأكمل، اسمعوا ربكم خالق الكون وعالم أسراره والمحيط بخفيه وظاهره ومستقبله وماضيه اسمعوه يقول: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض [النساء:34]. فاعرفوا أيها الرجال هذا الفضل وقوموا بحقه لا تبخسوا أنفسكم حقها وتنسوا الفضل لا تغلبكم النساء على رجولتكم ولا يلهينكم الشيطان عن رعاية أهليكم ولا تشتغلوا بأموالكم عن قيمكم وأخلاقكم والحفاظ على عوراتكم وشرفكم.
أيها المسلمون: إن مشكلة النساء ليست بالمشكلة الهينة وليست المشكلة الجديدة لأن الفاسقة منهن شَرَك الشياطين وحبائل الشر يصيد بهن كل خفيف الدين مسلوب المروءة. قال النبي : (( إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان)) [رواه مسلم]. وقال: (( المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) أي زينها في نظر الرجال [رواه الترمذي قال الألباني وإسناده صحيح]. وقال : (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) [متفق عليه].
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا هذه الفتنة التي حذركم منها نبيكم اقضوا على أسباب الشر قبل أن تقضي عليكم وسدوا أبواب الفساد قبل أن تنهار عليكم.
أيها الناس إن كثيرا من النساء في هذا العصر قد لعب الشيطان بهن وبأفكارهن وتصرفاتهن تخرج الواحدة منهن إلى الأسواق بدون حاجة، وقد قال رسول الله في النساء اللاتي يخرجن إلى الصلاة في المساجد قال: (( بيوتهن خير لهن)). وتخرج الواحدة منهن متزينة متطيبة متحلية وقد قال : (( إن المرأة إذا إستعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية)) [رواه الترمذي وقال حسن صحيح]. وتخرج الواحدة منهن فتمشي في السوق مشية الرجل وترفع صوتها كما يتكلم الرجل وتزاحم كما يزاحم الرجل وتختلط مع الرجال بدون مبالاة هذا موجود في بعض النساء ولا سيما في أماكن البيع وكل هذا خطر عظيم ضرر جسيم ومخالف لما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة خرج النبي من المسجد وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال الرسول للنساء: ((إستأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق عليكن بحافات الطريق)) فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق به. وقالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها وقالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور وليضربن بخمرهن على جيوبهن [النور:31]. فانقلب الرجال يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها ( [1] ) المرحل ( [2] ) فاعتجرت به ( [3] ) تصديقا وإيمانا بما أنزل الله في كتابه.
أيها الناس إن الكثير يتساءلون على من تكون مسؤولية هذا التوسع في خروج النساء أعلى الجهات الحكومية أم على وجهاء البلد أم على الولي المباشر؟ والحق أن كل واحد سواء كان جهة أم شخصا كل واحد عليه مسؤولية ذلك ولكنها على الولي المباشر أكبر وأعظم وأقرب حلا إذا وفقه الله للقيام بمسؤوليته إن على كل واحد منا أن يمنع زوجته وابنته وأخته وكل من في كفالته أن تخرج إلى السوق إلا من حاجة لا يمكنه أن يقضيها بنفسه عنها. وإذا خرجت فلتخرج غير متطيبة ولا متبرجة ولا لابسة ثياب زينة وأن تخرج وعليها السكينة وتخفي صوتها وتحرص على أن يكون خروجها في الوقت الذي لا تزاحم فيه الرجال.
ومتى عرف الرجل مسؤوليته أمام أهله وخاف مقام ربه وحرص على إصلاح عائلته ومجتمعه فسيقوم بما أوجب الله عليه من الرعاية ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا [الطلاق:2-3].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... الخ.
( [1] ) كساء من صوف أو خز.
( [2] ) برد فيه تصاوير رحل أو إزار خز فيه علم.
( [3] ) لبسته على صفة معينة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/988)
{ واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر }
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, القصص
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة الاعتبار بقصص السابقين. 2- ابتلاء الله لليهود بالسبت. 3- عقوبة الله للظالمين.
4- واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ـ عز وجل ـ، اتقوه وراقبوه، لئلا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا يبغي بعضكم على بعض، وتكونوا عباد الله إخوانا.
أيها الناس، إن كتاب الله عز وجل هو المنبع الثرُّ للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، المثمرة الاعتبار والادكار، اللذين يحفزان إلى الخير، وينقذان من ترادف الزلات، وحلقات الانحراف، ومن ندّ عن السويّ من ذلك فما هو بحي، ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت، وإن طار في السماء أو غاص في الماء، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـ?فِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
ألا وإن المرء المؤمن حينما يغشى معالم كتاب ربه بقلب غير مقفول، لهو كمتعبد يغشى في مصلاه، ولربما أكرمه مولاه جزاء تدبره فلم يخطئ، دمع عينه مجراه، يغدو في خمائل القصص والعبر، يمتح من هذه، وينهل من تلك، متأولاً قول ربه ـ سبحانه ـ: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ?لالْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
إن مثل آيات القصص ـ عباد الله ـ لجديرة بحق، أن نقف عند معانيها، وما ترمي إليه من دروس وعظات، ينبغي ألا تذهب هدراً على ذوي الألباب؛ إذ ليس شيء أنفع للمرء من تدبر القرآن، وإطالة النظر في عواقب المثلات التي قد عفت، فيرى لعن اليهود ومسخهم، ويقرأ غرق فرعون ذي الأوتاد، وخسف قارون، ويتأمل عذاب إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فيعيش المرء مع القرآن حتى كأنه في الآخرة، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?ناً وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
عباد الله، يقول ربنا ـ جل وعلا ـ في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ ?لْقَرْيَةِ ?لَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ?لْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ?لسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذ?لِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى? رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ?لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لسُّوء وَأَخَذْنَا ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:163-166].
هذه الآيات ـ عباد الله ـ إنما هي بسط في المقام لما أجمل في قوله ـ سبحانه ـ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ?لَّذِينَ ?عْتَدَواْ مِنكُمْ فِى ?لسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـ?سِئِينَ [البقرة:65]. والمقرر ـ عباد الله ـ أن من خصائص القرآن الكريم، الإجمال في موضع، والبيان في موضع آخر، لأجل أن تشرئب النفوس إلى معرفة التأويل، وربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، وليس ذلك إلا للقرآن خاصة ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?باً مُّتَشَـ?بِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].
أيها الناس، إن حاصل معنى آيات الأعراف هذه، هو أن اليهود المعارضين لرسالة محمد زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به؛ ولذا أمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور، هذه القرية أهلها من اليهود وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله؛ حيث إنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله ـ سبحانه ـ قد ابتلاهم في أمر الحيتان بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كانوا يوم السبت جاءتهم في الماء شُرّعا مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت بجملتها، ففتنهم ذلك وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وكانت في الحفرة ألقوا فيها حجار فمنعوها من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها، حتى كثر صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164]. فلما لم يستجب العاصون؛ أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:166]. فسرّي عنه وكساني حلةً.
عباد الله، إننا بحاجة ماسة إلى أن نرفع الستار، ونلي الضوء الواعظ على هذه الآيات الكريمات، التي تتمخض عنها دروس ثرة، ووصايا حثيثة، نوجز منها على سبيل المثال لا الحصر: ما أوضحه الله في هذه الآيات مما تنطوي عليه طبائع اليهود، من خبث ومكر، وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحِرْباء مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات، قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذ?لِكَ مَثُوبَةً عِندَ ?للَّهِ مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60].
لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْر?ءيلَ مِنَ ?لْعَذَابِ ?لْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ?لْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ ?خْتَرْنَـ?هُمْ عَلَى? عِلْمٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [الدخان:30-32]. لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم أنهم يقودون إلى تقوى، أو يعرفون بمهادنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة وهي أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل جيل ما أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غير وبدل.
إن التاريخ صفحات متتابعة، يُطوى منها اليوم ما يطوى، ويُنشر منها غداً ما ينشر، وإن الله ـ جل شأنه ـ يختبر بالرفعة والوضاعة، بالزلزلة والتمكين، بالخوف والأمن، بالضحك والبكاء: وَأَنَّ إِلَى? رَبّكَ ?لْمُنتَهَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44]. كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتُخرس الألسن التي مُرنت الجدل، فإن ناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: وَ?للَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ?نظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأنعام:23، 24].
ولأجل ذا ـ عباد الله ـ جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.
ومن الدروس المستفادة ـ عباد الله ـ: أنه ينبغي على أهل العلم وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات، على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
ولا يمنع من التمادي على الوعظ بالأمر والنهي والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قبل أو لم يُقبل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]. ولم يقل: وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة؛ ولأجل ذلك قال النبي : ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) [رواه البخاري ومسلم] [1].
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ?لْقُرَى? حَتَّى? يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ?لْقُرَى? إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـ?لِمُونَ [القصص:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
[1] صحيح البخاري ح (3346)، صحيح مسلم ح (2880).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين.
أما بعد:
فإن من الدروس المستفادة من الآيات ـ عباد الله ـ، أن التهوين من شأن الإصلاح أو التخذيل أو الإرجاف فيه، ليس من سمات الأمة المسلمة الحقة، وأن مقولة بعضهم: "دع الناس وشأنهم فربهم رقيب عليهم"، ليس من السنة في شيء، إنما هو في الواقع إقعاد بكل صراط يوعد فيه، ويصد عن سبيل الله من آمن، وحينئذ لابد من معرفة العاقبة، لمن كان ديدنه كذلك: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا [الأعراف:164]. ومن هنا ـ عباد الله ـ جاء حذر ابن عباس من أن يكون ومن معه من الفرقة الثالثة.
وبعد، فيا ـ رعاكم الله ـ:
ليت شعري من لم يكن بالحق مقتنعاً يخلي الطريق ولا يوهن من اقتنعا
ومن الدروس ـ عباد الله ـ، أن الشارع الحكيم جاء بسد الذرائع، المفضية إلى ما حرم الله ورسوله ، وأن شيئا من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله لا يجوز ألبتة؛ لأن الحيل طرق خفية يتوصل بها إلى حصول الغرض، بحيث لا يُفطن لها إلا بنوع من الذكاء والفطنة، وهي وإن كانت تخفى على جملة من البشر؛ إلا أنها لا تخفى على رب البشر؛ إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها: إِنَّ ?لَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءايَـ?تِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى? فِى ?لنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ?عْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
وأياً كانت هذه الحيل، في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو نحوها، لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين، لا سيما في البنوك والمصارف، أو في الهيئات، والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية، أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا، فيُخدع ببهرجتها السذج، ويُغرُّ بها الذين ينشدون الكسب الحلال، فيوقعونهم في شرّ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتمع، وجمع المتفرق. ولقد كتب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فريضة الصدقة التي فرض رسول الله : ((ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) [رواه البخاري] [1].
ومن ذلك ـ عباد الله ـ، الحيل في إباحة المطلقة طلاقاً لا رجوع فيه، نتيجة شقاق ورعونة عقل، أعقبها ندم، ولات ساعة مندم، ثم لا تسألوا بعدها ـ عباد الله ـ عن كذا حيلة وحيلة يزوّرها في نفسه، ويخدع بها في إباحة ما حرم من لا يعرف الحيل، إلا على المحتال فلا؛ لأنه هو طبيبها، ويا محنة الأجيال بالمحتال، ولا غرو أن يقع أولئك في أتون الإثم، والتعدي على حدود الله، ناسين أو متناسين قول النبي فيما رواه أبو عبد الله بن بطة بسند جيد أن النبي قال: ((لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) [2].
وثبت في الصحيحين أن النبي قال: ((قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)) [3] ، وغير ذلك كثير وكثير، وما الأمثلة المطروحة إلا شعبة في واد، وترّة من نبع، القصد من ورائها تنبيه الغافلين، وإنذار المتغافلين، والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كدر في الصفو، وعطب في النية والمقصد، وهي وإن تقالّها ثلة من الناس، فان هذا لا يهوّن من شأنها، فإن القليل بالقليل يكثر، وإن الصفاء بالقذى ليكدر.
اللهم صل على محمد...
[1] صحيح البخاري ح (1450).
[2] إبطال الحيل لابن بطة ص 24 [نقلاً عن ارواء الغليل للألباني (5/375)].
[3] صحيح البخاري ح (2223)، صحيح مسلم ح (1582).
(1/989)
أولائك آبائي
سيرة وتاريخ
القصص
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
12/8/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة العودة إلى حال السلف ومنهجهم لتصحيح واقعنا الأليم. 2- عمر يتفقد أحوال
رعيته. 3- عدل الإسلام ودخول سمرقند. 4- استجابة امرأة وطفلها لدعوة أبي قدامة للجهاد.
5- محمود زنكي. 6- العز بن عبد السلام. 7- استغلال الإجازة النصفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أنَّ لنا اليوم مع تاريخنا وقفة أيضاً نَعْرِضُ فيها لمواقف شتى، مرت عبر القرون الإسلامية الماضية، نستلهم من هذه المواقف العبر فإنني أرى حالنا اليوم وقد تكالبت علينا الأمم والمصائب، أن نرجع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، وإنَّ التاريخ يعيد نفسه فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم، والمواقف المنتظرة من رجال اليوم هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه.
إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه
وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعلّ الصخر ينعاه
هذي معالم خُرْصٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه
والله يعلم ما قلَّبْتُ سيرتهم يوماً وأخطأ وقْعُ العين مجراه
واسترشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه
إذاً فيجب أن نعود إلى ماضينا وتاريخنا وآبائنا نستلهم منه الدروس والقوة، وهي وقفات لا أدعي أنها الوحيدة وإنما هي مختارات وثمار نقطفها من حديقة تاريخ أمتنا الغنَّاء، والوقفة الأولى نقفها مع ثاني الخلفاء الراشدين، عمر الفاروق رضي الله عنه، حيث رُوي عنه في خلافته عن أسلمَ مولاه، أنّه قال: " خرجت مع عمر في ليلة باردة إلى الحرّة حتى رأينا ناراً صغيرة؛ فقال لي: يا أسلم إني لأرى هاهنا ركباً قد قصّر بهم الليل والبرد، انطلق بنا؛ فهرولنا حتى دنونا، فإذا امرأة معها صبيان صغار وقِدْرٌ منصوبة على النار، وهم يتضاغون من الجوع؛ فقال عمر: السلام عليكم فقالت المرأة: وعليك السلام، فقال: أَدْنُ؟ قالت: إدن بخير؛ ثم دنا فقال: ما بالكم ومال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ فقالت: قصّرَ بنا الليل والبرد وأبكاهم الجوع؛ قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أسكِّتُهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر؛ قال: أي رحمكِ الله وما يُدري عمر بكم؟ قالت: أيتولى أمرنا ثم يغفل عنّا؛ فانطلق عمر وانطلقت معه يهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق وكبة من شحم؛ فقال: احمله عليّ فقلت: أنا أحمله عنك، فلما كرّرت عليه غضب، وقال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أمّ لك, احمله عليّ فحملته عليه وهرولنا حتى وصلنا إليهم فألقى ذلك عندها ثم يذرّ الدقيق وينفخ تحت القدر, ثم وضعه في صَحْفة لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك, وقام وقمت معه, فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين, فقال: قولي خيراً؛ ثم تنحَّى عنها وابتعدنا قليلاً عنهم، وجلس يتربص بهم، ثم قلت: لك شأن بهذا؟ فقال: ما كلّمني حتى رأى الصبية يصطرعون ثم ناموا؛ فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت ألا أنصرف حتى أرى أنهم ناموا ".
موقف رائع, وصورة جميلة, من صور الرعاية يكفينا من التعليق عليها أننا أوردناها كما هي، وأما وقفتنا الثانية مع مجتمع عظيم، وخليفة عظيم، وخلافة حُكمُها رحمة وعدل ونعمة، فقد كان قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، افتتحها بدون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله، أرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند يقول هذا الرسول: أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً فلما رأيت أعظم بناءٍ في المدينة، دخلت إليه وإذا أناس يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون، وإذا بحلقات هذا البناء، فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟ قال: لا، بل هذا هو المسجد؛ قال: صليت؟ قال: قلت: وما صليت؟ قال: وما دينك؟ قال: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين ,ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله؟ قال أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم، قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا ولكن اسلك هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ طيناً ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين، قال: فرجعت إلى الذي دلّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين، قال: فطرقت الباب وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم علي ورحّب بي وغسّل يديه, وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها, من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا ثم ختمها وناولنيها, فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها – يعني قتيبة بن مسلم – قال: وعدت بفضل الله مسلماً كلما دخلت بلداً صليت بمسجده وأكرمني أهله، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم ,ثم اجتمعوا في يوم وسألناه دعوانا فقلنا اجتاحنا قتيبة, ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا فقال القاضي: لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة – رحمه الله – أنت ما تقول قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية.
ما ظنّّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
ربما أنّ نفسك تحدثك الآن أخي المؤمن أنّ مثل هذه القصة ضَرب من الخيال، ولكن المبادئ الإسلامية التي تمكنت في نفوس هؤلاء حملتهم على ذلك فحوّلوها إلى واقع صحيح منفّذ لا مبادئ تُحفظ وتُقرأ وتُدّعى.
وموقف آخر مع إحدى نساء هذه الأمة المباركة، وكيف كانت تضحيتهنّ للدين وتربيتهنّ للأبناء، قال ابن قُدامة الشامي: " كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات فدعوت الناس إلى الجهاد ورغّبتهم فيه ثم سِرت إلى منزلي، فإذا بامرأة من أحسن الناس تناديني فوقفت لها فجاءت ودفعت إلي رُقعة وخرقة مشدودة، ثم انصرفت وهي تبكي فنظرت إلى الورقة وإذا مكتوب فيها دعوتَ الناس إلى الجهاد وذكرتَ ثوابه وأنا امرأة لا قدرة لي على الجهاد، وقد قطعتُ أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأتيتك بهما لتجعلهما قيداً لفَرَسك لعلّ الله أن يغفر لي فلما كان القتال أخرجتُ الضفيرتين فقيدت بهما فرسي ثم إذا أنا بغلام حسن الوجه، صبور على الشدائد في مقدمة القتال، فقلت له: يا فتى أنت راجلٌ ولا آمن أن تجول الخيل فتَطَأك بأرجلها فارجع إلى موضعك، فالتفت إليّ وقال: كيف أرجع والله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار قال: فأعطيته ترساً كان معي ثم قال: يا أبا قُدامة أتُرضني ثلاثة أسهم؟ فقلت: ما هذا وقت ترضى، فقال: بالله عليك أتُرضني؟ فأعطيته سهماً فوضعه في قوسه فقتل به رومياً، فقلت: أنا شريكك في الثواب، قال: نعم ثم أعطيته سهماً آخر فقتل به رومياً أيضاً ثم ناولته الثالث فرمى به أيضاً ثم جاءه سهم بين عينيه فخرّ صريعاً فقال: لي إليك حاجة إذا دخلت المدينة فأْتِ والدتي وسلِّم عليها وناولها هذا الخرْج، فقلت: ومن والدتك؟ قال: التي قطعت لك شعرها ثم مضى نحبه ودفنته فلما انقضى القتال وعدتُ إلى قبره رأيته على وجه الأرض قد قذفته ثم دفنّاه مرة أخرى فقذفته الأرض ولم نستطع على دفنه فنزلَت طيور فأكلته فلما أتيت المدينة ذهبت إلى بيت والدته فطرقت الباب فخرجت طفلة صغيرة فلما رأت الخُرْج رجعت ونادت يا أماه جاء أبو قُدامة بخرج أخي وما أرى أخي معه، واحسرتاه في العام الأول أصبنا بأبي، وفي الثاني بأخي وفي هذا بأخي، قال: قال فكدت أتلق من البكاء فخرجت تلك المرأة وهي تقول: أمهنئاً جئت أم معزياً؟ إن كان ولدي قد مات فعزّني وإن استشهد فهنئني، فقلت: لا والله بل استشهد قالت: وما علامة ذلك قلت قُتِل، قالت: قبلته الأرض أم لا؟ قلت: لا فقالت: الحمد لله ثم فتحت الخرج وأخرجت مسحاً أسود وغلاً من حديد، وقالت: إنه كان إذا جنّ الليل يلبس هذا المسح ويدخل يده في الغل ويقول: إلهي احشرني من حواصل الطير وبطون السباع وقد استجاب الله منه ذلك ".
هذه هي ذات العقال وولدها، همم تعانق الجبال وتطاول أعناق الجمال، ووقفة أخرى مع ليث الإسلام، السلطان الشهيد نور الدين محمود الذي حمل راية العدل والجهاد وبنى المدارس وحصّنَ دمشق، وكان بطلاً شجاعاً عمل كثيراُ من الإصلاحات ومن أهمها وقوفه في وجه الصليبيين في معركة حارم، وهو الذي جهّز الجيوش فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، ثم جاء صلاح الدين فأباد العبيديين واستأصلهم، ومما يُروى عن هذا الملك الزاهد المجاهد، الذي اتخذ من أماكن الجهاد قيادة له أنّ رجلاً من أتباعه حدّث فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول: يا يحيى بشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقلت: يا رسول الله ربما لا يصدقني؟ قال: قل له: بعلامة يوم حارم فذهبت من صلاة الصبح إلى نور الدين فقال لي: يا يحيى تحدثني أو أحدثك؟ فارتعدت وسكتّ فقال: أنا أحدثك ثم ذكر ما رأيت، قلت: نعم، فبالله ما معنى قوله بعلامة يوم حارم؟ فقال: لما التقينا مع العدو خِفت على الإسلام فانفردت ونزلت ومرّغت وجهي على التراب، وقلت: يا رب ومن هو محمود الكلب؟ الدين دينك والجند جندك وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك قال: فنصرنا الله عليهم.
وأما الوقفة الأخرى لنا فهي مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام وهو من عُرِف بوقفاته وقوته فلما أن أراد سلطان مصر، أن يقاتل التتار وقد استفحل أمرهم فرأى أن أموال الخزينة لا تكفي فلا بدّ أن يأخذ من الناس فجمع العلماء وشاورهم في هذا الأمر العام أنّ هذه الأموال للجهاد ولكن العز بن عبد السلام لم يوافق، وقال: هذا لا يمكن إلا أن نأخذ كل ما عندكم أنتم وبقية سلاطين المماليك وأمرائهم، كل ما عندكم من الخوائض المذهّبة والامتيازات والخصائص، فإذا كفت أموالكم وإلا نجمع من الناس فوافق السلطان مضطراً فجمعوا بعضاً من أموالهم فكفت الجيش وزادت وهذا يبين لنا كيف كان حرصهم على مصالح الناس العامة والخاصة.
هذه هي مواقف آبائكم ورجال أمتكم، لم نقصد من ذكرها المتعة وإنما نذكرها لحاجة الأمة في واقعها إلى أمثال هؤلاء وغيرهم ولكن على الأمة أن تعي دورها وأن تبدأ بإعداد نفسها.
أسأل الله العلي العظيم أن يحمي حوزة الإسلام والمسلمين، وأن ينصر إسلامنا، ودعاتنا، وجميع من أخلص للدين وأهله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين يمنّ على عباده بالأرزاق، ويأمرهم أن ينفقوا مما أعطاهم ليجدوه يوم التلاق، وأشهد أن لا إله الله الملك الخلاّق، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, أفضل خلق على الإطلاق، بعثه ليتمّم مكارم الأخلاق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة السُّبّاق وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الناس يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) ولقد أقسم الله بالعصر وهو الوقت وذلك لأهميته في حياة الناس، وحيث أننا مُقبِلون على إجازة نصف العام، حيث يتفرغ أبناؤنا الطلاب وبناتنا الطالبات وغيرهم، فيجب عليكم حثّهم على استغلال هذه الإجازة بما ينفعهم ويفيدهم ولا يضرهم فهناك السفر للحرمين وما في ذلك من أجر عظيم وفائدة كبيرة، أو السفر لزيارة الأقارب داخل البلاد، وهناك المخيمات العائلية والشبابية وهي لا بأس بها إن شاء الله، ولكننا نلاحظ مع الأسف أنّ بعض هذه المخيمات أصبحت تشتمل على بعض المنكرات من السهر والتدخين ومشاهدة الأشياء المُحرّمة، والتهاون في أداء الصلاة فينبغي لنا أن ننتبه لذلك وأن نعالج مثل هذه المنكرات، وأُوجّه حديثي إلى أولياء الأمور بأن ينتبهوا لأبنائهم ومشاركتهم في المخيمات الشبابية مع من يذهبون؟ وكيف يقضون أوقاتهم؟ ولا أرى مانعاً من أن تقوم أخي ولي الأمر بزيارة ابنك في مُخيمه مع زملائه، لترى حاله وحال أصدقائه، وتنفعهم بخبرتك، وتجربتك, وزيارتك.
ولا أنسى الشكر, إخوة الإيمان لمن قام على مخيم عنيزة للخدمات، والذي يقدم عدداً من الخدمات لأصحاب المخيمات وترفيه أطفالهم، وكذلك الفترات الدعوية والثقافية والرياضية والمسلية، وفي مقدمة هؤلاء بلدية مدينة عنيزة، ومركز الدعوة والإرشاد بعنيزة، وغيرهم من المؤسسات والدوائر.
فنسأل الله أن يَأجُر الجميع وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم إنه سميع مجيب..
(1/990)
الصبر على الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, مكارم الأخلاق
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعروف إذا لم يؤمر فيه يضمحل. 2- صبر الرسل والسابقين على الأذى في سبيل
المعروف. 3- نماذج من الأذى الذي تعرض له نبينا. 4- الصبر ثمن للجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واصبروا على ما أصابكم إن ذلك من عزم الأمور إن المعروف إذا لم يؤمر به ولم يحي بالعمل به والتواصي فيه ضاع واضمحل فانهدم بذلك جانب من دينكم وصار العمل به بعد ذلك منكرا مستغربا بين الناس وإن المنكر إذا لم ينه عنه ويحذر الناس بعضهم بعضا منه شاع وانتشر بين الناس وأصبح معروفا لا ينكر ولا يستغرب وقيسوا ذلك بما انتشر من منكرات كنتم تنكرونها من قبل وتستغربون وجودها بينكم.
إن كثيرا من الناس لا يشكون في فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يمترون في فائدته للأمة ولدينها في الحاضر والمستقبل ولكنهم يتقاعسون عن ذلك إما تهاونا وتفريطا وإما اعتمادا على غيرهم وتسويفا وإما جبنا يلقيه الشيطان في قلوبهم وتخويفا والله يقول: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وإما يأسا من الإصلاح وقنوطا.
أيها المسلمون ويا أيها المؤمنون: إن تخويف الشيطان إياكم أولياءه أو تسليطهم عليكم لا ينبغي أن يمنعكم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن ذلك أمر لا بد منه إلا أن يشاء الله امتحانا من الله وابتلاء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قائم مقام الرسل كما قال الله تعالى في وصف خاتمهم وسيدهم محمدا : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فإذا كان قائما مقام الرسل فلا بد أن يناله من الأذى ما يناله كما قد لاقى الرسل.
ولقد لاقى الأنبياء والرسل من أقوامهم أشد الأذى وأعظمه حتى بلغ ذلك إلى حد القتل قال الله تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم فهذا أول الرسل نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر فكان ملؤهم وأشرافهم يسخرون منه ولكنه صامد في دعوته يقول: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى قالوا متحدين له: يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين وقالوا مهددين له: لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين أي من المقتولين رجما بالحجارة.
وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن وإمام الحنفاء لبث في قومه ما شاء الله يدعوهم إلى الله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فما ثنى ذلك عزمه ولا أوهنه عن دعوته مضى في سبيل دعوته إلى ربه بعزم وثبات وأزال منكرهم بيده فغدا إلى أصنامهم فكسرها حتى جعلها جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون فلما رجعوا إلى أصنامهم وعلموا أن الذي كسرها إبراهيم طلبوا أن يؤتى به ليوبخوه على أعين الناس فيشهد الناس ما يقول فهل جبن أن يقول قول الحق في هذا المقام العظيم كلا بل قال لهم موبخا: أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون فعزموا على تنفيذ ما هددوه به: قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين فأضرموا نارا عظيمة وألقوا إبراهيم فيها وهي أشد ما تكون اتقادا ولكن رب العزة قال لها: كوني بردا وسلاما على إبراهيم فكانت بردا لا حر فيه وسلاما لا أذى فيه.
وهذا موسى ماذا حصل له من فرعون المتكبر الجبار؟ دعاه موسى إلى الله العلي الأعلى وقال: إني رسول رب العالمين فقال فرعون ساخرا به: وما رب العالمين وقال لملئه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ثم توعد موسى قائلا: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين فهل خاف موسى من ذلك؟ وهل وهنت عزيمته عن الدعوة إلى الله عز وجل؟ بل مضى في ذلك حتى بين لفرعون من آيات الله ما يهتدي به أولو الألباب ولكن فرعون استمر في غيه واستكباره وقال مهددا موسى بالقتل ومتحديا له أن يدعو ربه: ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال لوزيره هامان ساخرا بالله رب العالمين: يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ولكن موسى صبر على كل ما لاقاه من فرعون وقومه حتى كانت العاقبة له وكانت نتيجة فرعون وقومه ما ذكر الله: إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين.
وهذا عيسى عليه الصلاة والسلام أوذي من جانب اليهود فكذبوه ورموا أمه بالبغاء أي الزنى ويعزموا على قتله واجتمعوا عليه فألقى الله شبهه على رجل فقتلوا ذلك الرجل وصلبوه وقالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله قال الله تعالى مكذبا لما ادعوه من القتل والصلب: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.
وهذا خاتم الرسل وأفضلهم وسيدهم أعظم الخلق جاها عند الله هل سلم من الأذى في دعوته إلى الله وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ لا بل ناله على ذلك من الأذى القولي والفعلي ما لا يصبر عليه إلا من كان مثله ولم يثنه ذلك عن دعوته إلى الله عز وجل دعاهم إلى عبادة إله واحد: وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب وكانوا إذا رأوا النبي اتخذوه هزوا وقالوا ساخرين به: أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها ، وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون فآذوا النبي بكل ألقاب السوء والسخرية ولم يقتصروا على ذلك فحسب بل آذوه الأذى الفعلي فكان أبو لهب وهو عمه وجاره يرمي بالقذر على باب النبي فيخرج النبي فيزيله ويقول: ((يا بني عبد مناف أي جوار هذا)). وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: ((بينما النبي قائم يصلي عند الكعبة وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال قائل منهم: أيكم يذهب إلى جزور آل فلان أي ناقتهم فيجئ بسلاها ودمها وفرثها فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فذهب أشقى القوم فجاء به فلما سجد النبي وضعه على ظهره بين كتفيه قال ابن مسعود وأنا أنظر لا أغني شيئا لو كانت لي منعة فجعل أبو جهل ومن معه يضحكون حتى يميل بعضهم إلى بعض من الضحك ورسول الله ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءت ابنته فاطمة تسعى وهي جويرية حتى ألقته عنه فلما قضى النبي الصلاة قال: اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش اللهم عليك بقريش ثم سمى فلانا وفلانا)). وفي صحيح البخاري أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ((بينا رسول الله يصلي بفناء الكعبة إذا أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبي عدو الله ودفعه عن النبي قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ ولما اشتد به الأذى من قومه خرج إلى الطائف رجاء أن يؤوه ويمنعوه من قومه)). فلقى منهم أشد ما يلقى من أذى وقالوا: اخرج من بلادنا وأغروا به سفهاءهم يقفون له في الطريق ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه قال النبي : ((فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب)).
أيها المسلمون: إن هذا الصبر العظيم على هذا الأذى الشديد الذي لقيه النبي وإخوانه لأكبر عبرة يعتبرها المؤمنون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ليصبروا على ما أصابهم ويحتسبوا الأجر من الله ويعلموا أن للجنة ثمنا: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/991)
عيد الفطر 1418هـ
فقه
الزكاة والصدقة
إسماعيل الخطيب
تطوان
1/10/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث رسول الله النساء على الصدقة في يوم العيد وأنه صلى الله عليه وسلم
كان أفضل المتصدّقين 2- فضل الصدقة ومن ذلك الوقف وأثره في سدِّحاجات المحتاجين وحث الناس على الصدقة والمحافظة على الأعمال لأن انقضاء رمضان
لا يعني انقضاء زمن العمل بل الإنسان في عمل إلى أن يموت
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله، ها أنتم ودعتم شهر القرآن والصيام والقيام ، ودعتم شهراً هو أفضل شهور العام. شهر من صامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، شهر تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات ، شهر ترِقّ فيه قلوب المؤمنين الصادقين فتجود أيديهم بالإحسان ، شهر يكثر فيه أهل الإيمان من الذكر والتسبيح وتلاوة القرآن، حتى إذا أكملوا عدة الصيام، كبروا الله تعالى على ما هدى إلى هذه الطاعة، وشكروه على فضله وإحسانه، وحق له أن يشكر، الله أكبر.
عباد الله، خرج نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المصلى في أضحى أو في فطر ، فوعظ الناس بعد الصلاة وأمرهم بالصدقة، فقال: ((أيها الناس تصدقوا، ثم مر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدّقن)) [1]. فقد اغتنم عليه الصلاة والسلام هذا الجمع المبارك الذي يشهده العدد الكبير من الرجال والنساء، فدعاهم إلى الإكثار من الصدقة، هو عليه الصلاة والسلام الأسوة للناس في هذا الأمر، فقد كان أعظم الناس صدقة، لا يسأله أحد شيئاً عنده إلا أعطاه، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان عطاؤه عطاء من لا يخاف الفقر، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما أخذه.
وكان يتنوع في أصناف العطاء، فتارة بالهبة، وتارة بالهدية، وتارة بالصدقة، وتارة بإعطاء أكثر من ثمن الشيء ويكافئ على الهدية بأكثر منها، وكيف لا يكون كذلك وهو سيد البشر - الله أكبر.
عباد الله، جاءت الآيات البينات والأحاديث الصحيحة ببيان فضل الصدقة وثوابها، قال ربنا سبحانه: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ?لتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ?لصَّدَقَـ?تِ وَأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [التوبة:104]. فهذا تشريف عظيم لهذه الطاعة ولمن فعلها، فالله تعالى هو الآخذ للصدقات، والصدقات، في الحقيقة، لا يأخذها الفقراء إنما يأخذها الله تعالى الذي يقبل التوبة الصحيحة ويقبل الصدقات الخالصة له. وفي الآية تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحقها.
وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه - الفلوّ ولد الفرس - حتى تكون مثل الجبل)) [2]. وتلك كناية عن القبول والجزاء عليها من خزائن جوده التي لا تحصر - الله أكبر.
عباد الله: في الصحيح أن رسول الله قال:وقد وعى المسلمون هذا التوجيه النبوي فسارع المهاجرون والأنصار اقتداء برسول الله إلى وقف أموالهم صدقة مؤبدة. ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [3]. وقد وعى المسلمون فسارع المهاجرون والأنصار اقتداء برسول الله إلى وقف صدقة مؤبدة. واقتدى بهم من جاء بعدهم، وتنافس الناس في ذلك لما رأوه من نتائج باهرة في تحقيق التضامن الاجتماعي والقضاء على الحاجة والمسكنة، وقد استطاع نظام الوقف أن يسد حاجات المعوزين ويحقق غايات اجتماعية كريمة.
فالوقف لم يكن محصوراً على المساجد فقط بل نهض برسالة ضخمة في رعاية المؤسسات الخيرية والاجتماعية، وإننا لنجد في تاريخ الوقف شاهداً واضحاً على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة ومدنية وتكافل اجتماعي لا نظير له في الدنيا، فقد قرأنا عن أوقاف خصصت لتزويج الفقراء، وأخرى للقرض الحسن، وأخرى للعميان والزمنى، وأخرى لرفع ما يؤذي الناس في الطرقات، وأخرى لفكاك الأسرى. أما الرعاية الصحية فقد حازت النصيب الأوفى من أوقاف المسلمين حيث أسست المستشفيات لمداواة المرضى، وخصصت أوقاف لرعاية المقعدين وللعناية بالمجانين. كما حاز التعليم حظه الوفير من أوقاف المسلمين، بل إن التعليم لم يزدهر في العالم الإسلامي إلا بموارد الأوقاف التي كانت تصرف على دور القرآن ودور الحديث ومدارس الفقه وتؤمّن لأساتذتها وطلبتها أسباب العيش والتفرغ لخدمة العلم، كل ذلك قام به المؤمنون رجاء ثواب الله وفضله الذي لا يحصر - الله أكبر.
عباد الله، لقد نادى الإسلام بفضيلة الرحمة والتي هي رقة في الطبع تثمر الرفق والرأفة وتحرك عاطفة الإنسان بالخير والبر، وكان الوقف مظهر من مظاهرالرحمة في المجتمعات الإسلامية جاوز خيره عالم الإنسان إلى أجناس الحيوان. فكانت هناك أوقاف لرعاية الحيوان بتقديم الغذاء والعلاج خاصة للطيور التي تصاب أرجلها بكسور، وبذلك طبق المسلمون التوجيه النبوي: قال : ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة)) [4] و((من لا يرحم لا يُرحم)) [5].
اللهم ارحمنا يا رحيم، ووفقنا لكل خير يا كريم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الحيض – باب ترك الحائض الصوم ، حديث (304) ، ومسلم : كتاب صلاة العيدين – باب وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير... حديث (885).
[2] صحيح ، أخرجه البخاري : كتاب الزكاة – باب الصدقة من كسب طيب ، حديث (1410) ، ومسلم : كتاب الزكاة – باب قبول الصدقة... حديث (1014).
[3] صحيح ، أخرجه مسلم : كتاب الوصية – باب : ما يلحق الإنسان... حديث (1631).
[4] صحيح ، أخرجه أبو داود : كتاب الجهاد – باب : ما يؤمر به من القيام... حديث (2548) ، وابن خزيمة (2545) ، وأخرجه أحمد (4/180) بنحوه ، وكذا ابن حبان (545) ، قال الهيثمي : رجال أحمد رجال الصحيح ، المجمع (3/96). وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة (23).
[5] صحيح ، أخرجه البخاري ، كتاب: الأدب – رحمة الولد... حديث (5597) ، ومسلم : كتاب الفضائل – باب رحمته صلى الله عليه وسلم... حديث (2318).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله معيد الجمع والأعياد، المتفضل على عباده بمواسم الخير، نشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، فضله على سائر العباد، تدوم وتتكرر - الله أكبر.
عباد الله، خاطب الله المؤمنين حاثاً على الصدقة وإنفاق المال على الفقراء والمحتاجين والتوسعة عليهم فقال سبحانه: مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ?للَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245]. فهو تعالى كنّى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة، وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل الصالح الذي يستحق به فاعله الثواب في الدار الآخرة ، وقد لبى المسلمون نداء ربهم، فأخذ القوي بيد الضعيف، وأفاض الغني على الفقير، وأسس المسلمون نظامهم الاجتماعي على أساس التكافل الذي يمسح الجراح ويشد البناء، ويقضي على الصراع، والمسلمون اليوم بحاجة إلى التذكير بهذا الأمر ليعملوا على الاقتداء بالسلف الصالح بتأسيس أوقاف تؤمن العلاج والدواء للفقراء والمحتاجين، فالفقير بل المتوسط الحال، ليس في مقدوره أن ينفق على عملية جراحية تقدر بالملايين، لذلك كان على الأغنياء من كل بلد أن يتعاونوا فيما بينهم في هذا الأمر، ولنعلم أن الإنفاق في هذا القبيل أفضل من العمرة وحج التطوع، ذلك أن العمل الذي يتعدى نفعه للغير هو أفضل وأنفع وأزكى وأطهر - الله أكبر.
عباد الله، إذا كان شهر رمضان قد انقضى فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت، فاتقوا الله ربكم وحافظوا على صلواتكم وأدوا زكاتكم واجتنبوا ما حرمه الله عليكم، اتقوا الله واشكروه على أن هداكم للإسلام، وبلغكم شهر رمضان وأعانكم على صيامه وقيامه، وبلغكم ختامه.
وقد طلب منكم مقابلة هذه النعمة بما تستحقه فقال: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]. وها أنتم خرجتم إلى مصلاكم تكبرون على ما هداكم إليه من دين قويم وشرع حكيم، فأبشروا بالخير العميم والثواب الجزيل والخير الذي لا يحصر - الله أكبر.
(1/992)
فضل الجمعة وآدابها
الإيمان
الجن والشياطين
عبد العظيم بن بدوي الخلفي
الشين
مسجد النور
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الجمعة – حكم صلاة الجمعة وعلى من تجب – آداب يوم الجمعة – فضل الأذان.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها، تضيء لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم يسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا، لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون)).
هذا حديث عظيم في فضل يوم الجمعة وفضل أهلها الذين يحافظون عليها ويتأدبون بآدابها.
ولقد جاء في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة، منها: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
((إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، فيه خمس خلال: خلق الله فيه آدم، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفّى الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة. ما من ملك مقرّب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة)).
((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه، وقال بيده يقللها)).
((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
ولقد أمر الله تعالى اليهود بتعظيم يوم الجمعة فضلوا عنه واختاروا السبت، فأمر الله به النصارى فضلوا عنه واختاروا الأحد، وذلك لما ادخره الله تعالى لنا من الفضل والهداية.
قال النبي : ((نحن الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد)).
فتعظيم يوم الجمعة وشهود صلاتها فرض عين على كل مسلم بالغ، عاقل، حر، ذكر، صحيح، مقيم.
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [الجمعة:9].
وقال النبي : ((الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو صبي، أو امرأة، أو مريض)).
وقال : ((ليس على مسافر جمعة)). ومن شهدها من هؤلاء أجزأته.
ولقد كان النبي يحث على حضور الجمعة ويرغب فيه، فكان يقول: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
وكان يقول: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسّ الحصا فقد لغا)).
وكما حث على حضور الجمعة فقد حذّر من التخلف عنها لغير عذر، وبين أن التخلف عنها من غير عذر من موجبات الطبع على القلب.
قال : ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه)).
وعن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: سمعنا رسول الله يقول وهو على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)).
وقال : ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق إلى أقوام لا يشهدون الجمعة فأحرّق عليهم بيوتهم)).
فحافظوا – رحمكم الله – على صلاة الجمعة ولا تضيّعوها، واعلموا أن رسول الله قد أرشدنا إلى آداب ينبغي أن نأخذ أنفسنا بها يوم الجمعة، منها: الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة.
لقوله : ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي)). قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقت أرمت – أي: بليت؟! - قال: ((إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)).
ومنها: قراءة سورة الكهف، لقوله : ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)).
ومنها: الغسل، والتطيب، والتسوك، ولبس أحسن الثياب.
لقوله : ((من اغتسل يوم الجمعة واستنّ، ومّس من الطيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم جاء المسجد، ولم يتخط رقاب الناس، ثم ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي كانت قبلها)). قال أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام، إن الله جعل الحسنة بعشر أمثالها.
ومنها: التبكير بالرواح إلى المسجد.
لقوله : ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)).
وقال : ((من غسل واغتسل، وغدا وابتكر، فدنا وأنصت ولم يلغ، كان له بكل خطوة كأجر سنة صيامها، وقيامها)).
وكما رغّب في التبكير فقد حذّر من التأخير.
فعن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله رأى في أصحابه تأخرا، فقال: ((تقدّموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، وما زال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله)).
وكذلك كان خلفاؤه من بعده ينكرون على المتأخرين: عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي فناداه عمر: أية ساعة هذه؟! قال: إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت.
فقال: والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل!).
وقول عمر: (أية ساعة هذه؟) وفي رواية: فعرّض عنه عمر فقال: (ما بال رجال يتأخرون بعد النداء!).
وفي قطع عمر الخطبة وإنكاره على المتأخر دليل على أهمية التبكير بالرواح إلى الجمعة، فعليكم إخوة الإسلام بالتبكير، وإياكم والتأخير.
فإذا بكر المسلم بالرواح إلى المسجد فعليه إذا دخل المسجد أن يقدم رجله اليمنى ثم يقول: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، بسم الله، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)).
ثم يتقدم إلى الصفوف الأولى فيتمها، فعن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله فرآنا حلقا فقال: ((ما لي أراكم عزين؟)) ثم خرج بعد ذلك فقال: ((ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربها؟)) قالوا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ فقال: ((يتمّون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف)).
فإذا قام في الصف صلى ركعتين قبل أن يجلس، لقوله : ((إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)).
فإذا صلى ركعتين فإن شاء زاد عليهما ما شاء الله، وإن شاء اقتصر عليهما وجلس يذكر الله حتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام أقبل عليه واستمع له وأنصت، وليحذر كل الحذر من الكلام أثناء الخطبة، فقد قال النبي : ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت)).
وقول القائل لصاحبه: ((أنصت)) من الأمر بالمعروف وهو واجب، ومع ذلك فقد سماه النبي لغوا، وذلك من باب ترجيح الأهم وهو الإنصات لموعظة الخطيب على المهم وهو الأمر بالمعروف أثناء الخطبة.
ومعنى ذلك أن تشميت العاطس، ورد السلام، ومتابعة الخطيب على ذكر الله والصلاة على رسول الله ، ونحو ذلك، كله غير جائز أثناء الخطبة. أي أنه: لا كلام من حين يقول الإمام: إن الحمد لله، إلى أن يقول: وأقم الصلاة.
فإذا انصرف الإمام من الصلاة استحب لكل مصلّ أن يأتي بالأذكار المشروعة عقب الصلاة.
ومنها: استغفر الله، استغفر الله. اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. رب قني عذابك يوم تبعث عبادك. اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ.
ثم يقرأ آية الكرسي، والإخلاص والمعوذتين، ثم يقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين، والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين، ثم يقول تمام المائة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
ثم يقوم فيصلي سنة الجمعة، وهي أربع، لقوله : ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا)).
ويستحب أن يغيّر المكان الذي صلى فيه الفريضة لقوله : ((أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدّم أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله)) يعني السبحة.
فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى وقال: ((بسم الله، اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك)).
وكان بعض الصالحين يقول: اللهم إني قد أجبت دعوتك، وأدّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك فأنت خير الرازقين.
وقوله : ((لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون)) فيه بيان فضيلة المؤذن المحتسب، وقد قال : ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)).
وبين ما في النداء (الأذان) من الأجر في أحاديث كثيرة، منها: قوله : ((المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة)).
وقوله : ((المؤذن يغفر له مدى صوته، ويستغفر له كل رطب ويابس)).
وقوله : ((من أذّن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، ولكل إقامة ثلاثون حسنة)).
وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذّنت للصلاة فارفع صوتك بالأذان، فإنه لا يسمع صوت المؤذّن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/993)
واجبنا نحو القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
مكانة القرآن الكريم والواجب نحوه – خطورة الإعراض عن القرآن , ووصف المعرضين
فضل التلاوة والتدبر , وخطورة هجر ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أنزل الله إلينا هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي قال الله فيه سبحانه: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون وقال فيه جل شأنه: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابهاً مثاني تقشعر من جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، وأمرنا فيه ونهانا ما من خير إلا وهو في العمل به ولا من شر إلا والزجر عنه وارد فيه ضرب لنا فيه الأمثال: وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ورغب فيه وأمر بتدبره وحذر من الإعراض عنه وهجرانه: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها – أي فتركت العمل بها – وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى فمما ورد في هذا الكتاب مما هو جدير بالتدبر والوقوف عنده وصفه سبحانه حال المعرض عنه الذي لم يرفع به رأسه ولم يكترث بما ورد فيه وصفه سبحانه لمن هذا حاله بأوصاف عدة منها أنه شر الدواب قال جل شأنه: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ثم بين مراده بهم بقوله: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون فهم في ميزان الله وميزان كل مؤمن شر دابة تدب على وجه الأرض شر من القردة والخنازير والكلاب وغيرها وما ذاك إلا بسبب إعراضهم عن هذا الكتاب العظيم وهبهم الله العقول فلم يتدبروه بها والأسماع فلم ينصتوا إليه بها: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون والألسنة فلم ينطقوا بالإيمان به كلمة والأعين فلم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض فيؤمنوا بمن تكلم به سبحانه فهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه – أي فيما لم نمكنكم فيه – وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ولقد ذرأنا لجهمنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون توعد الله الكافر به ناراً تلظى ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده وشبه المعرض عنه بالحمار في قوله جل شأنه: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ومثله من أعرض عن القرآن، قال صلى الله عليه وسلم :(( يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيقال يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه )) [1] فهو كالحمار من حمر النار وقال سبحانه: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاويين ولو شئنا لرفعناه بها – أي بالآيات التي في صدره - ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2989).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فيا عباد الله أعيذ نفسي وإياكم أجمعين أن نكون ممن أعرض عن هذا الكتاب العظيم الذي بعث الله به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليخرجنا به من الظلمات إلى النور وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤمن مع هذا الكتاب لن يعدم خيرا: (( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها حلو ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو )) [1] فهو في كلا الحالين لن يعدم خيرا إما أن يكون ممن يعملون بهذا الكتاب العظيم يمتثلون آمره ويحذرون زاجره ويصدقون خبره ولا يكون ممن يجيد أو يعرف التلاوة أي القراءة لكنه عامل به مصدق لخبره ممتثل لأمره مجتنب عن زجره فهذا على خير عظيم وخير منه ذلكم التالي لآيات الله يقرؤها ويتدبرها ويعمل بها أما من أعرض عن هذا الكتاب وهو يدعي الإسلام فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر)) [2] فنعوذ بالله من الخذلان يا عباد الله علينا جميعا بتدبر هذا الكتاب العظيم فإن الله أنزله إلينا ليخرجنا به من الظلمات إلى النور ولن يعدم المسلم من التلاوة خيرا عظيما فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقوال ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) [3] فهذه ثلاثون حسنة تحصلها بتلاوة هذه الكلمة فأين نحن يا عباد الله عن هذا الخير العظيم نقرؤه ونتدبره ونعمل بما جاء فيه حتى لا نشابه الصم البكم الذين لا يعقلون علينا يا عباد الله أن لا نمل الموعظة بتدبر هذا القرآن فإن هذا القرآن فيه فلاحنا ونجاحنا وليحاسب كل امرئ منا نفسه كم له من صلة بالقرآن هل يتلوه كل يوم أو يتلوه كل أسبوع أو ينظر فيه ولو مرة في الشهر إن بعضنا قد تمر الشهور بل قد يمر العام ولا عهد له بكتاب الله إلا في رمضان: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
أسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من قوم يتدبرون القرآن ويعملون به.
[1] صحيح البخاري (5427) صحيح مسلم (797).
[2] المصدران السابقان.
[3] سنن الترمذي (2910).
(1/994)
من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أخلاق عامة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
كيف يكون المرء أعبد الناس بغير كثير عبادة ؟ - كيف يكون المرء أغنى الناس بغير مال ؟
ارتباط الإحسان إلى الجار بالإيمان – أهمية المودة ومحبة الخير للمسلمين – التحذير من كثرة
الضحك وأثره على موت القلب وهديه صلى الله عليه وسلم في ذلك – تباين أحوال الناس في
العمل بوصاياه صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا وأحب لأخيك ما تحبه لنفسك تكن مسلما ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) [1] ، إنها وصايا ثمينة تجمع خيري الدنيا والآخرة إنها أقصر طريق لأثمن مطلوب وأسمى غاية من فم أفضل رسول الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صلوات ربي وسلامه عليه فما يخرج من فمه صلى الله عليه وسلم إلا الحق فمن منا لا يرغب أن يكون أعبد الناس وأغنى الناس مؤمناً مسلماً حي القلب إن الرغبة في ذلك حاصلة عند جميعنا ولكن ضعف الهمم يقعد بنا في كثير من الأحيان عن بلوغ القمم وإن نبينا صلى الله عليه وسلم يرسم لنا أقصر طريق للوصول إلى هذه الغايات النبيلة فليس أعبد الناس من أكثر الصلاة والصيام والصدقة وهو في الوقت نفسه والغ فيما حرم الله يأكل الربا والرشا ويفعل ما يشاء من المحرمات بلا رادع ولا وازع يردعه أو يزعه وليس أعبد الناس من يكف عن الربا ويتعامل في المصارف الإسلامية ثم في الوقت نفسه يفتح على المسلمين قنوات تفسد عليهم دينهم وتخرب عليهم ديارهم ويضع لها الدعايات تلو الدعايات في الصحف والمجلات لينبه لها الغافلين ويذكر بها الناسين وليس أعبد الناس من يتصدق بالأموال الطائلة ويبني بها الملاجئ ودور الأيتام والعجزة وهو مقيم على تعامله في تجاراته بالحرام لا يبالي من أين يدخل عليه المال أمن المراقص أم من دور القمار أم من غيرها فحاله كما قيل : أمرضعة الأيتام من كسب فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي. نعم إن الحسنات يذهبن السيئات ولكن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولكن البحث والكلام فيمن هو أعبد الناس إن أعبد هؤلاء جميعاً مسلم يصلي الخمس ويصوم رمضان ويزكي ما عنده من مال وجبت فيه الزكاة ويحج إن كان مستطيعا ثم هو مع ذلك يتقي المحارم فيجعل بينه وبين الحرام سترا من الحلال عاملا بما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: ((اجعل بينك وبين الحرام سترا من الحلال من فعل ذلك استبرأ لدينه وعرضه ومن ارتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه وإن لكل ملك حمى وإن حمى الله في الأرض محارمه)) [2] فمن فعل ذلك فهو أعبد الناس ودينه خير دين كما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( خير دينكم الورع )) وفي الحديث الآخر: ((كن ورعاً تكن أعبد الناس)) [3].
أما الوصية الثانية: ((ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس )) ، إنها لكبيرة إلا على الخاشعين إنها لأمر عسير إلا على من يسره الله عليه المريض منا ينظر إلى الصحيح ولا ينظر إلى من هو أشد مرضاً منه والفقير منا ينظر إلى الغني ولا ينظر إلى من هو أشد فقرا منه بل الأغنياء منا ينظر كل منهم إلى من هو أشد غنا منه وسيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوصينا جميعا بقوله: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)) رواه مسلم [4] ولكنها الفتنة بحب المال والولع بجمعه والشغف بعده وتكنيزه كما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لو أعطي ابن آدم واديين من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالثا ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب)) [5] فالقناعة شيء عظيم ومن أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً ومن أوتيها فهو أشكر الناس كما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كن قانعاً تكن أشكر الناس)) [6] وفي هذا الحديث قال: ((ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)) فليت شعري من منا لا يطمح ولا يرغب أن يكون أغنى الناس وأشكرهم إنها القناعة والرضا بما قسم الله لك يجمع ذلك كله وفي المتفق عليه: ((ليس الغنى من كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)) [7].
أما الوصية الثالثة: ((أحسن إلى جارك تكن مؤمناً)) وقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أحاديث كثيرة الوصية بالجار فمنها قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) [8] ومنها ما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) [9] ومنها: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) [10] فإلى متى القطيعة بين الجيران وإلى متى العداوة بينهم وإلى متى التناكر وعدم التعارف نعم لقد أغنى الله كلاً منا بواسع فضله وكرمه أغنى كلاً منا عن الآخر ولكن أين الإحسان وأين الخلق الحسن وأين حسن التعامل وأين حسن الجوار ربما مرض بعضنا وجاره لا يعلم عنه وربما مات ولا يدري عنه جاره.
اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان اللهم أحسن أعمالنا اللهم أحسن أقوالنا اللهم اهدنا وسددنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (2/310) ، سنن الترمذي (2305).
[2] المعجم الكبير للطبراني عن النعمان بن بشير (لم أجده في المطبوع لأنه ناقص ) أنظر صحيح الجامع الصغير.
[3] سنن ابن ماجه (4217).
[4] صحيح مسلم (2963).
[5] صحيح البخاري (6436)، صحيح مسلم (1048).
[6] سنن ابن ماجة (4217).
[7] صحيح البخاري (6446)، صحيح مسلم (1051).
[8] صحيح البخاري (6016).
[9] صحيح البخاري (6014)، صحيح مسلم (2625).
[10] صحيح البخاري ( 6019)، صحيح مسلم (47).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ما من خير إلا ودلنا عليه وما من شر إلا وحذرنا منه صلوات الله وسلامه عليه أما بعد فيا عباد الله الوصية الخامسة: ((أحب لأخيك ما تحب لنفسك تكن مسلما)) وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)) [1] فلا شحناء ولا بغضاء ولا عداوات بين المسلمين إنما هو التسامح وحب الخير للغير أحب له ما تحب لنفسك أما الوصية السادسة: ((ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) فأين أهل اللهو وأين أهل العبث الذين يقضون أوقاتهم في الضحك وفي اللعب يقضون أوقاتهم في اللهو والعبث يقضون أوقاتهم في الضحك حتى تموت قلوبهم وتعرض عن الله جل وعلا أما الضحك والتبسم فهو هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما سئلت عنه عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقالت: كان بساما [2] صلوات الله وسلامه عليه أي لا تفارق البسمة ثغره صلوات الله وسلامه عليه تلكم هي وصاياه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث العظيم ولكن المسدد من تمسك بها وقد رأينا أقواما معرضون عنها ورأينا أقواما متمسكون بها وكل من هذا وهذا موجود في المسلمين اليوم لقد رأينا رجلا شلت أطرافه الأربعة وهو في المستشفى منذ أكثر من عشرين عاما ومع ذلك له همة عالية وله قلب قوي يدعو إلى الله أسلم على يديه بضع عشر رجلاً من النصارى من أطباء وممرضين وغيرهم وإذا جلست معه تحقر نفسك عنده وكأنه سليم معافى نسي أنه ابتلي في أطرافه الأربعة ورأينا جبلات من الناس لم يصبهم من العاهات ولم يصبهم من البلايا عشر معشار ما أصاب هذا ومع ذلك يتسخط من قضاء الله وقدره ويتذمر ولا يرضى بما قسم الله له ورأينا أقواما عندهم من المال ما لو أنفق على بعض الدول الإسلامية لكفاها ومع ذلك سمعنا منهم أقواما يقولون: ما نحن بجنب فلان وما تأتي أموالنا بجنب فلان ويشددون على المقترضين منهم ولا ينفقون بعض زكاواتهم ولا يحسنون ولا يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة ورأينا أقواما يستدينون من الناس ليفكوا كرب أقوام ويفرجوا على الناس كربهم فلله ما أحسن هؤلاء ولله ما أخسر أولئك.
نسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدينا لأرشد الأقوال والأفعال لا يهدي لأرشدها إلا هو وأن يصرف عنا سيء الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يصرف عنا سيئها إلا هو.
[1] صحيح البخاري (13)، صحيح مسلم (45).
[2] صحيح البخاري (4829)، صحيح مسلم (899) بمعناه.
(1/995)
آصرة الإيمان
الإيمان
الولاء والبراء
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
الآصرة التي تربط بين جميع الخلق هي الإيمان – مقياس تفاضل الناس عند الله – أسباب
تحصيل ولاية الله عز وجل – الرابطة بين المؤمنين والملائكة وأثرها – ولاية المؤمنين للنبي
صلى الله عليه وسلم – إلغاء جميع الأواصر الدنيوية عند تعارضها مع آصرة الإيمان
مآل أواصر الدنيا إلى الانقطاع
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن الله خلقنا من ذكر وأنثى وجعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف لا ليفخر بعضنا على بعض بالأنساب أو بالأحساب وبين لنا جل شأنه أن الآصرة الوحيدة التي تربط بيننا وبينه وبين ملائكته وبيننا وبين أنبيائه وبين سائر المؤمنين هي آصرة الإيمان وهي معقد الولاية بيننا وبينه سبحانه وملائكته وأنبيائه والمؤمنين: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم فأتقانا هو أكرمنا عنده من أي أجناس بني آدم كان وأفجرنا وأشقانا هو أذلنا عنده وإن كان أعظمنا حسباً ونسباً: ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا ، تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد وقد بين سبحانه في كتابه أنه ولي المؤمنين: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور بإيمانهم تولاهم ووليك هو من انعقد بينك وبينه سبب يجعلك تواليه ويواليك وتناصره ويناصرك: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فهو سبحانه وتعالى ولي المؤمنين والمؤمنون أولياؤه: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون يناصرونه سبحانه بتطبيق شرعه في كل شؤونهم: إن تنصروا الله ينصركم يأتون آمره ويحذرون زاجره ويصدقون خبره فهو وليهم سبحانه وهم أولياؤه والملائكة أولياء المؤمنين والسبب الجامع بينهم هو آصرة الإيمان: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون وهذه الرابطة بين الملائكة وبين المؤمنين هي التي عطفت قلوب الملائكة عليهم فدعوا لهم هذا الدعاء القرآني العظيم: الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تقي السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم والله جل شأنه وملائكته وصالح المؤمنين أولياء للنبي صلى الله عليه وسلم: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير والنبي صلى الله عليه وسلم ولي المؤمنين: إنما وليكم الله ورسوله بل هو صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم والمؤمنون بعضهم ولي بعض: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقال جل شأنه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم المفلحون أفبعد هذا الحشد الهائل من الأولياء لك أيها المؤمن بسبب إيمانك ترضى أن تخسر ذلك كله بشهوة أو شبهة تخرجك من عداد الأولياء: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير إن عبدا يعيش في هذا الملكوت الهائل وهو يشعر بولاية الله له وولاية الملائكة والنبي والمؤمنين له ثم يولي معرضا لهو الخاسر حقا ألا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي المؤمنين والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين محمد سيد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا عباد الله إن الله عز وجل لم يقم لأي آصرة من الأواصر التي تربط بين الناس في الدنيا أي وزن في كتابه إذا تعارضت مع آصرة الإيمان يقول الله عز وجل: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وقال جل شانه: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره. فليعلم كل مؤمن أنه بقدر زيادة إيمانه وبقدر كثرة تقواه يزداد من ولاية الله له ومن ولاية الملائكة ودعائهم له ومن ولاية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويجب على المؤمنين موالاته بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى ثم اعلموا يا عباد الله أن كل آصرة من الأواصر التي تجمع بين الناس في الدنيا مصيرها الانقطاع وتنقلب إلى عداوة يوم القيامة إلا الآصرة الإيمانية: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين المتقون فقط هم الذين تستمر آصرتهم وتبقى الصلة بينهم حتى يدخلوا الجنة فيتذكروا أيام كانوا في الدنيا كيف كانوا وكيف كانوا يعملون وتستمر ولايتهم ويستمر تناصرهم وتستمر أخوتهم ومحبتهم فليتقي الله كل امرئ لا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فلنحرص يا عباد الله على أن تكون الأخوة السائدة بيننا هي أخوة الإيمان نقوم بها بحقوقها المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من عباده المؤمنين وأن يزيدنا من الإيمان والتقوى حتى نأخذ من ولايته أوفر نصيب.
(1/996)
هوان الدنيا على الله
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
قوله تعالى : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ) دل
على : هوان الدنيا وعِظَم شأن الإيمان كما دل عليه القرآن والسنة – الفوز الحق والنجاة
الحقيقية في دخول الجنة والزحزحة عن النار – الآثار في عِظَم ثواب المؤمنين في الجنة وهوان
نعيم الدنيا في مقابلها – خطورة مخالطة الكفار والسفر إلى بلادهم على الإيمان – الآثار في بيان حقيقة الدنيا وهوانها على الله
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: يقول الله جل وعلا: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملئ الأرض ذهبا ولو افتدى به.
إن هذه الآية يا عباد الله: تصور لنا هوان الدنيا وزخرفها على الله وعظيم شأن الإيمان في ميزان الله إن فاقد الإيمان لا يقبل منه فداء ملئ الأرض ذهبا ومن الذي يملك هذا حتى يفتدي به الأرض بمساحتها الواسعة وأبعادها الشاسعة بمائها ويابسها مملوءة ذهبا ثم تقدم فداء لكافر من النار فإنها لا تفكه إنما يفكه الإيمان ولكنه لم يؤمن فما هم بخارجين من النار إن أحدا من أهل الدنيا لو ملك ملئ الأرض خشباً لا ذهبا لعددناه فينا أعظم الأثرياء فكيف بمالك ملئها ذهبا إن كلام الله يجل عن الخلق بل هو حق كما قال الله لن يقبل من أحدهم ملئ الأرض ذهبا أي ملئها ذهبا ولو افتدى به وما ذاك إلا لكونه كافرا مات على الكفر فليعي هذا جيدا من يهونون من شأن الإيمان والله سبحانه يقول في محكم ما أنزل: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون. ويقول سبحانه: أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ويقول جل وعلا: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون. أما أصحاب النار فهم الخاسرون: ألا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. فالفوز حقا هو النجاة من النار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ومثقال ذرة من إيمان خير من ملئ الأرض ذهبا لأنه ينجي صاحبه من النار وأدنى أهل الجنة منزلا رجل له مثل ملك الدنيا عشر مرات صح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق [1] الذي لا يخرج من فمه إلا الحق وقال فيه ربه: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها [2] ولنصيف إحداهن خير من الدنيا وما فيها يعني نساء الجنة [3] ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء [4] ولكننا نراهم يشربون ويأكلون: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فدل ذلك أن الدنيا لا تزن عنده جل وعلا ولا جناح بعوضة والعمل الصالح الذي يؤدي إلى الفوز في الآخرة خير من كل متاع الدنيا: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعض سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون أي والله فضل الله ورحمته خير مما يجمعون مهما بلغ جمعهم ألم تر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه قال: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) [5]. وهما من النوافل والفرض أحب إلى الله منهما كما قال سبحانه في الحديث القدسي: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)) [6] ومع ذلك فهذا شأن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها فيا أهل العقول الراجحة كيف نسوي بين المصلين وغيرهم أم كيف نسوي بين المؤمنين وغيرهم يا من هان شأن الإيمان في قلوبهم من كثرة مخالطتهم للكفار وغشيانهم أماكنهم وبلدانهم انتبهوا إلى هذه المعاني وتدبروها وأسلموا لها ولا تنكروها واعملوا لها أعمالا فذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (6571)، صحيح مسلم (186).
[2] صحيح البخاري (2892).
[3] صحيح البخاري (2796).
[4] سنن الترمذي (2320).
[5] صحيح مسلم (725).
[6] صحيح البخاري (6502).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه أما بعد فيا عباد الله يقول الله جل وعلا: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ويقول الله سبحانه: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً. ويقول جل شأنه: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ويقول جل وعلا: ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. فالبدار البدار يا عباد الله للعمل للآخرة والاستعداد ليوم اللقاء ((من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)) [1] ، ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) [2] فيا من اشتغل بالمال والأهل والولد اشتغل بذلك عن الاستعداد ليوم الرحيل أدرك نفسك فالموت حق ولا يدري أحدنا متى يبلغ أجله.
[1] سنن ابن ماجة (694).
[2] صحيح البخاري (3602)، صحيح مسلم (626).
(1/997)
تحكيم شرع الله
فقه
الحدود
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل العمل بالحدود , ووجوب التحاكم إلى شرعه – كذب أدعياء حقوق الإنسان وأذنابهم في
الاعتراض على الحدود – أثر تطبيق الشرع والحدود في إشاعة الأمن والطمأنينة – ارتفاع
معدلات الجريمة في الدول المسماة متقدمة وسبب ذلك – شروط القصاص وضوابطه ,
وضوابط تطبيق الحدود – ارتباط تحكيم الشرع بالإيمان بالله والرضا به رباً – الرد على
شبهات المنكرين تطبيق الحدود – الآيات الدالة على وجوب الحكم بشرع الله , وكون ذلك من
العبادة – المنكرون لتطبيق شرع الله والمجادلون فيه من أولياء الشيطان
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: ما تقولون في مطر يرسله الله على العباد والبلاد فيسقي أرضهم وينبت الله به زرعهم ويدر به ضرعهم ويلطف به هواءهم ويكثر ماؤهم وتنشرح باخضرار الأرض صدورهم وتقضى لهم حوائجهم فهم في رغد وسعد ونعمة ما بها نقمة ثم يدوم ذلك بهم أربعون صباحا إنها النعمة الكبرى تستحق من العباد إجمال الشكر لله إن حداً واحدا يعمل به في الأرض خير من ذلك كله روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا)) [1] إن كل ما يمكن تصوره من رخاء وسعة عيش ورغد كل ذلك لا يعدل في نظر المؤمن الحق تطبيق حد من حدود الله تطبيق حدود الله في أرض الله والحكم بشرع الله في عباد الله الخلق خلقه والأرض أرضه والملك ملكه والحكم حكمه والشرع شرعه فعباد الله في أرض الله يجب أن يحكموا بشرع الله مهما شغب المشاغبون أو لبس الملبسون إن الله هو الذي خلقنا وهو الذي يعلم ما يصلحنا ويصلح لنا: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، قل أءنتم أعلم أم الله ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون لقد كذب دعاة حقوق الإنسان بل وتناقضوا كذبوا حين زعموا أن أحكام الله في القتل والزنا والسرقة وحشية إنها العدل والرحمة والقسطاس أنزله الله بين العباد إنها الخير والبركة تعم البلاد والعباد إن كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجل عن الخلف إنه حق وصدق فحد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا وما هذا بمبالغة إنما هو الحق والوحي: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق)) [2] وأشار إلى لسانه إن الأمن والطمأنينة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة لن تكون إلا بتطبيق شرع الله في عباد الله وإلا فهو الشقاء والنكد والفوضى والسلب والنهب والهرج والمرج ولنعتبر ذلك حتى بالدول التي تسمى اليوم متقدمة فكم معدلات الجريمة فيها من قتل وسلب ونهب وسرقة وزنا وغيرها إن الوحشية حقا هي في ترك الحبل على الغارب للمجرمين يعيثون في الأرض فسادا أو في إيقاع عقوبة مخالفة لما شرعه الله من الحدود أو القصاص إن الحياة حقا في إقامة القصاص على القتلة: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وللقصاص شروط وضوابط يستوفيها الحاكم الشرعي على نور من الله يرجو ثواب الله فلا انحياز ولا ظلم فمتى استوفيت الشروط والضوابط وانتفت الموانع التي بينها الشرع كان الحكم بما شرع الله: كتب عليكم القصاص في القتلى ومثله الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد الحرابة للمفسدين في الأرض بالقتل أو السلب وقطع الطريق ونحوها إن الأمن قرين الإيمان في دعائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند رؤية الهلال فهو يدعو بهما رأس كل شهر يقول: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان)) [3] وإن الأمن لن يتحقق إلا بتطبيق شرع الله مع الإيمان والرضا بحكمه في كل شؤوننا: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك بل آمنوا بالله إيمانا مطلقا فرضوا بكل ما جاء منه قبلوا حكمه ورضوا شرعه في كل شؤون حياتهم كما أمرهم بذلك ربهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة وقوله: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين فماذا ينقم دعاة حقوق الإنسان على شرع الله وماذا يعيبون عليه أيعيبون عليه قتل نفس بنفس أم يعيبون عليه قطع يد سارقة كما قال سلفهم الزائغ معترضا:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فرد عليه أحد علماء الإسلام في قوله: عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري نعم إن الذي جعل دية اليد نصف دية الإنسان كاملا حين كانت أمينة وفية هو الذي أرخصها حين خانت فسرقت فجعلها تقطع في ربع دينار فصاعدا ألا فليعلم دعاة حقوق الإنسان أن مائة إنسان يقتلون في عام كامل فيستتب الأمن بقتلهم ويحصل خير كثير للبلاد والعباد خير بما لا يقاس من الفوضى الناجمة عن تنحية شرع الله في كثير من البلاد فأين هم من التباكي على حقوق الإنسان المهدرة في أنحاء شتى من بلاد الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (2/402)، سنن النسائي (4904) وعنده (ثلاثين صباحاً) سنن ابن ماجة (2538).
[2] مسند أحمد (2/162)، سنن أبي داود (3646)، سنن الدارمي (484).
[3] سنن الدارمي (1687-1688).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد فيا عباد الله إن الآيات في وجوب الحكم بشرع الله والزجر عن تركه وتنحيته كثيرة جدا في كتاب الله فمن ذلك قول الله سبحانه: أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وقوله جل شأنه: إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه. فتطبيق شرعه وتنفيذ حكمه عباده لا يجوز صرفها لغيره ومنها: إن الحكم إلا لله عليه توكلت وقوله جل شأنه: إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين وقوله سبحانه: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله وقوله جل شأنه: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير وقوله سبحانه: كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون وقوله سبحانه: له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون ونهى سبحانه عن الشرك به في الحكم كما نهى عن الشرك به في عبادته فقال جل شأنه: ولا تشرك في حكمه أحدا وفي القراءة الأخرى: ولا يشرك في حكمه أحدا ونعى على قوم يزعمون أنهم آمنوا يزعمون الإيمان وهم يتحاكمون إلى الطاغوت فقال سبحانه: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وأنكر على من يتبع شرائع لم يأذن بها الله بقوله سبحانه: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وقوله: قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون وقوله: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون وبين لنا سبحانه أن كل من يجادل في أحقية شرع الله وحدوده وأحكامه أنه من أولياء الشيطان وأن جداله بوحي من الشيطان وأننا إن أطعناهم في ترك شرع الله والرضا بفرائض البشر وقعنا في الشرك حتى قال الله سبحانه في ذلك: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون.
(1/998)
فضل العشر من ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
عشر ذي الحجة وكونها أفضل الأيام – فضل العمل الصالح في هذه الأيام , وضرورة اغتنام
مواسم الطاعة – أبواب الخير كثيرة منها : الصلاة – القرآن – الصوم – الصدقة – الحج
الأضحية والسنة فيها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله قد أطلتكم أيام عظيمة هي أفضل أيام الدنيا كما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر)). أقسم الله بها في كتابه واقسامه بشيء دلالة على مكانته عنده: والفجر وليال عشر وهي عشر ذي الحجة فيها يوم عرفة الذي قال فيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة)) [1] خاتمتها يوم النحر ثم يوم القر اللذين قال فيهما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر)) [2] ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر وهو يوم العيد ويوم القر هو الغد منه الأعمال الصالحة فيها لها شأن عظيم صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما العمل الصالح في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة)) [3] وفي رواية: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة)) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) [4] فأي فضل هذا وأي موسم للخيرات وأي باب لجمع الحسنات الجهاد الذي هو أفضل العمل بعد الإيمان بالله والصلاة لوقتها ما لم يكن في هذه العشر فالعمل فيها أحب إلى الله منه يا له من موسم يفتح للمتنافسين ويا له من غبن يحق بالقاعدين والمعرضين فاستبقوا الخيرات يا عباد الله وسارعوا إلى مغفرة من الله وجنة عرضها السماوات والأرض وسابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض وإياكم والتواني وحذار من الدعة والكسل فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) رواه أبو داود والحاكم [5] وغيرهما بل في عمل الآخرة الاستباق والمسارعة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وقال سبحانه: فاستبقوا الخيرات ألا وإن أبواب الخير كثير ألا فلا يفوتنكم موسمها فالعاقل من أجهد نفسه وقت المواسم ليظفر بالربح الكبير وكم رأينا من عقلاء أهل الدنيا والخبراء بمواسمها من يواصلون الليل بالنهار دءبا لا ينامون إلا لماما ليحصلوا من وراء جهدهم على ربح لا يتجاوز مثل مالهم أو نصفه أو أقل بل ربما يخسرون مالهم وأرباحه فكيف يليق بعقلاء أهل الإيمان ألا يضاعفوا جهودهم فيزدادوا من الأعمال الصالحة التي ترضي عنهم ربهم وتقربهم إليه زلفى وترفعهم عنده درجات لقد بين الله لنا مراضيه في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن أراد الخير وفقه الله إليه إن شاء فمن أبواب الخير التي يحبها الله الصلاة فبعد أن يحرص الفرد المسلم على أدائها مع جماعة المسلمين كما أمره ربه بقوله: واركعوا مع الراكعين ونبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله: ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)) [6] والعذر خوف أو مرض أو مطر فإن العبد المسدد يتزود من نوافل الصلاة في هذه العشر لأنها باب يحبه الله كما صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) [7] ، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم)) [8] ، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما عمل ابن آدم شيئا أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن)) [9] ، فهذه ثلاثة أبواب من العمل الصالح الصلاة النافلة وصلاح ذات البين وحسن الخلق ما عمل ابن آدم شيئا أفضل منها فأين المفرطون في صلاة الفريضة فضلا عن صلاة النافلة وأين الساعون بإفساد ذات البين النمامون وأين ذوي الأخلاق السيئة أين هؤلاء جميعا عن هذا الفضل العظيم الذي خسروه فلنتب إلى الله من معاصينا ولنصلح أحوالنا ولنحسن أخلاقنا فقد ذكرت امرأة عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكروا من صلاتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هي من أهل النار)) [10] فالمسدد من وقع على ما يرضي ربه وحذر ما أسخطه قال بعض أهل العلم الحكمة هي فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ومما جاء في فضل نوافل الصلاة قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحط عنك بها خطيئة)) [11] وفي الرواية الأخرى: ((ما من عبد يسجد لله سجدة إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بها سيئة ورفع له بها درجة فاستكثروا من السجود)) [12] وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) [13] وفي الرواية الأخرى: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) [14] ، وإن من أبواب الفضل يا عباد الله وميادين الخيرات تلاوة القرآن صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) [15] وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) [16] وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آية أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل)) [17] وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)) ومن ميادين الخيرات فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الترغيب في صوم الاثنين والخميس [18] وفي صوم يوم عرفة [19] ولا أعلم عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الترغيب في صوم عشر ذي الحجة شيء فنصوم الأيام التي رغبنا في صيامها كل العام كالاثنين والخميس ويوما بعد يوم كصيام داود عليه السلام [20] ومن الأعمال الصالحة الصدقة فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أن ملكا ينادي في السماء يقول اللهم اجعل لمال منفق خلفا واجعل لمال ممسك تلفا)) [21] وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنفق يا بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالا)) وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليكِ ولا توعي فيوعي الله عليكِ ولا توكي فيوكِ الله عليكِ)) [22] وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((ثلاث أقسم عليهن ما نقص مال عبد من صدقة)) [23] ثم ذكر تمام الحديث ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) [24] وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((صدقة السر تطفيء غضب الرب)). وإن من أفضل الصدقات سقي الماء كما صح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((أفضل الصدقة سقي الماء)) [25] اللهم وفقنا لأرشد الأقوال والأفعال لا يوفق لأرشدها إلا أنت اللهم جنبنا سيئ الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يجنبنا سيئها إلا أنت اللهم اهدنا وسددنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (1348).
[2] سنن أبي داود (1765).
[3] سنن الدارمي (1773).
[4] مسند أحمد (2/167)، سنن أبي داود (2438)، سنن الترمذي (757)، سنن ابن ماجة (1727).
[5] سنن أبي داود (4810)، مستدرك الحاكم (1/64)، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
[6] سنن ابن ماجة (785).
[7] رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وعزاه له السيوطي في الجامع الكبير، انظر صحيح الجامع (3870).
[8] عزاه في الجامع الكبير لابن المبارك.
[9] عن أبي هريرة انظر صحيح الجامع (3518).
[10] مسند أحمد (2/440).
[11] صحيح مسلم (753).
[12] سنن ابن ماجة (1414).
[13] صحيح البخاري (936)، صحيح مسلم (1239).
[14] مسند أحمد (2/26)، سنن أبي داود (1103)، سنن الترمذي (389)، سنن النسائي (1648)، سنن ابن ماجة (1312).
[15] صحيح البخاري (4639).
[16] سنن الترمذي (2835).
[17] صحيح مسلم (1336).
[18] مسند أحمد (5/201)، سنن النسائي (2318).
[19] صحيح مسلم (1977).
[20] صحيح البخاري (1840)، صحيح مسلم (1962).
[21] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الرحمن بن سبرة، وهو غير موجود في المطبوع لأنه ناقص وقد عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد له (3/122).
[22] صحيح البخاري (2402)،صحيح مسلم (1709)، دون قوله "ولا توكِ فيوكِ الله عليك".
[23] مسند أحمد (4/231)، سنن الترمذي (2247).
[24] صحيح البخاري (1334)، صحيح مسلم (1712).
[25] مسند أحمد (6/7)، سنن النسائي (3606)، سنن ابن ماجة (3674).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد فيا عباد الله فإن من أفضل الأعمال في هذه الأيام الإهلال بالحج والتقرب إلى الله جل وعلا به والتقرب إلى الله بصوم عرفة لمن لم يحج ولعل الله جل وعلا ييسر لنا الكلام عن فضلهما في الجمعة القادمة ومن أفضل القربات الأضحية فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من وجد سعة ولم يضحي فلا يقربن مصلانا)) [1] ، وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه: ((إذا دخل العشر – أي عشر ذي الحجة - وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئا)) [2] ، وفي رواية: ((فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي)) [3] ، فدونكم الفضائل فاغتنموها وإياكم والتواني والكسل ولنعلم أن لله جل وعلا نفحات في أيامه فلنهتبل الفرصة ولنستكثر من الحسنات عل الله جل وعلا أن يعفو عن زلاتنا وسيئاتنا.
[1] مسند أحمد (2/321)، سنن ابن ماجة (3114).
[2] صحيح مسلم (3653).
[3] سنن الدارمي (1866).
(1/999)
سورة النور
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
مميزات سورة النور وخصائصها , ومحافظتها على كرامة الأسرة وشرفها – الواجب على
المجتمع المسلم للمحافظة على حرمات الله وحقوق الناس – معالجة الغريزة الجنسية وضوابطها
في الإسلام ونظرته لها , وتهذيبه لها لا كبتها – علاج هذه الغريزة هو الزواج – خطورة تعقيد
أمر الزواج وأثر ذلك على المجتمع – توجيهات لمن عجز عن الزواج بالاستعفاف والصوم
محاربة الإسلام بوادر الانحراف الجنسي , وآداب الاستئذان – خطورة الخلوة بالنساء والتساهل
في ذلك – الأمر بغض البصر والأسباب المعينة عليه وخطورة النظرة المحرَّمة , وأمر النساء
بالحجاب – آداب الاستئذان – عقوبة الزنا , ومتى تكون , وحكمتها – عقوبة القذف وحكمتها
الغناء من أسباب شيوع الفاحشة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المسلمون: من سور القرآن العظيمة والقرآن كله عظيم سورة النور وهي سورة تميزت بميزات فريدة واختصت بخصائص فريدة وذلك أنها تميزت بالحفاظ الشديد على كرامة الأسرة وقيمة العرض والشرف وفصلت هذه السورة ما ينبغي أن يلزمه المجتمع المسلم كي يحافظ على حرمات الله وعلى حقوق الناس رسمت هذه السورة للقضايا الجنسية والإجتماعية صورا دقيقة ألزمت المؤمنين بها وأوقفتهم عند حدودها أيها الإخوة المسلمين ومع أن سور القرآن كلها منزلة من عند الله تبارك وتعالى وهذا أمر معروف ومعلوم أنها كلها سور أنزلها الله إلا أن هذه السورة تميزت ببدء عجيب فقد كانت بدايتها بداية فريدة فقال الله عز وجل: سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون سورة أنزلناها وكل السور منزلة إلا أن هذه السورة كانت بهذه البداية المميزة لما اختصت به من توجيهات وتعاليم فريدة ذلك أنها تعالج قضية خطيرة وهي قضية الجنس هذه الغريزة أشد الغرائز في كيان الإنسان ولما احتاجت هذه الغريزة إلى الضوابط التي تضبطها في مسارها وانطلاقها ليكون مجتمع نظيف كانت هذه البداية والله أعلم وينبغي أن نعلم أيها الإخوة ونحن نتحدث عن ضوابط الجنس في سورة النور ينبغي أن نعلم إبتداء أن الإسلام قد اعترف بهذه الغريزة وأقرها ولم يكبتها بل جعل لها ضوابط وتوجيهات لتنضبط هذه الغريزة من أي انطلاق مسعور إن الإسلام يرفض التكلف. أيها الإخوة إن الإسلام دين واقعي عملي لا يعيش آفاق الخيال ولا يجنح بتعاليمه وتشريعاته الخيال والأحلام بل وقف على أرض الحقيقة والواقع إن هذه الغريزة مزينة للناس قال الله عز وجل: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث كل ذلك أمر مزين: ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب سبحانه وتعالى أيها الإخوة المسلمون إن العلاج الأنجع لهذه الغريزة العاتية هو الزواج الزواج هو بلسم شاف لهذه الغريزة العاتية وقد جاء الأمر لأولياء الأمور والفتيات بأن يزوجوا كل من لا زوج لها أو من لا زوج له فقال عز وجل: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم أمر بإنكاح الأيم الذي لا زوجة له ومن لا زوج لها ويشرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه الرباني حينما يقول في الحديث الصحيح: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي [1] بسند حسن إن تعسير أمر الزواج وإيجاد العقبات في طريقه من شأنه أن يوجد الفتنة في المجتمع وأن يوجد الفساد كما نلحظه من المغالاة التي تحدث في المهور أو من تصعيبات أمر الزواج إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه أيها الإخوة المسلمون ومن لم يستطع إلى النكاح طولا ومن لم يجد ما يستطيع به الزواج فماذا عليه أن يصنع جاء التوجيه في هذه السورة أيضا بأن الذي لا يقدر على النكاح عليه أن يستعفف عليه بالاستعفاف فقال عز وجل: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ليستعفف وتأملوا هذا التعبير القرآني الفريد إنه يطالب بالاستعفاف فهي على صيغة الاستفعال لأن العفة تتطلب من صاحبها معاناة وجهدا وتكلفا ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : ((ومن يتعفف يعفه الله)) [2] فليتعفف الذين لا يجدوا النكاح وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) [3].
أيها الإخوة المسلمون وعملا بمنهج الاستعفاف هذا نجد أن الإسلام حارب الإنحراف الجنسي بمحاربة بوادره الأولى وبمحاربة المقدمات التي تنفذ إليه وتغري به ففي هذه السورة نقرأ قول الله عز وجل وهو يمنع الإنحراف يقول تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم إن النداء في هذه الآية أيها الإخوة فيا أيها الذين آمنوا يستثير فينا الإيمان لماذا؟ لأن الإيمان هو الذي يخلق الضمير الحي اليقظان الذي يجعل الإنسان إذا قرع بيتا ولم يجد الرجل فيه فإنه يرجع من حيث جاء لا يجوز البتة اقتحام بيت ليس فيه صاحبه لا يجوز دينا ولا مروءة اقتحام بيت وفيه امرأة وحدها فإن البيت حصنها وينبغي أن تبقى في هذا الحصن مصونة عزيزة مكرمة وبذلك أيها الإخوة يرفض الإسلام أي تقليد اجتماعي تواضع عليه الناس أو تعارف عليه المجتمع الذي من شأنه أن يجعل الخلوة ممكنة بالمرأة إن الإسلام يرفض ذلك كله يرفض أي تساهل في هذا الأمر فلا يجوز الدخول على النساء قال صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والدخول على النساء)) قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) [4] الحمو أقارب الزوج أخو الزوج أو أقاربه وإن كان يحدث تساهل في أعراف بعض الناس فأي عرف يصادم شرع الله مرفوض لأنه من مأمنه يكمن الخطر قد تكون الخطورة في هذا الحمو قريب الزوج والواقع خير شاهد لذلك أيها الإخوة المسلمون إن توجيها آخر نجده في هذه السورة المباركة من شأنه أن يجفف المنبع الذي تأتي منه الفتنة وذلكم هو غض البصر إن الذي يرسل عينه تتلصص على أعراض الناس من هنا أو هناك إنه ولا شك يفتح على نفسه أبواب الشر كما قيل: والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر:
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
إن فتح باب الفتنة يكون في العين المحملقة التي تتلصص على أعراض الناس في البصر الطامح الطامع الجائع الذي يؤذي الغاديات والرائحات والإيمان هنا أيها الإخوة أساسي لابد منه لكبح الهوى الجامح من الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ من؟ من الذي يعلم ما تخون به العين عندما تنظر يمنه أو يسرة؟ من؟ إنه الله تبارك وتعالى من الذي يعرف كيف ترسل بصرك وما النية الكامنة وراء هذه النظرة؟ إن الإيمان أيها الإخوة لابد منه ولذلك جاء التوجيه للمؤمنين بغض البصر في هذه السورة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وجاء التوجيه أيضا للمؤمنات عليهن أن يحفظن أبصارهن هن الأخريات منعا للمثيرات الحسية فقال عز وجل: وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن يضربن بخمرهن على جيوبهن في هذا إشارة وتنبيه إلى أن المرأة عورة ينبغي أن توارا وأن تدارا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان)) [5] ، عليها ألا تلبس ضيقا يصف البدن أو خفيفا يشف عن مفاتنه حتى لا تغري العيون الجائعة أيها الإخوة المسلمون النظر سواء كان في الشوارع في الأسواق على المجلات على الشاشات كله نظر لا يجوز ومن الضمانات والحصانات للأعراض التي ذكرتها هذه السورة بعد أن ذكرت أدب الاستئذان من خارج البيوت ذكرت هذه السورة في آخرها أدب آخر وهو أدب الاستئذان من داخل البيوت بل الغرف قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات انظروا إلى التفصيل الغريب أيها الإخوة ثلاث مرات فيها عورات ليستأذن الأطفال في هذه الأوقات: من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم إن الأولاد أيها الإخوة يجب أن يتعلموا أدب الدخول في الغرف فلا يدخل الأطفال في أوقات معينة إلا بعد استئذان يجب أن ينبه الأطفال على هذا فهذا أدب إسلامي رفيع لا ينبغي أن نتجاهله ولا أن نزدريه لأنه من ضوابط العرض والشرف التي تربى عليها الأسرة المسلمة فقد تعلق سورة جنسية في ذهن الطفل فتؤذيه أو تقلقه أيها الإخوة المسلمون هكذا كما لاحظنا في هذه السورة جاءت فيها وسائل الوقاية عن أسباب الغواية جاء فيها الحض على زواج الأيامى والتحذير من البغاء والنهي عن إبداء الزينة والتبرج والأمر بغض البصر وشرعت آداب للبيوت للاستئذان على أهلها من خارجها وداخلها كل ذلك أسباب وقائية لضمان الطهر والتعفف ودفعا للمؤثرات والمثيرات التي تهيج المجون وترهق أعصاب المتحرجين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي (1084-1085).
[2] صحيح البخاري (1428)، صحيح مسلم (1053).
[3] صحيح البخاري (5065)، صحيح مسلم (1400).
[4] صحيح البخاري (5232)، صحيح مسلم (2172).
[5] سنن الترمذي (1173).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وعلى إمام المرسلين محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن سار على دربهم ومن نهج نهجهم إلى يوم الدين. وبعد:
أيها الإخوة المسلمون وبعد تلك الضمانات والحصانات والصيانات التي جاءت في هذه السورة المباركة التي قررها المنهج الرباني الفريد لضبط الغريزة الجنسية أقول بعد هذه الحصانات وهذه الصيانات والوسائل الوقائية إذا حدث انحرف شخص أو امرؤ فلم يحترس بهذه الوسائل ولم يأخذ بأسباب الوقاية حتى دنس عرضه تأتي العقوبة الإسلامية بعد ذلك الجلد إن كان غير محصن أو الرجم إن كان محصنا بعد الوقاية يأتي العلاج ويكون العلاج رادعا وحاسما ووقاية مقررة في الشرع والآية في ذلك واضحة أيها الإخوة من سورة النور قال الله عز وجل: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الجلد أيها الإخوة عقوبة للإنسان متى؟ إذا هبط إلى درك الحيوان فكما أن الحيوان يضرب بالعصا حتى ينفذ الأمر الذي صدر إليه لأنه لا عقل له فكذلك إذا هبط إنسان عن منزلة العقل وعن التقوى والدين وارتكس في حمأة الشهوة فأصبح منقادا لغريزته كالحيوان فإنه يتعرض للعقوبة التي يتعرض لها الحيوان لماذا ؟ لأنه صار حيوانا إذ ينزل على عرض ليس له يسطو على عرض ليدنسه في الوقت الذي ينبغي أن يصونه أسألكم بالله عليكم من الذي يرضى زوجة قد دنست عرضها وهتكت حياءها إنه يفسدها على زوجها في المستقبل كان ينبغي أن يحفظ هذا العرض من التي سوف تكون مربية عياله وجيله امرأة لا ترعى حق العرض كيف يأمنها على فراشه إذن أيها الإخوة إنه وإنها صاروا حيوانات ينبغي أن يعاقبوا وأن يجلدوا أما ذاك الذي قد أحصن وقد هدأت شهوته فلماذا يهتك بيوتا زوجية لماذا يفعل ذلك ليس إلا مجرد نزوة طائشة ليس إلا مجرد شهوة عابرة ولذلك كانت عقوبته الرجم حتى الموت يعلق أحدهم تعليقا طريفا في عقوبة الرجم للزاني المحصن قال: إن من هدم بيت الزوجية بزناه ومن هدمت بيت الزوجية بزناها كل المحصنين ينبغي أن تنتقم أحجار البيوت كلها من جلده ومن بدنه حتى يتعلم كيف يصون العرض كيف يصون البيت أيها الإخوة المسلمون والعقوبة كانت رادعة لأن الله تعالى يقول: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله لا تأخذكم الرأفة في هذا لا هوادة في هذا الأمر، ولتكون العقوبة أوجع وأوقع في النفوس كانت على محضر ومشهد من طائفة من المؤمنين لترتدع نفوس الفاعلين أو نفوس المشاهدين وإلى جانب صيانات الأسر عن طريق منع العمل الرديء الفاحشة فإن الأسر يجب أن تصان عن طريق رفض أي تهمة أو اتهام لا يليق من هذا القبيل والإسلام أيضا كان في ذلك حاسما تأملوا أيها الإخوة في واقع بعض الناس اليوم المسلمون وفي هذا البلد الحرام تسمع ألسنة تلهو تتكلم بالألفاظ الفاحشة النابية يا ابن كذا وابن كذا وابن كذا لا يجوز هذا أيها الإخوة إنه قذف وهؤلاء ينبغي أن يحاكموا وأن يقام عليهم حد القذف إن لم يأت بالبينة والبينة في هذا بينة كاملة أربعة شهود لو كانوا ثلاثة يحدون أيها الإخوة لا ينبغي أن نتساهل في ذلك لا ينبغي أن نطلق العنان لألسنتنا تتهم الأبرياء بغير بينة كاملة الله تبارك وتعالى يقول: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إن ترك الألسنة تتكلم في أعراض الناس إن من شأنه أيها الإخوة أن يترك المجال فسيحا لمن شاء أن يقذف بريء أو بريئة بهذه التهمة النكراء فيصبح المجتمع ويمسي وإذا أعراضه ملوثة وسمعته مجرحه وإذا كل فرد فيه متهم أو مهدد بالاتهام وإذا كل زوج شاك في زوجته وكل رجل شاك في أصله وكل بيت مهدد بالانهيار زد على ذلك من خطورة القذف أن اضطراد سماع هذه التهم في الآذان يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفاحشة إلى ارتكابها لأنه أصبح ملوث متهم فلما لا يفعل ذلك وقد اتهم إذن فذلك يغريه ويوحي إليه بأن يفعل ذلك ولهذا أيها الإخوة كانت هذه العقوبة حاسمة قريبا من عقوبة الزنا نفسه ثمانين جلدة تقارب المائة جعل الإسلام لها ثلاثة عقوبات عقوبة بدنية بالجلد وعقوبة أدبية يهدر قوله فلا تسمع له شهادة لا يقبل له قول وعقوبة دينية يوسم بالفسق فهو فاسق أيها الإخوة المسلمون هكذا نرى كيف عالج التشريع الإسلامي في هذه السورة أغلظ ما في الكيان البشري وأعتى الغرائز غريزة الجنس عالجها الإسلام أولا بوسائل الوقاية بالوسائل الوقائية فالباب الذي يأتي منه الريح سده واستريح جفف الإسلام منابع الفتن نعم فمنع الإختلاط ومنع الخلوة ومنع التبرج والزينة ونهى عن الخضوع في القول والتكسر والتغنج اسمعوا أيها الإخوة الصوت الأنثوي حينما يسمع عبر الهاتف أو يسمع من خلال النوافذ والأبواب أو بأي طريقة أخرى إنه يورث في الإنسان أو يحرك كوامن الشهوة ولذلك قال الله تبارك وتعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا الخضوع في القول عندما تتغنج البنت في التليفون أو غير ذلك يورث أنوثة وخنوثة في قلب المستمع إن كان في قلبه مرض هذا كان لنساء النبي أمهات المؤمنين فكيف بنساء اليوم ينبغي أن نحافظ على الصوت فلا يتلون وقولوا لي بربكم ماذا يفعل الغناء إذن إذا كان هذا الصوت العادي فكيف بالغناء حينما تصحبه آلات الطرب فتورث خنوثة أكثر وميوعة إنها ولا شك تغري المستمع بالفاحشة والعياذ بالله حذر الإسلام من مجرد مقاربة الزنا: ولا تقربوا الزنا حض على الزواج لمن استطاع إليه سبيلا وبالصون وبالاستعفاف لمن لا يستطع ذلل العقبات التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور والصعوبات والتعقيدات التي توضع في طريق المتزوج أرشد إلى أدب الاستئذان من خارج البيوت ومن داخلها بعد هذه الوسائل وسائل الوقاية إذا لم يرتدع الإنسان تأتي العقوبة الرادعة تردع النفوس الشريرة غير العاقلة ليكون المجتمع نظيفا طاهرا نقيا من أي لوثة تفسده تلكم هي أيها الإخوة طريقة الإسلام الفريدة في معالجة هذه الغريزة فقولوا لي بربكم هل تجدون هذا في القوانين الوضعية والأنظمة البشرية هل تجدون هذا في كتب علم النفس أو كتب علم الإجتماع لا والله لن تجدوه على كماله وجماله إلا من خالق البشر الذي خلق البشر: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
هذا وصلوا على نبيكم محمد فإن الله أمركم بذلك فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أقول قولي هذا وصلي الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1/1000)
من صور الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الفتن, جرائم وحوادث
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
أهمية الموضوع والمنهج الصحيح في تناوله – خطورة الظلم والإعانة عليه – وقفات مع حادثة
التفجيرات : أ- فتوى هيئة كبار العلماء بتحريم هذه التفجيرات ب- لا غدر في الإسلام
وموقفه صلى الله عليه وسلم من أئمة الكفر في مكة ج- ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتال
الكفار عام الحديبية لاختلاط المسلمين بالكافرين وعدم تمايزهم , مع عصيان المسلمين بتركهم
الهجرة وإهدار ولايتهم د- أهمية البيان والدعوة وفضح سبيل المجرمين – موقف العلمانيين وأذنابهم وتشنيعهم على الدعاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اللهم إنا نسألك السداد في القول والعمل اللهم اهدنا وسددنا اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول اللهم اهدنا لأرشد الأقوال والأفعال لا يهدي لأرشدها إلا أنت واصرف عنا سيء الأقوال والأفعال والأهواء والأدواء لا يصرف عنا سيئها إلا أنت عباد الله استميحكم عذرا في الإطالة بعض الشيء لأنني سأتحدث عن موضوع طالما زلت في الحديث عنه الأقدام بين غالي وجافي ومفرط ومفرط ومنافق ومتزمت وعلماني متربص وجاهل يهرف بما لا يعرف فضاعت معالم الحق فيه وصار منطلق الحديث ليس الحق وتحريه بل تناوش كل متحدث القضية ليحقق أهدافه ومراميه ويروي غليل صدره ويشفيه فما جمع متحدث أطراف القضية وبواعثها وقال بالحق في كل ملابساتها وأسبابها فخيارهم من عرف بعضاً وأعرض عن بعض شرارهم من قلب الحقائق وكال التهم بغير ما بينة أو برهان ناسيا أو متناسيا ما جاء في القرآن من كلام الرحيم الرحمن: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا فاللهم إنا نعوذ بك من أن يؤذى مؤمن بسببنا وهو بريء ونسألك اللهم أن تجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر قوالين بالحق أينما كنا يا رب العالمين اللهم إنه قد صح عن نبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) [1] ، فنعوذ بك اللهم من أسباب سخطك وعقوبتك يا رب العالمين اللهم إنه قد صح عن نبيك صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا فقد برأت منه ذمه الله وذمة رسوله)) [2] ، فنعوذ بك اللهم من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى عباد الله إن حديثا هو حول هذه التفجيرات التي وقعت والتي نسأل الله أن يقي البلاد شرها وأن يحمي المسلمين من أذاها ولست بالذي أزعم أنني سأجمع أطراف القضية وأتحدث عنها فليس المقام يتسع لذلك وما مثلي بقادر على ذلك غير أني أقف مع الحدث وقفات أسأل الله السداد فيها أولها أن هيئة كبار العلماء قد بينت أن هذا التفجير عمل محرم شرعا لما فيه من هتك لحرمة الأنفس المعصومة وهتك لحرمة الأموال وهتك لحرمة الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم وغدوهم ورواحهم ولما فيه من ترويع المسلمين ثانيا أنني وإن كنت أستبعد كل الاستبعاد أن يكون مخططو هذا التفجير أو منفذوه من أبناء السنة إلا أني أناقش معهم أمور فأقول: لقد كان في وسع محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه أن يحرقوا بيت أبي لهب أو بيت أبي جهل وهو نائم فيستريحوا من أئمة الكفر في زمانهم لكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يفعل كيف وهو القائل صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا غدر في الإسلام)) كيف وهو القائل صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند أسته يقال هذه غدرة فلان بن فلان)) [3] كيف وقد قال له ربه: وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء. أي فانبذ عليهم عهدهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد على حد سواء فلا تأخذهم على غرة لقد كان في وسع محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه أن يميلوا على أهل منى من مشركي قريش ليلة العقبة وهم نيام فيقتلوهم وقد استأذنه أصحابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك قائلين : لو شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا فقال: ((لم أومر بذلك)) [4] ونحن نقول اليوم لو كان خيرا لأمر به صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكونه لم يأمر به مع قيام المقتضي وهو حرب قريش له ولأصحابه دل على أن هذا ليس طريقاً صحيحاً وأن الصحيح هو كف اليد حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده لقد كفرت قريش وحاربت محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه حربا ضروسا وآذتهم أذى شديداً فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا بل صبروا وكفوا أيديهم لما في هذا الكف من المصالح العظيمة في ثاني حال وما أثر أن واحدا منهم انتقم لنفسه قتلت سمية وياسر وعذب عمار ابنهما عذاباً شديدا ولم يزد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أن يقول لهم وهم في التعذيب: ((صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة)) [5] وعذب بلال وخباب فلما شكى شدة العذاب قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكان متكئاً فجلس: ((لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار حتى يقع شقاه ما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)) [6] وضرب أبو بكر لما حجزهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحال بينهم وبين الوصول إليه وهو يقول لهم: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وضرب ابن مسعود لإسلامه وأبو ذر لإسلامه وغيرهم كثير فما كان منهم إلا كف اليد والصبر حتى جاءهم الفرج وأقول أيضا لقد كفرت قريش وصدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه عن المسجد الحرام وهم معتمرون وصدوا هديهم أن يبلغ محله وهو الحرم ومع ذلك لم يقاتلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تلك الغزوة مع أن عنده قوة وسلاحا والسبب في ذلك هو ما ذكره الله بقوله: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً فالمانع من قتالهم هو اختلاط المسلمين بالكافرين فلا يدري القاتل أيقتل مسلماً مع الكافر أم لا فجعل المزايلة أي التمايز شرطا في قتال الكفار بقوله سبحانه: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً وهكذا رعيت حرمة الدم المسلم مع أن هذا المسلم مرتكب كبيرة من الكبائر وهي ترك الهجرة كما قال سبحانه: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً ومع أن الولاية الإيمانية مقطوعة بسبب عدم هجرتهم كما قال سبحانه: والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ومع أن العهود والمواثيق مع الكفار مقدمة على ولايتهم حتى يهاجروا كما قال سبحانه: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق مع كل هذا الإهدار لولايتهم إلا أن حرمة الدم المسلم حالت دون قتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه لقريش بسبب وجود هؤلاء المسلمين بينهم وعدم تزيلهم وتمايزهم: لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما لقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأتباعه من بعده: ولتستبين سبيل المجرمين – بفتح اللام - أي ولتعرف سبيل المجرمين وتتبينها فلا تكون ملتبسة عليك وعلى من معك وفي القراءة الأخرى: ولتستبين سبيل المجرمين – بضم اللام – أي ولتتضح سبيلهم فاستبانه سبيل المجرمين وتبينها مطلب شرعي يسعى إلى تحقيقه وكفى به للمصلحين شغلا عن هذه الأعمال التخريبية التي أجزم وأنا مطمئن أن ضررها أكثر من نفعها وإن سلمت أرواح المسلمين فيها مرة ومرة فما كل مرة تسلم الجرة كما قيل فلابد من البيان والدعوة وإبانة سبيل المجرمين وسبيل الصالحين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة إن كثيرا من حقائق الدين ومسلماته تحتاج اليوم إلى بيان وتأكيد وتعاهد المرة بعد المرة ومن لي بقوم يزعمون أن الحجة قد قامت والمجحة قد اتضحت وسبل الدعوة قد استنفذت فلم يبق إلا القوة وأسبابها والتخريب وأساليبه فحذار حذار من جر البلاد إلى فتن لا يفرح بها صديق ولا يستفيد منها أحد إن من علامات الفتن أن يقتل المرء لا يدري فيم قتل ولا القاتل فيم قتل وقد قال الإمام البخاري في صحيحه: قال ابن عيينة عن خلف بن حوشب كانوا يحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن قال امرؤ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولت عجوزا غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل [7]
قال ابن حجر: والمحفوظ أنها لعمر بن كعب الزبيدي ثم قال والمراد بالتمثيل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة إنهم يتذكرون بإنشاد هذه الأبيات ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولا ولقد صدق الشاعر في قوله: تسعى بزينتها لكل جهول لكل جهول أي لا علم عنده ولا حلم أما من كان مزموما بزمام العلم الشرعي وبزمام الحلم والعقل البعيد عن الطيش والتهور فما كان له أن يقع في شيء من هذا وما كان له أن يقره أو يرضى به فلنلزم السنن يا عباد الله ونحذر الفتن ولنحذر الفتن أن نسعى إلى إبرامها بكلمة أو ببسمة أو بفرحة ولنصدع بما ندين الله به حيالها وقديما قال الحكماء: حاكم غشوم خير من فتنة تدوم فحذار من السعي في الفتن وأسبابها دونكم العلم الشرعي فاطلبوه وما حصلتم منه فانشروه واعملوا به.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن ابن ماجة (320).
[2] مستدرك الحاكم (4/100) بلفظ "من أعان باطلاً.. ".
[3] ابن ماجة (2872) دون قوله "عند إسته" واخرج بعضه البخاري (7111).
[4] مسند أحمد (3/461).
[5] سيرة ابن هشام (1/342)،ومستدرك الحاكم (3/383).
[6] صحيح البخاري (3612).
[7] صحيح البخاري – كتاب الفتن – باب في الفتنة التي تموج كموج البحر.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: قد نص بيان هيئة كبار العلماء على أن هذا العمل لا يحتسب على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين وبذلك يكونون قد قطعوا الطريق على العلمانيين وأذنابهم الذين استغلوا الحدث الأول والثاني للوقيعة بالمصلحين والنيل من أهل الاستقامة والدين فكشروا عن أنيابهم وأظهروا ما تكنه صدورهم والله سبحانه وتعالى يقول: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ويقول سبحانه: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فما كان لعلماني حاقد أن يتكلم في قضايا الأمة مع وجود الذين يستنبطونه من أهل العلم والإيمان وأختم حديثي خشية الإطالة المملة مؤكدا أنني لم أحط بالقضية من جميع جوانبها ولم أتناول المسألة بكل معطياتها إنما هي وقفات ونصائح عرفت بها بعضا وأعرضت عن بعض.
أسأل الله أن يجعلنا من قوم يسمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
(1/1001)
أهمية الوقت
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
قيمة الوقت وأهميته وإقسام الله به في عدة آيات – صفة المغبونين وتضييعهم العمر – صفات
أهل الآخرة وأولياء الله واغتنامهم العمر – كيفية استغلال الشباب والأولاد للإجازة فيما ينفع
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: الوقت هو الحياة أقسم به الله في غير ما آية من كتابه فقال جل وعلا: والعصر وقال سبحانه: والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وقال جل شأنه: والضحى والليل إذا سجى وقال: والفجر وليال عشر وأهل العلم يقولون إن القسم بالشيء يدل على تعظيم المقسم به فوقتك هو حياتك ووقتك هو نهارك وليلك وإمساؤك وإصباحك وإظهارك: فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ووقتك هو عمرك وكل شمس تغرب عليك فهو يوم ينقص من عمرك فرصيدك من العمر ما بقي من أيام حياتك فما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها العاقل من تدارك عمره فيما يقربه إلى الله زلفى والمغبون من ضيع ساعات عمره فيما لا يعود عليه بالنفع في الآخرة والأولى سهر على المحرمات ونوم عن الصلوات المفروضات وغفلة عن رب الأرض والسماوات وتضييع للحقوق والواجبات وتفريط في تحصيل الأجور والحسنات هم أحدهم قتل الوقت وما درى المسكين أنه يقتل نفسه: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ، أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ، من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون وفي الأثر: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) [1] ، لقد شمر أقوام إلى الآخرة فتلمسوا قربات فغشوها ولابسوها وعرفوا المحارم والمنهيات فحذروا ولم يقارفوها واستمتعوا بما أحل الله من الطيبات فلم يجاوزوها قولهم طيب وعملهم طيب وطعامهم طيب وشرابهم طيب: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، نقاء في قلوبهم وصفاء في سرائرهم وبساطة في مظاهرهم أبعد ما يكونون عن التكلف: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين هاديهم القرآن وقدوتهم سيد ولد عدنان وأولياؤهم أهل الصلاح والإيمان وأعداؤهم هم حزب الشيطان أحبوا في الله وأبغضوا في الله ووالوا في الله وعادوا في الله وأعطوا لله ومنعوا لله فنالوا بذلك ولاية الله فكان الله سمعهم فعصمهم عن سماع ما يسخطه وكان بصرهم فعصمهم عن رؤية ما يسخطه وأيديهم فعصمهم عن البطش بها فيما حرم وأرجلهم فعصمهم عن السعي بها إلى ما حرم قال الله سبحانه في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن استعاذني لأعيذنه ولئن سألني لأعطينه)) [2] ، فهنيئا لمن كان هذا شأنه يغدو في رضا الله ويروح في رضا الله يفرح لعز الإسلام ونصرة المسلمين ويأسى لأسى يصيب إخوانه المسلمين إن شبع حمد الله على نعمه وتذكر إخوانه الجوعى من المسلمين وإن أعجبه طعام أو شراب أو مسكن أو لباس ذكر نعيم الجنة وقوله سبحانه في الحديث القدسي عنها: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) قال صلى الله عليه وسلم: ((واقرءوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )) [3] فاجتهد أن يكون منهم وإن أصابه نفح سموم ذكر حر جهنم وقوله صلى الله عليه وسلم في وصفها: ((ناركم هذه ما يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزء من نار جهنم)) قالوا: يا رسول الله إن كانت لكافيه قال: ((فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزء كلهن مثل حرها)) [4] ، فاجتهد ألا يصيبه حرها بالعمل الصالح والفرار من الوقوع في المحرمات فكل موقف وكل حدث يذكره بوعد الله وموعوده وجزائه ووعيده فهو من الدنيا في خير ومن العمر في كسب ومن الوقت في تحصيل للأجور والحسنات فصدق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من طال عمره وحسن عمله)) [5].
اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (4/124)، سنن الترمذي (2459)، سنن ابن ماجة (4260).
[2] صحيح البخاري (6502).
[3] صحيح البخاري (3244)، صحيح مسلم (2824).
[4] صحيح البخاري (3265)، صحيح مسلم (2843).
[5] مسند أحمد (4/188)، سنن الترمذي (2329).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا عباد الله تلكم هي صفة الفريقين صفة من سعى في قتل الوقت فقتل نفسه حيث قتل وقته لأن وقته هو حياته وصفة من سعى في استغلال أيام عمره وأوقاته فيما يقربه إلى الله زلفى والعاقل الحصيف من اختار خير الطريقين فإن الله جل وعلا خلقنا ولم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسلا يدلوننا على طريق الجنة فالعاقل من سلك سبيل المرسلين وتلمس سننهم وتتبع آثارهم وعمل بأوامرهم وحذر ما عنه نهوا صلى الله عليهم جميعا وسلم لذلك يا عباد الله ينبغي أن نحرص الحرص كله على استغلال هذه الإجازة خير استغلال فيما يقربنا إلى الله زلفى في تلاوة كتاب الله وتدبر معانيه والعمل بما أمر الله به في كتابه سبحانه في تربية أبنائنا التربية الصالحة في تنشئة نسائنا وأولادنا وكل من له حق علينا تنشئة صالحة ترضي عنا ربنا جل وعلا نستغل هذا الوقت ونستغل هذا الفراغ ونستغل هذه الإجازة في كل ما يقربنا إلى الله زلفى إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة فليحرص المرء على تحويل هذا الشباب وتحويل هذا الفراغ الذي وجد عند كثير من الشباب اليوم يحرص على تحويله ليكون مصلحة لهم في دنياهم وأخراهم يعلمهم ما يرضي ربهم عنهم ويرفههم الترفيه الذي لا يصل بهم إلى سخط الله عز وجل عنهم يعلمهم أن الله عز وجل ما حرم شيئا إلا وجعل في الحلال ما يغني عنه فكل شيء حرمه الله جل وعلا فالخير كل الخير في المنع منه وفي تحريمه وكل شيء أمر الله عز وجل به فالخير كل الخير في العمل به والتمسك به أقول هذا القول وأسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم أعنا على تربية أنفسنا اللهم أعنا على تربية أنفسنا وذوينا وكل من له حق علينا.
اللهم أعنا على تربية كل من وليتنا رعايته يا رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا ولسانا ذاكرا.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعوة لا تسمع اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين.
اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الشر والشرك والفساد وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين كافة ووفقهم للعمل بكتابك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
(1/1002)
أسماء الله الحسنى
التوحيد
الأسماء والصفات
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته أهميته وأثره : فضل إحصاء الأسماء الحسنى ومعناه،
بعض الأسماء الحسنى ومدلولاتها والصفات العلى ومفهوماتها : الله , الرحمن , الرحيم , الملك
الحق , القدوس السلام , المؤمن , المهيمن , العزيز , الجبار , الخالق , البارئ , المصور
الغفار , القهار , الرزاق , الفتاح , العليم , القابض , الباسط , الخافض الرافع , الضار النافع
المعطي المانع , المعز المذل , السميع البصير , الحكَم العدل , اللطيف , الحليم , العلي ,الكبير , المغيث , الكريم الواسع
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن العلم بالله سبحانه والتعرف على أسمائه وصفاته هو خلاصة الدعوة النبوية ولذا ليس غريباً أن يحق الله خشيته في العالمين به: إنما يخشى الله من عباده العلماء ، أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب.
وليس غريباً أن يعد الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة لمن أحصى أسماءه التسعة والتسعين, وإحصاؤها هو حفظها وفهم معناها والتعامل معه جل وعلا بذلك.
قال ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علماً, وكفى بالاغترار به جهلاً.
قال بعض السلف: من خشي الله فهو عالم ومن عصاه فهو جاهل.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أصل العلم خشية الله.
وإذ الأمر كذلك فسأذكر بعض أسمائه سبحانه ومدلولاتها وصفاته ومفهوماتها لعل الله أن يحيي قلوبنا فنصحو من غفلتنا.
فهو الله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وما كان معه من إله.
هو الله الذي لا إله إلا هو ولا خالق غيره ولا رب سواه المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ، عالم الغيب والشهادة الذي استوى في علمه ما أسر العبد وأظهر الذي علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
كيف لا وهو الذي خلق وقدر: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم الراحمين ، الذي غلبت رحمته غضبه كما كتب ذلك على عرشه في الكتاب المبين. الذي وسعت رحمته كل شيء وبها يتراحم الخلائق بينهم كما ثبت ذلك عن سيد المرسلين [1] : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيى الموتى وهو على كل شيء قدير.
الملك الحق الذي بيده ملكوت كل شيء ولا شريك له في ملكه ولا معين.
المتصرف في ملكه كما يشاء بالأمر والنهي والإعزاز والإذلال والإحياء والإماتة والهداية والإضلال: ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
لا راد لقضائه ولا مضاد لأمره ولا معقب لحكمه: ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.
له ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير، القدوس السلام الذي اتصف بصفات الكمال وتقدس عن كل نقص ومحال، وتعالى عن الأشباه والأمثال. حرام علي العقول أن تصفه وحرام علي الأوهام أن تكيفه. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
المؤمن الذي أمن أوليائه خزي الدنيا ووقاهم في الآخرة عذاب الهاوية. المهيمن الذي يشهد على الخلق بأعمالهم وهو القائم على كل نفس بما كسبت لا تخفى عليه منهم خافية، إنه بعباده لخبير.
العزيز الذي لا مغالب له. الجبار الذي له مطلق الجبروت والعظمة وهو الذي يجبر كل كسير. المتكبر الذي لا ينبغي الكبرياء إلا له والعظمة إزاره والكبرياء رداءه فمن شاركه صفة منها أحل به الغضب والمقت.
الخالق البارئ المصور لما يشاء إذا شاء في أي صورة شاء من أنواع التصوير: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعلمون بصير ، خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير.
الغفار الذي لو أتاه العبد بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئاً لقيه بقرابها مغفرة.
القهار الذي أقسم بسلطان قهره كل مخلوق. الوهاب الذي كل موهوب وصل إلي خلقه فمن فيض بحار جوده وفضله ونعائمه الزاخرة.
الرزاق الذي لا تنفد خزائنه: ما عندكم ينفد وما عند الله باق يرزق من هذه الدنيا من يشاء من كافر ومسلم أموالاً وأولاداً، ولا يرزق من الآخرة إلا أهل توحيده وطاعته، وأشرف الأرزاق في هذه الدار ما رزقه عبده على أيدي رسله من أسباب النجاة من الإيمان والعلم والعمل والحكمة وتبيين الهدى المستنير.
الفتاح الذي يفتح علي من يشاء بما يشاء من فضله العميم، يفتح على هذا مالاً وملكاً وعلماً وحكمة: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.
العليم الذي أحاط علمه بجميع المعلومات من ماض وآت وظاهر وكامن ومتحرك وساكن وجليل وحقير، علمه باقي علم عدد أنفاس خلقه وحركاتهم وسكناتهم وأعمالهم وأرزاقهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
ما من جبل إلا ويعلم ما في وعره، ولا محيط إلا ويعلم ما في قعره وما تحمل من أنثى وما تضع إلا بعلمه، ولا يعمر من معمر ولا ينقص في عمره إلا في كتاب إن ذلك علي الله يسير.
القابض الباسط فيقبض على من يشاء رزقه فيقدر عليه ويبسط على من يشاء فيوسع عليه، وكذا له القبض والبسط في أعمال عباده، كل ذلك إليه إذ هو المتفرد بالإحياء والإماتة والهداية والإضلال والإيجاد والإعدام.
الخافض الرافع الضار النافع , المعطي المانع فلا رافع لما خفض ولا خافض لمن رفع , ولا نافع لمن ضار ولا ضار لمن نفع , ولا معطي لمن منع ولا مانع لمن أعطى , فلو اجتمع أهل السموات السبع والأرض السبع وما فيهن وما بينهما على خفض من هو رافع لم يكن ذلك في استطاعتهم بواقع: وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير.
المعز المذل الذي أعز أولياءه المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأذل أعداءه في الدارين وضرب عليهم الذلة والصغار وجعل عليهم الدائرة.
السميع البصير لا كسمع ولا بصر أحد من الورى، القائل لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
الحكم العدل في قضاءه وقدره وشرعه ودينه، فلا يحيف في حكمه ولا يجور: وما ربك بظلام للعبيد ، الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً ووعد الظالمين الوعيد الأكيد: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ، وهو الذي يضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ، بل يحصي عليهم الخردلة والذرة والقطمير.
اللطيف بعباده معافاة وإيماناً وعفواً ورحمة وفضلاً وإحساناً، ومن معاني لطفه إدراك أسرار الأمور حيث أحاط بها خبره تفصيلاً وإجمالاً وسراً وإعلاناً، المحيط بأخبار عباده وأعمالهم ماذا عملوا وكيف عملوا وأين عملوا ومتى عملوا حقيقة ومكاناً وزماناً.
إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير.
الحليم فلا يعاجل أهل معصيته بالعقاب بل يعافيهم ويمهلهم ليتوبوا فيتوب عليهم إنه هو التواب الذي اتصف بكل معنى يوجب التعظيم، وهل تجب العظمة إلا لرب الأرباب، خضعت لقوته وجبروته جميع العظماء وذل لعزته وكبريائه كل كبير: ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (6000)، صحيح مسلم (2753).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله الغفور الشكور الذي يغفر الكثير من الزلل، ويقبل القليل من صالح العمل فيضاعفه أضعافاً كثيرة ويثيب عليه وكل ذلك لأهل توحيده، أما أهل الشرك فلا يغفر الله شركهم ولا يقبل منهم من العمل قليل ولا كثير.
العلي الذي ثبت له كل معاني العلو، علو الشأن وعلو القدر وعلو الذات، الذي استوى على عرشه بائناً عن جميع المخلوقات كما أخبر بذلك عن نفسه وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكبير الذي كل شيء دونه: والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه. الحفيظ على كل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء: الذي وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما ، حفظ أولياءه في الدنيا والآخرة ووقاهم من كل أمر خطير.
المغيث لجميع مخلوقاته فما استغاثه ملهوف إلا نجاه. الحسيب الوكيل الذي ما التجأ إليه مخلص إلا كفاه، ولا اعتصم به مؤمن إلا حفظه ووقاه: ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
الجليل الذي جل عن كل نقص واتصف بكل جمال وجلال. الجميل الذي له مطلق الجمال في الذات والصفات والأسماء والأفعال.
الكريم الذي لو أن أول الخلق وآخرهم وإنسهم وجنهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ومن كرمه أن يقابل الإساءة بالإحسان والذنب بالغفران ويقبل التوبة ويعفو عن التقصير.
الرقيب على عباده، العليم بأفعالهم، الكفيل بأرزاقهم وآجالهم وإنشائهم ومآلهم.
المجيب لدعائهم وسؤالهم وإليه المصير.
الواسع الذي وسع كل شيء علماً ووسع خلقه برزقه ونعمته وعفوه ورحمته عفواً وحلماً. الحكيم في خلقه وتدبيره إحكاماً وإتقاناً، الحكيم في شرعه وقدره عدلاً وإحساناً، وله الحكمة البالغة والحجة الدافعة، حكمه عدل، وشرعه عدل، وقضائه عدل، فله الشكر والحمد وهو على كل شيء قدير: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.
(1/1003)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنزلته في الدين
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومكانته والآيات في ذلك وعَدُّ البعض له أنه سادس
أركان الإسلام – وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودليل ذلك – التحذير من ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – ارتباط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان
آثار القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضل أهله – ( من أسباب الرحمة – من أبواب
الجهاد – من أسباب النصر – سبب الخيرية – من أبواب الصدقة )
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: فإن مما هو معلوم عند المسلمين جميعاً, عظم مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولذلك وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ووصف الصالحين من أهل الكتاب بذلك فقال جل شأنه: ليسوا سواء من أهل كتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.
ووصف بذلك عباده المؤمنين: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين , والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ووصف المنافقين بنقيض ذلك فقال: والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم.
واستنبط الحسن رضى الله عنه من قوله جل وعلا: إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ، إن في الآية دليلاً على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر منزلته تلي منزلة النبيين فلذلك ذكرهم عقبهم.
ولعظم منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عده بعض العلماء سادس أركان الإسلام.
عن حذيفة رضى الله عنه قال: الإسلام ثمانية أسهم, الإسلام سهم, والصلاة سهم, والزكاة سهم وصوم رمضان سهم والحج سهم والجهاد سهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم.
ونقل طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبه وأنه من شعائر الإسلام الظاهرة. قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره)) [1] , فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة. وقد تطابق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو أيضاً من النفحة التي هي الدين. ولم يخالف ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بهم].
وقال أبو بكر الجصاص: [أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه], وقال ابن حزم: [اتفقت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف منهم].
وحين ذكر شيخ الإسلام رحمة الله عليه قتال الطائفة التي تخرج على شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة, ذكر من ذلك الامتناع عن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف. لذلك كان السلف يعدون من لا يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهل الريب.
عن جامع بن شداد قال: كنت عند عبد الرحمن بن يزيد الفارسي فأتاه نعي الأسود بن يزيد فأتيناه نعزيه فقال: مات أخي الأسود. ثم قال: قال عبد الله: يذهب الصالحون أسلافاً ويبقى أهل الريب, قالوا: يا أبا عبد الرحمن وما أصحاب الريب. قال: قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر.
عن أبى الطفيل قال: سئل الطفيل: ما ميت الأحياء؟ قال: لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه.
من الأمور التي تتضح بها منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يلي:
من ذلك صلته بالإيمان فقد وصف الله جل وعلا المؤمنين بالقيام به في أكثر من موضع كما سبق وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان يقتضي أن ينكر المنكر, فعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم [2].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف, يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن, ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس من وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) [3].
وقال الإمام أحمد موضحاً الفرق بين المؤمن والمنافق في القيام بواجب الأمر والنهي. قال: يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه مثل الجيفة ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع فقلت والقائل هو عمر بن صالح: يا أبا عبد الله وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع.
فقال: يا أبا حفص صيروا أمر الله فضولاً. وهذا ما يعيشه كثير من المسلمين اليوم, يسمون الآمر بالمعروف فضولي أو نحو ذلك قال: صيروا أمر الله فضولاً. المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر أو ينهي, قالوا فضول.
والمنافق كل شيء يراه يضع يده على فمه, فقالوا: نعم الرجل ليس بينه وبين الفضول عمل (يعني ليس ملجوف أو معضول).
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب تحقق الرحمة, قال عز وجل: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) [4]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو من باب رحمة الخلق ولذلك وصف أهل السنة بأنهم يعلمون الحق ويرحمون الخلق.
ومن ذلك أنه أداء للفرض وسقوط للتبعة فقد فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمة والقيام به سبباً في سقوط التبعة وأداء هذا الفرض ودليل ذلك الحديث: ((من رأى منكم منكراً فغيره بيده فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان)) , يدل على ذلك قول أبى سعيد الخدري عندما سمع ما قاله الرجل لمروان: (أما هذا فقد قضى ما عليه), ومن ذلك حصول الأجر العظيم. قال الله تعالى: لا خير في كثير من نجوهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً فقد نكر هذا الأجر ووصفه بأنه عظيم.
ومن ذلك أنه باب من أبواب الجهاد ومنزلة الجهاد في سبيل الله من أعظم المنازل. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أن أفضل الجهاد أن يتصدى الرجل للإنكار على السلطان الجائر. فعن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر. رواه النسائي [5].
فغاية الجهاد هو إقامة دين الله تعالى وهذا هو المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبابها واحد._ ومن ذلك أنه من أحب الأعمال إلى الله إذ فيه السعي لنصرة الدين والغيرة على محارمه, فقد قال الرسول: ((أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله وقطيعة الرحم)) رواه أبو يعلى [6].
ومن ذلك أن القائم به من أحسن الناس قولاً فقد قال الله تبارك وتعالى: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين , وقال الحسن رحمه الله حين تلا هذه الآية: (هذا حبيب الله, يعني الذي دعا إلى الله, هذا ولي الله هذا صفوة الله, هذا خيرة الله, هذا أحب الخلق إلى الله, أجاب الله في دعوته, ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحاً في إجابته وقال إنني من المسلمين فهذا خليفة الله) ذكره ابن جرير رحمه الله.
ومن ذلك أنه سبب لتكفير السيئات, فعن حذيفة رضى الله عنه قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة. قال: فقلت أنا. فقال: إنك لجرئ وكيف قال؟ قال: قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده ونفسه وجاره يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: عمر ليس هذا أريد إنما أريد الفتنة التي تموج كموج البحر)) والشاهد منه أنه قال: يكفرها وذكر منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. رواه مسلم [7].
ومن ذلك أنه من أسباب النصر وحصول التمكين في الأرض, قال تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم فمن أدرك ذلك فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر, ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) [8].
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (49).
[2] تقدم قريباً.
[3] صحيح مسلم (50).
[4] صحيح البخاري (1284)، صحيح مسلم (923).
[5] سنن النسائي (4209).
[6] مسند أبي يعليى الموصلي (6804) بمعناه.
[7] صحيح مسلم (144).
[8] مسند أحمد (1/389)، سنن الترمذي (2257).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه.
أما بعد فيا عباد الله: من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه من عوامل خيرية هذه الأمة , قال الله تبارك وتعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله. قال شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك الأمة بما وصف به نبيها حيث قال: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ولهذا قال أبو هريرة: (كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل والأغلال حتى تدخلوهم الجنة) يعني تدلونهم على الخير وإن كان ثقيلاً عليهم. وهذا كمال نفع الناس للناس, وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد للخير ولم ينهوا كل أحد عن المنكر, ولا جاهدوا على ذلك ومنهم من لم يجاهد , ومن جاهد منهم كبني إسرائيل فكل جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم.
ومن فضائله أن القائمين به هم أهل الفلاح , قال الله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. فإن القيام به سبب لمضاعفة الأجر فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم ينكرون المنكر)) [1].
ومن ذلك أنه باب من أبواب الصدقات, فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة (أي كل مفصل وفي الإنسان 360 مفصل) فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة)) [2]. وحين اشتكى طائفة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا يجدون ما ينفقون, كان ما أرشدهم إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد جاء أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور, يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. فقال: ((أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون, إن لكل تسبيحة صدقة, وكل تكبيرة صدقة وبكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة)) رواه مسلم [3].
[1] مسند أحمد (5/375).
[2] صحيح مسلم (720).
[3] صحيح مسلم (1006).
(1/1004)
التقول على رسول الله
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
خطورة القول على الله بلا علم وأنه أعظم من الشرك – القول على رسول الله صلى الله عليه
وسلم بغير علم كالقول على الله بلا علم , والتحذير من ذلك – موقف الناس من الأحاديث
المكذوبة والأخبار الشائعة وأقسامهم : القسم الأول : أهل العلم والبصيرة , إذا سمعوها عرفوا
بطلانها , القسم الثاني : من ليس له باع طويل في العلم , ولكن عنده من سلامة العقيدة
ومجملات الدين ما يعصمه الله به , القسم الثالث : لا يكترث بهذه الأخبار ولا يعبأ بها
القسم الرابع : المصدقون بهذه الأخبار المكذوبة , وهم فريقان , القسم الخامس : المروجون لها
وناشروها , وهم فريقان – زواجر القرآن تكفي لمن تدبرها بدلاً من الأحاديث المكذوبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون شاع بين العامة في الأيام الماضية خبر تباينت روايتهم له وتخالفت سياقاتهم إياه فمن مقل فيه ومستكثر ومن مصدق له ومكذب ومتحير, وصورت به أوراق تنسب به حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا هو وحي يوحي ولست ممن يذكر مضمون هذا الحديث المكذوب عن النبي صلى الله عليه وسلم وألفاظه ورواياته فذيوعها على اختلافها مغن عن شغل الوقت الآن بذكرها ولكنى أذكر هنا أموراً أعظ بها نفسي والحاضرين عل الله أن يرزقنا الفقه في الدين: ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين.
فأولها: خطورة القول على الله بلا علم فهو أعظم من الشرك بالله كما قال ابن القيم رحمه الله, لأن الشرك بالله فرع عنه, قال الله جل وعلا: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير حق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال جل وعلا: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون وقال جل وعلا: ومن أظلم ممن أفترى على الله الكذب. وقال سبحانه: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً , والقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير علم كالقول على الله بلا علم لأن كلامه صلى الله عليه وسلم وما ينطق عن الهوى إن هو إلا هو وحي يوحي , ولذا كان الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم من أهل النار, كما صح في المتواتر عنه صلى الله عليه وسلم: ((من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) [1] , وفي رواية: ((من قال على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)) [2] وفي حديث أخر: ((من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) [3]. فكل تلكم النصوص وغيرها كثير في الوحي تدل على أن الواجب على المسلم أن لا ينسب إلى الله ورسوله كلاماً أو خبراً أو قولاً أو نهياً إلا بعد أن يتأكد من صحة نسبته إلى من نسبه إليه فالأمر خطير كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن كذب على ليس ككذب على غيري)) , فالكذب كله محرم وهو على الله ورسوله أشد تحريماً.
الأمر الثاني: وهو ناتج عن الأمر الأول أن الناس أمام هذه الأحاديث المكذوبة والأخبار الشائعة التي رويت لهم على أنها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام: فمن الناس من هو من أهل العلم والبصيرة بدين الله الذين إذا سمعوا بهذه الأباطيل عرفوا بطلانها وقال قائلهم وصدره مملوء برهاناً ويقيناً: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم فسلطوا نور الوحي الذي في صدورهم بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم, سلطوا هذا النور على تلك الظلمات والأباطيل فإذا بها تنقشع فيجدون برد اليقين في صدق الله ورسوله في نفي علم الغيب عن أحد من الخلق فيقولون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ، كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
القسم الثاني: من ليس له باع طويل في العلم ولكن عنده من سلامة العقيدة ومجملات الدين ما يعصمه الله به من الزلل فيرد المتشابه إلى المحكم ويكل ما لا يعلمه إلى من يعلمه فيسأل أهل الذكر امتثالا لقوله جل وعلا: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر أي بالحجج والبراهين , ومن المجملات والمسلمات التي لا تخفى على كل من عاش بين ظهراني المسلمين وهي من المعلوم بالضرورة عن هذا الدين أنه لا يعلم الغيب إلا الله: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ، قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم. فإذا نودي بحديث من هذا النوع الذي شاع وذاع يقول: أنا لست من ذو العلم والخبرة بصحيح الحديث وضعيفه ولكني أعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله, وتحديدكم هذا اليوم بأنه سيقع فيه كذا وكذا هو رجم بالغيب فلا أقبله ويكفيني أن أسمع كلام الله ورسوله وهو يدلني على أنني معرض للموت في كل لحظة فالواجب على وعليكم وعلى الجميع الاستعداد للموت وعدم التفريق, وهذا القسم ناجي بإذن الله من التخبط في ظلمات الجهل والقول على الله بلا علم.
القسم الثالث: من مرت عليه هذه الأقاويل والأخبار فلم يرفع بها رأسا ولم يكترث لها ولم يعبأ بها فهو سائر فيما هو عليه من الجد أو التقصير وكأن الأمر لا يعنيه , فهذا خرج منها كفافا لا له ولا عليه وهو خير ممن بعده والذي قبله خير منه.
القسم الرابع: من صدق بهذه الأخبار المكذوبة وأخذ للأمر أهبته على حسب فهمه وتصديقه الخبر الذي بلغه وهؤلاء قسمان: فمنهم من إذا تبين له كذب الأخبار التي صدقها اتهم نفسه ومن روى له الخبر وأعتقد عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وإجلال كلامه عن الخلق واستمر على ما حدث عنده من الطاعة والمسكنة والضراعة والرجوع إلى ربه ومولاه والإقلاع عما كان سائراً فيه من المعاصي فهذا يرجى له خير: وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً. ومنهم من إذا تبين له كذب الخبر نكص على عقبيه وفتن في دينه والعياذ بالله معتقداً أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين بطلانه وطعن في أهل الديانة وشكك في كلام أهل العلم النافع والعمل الصالح وفي ما ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحاح الأحاديث, فلسان حاله عند سماع الأحاديث الصحيحة يقول: لقد وعدنا هذا نحن وآبائنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين وهذه فتنة عظمى, أعاذنا الله جميعاً من الوقوع فيها, ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين , وهذه أحد الأضرار العظيمة التي تسببها الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
القسم الخامس: من روجوا لهذه المرويات المكذوبة ونشروها وصوروها ووزعوها وهؤلاء قسمان: فمنهم من فعل ذلك تديناً ونصحاً للعباد حسب فهمه , وما أحراه بقول القائل:
وما أدرى إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يلينى
أ الخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
فهؤلاء خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم, فأما الصالح فهو نصحهم وإخلاصهم وأما السيئ فهو كونهم لم يتحروا فيما نُسب عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان الواجب عليهم التحري قبل أن ينشروا وأن يسألوا قبل أن يعظوا وينصحوا: ((إنما شفاء العي السؤال)) [4] , وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) [5] , فالواجب على من نسب شيئاً مما ذاع بين الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبادر بالتوبة والتحري بعد ذلك فيما ينسب إلى الله ورسوله. ومن هؤلاء من فعل ذلك بخبث طوية وسوء نية يقصد تشكيك المؤمنين في مسلمات عقيدتهم فحسبه الله والله يعلم المفسد من المصلح: إن الله لا يصلح عمل المفسدين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ، وهذا شر الأقسام عند الله, فلن يفلت من الذي يعلم السر وأخفى وسيلقى ما عمل, وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون.
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (107)، صحيح مسلم (4) وغيرهما وهو من أشهر الأحاديث المتواترة.
[2] مسند أحمد (1/65)، سنن الدارمي (239).
[3] صحيح مسلم (1).
[4] سنن أبي داود (284)، سنن ابن ماجة (565).
[5] صحيح البخاري (98)، صحيح مسلم (4828).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا
مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله أجمعين.
أما بعد فيا عباد الله يقول الله جل وعلا: أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون , ويقول سبحانه: ولله ملك السموات والأرض ويقول جل شأنه: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلهم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض , ويقول سبحانه: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ولا تكاد صفحة من صفحات المصحف الكريم تخلو من هذا الواعظ الأكبر, نقرأه ويقرأ علينا ويوجد بين ظهرانينا بالليل والنهار ولا نرفع بذلك رأساً ولا نصغي له سمعاً ولا نفتح له قلباً ويأخذ بنا الباغي إلى حديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ونتشبه بمن قال الله فيهم: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدقً لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فنترك زواجر القرآن ونشتغل بالأحاديث الخرافية, وقد أمرنا جل شأنه بالإنذار بالقرآن: وانذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع , وقال: وذكر بالقرآن من يخاف وعيد , وقال سبحانه: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها , وقال جل شأنه: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً والله جل وعلا قد يحدث في كونه ما يشاء من الأحداث العظام فله الحكمة البالغة في كل ما يأتي وما يذر, ولعل الله يمن في مستقبل العمر فنبين موقف المسلم من أحاديث الفتن وأشراط الساعة حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها وتضل نفس بعد هداها.
أسأل الله العظيم ذي الأسماء الحسنى والصفات العلى أن يلهمنا البصيرة في الدين واتباع سنة سيد المرسلين.
(1/1005)
الجنة وصفات أهلها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
أسباب دخول الجنة والنار – نعيم أهل الجنة : طعامهم وشرابهم – أزواجهم – وصفهم
اتساع الجنة وتفاضل أهلها – سوق الجنة – خلود أهلها – رؤية الله عز وجل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله إن الله أمرنا بأوامر كثيرة في كتابه العزيز ونهانا عن أمور كثيرة ووعدنا إن نحن امتثلنا بالجنة , ومن خالف عذبه في ناره , نسأل الله العافية والسلامة منها , ولكي يحفزنا ربنا جل وعلا بالعمل بما أمر والإنزجار عما عنه نهى وزجر , بين لنا الجزاء العظيم لمن سمع وأطاع وبين لنا العذاب الأليم لمن خالف وعصى , وقد تواترت الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة التي بها يجازي الله جل وعلا من سار على أمره وحذر نهيه فمن ذلك قول الله جل وعلا في كتابه مرغباً لعباده المؤمنين في دخول جناته: إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنيين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب والنصب هو التعب: وما هم منها بمخرجين ومن ذلك قوله جل وعلا: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فهؤلاء هم أهل الجنات ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون أي تسرون يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون فصحافهم التي فيها طعامهم من ذهب وأكوابهم التي بها يشربون من ذهب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا نلتم هذا الجزاء العظيم لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ويقول جل شأنه: إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين لباسهم في الجنة الحرير ولذلك من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة [1] ومن لبس الذهب في الدنيا لم يلبسه في الآخرة [2] كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنيين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم وأي فوز أعظم من أن يزحزح المرء عن النار ويدخل الجنة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وأي خسران أعظم من أن يدخل نار جهنم نسأل الله العافية وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين , ومما جاء في كتاب الله في وصف الجنة قوله جل شأنه إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نظرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه أي مزاج هذا الرحيق من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون والآيات في كتاب الله كثيرة جداً أكثر من أن تحصر في مقام واحد, وأما الأحاديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلي آله وسلم أحاديث كثيرة منها ما جاء عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبولون ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس)) رواه مسلم [3]. وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر, واقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )) متفق عليه [4]. وصح عن أبى هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((أول زمرة يدخلون الجنة علي صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة - والألوة هو عود الطيب - أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء)) متفق عليه [5]. وفي رواية أخرى لهذا الحديث: ((آنيتهم فيها الذهب ورشحهم فيها المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشياً)) [6]. وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: أدخل الجنة. فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟. فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟. فيقول: رضيت ربي. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت ربي. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت ربي. قال ربي فأعلاهم منزلة. قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)) رواه مسلم [7].
وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة, رجل يخرج من النار حبواً, فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة. فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة. فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشر أمثالها. فيقول: أتسخر بي وأنت الملك. قال فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه صلوات الله وسلامه عليه, فكان يقول: ذاك أدنى أهل الجنة منزلة)) رواه البخاري ومسلم [8].
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً)) متفق عليه [9].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة سنة لا يقطعها)) متفق عليه [10].
وصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلا والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)) متفق عليه [11].
وعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لقاب قوس في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب)) متفق عليه [12].
وصح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ((إن في الجنة سوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً. فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)) رواه الإمام مسلم [13]. وعنه أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى ثم قال في آخر حديثه: ((فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )). والأحاديث يا عباد الله في وصف الجنة كثيرة جداً أكثر من أن تحصى, فنسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهلها وأن يوفقنا وإياكم بالعمل الصالح والعلم النافع إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (5832)، صحيح مسلم (2073).
[2] مسند أحمد (2/208-209).
[3] صحيح مسلم (2835).
[4] صحيح البخاري (3244) صحيح مسلم (2824).
[5] صحيح البخاري (3327) صحيح مسلم (2834).
[6] صحيح البخاري (3245) صحيح مسلم (2834).
[7] صحيح مسلم (189).
[8] صحيح البخاري (7511) صحيح مسلم (186).
[9] صحيح البخاري (4880) صحيح مسلم (2838).
[10] صحيح البخاري (6553) صحيح مسلم (2828).
[11] صحيح البخاري (3256) صحيح مسلم (2830).
[12] صحيح البخاري (2793) ولم أجده في صحيح مسلم.
[13] صحيح مسلم (2833).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله مما ورد أيضاً في وصف الجنة ما رواه أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادى منادى: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا)) رواه مسلم [1]. وعن أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له تمنى فيتمنى ويتمنى فيقول له: هل تمنيت؟ فيقول: نعم فيقول له: إن لك ما تمنيت ومثله معه)) رواه مسلم [2].
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)) متفق عليه [3].
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا عند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: ((إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته)) متفق عليه [4].
وعن صهيب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة, يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم. فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم)) [5]. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن لا تحرمنا النظر إليك. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلي أن تعيننا على أسباب دخول الجنة. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
[1] صحيح مسلم (2837).
[2] صحيح مسلم (182).
[3] صحيح البخاري (6549) صحيح مسلم (2829).
[4] صحيح البخاري (7434) صحيح مسلم (633).
[5] صحيح مسلم (181).
(1/1006)
الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
هديه صلى الله عليه وسلم في الحج – فضائل الحج – التحذير من ترك الحج , والأمر بالمبادرة
إليه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حج في السنة العاشرة من الهجرة وقال: ((يا أيها الناس خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) [1] , ومنذ ذلك الزمان حرص الخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن يقتفوا أثره في حجهم ويتبعوا سنته في نسكهم, فقد وصل صلى الله عليه وسلم مكة في السابع من ذي الحجة وكان قارناً وكان بعض أصحابه مفرداً وبعضهم متمتعاً, كما صح عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ((فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من قرن الحج بالعمرة)) [2] , وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وبقي بإحرامه إلى أن جاء يوم التروية وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة فلما كان هذا اليوم أحرم من كان قد أهل من أصحابه متمتعين وأتى صلى الله عليه وسلم منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كل صلاة في وقتها, وقصر الظهر والعصر والعشاء, فلما صلى الصبح من اليوم التاسع وطلعت الشمس توجه صلى الله عليه وسلم إلى عرفة, ضربت له صلى الله عليه وسلم قبة بنمرة قبل عرفة فبقي فيها إلى أن زالت الشمس, ثم نزل وادي عرنه فصلى بالناس الظهر ركعتين والعصر ركعتين جمعهما وقصرهما بأذان واحد وإقامتين وكان اليوم يوم جمعة فلم يصلها بهم جمعة بل صلاها ظهراً لما قد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((ليس على مسافر جمعة)) [3] , وخطب قبلهما في الناس خطبة عظيمة قرر فيها التوحيد ونبذ الشرك وأمور الجاهلية وبين استواء الناس في ميزان الله وهدم تفاضلهم إلا بالتقوى, ولم يتنفل بين الظهر والعصر ولا بعدهما.
ثم دخل عرفة فوقف عند الصخرات أسفل جبل عرفة وجعل الجبل بينه وبين القبلة وقال: ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف وارفعوا عن بطن عرنه)) [4] ووقف رافعاً يديه يدعو ويلبي ويكثر من التهليل, وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أفضل ما قلت أنا والنبيين من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) [5] , وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه زاد في التلبية: ((إنما الخير خير الآخرة)) [6].
والسنة للواقف بعرفة أن لا يصوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مفطراً. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة, وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء)) [7] ، وفي حديث آخر: ((إن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة فيقول انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً)) [8] , ولذا فالسنة لهؤلاء أن يكون شعثاً تفلاً كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((الحاج الشعث التفل)) [9] , والسنة أيضاً أن يرفع صوته بالتلبية لما قد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الحج العج والثج)) [10] والعج هو رفع الصوت بالتلبية, والثج إراقة دم الهدي.
ويقضي الحاج يوم عرفة ذاكراً ملبياً داعياً بما شاء من خيري الدنيا والآخرة حتى تغرب الشمس فإذا غربت أفاض من عرفات إلى المزدلفة, وعليه السكينة لما قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((السكينة, السكينة)) [11] , ولما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي العلق فإذا وجد فرجة نص, أي إذا وجد خلوة أسرع [12].
فلما وصل المزدلفة كان أول شيء بدأ به الصلاة , فأذن بلال وأقام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بهم المغرب ثلاثاً, ثم أقام فصلى بهم العشاء قصراً وجمع بينهما, ثم نام حتى الفجر ثم صلى بهم الفجر في أول وقته بأذان وإقامة ثم أتى المشعر الحرام, وهو جبل في المزدلفة فوقف عليه واستقبل القبلة وكبر وحمد الله وهلله ووحده ودعاه, ولم يزل كذلك حتى أسفر جداً, وقال: ((وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)) [13] , وجمع هي المزدلفة.
ثم انطلق إلى منى قبل طلوع الشمس وعليه السكينة وهو يلبي, فلما أتى بطن محسر أسرع السير حتى أتى جمرة العقبة وهي آخر الجمرات وأقربهن إلى مكة, فاستقبل الجمرة وجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ورماها بسبع جمرات مثل حصى الخزف, وهو أكبر من الحمصة قليلاً, يكبر مع كل حصاه ووقطع التلبية مع آخر حصى. ووقت الرمي من طلوع الشمس إلى غروبها فإذا انتهي من رمي جمرة العقبة حل للحاج كل شيء حرم عليه إلا النساء.
وهذه أعمال يوم النحر الأربعة بدأها النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي ثم النحر ثم الحلق, ثم حلق ثم طاف صلى الله عليه وسلم , فإذا رمي لبس ثيابه وتطيب, ولو قدم شيء من أعمال يوم النحر الأربعة على شيء فلا حرج, لما قد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أنه ما سئل يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج)) [14]. وهذا الطواف هو طواف الإفاضة ويسمى طواف الصدر ويسمى طواف الزيارة وهو من أركان الحج, ثم يسعى بعد الطواف إن كان متمتعاً, أما القارن والمفرد فلا سعي عليهما إن كانا قد سعيا بعد طواف القدوم وإلا سعيا, وبهذا الطواف يحل للحاج كل شيء حرم عليه حتى النساء.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فمكث بها أيام التشريق يبيت بها فيرمي الجمار الصغرى فالوسطى فالكبرى بعد الزوال من اليوم الحادي والثاني والثالث عشر, وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أيام التشريق, أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) , يرمي الصغرى ثم يتقدم قليلاً عن يمينه, فيقوم مستقبلاً القبلة قياماً طويلاً ويدعو ويرفع يديه, ثم يأتي الوسطى فيرميها, ثم يتقدمم ذات الشمال فيقوم مستقبلاً القبلة قياماً طويلاً ويدعو ويرفع يديه, ثم يأتي الجمرة الثالثة جمرة العقبة فيرميها جاعلاً مكة عن يساره ومنى عن يمينه, ولا يقف عندها ولا يدعو, يفعل هكذا كل أيام التشريق, فإذا فرغ منها طاف طواف الوداع إن كان من غير أهل مكة, أما أهل مكة فلا وداع عليهم.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وممن يحج على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن النسائي (3012) بنحوه.
[2] صحيح البخاري (4056)، صحيح مسلم (2113).
[3] عزاه في الجامع الكبير إلى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر، انظر صحيح الجامع (5405).
[4] موطأ مالك (1/312).
[5] موطأ مالك (1/188).
[6] رواه ابن خزيمة (4/260)، وإسناده حسن.
[7] صحيح مسلم (2402).
[8] مسند أحمد (2/224).
[9] سنن الترمذي (2924)، سنن ابن ماجة (2887).
[10] سنن ابن ماجة (2887).
[11] صحيح مسلم (2137).
[12] مسند أحمد (5/202).
[13] صحيح مسلم (2138).
[14] صحيح البخاري (81)، صحيح مسلم (2301).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله تلكم هي شعيرة الحج الركن الخامس من أركان الإسلام فرضه الله على الناس في العمر مرة, فما زاد فهو تطوع: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً.
وقد تواترت في فضائل الحج الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم: ((سئل أي الأعمال أفضل؟. قال: الإيمان بالله وحده ثم الجهاد ثم حجة مبرورة تفضل سائر الأعمال كما بين مشرق الأرض ومغربها)) [1] , وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2] , وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [3] أي لا إثم عليه قد غفر الله له جميع ذنوبه وخطاياه, كما قال سبحانه وتعالى: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى أي من حج واتقى الله في حجه فلم يرفث ولم يفسق فإنه يرجع من حجه ولا إثم عليه قد محيت ذنوبه وخطاياه سواء كان من المتعجلين أم من المتأخرين: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى , وقد جاء تفسير ذلك فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال للحاج: ((أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطأها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة ويمحو بها عنك سيئة)) , وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((ما ترفع إبل الحاج رجلاً وما تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة أو محا بها عنه سيئة أو رفعه بها درجة, وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة: فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني, فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج, أو مثل أيام الدنيا, أو مثل قطر السماء ذنوباً غفرها الله لك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك, وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)) [4] , وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من طاف بالبيت سبعاً وصلى ركعتين كان كعتق رقبة)) [5] , وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما أهل رجل قط ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة)).
هذا هو فضل الحج وهذا هو قدره في ميزان الله ولذا فالمحروم من حرمه وهو قادر عليه, صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه ووسعت عليه معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلى لمحروم)) , فليتقي الله أقوام مضت عليهم خمسة أعوام لم يحجوا وليتقى الله من وخطهم الشيب ولم يفدوا الكعبة البيت الحرام, بل ليتقي الله أقوام تركوا هذه الشعيرة العظيمة وأسقطوا من حسابهم هذا الركن العظيم من أركان الإسلام فلم يحجوا وهم جيران الحرم وليبادروا بالتوبة وأداء هذا الركن ممتثلين قوله صلى الله عليه وسلم: ((من أراد الحج فليتعجل)) [6] , وليحذروا من قول ابن الخطاب عمر حين أمر من ينظر في الناس: ((من استطاع الحج فلم يحج فليضربوا أعناقهم, وقال: ما هم بمسلمين)) , وما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال: ((من استطاع الحج فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً)).
إن الأمر يا عباد الله جليل والخطب جلل لا يحتمل التهاون من لم يكن قد أداه قبل أن يموت أو تنزل به أسبابه: فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب , ثم اعلموا يا عباد الله أن في الحج ماشياً قد ورد أثر عن ابن عباس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم, يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((لست آسى على شيء كما آسى أن لا أكون حججت ماشياً, قيل من أين؟ قال: من مكة, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة كل حسنة مثل حسنات الحرم. قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة مائة ألف حسنة)). وصح عن ابن عمر وأبي هريرة رضى الله عنهما أنهما كانا يحجان ماشيين من مكة , فمن استطاع هذا الفضل العظيم فليحرص عليه.
[1] مسند أحمد (4/342).
[2] صحيح البخاري (1650)، مسلم (2403).
[3] صحيح مسلم (2404).
[4] المعجم الكبير للطبراني (13566).
[5] سنن الترمذي (882)، سنن ابن ماجة (2947).
[6] مسند أحمد (1/225)، سنن أبي داود (1472)، سنن ابن ماجة (2874).
(1/1007)
الصدقة
فقه
الزكاة والصدقة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل الصدقة وأثرها , والأدلة على ذلك – أفضل الصدقة – أهمية التزود من الطاعات
والعمل الصالح قبل الموت – والمبادرة على ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله جاء في الحديث عنه صلى الله عليه على آله وسلم أنه قال: ((أما بعد فإن الله أنزل في كتابه: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً وقال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون )) ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((تصدقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بره، تصدق رجل من تمره، تصدق رجل من شعيرة، لا تحقرن شيء من الصدقة ولو بشق تمرة)) [1] ، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اجعلوا بينكم وبين النار حجاباً ولو بشق تمرة)) [2] وفي رواية أخرى: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) [3]. إن فضل الصدقات يا عباد الله عظيم وأثرها جسيم فنصف تمرة يمكن أن يكون حجاباً لك من النار فكيف بالمئات والألوف، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أفضل الصدقات ظل فسطاط في سبيل الله عز وجل أو منحة خادم في سبيل الله أو طروقة فحل في سبيل الله)) [4] ، الفسطاط الخيمة يستظل بها المجاهد وطروقة الفحل هي الناقة أو الفرس التي بلغت أن يعلوها الفحل يتصدق بها المرء للمجاهدين ومن جهز غازياً فقد عزى [5] ، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وكسبه من طيب)) [6] ، وفي رواية: ((ويل للمكثرين إلا بمن قال بالمال هكذا وهكذا)) [7] والمكثرون هم الأغنياء ذوي المال الكثير، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا ابن آدم إنك إن تبلغ الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلي)) [8] ، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: ((يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة)) [9] ، وقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني أن لا يمر على ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين)) [10] ، ((وكل امريء في ظل صدقته حتى يقضي بين الناس)) [11] ، ((والصدقة تطفيء الخطيئة كما يطفيء الماء النار)) [12] ((وصدقة السر تطفيء غضب الرب جل وعلا))، ((وممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) [13] ، وقال الله جل وعلا: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ، وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله عز وجل: ((أنفق أُنفق عليك)) [14] وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة... إلى أن قال: وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله علماً ومالاً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعمل فيه حقه فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يزقه مالاً فهو صادق النية يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء)) [15] ، وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: ((أنفقي ولا تحصي يحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا توكي فيوك عليك)) [16] وقال لبلال أنفق يا بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أما علمت أن ملكاً ينادى في السماء يقول اللهم اجعل لمال منفق خلفاً واجعل لمال ممسك تلفاً)) [17] ، وفي رواية: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعطي منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعطي ممسكاً تلفاً)) [18].
وأفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، ألا وقد كان لفلان كذا. هذا غيض من فيض مما صح عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله، والآيات في فضلها كثيرة فمنها قوله جل وعلا: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ، وقوله سبحانه: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقوله جل شأنه: لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا كتب لهم ، وقوله سبحانه: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ، وقوله جل وعلا: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كريم وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض ، والآيات في فضل الإنفاق في سبيل الله كثيرة فالبدار البدار يا عباد الله في الاستجابة لداعي الله قبل فوات الأوان: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربي لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/176).
[2] المعجم الكبير (777).
[3] صحيح البخاري (1417) ومسلم (68).
[4] سنن الترمذي (4130).
[5] صحيح البخاري (2843)، صحيح مسلم (1895).
[6] سنن ابن ماجة (4129).
[7] سنن ابن ماجة (4129).
[8] صحيح مسلم (1036).
[9] مسند أحمد (4/210).
[10] صحيح البخاري (2388).
[11] مسند أحمد (4/147).
[12] مسند أحمد (3/321)، سنن الترمذي (2616)، سنن ابن ماجه (4210).
[13] صحيح البخاري (1423)، صحيح مسلم (1031).
[14] صحيح البخاري (4684)، صحيح مسلم (993).
[15] مسند أحمد (4/231)، سنن الترمذي (2325).
[16] صحيح البخاري (2591)، صحيح مسلم (1029)، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسماء رضي الله عنها.
[17] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الرحمن بن سبرة وهو غير موجود في المطبوع لأنه ناقص، وقد عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (3/122).
[18] صحيح البخاري (1442)، صحيح مسلم (1010).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم عليه وآله وصحبه وآله أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله قد سمعتم ما سمعتم ولن يدخل معك قبرك إلا عملك، يتبع الميت ثلاثة عمله وأهله وماله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله، يقول ابن آدم مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت وما سوى ذا فذاهب وتاركه لورثتك، يا من خطه الشيب حذار من طول الأمل، صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يشيب ابن أدم وتشب معه خصلتان حب الدنيا وطول الأمل)) [1] فاحذر منهما يا ذا الشيبة المسلم فإن إكرامك من إجلال الله فاستحي من الله أن يرى منك ما يكره، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)) [2] فأري الله من نفسك خيراً وأقبل علي الله بالعمل الصالح وسل الله أن يختم لك بخير، واحذر الشح فما أغنى عن أبي لهب ماله وما كسب وما نفع قارون خزائنه، ولا تكن كمن ذمهم الله بقوله: إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً بل أعطي وأوصي وأنفق وأعلم أن الله يخلفه وهو خير الرازقين.
يا من غره سواد شعره وشد جسده وقوة بطشه إن الموت قريب فكم من شاب فاجأه الموت وهو لاهي غافل، مات الشافعي وعمره أربعة وخمسون، ومات النووي وعمره خمسة وأربعون، ومات معاذ بن جبل وعمره ستة وثلاثون، ومات أئمة كثر من أئمة الإسلام وما جاوزوا الأربعين والواقع أكبر شاهد فعلام الغفلة والتسويف فلا وصية كتبتها ولا حقوق بينتها حتى يفجأك الأجل فتتعب من بعدك، فبادروا يا عباد الله جميعاً بالقربى من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه لينظر كيف تعملون، فأروا الله من أنفسكم خيراً وردوا المظالم وأطعموا الجائع وبينوا الحقوق لكم أو عليكم وإن استطعتم فأوصوا في أوجه الخير التي يحبها الله:
ومن يتحرى الخير يعطى ومن يتوقى الشر يوقي
إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها صدقة جارية وهو الوقف يصلك أجره مادام باقياً بعد موتك.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يختم لنا بخير. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أعمارنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك.
[1] صحيح البخاري (6420) بمعناه.
[2] سنن أبي داود (4843).
(1/1008)
وماذا بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
ماذا بعد رمضان , وأهمية المداومة على الطاعة – فضل الصيام والقيام والسنة في ذلك
والنوافل والمحافظة عليها , والصدقة – تعظيم الله عز وجل بتعظيم شعائره وحرماته
أهمية العمل الصالح – سرعة انقضاء العمر وزواله – علامات قبول الطاعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله لقد انقضى رمضان لكن الصيام لم ينقضِ , وانقضى رمضان لكن القيام لم ينقضِ وانقضى رمضان ولم تنقضِ تلاوة القرآن. من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد ولى ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت , بئس العبد لا يعرف الله إلا في رمضان , إن كان الصوم المفروض قد انقضى فإن من نافلة الصوم صيام ست من شوال , ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر )) [1] , وذلك أن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان بثلاثمائة والست بستين, وهذه عدة أيام السنة , ولئن كانت التراويح قد انقضى وقتها فإن قيام الليل ما يزال مشروعاً مرغباً فيه , صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (( من قام في ليلة بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام في ليلة بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين )) [2] ، وفي رواية ((كتب من الذاكرين الله كثيراً)) [3] , والله إنه لغافل من غفل عن القيام بعشر آيات. صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل )) [4]. فيا عباد الله لا تكونوا كمن كان يقوم الليل ثم ترك قيام الليل , فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل )) [5] , عباد الله دونكم الرواتب فالزموها وهي اثنتا عشرة ركعة , ركعتان قبل الفجر وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء , صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من صلى لله اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة )) 1
ثم ذكر هذه. والوتر يا عباد الرحمن فلا تضيعوه , صح عنه صلى الله عليه وعلي آله وسلم: (( اوتروا يا أهل القرآن )) 2 , وكتاب الله فلا تضيعوه: وقال الرسول يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وتدبروا معاني الله فيه. وفعل الخير فلا تعدموه: وافعلوا الخير لعلكم تفلحون , أنفقوا من مال الله الذي آتاكم وجعلكم مستخلفين فيه فإن لله ملائكة يقولون: (( اللهم أعطِ منفقاً خلفاً وأعطِ ممسكاً تلفاً )) 3 , وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين.
عظموا الله بتقديره وإجلاله: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه , عظموه بتعظيم شعائره, ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب , عظموه بتعظيم حرماته: ذلك ومن يعظم شعائر الله فهو خير له عند ربه , إن خيراً لكم عند ربكم أن تغضوا أبصاركم وتحفظوا فروجكم ذلك أزكى لكم إن الله خبير بما تصنعون , إن خيراً لكم عند ربكم أن تكفوا عن أكل الحرام من الربا والرشوة والغش وأكل مال اليتيم وأكل أموالكم بينكم بالباطل , إن خيراً لكم عند ربكم أن تنكروا على من فعل ذلك وتدعوه إلى الكف عنها والتوبة منها , إن خيراً لكم عند ربكم أن تعظموا حرماته بمعرفتها واجتنابها والتحذير منها والإنكار على الواقع فيها: ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم , رب واقع في الحرام قد دنا أجله ولم يتب , رب غافل لاهي قد حان موته ولم يتب: (( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) 4 , ومن قعدت به فعلته لم ينهض به جميل صورته, (( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) 5.
دعوا الأماني والزموا الجادة فعلاً وتركاً: ليس بأمانيكم ولا بأماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً فأسلموا وجوهكم لله وأحسنوا واتبعوا ملة الحنيف إبراهيم فبذلك أمر نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وما أنتم إلا اتباعه: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه , أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (1164).
[2] سنن أبي داود (1398).
[3] سنن الدارمي(3458).
[4] صحيح البخاري (1152).
[5] صحيح البخاري (1122) صحيح مسلم (2479).
1 صحيح مسلم (728).
2 مستد أحمد (1/100) سنن الترمذي (453) سنن ابن ماجه (1170).
3 صحيح البخاري (1442) صحيح مسلم (1010).
4 صحيح مسلم (2699).
5 صحيح مسلم (2567).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله فدع الكسل وانشط لترضي الله فما العمر إلا أيام إذا انقضى بعضها فقد انقضى بعضك كل يوم يأتي عليك فقد نقص من عمرك يوم , فعمرك حقاً هو ما بقي من أيام في أجلك أما ما قد مضى فقد فات بما فيه من خير ومن شر: وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير.
إن من علامات قبول الطاعة الطاعة بعدها , فواصلوا الطاعات وأوصلوا القربات ولا يكن آخر عهد أحدكم بالقرآن خاتمة رمضان ولا بالقيام آخر لياليه ولا بالبر والجود أيامه الخوالي , فالرقيب مطلع والكرام الكاتبين لا يبخسونك حقك: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً , فما شيء من عملك بضائع بل ستجازى علي الفتيل: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان , من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها , من جاء بالحسنة فله خير منها. فارغبوا إلى الله فيما عنده من الجزاء , وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
(1/1009)
الطاعات
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
المقبولون في رمضان والمحرومون – موقفنا وتأثرنا بالقرآن في رمضان , وأثر ذلك علينا
التالون الهاجرون للقرآن !! – أول أوامر القرآن عبادة الله وحده , وأول نواهيه عن الشرك
الصلاة وأهميتها , وتضييع الصلاة , والزكاة والتحذير من منعها – بر الآباء والأمهات
رد الحقوق والأمانات – تطهير القلب من الغل والحسد – المحبة بين المسلمين – الأمر
بالمعروف – العيد وآدابه وأمر الناس بالحجاب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.
عباد الله لقد انقضى شهر الصيام فلله من المقبول منا فنهنيه, ومن المطرود المحروم منا فنعزيه, من المصطبغ منا بصبغ القرآن ومن أحسن من الله صبغة, ومن المستمع منا لهذا القول فالمتبع أحسنه, ومن التالي منا لهذا الذكر فالمقشعر منه جلده: الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء , من المتدبر منا لهذا القرآن فالساكب دمعته: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً , كم آية عقلناها: إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً , كم سورة وعيناها: أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأتي آبائهم الأولين أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها , كم دعوة لبيناها: ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار يا قوم أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم , كم حكمة أوتيناها: ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب , كم نعمة ذكرناها فشكرناها: اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وما بكم من النعمة فمن الله , كم معصية حذرناها فتركناها: ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إله آخر إني لكم منه نذير مبين وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنين لعلكم تفلحون.
عباد الله: لقد تلونا القرآن في رمضان كثيراً فهل ترك فينا أثراً؟ أو قوم منا عوجاً؟ أو أصلح فينا منهجاً؟ أو قوى فينا مبدأ؟ أو رسخ فينا علماً؟ أو جدد فينا عزماً؟ تالله إن لم يكن أحدث فينا ذلك فما تلوناه حق تلاوته وإن قومنا حروفه وأحسنا نطق آياته, فإنما أنزل القرآن للتدبر والعمل لا للتغني به مع الكسل , وتنغيمه مع ترك العمل: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب , فما أعظم هجران التالين له من المسلمين اليوم, يمرون على القوارع فيه فلا تهتز قلوبهم ولا تقشعر جلودهم ولا تدمع عيونهم ويسمعون أمره فلا يأتمرون وزاجره فلا ينتهون, فبالله متى يصدق من لم يصدق أحسن الحديث وأفضل القول؟ ومتى يكف من لم يكف عن غيه عند سماع زواجر القرآن؟ ومتى يمتثل لله في أمره من لم يمتثل لأمر القرآن؟ فالله تعالى يقول: فذكر بالقرآن من يخاف وعيد , ويقول: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون , ويقول: وجاهدهم به جهاداً كبيراً. من لم يلن قلبه للقرآن فما هو بلين, ومن لم يعتبر بالقرآن فما هو بمعتبر, ومن لم يصدق بالقرآن فما هو بمؤمن.
عباد الله: إن أول أمر في المصحف الكريم هو الأمر بعبادة الله وحده, وأول نهي هو النهي عن الشرك بالله: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون , فاعرفوا لله حقه واعبدوه واشكروه.
اجتنبوا الرجز من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار , لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ولئن أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون , فالحذر الحذر يا عباد الله من الشرك كبيره وصغيره, من سجد لصنم فقد أشرك ومن أحب غير الله كحب الله فقد أشرك, ومن رضي بغير الله حكماً فقد أشرك, ومن أطاع غير الله فيما يحاد شرع الله فقد أشرك: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون.
عباد الله ((الصلاة الصلاة)) وصية رسول الله وهو في سكرات الموت [1] , لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة, ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [2] , ((بين الرجل والشرك ترك الصلاة)) [3] , قال الله سبحانه: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً , يا تارك الصلاة عد إلى رشدك وأقلع عن غيك, يا تارك الصلاة تب مادامت الروح في الجسد قبل أن تغرغر, يا تارك الصلاة اعلم أن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله, يا مفرطاً في حقها يا مؤخراً لها عن وقتها اسمع خبر خالقك: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون , يا مؤديها في بيتك مع النساء اسمع قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)) [4] , ثم تدبر رعاك الله لمن بنيت هذه المساجد إن صليت أنت في بيتك وأنا في بيتي ولزم كل منا منزله, فمن لبيوت الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب.
إن من العار وأسباب دخول النار أن تبقى مساجدنا خاوية إلا من قلة قليلة ممن نور الله بصائرهم فلله كم حسنة ربحوها وخسرها المصلي في بيته, وكم سيئة محيت عنهم وبقيت في صحيفة المصلي في بيته, صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم مشى إلى المسجد كتب له بكل خطوة يخطوها إلى المسجد حسنة ومحي عنه سيئة ورفع بها درجة)) [5].
عباد الله أدوا زكاة أموالكم وطيبوا بها نفساً فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا جاء بها يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي بها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى إلى العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)) [6] , قال الله سبحانه: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون , أحصوا أموالكم وأخرجوا زكاتها وتوبوا مما كان منكم من تفريط فما نقص مال من صدقة.
عباد الله بروا أباءكم وأمهاتكم, فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه سئل: ((أي العمل أفضل قال الصلاة على وقتها, قال: ثم أي؟. قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟. قال: الجهاد في سبيل الله)) [7] , وسئل صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قيل: ثم من؟ قال: أمك. قيل: ثم من؟ قال: أمك. قيل: ثم من؟ قال: أبوك)) [8] , وقال الله سبحانه: حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين , وقال جل شأنه: حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً.
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/78) سنن أبي داود (5156).
[2] مسند أحمد (5/346) سنن الترمذي (2621) سنن النسائي (463) سنن ابن ماجة (1079).
[3] صحيح مسلم (82).
[4] سنن ابن ماجة (793).
[5] صحيح البخاري (2119).
[6] صحيح مسلم (987).
[7] صحيح البخاري (527)، صحيح مسلم (85).
[8] صحيح البخاري (5971) صحيح مسلم (85).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله أجمعين.
أما بعد فيا عباد الله: فاحذروا أن تقطعوا الأرحام: فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم , صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) [1] , وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله)) [2].
عباد الله: ردوا الحقوق لأصحابها وأدوا الأمانات إلى أهلها فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ويقول له الله: لأنصرنك ولو بعد حين [3]. والدين فاحذروا التهاون به, طهروا قلوبكم من الغل والحسد والبغضاء: ((ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً , المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله)) [4] , ويل لكل همزة لمزة , إياكم والغيبة والنميمة: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم , ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم , احذروا الكذب وقول الزور فلعنة الله على الكاذبين: ((ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) [5].
عليكم بمعالي الأخلاق واجتنبوا سفاسفها, اسعوا في قضاء حوائج إخوانكم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أحب الناس لله أنفعهم)) [6] , وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أحب الأعمال لله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً)) [7] , وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) [8] , يا أصحاب الديون انظروا المعسرين إلى ميسرة فقد دخل رجل الجنة بإنظاره المعسرين [9] , قال الله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة.
عباد الله مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر وتناصحوا فيما بينكم ولينوا لبعضكم وتسامحوا وأصلحوا ذات بينكم فلن تعدموا من ذلك خيراً , فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. ((كلكم راعي وكلكم مسئول عن رعيته)) [10].
عباد الله هذا يوم عيد من الله به علينا بعد صيام رمضان وقيامه كما نفرح بالأضحى بعد الوقوف بعرفات وصيامه وإن من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم التوسعة على الأهل والعيال بالتسامح في المباحات وجلب أنواع المسرات إليهم , وما أكثر ما يدخل السرور مما أباح الله: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين , وتذكروا وأنتم تفرحون بالعيد إخوان لكم في بقاع كثيرة من بلاد الله شردوا وطردوا وأوذوا واضطهدوا وقتلوا تقتيلاً, فلا تنسوهم من صالح دعائكم وتبرعاتكم في البوسنة والصومال والفلبين وكشمير وفلسطين وبقاع كثيرة من أرض الله.
عباد الله: اعلموا أن دينكم منصور وعدوكم مدحور بنص الكتاب والسنة: وما كيد الكافرين إلا في تباب ، وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ولينصرن الله من ينصره إن الله قوي عزيز ، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد , ولئن علا الباطل فإن علوه في سفول ونجمه في أفول وقوته زائلة: كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال , اعتبروا بفرعون وجنوده كيف أهلكهم الله وهم في قوة سطوتهم وكثرة ناسهم وقلة عدوهم وكثرة نصيرهم: فأخذهم الله بذنوبهم وما لهم من الله من واق.
دعوا المظاهر وانظروا للجواهر فقد غر قارون كثرة ماله وخدمه وحشمه فخسف الله به الأرض وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون: ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون.
يا نساء المسلمين اتقين الله في نفوسكن وأزواجكن وأولادكن, سألت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ((يا رسول الله إنكم يا معاشر الرجال تجاهدون ولا نجاهد. فقال صلى الله عليه وسلم: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك كله)) , تحرين الحلال في أفعالكن وأقوالكن واحذرن أن تفتن أو تُفتن, والزمن الحجاب الذي شرعه الله لكن حماية وصوناً لأعراضكن, وربين أولادكن التربية الصالحة ونشئوهن على حب المساجد ومجالسة الصالحين ومجالسة الأخيار, وربين بناتكن على الحشمة والعفاف ولبس الساتر من اللباس.
[1] صحيح مسلم (2556).
[2] صحيح مسلم (2555).
[3] مسند أحمد (2/305)، سنن الترمذي (2525)، سنن ابن ماجة (1752).
[4] صحيح مسلم (2564).
[5] صحيح البخاري (6094)، صحيح (2607).
[6] المعجم الكبير للطبراني (13646).
[7] الموضع السابعة ، الحديث نفسه.
[8] صحيح مسلم (2699).
[9] صحيح البخاري (2078).
[10] صحيح البخاري (893)، صحيح مسلم (1829).
(1/1010)
الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
من دروس الهجرة : 1- الناس حزبان : حزب الله وحزب الشيطان والغلبة لحزب الله – صفات
حزب الله , وحزب الشيطان 2- استمرار الصراع بين الحزبين 3- ضعف أنصار الحق وقلتهم
في بعض الأحيان من سنن الله 4- شدة خصومة حزب الشيطان لحزب الله 5- طريقة حزب
الشيطان في مواجهة الحق عند عجز حيلتهم 6- إنفاق حزب الشيطان ماله للصد عن سبيل الله
7- وسائل حزب الشيطان للقضاء على أولياء الله 8- مكر الله بأعدائه وانتصاره لأوليائه
شروط نصر الله في الصبر والتقوى واليقين وإخلاص العبادة لله
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: ونحن نستهل اليوم عاماً هجرياً جديداً يحسن بنا أن نستلهم من حديث هجرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض الدروس والعبر نستنير بها في حياتنا, وإن لنا يا عباد الله في سياق قصة الهجرة في كتاب الله لدروس وعبر:
أولها: أن الله جل وعلا بين في كتابه أن الناس حزبان وهما قوم استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وقال عنهم أولئك حزب الشيطان ثم بين مآل أمرهم وعاقبة مكرهم بقوله ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين.
وثانيهما ذكره جل وعلا وذكر عاقبة أمرهم في قوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ثم ذكر شيئاً من صفات أتباع الرسل الذين هم حزبه جل شأنه بقوله لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون.
فأولئك حزب الشيطان وهؤلاء حزب الله, أولئك خاسرون وهؤلاء مفلحون, أولئك استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله, وهؤلاء تجردوا من جميع حدود النفس لربهم جل شأنه فلم يقدموا على مرضاته شيئاً من محبوباتهم ومألوفاتهم.
الثانية: أن الصراع بين الحزبين ما يزال دائراً منذ أخرج الله عز وجل إبليس من الجنة وأهبط منها آدم عليه الصلاة والسلام بعضكم لبعض عدو , فإبليس وجنده حزب وأدم ومن تبعه حزب ألم أعهد إليكم يا بني أدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أ فلم تكونوا تعقلون.
الثالثة: أن الحق قد يعتريه أحياناً مراحل وأوقات يضعف فيها أنصاره , ويقل فيها أتباعه ويشردوا ويطردوا قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون فهذه سنة الله في الصراع بين الحق والباطل يبتلي أولياءه بأعدائه ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون.
الرابعة: أن أولياء الشيطان وحزبه قد يشتدون في خصومتهم لحزب الله وأوليائه لدرجة تخرجهم حتى عما يقتضيه العقل السليم مما يصور تخبط الشيطان بهم وتلاعبه بعقولهم وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو آتنا بعذاب أليم وكان مقتضى العقل السليم أن يقولوا اللهم إن كان هذا الحق من عندك فاهدنا إليه.
الخامسة: إن حزب الشيطان حين تعييهم الحيلة في طمس نور الله الذي يحمله أولياء الله وحزبه يلجؤن إلى أساليب التشويش على أولياء الله والحيلولة دون أن يصل صوتهم إلى عامة الناس وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية والمكاء التصفير والتصدية التصفيق.
السادسة: أن حزب الشيطان ينفقون الأموال الطائلة للصد عن سبيل الله ولكنها في النهاية تكون حسرة وندامة عليهم وسبباً في هزيمتهم إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون.
السابعة: أن حزب الشيطان لا يتورعون عن أي وسيلة للقضاء على أولياء الله وحزبه سواء كانت هي السجن أو القتل أو إخراج من البلاد وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أي ليسجنوك ويوثقوك أو يقتلوك أو يخرجوك وقد تدارسوا هذه الأساليب الثلاثة أيها أنفع لهم في القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ليلة الهجرة فاستقر رأيهم على قتله صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم في أحاديث الهجرة ولكن الله عصمه منهم وأنجاه وأتم نوره ولو كره الكافرون.
الثامنة: أن حزب الشيطان يمكرون والله جل وعلا يمكر لأوليائه والعاقبة للمتقين والنصر للمؤمنين ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معز من أطاعه ووالاه ومذل من خالف أمره وعصاه. أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه الخير كله وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله أجمعين.
أما بعد فيا عباد الله:
التاسعة: من الفوائد والدروس والعبر من سياق الهجرة في كتاب الله جل وعلا, أن ذلك النصر والتمكين الذي كتبه الله لأوليائه ووعدهم به له شروط لابد من توفرها منها الصبر والتقوى واليقين فلابد أن يتحلى أولياء الله وحزبه بالصبر وأن يتحلوا بالتقوى واليقين وقد اجتمعت هذه كلها على أكمل الوجوه في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنصره على أعداء الله وأولياء الشيطان قال جل وعلا في سورة آل عمران: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً وقال قبلها في سورة البقرة: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا وشيئاً نكرة في سياق النفي فتعم أي تعم كل نوع من أنواع الضرر, وقال سبحانه: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فلما تحلوا بالصبر واليقين نالوا الإمامة في الدين, كما سئل سفيان بن عيينة رضي الله عنه: بما تنال الإمامة في الدين؟ فقال بالصبر واليقين. وقال جل شأنه: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين. ومنها إخلاص العبادة لله جل شأنه وحده وعدم إرادة غيره بشيء منها , قال جل شأنه وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ثم ذكر الشرط بقوله يعبدونني لا يشركون بي شيئاً فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الكافرون.
(1/1011)
امتحان الخوف والجوع
سيرة وتاريخ
القصص
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
خيرية الأمة وسببها , وأسباب سلبها من بني إسرائيل والتحذير من مشابهتهم – ابتلاء بني
إسرائيل بالخوف والجوع وفشلهم , ونجاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك
ابتلاءات الجوع لبني إسرائيل : نهيهم عن الصيد يوم السبت , واعتداؤهم فيه – ابتلاؤهم
بالخوف ورفضهم دخول الأرض المقدسة – ابتلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمنع من
الصيد حال الإحرام فنجحوا وابتليت بالخوف في بدر فأطاعوا – القيام بالأمر بالمعروف سبب
نجاة الأمة , وعاقبة تركه
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: اعلموا أن الله جل وعلا جعل الأمة التي أنتم منها خير أمة أخرجت للناس كنتم خير أمة أخرجت للناس , واعلموا أيضاً أن ذلك كان كذلك لأسباب بينها ربنا جل وعلا متى دمنا عليها دامت علينا خيريتها, وإذا نكلنا عنها ونكصنا والعياذ بالله سلبت منا تلك الخيرية, كما سلبت من بني إسرائيل من قبلنا ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين , قال المفسرون رحمة الله عليهم أي على عالم زمانهم, وإلا فليس بنو إسرائيل بأفضل من هذه الأمة فقد كانوا أفضل الناس كما قال جل وعلا وفضلناهم على العالمين ولكن نكلوا عن أوامر الله وعصوا أوامره فسلبت منهم خيريتهم وجعلت في خير أمة أخرجت للناس تلك الأمة التي أنتم منها.
ابتلى الله جل وعلا أمة إسرائيل بالخوف وابتلاهم بالجوع فأخفقوا وفشلوا في كلا الاختبارين وابتلى بهذين الاختبارين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأفلحت أيما فلاح.
أما ابتلاءات الجوع فقد بينها ربنا جل وعلا في كتابه حيث حرم عليهم أن يصطادوا السمك يوم السبت وسلط عليهم القرم وهو شدة شهوة اللحم, وسلط عليهم السمك أكثر ما يكون ظاهراً بادياً على وجه البحر في يوم السبت فإذا انتهي يوم السبت دخل في البحر لا يستطيعون الوصول إليه ابتلاء من الله لهم واختباراً وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدوهم في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ( أي ظاهرة بادية على وجه البحر) ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون , ولكنهم تحايلوا على أوامر الله وانتهكوها, فبدؤا أول ما بدؤا حين اشتدت بهم شهوة اللحم باصطياد السمك عن طريق الحيل فعصوا أمر الله جل وعلا بالحيل وهو يعلم المفسد من المصلح فحفروا لها الحفر بجوار البحر وشقوا لها الأخاديد فيأتي السمك فيها فتنحصر فلا تستطيع الرجوع إلى البحر فيأخذوها في يوم الأحد. ومن حيلهم أنهم يرمون شباكهم يوم الجمعة فينحصر السمك فيها ثم يأخذونها يوم الأحد, وهم بذلك كله يدعون أنهم لم يصطادوا يوم السبت فنهتهم أمة منهم على هذا التحايل على أوامر الله فلم ينتهوا بل استمروا في غيهم وضلالهم حتى بلغ بهم الحال أنهم صاروا يصطادون السمك جهاراً نهاراً في يوم السبت علانية دون خفاء بل ويتبايعونه في أسواقهم فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون , فأخذهم الله عز وجل فمسخهم قردة وبعض العلماء يقول مسخ كبارهم خنازير وشبابهم قردة ,نسأل الله العافية والسلامة.
واختبرهم الله جل وعلا باختبار الخوف ففشلوا أيضاً ولم يفلحوا وذلك هو ما ذكره ربنا جل وعلا بقوله وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً , قال ابن عباس رضي الله عنهما (من ملك داراً وخادماً وزوجة فهو ملك) وآتاكم ما لم يؤت أحد من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين وهكذا نكلوا عن أوامر الله جل وعلا, يأمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة وهي بيت المقدس, فقالوا: إن فيها قوماً جبارين نخشى منهم, مع أن موسى أمرهم بذلك والواجب أن يمتثلوا لأمر نبي الله لأن أمره أمر من الله جل وعلا , ولكنهم نكصوا فقام رجلان منهم يحرضان على القتال ولكن كما قيل:
ولقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادى
ولو ناراً نفخت فيها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
فلم يمتثلوا أمر الله ونكلوا عنه وقعدوا فضرب الله عز وجل عليهم التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض, يمشون النهار كله فإذا أمسوا ناموا فإذا أصبحوا فإذا بهم بالمكان الذي فيه أمس.
هذان الاختباران ابتلى الله بهما أمة إسرائيل اختبار الخوف واختبار الجوع ففشلوا وأخفقوا, وقد ابتلى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذين الامتحانين فنجحوا وأفلحوا رضي الله عنهم وأرضاهم.
أما الأول: فقد ذكره ربنا جل وعلا بقوله يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم , ذكر أهل التفسير وأهل السير أنهم رضي الله عنهم في صلح الحديبية عام ست من الهجرة وكانوا محرمين عماراً رضي الله عنهم وأرضاهم نهاهم الله جل وعز عن قتل الصيد وهم محرمون وسلط عليهم الصيد يستطيعون أن ينالوه بأيديهم دون جهد حتى ذكر بعض المفسرين أن الطيور ربما وقعت على ركبهم وأطرافهم, وأن الأرانب ربما مشت بين أيديهم, وكل ذلك امتحان من الله جل وعلا وابتلاء لهم ليعلم من يخافه بالغيب, أي حالة كونه لا يرى الله جل وعلا وهي مرتبة الإحسان. قال أهل التفسير وأهل السير فلم ينقل أن صحابياً واحداً اصطاد صيداً واحداً, فامتثلوا أمر الله جل وعلا وكفوا عن الصيد على الرغم من شدة حاجتهم إليه وشدة جوعتهم إليه رضي الله عليهم وأرضاهم.
وأما الابتلاء الثاني: وهو ابتلاء الخوف فهو ما ذكره أهل السير حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً من أصحابه يريد أن يعترض على قافلة لقريش قوامها عشرون رجلاً, ثم إنهم استطاعوا الفرار من رجال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء النفير لهم من مكة يساندهم في تسعمائة وخمسين رجلاً معهم السلاح الكثير والعتاد الكثير, ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه ليرى هل يقدمون معه على قتال هذا العدد العظيم وهذا السلاح الكثير أم أنهم ينكصون, فقال صلى الله عليه وسلم أشيروا على أيها الناس, فقام أبو بكر الصديق فتكلم فأحسن ثم قام عمر رضي الله عنه فتكلم واحسن , ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وهو من المهاجرين فقال: يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فو الله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكنا نقول" لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا دونك حتى تبلغه " فقال رسول الله له: ((خيراً)) ودعا له, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أشيروا علي أيها الناس)). وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بيعة العقبة, قالوا: ((رسول الله إنا برئاء من زمامك حتى تصل إلى ديارنا , فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا)) , فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى له عليهم نصره إلا على من داهمه بالمدينة من عدوه, وأنه ليس عليهم ذلك خارج بلادهم, فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, قام سعد بن معاذ من الأنصار وهو سيد الأوس فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله. فقال: أجل.
فقال سعد: كأنك يا رسول الله خشيت أن تكون الأنصار ترى أنه ليس من حقها أن تنصرك إلا في ديارهم وأنا أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن متى شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا منها ما شئت والذي تأخذه منا كان أحب إلينا مما تتركه وما أمرت فيه بأمر فأمرنا فيه تبع لأمرك فسر بنا فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد لنسيرن معك ولو استعرضت هذا البحر فخضته لنخوضنه معك , والله لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدا فإننا صبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله.
قال فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه, وقال لأصحابه: سيروا وأبشروا فو الله إن الله وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدي به, أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك.فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره ما قال المقداد [1].
اللهم ارضى عن أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم وارزقنا اقتفاء آثارهم واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (3952).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله أجمعين.
أما بعد فيا عباد الله رأيتم ما فعل الله ببني إسرائيل, هم الذين كانوا أفضل أمة أخرجت للناس, كما قال جل وعلا: ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين , وهم الذين صاروا بعد ذلك ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ، وما ذلك إلا بسبب معصيتهم لله جل وعلا وإعراضهم عنه وارتكابهم زواجر الله ونواهيه. واعلموا يا عباد الله أنه ليس بين الله وبين أحد من عباده سبب ولا نسب إنما السبب الوحيد الذي يرفع الناس عند ربهم ويعلي درجاتهم هو مدى تمسكهم بأوامر ربهم وانتهائهم عن زواجره, فإنما جعلنا الله خير أمة أخرجت للناس بأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر وإيماننا بالله. وقد رأيتم ما حدث لبني إسرائيل حينما سكتوا عن الأمر بالمعروف في قصة القرية التي كانت حاضرة البحر, فإن أهل العلم يقولون إن الذين نجوا هم الذين نهوهم عن الاصطياد يوم السبت, وأما الذين هلكوا فهم الذين صادوا يوم السبت, أهلكهم الله عز وجل بتحديهم أوامره, وأما الذين سكتوا فأكثر المفسرين قالوا: إنهم هلكوا مع الهالكين الذين مارسوا المنكر بعينه واصطادوا يوم السبت. وقد قال الله عز وجل: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , فإن أهل المعاصي إذا استمروا في غيهم على مرأى ومسمع من عامة الناس دون أن ينكر عليهم منكر يوشك أن يعم الله الجميع بعقاب منه واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , سؤل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) [1].
وقد قال ربنا جل وعلا: وما كان ربك بمهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون , أما إذا كانوا صالحين فقد يهلكون بجريرة المعتدين الظالمين.
فلنتقي الله يا عباد الله. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً.
[1] صحيح البخاري (3346)، صحيح (2880).
(1/1012)
حرمة المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
فطرة الخلق على التوحيد – موقف الناس تجاه دعوة الرسل وأقسامهم – أهمية المسلم وميزانه
عند الله , والنصوص في ذلك – حرمة دم المسلم والنصوص في ذلك , وخطورة التهاون في
المحافظة على أرواح المؤمنين – عدم جواز اتخاذ العزل من النساء والصبيان مادة للصراع
والنصوص الدالة على ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: إن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً , بل أرسل إلينا رسلاً من أطاعهم دخل الجنة ومن عصاهم دخل النار , خلقنا جميعاً حنفاء مائلين عن الشرك وأهله فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون , فالتوحيد الخالص هو الذي فطر الله الناس عليه , كان الناس أمة واحدة (أي على التوحيد ثم اختلفوا) فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين , وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: ((خلقت عبادي حنفاء (أي مائلين عن الشرك وأهله) فاجتالتهم الشياطين)) [1] , وحذرنا سبحانه من عبادة الشيطان بقوله: ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان.
فانقسم الناس حيال دعوة الأنبياء إلى قسمين ذكرهما ربنا في كتابه في غير موضع, كقوله سبحانه: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن , وبين مصير كلاً منهما بقوله: فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى , وبقوله سبحانه: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى , وبقوله جل شأنه: فريق في الجنة وفريق في السعير , وبين سبحانه أنهما لا يستويان في ميزانه أبداً: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون , وقال سبحانه: أفنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار. فالمؤمن التقي له عند الله شأن عظيم وهو أكرم الناس في ميزان الله: إن أكرمكم عند الله أتقاكم , ولو كان عبداً فقيراً لا يملك إلا ثوبه , صح عنه أنه صلى الله عليه وعلي آله وسلم قال لأحد أصحابه ممازحاً: ((من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله. قال: لكنك عند الله لست بكاسد)) [2].
وقد تواترت النصوص في الكتاب والسنة ببيان أهمية المسلم وميزانه عند الله , وكلما حسن إسلامه زاد شأنه , صح أن ابن مسعود رضي الله عنه كان على شجرة فهبت الريح فكشفت ساقيه فضحك الصحابة من دقتهما, أي من نحالتهما, فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أتضحكون من دقة ساقيه, والذي نفسي بيده إنها لأثقل عند الله من جبل أحد)) [3] , ((ومر عليه رجل ذو أبهة فسألهم عنه فقالوا: هذا حري إن قال أن يسمع له, وإن شفع أن يشفع وإن خطب أن ينكح, ثم مر أخر رث الهيئة فسألهم عنه: ما تقولون في هذا؟. فقالوا: حري إن شفع أن لا يشفع وإن سأل أن لا يعطى وإن خطب أن لا ينكح. فقال: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا)) [4] , فبالله عليكم تأملوا قول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى ملء الأرض ثم تفكروا كم فرداً يملؤن الأرض إنهم عدد لا يحصيه إلا الله , كل هؤلاء إذا تجردوا عن الإيمان وكانت أفئدتهم هواء فهم هباء لا قيمة لهم , فرد مسلم صالح خير منهم جميعاً, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [5] , فالكافر إذاً في ميزان الله لا يستحق جناح بعوضة, ولولا أن الدنيا أهون عند الله من جناح البعوضة ما سقى الكافر منها.
ودم المسلم حرام حرمة عظيمة بل جاء في بعض الأحاديث أن دم المسلم أعظم من حرمة الكعبة [6] التي قال فيها صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما صح عنه: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إلى ولولا أن قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك)) [7] , وقال فيما صح عنه: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي وإلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) [8].
والمسلم هو المصلي كما صح عنه صلى الله عليه وعلي آله وسلم أنه قال: ((نهيت عن قتل المصلين )) [9] , وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه مفارق الجماعة)) [10] , وإن الأمر لبلغ مبلغاً عظيماً حين نسمع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) [11] , وفي رواية ابن ماجة: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مؤمن بغير حق)) [12] , فما أعظم حرمتك أيها المصلي أن تزول الدنيا كلها وتأملوا رحمكم الله ذلك فيذهب جميع بهرجها وزخرفها وزينتها وما عليها وما فيها كل ذلك أهون عند الله من إراقة دمك, أنت يا من جئت للصلاة يا من شهدت أن لا إله إلا الله, وما ذاك إلا لعظمة ما انطوت عليه نفسك من التوحيد لله في العبادة ورسوله في الاتباع, بل إن الأمر يبلغ ذروته حين ننصت لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الثابت عنه فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما بسند صحيح أنه قال: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله عز وجل في النار)) [13] , لا إله إلا الله الملائكة الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, الذين أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد, الذين يعمرون البيت المعمور بالطواف يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم, لو أن هؤلاء الملائكة ومن في الأرض جميعاً اشتركوا في قتل مؤمن بغير حق لكبهم الله في النار, هذه قيمتك يا عبد الله عند الله , أنت صمام الأمان فلا تقوم الساعة وعلى ظهر الأرض مسلم, صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه أحمد ومسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس)) [14] , وفيهما عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)) [15]. فما أعظم الإسلام يعصم دمك وما أعظمه يعظم قدرك حتى إن الذي خلقك يقول: ((إن ذكرني عبدي في نفسه , ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) [16]. فليت شعري ما نفسك وما ملؤك وما نفس الله وما ملؤه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (2865).
[2] مسند أحمد (3/161).
[3] مسند أحمد (1/420-421).
[4] صحيح البخاري (6447).
[5] سنن الترمذي (2320).
[6] سنن الترمذي (2032) وهو موقوف على عبد الله بن عمر رضي عنهما.
[7] سنن الترمذي (3926).
[8] مسند أحمد (4/305)، وسنن الترمذي (3925)، سنن ابن ماجة (3108).
[9] سنن أبي داود (4928).
[10] صحيح البخاري (6878) صحيح مسلم (1676).
[11] سنن الترمذي (1395)، وسنن النسائي (3987).
[12] سنن ابن ماجة (2619).
[13] سنن الترمذي (1398).
[14] صحيح مسلم (2949) ، مسند أحمد (1/394).
[15] صحيح مسلم (148) ، مسند أحمد (3/107).
[16] صحيح البخاري (7405) ، صحيح (2675).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله تلكم هي قيمة المؤمن في ميزان الله, فكيف يسوغ لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يتهاون في أرواح المؤمنين فلا يجوز أن يتهاون في المحافظة عليها فضلاً عن أن يكون متسبباً في إتلافها أو مباشراً لقتلها, إن مما يجلب الأسى ما نسمعه المرة بعد المرة مما تتناقله بعض وكالات الأنباء في بعض البلدان من ذبح للمدنيين العزل من المسلمين فمرة تسعين ومرة أربعين ومرة تزيد ومرة تنقص , بل لا يكاد يمر أسبوع إلا ونروع فيه مرة أو مرتين بالسماع عن مذابح بشعة تجز فيها رؤوس النساء والصبيان والكبار العزل من الرجال وأياً كان الفاعل لهذه الجرائم التي لا يرضاها دين ولا خلق سواء قلنا هم الجهلة الذين حملوا السلاح دفاعاً عن الدين, وهم جهلة بأحكامه وشرائعه, أو قلنا هم عدوهم عدو الدين يريد تشويه سمعة الدين كما يدعيه كل من طرفي الصراع. إلا أن الأمر الذي يجب أن يعيه الجميع أنه لا يجوز أبداً أن يتخذ العزل من النساء والصبيان مادة للصراع فيذبحون للنكاية في الطرف الآخر, أين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للغزاة في سبيل الله الذين يقاتلون من كفر بالله: ((ولا تمثلوا, ولا تقتلوا وليداً)) [1] , ونحن نسمع اليوم أن بعض العزل قد قتل ومثل به حيث قطع إرباً, وأما قتل الوليد فحدث ولا حرج, وهذا كله في جهاد الكفار فكيف بقتل المسلمين الذين ذكرنا من حرمة قتلهم في الشرع ما ذكرنا, أين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما بال أقوام جاوز بهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية, لا تقتلوا الذرية)) [2]. أين نهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن المثلة ونهيه عن قتل النساء والصبيان, صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من ضيق منزلاً أو قطع طريقاً أو آذى مؤمناً فلا جهاد له)) [3] , إن أذية المؤمنين شأنها عظيم: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً , وأي أذى أعظم من أن تذبح امرأته أو ابنته أو أخته أو طفله ثم يراه ذبيحاً كيف يبلغ الفجور في الخصومة إلى هذا الحد. فلنحمد الله على العافية ولنسأله دوام العافية على الأعراب وعلى أهلينا, ولنشكره سبحانه وتعالى على ما أطعمنا من جوع وأمننا من خوف. ولنحرص على طلب العلم الشرعي فلا خزي من خزي إلا من قلة العلم وذهاب التقوى والورع, وقد قال البخاري رحمه الله في صحيحه, قال ابن عيينة عن خلف بن حوشب كانوا يستحبون بأن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرئ القيس:
الحرب أولها تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولت عجوزاً غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروة للشم والتقبيل [4]
قال ابن حجر وبالتمثل بهذه الأبيات استحضار ما شاهدوه وسمعوه من حال الفتنة, فإنهم يتذكرون بإنشادها ذلك فيصدهم عن الدخول فيها حتى لا يغتروا بظاهر أمرها أولاً. ولقد صدق الشاعر في قوله تسعى بزينتها لكل جهول, أي لا علم عنده ولا حلم, أما من كان مزموم بزمام العلم والعقل البعيد عن الطيش والتهور فما كان له أن يقع في شيء من هذا.
فلنحذر الفتن وأسبابها ولنسعى في طلب العلم الشرعي ونشره والعمل به والدعوة إليه.
[1] صحيح مسلم (1731).
[2] مسند أحمد (3/435)، سنن الدارمي (2463).
[3] مسند أحمد (3/441)، سنن أبي داود (2629).
[4] صحيح البخاري كتاب الفتن – باب الفتنة تموج كموج البحر.
(1/1013)
قصة نوح
سيرة وتاريخ
القصص
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
القصص القرآني وما فيها من عبر – نوح عليه السلام وفضله , وقصته مع قومه وما فيها من
عبر : حجة قوم نوح في الإعراض عن دعوته : أنه بشر , وأن أتباعه هم الأراذل والضعفاء
وأنه لا فضل له عليهم - في نظرهم - جواب نوح على شبههم ودحضها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله القصص في القرآن كثير وأشرفها قصص الأنبياء وفي جميعها عبرة لمن اعتبر, وإن من أولي العزم من الرسل أبو البشر الثاني الذي أفنى الله جميع البشر فلم يبق إلا ذريته كما قال جل شأنه وجعلنا ذريته هم الباقين أي لا غيرهم , وما من نبي بعده إلا وهو من ذريته إلى إبراهيم الخليل عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام , ثم ما من نبي بعد إبراهيم إلا وهو من ذريته كما قال سبحانه ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب , ذكر الله قصة نوح في كتابه في مواضع كثيرة إشادة به وثناء عليه وإن لنا فيها يا عباد الله لعبرة , فمنها صبره الطويل على دعوة قومه ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً , قضى كل هذه المدة كلها داعياً مجاهداً صابراً محتسباً مبشراً ونذيراً قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ولكن الملأ وهم السادة والكبراء كما يقول ابن كثير رحمة الله عليه تصدوا لدعوته يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون , فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين , فهذه ثلاث حجج ودلائل تنصلوا بها وتبينوا بها كذب نوح عليه السلام في زعمهم الباطل, أول حججهم الداحضة وأدلتهم الخاسرة على كذب نوح في نظرهم أنه بشر وكان الواجب على الله في زعمهم الباطل أن يبعث ملكاً لا بشراً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً والله عز وجل أعلم حيث يجعل رسالته, وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر أي لأخذناهم بالعذاب لأن الملك إذا نزل نزل به ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون , أي بقى اللبس قائماً عندهم لأنهم يرونه رجلاً ولا يرونه ملكاً في صورته , وقد قال الله جل وعلا الله أعلم حيث يجعل رسالته , أما حجتهم الثانية أن أتباعه عليه الصلاة والسلام هم الأراذل وليسوا الرؤساء والشرفاء, ثم هؤلاء الذين اتبعوه من الأراذل لم يكن اتباعهم له عن تروي ولا فكر بل بمجرد ما دعاهم أجابوه وذلك دليل على سفههم في نظرهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي أي اتبعوك لأول وهلة ولم يتدبروا الأمر, أما حجتهم الثالثة فهو قولهم واستدلالهم على تكذيب نوح بقولهم وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين أي ما رأينا لك يا نوح أنت ولا اتباعك علينا فضيلة في خلق وخُلق ولا رزق ولا مال ولا حال بل أنتم أقل منا في كل ذلك, وهكذا عادة أعداء الرسل يستدلون بأحقية ما هم عليه بالكثرة في المال والأولاد وغيرهما من مظاهر الحياة الدنيا كما قال جل وعز عن اتباعهم من المشركين وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون. وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه أي لو كان في اتباع الرسل خير ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء وهذا هو استدلال المفسدين في الأرض في كل زمان ومكان, كما قال شيخهم فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم عليه وعلى آله أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله تلكم هي حجة المفسدين في الأرض على عهد نوح عليه الصلاة والسلام, فماذا كان جواب أبي البشر وأبي الأنبياء الثاني عليه الصلاة والسلام: قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون , هذا هو رده على حجتهم الأولى قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي فهم يطلبون أن يرسل إليهم من الله ملكاً وهو يقول وما يضيركم أن يكون بشراً إذا كان هذا البشر قد جاءكم بالحق الواضح, إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده والرحمة هي النبوة التي فيها رحمة له ولهم , كما قال جل وعلا في سورة أخرى أهم يقسمون رحمة ربك أي النبوة وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم فعميت أي طمست عليكم فلم تستطيعوا رؤية الحق رغم جلائه أنلزمكموها وأنتم لها كارهون والجواب لا نستطيع إلزامكم بها فلسنا عليكم بمصيطرين كما قال جل وعلا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين , وقال سبحانه: لست عليهم بمصيطر ، ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء ، إنك لا تهدى من أحببت , فما وظيفة الأنبياء وأتباعهم إلا البلاغ والإرشاد والنصح.
أما شبهتهم الثانية فقد رد عليها بقوله عليه الصلاة والسلام: ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون هذا جوابه على كون اتباعه أراذل , فبدأ بقوله لا أسألكم عليه مالاً وهكذا جميع الأنبياء لا يسألون أتباعهم مالاً كما قال الله جل وعلا مخاطباً نبيه أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين , فليس الأنبياء ولا أتباعهم المخلصين يسألون أتباعهم مالاً على هدايتهم وبيانهم وإرشادهم كلا إنما يفعلون ذلك ابتغاء وجه الله. ثم قال وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم هؤلاء المؤمنون الذين تطالبونني بطردهم وإبعادهم لن أطردهم لأنهم آمنوا فهم الأشراف وإن ازدريتموهم , وأنتم الأراذل ولو كنتم عند أنفسكم أشرافاً, وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون أي إن طردتهم على الرغم من إيمانهم , يقول الله جل وعلا ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا , يقول الله جل وعلا ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين , ويقول سبحانه واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً , ويقول جل شأنه كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة ْ.
أما شبهتهم الثالثة فقد أجاب عليها نوح بقوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين هذه هي سيرة الأنبياء وهكذا كان الأولياء والصالحون من أتباع الأنبياء عليهم جميعاً الصلاة والسلام, فلنقتدِ بهم ولنسلك سبيلهم ولندرس سيرهم أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.
ثم اعلموا يا عباد الله أن الله عز وجل أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه وثلث بكم أيها المؤمنون فقال عز وجل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
(1/1014)
شرح كلمة أبى سليمان الداراني عن ركني السعادة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
كلمة أبي سليمان الداراني في ركني السعادة وهما : 1- الإحسان مع الله 2- الإحسان إلى
الخلق – تعريف الإحسان , والآيات في سعة علمه تعالى واطلاعه على عباده – إحسان العبادة
مع الله يكون بالإخلاص والمتابعة – الإحسان إلى الخلق بدعوتهم إلى الهدى وبالنفع الدنيوي
ارتباط الإحسان إلى الله بالإحسان إلى خلقه في كثير من الآيات – أهمية إصلاح السريرة
وارتباط ذلك بالعلانية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فيا عباد الله: كلمات من عيون الحكمة فاه بها أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه: ((من أصلح سريرته أصلح الله علانيته, ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه, ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس)) , وقد صدق والله, فمن جمعت فيه تلك الخصال الثلاث جمع الله فيه سعادة الدنيا والآخرة. أجل إن ركني السعادة هما:
1- الإحسان في عبادة الله جل وعلا.
2- والإحسان إلى خلقه.
فمن حققهما عاش سعيداً ومات حميداً, لا شيء في تعريف الإحسان أجمع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عنه جبريل: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) [1]. ولأنك تعبده وأنت مستشعر رقابته عليك وإطلاعه عليك في كل شئونك, وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه , وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين , ألم تر أن الله يعلم ما في السموات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم , يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. يعلم السر وأخفى والأخفى من السر هي ذات الصدور الملازمة لها, وهي الخطرات الملازمة للصدور التي لم يتكلم بها صاحبها فهو سبحانه يعلمها وإن كان لا يؤاخذ عليها كما صح عنه صلى الله عليه وسلم ((إن الله عفا عن أمتي ما حدثت بها أنفسها ما لم تفعل أو تتكلم)) [2] , فخطرات القلوب يعلمها الله وكيف لا يعلمها وهو خالقها ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ومن لطفه أنه لا يؤاخذ بها بل يعفو عنها ويصفح ما لم يفعل المرء شيئاً أو يتكلم, فالكلام مؤاخذ به.
قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟, قال الرسول: ((ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو قال: ((على مناخرهم يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم)) [3].
والعزم المصمم فعل يؤاخذ به الإنسان, قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. فقالوا يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول. قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)) [4] , فهو في النار بحرصه وعزمه المصمم على قتل المسلم. وما سوى ذلك من الخطرات فهي عفو: فضل من الله ورحمة ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير لهم مما يجمعون وبفضل الله تصلح قلوبنا وأعمالنا وما لنا سواه من هاد والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا.
وما بكم من نعمة فمن الله وأعظم نعمة علينا هي نعمة الهداية , وكلما ازداد المرء في مراتب الهداية كان ذلك دليلاً على زيادة نعمة الله عليه لأن تمام النعمة في كمال الدين. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً , فبقدر ما يزيد أخذ المرء من هذا الدين, وعمله به ودعوته إليه وجهاده فيه يكون ذلك دليلاً على أن نعمة الله عليه أعظم.
فمن أحسن في عبادة خالقه فقد حقق أحد ركني السعادة وإحسان العبادة يكون بأمرين:
1- الإخلاص لله.
2- متابعة هذا النبي الكريم.
فلا رياء ولا بدعة الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً , قال الفضيل بن عياض (أحسنه أخلصه وأصوبه), وكان عمر رضي الله عنه يقول في دعائه: ((اللهم اجعل عملي صائباً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل فيه لأحد شيئاً)) , خالصاً لقوله تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. صواباً على وفق سنته صلى الله عليه وسلم , فقد قال رسول الله: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [5] , ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [6]. فنوحد الرسول بالمتابعة, ونوحد الله بالعبادة, وحينئذ يكون الله معنا إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
والركن الثاني من أركان السعادة هو الإحسان إلى الخلق , فالخلق عيال الله, وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله, وأعظم نفع للخلق نفعهم فيما يقربهم إلى الله بتعليمهم دينهم وحثهم عليه وتربيتهم عليه, ذلك أفضل من إطعام الطعام وبذل الكساء وإعطاء الدواء والغذاء, إذ لو مات العبد جائعاً عارياً ظامئاً وهو لا يشرك بالله شيئاً كان من السعداء في الآخرة, ولو مات ريان شبعان وهو غير مؤمن كان من أهل النار.
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط, فيقول: ما رأيت نعيماً قط)) أنسته هذه الغمسة كل نعيم الدنيا: ((ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل مر بك بؤس قط؟. فيقول: ما رأيت بؤساً قط)) [7].
فالإحسان إلى الخلق بيان طريق الهداية لهم والإحسان إليهم بالمنافع الدنيوية سبب جالب للسعادة وفقده جالب للشقاوة.
والإحسان إلى الخلق هو من تمام الإحسان في عبادة الله فآل الركنان إلى ركن واحد جالب للسعادة, قال سبحانه: ما سلككم في سقر قالوا لم نكن من المصلين ولم نك نطعم المسكين فسبب دخولهم سقر هو تركهم الإحسان إلى الله (الصلاة) والإحسان إلى الخلق (إطعام المسكين).
وقال جل وعلا: أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين فقد تركوا الإحسان إلى الخلق فهو يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين وترك الإحسان إلى الله: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون. وكم قرن الله بينهما في كتابه وحث عليهما ووبخ تاركها فمال أكثر الخلق عن القرآن لأهون, وعن أسباب السعادة في غيره يلتمسون. تالله من رامها في غيره فهم في غيهم يعمهون. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: والذين أتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه ادعوا وإليه مآب.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (50) وصحيح مسلم (8).
[2] صحيح البخاري (5269).
[3] مسند أحمد (5/31،237) سنن الترمذي (2616) سنن ابن ماجة (3973).
[4] صحيح البخاري (31)، صحيح مسلم (2888).
[5] صحيح البخاري (2697)، صحيح مسلم (1718).
[6] صحيح مسلم (1718).
[7] صحيح مسلم (2807).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , لقد جاءت رسل ربنا بالحق , والصلاة والسلام على خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد فيا عباد الله إن السعادة كلها في القرآن , والإحسان في عبادة الله، وما الإحسان إلى خلقه إلا من الإحسان في عبادته. فكم أمرنا ربنا في كتابه بالإحسان إلى خلقه وكم حث على ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم حتى قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء, فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) [1].
قال أبو سليمان (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته) ومصداق ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة, إن صلحت صلح سائر الجسد وإن فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب)) [2] , وقال: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [3].
(ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من جعل الآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة , ومن جعل الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) [4].
قال رحمة الله عليه (ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس), وقد كتب معاوية رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة: أن عظيني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكتبت إليه وقد ولي الخلافة تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس سخط الله برضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)).
فلنوحد القصد يا عباد الله ولنوحد الهم ولنلم شتات القلب فما خاب من قصده سبحانه في الحوائج والملمات, وما خسر من أحسن في عبادته حتى مات ألا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين.
[1] صحيح مسلم (1955).
[2] صحيح البخاري (52)، صحيح مسلم (1599).
[3] صحيح مسلم (2564).
[4] مسند أحمد (5/183)، سنن أبي داود (1668)، سنن الترمذي (2465)، سنن ابن ماجة (4105).
(1/1015)
ظلم العمال
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
الناس سواسية , وأصلهم واحد – الحكمة من جعل الناس درجات – من صور هضم حقوق
العمال : عدم إعطاء صورة واضحة عن العمل المطلوب استغلالاً لحاجة العامل – توجيهات
ونصائح لمن يستأجر عاملاً : 1- إنسانية الأجير وكرامته 2- أخوّة الإسلام 3- غربة الأجير
وهدفه 4- شرف مِهَن الأجراء وأنها مهن الأنبياء – من أبرز صور الظلم تأخير الأجر بعد تمام
العمل – تكليف العامل فوق طاقته أو غير متفق عليها – وجوب الإحسان إلى الأجير
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله إن الله خلق الخلق من نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ، ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين , فأبونا الأول هو آدم وأبونا الثاني هو نوح, فما على وجه الأرض نفس منفوسة إلا وهي من ذرية نوح عليه السلام لأن الله أفنى كل من عاداهم ولم يبق إلا ذريته وجعلنا ذريته هم الباقين , فكل الناس هم أبناء رجل واحد أولاً وهو آدم ثم أبناء نوح ثانياً, وجعلنا الله شعوباً وقبائل لنتعارف يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، ولا تستقيم للناس حياة إلا بأن يتعاونوا ويتكاملوا فكل منهم محتاج إلى غيره في معايشه ولا يمكن أن يستقل بنفسه في تسيير أمور حياته فالغني منا محتاج إلى الفقير والصغير محتاج إلي الكبير والفقير محتاج إلى الغني وهكذا وجعلنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ولم يقل سبحانه ليتخذ الأغنياء منهم الفقراء سخرياً, بل بين أن كل من هو فوق ومن هو دونه في درجة العيش كل منهما مسخر للآخر, إذا تبين هذا يا عباد الله فاعلموا أن مما شاع في هذه الأزمان وذاع هضم حقوق العمال والأجراء ولهذا صور شتى:
فالبعض من المستأجرين هداهم الله لا يوضح تفاصيل ما يريد من عميله وأجيره قبل تشغيله ويستغل حرص هذا العامل والأجير على أن يجد عملاً يتكسب به فيأخذه دون توضيح طبيعة العمل ثم يقع الخلاف بعد وأثناء سير العمل وينتهي الخلاف لصالح صاحب العمل لأنه يأوي في الغالب إلى ركن شديد فهو في بلده والعامل غريب أو أجنبي كما يسميهم البعض هداهم الله ولا يستطيع أن يشكوه إلى أحد, وما علم هذا المستأجر الظالم أن هذا الأجير المظلوم يأوي إلى ركن شديد وهو الله جل وعلا إن كان قد ظلمه أو سلب حقه أو شغله دون أجر.
صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((اتقي دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [1]. وصور الظلم وسوء المعاملة للعمال والأجراء كثيرة يصعب حصرها, ولكني أذكر نفسي وكل من يستأجر عاملاً أو أجيراً بأمور لا يجوز إغفالها:
أولاً: أن هذا العامل أو الأجير إنسان يجب تكريمه بتكريم الله له: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً وديننا قد أمر بالرفق بالحيوان فكيف بالإنسان, قال صلى الله عليه وسلم: ((دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)) [2] , فهذه امرأة تصلى النار بسبب هرة. ومر صلى الله عليه وسلم على دابة قد وشم وجهها فقال: ((لعن الله من فعل هذا)) [3] , ونهى صلى الله عليه وسلم عن خصاء البهائم [4] لما فيه من أذيتها إلى غير ذلك مما هو شائع معروف وكل هذا في الحيوان فكيف بالإنسان الذي قال الله فيه: ولقد كرمنا بني آدم.
ثانياً: أن هذا العامل أو الأجير مسلم فهو أخوك بحكم الإسلام وإن كنت أغنى منه إنما المؤمنون أخوة وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم)) [5] , وقال صلى الله عليه وسلم في العبيد والأرقاء: ((إخوانكم خولكم)) [6] فكيف بالأجير الحر, بل قد يكون هو أفضل عند الله منك إن كان أتقى لله منك إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
ثالثاً: أن هذا العامل ما جاء إلى هذه البلاد وترك أهله ووطنه ليعيش غريباً بعيداً إلا ليعف نفسه وعائلته بالكسب الحلال من عمل يده ولو شاء لسلك طرق الحرام وهي كثيرة ميسورة, صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح)) [7] أي إذا اجتهد وبلغ وسعه في إتقان العمل فكسبه خير كسب كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم, وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد طعاماً قط خير من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) [8] , وإن مسلماً ترك سبل الحرام وهو قادر عليها لو أراد ليعف نفسه وأسرته بالكسب الحلال بل بأفضل الكسب لهو حري بأن نعززه وأن ينال منا كل إجلال وإكبار.
رابعاً: أن هذه المهن التي يعمل فيها أكثر العمال اليوم هي مهن شريفة بل هي مهن الأنبياء والمرسلين, قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان آدم عليه الصلاة والسلام حراساً وكان نوح نجاراً وكان إدريس خياطاً وكان إبراهيم ولوط زراعين وكان صالح عليه السلام تاجراً وكان داود زراداً أي حداد يزرد الدروع وكان موسى وشعيب عليهما الصلاة والسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم رعاة)) وفي الحديث: ((وكان زكريا عليه السلام نجاراً)) [9] , وهؤلاء العمال والأجراء غالبهم يتراوحون بين هذه المهن فهي مهن الأنبياء والمرسلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل.
نفعني الله وإياكم بهدى كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (1496)، صحيح مسلم (19).
[2] صحيح البخاري (745)، صحيح مسلم (904).
[3] مسند أحمد (3/297).
[4] مسند أحمد (2/24).
[5] صحيح البخاري (2442)، صحيح مسلم (2564).
[6] صحيح البخاري (30)، صحيح مسلم (1661).
[7] مسند أحمد (2/334).
[8] صحيح البخاري (2072).
[9] صحيح مسلم (2379).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي حرم الظلم وجعله بيننا محرماً , القائل فيما رواه عنه صلى الله عليه وسلم: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) [1] والصلاة والسلام على عبده ورسوله القائل فيما صح عنه: ((واتقي دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [2].
وإن صور الظلم يا عباد الله للعمال والأجراء كثيرة جداً يصعب أن نحصيها في يوم واحد وإن من أبرزها تأخير أجرة العامل بعد أن يتم عمله فيماطله صاحب العمل لا يسدده أجرته فوراً, وفي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) [3].
وإن من صور الظلم أن يكلف العامل بأمور هي فوق طاقته أو بأمور غير ما اتفق صاحب العمل عليها أو بأمور لم تجري العادة تكليفه بها, وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في العبيد الأرقاء أنه قال: ((إخوانكم خولكم (أي خدمكم) جعلهم الله قنية تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده)) فسماه أولاً أخاه. وأمرنا بالإحسان إليه بقوله: ((فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه ما يغلبه , فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)) [4] , فلنتقي الله يا عباد الله في عمالنا وأجرائنا ولنعنهم على الكسب الحلال ولا نلجئهم إلى المحرمات وهي كثيرة بل لنشجعهم على هذه المهن التي اختاروا سلوكها والبعد عن سبل الحرام فمهنهم أطيب المهن وكسبهم أطيب كسب وكان نبي الله داود يأكل من كسب يده.
أسأل الله العلي العظيم أن يجنبنا الظلم بسائر صوره وأشكاله, اللهم إنا نعوذ بك من الظلم, اللهم إنا نعوذ بك أن يطالبنا واحد من خلقك بشيء ظلمناه فيه.
[1] صحيح مسلم (2577).
[2] صحيح البخاري (1496)، صحيح مسلم (19).
[3] سنن ابن ماجة (2443).
[4] صحيح البخاري (30)، صحيح مسلم (1661).
(1/1016)
عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ, فقه
الصوم, القصص, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل صوم يوم عاشوراء والسنة في ذلك – وقفات مع حديث سبب صومه , والاقتداء بموسى
ونوح عليهما السلام , وغيرهما من الأنبياء في ثباتهم وتوكلهم على الله – فوائد من قصة نوح
وموسى مع قوميهما – ذكر الانتصارات تكون بالطاعة لا بالاحتفالات
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله بعد أيام يهلنا يوم عظيم من أيام الله إنه يوم عاشوراء , صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صوم يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية)) [1] , وعاشوراء هو يوم العاشر من شهر الله المحرم, كما ثبت عنه عليه وعلي آله وسلم أنه قال: ((عاشوراء يوم العاشر)) [2] , وفي البخاري أنه صلى الله وسلم عليه قدم المدينة فرأى إلى هود تصوم يوم عاشوراء, فقال ما هذا , قالوا هذا يوم صالح , هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى, قال صلى الله عليه وعلي آله وسلم: ((فأنا أحق بموسى منكم)). فصامه وأمر بصيامه [3]. وفي صحيح مسلم فصامه موسى شكراً لله تعالى فنحن نصومه [4]. وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: وهو إلى وم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً [5].
و لنا مع هذه الأحاديث الصحيحة وقفات:
أولها: الفضل العظيم في صيام يوم العاشر من شهر الله المحرم حيث يكفر به الله للصائم سنة وكل بني آدم خطاء وأينا لا يحتاج للمغفرة وتكفير الخطايا.
الثانية: أن سبب صيامه هو الاقتداء بنبيين من أولى العزم من الرسل اقتدى بهم نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمرنا بالاقتداء بهما فصار شرعاً لنا ذلكم النبيان هما موسى ونوح عليه ما وعلى نبينا الصلاة والسلام, فما نوح وما موسى وما قوم نوح وما فرعون؟, نوح هو الذي قال لقومه: إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون فهذه خلاصة دعوته, أن يخلصوا العبادة لله وحده فلا ود ولا يغوث ولا يعوق ولا نسراً ولا سواع يستحق العبادة بل الله وحده هو الذي يعبد ويتقى ونوح وحده هو الذي قال فيما يبلغ عن ربه جل وعلا: أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون فماذا قال له قومه؟ قالوا إنا لنراك في ضلال مبين وفي حقيقة الأمر أن الذين قالوا له هذا هم الملأ من قومه, أي العلية المتسلطون فيهم فوافقهم العامة والدهماء فحل العذاب حين نزل بالجميع لسكوتهم وعدم إنكارهم على الملأ بل وتصديقهم في تكذيب نوح ورد دعوته كما قال الله جل وعلا: قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكراً كباراً وقالوا لا تذرن ألهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً وقالوا لنوح: ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم على نا من فضل بل نظنكم كاذبين , وأراذلهم فقراؤهم وغير ذوي المال منهم, وهكذا يفعل المتجبرون الظالمون في كل حين كما قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت على نا بعزيز فالمعيار عندهم المال والعشيرة ولا التفات عندهم إلى ذات القول وصحته وصلاحيته , بل قبل النظر في القول انظر إلى قائله فإن كان له سيف يحميه أو قبيلة تؤويه أو تابع يفديه اعتبر قوله ونظر فيه بل خضع له ولو كان فيه ما فيه وإن لم يكن كذلك نتف ريشه وقلمت أظفاره وقطعت قوافيه , فلله ما أصبر أنبياء الله على أذى سمعوه وما أشد إصرارهم على دعوتهم وتوكلهم على خالقهم كما ذكر ذلك عنهم ربنا عز وجل من قولهم لأقوامهم وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلي الله فليتوكل المتوكلون وقال عن نوح عليه السلام مبيناً إصراره على دعوته على الرغم أنه ما آمن معه إلا قليل واتل عليه م نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر على كم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم على كم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون وبهذا الصبر والتوكل والثبات كانت العاقبة الحميدة في الدنيا بهلاك الظالمين من قومه وفي الآخرة بجنة عرضها السماوات والأرض, بجنة الفردوس بمقعد صدق عند مليك مقتدر وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يعملون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجرى بهم في موج كالجبال كل هذا كان في يوم عاشوراء وهي تجرى بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سأوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم إلى وم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين , تلكم يا عباد الله قصة نوح مع قومه وتلكم نهايته ونهاية قومه وتلكم عاقبة المتقين وعاقبة الظالمين. وفي يوم عاشوراء تم كل هذا كما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة فصامه نوح شكراً وصامه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم اقتداء وشرعه لنا فنصومه نحن فرحاً بهلاك الظالمين ونجاة الأنبياء المصلحين. أما موسى فهو أحد الخمسة من أولي العزم من الرسل, وما قص الله علينا في كتابه قصص نبي أكثر منه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام, أرسله الله إلى فرعون طاغية مصر يدعوه لعبادة الله وترك تعبيد الناس له ويتركه ولا يمنعه من الدعوة إن لم يؤمن به وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون , لكن فرعون وملأه لم يؤمنوا به ولم يعتزلوه ولم يتركوه يدعو الناس بل حاصروه عليه السلام وطاردوه , وقال فرعون عن موسى ومن معه من المؤمنين وهم قليل إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون وقال فرعون للناس: أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ، يعني نبي الله موسى صلى الله على موسى ولعن فرعون, يقول فرعون كما قص الله عنه أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين , وهكذا فنظرته كنظرة الملأ من قوم نوح لا ينظرون إلى القول الذي قيل بل إلى صاحب القول, ففرعون يرى أن موسى مهين أي حقير , وأنه لا مال له وليس عليه أسورة من ذهب, وقد استخف قومه بهذا التلبيس فأطاعوه. قال الله تعالى: فلما آسفونا (أي فلما أغضبونا) انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين , وهكذا يهلك فرعون الذي كان يقول بكل عظمة ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ويهلك معه قومه الذين اتبعوه وصدقوه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد , يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود, وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود , فرعون الذي كان يقول: ما علمت لكم من إله غيري ويقول: أنا ربكم الأعلى , ويقول: لأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى إلى آخر ألوان طغيانه وجبروته, يهلكه الله في البحر وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون بجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثير من الناس عن آياتنا لغافلون , وهكذا ينتهي فرعون وجبروته وينجي الله موسى ومن معه من المؤمنين في مثل يوم عاشوراء فنحن نصومه فرحاً بنجاة المصلحين وهلاك المفسدين.
اللهم إن نوحاً قد دعا بقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً. وإن موسى قد دعا بقوله ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. اللهم إنا ندعوك, اللهم كل من آتيته زينة وأموالاً في الحياة الدنيا فاستخدمها في الإضلال عن سبيلك, اللهم فاطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (1976).
[2] سنن الترمذي (686).
[3] صحيح البخاري (1865)، صحيح مسلم (1911).
[4] صحيح مسلم (1911).
[5] مسند أحمد (2/359).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى غفرانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله فمن العبر التي نأخذها من هذه الأحاديث أن أيام النصر لا تعاد ذكراها بالمعاصي والكفران بل بالشكران لله صاحب الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتخذ يوم عاشوراء عيداً بل إنه صامه وأمر بصيامه ولو كان عيداً لما صامه لأن الأعياد لا يجوز صيامها, بل صامه شكراً لله على إنجائه موسى ومن معه وإهلاكه فرعون وجنوده, ومنها أن رابطة الإيمان تتخطى حواجز الزمان والمكان.
(1/1017)
علامات حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
كيف يعرف المرء مدى اتصافه بحسن الخلق من عدمه – الضوابط والعلامات التي حدد بها
الرسول صلى الله عليه وسلم حسن الخلق : أ- المعيار المجمل : محبة الخير لأخيه المسلم
ب- المعيار المفصل : الأحاديث الدالة على مكارم الأخلاق : الأمانة – كظم الغيظ – عدم أذية
الجار , والإحسان إليه – حسن اللقاء والمعاشرة – التعاون وقضاء حاجة المسلم – أسباب الألفة
والمحبة : الكلام الطيب واللين – إفشاء السلام – الهدية – الزهد فيما في أيدي الناس
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون، بينا في درس مضى فضل حسن الخلق ومنزلته في الدين وطرفاً من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى الله عليه في كتابه.
و كأني بنا نتساءل كيف يعرف الواحد منا مدى اتصافه من بحسن الخلق من عدمه ومدى التزامه بهذا التوجيه الكريم الذي يأمرنا فيه ربنا بالإقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعين من الضوابط والعلامات الدالات على حسن الخلق فمنها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل ولا نستطيع أن نأتي عليها كلها لكثرتها كثرة مستفيضة كما صح عنه. أما المعيار المجمل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) [1] متفق عليه. وفي رواية أحمد والنسائي: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)) [2] ، وهذه الرواية تفيد فائدة عظيمة وتقطع دابر من أراد أن يستعمل الحديث في غير ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقول أنا أحب كذا وكذا مما يسخط الله فأريد أن أجلبه إلى أخي المسلم فتقطع هذه الوساوس بهذه الرواية الثانية: الخير فيما يحبه الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن كنت تحب لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك من خير فأنت إن شاء الله من ذوي الخلق الحسن.
وقد صح عن الرسول : ((وخالق الناس بخلق حسن)) [3]. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وأتي إلى الناس ما تحب أن يؤتوه إليك)) فما تحب أن يؤتوه إليك فبادرهم به إذا كان في حدود الشرع، فقد قال الله تعالى عن شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه: ولا تبخسوا الناس أشياءهم.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في حسن الخلق نذكر طرفاً منها فمن ذلك:
قاله صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) [4] فهل أنت من هؤلاء القوم فتعفو وتصفح ولا تخن من خانك.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) [5] متفق عليه. فهل أنت إذا ما أغضبك أحد كبت جماح نفسك ولم تترك لها الحبل على الغارب فتكون شديداً بحق كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الله جل وعل:ا وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. فأين نحن يا عباد الله من هذه الصفات، هل نحن ممن يكتم الغيظ ويعفو عن الناس حتى إن أساءوا إليه.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء)) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة [6].
وقد قال الله تعالى: ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون فإذا أساء إليك إنسان فادفع إليه بالكلمة التي هي أحسن وبالفعلة التي هي أحسن وقال: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وهذه نتيجة دفع السيئة بالحسنة.
ومن معايير حسن الخلق ما ذكره النبي بقوله: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره )) [7] ، وفي الحديث الآخر: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه أحمد والبخاري [8]. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن. قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من بات شبعان وجاره جائع)) [9].
وفي الحديث الصحيح: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لجاره ما يحبه لنفسه)) [10] رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه. فهل نحن ممن يحسن الجوار، وقد قلنا فيما سبق أن حسن الخلق والجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)) [11].
ومن معايير حسن الخلق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له)) [12] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك)) [13].
وقال الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به. فهل نحن ممن يحفظون العهود والمواثيق ونحفظ الأمانات حتى نؤديها إلى أهلها.
ومن ذلك قول الرسول : ((لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) [14] رواه الإمام أحمد، وقال: ((وتبسمك في وجه أخيك صدقة)) [15] فهل نحن ممن يحسن اللقاء والمعاشرة، هل نحن ممن يبتسمون دائماً. فقد صح عن عائشة رضي الله عنها في وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بساماً أي يكثر التبسم [16]. وقد صح عن بعض الصحابة أنه قال: ما نظر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منذ أسلمت ولا لقيني إلا تبسم [17] ، بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه.
فعلينا يا عباد الله أن نعرف أثر هذا التوجيه الكريم، فإنها عبادة من العبادات أن تقابل إخوانك بالابتسامة.
ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((وتعين الرجل على دابته فترفعه عليها أو ترفع له حاجته عليها صدقة)) متفق عليه [18]. فإن إعانة الآخرين والسعي إلى قضاء حوائجهم من علامات حسن الخلق فينبغي أن يسعى الإنسان إلى ذلك. فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في المسجد ذات يوم فدخل رجلٌ وعلى وجهه علامات الهم والغم فقال له ابن عباس: ما لك يا ابن أخي؟ فقال: إن على ديناً وقد حل أجله وليس عندي سداده. فقال ابن عباس: أتريد أن أكلم لك صاحب الدين أن ينظرك إلى ميسرة. قال: نعم. فأمسك بيده يمشيان في المسجد حتى إذا وصلا إلى الباب قال الرجل: يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف وأن المعتكف لا يخرج من المسجد. قال: كلا ما نسيت ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأن أمشي في حاجة أخي حتى أثبتها أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهراً)) [19] هذا حديث صحيح عن ابن عباس.
و قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: ((لأن أمشي في حاجة أخي حتى أقضيها أحب إلى من أعتكف في المسجد شهراً)) [20].
فلنعرف هذا المنهج عباد الله ولنعلم منزلة حسن الخلق ولنعلم أن من أحب الأعمال سرور تدخله على قلب مسلم، وهذا حديث صحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام [21].
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (13)، صحيح مسلم (45).
[2] مسند أحمد (3/206)، سنن النسائي (5017).
[3] مسند أحمد (5/153)، سنن الترمذي (1987).
[4] مسند أحمد (3/414)، سنن أبي داود (3535)، سنن الترمذي (1264).
[5] صحيح البخاري (6114).
[6] سنن الترمذي (2021)، سنن أبي داود (4777)، سنن ابن ماجة (4186)، ولم أجده في سنن النسائي.
[7] صحيح البخاري (5186)، صحيح مسلم (47).
[8] مسند أحمد (2/288)، صحيح البخاري (6016).
[9] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (751) بلفظ "من آمن بي...".
[10] صحيح مسلم (45).
[11] تقدم قريباً.
[12] مسند أحمد (3/210).
[13] تقدم قريباً.
[14] صحيح مسلم (2626).
[15] سنن الترمذي (1956).
[16] البخاري (4829) بمعناه.
[17] صحيح البخاري (3036).
[18] صحيح البخاري (2891)، صحيح مسلم (1009).
[19] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13646) عن ابن عمر.
[20] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13646) عن ابن عمر.
[21] أخرجه الطبراني في المرجع السابق الحديث نفسه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى صحبه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله فمن معايير حسن الخلق المفصلة أن تقيس بنفسك أين أنت من هذه الصفات؟. قال الله جل وعلا في وصف أهل الجنة: وهدوا إلى الطيب من القول ، وقال جل وعلا آمراً لنا: وقولوا للناس حسناً ، وقال: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((الكلمة الطيبة صدقة)) [1] , وقال جل وعلا حينما بعث موسى وهارون إلى فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى والذي قال: ما علمت لكم من إله غيري بعثهما الله سبحانه وتعالى آمراً لهما: وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.
وقد جاء أن أحد الوعاظ جاء ينصح أحد العصاة وقد شدد عليه، فقال له الفاسق: رويداً يا ابن أخي فلست خيراً من موسى وهارون ولست بأفسد من فرعون فإن الله قد ابتعث من هو خير منك إلى من هو شر مني وقال له: وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.
فعلينا يا عباد الله أن نعي هذا التوجيه الكريم. وكان صحابة رسول الله فيما روي عنهم أنهم كانوا يختارون أطايب الكلام كما ينتقي أحدنا أطايب التمر من القصعة.
فعلينا عباد الله أن نتعامل فيما بيننا بهذا الخلق، ونحذر من الشياطين، فإن الشيطان ينزغ بيننا بكلمة من هذا تقع عند هذا فتكون البغضاء والكراهية.
فعلينا أن نعلم أن الكلام الطيب صدقة وأن القول اللين عبادة.
ومن ذلك ما ذكره الرسول : ((يا أيها الناس أفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) فهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي [2] ، يأمرنا رسول الله بإفشاء السلام الذي أصبح هذا الزمان على المعرفة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يكون السلام على المعرفة)) [3]. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: ((ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) [4]. وقال الله جل وعلا: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها. فالواجب علينا يا عباد الله أن نفشي السلام بيننا، فقد قال الرسول: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم)) [5].
ومن دواعي إفشاء المحبة ما ذكر النبي في قوله: ((تهادوا تحابوا)) [6] فإن الهدية من علامات حسن الخلق، فإن الرسول كان يقبل الهدية ويرد بأحسن منها [7].
ومن جوالب المحبة بين المسلمين ما ذكره الرسول بقوله حين سأله أحدهم: ((يا رسول الله دلني على شيء إن فعلته أحبني الله وأحبني الناس. قال: ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) [8] فليزهد المرء فيما في أيدي الآخرين، وليكن أوثق فيما عند الله عن ما في يده.
فإنني أحذر من يسألون الناس دائماً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أنه يؤتي بالمرء يوم القيامة وليس في وجهه فرعة (قطعة) لحم بسبب سؤاله الناس)) [9] فليتعفف المرء المسلم. والملاحظ أنك ترى كثيراً من الناس ليس بهم بأس شديد يضطرهم إلى الوقوف بين أيدي الناس.
وقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه ذهب مع رجل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه من أهل الجنة)) فبات عنده ابن عمرو ثلاث ليال، فقال: ابن عمرو: والله ما بيني وبين أبي أي شيء ولكني أردت أن أعرف بأي شيء استحققت الجنة (أو كما قال). فقال الرجل: ما بت ليلة وفي قلبي غل على مسلم [10].
فلنسعى جميعاً إلى تطهير قلوبنا من الغل حتى نكون ممن يغفر الله له: ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا. فإن نزع الغل من صفات أهل الجنة: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين.
فاعلموا أيها الإخوة أن هذه الصفات غيض من فيض وأنها جزء يسير مما أمرنا الله تعالى في كتابه.
أسأل الله العليم رب العرش العظيم كما حسن خلقنا أن يحسن خُلقنا.
[1] صحيح البخاري (2989)، صحيح مسلم (1009).
[2] مسند أحمد (5/451)، سنن الترمذي (2485).
[3] مسند أحمد (1/387).
[4] صحيح البخاري (12)، صحيح مسلم (39).
[5] مسند أحمد (2/477).
[6] موطأ مالك (2/693).
[7] صحيح البخاري (2585).
[8] سنن ابن ماجة (4102).
[9] صحيح البخاري (1475)، صحيح مسلم (1040).
[10] مسند أحمد (2/176).
(1/1018)
فضل ليلة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
حكمة الله عز وجل في تفضيل بعض خلقه على بعض – فضل العشر الأواخر من رمضان
وهديه صلى الله عليه وسلم فيها – فضل ليلة القدر ووقتها وسبب تسميتها – اغتنام هذه العشر
في استدراك التفريط لمن فرط , وإكمال الاجتهاد لمن جد , والحذر من الاغترار بالطاعة
ما يقال في ليلة القدر
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي قال: ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون , خلق الخلق فاختار منهم أنبيائه ورسله: الله أعلم حيث يجعل رسالته وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون , فإذا كان جل وعلا لم يكل قسمة المعيشة في الحياة الدنيا إلى خلقه فكيف يكل إليهم قسمة رحمته التي هي النبوة فيقترحون عليه جل وعلا من يصلح أن يكون نبياً وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته: الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس. وخلق البقاع فاختار منها مكة: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود , وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال مخاطباً مكة حرسها الله: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) [1] , وخلق الأيام فاختار منها العشر الأول من ذي الحجة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أكبر أيام الدنيا أيام العشر)) , وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة, قيل: ولا الجهاد في سبيل الله. قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) [2] , وخلق الليالي فاختار منها العشر الأواخر من رمضان فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله وكان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها [3] , وكان صلى الله عليه وسلم يقضيها معتكفاً في المسجد منقطعاً لعبادة ربه [4]. واختار سبحانه وتعالى من العشر ليلة القدر, قال جل شأنه: إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر , وربك يخلق ما يشاء ويختار فيا أهل الإيمان هذا اختيار ربكم وتفضيله أعلمكم به لتحصيل النوال بكثرة السؤال من الكبير المتعال, وأصح الأقوال أنها في العشر الأواخر بل في الوتر من العشر الأواخر, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)) [5] , وأصح أقوال أهل العلم والإيمان أنها تتنقل في الوتر من العشر فسنة تكون يوم إحدى وعشرين وسنة تكون في غيرها من ليالي الوتر, كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أريت ليلة القدر فنسيتها, وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين)) [6] , يقول الصحابي راوي الحديث فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فخر المسجد فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فسجد في ماء وطين. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تحروا ليلة القدر, ليلة ثلاث وعشرين)) [7] , وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين)) , وقوله: ((تحروا ليلة القدر فمن كان متحريها فليتحراها في ليلة سبع وعشرين)) [8] , وقد قال أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره إني لأعلم أي ليلة هي, هي الليلة التي جمع فيها النبي صلى الله عليه وسلم أهله والناس أجمعين فصلى بهم حتى الصبح ليلة سبع وعشرين), ففي تلك السنة كانت ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. وصح عنه صلى الله عليه وسلم: ((التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من ليالي رمضان)) [9] , أي ليلة تسع وعشرين. فكل تلك الروايات الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم تدل بوضوح أنها لا تلزم ليلة السبع والعشرين في كل السنين بل ربما كانت في سنة في ليلة إحدى وعشرين وفي سنة أخرى في ليلة ثلاثة وعشرين وهكذا إلى تسع وعشرين.
ولما كان دخول شهر رمضان غير قطعي فرب ليالٍ نعدها أوتاراً هي في واقع الأمر شفعاً ليست بوتر, وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد المسدد لا يقصر نشاطه على الأوتار من العشر بل يجتهد العشر كلها مقتدياً في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
وليلة القدر سميت بذلك لشرفها وعلو قدرها فعبادة فيها تعدل أكثر من عبادة في ثلاثة وثمانين سنة, وسميت بذلك لأنها تقدر فيها مقادير العام الذي يليها فيفصل من اللوح المحفوظ إلى كل ملك ما وكل إليه القيام به في كل عام, فملك الموت يعلم الأرواح التي يقبضها في كل عام, وهكذا يفرق في هذه الليلة من اللوح المحفوظ كل أمر محكم فيعلم به من سينفذه من العباد المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, قال الله سبحانه: فيها يفرق كل أمر حكيم.
وسماها الله جل وعلا مباركة كما قال سبحانه: إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين , ومن بركاتها أن الملائكة تتنزل فيها من السماء, كما قال سبحانه: تنزل الملائكة والروح فيها , والروح هو جبريل عليه السلام. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى)) [10]. ومن بركاتها ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [11].
اللهم اجعلنا ممن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً. اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل, اللهم اجعل عملنا صائباً واجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل فيه لأحد شيئاً.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (4/305)، سنن الترمذي (3925)، سنن ابن ماجة (3108).
[2] مسند أحمد (1/224)، سنن أبي داود (2438)، سنن الترمذي (757).
[3] صحيح البخاري (2024).
[4] صحيح البخاري (2026)، صحيح مسلم (1172).
[5] صحيح البخاري (2017).
[6] صحيح البخاري (2040)، صحيح مسلم (1167).
[7] مسند أحمد (1/240) بنحوه.
[8] البخاري بمعناه (49).
[9] البخاري بمعناه (2021).
[10] مسند أحمد (2/519).
[11] صحيح البخاري (1901)، صحيح مسلم (760).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: إنما يتقبل الله من المتقين , والقائل في محكم ما أنزل الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً , أحسن عملاً أي أخلصه وأصوبه.
والصلاة والسلام على القائل: ((إني لأعلمكم لله وأتقاكم له)) [1] , والقائل فيما روي عنه: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش, ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب)) [2] صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا من فرط أول الشهر إياك أن يفوتك الموسم واسمع إلى قول نبيك صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر, من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم)) [3] , فإياك أن تكون محروماً.
يا من نشط أول الشهر حتى إذا جد الجد وحان الموسم ترك القيام وقضى لياليه في الأسواق يقضي حوائج الأطفال والنساء ويفتر بل ويعرض عن التعرض لنفحات الكريم المنان , إياك أن تكسل عن ما بدأت شهرك به من القيام والصيام.
يا أهل الغفلة انتبهوا , ويا أهل السنة استيقظوا , إنه والله الغبن والحرمان أن تخبر بليلة عبادتها خير من عبادة ثلاثة وثمانين سنة ثم لا تقضيها عابداً ولربك ساجداً وعسى الله أن يتقبل إنما يتقبل الله من المتقين.
يا من استهل شهره بالجد والنشاط وعزم على المواصلة حذار من الاغترار بما صنعت وكن كما قال الله جل وعلا فيهم: كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون , وما استغفروا إلا لاستشعارهم تقصيرهم في جنب الله رغم قيامهم أكثر الليل , وكن من قال الله جل وعلا فيهم: والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. وتذكر أن ما أنت فيه إنما هو بفضل الله وتوفيقه له , فالذي أعطاك ووفقك هو الذي حرم غيرك ومنعه فقل كما قال الصالحون: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , واعتبر بما قاله الله لعبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به على نا وكيلاً إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيراً , حتى عدها بعض السلف أعظم تهديد في كتاب الله.
فكن خافض الجناح مجتهداً في الطاعة خائفاً من عدم القبول فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون إنما يتقبل الله من المتقين, ولا تدري أتكون منهم أم لا.
ثم اعلموا يا عباد الله أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم سألته إن أدركت ليلة القدر ما أقول فيها قالقولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) [4].
[1] صحيح البخاري (20).
[2] مسند أحمد (2/373).
[3] سنن ابن ماجة (1644).
[4] مسند أحمد (6/171) وسنن ابن ماجة (3850).
(1/1019)
ميزان العقيدة
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
من دروس سورة الكهف تصحيح ميزان التفاضل بين الناس والأحاديث في تأكيد هذا المفهوم -
الأمة التي لا تزن القيم والأشياء والأشخاص بميزان العقيدة مكانها التبعية لا الريادة
استحقاق الأمة التي تتخلى عن سبيل عزتها وسر قوتها لعقاب الله – ضرورة التحرك بالعقيدة
ومن خلالها في كل الأمور – مأساة المسلمين في بقاع كثيرة , وعدم إحساسنا بها – التمسك
بالكتاب والسنة , وتحقيق مفهوم العبادة الشامل أساس النصر
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: ذكرنا في خطبة مضت أن مما تعلمناه في سورة الكهف تصحيح القيم بميزان هذه العقيدة فنرفع من كان رفيعاً بالميزان العقدي ونخفض من كان وضيعاً ونعز من كان بمقتضى عقيدتنا عزيزاً ونذل من كان ذليلاً واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون , صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)) [1] , وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)) [2] أي بسبب كفره, وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)) [3] , وصح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [4] , والآيات والأحاديث في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا المعنى لا تكاد تحصى, وفي سورة الكهف يقول ربنا جل وعلا: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً وفيها يقول الله جل وعلا في خاتمتها قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً وإن الأمة يا عباد الله التي لا تزن القيم والأشياء والأشخاص ولا تقوم الأحداث بميزان العقيدة لهي أمة لا تستحق الصدارة والريادة لأهل الأرض بل مكانها التبعية وموضعها الدون, إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً عربهم وعجمهم إلا بقايا ممن عضوا بالنواجذ على كتاب ربهم واتبعوا سبيل المرسلين فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون وإن أمة يا عباد الله تخلت عن سر عظمتها وسبب فلاحها ونجاحها والسبيل الوحيد لعزها لهي أمة لتستحق من الله العقوبة لولا وجود البقايا من الذين ينهون عن الفساد في الأرض قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون , عباد الله إن وجود العلة في البدن لهو أمر خطير وأخطر منه عدم إحساس المريض بعلته فهو يغدو ويروح فرحاً مرحاً لا يدرى أن مرضه سيسلمه للموت عما قريب وإن الأمة حين تفقد ميزانها الذي لا يخطئ وإحساسها الذي لا يضل, أعنى ميزان العقيدة لتقوم به كل ما حولها, إنها حين تفقده تأتى بالأعاجيب فتضحك حين يجب البكاء وتهزل حين يجب الجد وتحب حين يجب البغض وتبغض حين يجب الحب وتعد عدواً من كان صديقاً, وتعد صديقاً من هو في حقيقة الأمر عدواً لدوداً وتعد نصراً ما هو في حقيقة الأمر خذلان وتبعية وهكذا دواليك من الموازين المنكوسة حين تتخلى عن الميزان الثابت الذي لا يتأرجح ميزان العقيدة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم ( 2622) ، سنن الترمذي ( 3854 ).
[2] صحيح البخاري ( 4729 ) ، صحيح مسلم ( 2785 ).
[3] سنن الترمذي ( 2320).
[4] صحيح مسلم( 2564 ).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون , والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله أجمعين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فيا عباد الله إن الموازين في هذه الأيام قد انتكست إلا عند من رحم الله وقليل ما هم وإننا يا عباد الله يجب أن نرتبط بعقيدتنا كل الارتباط في حياتنا كلها لا نستثنى منها جزءً كبيراً أو صغيراً قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وعلينا يا عباد الله أن ننطلق من عقيدتنا في كل أمورنا وأن نكون مرتبطين بديننا ولا يجوز أن نتصور أن جزءً صغيراً أو كبيراً من حياتنا يمكن أن يتحلل من رباط العقيدة يا عباد الله, فعلينا أن نتوب إلى الله ونعود إليه ونرجع كل شئوننا إليه فلا نفرح في وقت يجب أن نحزن, على ما الفرح أ نفرح يا عباد الله على أخوان لنا يقتلون في اليمن بسبب جرائم غيرهم وليس لهم من ذنب يقتلون عليه؟ أنفرح على الصبيان والنساء يقتلون ويهجرون في الصومال بسبب الصراع على السلطة؟ أنفرح على أخوان لنا تهدم بيوتهم ومنازلهم في أفغانستان وفي غيرها بسبب الصراع علي السلطة؟ أنفرح على المسلمين يشردون ويهجرون ويحتضنهم النصارى أعداء الله عباد الصليب في البوسنة والهرسك وفي غيرها من بقاع الأرض؟ إن زماننا هذا حق علينا فيه أن نحزن حزناً عظيماً ونضج ولا نهزل إنه لقول فصل وما هو بالهزل, والكفار يكيدون لهذا الدين كيداً عظيماً وينظرون إلينا ونحن في ركابهم ونحن نسير ضمن مخططهم, ينظرون إلينا ساخرين, إننا لا يمكن أن نسترد صدارتنا التي كنا عليها في قيادة الأمم كلها إلا بالعودة إلى كتاب ربنا واتباع سنة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً فهل حققنا هذا الشرط يا عباد الله, يعبدونني لا يشركون بي شيئاً , إن معنى العبادة معنى عظيم هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة, فإن حققنا ذلك فلنبشر يا عباد الله بالعز والتمكين والنصر والسؤدد.
(1/1020)
وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وما فيها من عبرة – آخر كلماته ووصاياه صلى الله عليه
وسلم حال الوفاة : 1- التحذير من اتخاذ القبور مساجد 2- الأمر بإخراج اليهود والنصارى من
جزيرة العرب – بدعة الاحتفال بالمولد النبوي مع الإعراض عن هديه صلى الله عليه وسلم
3- الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم – حاله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت
محبته صلى الله عليه وسلم ولوازمها
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: في مثل هذا اليوم الثاني عشر من ربيع الأول قبل ألف وأربعمائة وأربع سنين انتقل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيد الخلق وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وإن العقل البصير ليعتبر بهذا الحادث العظيم كل اعتبار، فمن عبره أنه لن يفلت من الموت أحد مهما كان شرفه وعلا قدره وذاع أمره فما مشى على ظهر الأرض أبر ولا أطهر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومع ذلك مات، قال تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ، وقال سبحانه مخاطباً نبيه: إنك ميت وإنهم ميتون.
فليتقى الله السادرون في غيهم المنهمكون في معاصيهم وليستعدوا للموت وليأخذوا له أهبته فإنهم ميتون. ومن عبره أن البلاء العظيم في الدنيا رفعة لدرجات المؤمن عند ربه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يوعك فمسسته فقلت يا رسول الله: إنك توعك وعكاً شديداً. قال: أجل إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم. قلت: إن لك أجرين. قال: نعم والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري ومسلم [1].
وفي البخاري ومسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)) [2]. وفي المتفق عليه عنها رضي الله عنها قالت: ((مات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين حاقنتي وذاقنتي فلا أكره شدة الموت لأحد بعده صلى الله عليه وعلى آله وسلم)) [3].
وفي البخاري عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه في البلاء)) [4].
ومن عبره الكلمات التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يعالج سكرات الموت وكثيراً ما يحتفي الناس بآخر كلمة قالها ميتهم وهو ميتنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم جميعاً فلنعي ولنسمع أخر كلماته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووصاياه ثم لتنظر أين نحن منها، روى البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن من أواخر كلامه قوله: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ، تقول عائشة: يحذر ما صنعوا [5] ولولا ذاك لأبرز قبره صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وعنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أواخر كلامه: ((لا يبقين دينان بأرض العرب)) [6] فأين أمة الإسلام اليوم من أواخر كلماته، أين البراءة التامة من اليهود والنصارى، أين البراءة من اتخاذ القبور مساجد الذي شاع وذاع ليس قبور الأنبياء فقط بل قبور الأولياء والصالحين وغيرهم ممن ينسب إلى الولاية والصلاح، لقد شاع هذا وذاع في كثير من أقطار الإسلام إلا من رحم الله ومع ذلك نجد الاحتفاء بمولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع معصيته في آخر وصاياه، أين تطهير جزيرة العرب وأرضها من أن يجتمع فيها دينان، كل هذا أعرض عنه واحتفل بأمور ورسوم لا تغني من الحق شيئاً، وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما قاله وهو يموت: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى)) [7] ، وقد بين أهل السنة والجماعة أن حسن الظن بالله جل وعلا ينبغي أن يغلب على الخوف عند الموت، أما مادام المرء في صحة وعافية فليتقي الله وليخف عذابه وليحذر مكره، ومن أواخر كلماته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما رواه الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: ((كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين حضرته الوفاة، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم وجعل يكررها حتى جعل يغرغر بها وما يفصح بها لسانه)) [8] ، وفي رواية: ((حتى جعل يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه)) [9].
إن الصلاة اليوم لتشكو إلى الله من كثرة هاجريها من أبناء المسلمين مع الأسف، لا أقول تركاً لها مع الجماعات بل وتركها بالكلية حتى تجد بعض الناس يعيش ويقوم ويأكل ويشرب بين أبناء المسلمين ولا يؤدي الصلاة، نسأل الله العافية والسلامة.
ومن أواخر كلماته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما روته عنه عائشة رضي الله عنها قالت: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت)) [10] فهل يعتني بهذا كل من يعانون الموت من أبناء المسلمين الذين ربما تسخط بعضهم وسب وشتم ولعن وكأنه يعترض على قضاء الله وقدره: ((ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصره إلى السماء وقال: في الرفيق الأعلى)) [11].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تصلي على هذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. اللهم صلي وبارك عليه وعلى صحبه أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (5648)، صحيح مسلم (2571).
[2] صحيح البخاري (5646)، صحيح مسلم (2570).
[3] صحيح البخاري (4446)، ولم أجده في صحيح مسلم.
[4] لم أجده في البخاري وبعضه جزء من ترجمة باب، وهو عند أحمد في مسنده (1/174)، والترمذي في سننه (2398)، وابن ماجة في سننه (4023).
[5] صحيح البخاري (436).
[6] مسند أحمد (6/275).
[7] صحيح مسلم (2877).
[8] مسند أحمد (3/117).
[9] مسند أحمد (6/209).
[10] مسند أحمد (6/64).
[11] صحيح البخاري (3670)، صحيح مسلم (2444).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والصلاة والسلام على آله وصحبه ومن والاه. أما بعد فيا عباد الله هذه وصايا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتلكم أواخر كلماته التي قالها وهو يعالج سكرات الموت، أين نحن منها يا عباد الله، أين نحن من الصلاة والتمسك بها في الجماعات في المساجد مع الجماعة التي حثنا عليها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل لقد قال في ذلك: ((لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم آمر رجالاً فيجمعون أعواداً من حطب ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم)) [1]. وفي المسند عنه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك ذلك لما فيها من النساء والصبيان [2] الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة. هذا في الوقت الذي يدعي فيه الكثيرون شدة محبته لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يترك أوامره ولا ينتهي عن زواجره ولا يمتثل لوصاياه، يدعي المحبة وهو يعرض عن أقواله وأفعاله لا يتعلمها ولا يعمل بها ويأمر بها، وإن من البديهي أن من ادعى محبة شخص من أوائل ما يجب عليه طاعته، قال الله عز وجل: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. وفي شعر الغزل قالت:
وقد سألت عن حال عاشقها بالله أنصفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
يقول هذا في محبة لا تليق فكيف بمن يحب على نحو شرعي، يحب هذا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إن أول ما يجب عليه أن يمتثل لكل أوامره صلى الله عليه وعلى آله وسلم وينتهي عن كل زواجره، وإن من أعظم زواجره التي زجرنا عنها صلى الله عليه وعلى آله وسلم إحداث البدع في الدين، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [3] ، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [4] ، فليتقي الله من يحدثون في دين الله زاعمين أنهم بذلك يعظمون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليعلموا أن هذا التعظيم لم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر)) [5] ، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)) [6].
[1] صحيح البخاري (644)، صحيح مسلم (651).
[2] مسند أحمد (2/367).
[3] صحيح البخاري (2697)، صحيح مسلم (1718).
[4] صحيح مسلم (1718).
[5] مسند أحمد (5/382)، سنن الترمذي (3662)، سنن ابن ماجة (97).
[6] مسند أحمد (4/126)، سنن أبي داود (4607)، سنن ابن ماجة (42) دون قوله: "وكل ضلالة في النار" فهذه الزيادة أخرجها النسائي في حديث آخر، سنن النسائي (1578).
(1/1021)
حال المسلم بين السعة والضيق
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
حقيقة النعمة وعدم دلالتها على محبة الله أو عدمها – استدراج الكفار بالنعم , وقصة قارون
وما فيها من عبرة – نظر الأنبياء والأولياء إلى النعمة – الإيمان شرط قبول العمل
حقارة الدنيا وسرعة زوالها
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: قضية عظيمة ومسألة كبيرة طالما أسيء فهمها واحتج ببعض أدلتها على غير وجوهها.
تلكم القضية هي هل ما نحن فيه من هذه النعمة التي نتقلب فيها بالغدو والآصال دليل على حب الله تعالى لنا؟
بهذا يقول كثير من الناس فيغترون بما هم فيه من التمكين من المال والبنين. أما أولياء الله فقد تنبهوا لذلك فلم يركنوا إلى ما فتح الله عليهم وعلموا أنه ابتلاء واستدراج.
وقد ذم الله عز وجل الإنسان المستدل بالنعمة على محبة الله له وإكرامه إياه والمستدل بسلبها على إهانة الله له بقوله جل وعلا: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن فيتسخط ويتذمر لما يعتقد من أن الله جل وعلا أهانه.
ونعى جل وعلا أقوام من المشركين قولهم: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين ، أي إن كان الله قد وسع علينا الأرزاق من الأموال والأولاد في هذه الدار فلا يمكن أن يعذبنا في الآخرة لأنه ما وسع علينا في الدنيا إلا لمحبته إيانا فلا يمكن أن يعذبنا.
قال جل وعلا: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر يقول رداً عليهم يوسع الرزق لمن يشاء فلا يخص رزقه المؤمنين ولا يضيق رزقه على الكافرين، بل يعطي هؤلاء وهؤلاء ويمنع هؤلاء وهؤلاء: كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً ، قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى يقول الله جل وعلا ليس الأموال والأولاد وكثرتها دليلاً على حبي لكم وقربكم مني، بل الدليل هو الطاعة والإيمان والعمل الصالح إلا من آمن وعمل صالحاً فذلك هو الدليل على المحبة فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون ، وقال جل وعلا: أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون إنما هو استدراج لهم وليس دليلاً على محبتنا لهم.
إنما يقول ذلك المشركون، كما قال قارون: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا ولا تبغي الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أي إنما أعطاني الله هذا الخير الكثير لأن الله على علم أني أستحقه وأهل له، ولأنه يحبني، هذا على أصح قول المفسرين. أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر منه جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ، ذكر الله كلام أحد المشركين وقيل أنه الوليد ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد يظن أن الآخرة له أيضاً: كلا إنه كان لآياتنا عنيداً سأرهقه صعوداً فلن أزيده في الآخرة نعيماً، سنعذبه ونرهقه صعوداً ذلك لأنه لم يقابل نعمة الله بالشكران ولكن قابلها بالجحود والكفران واستدل بها على حب الله إياه مع تمرده على نظامه وأمره.
أما نبي الله سليمان، عليه وعلى نبينا السلام فحكى الله جل وعلا قوله لما جاءه بالعرش لما رآه مستقراً عنده لم يقل هذا من عظمتي وقوتي وبسط ملكي بل قال: قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم. فلننظر عباد الله في أي الفريقين نحن، أفي فريق أهل الجنة، أم من الذين يقولون بسط النعم علينا دليل على حُب الله لنا فيزيدون بغياً وعدواناً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه والصلاة والسلام على نبينه ومصطفاه.
أما بعد: فيا عباد الله قال الله في كتابه: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه أي من عمل عملاً صالحاً زدنا له فيه وضاعفنا له حسناته وجعلنا الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفاً: ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب بسبب إعراضه عن حرث الآخرة واشتغاله بحرث الدنيا.
واعلموا يا عباد الله أن ذلك ليس على إطلاقه، بل قد يعمل الإنسان لحرث الدنيا ولا يؤت منها كما بين ذلك ربنا جل وعلا: من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أما من لم يرد أن يعجل الله له الجزاء، فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً فقوله جل وعلا وهو مؤمن يدل على أنه من أراد الآخرة وإن كان مخلصاً في إرادته إذا كان على غير إيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم فعمله حابط باطل كمن يفعلون الأعمال الخيرية بغير إيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل وهو مؤمن. بل إن الله جل وعلا قال في كتابه فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فلو استدل بهذه الآية لكان أقرب لأن الاستدلال بالنعم على أنها استدراج أقرب من الاستدلال بها على محبة الله جل وعلا إيانا.
ومن ذلك قوله: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون ، وقال في كتابه: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض فالبركة تكون حتى في الشيء القليل، فرب قليل بين يديك يطرح الله فيه البركة ويملأ قلبك به قناعة، ورب ملايين تكون عند المرء لا يقنع بها ما لم يملأ الله قلبه من القناعة: ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: ((أن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم, وفي رواية وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم [1].
وكذلك يبين الله جل وعلا حقارة الدنيا في سورة الزخرف ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أي على الكفر فيكفرون جميعاً افتتاناً بالنعيم لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة أي جعلنا أسقف بيوت الكفار من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون أي من فضة، وزخرفاً أي من ذهب وكل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين.
وقال جل وعلا: ما عندكم ينفّذ وما عند الله باق فلنفقه أقوال الله جل وعلا وآياته نسعد ونفلح في الدنيا والآخرة.
ثم اعلموا يا عباد الله أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وبالملائكة المسبحة بقدسه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
[1] صحيح مسلم (2564).
(1/1022)
المنافقون
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
مكة المكرمة
جامع الفرقان
_________
ملخص الخطبة
_________
داء النفاق وخطورته على الأمة وسبب ذلك , والتحذير منه – موقف النبي صلى الله عليه وسلم
مع المنافقين – العاصم من حبائل المنافقين – فضح المنافقين وهتك أستارهم – صفات المنافقين
في القرآن – وجوب الحذر من الاتصاف بصفاتهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: داء خطير وبلاء مستطير وشر خطير متى دب في أمة أماتها وأهلكها ما لم يتداركها الله برحمته ذلكم هو داء النفاق الذي قال الله في المتصفين به: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً ، وقال تعالى: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً , وإنما عظم خطره وكبر شره بسبب عظيم نكايته في الأمة المسلمة فهو عليها أشد من عدوها الخارجي لأن العدو الخارجي من الكفار صرحاء لا تنطلي حيلهم على السذج من الناس، بينما المنافقون يغتر بكلامهم الكثير من العامة بل وبعض الخاصة، قال تعالى في صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: وفيكم سماعون لهم أي قد يصدق بعض ما يقولون وينخدع به، بل إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقبل منهم ظواهرهم ويكل سرائرهم إلى الله فاستغلوا ذلك في أذيته والوقيعة به وبدينه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ويقولون هو أذن أي يصدق كل ما يقال له ولذلك نفعل ما نشاء ثم نقول له من الكلام الذي يرضيه وينتهي الأمر ولم يغيروا من أمرهم شيئاً، فأنزل الله فيهم: ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ، ولذلك فالعاصم من الوقوع في حبائل المنافقين هو الصلة القوية بكتاب الله الذي هتك أستارهم: ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فقد كانوا يقولون لأعداء الله سنطيعكم في بعض الأمر أي ليس في كل الأمر وإلا لكانوا كفاراً صرحاء فهم يطيعون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بعض الأمر ويطيعون الذين كرهوا ما أنزل الله في بعض الأمر، قال تعالى: والله يعلم إسرارهم ، كما قال في الآية الأخرى عنهم: ويقولون طاعة أي يظهرون طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ماداموا عنده: فإذا برزوا من عندك (أي خرجوا والتقوا بالذين كرهوا ما أنزل الله) بيت طائفة منهم غير الذي تقول أي يضمرون تنفيذ غير ما قالوه لك وغير ما التزموا لك به من الطاعة, قال تعالى: والله يكتب ما يبيتون أي يعلم إسرارهم حيث لا تخفى عليه منهم خافية, فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً أي لا تنخدع بكلامهم ووعودهم وكن مفوضاً أمرك إلى ربك وسيكفيك أمرك كله. ثم هددهم جل وعلا بقوله: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ولنبلونكم حتى نعلم الصابرين منكم والمجاهدين ونبلوا أخباركم , قال ابن كثير رحمة الله عليه في تفسير هذه الآيات يقول تعالى: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين بل سيوضح أمرهم حتى يفهمهم ذوو البصائر وقد أنزل الله في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم ولذلك كانت تسمى الفاضحة، قال والأضغان جمع ضغن وهو ما في النفس من الحسد والحقد للإسلام والقائمين على نصره, وقوله تعالى: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم يقول تعالى ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً، ولكن لم يرضَ يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين ستراً منه على خلقه وحملاً للأمور على ظاهر السلامة ورداً للسرائر إلى عالمها, ولتعرفنهم في لحن القول أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه وهو المراد من لحن القول كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه)، وفي الحديث: ((ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها إن خير فخيراً وإن شراً فشر)) [1] , انتهى كلام ابن كثير.
اللهم استرنا ولا تفضحنا. اللهم إنا نعوذ بك من النفاق كله جميعه وقليله. اللهم إنا نسألك العلم النافع والعمل الصالح.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً. اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعوة لا تسمع.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] المعجم الكبير للطبراني (1702).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله إن الله جل وعلا لم يتركنا هملاً بل بين لنا في هذا الأمر الجليل ما به تنكشف عنا الغمة وقد تولى الله جل وعلا ذكر جميع صفات المنافقين في كتابه ولذلك كان الصحابة يسمون سورة براءة التي فضح الله بها المنافقين يسمونها الفاضحة المدمدمة المقشقشة المخزية إلى غير ذلك من الأسماء التي تجاوزت عشرة أسماء وكلها في المنافقين، وأنزل الله آيات كثيرة في كتابه منها آيات سورة المنافقين التي فضحت أسرارهم ومنها ما جاء أيضاً في سورة النساء ولا نستطيع حصر صفات المنافقين كلها ولكننا نذكر طرفاً منها حتى يتبصر المسلم ويحذر أن ينطبق عليه شيء من أوصافهم، فمن ذلك ما جاء في سورة المنافقين التي أنزلها الله عز وجل في شأن عبد الله بن أبي الكافر الذي كان رأس حربة علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كان يصلى الجمعة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقوم بعد صلاة الجمعة ليعظ الناس ويذكرهم ويقول لهم دونكم رسول الله صلى الله وسلم فتابعوه والتزموا بأوامره فوالذي لا إله إلا هو إنه لرسول الله حقاً هكذا كان يقول عبد الله بن أبي كما ذكره بعض المفسرين في سورة المنافقين، ويحلف بالله إن رسول الله لهو رسول حقاً بل ويعظ الناس ويأمرهم باتباعه وهو من حطب جهنم وهو رأس المنافقين، ولذلك قال الله عز وجل في فضحه اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله يقول ابن كثير في تفسيرها أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة ليصدقوا فيما يقولون فاغتر بهم من لم يعرف جلية أمرهم فاعتقدوا أنهم مسلمون فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالاً فحصل بهذا القدر ضرر كثير على الناس, ولهذا قال تعالى: فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون.
و من صفاتهم ما ذكره جل وعلا في السورة نفسها بقوله: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم يقول ابن كثير في تفسيرها أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لفصاحتهم وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجبن , ولهذا قال تعالى: يحسبون كل صيحة عليهم أي كلما وقع أمر أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم، كما قال تعالى: أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً فهم صور بلا معاني ولهذا قال تعالى: هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون أي كيف يصرفون من الهدى إلى الضلال، وصفاتهم كثيرة جداً ومنها ما ذكره الله جل وعلا في سورة النور بقوله: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أ في قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون. وذكر بعض صفاتهم في النساء بقوله: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً , والآيات في وصفهم كثيرة فلنتقِ الله يا عباد الله أن نقع في شيء منها فإن كثيراً من الناس تجده يأمر ولده بأمور بل وربما زجره عن بعض الأشياء السيئة وتجده يخالف ما يقول، فبعض الناس مثلاً يعظم شأن العلماء في عيني ولده ويبين لولده فتاوى العلماء في تحريم الدخان ثم تجده هو يشربه مثلاً أو يخالف فتاواهم في أمور أخرى. فلنتق الله يا عباد الله ولنكن مطيعين لكلام الله وكلام رسوله ولنحذر أن نتشبه بالمنافقين في صفاتهم.
(1/1023)
الابتداع في الدين
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
كمال الدين وشموله والأدلة على ذلك , وعدم حاجته إلى زيادة فيه – محاسن الدين -
الواجب تجاه الدين – الابتداع في الدين , معناه وخطورته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الله تعالى لما أرسل على رسوله صلى الله عليه وسلم البشارة بإكمال الدين وهي قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:3]. عرف بذلك أن هذا الدين لا يحتاج إلي رقابة أو زيادة من أحد فقد بلغه سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم البلاغ فجزاه ربه عن أمته خير الجزاء, ديننا والحمد لله كامل شامل بنيت عقيدته علي التوحيد وتميزت بالوضوح والنقاء وبنيت شريعته على العدل والإحسان وتميزت بالكمال وبنيت حركته علي الدعوة والجهاد وتميزت بالرحمة والقوة, مصادره ثابتة صافية لا اضطراب فيها ولا خلل ولا نقص ولا غموض لأنها مصطفاة من وحي رب العالمين القرآن والسنة والطريق إلي معرفة هذا الدين واضحة بينة وهي العلم والتفكير وإعمال العقل لفهم المصادر الربانية التي أنزلها اللطيف الخبير سبحانه وتعالى.
ديننا والحمد لله أحكمت آياته وسرائره وسننه وعقيدته وشريعته لا غموض فيه ولا رواسب ولا مجال فيه للأهواء ولا للآراء أن تلعب فيه كما لعب أحفاد اليهود ورهبان النصارى في دينهم.
إن صفتي الكمال والشمول من أعظم خصائص هذا الدين فإنه يبدأ بأعظم شيء وأعلى شيء وهي عقيدة لا إله إلا الله ثم ينظم بشرائعه وآدابه كل شيء في حياة الإنسان لا يضم صغيرة ولا كبيرة ينتظمها كلها في حماه الواسع الكريم حياة كاملة كريمة. إن الدين ينظم جميع علاقات هذا الإنسان التي تتكون من شبكتها حياته اليومية بل حياته كلها وعمره كله, ينظم علاقات هذا الإنسان بالخالق سبحانه وتعالى وعلاقته بالمخلوقين ينظم علاقاته بالناس أفراداً وجماعات يدخل في ذلك العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية والعلاقات السياسية والدولية والفكرية والثقافية ينظم ذلك كله بشرعه وآدابه.
فما على الإنسان إلا أن يتعلم هذا الدين ويتعلم شرائعه وآدابه فيجد فيها ما ينظم فيه سائر شؤون حياته لا حاجة بهذا الإنسان إلي أن يحدث من القوانين ما ينظم به شئون حياته فإن في هذا الدين ما هو كفيل بهذا كله ولكن أعجب ما في أحوال هذا الإنسان إعراضه عن تعاليم هذا الدين وعن معرفة شرائعه وآدابه حتى إذا أعوزته الحاجة فيما يتصل به في شؤون حياته أو بعض شؤون حياته ذهب يبتغي إلى ذلك سبيلاً غير سبيل الله الخالق الحكيم والخالق أعلم بخلقه ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ الملك:14].
وأسوأ من هذا الإنسان أولئك الذين سلكوا مسلكاً من أعظم المسالك خطراً وهو الزيادة في الدين واستحسان ما لم يستحسنه الشارع الحكيم وهذا هو ما يسمى بالابتداع , فإن الابتداع في الدين هو إحداث أمر ديني على غير مثال سابق ومعنى ذلك أن يحدث الإنسان قولاً أو فعلاً وينسبه إلى الدين وليس من الدين فلا حجة لديه تثبت أن الدين أمر بذلك أو أن الرعيل الأول فعلوه, ومعنى أن ينسبه إلى الدين أن يعتقد أنه قربى مما يتقرب به إلى الله تعالى ويوهم الناس بذلك, فالعبادة مثلاً بجميع صورها من صلاة أو صيام أو نسك أو غير ذلك قد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نوافلها وفروضها وشرح طريقة أداء كل منها وفسر ذلك وبينه أتم البيان, لم يؤخر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء إنسان بعد ذلك فزاد عبادته وزعم أنها مما يتقرب به إلى الله فليثبت الحجة أنها مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله الصحابة الكرام وإلا فإن عبادته التي زادها بدعة وهو مبتدع ضال وإن كانت نيته صحيحة سليمة وأنه يتقرب إلى الله تعالى فإن النية هنا لا تشفع للمبتدع أبداً.
أيها المسلمون: إن الابتداع في الدين أمره خطير وقدره جسيم وذنبه عظيم بل إن العلماء اعتبروا الابتداع في الدين ذنباً أعظم من الكبائر وقد يجر الابتداع في الدين أصحابه إلى الكفر والإلحاد وإلى مناصبة السنة العداء, إن الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضرراً بعد الإشراك بالله تعالى لأن جرمه لا يقتصر على صاحبه بل يتعداه إلى الأمة فيفسد عليها دينها ويشوش عليها عقيدتها ويشوش عليها شريعتها وبذلك كان الابتداع في الدين من أشد الذنوب ضرراً بعد الإشراك بالله تعالى وسوف نكمل هذا الجزء في مسائل إن شاء الله تعالى نبدأ منها اليوم بالمسألة الأولى وهي أن في الابتداع في الدين إخلالاً لعقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن فيها اتهاماً لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه قصر في بلاغه وبقى شيء من الدين لم يدل الناس عليه وهذا نقض للجزء الثاني من لا إله إلا الله محمد رسول الله, فإن شهادة المبلغ بأن محمداً رسول الله إيمان واعتقاد منه بأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من ربه وأنه بلغ رسالات ربه وأدى الأمانة كاملة والجزاء من المبلغ بمتابعة هذا النبي الكريم , ففي الابتداع وفي الزيادة في الدين إخلال بركن المتابعة لهدى النبي صلى الله عليه وسلم وإخلال بالاعتقاد بأنه أدى الرسالة كاملة وبلغ أتم البلاغ , قال الإمام مالك إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة النبوية في عصر التابعين قال: "من ابتدع في الإسلام بدعة يرى أنها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة:3]. وما لم يكن يومئذ ديناً فما يكون اليوم ديناً" رحمه الله.
ما لم يكن ديناً في حياة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يتنزل عليه من ربه فكيف يكون اليوم ديناً وقد انقطع الوحي وكثرت الفتن واشتدت الغفلة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أشد رحمته وشفقته بالأمة والله ما ترك خيراً إلا بلغها به ولا شراً إلا حذرها منه وسكت عن أشياء رحمة بها وليس نسياناً من الشارع الحكيم , قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)) [1]. صلى الله وسلم وبارك عليه.
[1] رواه الدار قطني (4/182/184).
والطبراني في الكيبر (22/589).
والبهقي (10/12-13).
والنووي في الأربعين النوويه حديث رقم (30).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1024)
البدعة والمبتدعون
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
موقف المسلمين من سنته صلى الله عليه وسلم – أسعد الناس المتمسكون بسنته صلى الله عليه
وسلم , وعلى رأسهم أئمة السنة وفقهاؤها – لزوم اتباع أئمة السنة والحذر من أئمة البدع -
أهل البدعة على خمس درجات – الموقف الصحيح من أهل البدع وطريقة التعامل معهم
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن المسلمين بالنسبة إلى سنة الحبيب المصطفى فريقان فريق انتصر لسنته وتمسك بها وعض عليها بالنواجذ وطبقها في حياته قدر وسعه طاقته، وأحبها ودعا الناس إليها ونشرها بينهم وبذل أمواله ونفسه ونفيسه في سبيلها هؤلاء ما أسعدهم وأسعد الناس بهم، هؤلاء أحباب سيدنا رسول الله ورفقاؤه على الحوض ورفقاؤه في جنة عرضها السماوات والأرض.
على رأس هؤلاء أئمة السنة وفقهاء السنة في كل زمان ومكان أولئك الذين أفنوا أعمارهم في قال الله قال رسوله، يتعلمون ذلك ويعلمونه للناس هؤلاء هم الروح للجسد والنور في الظلمات، ما أعظم بصماتهم وما أكثر هم أعظم الأمة بعد الصدر الأول بركة على الأمة، وهم أولاها بالكرامة، هؤلاء هم أولياء الله وخلفاء رسوله.
روى الخطيب البغدادي بسنده عن عبد الواحد بن عالمة مولى أنس وكان من أصحاب الإمام البخاري محمد بن إسماعيل قال عبد الواحد: رأيت النبي في النوم وحوله بعض أصحابه وهو واقف في موجة فسلمتُ عليه فرد علىّ السلام فقلتُ: ما يوقفك يا رسول الله هنا؟ فقال: ((انتظر محمد بن إسماعيل)).
ثم بلغني بعد ذلك موت محمد بن إسماعيل البخاري أحد سادة المسلمين وأئمة السنة صاحب كتاب الجامع الصحيح الذي عده العلماء أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل ذلك أنه رحمه الله جمع فيه بضعة آلاف من حديث رسول الله هي أصح السنة سندًا انتقاها من مائة ألف حديث من حديث رسول الله وكان رحمه الله يقول: ما كتبت في كتابي هذا حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين فرحم الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمة واسعة ورضي الله عن سائر أئمة السنة وفقهاء السنة.
قال رسول الله : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)) [1].
فعليك أيها المسلم بدعاة الهدى وأئمة السنة اتبع آثارهم والزم جانبهم، يقودونك إلى واسطة الحبيب في جنة عرضها السماوات والأرض وإياك أن تكون مع الفريق الثاني الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. أولئك الذين أعرضوا عن سنة المصطفى واشتغلوا بدلاً منها بالبدع والخرافات، التي حجبت أبصارهم وبصائرهم عن قال الله قال رسوله.
احذر أيها المسلم أن تكون مع هؤلاء الذين أعرضوا عن سنة المصطفى، وهؤلاء على درجات، فمن كان معهم على درجات فأولاً: من ارتكب البدعة واشتغل بها ولكن بحسن نية يريد الزيادة في العبادة والمبالغة في العبادة لكنه عرض نفسه لخطر عظيم بالزيادة على السنة عرض نفسه لبراءة رسول الله منه، فإن رسول الله غضب من بعض أصحابه الذين أرادوا الزيادة في العبادة على ما كان يصنعه رغبة منهم في الإكثار من الخير والمبالغة في العبادة فقال أحدهم بعد أن اطلع على عمل رسول الله بعد أن اطلع على عبادة رسول الله فإنهم تقالوها قالوا إن رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام وقال الثاني: وأنا أصوم ولا أفطر وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء.
فلما بلغ ذلك النبي قال إليهم مغضبًا وقال: ((قد بلغني عنكم أنكم تقولون كذا وكذا أما إني أخشاكم لله وأتقاكم لله وأنا أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)) [2].
نعم ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) هذه براءة من رسول الله عن كل أحد يعرض عن سنته ويزيد في الدين شيئًا ولو كان ذلك بنية العبادة والمبالغة في العبادة والزيادة في العبادة. ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
ثانيًا: لا يزال الشيطان يتدرج بالمسلم ويزين له البدع حتى يضربه في لجتها إلى الإثمار فإذا به ليس عاملاً مرتكبًا البدع فحسب بل هو من الدعاة إليها المتفانين في نصرتها ونشرها بين الناس وهو لا يدري، وهذا المسكين لا يدري أنه بذلك يحارب سنة المصطفى.
إن الشيطان لا يدخل في قلب المؤمن مباشرة يدعوه إلى ترك سنة المصطفى ولكنه يزين له المبالغة في العبادة والزيادة في العبادة حتى يزين له الزيادة في الدين والابتداع في الدين فيهجر المسلم سنة المصطفى ويخر في البدعة إلى الأذقان وهو لا يشعر بالمصيبة التي وقع فيها والمصيبة التي استحق عليها براءة الرسول منه.
إذا وصل المسلم في البدعة إلى هذا الحد وصار من الدعاة إليها فإنه قد وضع نفسه في موضع خطير، وضع نفسه في خطر جسيم.
قال العلماء إن المبتدع لا يُقبل له صلاة ولا صيام ولا يُقبل منه عمل أبدًا حتى يقلع عن بدعته ويتوب عنها، والدليل على ذلك قول النبي في الحديث الصحيح [3] في شأن المبتدع في المدينة النبوية لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً، والمبتدع لا يقبل منه عمل أبدًا حتى يقلع ويتوب عن بدعته.
الدرجة الثالثة: وهذه أشد درجات المبتدع سوءًا وأعظمها شرًا وخطرًا إنها درجة الطواغيت، درجة رؤوس البدعة الذين اتخذوا من البدعة دينًا يحاربون به دين الله يخالفون به السنة، ولا يبتغون به وجه الله تعالى ولكن غلبتهم أهواءهم وآثروا شهواتهم على بصيرة من أمر دينهم، لكنهم اتبعوا أهواءهم وآثروا شهواتهم، استعذبوا خضوع الناس لهم وتمسحهم بأطراف ثيابهم وتقبيلهم أياديهم وحفاوة الناس بهم، وتصفيق اللواء بحمامهم فيها ما لذ وطاب من المآكل والمشارب.
استعذبوا إقامة المآتم فنسبوا ذلك كله إلى دين الله زورًا وبُهتانًا هذه أعظم درجات المبتدعة شرًا وسوءًا، هؤلاء رؤوس المبتدعة وطواغيت البدع هم أعدى أعداء سيدنا رسول الله ، لأنهم أشد المبتدعة مخاصمة لسنة الحبيب المصطفى وأشد المبتدعة محاربة لسنة النبي إذا كان النبي قد غضب من بعض الصحابة لأنهم أرادوا رغبة في الخير أرادوا الزيادة في العبادة على سنته فوقفهم النبي وقال محذرًا إياهم محذرًا أمته ((من رغب عن سنتي فليس مني)).
فكيف يكون شأن هؤلاء الطواغيت كيف يكون شأن رؤوس المبتدعة الذين لم يكتفوا بالزيادة في الدين والابتداع في الدين بل شمروا سواعدهم ونصبوا وأجلبوا بخيلهم ورجلهم وبذلوا كل إمكانياتهم لمحاربة سنة الحبيب المصطفى.
لذلك قال أئمة الإسلام قالوا في شأن أئمة المبتدعة لا يقبل الله من صاحب بدعة توبة أبدًا، والمراد بذلك أن المبتدع إذا وصل في بدعته إلى الحال الذي يحارب فيه سنة المصطفى فإن الله تعالى يحول بينه وبين التوبة والعياذ بالله.
الدرجة الرابعة: من أعظم المبتدعة إثمًا وأشدهم ضررًا وإثمًا الذين ابتدعوا في المدينة النبوية والبلد الحرام فإن الله تعالى قد عظم شأن هذين وعظم حرمتهما قال تعالى في شأن بلده الحرام: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [الحج:25].
وقال في شأن البيت الحرام أبغض الناس إلى الله ثلاثة ((ذكر منهم ملحدًا في الحرم)) [4].
وقال في شأن هذه المدينة النبوية وفي شأن عظيم حرمها، حرمة حرمها قال: ((المدينة حرم.... من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً)) [5].
معنى قوله من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا أي من ابتدع في الدين بدعة في هذه المدينة النبوية أو آوى مبتدعًا في بيته أو عاونه أو آزره بأي شكل من أشكال المؤازرة فحق عليه تلك اللعنة التي أطلقها رسول الله.
معنى الإحداث هنا هو الابتداع في الدين وليس معناه المعصية وإلا فأنى يُفهم ذلك.
معنى الإحداث هنا الابتداع في الدين بدليل قوله في حديث آخر: ((كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) [6] ، وقوله في حديث آخر: ((غير أنكم ستحدثون ويُحدث لكم فكل محدثة ضلالة)) [7].
ومعنى قوله : ((لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً)) أي لا يقبل الله منه فرضًا ولا نفلاً والعياذ بالله.
هذا من تعظيمه لشأن هذه البلدة النبوية لأنها هي والمسجد الحرام هاتان عاصمتان للإسلام فكيف يجوز أن تحدث فيها البدع وكيف يجوز أن تظهر فيها البدع، هاتان العاصمتان كما أخبر النبي هما مأرزا الإيمان فلا يصح ولا يجوز للمسلمين أن يخرجوا بالبدع في هاتين البلدتين المعظمتين.
خامسًا: وهذه درجة يقع فيها كثير من المسلمين تهاونًا منهم وتساهلاً في أمر الدين ألا وهي مقابلة أهل البدع ومجالسة المبتدعة فقد حذر العلماء من ذلك أشد التحذير لأن في ملاطفة المبتدع ومجالسته تقوية له على بدعته وشدًا لأزره فيجب على المسلم أن يتجنب هذا المحذور وأن يظهر للمبتدعة الكره والبغضاء حتى يقلعوا عن بدعهم.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: لا تجلس مع صاحب بدعة أبدًا فإني أخشى أن تحل عليك اللعنة.
وقال ابن ميسرة رحمه الله: من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
هذا في كل مكان في كل بلد من بلاد الإسلام أما في المدينة النبوية أما سمعتم من آزر صاحب بدعة في بيته من يسر المسائر أمام المبتدعة من آزرهم بأي شكل من أشكال المؤازرة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً كما قال رسول الله.
فيا أيها المسلمون من كان على بدعة فليقلع عن بدعته فورًا وليتب إلى الله عز وجل قبل أن تُسد أمامه أبواب التوبة.
أيها المسلمون احذروا الابتداع في الدين وعليكم بالتمسك بسنة الحبيب المصطفى فإن فيها البركة وفيها الكفاية لمن آمن واتقى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن الذين فرقوا دينهم وكان شيعًا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [الأنعام:159].
[1] أخرجه مسلم في صحيحه في العلم باب من سن سنة حسنة أو سيئة (4/2060) برقم (2674).
[2] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب النكاح.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه (2/661-662) برقم 1870.
[4] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الديات (6/2523) برقم 6882.
[5] أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب أبواب فضائل المدينة (2/661-662) برقم 1870.
[6] أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة (2/592) برقم 867.
[7] أخرجه المروزي في السنة برقم (80) عن ابن مسعود موقوفاً وسنده صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1025)
بيان الدواءين القرآني والمادي - حجاب المرأة / الحلقة الأولى
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, المرأة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
ضعف الإنسان وتعرضه للآفات وحكمة ذلك – حال المؤمنين المحافظين على الصلاة في
في العافية والبلاء – الأخذ بالأسباب وحكم التداوي , وعدم تعارضه مع التوكل , وخطا من فهم
ذلك – الدواء المادي والدواء القرآني – الأصل في القرآن أنه شفاء لأمراض الشبهات
والشهوات – وحَكم ونظام – من بركة القرآن الشفاء من الأمراض العضوية وغيرها , والرقية
وأحكامها – مشروعية الحجاب وحِكمه وفوائده – موقف الطواغيت وأهل الشهوات من الحجاب
الأمر بغض البصر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الإنسان هذا المخلوق المكرم، إن الإنسان معرض للآفات والعوارض من الأمراض والحوادث وغير ذلك من الأحوال المكروهة وبذلك يظهر ضعفه ويتبين قدره وأنه خُلق ضعيفًا، وأنه خُلق من ضعف فإن هذا الإنسان كلما أحس بالعافية والقوة أو أوتي شيئًا من الجاه والسلطان، أو أوتي شيئًا من المال هو في الغالب يطغى ويتجبر على الناس ويشمخ بأنفه وينسى نفسه وينسى ربه عز وجل، فإذا ما هجم المرض على جسده أو على نفسه أو على عقله اشتد جزعه وانهارت قوته فذهب يضرب في الأرض يمينًا وشمالاً يبحث عن الطب والدواء ويتذلل للأطباء وربما تذلل للدجالين والمشعوذين: إن الإنسان خُلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [المعارج:19-23]. نعم إلا المؤمنين، والمؤمنون هنا وصفهم الرب عز وجل بالمداومة والمحافظة على الصلاة فهم يذكرونه سبحانه دائمًا.
وصفهم بهذا الوصف تنويهًا بعظم شأن هذه العبادة وعظم شأن قدرها وعظم بركتها على أصحابها فالمؤمنون من أبرز سيماهم ذكر الله عز وجل والمداومة على الصلاة والمحافظة على الصلاة.
ولذلك فإنهم يستمتعون دائمًا في جميع أحوالهم ببركات هذه العبادة العظيمة الشأن.
المؤمن المحافظ على ذكر الله وعلى الصلاة يُبتلى كغيره من الناس، قد يبتليه الله عز وجل بالمرض في جسده أو في نفسه أو في عقله ليرفع من درجاته ويعظم ثوابه ويطهره من ذنوبه حتى إذا قدم على ربه يقدم عليه وهو نقى من الذنوب. فالله عز وجل يبتلي المؤمن كما يبتلي غيره.
إلا أن من أبرز سمات المؤمن أنه إذا اُبتلي صبر، ورضى بقضاء الله وآمن بقدره وبأنه سبحانه يفعل في ملكه ما يشاء: لا يُسئل عما يفعل وهم يُسألون [الأنبياء:23].
له ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار سبحانه وتعالى. والمؤمن مع ذلك من شأنه أيضًا أن يتخذ الأسباب لرفع بلاء المرضى عن جسده أو نفسه أو عقله، يتخذ الأسباب بالتداوي امتثالاً لأمر النبي المصطفى فقد أمر بذلك فقال: ((عباد الله تداووا فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء)) [1].
فالتداوي أي طلب الدواء لإزالة المرض هو من اتخاذ الأسباب واتخاذ الأسباب من لوازم التوكل، ولوازم حسن الظن بالله عز وجل ولذلك فإن سيدنا رسول الله وهو أعظم المتوكلين إيمانًا وأعلمهم بالله عز وجل تداوي طلب الدواء لنفسه ووصفه لغيره.
وقد أرشد الرسول لأمته الدواءين الدواء المادي والدواء القرآني أما الدواء المادي فخبره لدى الأطباء والمستشفيات والجراحين هم أهل هذا الشأن.
لكن سيدنا رسول الله لقلة الأطباء في زمنه وندرته في عهده وشفقته على أمته أرشد الناس إلى بعض الأدوية المادية وصفها لهم وأقر بعضًا ممن كان موجودًا من قبل.
فأرشد إلى العسل [2] وأرشدهم إلى القد العود الهندي [3] وأرشدهم إلى السنا المكي [4] ووصف التلبينة [5] أي مرق اللحم الممزوج باللبن، ووصف الاغتسال بالماء البارد للمحموم [6].
ووصف الحجامة [7] ، وذكر الكي من أنواع الدواء لكنه جعله آخر الدواء.
فأرشد الناس إلى هذه الأدوية المادية وهي بعضًا من الدواء المادي فإضافة إلى ما أخبرنا به الصادق الأمين المبلغ عن رب العالمين من هذه الأدوية المادية.
فإن الدواء المادي في زماننا هذا قد تطور بتطور الطب والجراحة تطور تطورًا كبيرًا وهذا من أعظم نعم الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون فالمؤمن يتخذ الأسباب إذا ابتلي بالمرض أو بغيره، يتخذ الأسباب يبحث عن الدواء المادي، يذهب إلى الأطباء والمستشفيات وهذا أمر لا يحتاج الناس إلى تحريضهم عليه هم أحرص على أجسادهم وعلى مصالحهم.
إلا أننا نريد بذلك أن ننفي عن الأذهان. عن ما يقوم في أذهان بعض الناس بأن من لوازم التوكل في شريعتنا ترك الدواء وترك طلب الدواء هذا خطأ فادح فإن التداوي من لوازم التوكل لأنه من اتخاذ الأسباب هو من لوازم التوكل ومن لوازم حسن الظن بالله عز وجل، ولو كان ترك الدواء من التوكل لما فعله سيد المتوكلين والمؤمنين رسول الله ، فقد تداوى بنفسه طلب الدواء لنفسه ووصفه لغيره.
هذا عن الدواء المادي وأما الدواء القرآني فإن الله عز وجل أنزل هذا القرآن شفاءً لما في الصدور، شفاءً لمرض الشهوات والشبهات وهذا هو الأصل في القرآن العظيم أنه إنما أُنزل ذكرًا قرآنًا مبينًا أي كلامًا يُتقرب للرب عز وجل بقراءته وتلاوته.
وأُنزل حكمًا لقوم يوقنون أي دستورًا ونظامًا إذا التزم الناس بأحكامه وقوانينه وآدابه في حياتهم أفلحوا في الدارين.
ولكن الرب عز وجل من رحمته بعباده أودع في كلامه العظيم في قرآنه الكريم، مع ذلك أودع فيه من أسرار البركة والخير أن جعل فيه الشفاء من الأمراض عضوية كانت أو غير عضوية.
جعل فيه الشفاء من الأمراض، الشفاء من العين، الشفاء من السحر، والشفاء من مس الجن ومن غير ذلك من الأمراض.
جعل في كلامه العظيم الشفاء من الأمراض معنوية كانت أو غير عضوية فعلى المسلم أن يلجأ إلى الدواءين الدواء المادي والدواء القرآني بدلاً من أن يذهب إلى الكهنة والسحرة والدجالين والمنجمين والمشعوذين فيقع في الإثم العظيم يقع في الكفر بما أُنزل على محمد ولا تُقبل له صلاة أربعين يومًا.
بدلاً من ارتكاب هذا الإثم العظيم وبدلاً من ارتياد الكهنة والدجالين والعرافين على المسلم أن يلجأ إلى الأسباب التي أرشده إليها نبينا وسيدنا محمد أن يلجأ إلى الدواءين، الدواء المادي والدواء القرآني.
الدواء المادي المتاح لدى الأطباء والمستشفيات، والدواء القرآني المتاح في هذا الكتاب العظيم المبارك الكريم فيقرأه على نفسه.
يقرأ منه ما تيسر به على نفسه أو يرقيه به غيره من المؤمنين الصالحين الصادقين، فينفع بإذن الله عز وجل.
ومن هنا شُرعت الرقية الشرعية بهذا القرآن العظيم.
ولكن على المسلم أن يكون متبصرًا في أمور دينه، متبصرًا في أمور نفسه لا يسلم نفسه للدجالين والعرافين والمشعوذين فقد كثروا في الآونة الأخيرة وكلهم يزعم أنه يقرأ بالقرآن ويرقي بالقرآن وما كل من زعم ذلك صادق فيه فإن الرقية بالقرآن إنما تنفع إذا رقى بها المؤمن الصادق الصالح أما المشعوذون الكذابون الذين يستغلون الناس باسم القرآن ويأكلون أموالهم بالباطل فعليك أيها المسلم أن تحذر منهم لا تسلم نفسك إليهم فيستغلونك وينهبونك ويفرّغون جيوبك وعلامة هؤلاء الدجالين وإن زعموا أنهم يقرأون القرآن ويرقون بالقرآن أنهم يتحدثون عن أنفسهم دائمًا في المجالس والمناسبات والصحف والمجلات يشهرون بأنفسهم كأنما يقول كل واحد منهم هاأنذا أيها الناس لدي هذه الأسرار فأقبلوا علىّ حتى أملأ جيوبي من أموالكم ومن علامة هؤلاء الدجالين المشعوذين الذين يستغلون كتاب الله عز وجل لأكل أموال الناس طمعهم وجشعهم وظلمهم وجورهم على الناس وعلى أموال الناس فإن الشارع الحكيم وإن أباح للراقي بالرقية الشرعية أن يأخذ على رقيته أجرًا إلا أنه لم يبح له أن يظلم الناس ويجور على أموالهم ويرهقهم بل على العكس من ذلك أمر النبي المؤمن صاحب القرآن الذي أوتي الرقية أن ينفع أخاه وأن يعين المسلمين وينفعهم أمره النبي بذلك مع إباحته له أن يأخذ أجرًا إذا احتاج إلى ذلك في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة أو نملة" [8].
أما العين وتسمى النفس ويعرفها الجميع وأما الحمة فهي لدغ العقرب وما أشبهها من الحشرات السامة وأما النملة فهي جروح أو قروح الإنسان أعاذنا الله وإياكم من ذلك جميعًا.
وليس المراد من هذا الحديث حصر الرقية في هذه الإصابات الثلاث وإنما معنى هذا الحديث أنه لا دواء لهذه الإصابات الثلاث أفضل من الرقية بالقرآن وهي إذا تأملتم واحد منها سببه غير عضوي وهي عين العائن والحاسد واثنان سببهما عضويان وهي الحمة وهي لدغ العقرب والنملة الجروح التي تصيب جنبي الإنسان.
فالرقية بالقرآن العظيم تنفع بإذن الله عز وجل من الإصابات العضوية وغير العضوية.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (4/278) ، سنن أبي داود (3855) ، سنن الترمذي (2038) ، وقال: حسن صحيح ، وسنن ابن ماجة (3436).
[2] في صحيح البخاري (5680) عن ابن عباس مرفوعا: (( الشفاء في ثلاثة:شربة عسل وشرطة لحجم كية نار وانهى)).
[3] في صحيح البخاري (5692) عن أم قيس بنت محصن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية.. )) الحديث.
[4] في مسند أحمد (6/369) وسنن الترمذي (2081) وقال: حسن غريب ، وسنن ابن ماجة (3461) عن أسماء بنت عميس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأ لها : ((بمَ تستمشين؟)) قالت: بالشبرم
[5] في صحيح البخاري (5689) وصحيح مسلم (2216) عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن التلبينة تجم فؤاد المريض ، وتذهب ببعض الحزن)).
[6] في مسند أحمد (2/119-120) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا احسستم بالحمى فاطفئوها بالماء البادر)).
[7] انظر حديث البخاري في حاشية رقم(2).
[8] ليس لهذا الحديث أثر في صحيح مسلم ولكن فيه أثر عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال : (( لا رقية إلا من عين أو حمة)) رقم (220).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن الرب عز وجل من صيانته للمرأة المسلمة ورعايته لها وحمايته لعفافها ونقاءها شرع لها الحجاب وتلطفًا بشأنها وتكريمًا لها أمر النبي بأن يبلغها هذا الحكم الإلهي فجعل هذه الوسيلة الكريمة الواسطة بينه وبين النساء المسلمات لتبليغهن هذا الأمر الإلهي.
والنبي هو واسطتنا بيننا وبين ربنا لتبليغنا جميع أوامره ونواهيه لا يختص هذا بهذا الحكم لكن هذا الحكم مع بعض الأحكام غيره نص الله تعالى في قرآنه الكريم على النبي وسيلة وواسطة لتبلغه قال عز وجل: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا [الأحزاب: 59].
نعم المرأة المسلمة الصالحة بالحجاب يعرف الجميع عفافها وإيمانها وأنها محضة مصونة عفيفة فلا يتعرض لها أهل الفسق والكبائر مما في قلبه مرض يعرفن فلا يؤذين [الأحزاب: 59].
يعرف إيمانهن وصلاحهن وتعففهن بالحجاب والحشمة فإن الحجاب رمز الحشمة والحياء فلا يتحرش بهن من في قلبه مرض وبذلك تتم صيانتهن ورعايتهن وحفظهن.
فإن الحكمة التي أرادها الشارع الحكيم من الحجاب هو حماية المرأة من غوائل الفساد وأهل الفساد حتى لا تكون نهبة لكل من هب ودب وحتى لا تُستغل فتهدر كرامتها وتضيع إنسانيتها وتضيع حقوقها فالله عز وجل أعلم بخلقه وبشئونهم وأحوالهم وطبائعهم وغرائزهم وما يصلح حالهم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14].
فهو سبحانه يريد لخلقه يريد لعباده صلاح حالهم واستقامة حياتهم حتى يقبل أعمالهم ويتوب عليهم وحتى يجزل لهم الثواب والتكريم: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا [النساء: 27].
ولذلك لا يغيظ أهل الشهوات عبيد الشهوات دهاقنة الفساد والإفساد لا يغيظهم شيء من أحوال المرأة المسلمة كما يغيظهم تعففها وحياءها ورمز ذلك كله الحجاب، الحجاب يغيظ طواغيت الفساد. واحد من طواغيت العرب هذه الأيام نصح فتاتين من رعيته ساكنتين في فرنسا، وما أدري ما الذي ألجأ تلك الفتاتين وأهلهما إلى السكنى في بلاد الكفر والفساد ربما كانت هناك ضرورة ألجأتهم إلى ذلك.
فتاتان عربيتان مسلمتان التزمتا بالحجاب فقام الفرنسيون عليهما قام الفرنسيون النصارى الإفرنج عليهما يستنكرون حالهما وحجابهما ثم انتصرت هاتان الفتاتان. انتصر الحياء والحشمة ووقف ذلك الطاغية من طغاة العرب يزجر هاتين الفتاتين لماذا تفضحوننا أيتها الفتيات المسلمات الحجاب ليس من أحكام الإسلام.
الحجاب رمز الحياء والحشمة يغيظ عبيد الشهوات الذين يريدون من المسلمين أن يميلوا ميلاً عظيمًا.
أما الرب عز وجل فيريد منكم أيها المؤمنون ويريد منكن أيتها المؤمنات يريد أن يتوب عليكم ويتقبل أعمالكم وتستقيم أحوالكم وتصلح حياتكم.
هذا هو ما يريد الرب عز وجل الذي شرع الحجاب للمرأة المسلمة وهو مع ذلك أمر المرأة بغض البصر فإن الحجاب ليس أمرًا شكليًا المراد منه الحشمة والوقار والتعفف والصون هذا هو المراد من الحجاب ولذلك أُمرت المرأة المسلمة مع الحجاب أن تغض بصرها عن الرجال ما أمكنها ذلك أُمرت بهذا كما أمر به الرجل.
قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن [النور: 30-31].
وسوف نعود إلى تفسير هذه الآية وإلى أحكام الحجاب في الجمعة القادمة بإذن الله تعالى.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
[1] صحيح مسلم (408).
(1/1026)
تعظيم قدر الصلاة
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
3/7/1419
جامع الجردان
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس اتقوا ربكم وأطيعوه وادعوه واستغفروه وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين قبل فوات الأوان وقبل أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، أيها الإخوة إن من أعظم ما أمر الله ورسوله به ورغب فيه هي الصلاة التي هي عمود الدين ورأس مال المسلم التي هي نور للعبد في دنياه وأخراه وحياة للقلب بها يجد العابد قرة العين وانشراح الصدر وصرف الهموم والأحزان والإعانة على نوائب الزمان وبالصلاة يناجي العبد ربه ومولاه يستغفره ويناجيه ويدعوه ويتلوا كتابه فهو بين الركوع والسجود قائم بين يدي ربه وقوف الذليل المستجدي والراجي لرحمة الله متأدباً بأدب العبودية وساجداً معفراً أعز أعضائه وهو وجهه بالتراب مستصغراً لنفسه شاكياً حاله وفقره وضعفه وقلة حيلته للغني الحميد، فللصلاة أيها الإخوة المنزلة العالية والدرجة الرفيعة التي إن صلحت صلح سائر العمل وإن فسدت فسد العمل كله ومن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، خمس صلوات بأجر خمسين صلاة، قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وهي الحد الفاصل بين الكفر والإسلام قال النبي : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) أيها الإخوة ولأهمية الصلاة وتعظيم قدرها عند الله أن جعل الله جميع الفرائض تجب في وقت دون الأوقات وليست لازمة في كل الأوقات كالزكاة والحج والصيام إلا الصلاة فهي لازمة في كل حال في اليوم خمس مرات، في حال الصحة والمرض والسفر والإقامة والخوف والأمن والحرب والسلم قال الإمام محمد المروزي رحمه الله: فاعقلوا ما عظم الله قدرها لشدة ايجابه إياها وإلزامها عباده في كل الأحوال إلا لتعظموها إذ عظمها الله ولتجزعوا أن تضيعوها وتنقصوها ولتؤدوها بإحضار العقول وخشوع الأطراف ثم قال رحمه الله: ثم جعل جميع الطاعات من الفرض والنفل متقبلة بغير طهارة ولا ينتقضها الأحداث ولا يفسدها إلا الصلاة وحدها لإيجاب حقها وإعظام قدرها (إلا الطواف بالبيت لأنه صلاة) عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهة فإن الله قبل وجهه إذا صلى)) خ،م فكيف يجوز لمن صدق بأن الله مقبل عليه بوجهه أن يلتفت أو يغيب أو يتفكر أو يتحرك بغير ما يحب المقبل عليه بوجهه ومن تشاغل في صلاته فهو معرض عمن أقبل عليه الذي يعلم ويرى إعراضه بقلبه وبكل جوارحه قال أبو هريرة: (الصلاة قربان إنما مثل الصلاة كمثل رجل أراد من إمام حاجة فأهدى له هدية إذا قام الرجل إلى الصلاة فإنه في مقام عظيم واقف فيه على الله يناجيه ويسترضيه قائماً بين يدي الرحمن يسمع لقيله ويرى عمله ويعلم ما توسوس به نفسه فليقبل على الله بقلبه وجسده ثم ليرم ببصره قصد وجهه أو ليخفضه ولا يلتفت ولا يحرك شيئاً بيديه ولا برجليه ولا شيء من جوارحه حتى يفرغ من صلاته وليبشر من فعل هذا ولاقوة إلا بالله)، وكان أبو فاطمة الأزدي قد أسودت جبينه وركبتاه من كثرة السجود فقال لنا ذات يوم: قال لي رسول الله : ((يا أبا فاطمة أكثر السجود فإنه ليس من عبد مسلم يسجد سجدة إلا رفعه الله بها درجة )) ، ورأى ابن عمر فتى قد أطال الصلاة وأطنب فقال: أيكم يعرف هذا؟ فقال: رجل أنا أعرفه، فقال: أما إني لو عرفته لأمرته بكثرة الركوع والسجود فإن سمعت رسول الله يقول: ((إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه))، وقد سئل النبي أي الصلاة أفضل؟ فقال: ((طول القيام)) وقال النبي : ((إذا قرأ ابن أدم فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ويل له أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار)) صحيح، وقال النبي : ((إنما حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة)) وقال عدي بن حاتم: ما دخل وقت الصلاة قط حتى أشتاق إليها، وعن ربيعة الأسلمي قال: ((كنت أبيت مع رسول الله فأتيته بوضوئه وحاجتة فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)) م، وفي رواية عند أحمد أن النبي قال له: ((من أمرك بهذا؟)) فقلت: والله ما أمرني به أحد ولكني نظرت في أمري فرأيت أن الدنيا زائلة من أهلها فأحببت أن آخذ لآخرتي، اللهم اجعلنا من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون واجعلنا من المخلصين المقبولين الذين أحسنوا صلاتهم فنهتهم عن الفحشاء والمنكر، اللهم أذقنا لذة المناجاة وحلاوة الإيمان واشرح صدورنا لطاعتك ونور بصائرنا بالإيمان والقرآن، اللهم صلي على محمد وآله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وأشكره على تفضله وامتنانه وأذكره وأسبحه وأعظمه وأدعوه وأستغفره تعظيماً لشانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال أبو عبدالله المزوري رحمه الله: فلا عمل بعد توحيد الله أفضل من الصلاة لله لأنه افتتحها بالتوحيد والتعظيم لله بالتكبير ثم الثناء على الله وهي قراءة فاتحة الكتاب وهي حمد لله وثناء عليه وتمجيد له ودعاء وكذلك التسبيح في الركوع والسجود والتكبيرات عند كل خفض ورفع كل ذلك توحيد لله وتعظيم لله وختمها بالشهادة له بالتوحيد ولرسوله بالرسالة وركوع وسجود خشوعاً له وتواضعاً، ورفع اليدين عند الإفتتاح والركوع ورفع الرأس تعظيماً لله وإجلالاً له ووضع اليمين على الشمال بالإنتصاب لله تذللاً وإذعاناً بالعبودية، قال عبدالله بن مسعود سألت رسول الله : ((أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة لميقاتها)) م، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته فإن أتمها وإلا نظر هل من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم ترفع سائر الأعمال على ذلك)) أيها الإخوة وكان النبي يفزع عند الشدائد إلى الصلاة فإذا رأى بأهله شدة أو ضيقاً أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية: وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ولما كسفت الشمس فزع النبي إلى الصلاة ولما تحزبت الأحزاب من كل جانب على رسول الله وأحاطوا بالمدينة وخانه اليهود وتحالف معهم المشركون قال حذيفة: رجعت إلى النبي ليلة الأحزاب، وهو مشتمل في شملة يصلي وفزع يوم غزوة بدر قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله يصلي ويدعو حتى أصبح، وهكذا أيها الإخوة فالصلاة مفزع لكل ذي نائبة وملجأ للمستجيرين والمرضى والفقراء والمنكوبين والحيارى والمظلومين والمهمومين بالصلاة يناجون ربهم ويفيضون إليه وهم ساجدون بشكواهم وذلهم وفقرهم ومسكنتهم ويسجد العبد لربه عند تجدد النعم شكراً لله حتى أن الملائكة في السموات السبع إذا رعبوا فأصابهم هول اعتصموا بالسجود، قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي إذا صلى قام حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ((يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً)) أحمد، قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمصلي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء يوم القيامة ويشمر للإجابة فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق ويكفرها الندم والخوف والحياء فإذا استعذت فاعلم أن الإستعاذة هي ملجأ إلى الله سبحانه فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: الحمد لله رب العالمين واستحضر لطفه عند قولك: الرحمن الرحيم وعظمته عند قولك: مالك يوم الدين، واستشعر في ركوعك التواضع وفي سجودك الذل لأنك وضعت النفس موضعها ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خلقت منه، واعلم أن أداء الصلاة بهذه الشروط سبب لجلاء القلب من الصدأ وحصول الأنوار التي تتلمح بها عظمة المعبود سبحانه أيها المسلم إذا أردت أن تعرف قدرك عند الله فانظر إلى قدر الصلاة عندك، أيها الإخوة فما بالنا غافلين عن روح الصلاة وحقيقتها نؤديها بجوارحنا مع ذهول القلب وغفلته ثم لانجد للصلاة لذة وسكينة ولا فرحاً وإقبالاً عليها ثم أصبحت غير معدلة لسلوكنا فلم تنهانا عن الفحشاء والمنكر وأين الفرح بالصلاة وأين العناية بها والتبكير إليها وأين حرارتها في القلوب؟ أيها الإخوة لابد من محاسبة لأنفسنا في موضوع الصلاة التي هي عمود الدين فإذا سقط العمود ضاع دين المسلم وخسر الدنيا والآخرة إن الصلاة رأس مال المسلم وغنيمته الحاضرة التي يستطيع بعد توفيق الله أن يغنم بها رضا الله والجنة وأن ينجو بها من سخط الله والنار فبالصلاة يرفع الله قدرك ويطهر جوارحك وقلبك وتكفر سيئاتك وتفتح أبواب الخير في وجهك وتجد شرح الصدر والفرح بعبادة ربك وبالصلاة يحميك الله من البلايا والشرور والترفع عن دار الغرور وتنال في دنياك وأخراك الفرح والسرور، إن الصلاة أمل الأحياء ورجاؤهم فهم في قبورهم يحاسبون ولا يعملون ويندمون ولا يتوبون فكيف تنام العين وهي قريرة وليس تدري بأي المكانين تنزل؟ وكيف تتوق النفس للجهل والهوى وكيف تغر العبد دنيا ترحل؟ وكيف نقضي العمر باللهو والمنى وعما قليل سوف نغد ونرحل؟ وما المرء في دنياه إلا مسافر يعيش أياماً ثم يقضي فيحمل، وكيف القرار والعيش في القبر؟ إنه هو الحفرة الظلماء نار تهول ولكن هو الروح والإيمان والهناء لمن كان ذا قلب سليم يهلل، كان علي بن الحسين إذا توضأ اصفر لونه فقيل: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ وقال حذيفة: إياكم وخشوع النفاق قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن نرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع، وختاماً أيها الأخ اعتن بوضوئك وأسبغه وبكر إلى المسجد وصل صلاة المودع الذي لايدري هل يصلي صلاة بعدها أم لا، واستشعر عظمة الله عند تكبيرة الإحرام فإنك واقف بين يديه والله قبل وجهك فاستحي منه وحافظ على صلاة الجماعة وحاسب نفسك بعد الصلاة هل خشعت فيها وتدبرت ما تقول؟ وحافظ على النوافل فإنها سبب لمحبة الله للعبد وبها تكمل الصلاة ومن ألح على ربه بكثرة الدعاء في السجود فهو حري بالإجابة والله لا يخيب من رجاه ولا من سأله ودعاه.
(1/1027)
المنجيات في يوم القيامة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
6/2/1420
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شيء من أهوال يوم القيامة وذِكر بعض أسماء هذا اليوم 2- حشر الخلائق يوم القيامة
وحال الناس في ذلك اليوم وطلبِهم لمن يشفع لهم عند رب العالمين ليَقضي بينهم 3- بعض
المُنجيات من أهوال ذلك اليوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله فاتقوا الله حق تقاته واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد أيها المسلمون غداً يهرع الأولاد مبكرين خائفين لأداء الإختبارات مستعدين ومعتنين بهذه المهمة الكبيرة التي لأجلها بذلوا السهر والعناء والكد والتردد على المدرسة طوال العام الدراسي وبذل الأهل لأبنائهم كل ما يستطيعون لإعداد الولد والحرص عليه وهيؤه للإختبارات لتحقيق النجاح وهذا عمل طيب وجهود مشكورة إن شاء الله إذا صلحت النية وصارت العناية بالأولاد ليست خاصة في أمر الدراسة فحسب بل استشعر الأبوان تربية أبنائهم تربية صالحة على الأخلاق الحسنة والمحافظة على حقوق الله ورسوله والبعد عن سيئ الأعمال والأقوال وجلساء السوء لأن الله عز وجل سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع وقال النبي : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) خ، أيها الإخوة وأمام الجموع المحتشدة غداً التي ستكرم عند الإمتحان أو تهان لنا وقفة اعتبار وادكار ولنا موقف محاسبة مع النفس عن اليوم العظيم يوم القيامة الشديد وأهواله وشدائده وكرباته الذي أكثر الله من ذكره ونوع من أسمائه لعظيم شأنه وطول وقوفه الذي فيه سيصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ثم يصير الناس بعده إما إلى الجنة أو إلى النار يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفود ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً، يوم الوقوف بين يدي الله وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه قال النبي : ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقر إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت)) وإنشقاق السماء هو إنفطارها وتناثر نجومها وتكور الشمس أن تجمع ثم يمحى ضوؤها ثم يرمى بها وإذا الجبال سيرت أي حولت من الحجارة لتكون كثيباً مهيلاً كالعهن وتكون سراباً وإذا العشار عطلت الإبل الحوامل يعطلها أهلها فلا يحلبونها لأنهم إذا قاموا من قبورهم رأوا الوحوش والدواب محشورة لم يهتموا بها لأنهم مشغولون بأنفسهم وإذا البحار سجرت أي أوقدت وصارت ناراً وإذا النفوس زوجت أي تلحق كل شيعة بشيعتها وأتباعها فيتبع اليهود باليهود والنصارى بالنصارى والمجوس بالمجوس وكل من يعبد من دون الله شيئاً يلحق ببعضهم البعض والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين، ويقرن الغاوي بمن أغواه ويقرن المؤمنون بالحور العين والكافرون بالشياطين وإذا الصحف نشرت للحساب وإذا الجحيم سعرت أي أوقدت وإذا الجنة أزلفت أي قربت لأهلها ودنت إليهم.
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتى على طول البلاد جسور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
يوم القيامة يوم الصاخة والقارعة والطامة يوم الزلزلة والآزفة والحاقة يوم يخرجون من الأجداث سراعاً يوم يقوم الناس لرب العالمين يوم الكرب والأهوال يوم الشدائد والأعمال يوم يقول كل واحد: نفسي نفسي قال المحاسبي رحمه الله: حتى إذ تكاملت عودة الموتى وخلت الأرض والسماء من سكانها لم يفجأ روحك إلا نداء المنادي لكل الخلائق للعرض على الله بعظمته وجلاله فتسمع بانفراج الأرض على رأسك فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك شاخصاً ببصرك إلى النداء وجميع الخلائق معك مغبرون من غبار الأرض فتصور نفسك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك في زحمة الخلائق عراة حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة وقد نزع الملك من ملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤسها لذل يوم القيامة وأقبلت السباع بعد ضراوتها منكسة رؤسها ذليلة يوم القيامة وأقبلت الشياطين بعد تمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه الذي جمعهم بعد طول البلاء واختلاف الطبائع فإذا استووا جميعاً في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم وطمست الشمس والقمر وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها ثم انشقت السماء وبغلظها البالغ خمسمائة عام ثم تمزقت وانفطرت والملائكة قيام على أرجائها حافون بها ثم كسيت الشمس بحر عشر سنين وأدنيت من رؤوس الخلائق على مقدار ميل ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين ثم ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش ففاض العرق منهم سائلاً على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله بالسعادة والشقاوة فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى شحمة أذنيه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً قال الحسن: ما ظنك بأقوام قاموا لله على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش واحترقت أجوافهم من الجوع صرفوا إلى النار فسقوا من عين آنية قد اشتد حرها واشتد لفحها فلما بلغ المجهود منهم ما لاطاقة لهم به كلم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو النار من وقوفهم ففزعوا إلى آدم ونوح ثم إلى ابراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وكلهم يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وكلهم يقول: نفسي نفسي حتى إذا يئس الخلائق من شفاعتهم أتوا إلى النبي محمد فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه فأذن له ثم خر لربه ساجداً ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم لفصل القضاء بينهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وجاء ربك والملك صفاً صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العفو الكريم الرحمن الرحيم مالك يوم الدين جعل الحياة الدنيا داراً للإبتلاء والإختبار وداراً للعمل والاتعاظ والإنتفاع بشرعه وجعل الآخرة دارين داراً لأهل كرامته وقربه دار المكرمين الأتقياء الأبرار وداراً لأهل غضبه وسخطه دار الجحيم للكفار والفجار الذين تكبروا وفجروا وأغرتهم شهواتهم وقرناؤهم فقادوهم إلى النار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أيها الإخوة سمعنا شيئاً عن خبر اليوم العظيم يوم المعاد يوم يجمع الله الرسل والخلائق ليقضي الله سبحانه بينهم بالحق والعدل يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، وإليكم أيها الإخوة شيئاً من الأعمال الصالحة التي تكون سبباً في النجاة من أهوال ذلك اليوم العظيم وسبباً في الفوز برضوان الله وجنته والنجاة من غضبه وناره فمن ذلك تفريج الكرب عن المكروبين قال النبي : ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) م، ومن الأعمال بر الوالدين قال النبي في حديث الرؤيا: ((إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي جاء ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه)) ومنها ذكر الله ((ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين وأحاطوا به فجاءه ذكر الله مخلصه من بينهم)) ومنها الصلاة ((رأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم)) ومنها الاغتسال من الجنابة ((رأيت رجلاً والنبيون قعود حلقاً حلقا كلما دنا من حلقة طردوه فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده بجنبي)) ومنها صلة الرحم ((ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه)) ومن الأعمال الصدقة ((ورأيت رجلاً من أمتي يتقي شرر النار ووهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظلاً على رأسه)) ومنها حسن الخلق (( ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله الله)) ومنها الخوف من الله ((ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه)) ومنها موت الأطفال ((ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه)) ومنها البكاء من خشية الله ((ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار)) ومنها حسن الظن بالله ((ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى)) ومنها الصلاة على النبي ((ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً فجاءته صلاته علي فأخذت بيده ومضى على الصراط)) ومنها شهادة أن لا إله إلا الله ((ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته)) ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية (ملائكة العذاب) من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله مع ملائكة الرحمة)) ومنها التجاوز عن المعسر وإنظاره قال النبي : ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل: أنا أحق بذلك منه تجاوزوا عن عبدي)) رواه مسلم ومن الأعمال عمل السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله وهم ((الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) م، ومن الأعمال إشباع الجائع وكسوة العريان وإيواء المسافر قال رسول الله : ((من أشبع جائعاً وكسا عرياناً وآوى مسافراً أعاذه الله من أهوال يوم القيامة)) أيها الإخوة وبالجملة فكل عمل صالح شرعه الله ورسوله يفعله المسلم صادقاً مخلصاً يبتغي به وجه الله لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا مالاً ولا جاهاً ولا منزلة عند الناس فإن هذا العمل هو سبب يرجو به العبد النجاة من النار وأهوال يوم القيامة ويرجوا رحمة ربه وجنته قال تعالى: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً وقال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً أيها الإخوة فالبدار البدار قبل الممات والحساب الحساب قبل يوم الحساب والزرع الزرع قبل يوم الحصاد يوم تجزى كل نفس ما كسبت واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
(1/1028)
الأمر بالإحسان إلى الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
9/5/1415
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإحسان ثلاثة أنواع وبيانها 2- الإحسان إلى الخلق وفضله وأثره على المجتمع
3- كيف يكون الإحسان إلى الخلق ؟
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: اتقوا الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وخافوه وراقبوه وسارعوا إلى بذل الإحسان ابتغاء مرضاته لتنالوا الثواب العظيم والأجر الكبير واعلموا أن الله يحب المحسنين وأنه مع المحسنين وأنه يجزي المحسن بالإحسان إليه ويجزي المحسنين بالحسنى قال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، وأنه سبحانه لا يضيع أجر المحسنين ولا أجر من أحسن عملاً، والإحسان أيها المسلمون ثلاثة أنواع، الأول: إحسان العمل وهو إتقانه وإتمامه، والثاني: الإحسان فيما بين العبد وبين ربه في عبادته إياه وهو أعلى مراتب الدين وقد فسره النبي بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومعنى ذلك أن العبد يعبد الله تعالى على استحضار قربه منه وأنه بين يديه كأنه يراه وذلك يوجب الخشية والتعظيم ويوجب النصح في العبادة وإحسانها، الثالث: الإحسان إلى الغير وهو بمعنى الإنعام عليه وهذا هو موضوع الخطبة اليوم، فلقد أمر الله بالإحسان إلى الخلق تارة أمر وجوب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بمقدار ما يحصل البر والصلة والإحسان إلى الجار والضيف وملك اليمين قال تعالى: وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتمى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم وتارة أخرى أمر الله بالإحسان إلى الخلق أمر استحباب وندب فإن بذل المعروف وتقديم البر والخير إلى الناس هو صفة أصحاب القلوب الحية الرحيمة التي تتجاوب مع حاجات المسلمين وتعيش همومهم وتقلق لمصابهم، إن الذي يقدم الإحسان إلى إخوانه ويسعى في قضاء حوائجهم وتفريج كروبهم وتنفيس ضوائقهم هو ذلك الرجل الشهم الأبي الذي لا يعيش لنفسه فقط ولا يحقق مصالحه فقط وهو بهذا البذل والجود والإخلاص والتفاني لا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً ولا يريد مدحاً ولا مالاً ولا منزلة في قلوب الناس ولكنه يريد الثواب من الله ويريد موعود الله ويريد محبة الله ومعيته، إن الله مع الذين اتقو والذين هم محسنون ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره يريد المحسن تفريج كرباته يوم القيامة، ويريد الفلاح والفوز بالجنة ويريد الخيرية في الدنيا والآخرة لأن خير الناس أنفعهم للناس، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) مسلم، أيها المسلمون إن الإحسان إلى الخلق أمر واسع الأبواب وقربة إلى الله من أعظم القربات فهو يقوي روابط المسلمين ويشعرهم بالوحدة والمحبة والحنان والصلة ويبني روابط الأخوة ويزيل ضغائن القلوب ويقوي صفاءها فتنشرح النفوس ويشعر المنصور والمظلوم والفقير وصاحب الحاجة والكربة والضائقة يشعر أنه ليس غريباً بين إخوانه ولا مهملاً بين المسلمين وأن مصابه مصابهم وقضيته تعنيهم فعند ذلك تتحقق الأخوة في الإسلام وتزداد الرحمة بين الناس والإحسان يكون بالكلمة الطيبة قال تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ويكون بتقديم الخدمة وقضاء الحاجة، عن أبي موسى عن النبي قال: ((على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطيع أو لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالمعروف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه صدقة)) خ،م ويكون الإحسان بالصدقة، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ذكر النبي النار فتعوذ منها وأشاح بوجه ثم ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه قال شعبة: أما مرتين فلا أشك ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيبة)) خ، ويكون الإحسان بالرفق والمعاملة الحسنة ولين الكلام وخفض الجناح عن عروة بن الزبير أن عائشة قالت: ((دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، فقالت: فقال رسول الله: مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله: قد قلت وعليكم)) خ، وعنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) مسلم، وله عنها: ((أن الرفق لايكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه)) ، وقال عبد الله بن عمرو لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وإنه كان يقول: ((إن خياركم أحسنكم أخلاقاً)) خ، ومن الإحسان إلى المسلمين التعاون فيما بينهم على الحق فعن أبي موسى عن النبي : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه)) خ، ومن الإحسان الشفاعة لأخيك المسلم قال تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها وعن أبي موسى عن النبي : ((إنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: اشفعو فلتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء)) ويكون الإحسان كذلك بالنصرة والمؤازرة قال : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) ويكون الإحسان بحسن العهد والوفاء والمروءة وحفظ السر والصبر على الأذى واحتمال الزلة وصيانة اللسان عما يكره أخوك وإدخال السرور على قلبه وإبعاد ما يسؤه، أيها المسلم امسح دموع اليتيم واعطف على المسكين وقم بحاجة أخيك وفرج هم المهموم ونفس كرب المكروب واعلم أن من يقدم الخير يحصد الخير في الدنيا والآخرة، عن صفوان بن سليم يرفعه إلى النبي : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل)) خ، وقال : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى)) خ، إن الرحمة لا تنزع إلا من شقي وإن رحمة المسلم لإخوانه وإطالة فكره وهمه في مصائبهم تدل على رحمته وصفاء قلبه وسلامته، قال : ((من لا يرحم لا يرحم)) خ، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة)) خ، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) خ، اللهم اجعلنا من المحسنين المتراحمين المتعاطفين الذي يقدمون الخير للناس ويؤثرون على أنفسهم، اللهم تقبل منا ياحي ياقيوم واجعل أقوالنا وأعمالنا ونياتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رؤوف يا رحيم يا غفور يا شكور.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على توفيقه وامتنانه والشكر على نعمه وإحسانه الذي يحب المحسنين ويرحمهم فهو سبحانه رحيم يحب الرحماء ومحسن يحب المحسنين، عباد الله لقد كان بينكم محسناً يجود غاية الجود بنفسه وماله ووقته يبذل ما يحتاج إليه الناس مؤثراً لهم على نفسه فلقد كان أجود الناس يعطف على الفقير ويواسي المحتاج ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويدل الضال على الصراط المستقيم، ولقد كان نبي الله موسى محسناً من المحسنين حين سعى للمرأتين الضعيفتين اللتين لا تستطيعان سقيا حتى ينتهي الناس فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ولقد كان نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام محسناً وكريم الطبع نبيل الخلق ذا مروءة عظيمة فلقد فعل فيه إخوته ما فعلوا وعمي أبوه يعقوب عليه السلام من شدة المصيبة ولوعة الفراق وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ثم يأتي إليه إخوته معترفين بذنبهم وجنايتهم قائلين: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فرد عليهم بعد كل الذي جرى قائلاً لهم وصافحاً عنهم بلسانه الصادق وقلبه الكبير الممتلئ محبة وإحساناً وطهارة وسلامة لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين الله أكبر ما أعظم هذا البر وما أجمله حين نتحلى به لتصفو النفوس وتتحلى به القلوب وتشرف به الأعمال أيها المسلمون وإليكم هذا المشهد من رجل لا كالرجال من رجال هذه الأمة من الصديق أبي بكر خليفة رسول الله فقد أخرج أن عساكر عن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت فجاءها غير مرة فوجد أنه يسبق إليها فأراد أن يعرف من هذا الذي يسبقه فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة فقال عمر: أنت هو لعمري، واسمعوا أيها الإخوة عظيم الأجر من الله لمن أحسن إلى الناس وقام بحوائجهم قال : ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف له كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً ولئن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)) ، عباد الله وإحسان المحسن وأجره لا تقف فقط عند الإحسان إلى الناس بل يتعدى كذلك حتى للحيوان البهيم، فعن عبدالله بن جعفر أن النبي : ((دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله فمسح ذفراه وهما الموضع الذي يعرف من قفاه، فسكت فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله ، فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه (أي تتعبه بكثرة استعماله))) وأخبر النبي : ((أن امرأة عذبت في هرة ربطتها لم تطعمها ولم تسقها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً)) مسلم، وقال النبي : ((بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغية من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها (خفها) فاستقت له به فسقته إياه فغفر لها به)) خ،م، هكذا إن فضل الله واسع وأجره كبير لمن صدق مع ربه وأخلص له في علانيته وسره وبيت محبة الخير للناس ونفعهم ورحمتهم فإن الله يعلي درجته ويرحمه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ت، وقال : ((سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، من علم علماً أو كرى نهراً (أي حفره) أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)) ، أيها المسلمون نعم تلك أعمال المحسنين وغيرها كثير مماهو في معناها التي ينبغي للمسلم أن يستشعرها وأن يتذوق حلاوة التعبد لله بها وهذا بخلاف حال الذين لا تهمهم إلا مصالحهم ولايسعون لأحد إلا بمقدار ما يستفيدون منه ولا يريدون إلا نفعاً مادياً أو عرضاً دنيوياً فلم يحتسبوا لله بتقديم معونة ولا بسد خله ولا برحمة صغير أو توقير كبير قد قست قلوبهم عن رحمة المظلومين ومواساة المحتاجين وإغاثة الملهوفين فحلت في القلوب الشحناء والتنافر محل المحبة والصفح والوداد وحل الشح والبخل ومن الناس من يأخذ حقوق الآخرين وينكرها ويخون الأمانة ويعتدى على الحرمات وينتهك الحرمات ويعتدي على ما حرم الله فأين هذا وحال الذين يتعبون ليستريح الناس ويجوعون ليشبع الناس؟ كم الفرق بين المحتسبين والظلمة والأشقياء الذين يبدلون الجود والكرم والسماحة محل الكبر والتعاظم فتباً للقلوب القاسية المتحجرة التي لا تترقب فضل الله وجوده وإحسانه ولا تتأثر لجراح المسلمين وبكاء أطفالهم وأنين شيوخهم وحسرات الثكالى وزفرات المقهورين وخيبة وخسراناً للأناني الذي لا يعيش إلا لنفسه ولا يفكر إلا في مصلحته الشخصية وهواه غير مهتم بأمر المسلمين فلم يذرف على مصابهم دمعة ولم يقدم لحاجتهم معونة ولم تتحرك في قلبه عاطفة بل قد تجد من الناس من لايحسن إليهم ولا يريد لأحد أن يحسن ولا يريد أن ينتفع المسلمون أو تسكن لهم عبره أو يسد لهم رمق وفاقة فتجده يأمر بالبشر والقطيعة وينهي عن الرحمة والإحسان والمودة فحاله كحال المنافقين الذي قال الله عنهم: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون.
(1/1029)
السعادة الحقيقية وأسبابها
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
4/3/1420
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار بلاء وتَقلّب فهي لا تكاد تصفو لأحد 2- مطلب الناس هو السعادة وأن الكل
يطلبها ولكن اختلفت طرقهم في طلبها 3- السعادة الحقيقية هي في طاعة الله ليست في حطام
الدنيا 4- أسباب السعادة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه تسعدوا في دنياكم وأخراكم فيشرح الله صدوركم ويذيقكم حلاوة الإيمان وتقنعوا برزق الله وترضوا بقضائه وقدره، أيها الإخوة إن جميع الناس في هذه الحياة يتعبون ويكدون ويهتمون وكل قد أهمته هذه الحياة وكابد فيها قال الله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد أي في عناءومشقة وهم ومكابدة، فإن المصائب والآلام وإن الفقر والأحزان والغربة عن الأوطان وإن العقوق والأذى وإن هموم هذه الحياة هم المعيشة وهم الأولاد والسكن والوظيفة وموت الأقرباء والأعزاء، كل هذه المصائب وغيرها أمور ملازمة للإنسان ناهيك عن عذاب المعاصي وآلام الشفاء في أوحال مجون المخدرات والمسكرات وعذاب الحب والغرام وشقاء الشهوات المحرمة وضيق الصدر ووحشة الأيام مع تضييع الصلوات والتفريط في حقوق الله وانتهاك محارمه قال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ، ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين وقال: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين.
أيها الإخوة والناس كل الناس يبحثون عن السعادة التي بها يرتاحون ويجدون الأنس والطمأنينة وراحة القلب والشعور بالغبطة والأريحية السعادة التي تتحقق بها خيرية الذات والحياة والمصير ولكن السعادة. أيها الإخوة لها أوهام وكثيرون هم الذين يضلون طريقها فمن الناس من يبحث عن السعادة والراحة في المال وجمع الثروات والعقار والقصور فيتوهم أنه إن حصل على المال ارتاح وتألق وصار الآمر والناهي الذي يحقق ما تريده نفسه والصحيح أن المال لايجلب السعادة فإن المال يصاحبه هم في جمعه وهم في حفظه وهم وقلق وخوف من ضياعه وخسارته وكم من إنسان يملك المليارات ولكنه قلق خائف لأنه لا يملك الأمان على بقاء هذا المال بين يديه ولأن المال لا يمنع عنه المرض ولا الموت ولا المشاكل ولا يمنع عنه عذاب الله إذا كان من الكفرة والفجرة المعذبين يوم القيام، قال تعالى عن الكافر أمية بن خلف: ما أغنى عني ماليه ومن الناس من يطلب السعادة ويظن أنها في الشهرة والمركز وكثرة الأعوان والمشجعين مثل أهل الرياضة والغناء والمسارح، وكل هذا وبال على أصحابه فإنهم يعيشون الحسرة والضيق في صدورهم ويجدون إعراض الناس عنهم عند أول إخفاق بل ويجدون الذم والتنكير من الناس عندما يخفقون وتنزل مستوياتهم ويجدون النسيان عندما يموتون وربما وجدوا اللعن والبراءة من الذين أضلوهم ودعوهم إلى الفسق والفجور، ومن الناس من يطلب السعادة في الشهادة والمؤهلات العلمية وهذه سعادة وهمية ربما أودت بصاحبها إلى الضرر والتكبر والظلم واحتقار الآخرين وربما صارت علوماً منحرفة صرفت صاحبها عن هدي ربه واتباع سنة نبيه، ومن أوضح الأدلة على أن الأعراض الخارجية من الغنى والسلطان والمظاهر اللامعة ليست هي عنوان السعادة فإن أغنى الدول الأوروبية وهي الدول الإسكندنافية تمثل أعلى نسب الإنتحار وأغنى دول من حيث دخل الفرد وهي دول السويد ولكنها أعلى دولة في نسب الإنتحار في العالم، وليس من أسباب الشقاوة والبعد عن السعادة الفقر ولا المرض ولاقلة الأعوان بل إن الشقاوة في الدنيا والآخرة يجمعها قول الله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ومن الإعراض عن الله وذكره ما يلي: فمن ذلك الكفر والمعاصي والآثام والجرائم والحسد والإعتداء والظلم والحقد والغل والغضب والطغيان والغرور والكبرياء وكذلك الخوف من غير الله كالخوف من المخلوقين والشياطين والتشاؤم وسوء الظن واتهام الآخرين وقسوة القلب وعدم الرحمة وأكل الحرام وتعلق القلب بغير الله والمسكرات والمخدرات، أيها الإخوة والواقع الماضي والحاضر دليل أكيد وبرهان قاطع على أن من ابتعد عن ربه وأنزل الدنيا في قلبه وركض وراء أطماعها وشهواتها ووشبهاتها وسعى في جمع حطامها من الحرام فإنه حليف الشقاء مع فقدان نعمة الإيمان وراحة القلب لأن الدنيا والآخرة ضرتان فمن قرب إحداهما أبعد الأخرى، قال النبي : ((من أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع الله عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق الله شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كل حال أحمده وأستعينه وأستغفره وهو ذو الجلال شديد المحال الكبير المتعال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أيها الإخوة إن الناس يطلبون السعادة في كل باب من أبواب هذه الدنيا ويسعون لجمع حطامها الرخيص ولكنهم لايجدون السعادة إلا في طاعة الله والسعي في طلب رضاه، قال الله تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقال النبي : ((شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس)) فطاعة الله من صلاة وذكر وقرآن وصدقة وصيام وحج وتوحيد وإيمان يجد المؤمن بها الراحة والطمأنينة قال النبي : ((أرحنا بها يا بلال)) إذا أديت العبادة بخشوع وإخلاص، وتدبر واتباع، قال أبو سليمان الداراني أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، أيها الإخوة وتكون السعادة بالإقبال على الله ومناجاته والتلذذ بذكره والشكوى إليه وإنزال الحوائج فيه قال : ((احفظ الله يحفظك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) وإذا أقبل العبد على ربه وتضرع إليه فإن الله ينزل في قلبه الطمأنينة والراحة القلبية فيجد نعيم الروح وشرح الصدر وقرة العين وأنس الخاطر فإن القلب فيه شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله وفيه داء لا يشفيه إلا الله عز وجل وفيه فاقة لا يسدها شيء سوى الإقبال على الله فإن القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين من جهة العبادة ومن جهة الإستعانة فإن القلب لا يسكن ولا يلتذ ولا يطيب إلا بعبادة ربه والإقبال عليه ولو توفرت له ملذات الدنيا جميعها ومن جهة الإستعانة فإن الله إذا لم يعن العبد ويوفقه ويهديه فلن يستطيع المسكين أن يجلب لنفسه خيراً ولا يدفع عن نفسه شراً إلا بالإستعانة بالله والركون إليه والتوكل عليه فلا ينفعه عقله ولا علمه ولا ماله ولا جاهه ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً أيها الإخوة ومن أسباب السعادة الإحسان إلى الناس وتقديم الخير إليهم وتفريج كروبهم مادياً أو معنوياً لأن من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ولأن الله مع المحسنين ويحب المحسنين والجزاء من جنس العمل فأحسن إلى الناس يحسن الله إليك وارحم الناس واعطف عليهم وتألم لمصائبهم يرحمك الله ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، ومن أسباب السعادة أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من أساء إليك فإن العفو والصفح ينقي القلب من الغيظ والحقد والعداوة والصفح والتجاوز يطهر القلب ويجلب له السعادة والمسرات فلا يسر الإنسان وقلبه ممتلئ غيظاً وحقداً ومن أسباب السعادة الرضى بقضاء الله وقدره فيطمئن العبد على كل ما يصيبه ويرضى بما قسم الله له ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ومن أسباب السعادة أن يتذكر المؤمن ويستيقن بالوعد الكريم من الرحمن الرحيم من نعيم الجنان دار الأفراح والمسرات ودار الكرامة والنعيم المقيم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، وإذا استشعر المؤمن الموقن أن المآل إلى الجنان الزاهيات بكل خير ونعمة وقرة عين ومنة التي يعيش أهلها هناك لا يموتون ولا يمرضون ولا يتغوطون ولا يبولون في خلود ولا موت فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانو يعملون فإذا تذكر هذا النعيم وعرفه هانت عليه هذه الدنيا واستشعر حقارتها وقصرت في عينه فلم تكن الدنيا أمله ولا غايته ولم يُعنِّ نفسه من أجلها ولم يشق خاطره في سبيلها فنظر إليها على أنها طريق العبور إلى الجنة وهذه الحياة دار الفتن والإبتلاءات فيعيش عيشة السعداء الذين طلقوا الدنيا وارتاحوا من همومها وأكدارها، ومن أسباب السعادة أن تعلم أن الله معك يحفظك وينصرك ويمدك بالمعونة والنصر والتأييد والحفظ فكن مع الله بحفظ أوامره والبعد عن نواهيه ولا تتعد حدوده يكن الله معك بالنصر والتوفيق احفظ الله يحفظك، ومن أسباب السعادة كثرة ذكر الله بيقين وتدبر وخشوع وخضوع ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، وعليك بكثرة دعاء الله فإن الدعاء يصل قلب العبد بربه ويهيجه إلى الشكوى لخالقه فيجد المريض والمكروب والمظلوم وصاحب الحاجة يجد بث الهموم والفرج والتنفيس بالدعاء ويجد الفرح والسكينة وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ، ويامن تريد السعادة احذر كل الحذر من الذنوب صغيرها وكبيرها فإن الذنوب هي سموم القلوب التي تجلب الكمد وضيق الصدر والحياة النكدة والمعيشة الضنك فإن الله أبى إلا أن يذل من يعصيه فيكون شقياً متحسراً في دنياه ومعرضاً لوعيد الله بناره الحامية في أخراه رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها، وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها.
فيامن تريد السعادة لا تستسلم للذل والمهانة ولا لكيد النفس والشيطان وأعوان السوء فإن لك رباً يحميك ويرفعك ويؤيدك ويغفر ذنبك ويهديك فلا تعن الشيطان على نفسك ولا تبرر لنفسك رديئ أعمالها إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فمن الذي أخرج يونس من بطن الحوت وظلمات البحار ومن الذي جعل البحر لموسى أرضاً يابسة ومن الذي جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم ومن الذي شفى أيوب بعد ثمانية عشر عاماً بعدما سقط لحمه ورفضه القريب والبعيد ومن الذي لطف بمحمد ونجاه من كيد المشركين وهو في الغار مع رفيقه الصديق وقال له: لا تحزن إن الله معنا ومن الذي أنطق عيسى في المهد لما اتهم الظلمة مريم عليها السلام ومن الذي رد يوسف إلى أبويه بعد الفراق والعذاب ومن الذي نصر القلة المؤمنة من الصحابة الأطهار وهم الجياع والفقراء على أعدائهم من المشركين والمنافقين وعلى الأكاسرة والقياصرة ومن الذي يجري الدماء في عروقك والنفس في رئتيك والمخ في دماغك والأعصاب في مفاصلك ومن الذي يشفيك بعد المرض ويعطيك بعد الفقر ويشبعك بعد الجوع ويجمع شملك بأهلك بعد الفراق ومن الذي ينعم عليك بكل مامعك من سمع وبصر ونفس وعقل وحياة وإيمان وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها فيامن تريد السعادة في الدنيا والآخرة اطلبها من الله واسع في مرضاته ثم أبشر بالفوز والغفران والسعادة في الدنيا والآخرة وتفطن بأن الحياة قصيرة والموت قريب فلا تقصر الحياة بالأكدار.
(1/1030)
آثار الذنوب والمعاصي
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
29/7/1415
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الخلق وجزاء من أطاع الله وجزاء من عصاه 2- آثار الذنوب
3- حثُ الناس على لزوم الطاعة والحرص عليها
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل وخوفه وطلب مرضاته، ففي التقوى النجاة، وفي الغفلة والتمادي والركون إلى طاعة النفس الخسران والهلاك.
أيها المسلمون: اعلموا أن الله سبحانه توعد العصاة وهدد الذين خرجوا عن أمره وتعمدوا مخالفته وأطاعوا أنفسهم وشياطينهم بأهوائهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدود الله يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين والله عز وجل خلق الخلق لعبادته وطاعته والتسليم لأمره والرضا بحكمه، ليحصل لهم الأمن والطمأنينة والحياة الطيبة في هذه الدنيا ولتحصل لهم في الآخرة الجنة والنجاة من النار قال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. قال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: (اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه، فاعدلوا عن هذا السبيل (سبيل المعاصي) بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
عباد الله: وقال أيضاً رحمه الله: (إن عظمة الله تعالى في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته، وتعظيم حُرماته، يحول بينه وبين الذنوب، والمجترؤون على معاصيه ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره، أو يعظمه ويجله من يهون عليه أمره ونهيه؟ وعلى قدر محبة العبد لله يحبه الناس، وعلى قدر خوفه من الله يخافه الناس، قال تعالى: ومن يهن الله فماله من مكرم.
وإن الذنوب والمعاصي تضر وضررها في القلوب ضرر السموم في الأبدان، وهل في الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟ فما الذي أخرج الأبوين من الجنة: دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الألم والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السموات والأرض وطرده ولعنه وبدل بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وبموالاة الولي الغني الحميد أعظم عداوة ومشاقة، فهان على الله وسقط من رحمة الله، فصار قواداً لكل فاسق ومجرم؟ وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال (وهم قوم نوح)؟ وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرةً للأمم إلى يوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعاً ثم اتبعهم حجارة من سجيل السماء؟ وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق، والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً؟ وما الذي أهلك قوم صالح بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟ وما الذي بعث على بني اسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا النساء؟
روى الإمام أحمد عن جبير بن نفير عن أبيه قال: (لما فتحت قبرص فرق أهلها فبكى بعضهم على بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله في الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمةُ قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى) وعن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله : ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم يومئذ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: كيف يصنع بأولئك؟ قال:يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان)) وعن عبدالله بن عمر: ((كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله فأقبل علينا رسول الله بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى أعلنوها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) ابن ماجة، وذكر بعض أنبياء بني اسرائيل ما يصنع بهم بختنصر فقال: بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفك ولا يرحمنا.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على زمن رسول الله من الموبقات).
أيها المسلمون: إن الذنوب شؤمها عظيم على البلاد والعباد، وأثرها كبير، ومن الناس من يعلم أنه يذنب ويعصي ربه، ولا يرى لذلك أثراً، فيظن أنه لا عقاب في الدنيا على الذنب، وهذا خطأ كبير، فإن الذنب لا ينسى.
ونظر بعض العباد إلى صبي فتأمل محاسنه، فأتى في منامه، وقيل له: لتجدن غمها بعد أربعين سنة، وقال سليمان التميمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته، ومن خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية.
عباد الله: للمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة مما لا يعلمه إلا الله، فمنها: حرمان العلم لأن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، ولما جلس الشافعي بين يدي مالك رحمهما الله وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية، ومنها حرمان الرزق كما أن تقوى الله مجلبة للرزق، فترك التقوى مجلبة للفقر، ومنها وحشة يجدها العاصي بينه وبين الله لا يقارنها لذة أصلاً، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة.
وشكى رجل إلى بعض العارفين وحشة يجدها في نفسه فقال له: إذا كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس. ومنها الوحشة التي تحصل بين العاصي وبين الناس، خصوصاً أهل الخير منهم، حتى تقع الوحشة بين أهله وولده وبينه، وبين نفسه. وقال بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي.
ومن آثار الذنوب تعسير الأمور فلا يتجه العاصي لأمر إلا ويجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه بخلاف من اتقى الله، فإن الله يجعل له من أمره يسراً، ومنها ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.
ومنها أن المعاصي توهن القلب والبدن لأن الفاجر وإن كان قوي البدن فهوأضعف شيء عند الحاجة، فتخونه قوته أحوج ما يكون إلى نفسه، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم العامرة بالإيمان والتقوى، ومنها حرمان الطاعة، فالذنب يصد عن طاعة تكون بركة، فتنقطع عليه بالذنب طاعات كثيرة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما عليها.
اللهم ياحي يا قيوم وفقنا لطاعتك التي ترضيك وجنبنا معاصيك وسد عنا كل طريق يوصل إليها ويرغب فيها، واجعلنا من أوليائك وأهل محبتك وطاعتك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى كل خير، والآمر بكل معروف وبر وإحسان غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
عباد الله: قال ابن القيم: إن الطاعة هي حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، ومن خاف الله أمنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.
والطاعة توجب القرب من الرب سبحانه، وكلما اشتد القرب قوي الأنس، والمعصية توجب البعد من الرب، وكلما زاد العبد بعداً قويت الوحشة.
عباد الله: إن الذنوب أمراض القلوب، ولا دواء لها إلا تركها بالاستعانة بالله، وقد أجمع السائرون إلى الله على أن القلوب لاتعطى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إليه حتى تكون صحيحة سليمة بمخالفة هواها الذي هو مرضها وشفاؤها مخالفته، ولا تتم سلامة العبد حتى يسلم من خمسة أشياء: من شك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد، والإخلاص يعم، ولذلك تشتد على العبد الضرورة في أن يلح على ربه دائماً ويسأله أن يهديه الصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم يتضمن علوماً وإرادات وأعمالاً وتروكاً ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت، فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد، وقد لا يعلمها، وما يعلمه قد يقدر عليه، وقد لا يقدر، وقد تريده نفسه، وقد لا تريده كسلاً وتهاوناً أو لوجود مانع، وما تريده النفس قد يفعله وقد لا يفعله، وما يفعله قد يقوم بشروط الإخلاص فيه، وقد لا يقوم، وما يكن مخلصاً فيه قد يكون متابعاً للرسول فيه وقد لا يكون، وما يتابع فيه قد يثبت عليه وقد يصرف قلبه عنه، وهذا كله واقع سار في الخلق، فمستقل ومستكتر، وليس في طباع العبد الهداية إلى ذلك كله، والرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره وأمره ونهيه وفي شأنه كله، فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته، ويصرفه عمن يشاء بعدله وحكمته.
عباد الله: والمعاصي تمحق بركة العمر، فإذا أعرض العبد عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غب إضاعتها يوم يقول: ياليتني قدمت لحياتي فعمر الإنسان هو مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه وذكره وإيثار مرضاته.
ومن آثار المعاصي أنها تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً حتى يصعب على العبد مفارقتها، قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها، فتسكن نفسه وتقر عينه، ولو عطل العاصي المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه حتى يعاودها، حتى أن كثيراً من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ولا داعية إليها إلا لما يجد من ألم مفارقتها.
عباد الله: فلنفتح على أنفسنا أبواب الطاعات فلا يزال العبد يعاني الطاعة ويجاهد عليها حتى يألفها ويحبها حتى يرسل الله برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزاً وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها.
ومن آثار المعاصي: أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه قال : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون)).
ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث من الأمم التي أهلكها الله عز وجل ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، فتورثه المعصية الذل ولابد، فإن العز كل العز في طاعة الله من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً أي فليطلبها بطاعة الله، ومن دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك، وقال الحسن: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين كما قال بعض السلف في قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الحسن: هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، لأن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زاد غلب الصدأ حتى يصير راناً ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومنها: أن الذنوب تدخل صاحبها تحت لعنة الرسول فإنه لعن على معاصي كثيرة.
ومنها: حرمان دعوة الرسول ودعوة الملائكة، فإن الله أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
ومنها: أن المعاصي سبب للفساد في الأرض في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون والمراد بالفساد الذنوب وموجباتها، وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة.
ومنها: أن المعصية تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، ولهذا كان النبي أغير الخلق على الأمة والله سبحانه أشد غيرة منه قال : ((أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه والله أغير مني)) [رواه البخاري ومسلم]. ومن استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من الله تعالى من معصيته لم يستح الله من عقوبته.
ومنها أن المعاصي تسقط الجاه والكرامة، وتسلب أسماء المدح والشرف، وتكسوه الذم والصغار، فتسلبه إسم المؤمن والبر والمحسن والتقي والمطيع والمنيب والولي والمصلح والعابد والأواب والطيب وغيرها، وتكسوه اسم الفاجر العاصي والمسيئ واللوطي والزاني وشارب الخمر والسارق والقاتل والخائن والكذاب والغادر والعاق وقاطع الرحم، فهذه أسماء الفسوق، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، التي توجب غضب الديان ودخول النيران وعيش الخزي والهوان.
أيها المسلمون: هذا قليل من كثير من آثار المعاصي ونتائجها، فيامن تعصي ربك عالماً ذاكراً مختاراً ماذا تريد؟ هل تريد العذاب والغضب؟ وهل تظن أن الحساب على غيرك وأنت متروك؟ أم هل أنت في شك من الوعيد؟ ولماذا التسويف هل ستعلم كم أيامك القادمة لتتوب في آخرها؟ أم هل غرتك صحتك وإمهال الله لك؟ أجب عن هذه الأسئلة؟ فلماذا يظلم العبد نفسه ويعصي خالقه ومولاه ويطيع عدوه؟ وماذا ينتظر العاصي وهو مقيم على غيه وضلاله وغفلته وإعراضه؟ أي شيء يريد وماذا ينتظر؟ وهو يعلم أن الله غاضب عليه ويتوعده ويهدده إنه من يأت ربه مجرماً فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحي وماذا أنتظر - وقد ضيعت أيامي باللهو والتفريط والميل - إذا دنى مني أجلي! فهل من توبة قبل الموت؟ وهل من رجوع إلى الله قبل فوات؟ الأوان وهل من يقظة لإعادة المحاسبة؟
فيامن تعصي ربك مهما كانت معصيتك صغيرة أم كبيرة ضع خد ضراعتك وذلك وانكسارك على عتبة سيدك ومولاك، فكم من معصية ساقت العبد إلى مولاه، فرجع إليه منكساً رأسه، حزيناً على تفريطه في جنب الله، نادماً منكسراً، وأشهدته تلك المعصية فقره وضرورته إلى حفظ سيده الرؤوف الرحيم إلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه أن يشمخ به أو يتكبر أو يرى نفسه خيراً من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخاطئين المذنبين مستحياً خائفاً منه محتقراً لطاعته مستعظماً لمعصيته عرف نفسه بالنقص والذم، وعرف ربه بالتفرد والكمال والفضل والحمد، فإن الذنب مهما صغر فإنه قبيح في مقابلة العظيم سبحانه الذي لا شيء أعظم منه، الجليل الذي لا أجل منه، المنعم بجميع النعم دقيقها وجليلها، فإن مقابلة الله بالمعاصي تعد من أقبح الأمور وأفظعها وأبشعها.
(1/1031)
الشكر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
22/6/1415
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعم الله تعالى وفضله على الناس 2- تذكير الناس بوجوب شكر الله تعالى على
هذه النعم 3- الشكر لا بد أن يقوم على ثلاثة أركان : الشكر باللسان والقلب والجوارح
4- أسباب الغفلة عن النعم 5- مراتب الشكر على درجتين واجب ومستحب
6- ذِكر أنواع من النعم يَغفل عنها بعض الناس
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: كم لله علينا من نعمة، وكم لله علينا من فضل ومنة، وكم هي ألطاف الله ورحمته فينا، فيد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وخزائنه سبحانه وبركاته لا تعد ولا تحصى، قال : قال الله عز وجل: ((يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) [رواه مسلم].
أيها المسلمون: إن الشكر ضرورة شرعية وعبادة لله من أعظم القربات والطاعات فيحتاج المسلم إلى:
الأول: الشكر والاعتراف باللسان والنطق بها وذكرها ونسبتها إلى الله وما بكم من نعمة فمن الله.
الثاني: الإعتقاد بالقلب والصدق في ذلك بأن الله هو مسدي النعم وواهبها.
الثالث: استعمال النعم في طاعة الله وبذلها فيما يرضيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((على كل مسلم صدقة قالوا: فإن لم يجد قال: فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق. قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل قال: يعين ذا الحاجة الملهوف قالوا: فإن لم يفعل قال: فليأمر بالمعروف قالوا: فإن لم يفعل ، قال : فليمسك عن الشر فإنه صدقة)) [رواه البخاري ومسلم].
وخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: ((خلق الله ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن ذكر الله وحمد الله وهلل الله وسبح لله وعزل حجراً عن طريق المسلمين أو عزل شوكة أو عزل عظماً أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامي أمسى من يومه وقد زحزح نفسه من النار)) [رواه مسلم]. فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه ليكون ذلك شكراً لهذه النعمة قال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون وقال سبحانه وتعالى: ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين قال مجاهد: (هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر) وعن يونس بن عبيد أن رجلاً شكا إليه ضيق حاله فقال له يونس: (أيسرك أن لك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف درهم؟ قال: لا قال فبيدك مائة ألف درهم قال: لا، قال: فرجليك قال: لا، قال: فذكره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئتين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة).
وعن بكر المزني قال: يا إبن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك ، كم من نعمة الله في عرق ساكن، لوشاء الله أن يحركه حركه، فأزعج صاحبه.
فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة ويطالب بها كما قال تعالى: ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم وخرج الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم فيقال له: ألم نصلح لك جسمك ونرويك من الماء البارد)) وعن وهيب بن منبه بإسناده قال عَبَدالله عابد خمسين عاماً فأوحى الله عز وجل: إني قد غفرت لك. قال: يا رب وما تغفر لي ولم أذنب، فأذن الله عز وجل لعرق في عنقه فضرب عليه، فلم ينم ولم يصل، ثم سكن وقام، فأتاه ملك فشكا إليه ما لقي من ضربات العرق، فقال الملك: إن ربك عز وجل يقول : عبادتك خمسين سنة لم تعدل سكون ذلك العرق.
فالله سبحانه هو صاحب الفضل أولاً وآخراً فهو الذي يمن بالنعمة ويهبها ثم يمن على من يشاء بالشكر والحمد.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وأن طالت الأيام واتصل العمر
فهو سبحانه يبذل نعمة لعباده ويطلب منهم الثناء بها وذكرها والحمد عليها، وهو غير محتاج إلى شكرهم لكنه يحب ذلك من عباده.
والغفلة عن النعم لها أسباب منها: الجهل بعظيم النعمة التي تعم الخلق، فالجاهل لا يعد الهواء والصحة مثلاً نعمة لأن نعمة ويصم غيره، فإذا ابتلي أحد بشيء سلب منه ثم عادت إليه الصحة أعتبر ذلك نعمة يشكر الله عليها، وهذا غاية الجهل لأنه جعل الشكر موقوفاً على سلب النعمة ثم ردها، لأن النعم في جميع الأحوال اولى بالشكر، فلا ترى البصير يشكر صحة البصر إلا إذا عمى، فمثل هذا مثل عبد السوء يضرب دائماً، فإذا ترك ضربه ساعة شكر واعتبر ذلك منّة، وإن ترك ضربه أصلاً غلبه البطر وترك الشكر.
دخل ابن السماك على هارون الرشيد في عظة فبكى ثم دعا بماء في قدح فقال: يا أمير المؤمنين لو مُنعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها، أكنت تفديها بها؟ قال: نعم، قال: فأشرب رياً بارك الله فيك. فلما شرب قال له: يا أمير المؤمنين أرأيت لو منعت إخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتدي ذلك؟ قال: نعم. فقال له: عما تصنع بشيء شربة ماء خير منه؟.
فمن نعم الله علينا الخُلُق فإن ما من عبد إلا ويرى في غيره عيوباً يكرهها وأخلاقاً يذمها ويرى نفسه برئياً منها، فينبغي أن يشكر الله تعالى على ذلك حيث أحسن خلقه وابتلى غيره، ومن نعم الله أنه مامن أحد إلا وهو يعرف من مواطن أمور نفسه وخفاياها الكثير من القبائح، ولو كشف الغطاء عنه واطلع عليه أحد من الخلق لأفتضح، فكيف لو أطلع الناس جميعهم عليها، فلم لا نشكر الله بستره الجميل على مساوينا حيث أظهر الجميل وستر القبيح، فاحمد الله يا عبد الله فأنت تسبح في نعم الله، وأشكره أن جعلك مؤمناً لا كافراً، وحياً لا جماداً، وإنساناً لا بهيماً، وذكر لا انثى، وصحيحاً لا مريضاً، وسليما لا معيباً، قال : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) [رواه مسلم]. إن من فتش عن نفسه وما خصه الله به وجد الله تعالى عليه نعماً كثيرة لاسيما من خص بالإيمان والقرآن والسنة ثم الفراغ والصحة والأمن وغيرها.
عباد الله: اعلموا أن الشكر على درجتين إحداهما شكر واجب، وهو أن يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات، فهذا لابد منه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((يصبح على كل سلامي أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتا الضحى يركعهما)) [رواه مسلم]. فما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله عز وجل فيجب على العبد الشكر على ذلك والحمد لله.
الدرجة الثانية: الشكر المستحب وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات، وهذه درجة السابقين المقربين، فهذا رسول الله كان يجتهد في الصلاة ويقوم حتى تتفطر قدماه، فإذا قيل له: لم تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيقول: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) [رواه مسلم].
اللهم اجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا ظلم غفر، وإذا ظلم ذكر فاستغفر، اللهم أعطيتنا نعمك ونحن بكل شر، وأصبحنا وأمسينا بكل خير نسألك شكرها لا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك إله الصالحين ورب العالمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المنان صاحب الجود والفضل والإمتنان واسع العطاء والإحسان الذي بحر جوده لا ينفد، وجميل هباته لا تنقضي، الذي وسعت رحمته كل شيء، فسبحانه من إله كريم منان لطيف وهاب رؤوف رحيم ودود يحب شكر عباده وتوبتهم وطاعتهم، وهو الغني الحميد.
ذكر ابن ابي الدنيا أن داود عليه السلام قال: يا رب ما أدنى نعمك علي فأوحى الله إليه: يا داود تنفس. فتنفس. قال: هذا أدنى نعمي عليك. وعن أبن عباس قال قال : ((إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم)) وفي الصحيح أن النبي قال: ((لن ينجي أحد منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)).
عباد الله: إن أعمال العبد لا توافى نعمة واحدة من نعم الله عليه. إن ابن آدم بين نعمة وذنب، ولا تصح النعمة إلا بالحمد والشكر ولا يصلح الذنب إلا بالتوبة والإستغفار، قال عبدالعزيز بن أبي داود: رأيت في يد محمد بن واسع قرصة، فكأنه رأى ما شق علي منها فقال لي: أتدري ماذا الله علي في هذه القرصة من نعمة حين لم يجعلها في حدقي ولا طرف لساني ولا على طرف ذكري فهانت علي قرصته، قال إبن القيم رحمه الله: (لله تبارك وتعالى على عبده نوعان من الحقوق لا ينفك عنهما أحدهما: أمره ونهيه اللذان هما يحصن حقه عليه، والثاني شكر نعمة التي أنعم بها عليه. وقال رحمه الله: وأما شهود النعمة فإنه لا يدع له رؤية حسنة من حسناته أصلاً، ولو عمل أعمال الثقلين، ولا يزال مزرياً على نفسه ذاماً لها، وما أقربه من الرحمة إذا أعطي هذين المهتدين حقهما (مشهد النعمة ومشهد القيام بالواجب وترك المحرم) ولله الميقات.
عباد الله: كم لله علينا من نعمة يجب علينا أن نؤدي شكرها، إن القلوب غافلة عن شكر نعم الله، وعلاجها بأن تتأمل وتستحضر أصناف نعم الله عز وجل الظاهرة والباطنة وفي أنفسكم أفلا تبصرون وأن نشاهد المرض والمشتكين ثم نتأمل ما نحن فيه من صحة وسلامة ونشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أيديهم وأرجلهم وهم يعذبون، فتشكر الله على سلامته من تلك العقوبات وأن نحضر إلى المقابر فنعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا، ليتدارك من عصا عصيانه وليزيد في الطاعة من أطاع، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فإن من شاهد المقابر وعلم أحب الأشياء إليهم صرف بقية عمره في طاعة الله وشكره في الإمهال، فيصرف العمر في ما خلق من أجله قال الله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون.
أيها المسلمون: إن الشكر ليس هو كلمة تقال باللسان وكفى لا ، وإنما لا بد أن يستقيم العبد على طاعة الله وينتهي عن معصيته، فأين الغارق في شهواته المحرمة عن الشكر لربه يمده بالنعم والصحة في بدنه وسمعه وبصره ويديه ورجليه وعقله ومأكله ومشربه وقوته، وفي كل حركة من حركاته وسكنة من سكناته، وفي كل خلية من خلايا جسمه ونبضة من نبضات عروقه وقطرات دمه وراحته النفسية ومقته وسروره، فكيف من كان هذا حاله من فقره لربه وحاجته لمولاه وأنه الضعيف الحقير المسكين الذي لايتحمل أدنى مرض ولا أقل مصيبة، فكيف يبارز به بالمعاصي والمنكرات، وكيف يغفل عن نفسه وما بها من منن الله، وكيف يضحك ويلهو وهو يعرض نفسه لوعيد الله وأليم عقابه، وكيف يمتد في الخطايا ويسعى إليها عالماً بها يتقوى بنعم الله على الظلم والمعصية والبغي والعدوان، وكيف يغفل عن نعمة اللسان ويقول فيه الزور والغيبة والنميمة وقول السوء، وكيف ينسى نعمة اليدين ويستعملها في الحرام ويمس بها الحرام، وكيف لا يتذكر المعوقين وهو يمشي برجلين لكل ما يريد صحيحاً، يسعى برجليه إلى المنكر، وكيف نلهو عن الحبيبتين: العينين وتنظر بهما إلى الصور والأفلام وما حرم الله، وكيف لا نتذكر الأصم الذي لا يسمع ولا يعلم أحوال الناس في هذه الحياة ثم نستمع بالأذنين إلى الغناء وفاحش القول وعورات المسلمين.
وتذكر مثل ذلك أيها المسلم في كل نعمة فيك وكل جارحة وهبها الله أياك تذكر جيداً أنه ما نجى إلا من حاسب نفسه وعرف قدر نعمة الله عليه وتذكر أنه لن يحاسب أحد عن أحد وتذكر أن الأماني لا تفيد شيئاً إلا إذا أتبعناها بالعمل. رأى الحسن رحمه الله رجلاً يتبختر في مشيته فقال: لله في كل عضو منه نعمة.
اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك.
أيها المسلمون: إنها غفلة كبيرة عن أداء شكر الله على نعمه، قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله بلية. لنتذكر العظيمتين الجنة والنار فلا ندري إلى أيتهما نصير، قال موسى عليه الصلاة والسلام يوم الطور : ((يارب إن أنا صليت فمن قبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك، فكيف أشكرك؟ قال: الآن شكرتني)) عن عبدالله بن غنام قال عن النبي أنه قال حين يصبح: ((اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فلقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قالها حين يمسي أدى شكر تلك الليلة)) ، ذكر إبن أبي الدنيا أن محارب به وثار كان يقوم بالليل ويرفع صوته أحياناً: أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد وأنا... وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي رددته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا السائل الذي أعطيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً، وقال الشاعر:
قليل الحياء لمولاه ما عشق في الحشاء ولولاه ما جنت عليه المراضع
(1/1032)
الفرج بعد الشدة
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الفتن, القصص
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلُّب أحوال الدنيا بأهلها من سَرّاء إلى ضَرّاء ومن ضراء إلى سراء 2- بعض القصص
الدالة على الفرج بعد الشدة ومنها قصة أيوب ويونس عليهما السلام
3- علاج المحن والمصائب 4- بعض ثمرات البلاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه وخوف الله ورجائه ومحبته وكثرة ذكره والإنابة إليه.
أيها الإخوة: إن الإنسان في هذه الحياة متقلب بين الصحة والمرض، والسعادة والحزن، والغنى والفقر، والسفر والإقامة، والخوف والأمن، والجوع والشبع، وبين الخير والشر، والنفع والضر، والمسلم الحق هو الذي يميز بين ما ينفعه وما يضره في دنيا وآخراه، ومن تلك المراحل حصول الشك والضيق والمحنة والبلاء التي يقابلها المؤمن بالصبر والدعاء والرضا بقضاء الله وقدره، وقد جعل الله حكمته البالغة وتدبيره الحكيم، فمن حكمة الله أن جعل بعد العسر يسراً، وبعد الكرب والضيق الفرج والتنفيس قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه وهذا نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام حصل له من البلاء والأسقام والفقر وموت الأولاد ثم فرج الله عنه فعافاه الله وشفاه، ورزقه ورد عليه المال والولد، قال تعالى: وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين وقد كان أيوب رجلاً كثير المال من سائر صنوفه: من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة، وكان له أولاد وأهلون، فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جسده بأنواع البلاء من الأمراض، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل في ليله ونهاره في صباحه ومسائه، عن أنس أن النبي قال: ((إن نبي الله أيوب لبث ببلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحانه فقال أحدهما لصحابه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له قال أيوب: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق، قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضى حاجته أمسكته إمرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فأستبطأته فتلقته تنظر وقد اقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، والله على ذلك ما رأيت أشبه منك إذ كان صحيحاً، فقال: إني أنا هو. وكان له أندران (بيدران) أندر للقمم وأندر للسفر، فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر الفم أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر السفر الورق حتى فاض)) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه رجل جراد من ذهب فجعل يحث في ثوبه فنادى ربه: أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يارب ولكن لاغنى لي عن بركتك)) قال تعالى: وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين قال ابن عباس: رد الله عليه ذريته بأعيانهم، وقيل عوضه الله عنهم فحملت زوجته وولدت له عدد الذرية الأولى رحمة من عندنا أي فعلنا به ذلك رحمة من الله وذكرى للعابدين، وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وإبتلائه لعباده بما يشاء الله، ولله الحكمة البالغة قال النبي : ((أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه)).
أيها الإخوة: ومن ذلك ما قصه الله علينا من قصة يونس نبي الله، فقد بعث الله يونس صلى الله عليه وسلم إلى أهل قرية من أرض الموصل بالعراق، فدعاهم إلى الله تعالى فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم وفرقوا بين الأمهات وأولادها ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا الله ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب، وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم، فخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام فأبوا أن يلقوه ثم أعادوها فوقعت عليه ثلاث مرات، فقام يونس عليه السلام يجر ثيابه ثم ألقى نفسه في البحر وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر حوتاً يشق البحار حتى جاء فألتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لاتأكل له لحماً ولاتهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً، وإنما بطنك تكون له سجناً، فانتهى به الحوت إلى أسفل البحر فسمع يونس حساً فقال: ما هذا؟ فأوحى الله إليه: إن هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة. قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته بطن الحوت في البحر، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، قال: فشفعوا له عند ذلك، فأمر الحوت فقذفه في الساحل، فنبذ بالعراء وهو سقيم، وقد دعا يونس وهو في بطن الحوت فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش فقالت الملائكة: صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال: أما تعرفون ذاك قالوا: يارب ومن هو؟ قال: عبدي، يونس. قالوا: أعبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة. قالوا: يارب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء؟ قال: بلى فأمر الحوت فطرح في العراء، قال النبي : ((دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين إنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له)) نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وإتباع سنة نبيه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر على تفضله وإمتنانه، المتفضل الشكور الغني الحميد المولي الرحيم اللطيف الودود السميع المجيب يجيب دعاء المضطرين ويكشف هم المكروبين وينفس ضيق المهمومين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الشاكر الصابر على البلاء والأذى والهم والأسى قال تعالى: فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً عن الحسن قال خرج النبي يوماً مسروراً فرحاً وهو يضحك ويقول: ((لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين، فإن مع العسر يسراً، إن مع السر يسراً)) رواه ابن جرير، وجاء مالك الأبخص إلى رسول الله فقال له: أسر ابني عوف فقال له رسول الله: ((أرسل إليه أن رسول الله يأمرك بأن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله)) وكانوا قد قد شدوه بالقد فسقط القد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل، فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم، فأتبع أولها آخرها فلم يفجأ أبويه إلا ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف ورب الكعبة. فقالت أمه: اسوأتاه، وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد؟ فأستبقا الباب والخادم فإذا هو عوف قد ملأ الفناء إبلاً، فقص على أبيه أمره وأمر الأبل، فقال أبوه: حتى آتي رسول الله فأسأله عنها فأتى رسول الله، فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل فقال له رسول الله : ((اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك)) ونزل قوله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً وروى ابن عساكر عن رجل اسمه أبو بكر محمد بن داود قال هذا الرجل: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق فقال لي: خذ هذه الطريق فإنها أقرب، فقلت: لا خبرة لي فيها؟ فقال: بل هي أقرب فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثير فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل ووشمر وجمع ثيابه وسل سكيناً معه، وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني، فناشدته الله، وقلت: خذ البغل بما عليه. فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوفته الله والعقوبة، وقلت: إن رأيت إن تتركني حتى أصلي ركعتين. فقال: وعجل. فقمت أصلي فارتج علي القرآن، فلم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه أفرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وفي يده حربة، فرمى بها الرجل فما أخطأت قلبه، فخر صريعاً، فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال تعالى: أليس الله بكاف عبده وقال النبي : ((وأعلم أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [رواه أحمد].
أيها الإخوة: ومن لطائف أسرار إقتران الفرج بالكرب أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل.
ومن علامات المحن والمصائب الإسترجاع بأن تقول إنا الله وإنا إليه راجعون، وأن تعلم إن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن نظر المصاب إلى نعم الله، وأن الله أعطاه أعظم وأكثر مما أصابه به، وأن تعلم أن الجزع لا يزيل المصيبة ولا يبردها، وأن الذي يبردها الصبر والاحتساب، فتحصل السكينة القلبية والرضى، وقد كان رسول الله يقول عند الكرب: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا اله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم))، وقال : ((دعوات الكروب: اللهم رحمتك أرجو فلاتكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت)).
ومن علاج المصائب التوبة النصوح، فإنه ما أنزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، ومنها: الإحسان إلى الناس وقضاء حوائجهم ورحمة صغيرهم وكبيرهم، فإن من أحسن إلى الناس أحسن الله إليه، ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومنها: الإكثار من قراءة القرآن وذكر الله مما يسبب تعلق القلب بالله وكثرة دعائه ومناجاته والضراعة بين يديه، ومن ذلك: أن تقول في دعائك: ياحي ياقيوم برحمتك أستغيث، وأن يتذكر العبد أن الله عز وجل يبتلي العبد وهو يحبه، وقد يطيل الله عليه البلاء ليسمع الله تضرعه وإلحاحه وزيادة طلبه من ربه، ليستخرج الله منه حقيقة العبودية، وهي الذل والإنكسار وإظهار المسكنة والضعف بين يدي الله والإدبار عن المخلوقين بيحث لايسألهم ولا يرجوهم، وليتذكر العبد الفقير المحتاج الغريب المصاب أنه ربما كانت النعمة والصحة والأنس سبب لنسيان الله وسبب للفسوق والعصيان والأشر والبطر والمحن وتأديب من الله والأدب لا يدوم، فطوبى لمن صبر على التأدب، وليتذكر المصاب بأن فرج الله قريب وإنها سحابة عما قريب، تزول، وما بعد الشدة والضيقة إلا الفرج القريب.
(1/1033)
القضاء والقدر
الإيمان
القضاء والقدر
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
8/3/1417
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذِكر أركان الإيمان ومعنى الإيمان بالقدر 2- الله تعالى هو الذي خلق الأسباب والمُسبِّبات
وأن على الإنسان التعلّق بخالق الأسباب لا بالأسباب 3- أثر الإيمان بالقدر على أهل البلاء
4- أركان القضاء والقدر الأربعة ومعناها 5- فوائد الإيمان بالقدر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل والحذر من سخطه وأليم عقابه.
أيها المسلمون: اعلموا أن أصول الإيمان ستة وهي أركانه التي لايتم إيمان العبد إلا بها، ومن جحد واحداً منها فهو مشرك كافر، وهذه الأركان هي أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
وحديثنا اليوم عن الإيمان بالقضاء والقدر، وهو أن تعلم أن الله خلق كل شيء بقدر، وأن ما من شيء إلا قدره الله وكتبه في اللوح المحفوظ وفق حكمته ومشيئته النافذة وإرادته سبحانه وقال تعالى: إنا كل شئ خلقناه بقدر وقد كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فما يصيب العباد والبلاد والكون والنفوس والحيوان والشجر والجمادات وكل شيء في هذا الوجود وما سوف يصيبها إلا بعد تقدير الله وقضائه، فما أصابك لم يكن ليخطئك ولوحماك سكان السموات والأرض كلهم جميعاً، وما أخطأك لايمكن أن يصيبك ولو اجتمع عليك جميع الخلق لأن قدر الله لا مفر منه مهما كانت الأسباب قال الرسول لابن عباس، والخطاب لجميع الأمة ((واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لا يضرونك إلا بشئ قد كتبه الله عليك)) [رواه الترمذي].
أيها المسلم: كن على بصيرة من دينك، وأعظم البصيرة ماكان في أمر عقيدتك، واعلم أن من حكمة الله أن جعل الأسباب والمسببات وقرن الأشياء بنتائجها، فالمال سببه السعي والكد، فالله عز وجل هو الذي هيأ الأسباب وقضاها ليسلكها العباد حتى تحصل لهم المسببات والنتائج، وفي هذا حكمة عظيمة لله لتكون الأسباب موصلة إلى النتائج، ففيها العبرة، وفيها الدليل على نعمة الله بما يسره من أسباب لإدراك المطلوب وسلوك السبل الشرعية والسبل المتاحة النافعة لتحقيق أمور الدنيا والآخرة.
ويجب على المسلم أن يتفطن لأمر مهم غفل عنه كثير من المسلمين ألا وهو وجوب التعلق بالله وقطع النظر عمن سواه وعدم التعلق بالأسباب مع وجوب استعمالها والأخذ بها، فالله عز وجل بيده كل شيء فهو مقدر الأسباب والمسببات، فلا راد لحكمه ولا معقب لأمره، فإن العلاج سبب للشفاء فلا تعلق قلبك بالطبيب ولا بالدواء، ولكن علق قلبك بالله، فهو سبحانه الذي إذا أراد شفاك بسبب علاج يسره لك، أو أراد شفاك بدون علاج، فإنه قادر، قال تعالى: وإذا مرضت فهو يشفين وإذا فاتك شيء من رزق أو شيء تتمناه فلم تحصل عليه فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإنه لم يقدره الله، فلو قدره الله لحصل لك ولابد, وكلمة: لو تفتح عمل الشيطان قال الرسول : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، وإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [ مسلم].
أيها المسلمون: وإذا أصيب العبد بمصيبة في جسمه بمرض أو مال أو ولد أو موت قريب، فليحمد الله وليصبر وليحتسب وليرجع إلى ربه، فإن الله هو الذي قدرها وشاءها فيجب على العبد الصبر، فحينئذ ينشرح صدر المصاب ويطمئن ويسكن قلبه، وهو مع ذلك يؤجر أجراً كبيراً، قال تعالى: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ، وقال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، وإذا لم يصبر المصاب على المصيبة فإنه يتحسر ويشقى وتزداد مصيبته ويخشى عليه أن يتسخط على القدر ويعترض على تقدير الله فيقع في محذور عظيم، في المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت له: في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار.
اللهم اشرح صدورنا للإسلام، ونور قلوبنا بالإيمان واجعلنا من الراشدين ومن الراضين بقدرك حلوه ومره خيره وشره، وثبت قلوبنا على دينك، وصرفها على طاعتك.
عباد الله: واستغفروا الله واذكروه وادعوه يذكركم ويستجيب لكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الحكيم العليم الذي بيده الأمر كله الذي يقول للشيء: كن فيكون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: ((رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً)).
أيها الإخوة: ولا بد في باب القضاء والقدر أن تؤمنوا بأركانه الأربعة، وهي العلم والكتاب والمشيئة والخلق.
والمقصود بالعلم أن تؤمنوا أن الله بكل شيء عليم فلا يخفى على الله مثقال ذرة في السموات والأرض، فيعلم سبحانه ماذا عمل العباد وماذا سيعملون، ويعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون.
والمقصود بالكتاب أن الله كتب في اللوح المحفوظ عنده مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض، فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة.
والمقصود بالمشيئة أن تؤمن بمشيئة الله العامة وإرادته الكاملة فما شاءه الله كان ولابد ومالم يشأ الله فلا يكون أبداً ولايحدث شيء كبير ولاصغير إلا بمشيئة الله وإراداته تحت سمعه وبصره وقدرته فييسر أسبابه قال تعالى: وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
والمقصود بالخلق، أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومليكه وأن كلاً ميسر لما خلق له، وأن الله خالق العباد وأعمالهم قال تعالى: والله خلقكم وما تعملون ، وأن الله خالق الأسباب والمسببات وقرن النتائج بأسبابها وجعلها نتيجة لها، وعلم عباده تلك الأسباب ليتوصلوا إلى نتائجها فيدركوا مطلوبهم وليتذكروا نعمة الله عليهم.
أيها المسلمون: ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر أن الإيمان به هو من الإيمان بالله والرضا به رباً سبحانه، لأن توحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله، ومقادير الخلائق من أفعال الله.
ومن الفوائد أن الرضا بالقضاء والقدر يوجب صدق الإعتماد على الله عز وجل بأن يتوكل العبد على ربه ويعلم أن الأمر من عند الله، وكله بقضائه وقدره فلا يتعلق بالمخلوقين ولا يرجوهم ولا يخافهم ولا يسترزقهم والخليل عليه السلام يقول: فابتغوا عند الله الرزق، وفي السماء رزقكم وما توعدون فإذا صح إيمان العبد فلا يكذب ولا يغضب ربه من أجل المال أو متاع هذه الدنيا الرخيص الفاني، وإذا صدق العبد في توكله على ربه لم يخف من المخلوقين لأنهم لا يملكون له خيراً ولا نفعاً ولا قوتاً ولا حياة، قال علي بن أبي طالب :
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
عباد الله: ومن فوائد الإيمان بالقضاء والقدر دخول الطمأنينة والسكينة في القلب وانشراح الصدر باستقبال ما أصابك، فكله من الله، فحينئذ لا تكدر المؤمن الهموم والأحزان والحسرات والشكوى للمخلوقين، فيظل المؤمن مرتبط القلب بربه راضياً بقضائه وقدره مستيقناً أن اختيار الله له أفضل مما أختاره لنفسه، فيرضى المؤمن بالمصائب دون المعائب، فالمعاصي والفسوق لا يرضاها بل يجب محاربتها والإبتعاد عنها قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
ومن الفوائد أن العبد لا يعجب بعمله الصالح ولابما يقوم به من طاعات وقربات فلا ينسب الفضل لنفسه، ويتعاظم ويحتقر من هو دونه، بل ينسب الفضل كله لله، فإن الله سبحانه هو الموفق لذلك، وهو المعين، فكل ما صدر من العبد، فهو من الله قال تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله.
ومن الفوائد أن يبشر المؤمن بالخير والحياة الرضية الطيبة في الدنيا والآخرة إذا صدق مع ربه في نياته وأقواله وأفعاله، وليطمئن أنه سيجد أمامه ما قدمت يداه، وأن الله لايظلم مثقال ذرة وأنه يجازي على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وأن الله يقبل توبة من تاب وأناب إليه صادقاً في توبته يريد رضاء ربه والوصول إلى جنته، قال تعالى: للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
(1/1034)
المستجيبون لله ورسوله
التوحيد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, شروط التوحيد
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
16/6/1418
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض المواقف لصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم التي تدلّ على استجابتهم لله ورسوله 2- ما أعده الله للمستجيبين لله ورسوله
يوم القيامة 3- واقع بعض المسلمين اليوم من الإعراض عن طاعة ربهم جلّ وعلا
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: اتقوا ربكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب، وتداركوا بقية العمر فإن عمر الإنسان هو حياته ووقت اختباره ليكون من الفائزين الناجين أو من الخاسرين الهالكين.
أيها الأخوة: حديثنا اليوم عن وقفات مع المستجيبين لله ولرسوله المنقادين لطاعة ربهم والمسارعين إلى مرضاته، فلقد كانت حياتهم موقوفة على السمع والطاعة والإقبال على ربهم فكانوا جنوداً مخلصين وقائمين عند حدود الله امتثالاً لقول الله عز وجل: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا.
فها هي بعض مواقف الاستجابة لله ورسوله لعل فيها عظة وعبرة فلقد قال رسول الله يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه)) فدعا رسول الله علي بن أبي طالب فأعطاها إياه وقال: ((أحسن ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك)) فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)). فانظر أيها المسلم كيف طبق علي بن أبي طالب أمر الرسول لما قال له: ((ولا تلتفت)) ، فلما ناداه لم يتلفت وأجابه.
وعن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)) قال عبدالله بن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله قال ذلك إلا وعندي وصيتي.
ولما رأى النبي خاتماً من ذهب في يد رجل نزعه وطرحه فقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله : خذ خاتمك فانتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله.
وهذا عبدالله بن رواحة دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول: ((اجلسوا)). فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ من خطبته، فبلغ ذلك النبي فقال: ((زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله)).
فانظروا أيها الإخوة: فبمجرد أن سمع الصحابي الأمر بالجلوس وهو لم يعلم من المقصود جلس قبل أن يدخل المسجد.
واسمعوا إلى هذه القصة لهذه الفتاة، فلقد كان الصحابي جُليبيب رجلاً قصيراً دميماً فخطب له رسول الله امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال الأنصاري: حتى استأمر أمها فقال النبي : ((فنعم إذاً)) ، فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر لها ذلك، فقالت: لا ها الله إذاً، ما وجد رسول الله إلا جليبيباً، وقد منعناها من فلان وفلان، وكانت الجارية في خدرها تسمع هذا الكلام، فلما أراد أبوها أن يذهب ليخبر رسول الله بما قالت أمها قالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله أمره، ثم تلت قول الله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ثم قالت: إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه، فكأنها جلّت عن أبويها وفرجت عنهما، وقالا: صدقت، فذهب أبوها إلى رسول الله فقال له: إن كنت رضيته فقد رضيناه، قال: فإني رضيته، فتزوجها فدعى لهما رسول الله وقال: ((اللهم صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً)).
فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالاً.
وكان النبي في مغزى له فأفاء الله عليه فقال لأصحابه: ((هل تفقدون أحداً؟)) قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً فاطلبوه، فطلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فأتى النبي فوقف عليه فقال: قتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، ووضعه على ساعديه، ليس له إلا ساعدا النبي فقال: فحفر له ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً.
وعن عبد الله بن عمر قال: بينما نحن مع رسول الله إذ قال رجل من القوم: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً، فقال رسول الله : ((من القائل كلمة كذا وكذا)) ، قال رجل من القوم: أنا يارسول الله قال: ((عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء)) قال ابن عمر فما تركتهم منذ سمعت رسول الله يقول ذلك.
وأتت امرأة النبي ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فقال لها النبي: ((أتعطين زكاة هذا؟)) ، قالت: لا، قال: ((أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار)) ، قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي وقالت: هما لله ورسوله.
وانتزعت فاطمة بنت النبي سلسلة في عنقها من ذهب قالت هذه أهداها إلي أبو حسن فدخل رسول الله والسلسلة في يدها فقال: يافاطمة أيغرك أن يقول الناس: ابنة رسول الله، وفي يدك سلسلة من نار، ثم خرج ولم يقعد، فأرسلت فاطمة بالسلسلة إلى السوق فباعتها، واشترت بثمنها غلاماً، فأعتقته، فحدث بذلك النبي فقال: ((الحمد لله الذي أنجى فاطمة من النار)).
أيها الأخوة: وهكذا نجد أن الصحابة يتبعون العلم بالعمل فيطبقوه مبادرين راضين ولم يتبعوا أهواءهم وشهوات نفوسهم للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد.
عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله يقول هذه الآية، وإن أحب أموالي بيرحاء، وإنها صدقة لله ، وأرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله : ((بخ ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فوضعها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه.
وعن عبدالله قال: لما نزلت من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً قال أبو الدحداح: يا رسول الله إن الله يريد منا القرض قال: ((نعم يا أبا الدحداح)) قال: أرني يدك، قال: فناوله يده، قال: قد أقرضت حائطي، وحائطه فيه ستمائة نخلة، فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه، فنادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي.
وقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى على أبي الدحداح وقال: ((كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وإمتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أيها الإخوة: لقد رأينا كيف كانت أحوال الصحابة في المبادرة والامتثال والسمع والطاعة لله ورسوله، وقد وعد الله المستجيبين له بالرضوان والجنان فقال تعالى: ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد
والسؤال المهم والكبير: لماذا نشاهد بعض المسلمين يعرفون ما حرم الله ولا يجتنبونه ويقيمون على المعصية راضين مرتاحين لم يستشعروا الخوف من الله، ولم يتفطنوا لوعيد الله وأليم عقابه، ولم يقتلهم غضب الله عليهم، فأين الامتثال والصبر عما حرم الله، ثم ما بالنا نشاهد بعض المسلمين يعلمون فضائل النوافل من الصلاة والأذكار قراءة القرآن والإحسان إلى الناس والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام.
ومع ذلك تجد البعض مفرطاً كل التفريط بالأجور العظيمة من فضل الله وجوده، فكيف الغفلة عن يوم الحسرات والشدائد والويلات يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، يوم يتمنى الواحد الحسنة الواحدة، يوم يفرق المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ونحن اليوم في دار العمل ودار القبول ودار التوبة في حين أن أهل الأجداث في قبورهم مرهونين، يتمنى الواحد منهم أن يركع لله ركعة واحدة أو يتصدق بصدقة ليفتدي نفسه من عذاب الله، ولقد وقف المصطفى على أحد القبور فقال: ((من صاحب هذا القبر)) فقالوا: فلان. فقال الرسول : ((والذي نفسي بيده لركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم)).
أيها الإخوة: وإليكم قصة تبين حال الصحابة الأطهار يصفها عروة بن مسعود بعدما رجع من الحديبية فقال لقريش: أي قوم والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له.
أيها الإخوة: وهذا الصحابي سعد بن معاذ رضي الله عنه يقول عن نفسه وعن الأنصار قبل غزوة بدر: إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن يا رسول الله حيث شئت، وصل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ولئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك.
وعن جابر بن سليم أنه قال لرسول الله : اعهد إلي، قال: ((لا تسبنّ أحداً))، قال: فما سببت بعد حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة.
ولما مرض الإمام أحمد رحمه الله في مرضه الذي توفي منه كان يئن، فقيل له: إن طاووس كان يكره الأنين للمريض، فلم يئن في مرضه ذلك إلى أن توفي رحمه الله.
أيها الإخوة: كثيراً ما نعلم ونقول، ولكن القليل منا من يتبع القول بالعمل، ويطبق ما يسمع ويمتثل ما يؤمر به ويجتنب ما ينهى عنه، والذي يعلم ولا يعمل يكون قدوة سيئة وحجة للآخرين في رد الحق وعدم قبوله وعدم تأثر الناس بأقواله التي تخالف أفعاله، ومن لا يعمل بما عمل كيف يجيب ربه يوم القيامة حين يسأله ماذا عملت بما علمت؟ قال النبي : ((أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون به)).
أيها المسلمون: ومن آثار عدم العمل بالعلم شيوع المنكرات وظهور الفساد وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون: من منا يجهل أن الله بكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأنه سبحانه أعلم بالإنسان من نفسه، يعلم سره ونجواه، وكلنا يعلم أن ما نهمل إنما هو يجري في ملك الله وتحت سلطانه وقهره وسمعه وبصره؟ فلماذا يعصي العبد ربه ويستديم الإصرار على الذنب وهو يعلم أنه ذنب، ويعلم أن الله يسخط عليه، ويعلم أن الله سيحاسبه ويسأله عما جنت يداه؟ ومن منا يجهل أن الأرزاق بيد الله وحده لا شريك له، والله عنده خزائن السموات والأرض، والله وحده هو الغني وحده دون سواه، ومن سواه من المخلوقين فقير ومحتاج؟ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ((ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها)).
ونؤمن جميعاً أنه لن يستطيع أحد مهما بلغ من القوة والجبروت أن يمنع عن أحد رزقاً كتبه الله له، فلا معطي لما منع الله، ولا مانع لما أعطى الله، وقد تكفل الله بالرزق فكيف يشتكي المخلوق إلى المخلوق ويطلب منه الرزق ويشتكي إليه ويطيعه في معصية الله من أجل دراهم معدودات؟
وكيف يسكت المسلم عن الحق ويتكلم بالباطل خوفاً على الرزق، وهو من عند الله مكتوب مقسوم للإنسان من يوم أن كان مضغة في رحم أمه، قال رسول الله : ((أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم)) صحيح.
أعوذ بالله من الشيطان: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون.
(1/1035)
ثمرات الابتلاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
5/8/1415
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيّن الشيخ أن الدنيا دار أكدار لا تكاد تصفو لأحد 2- ثم بيّن ما يتسلّى به المصاب فذكر
الصبر والصلاة ومعرفة حقارة الدنيا وأنها دار بلاء وأن عليه أن يتذكر نعم الله عليه ويُكثر من
ذكر الله تعالى ويعلم أن هذا البلاء بقدر من الله 3- ثم ذكر ثمرة البلاء
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل والإستعداد في هذه الدنيا لما أمامنا والتزود والمسارعة إلى الخيرات، فلا نجاة ولا فلاح إلا لمن جاهد نفسه وراغمها وصابر، وتذوق مرارة مخالفة النفس، وصبر محتسباً راضياً بقضاء الله وقدره.
أيها المسلمون: إن هذه الدنيا هي دار المصائب والشرور وليس فيها لذةُ إلا وهي مشوبة بالكدر، فإن عمارتها وإن حسنت فهي إلى الخراب، وإقبالها إلى أدبار، فهل ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير والموجود إلا العدم.
وقيل: العجب كل العجب لمن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وقد قيل:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأكدار
ومكلف الأيام فوق طباعها متطلب في الماء جذوة نار
فتبارك الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، نجعل للذين أحسنوا الدرجات وللذين أساءوا الدركات، على ذا مضى الناس إجتماع وفرقة، ميت ومولود، وبشر أحزان، فالدنيا لاتخلوا من بلية ولاتصفو من محنة وزرية قال تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال القرطبي رحمه الله: المصيبة هي كل ما يؤذي المؤمن ويصيبه، وقد جعل الله عز وجل كلمات الإسترجاع انا لله وانا إليه راجعون جعلها ملجأً وملاذاً لذوي المصائب وعصمة للممتحنين من الشيطان لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، قال عمر بن الخطاب : (نعم العدلان ونعمت العلاوة للصابرين، ويعني بالعدلين: الصلاة والرحمة وبالعلاوة الهدى)، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ، وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما آمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها)) فلما مات ابوسلمة قلت أي المسلمين خير من ابي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسوله.
عباد الله: قال ابن القيم: ومما يتسلى به المصاب الصبر على البلوى فإن الصبر جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، وجند غالباً لا يهزم وحصن حصين لا يهزم، فالنصر والصبر أخوان شقيقان، وقد مدح الله في كتابه الصابرين فقال تعالى: انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وأخبر أنه معهم فقال: واصبروا إن الله مع الصابرين، وأخبر أن الصبر خير لأهله ولئن صبرتم لهو خيرُ للصابرين وجعل الفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون المحتسبون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون.
وعن أبي سعيد الخدري إن رسول الله قال: ((ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر))، وعن أبي هريرة إن رسول الله قال: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)).
ومما يتسلى به المصاب أن يعرف ما كان يفعله الصحابة والسلف الصالحون إذا نزلت بهم المصائب، فهذا ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فأسترجع ثم تنحى عن الطريق، فأناخ ثم صلى ركعتين، فأطال فيها الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: وأستعينوا بالصبر والصلاة ومات لرجل من السلف ولد فعزاه الناس وهو في حزن شديد حتى جاءه الفضيل بن عياض فقال: ياهذا لوكنت في سجن أنت وإبنك فأفرج عن إبنك قبلك أما كنت تفرح؟ قال: بلى، قال: فإن إبنك خرج من سجن الدنيا قبلك فسري عن الرجل.
ولما أرادوا قطع رجل عروة بن الزبير قالوا له: لو سقيناك شيئاً كي لا تنفر قال: إنما ابتلاني ليرى صبري.
ومما يتسلى المصاب عن ألم المصيبة أن يتذكر نعم الله وهي أكثر من أن تحصى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
ومن أعظم هذه النعم أن يتذكر كيف هداه الله للإسلام وجعله من أمة خير الأنام قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ثم يتذكر نعمة السمع والبصر والسلامة من العلل والآفات.
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم إن الدنيا دار بلاء وامتحان وهي سجن المؤمن وجنة الكافر، قال ابن الجوزي رحمه الله: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تخلق الأمراض والأكدار ولم يضيق العيش على الأنبياء والأخيار، ولقد لزق بهم البلاء وعدموا الراحة، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، وابراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب يبكي حتى ذهب البصر، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى لا مأوى له إلا البر، في العيش الضنك، ومحمد يصابر الفقر وفرق الزوجة وقتل من يحبه.
فلا تجزع من البلوى فأنت في وطنها، فالصبر الصبر، ولكن ليس صبر البهائم، بل صبر بدون جزع وضجر، ولكن صبر احتساب وتسليم والرضا بقضاء الله متطلعاً إلى العوض من الله إلى الجزاء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، قال علي بن أبي طالب : (من رضي بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله)، فقضاء الله نافذ وأمره واقع، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه، فالرضا هو باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين، والجزع لايرد المصيبة بل يضاعفها حيث يشمت به أعداؤه ويسوء اصدقاءه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه، وفي الترمذي مرفوعاً إلى النبي : ((يود ناس لو أن جلودهم كانت تقرص بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء)).
ومما يتسلى به المصاب أن يجعل مكان الأنين والشكوى إلى الخلق ذكر الله تعالى والإستغفار والشكوى إلى الله الواحد القهار، وقد رأى أحد الصالحين أخاه يشكو إلى الخلق فقال له: يا هذا مازدت على إن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك. والشكوى إلى الله لاتنافي الصبر قال تعالى: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقال عنه أيوب: رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
ومما يتسلى به المصاب أن يوطن نفسه على أن كل مصيبة تأتيه فإنما هي بإذن الله عز وجل وقضائه وقدره فيرضى لها ويسلم قال تعالى: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى، وقال : ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)).
ثم ليعلم العبد إن الله لم يقدر عليه المصائب ليهلكه بها ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكره وابتهاله ودعاءه، فإن وفق لذلك ربح ربحاً عظيماً، وإن خذل خسر خسراناً مبيناً، والمصيبة كير العبد الذي يسبك بها حاصله، فإما أن يخرج ذهباً أحمر أو خبثاً كله، فإن لم ينفعه هذا الكير في الدنيا فبين يديه الكير الأعظم: نار الله الحامية يوم القيامة، ولاشك أن كير الدنيا خير له من ذلك الكير، وإنه لابد من أحد الكيرين فليعلم المصاب قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، وقد أقتضت حكمة الله في خلقه أن يعرضهم للاختبار حباً بهم ورعايته لهم، فيسوق إليهم الرحمة في أثناء المصيبة ليهتدي الضال وينتبه الغافل وتقوم الحجة على الكافرين قال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين قال ابن القيم رحمه الله: إذن فالاختبار ليس عن جهله سبحانه بعبده، ولكن حكمة ذلك في كشف من يدعي الإيمان لنفسه وتجربته أمام عينيه، فيسقط الوهم في أنه عميق الإيمان.
أما الكاذبون فيختبرهم سبحانه ليعيدهم إلى الإيمان تائبين متذكرين نادمين، فإن لم يتوبوا ولم يتذكروا عراهم أمام الناس وخلص صفوف المؤمنين منهم، فالإبتلاء يزيد رجال الإيمان نضوجاً وصلابة، والدعاةَ الصادقين عمقاً وثباتاً، فهو ليس شراً بالمؤمنين أبداً لأنه خير يسوقه الله لعباده ليعودوا إليه بعزة الإيمان، ويعودوا إلى ربهم ضارعين يلجأون إليه بقلوب مرتبطة به تذكره وتشكره وتلهج بذكره قوية بالله ثابتة على دينه واعية إليه، لأن الله جل جلاله يريد ذلك منهم، عن صهيب بن منان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [رواه مسلم].
اللهم اجعلنا ممن إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، اللهم ارزقنا الرضا بقضائك وقدرك، وأجرنا على مصائبنا وارزقنا الاحتساب إبتغاء لوجهك الكريم يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأتوب إليه، وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات فتوبوا إلى ربكم واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأذكره سبحانه وأوحده تعظيماً لشأنه.
عباد الله: إن الله سبحانه ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علماً وعملاً ولم يضمن نصر الباطل ولو أعتقد صاحبه أنه محق، والعزة والعلو لأهل الإيمان والتقوى الصابرين المحتسبين قال تعالى: فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال: ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ، إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، والله ولي المؤمنين ولكن لنعلم جميعاً أيها المسلمون أن مدافعة الله عن عبده وكفايته له وتوليه ومعينته له ونصره وإعزازه له كل ذلك بحسب ما مع العبد من الإيمان، فإن فاته شيء من العزة والتأييد والنصر فهو في مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان وتمسكه بحبل الله، فمن نقص إيمانه نقصت عنه هذه المعاني، ومن زاد إيمانه تحققت له بحسب إيمانه، وإذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بتسلط عدوه عليه فإنما حصل له ذلك بسبب ذنوبه قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مرفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهراً وباطناً.
عباد الله: ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصائب والشدائد تمنع من الفخر والخيلاء والتكبر والعجب والتميز، فإن النمرود لو كان فقيراً سقيماً فاقد السمع والبصر لما حاج إبراهيم في ربه، لكن حمله بطر الملك على ذلك، ولو ابتلي فرعون بمثل ذلك لما قال: أنا ربكم الأعلى فمن رحمته أرحم الراحمين أنه يرعى عبده كل حين بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من أدواء العجب والتكدر حفاظاً لصحة عبوديته واستفراغاً للمواد الفاسدة المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهّله لأشراف المراتب في الدنيا، وهي العبودية الحقيقية ورقاه إلى أرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته في الجنة.
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصيبة تفتح على العبد أبواباً من العبادات الظاهرة والباطنة كالدعاء والإخلاص والإنابة وفعل الخيرات وترك السيئات وإذا مس الإنسان ضرٌ دعا ربه منيباً إليه وكذلك تكون المصائب تكفيراً للذنوب ورفعاً للدرجات، قال رسول الله : ((ومايزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) [رواه الترمذي]. حسن صحيح، قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة من المفاليس فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه علم أن نعم الله على عبده المؤمن في البلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء لما قاله : ((لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)) [رواه مسلم].
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن سرور الدنيا وشرورها كأحلام نوم أو كظل زائل، واللبيب بمثلها لا يخدع، فهي إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وأن سرت يوماً أحزنت شهوراً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً، فلا يبقى لها حبور ولا يدوم فيها ثبور قال تعالى: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، وقال النبي : ((ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)) [رواه الترمذي بسند حسن].
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن المصائب تتفاوت، فأعظم المصائب مصيبة المسلم في دينه وتحوله عنه، ورجوعه إلى المعصية بعد الطاعة، وإلى الغفلة بعد الذكر، ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت، فما من مصيبة فيها إلا ويوجد ماهو أكبر منها.
وإذا رأيت انساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من إرتكاب الذنوب والخطايا وفوات الجمعة والجماعات وأوقات الطاعات فأعلم أنه ميت لايحس بألم المصيبة قال شريح: (إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عز وجل أربع مرات أحمده إذا لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو منه من الثواب، وأحمده إذا لم يجعلها في ديني.
ومما يتسلى به المصاب أن يعلم أن الله يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وصبره ورضاه بما قضاه الله عليه.
وليتدبر المصاب عز الربوبية وذل العبودية وقد ذم سبحانه من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ، وليعلم المصاب أن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا قال رسول الله : ((أشد الناس بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه وإن كان دينه رقه ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) [رواه أحمد والترمذي وقال: صحيح].
ومن حكمة الإبتلاء والمصيبة أنها تذكر العبد بذنوبه وتزيل قسوة القلب وترجع العبد إلى الله ليقف ببابه ويتضرع إليه ويستكين، وتقطع قلب المؤمن عن الإلتفات إلى المخلوقين والإقبال على الله وحده، وأن المصيبة تعرف المصاب قدر نعمة العافية لأن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها.
عباد الله: إنه لا يمر يوم من أيام هذه الحياة إلا ويحل في الخلق من المصائب الكبيرة والصغيرة ما الله به اعلم، كالفقر والمرض والموت والهموم والمشاكل والظلم والضوائق النفسية والإجتماعية فعلينا إن نستقبل ذلك راضين محتسبين ليبرد مر المصيبة ولترفع بها عند الله الدرجات وتحط السيئات.
أما من استقبل المصائب بالسخط والضجر ولم يحتسب ويصبر فإن مصيبته لايرفعها الله عنه لضجره وتأففه، وسيكون موقفه هذا وبالاً عليه في الدنيا والآخرة.
عباد الله: وأولادنا غداً سيختبرون وقد أحاطت به المخاوف هيبة للامتحان وخوفاً من الرسوب فهل هيئأناهم نفسياً وغرسنا فيهم التوكل على الله وقلنا لهم إن العون من الله والتوفيق بيده، فلا يطلب ما عند الله بسخطه، وهل ذكرناهم باللجوء إلى الله والتضرع إليه، وهل راقبناهم أثناء مذاكراتهم وعرفنا أصحابهم وجلساءهم، وهل حرصنا عليهم في تطبيق أوامر الله والإبتعاد عن نواهيه وتابعناهم في ذلك مثل متابعتنا لهم في دروسهم وإختباراتهم، وهل تذكرنا محافظتهم على المساجد وحضورهم لصلاة الفجر هذه الأيام، هل تذكرنا إعراض الكثير منهم عن الصلوات مع الجماعات، وهل تذكرنا وإياهم أن المرء عند الإمتحان يكرم أو يهان، هل تذكرنا امتحان الآخرة وحسابها في ذلك اليوم الذي ليس فيه رجعة لإعادة الكرة والإجتهاد مرة ثانية، ذلك الإمتحان الذي ليس فيه دور ثاني، فالحساب الحساب قبل يوم الحساب، وهل إستشعرنا نحن وأبناؤنا مغبة الذنوب وإثمها التي نحن واقعون فيها وراجعنا وإياهم حساباتنا لنعود إلى الله ونتخلص مما يسخطه، وهل دفعنا الحرص عليهم ومحبتهم والحنان عليهم والإشفاق من الرسوب في الإختبار هل دفعنا ذلك الحرص إلى المسارعة في وقايتهم من نار الله الحامية بالعمل بطاعته واجتناب معاصيه.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد سيد الآولين والآخرين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين.
(1/1036)
حقيقة التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
28/6/1420
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف التوبة وحكمها 2- الحث على التوبة وعدم التساهل بالمعاصي 3- متى تصبح
الصغائر كبائر ؟ 4- حقيقة التوبة 5- علامات التوبة الصحيحة
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة: عليكم بتقوى الله في سركم وجهركم وفي نياتكم وأقوالكم وأعمالكم تفلحوا وتفوزوا، والحذر الحذر من التسويف وطول الأمل.
أيها الإخوة: كيف نعرف كرم الكريم ولا نقبل إلى الله؟ وكيف نعرف جوده وبره وإحسانه ولا ندعوه وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؟ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
والتوبة هي ترك الذنب والندم على التفريط والعزيمة على ترك المعاودة وهي الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب والقيام بكل حقوق الرب سبحانه قال النووي رحمه الله: (التوبة واجبة من كل ذنب، فإن تاب من بعض الذنوب صحت توبته مما تاب منه) وقال ابن القيم رحمه الله: (التوبة هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه، والتوبة غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته).
أيها المسلم: أفرح بقبول الله لتوبتك وأبشر بتكفير سيئاتك ورفع درجاتك، وإذا أقبلت إلى ربك صادقاً فاعلم أن الله لا يخيب رجاءك ولا يقطع آمالك ولا يرد دعاءك لأنه سبحانه هو التواب الرحيم وهو أرحم من الوالدة بولدها قال تعالى: وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وقال سبحانه: ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً.
أيها المسلم: لا تحقر الذنب مهما كان صغيراً فإنه مسخط لله ومفرح للشيطان، وقد تعظم الصغائر من الذنوب فتكون كبائر لأسباب منها الإصرار والمواظبة.
والعفو عن ذنب كبير قد انقضى وتاب صاحبه أرجى من العفو عن صغيرةً يواظب عليها العبد لأن قطرات الماء إذا وقعت على حجر متواليات تؤثر فيه ولو جمعت تلك القطرات في مرة وصبت عليه لم تؤثر فيه وكلما استصغر العبد الذنب كبر عند الله وكلما كبر الذنب في قلب العبد وسبب له خوفاً وحياءً وذلاً ورجاءً فإنه يصغر عند الله فيتجاوز عنه قال بلال بن سعد: (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت) ولا تفرح بالصغيرة وتتمدح بها، وإذا عملت الخطيئة لا تتهاون بستر الله تعالى وحلمه وإمهاله لأن التهاون والطغيان يخشى منه المقت قال النبي : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله ويصبح ويكشف ستر الله عنه)) [رواه البخاري]. رأى بعض العارفين في بعض السكك باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته لم تملك أن رمت نفسها عليه وألتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤيك سواي ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم أخذته ودخلت.
فتأمل قول الأم لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم تأمل قوله : ((لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)) وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ يا أيها العبد العاصي يامن أخطأت وتجاوزت ولهوت وأسرفت؟ هل تظن أن الله يردك ولا يرحمك إذا أقبلت عليه صادقاً راجياً نادماً مستجيباً وهو القائل: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.
فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما آن لك أن تتوبا
فيا خجلاه من قبح إكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا الغدار كم عهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا
أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيباً
أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الغفور الشكور صاحب الفرج والإحسان والجود والبر الصفح والتجاوز، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله التواب الأواب.
أيها الإخوة: إن الحياة فرصة عظيمة للتوبة والإنابة والرجوع إلى الإستغفار ما دمنا أحياء قبل فوات الأوان وقبل أن تقول نفس: ياحسرتي على ما فرطت في جنب الله، ولن نعدم خيراً من رب يضحك الذي هو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وقد سبقت رحمته غضبه وحلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته فأحب شيء إلى الله أن يجود على عباده ويوسعهم فضلاً ويغمرهم إحساناً ويتم عليهم نعمته ويضاعف لديهم منته.
يا أيها العبد المسكين: كيف تعصي ربك وهو يسمعك ويراك ويعلم سرك ونجواك؟ ألم تكن فقيراً فأغناك؟ ومحروماً فأعطاك؟ ألم تكن ضالاً فهداك؟ ألم تكن معدوماً فسواك؟ ومريضاً فشفاك؟ ألم تكن نائماً فحماك؟ ألم تكن تائهاً فآواك؟ ألم يقل ربك ومولاك: ((عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، أتحبب إليهم بنعمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي من أقبل إلي، تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد أهل ذكري أهل محابتي وأهل شكري أهل زيارتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم اتبعهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب)).
أيها الأحبة: وحقائق التوبة ثلاثة أشياء هي:
أولاً: تعظيم الجناية فإذا استهنت بالمعصية لم تندم عليها، وتعظيم الجناية يصدر عن تعظيم أمر الله، وتعظيم الله والتصديق بالجزاء.
والحقيقة الثانية: إتهام التوبة بضعف العزيمة والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة وتذكر حلاوة المعصية.
ومن علامات إتهام التوبة الثقة بالنفس بأنه قد تاب وأعطي الأمان، وجمود العين، واستمرار الغفلة والشح بالأعمال الصالحة بعد التوبة.
أيها الإخوة والتوبة المقبولة الصحيحة لها علامات منها: أن يكون التائب بعد التوبة خيراً مما كان عليه قبلها، وأن لايزال الخوف مصاحباً له لا يأمن مكر الله طرفة عين ومنها انخلاع القلب ندماً وخوفاً، فمن لم يتقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفاً تقطع قلبه في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين ومن علامات التوبة كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً وليس شيء أحب إلى الله من هذه الكسرة والحقيقة الثالثة من حقائق التوبة هي الغيرة لله عند مخالفة الناس لأوامره وعدم الاعتذار عنهم بالقدر لأن الله عز وجل أرحم وأغنى وأعدل من أن يعاقب صاحب عذر فلا أحد أحب إليه العذر من الله.
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنّ
إذا فكرت في قدمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
واسمع أيها المسلم إلى نداء ربك حيث يقول: ((يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) قال ابن مسعود: يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ومن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ثم قرأ: فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم. أيها الأحبة: والعبد سائر في هذه الحياة لا واقف، فإما إلى فوق وإما إلى أسفل، أو إلى الأمام أو الوراء، فليس هناك وقوف فهي مراحل تطوى سريعاً إلى الجنة أو إلى النار لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.
أيها الأحبة: كلنا صاحب ذنب ((كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) وكلنا ينتظر أجله، ووالله إن المغبون من نسي لقاء ربه ومحاسبته له على مثاقيل الذر، وهو اليوم يأتي بالعظائم من القبائح، ويفرط بصلاته ومهام دينه، ويقدم شهوة النفس على مرضاة الله، ويعبث وربه ساخط عليه، وهو غافل لاهي، يأكل من نعم الله حتى يشبع وينام حتى يمل، آكل شارب نائم ساكن مطمئن صحيح شحيح، يا غافل، الموت يطلبه.
يا عاصياً والله يرقبه يامسوفاً والأجل يدهمه، أين أنت عن لطف الكريم وجود الرحيم وعطاء العظيم؟ وإن الموفق من لاذ بجانب ربه معترفاً بذنبه بائعاً حظوظ نفسه وشهوات بطنه وفرجه وسمعه وبصره مولياً ومعرضاً عنها داخلاً في عز العبودية، متشرفاً بذكر ربه، يدعوه ويناجيه ويناديه، ويشكو الله وينطرح بين يديه شاكياً إليه ظلم نفسه وإغواء الشيطان وتزيين قرناء السوء، ثم إن الله الكريم الرحيم يمن على من صدقت نيته بطلب رضاه، ويمن عليه بحفظه فيرحمه ويدنيه ويشرفه ويعليه ويقبله ويؤويه، ويسكن قلبه ويذيقه حلاوة الإيمان ونعمة القرآن فيسفر وجهه وتهدأ روحه وتطهر جوارحه، ويصبح عبداً نقياً راضياً مرضياً ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
فيا بشرى التائبين الصادقين ويا فرحة المقبولين الآمنين في يوم الوقوف عند رب العالمين، ويا عز الداخلين في ظلال العبودية لأرحم الراحمين.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
مالي إليك وسيلة إلا التقى وجميل عفوك ثم إني مسلم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فيمن يلوذ ويستجير
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود.
(1/1037)
خطر الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الغيبة 2- بعض آثارها السيئة على الفرد والمجتمع 3- الغيبة ليست باللسان فقط
بل تكون حتى بالإشارة والإيماء والغمز واللمز والكتابة ونحو ذلك 4- أسباب وقوع كثير من
الناس في الغيبة 5- كيفية النجاة من الغيبة 6- الواجب الذي يجب أن يفعله من سمع الغيبة
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل وإتباع أوامره وإجتناب نواهيه، قال الله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم.
أيها المسلمون: إن من الظواهر الخطيرة الطوام والآفات الكبيرة في مجالسنا: الغيبة، والمقصود بها ذكرك أخاك بما يكره في النيل من عرضه، والكلام من خلفه بما لايرضاه في بدنه أو نسبه أو في خلقه أو فعله أو قوله أو في دينه أو دنياه أو في ثوبه وداره ودابته، قال : ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله اعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقوله؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) رواه مسلم، قال الحسن رحمه الله: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله، فالغيبة: أن تقول ما فيه، والبهتان: أن تقول ما ليس فيه، والإفك: أن تقول ما بلغك.
واعلموا عباد الله أن الطعن في الناس وذمهم وإنتقاصهم إعتداء على حقوقهم وإنتهاك في أعراضهم وإدخال الغم والحزن على قلوبهم، وسبب للضغينة والحقد والتفكك، وزوال لروابط الإيمان التي يجب أن تتحقق بين المسلمين، بحيث يحب بعضهم بعضاً وينصر بعضهم بعضاً، ويدافع بعضهم عن بعض، لقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة.
ولقد عظم الله حرمة المسلم وصانها ليبقى المسلم كريماً موفور العزة ومصون العرض قال : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) [رواه مسلم]. وقال : ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً، وكونوا عباد الله إخواناً)) [رواه مسلم].
واسمعوا أيها المسلمون إلى الجزاء العظيم لمن وقع في عرض أخيه قال أنس: قال رسول الله : ((مررت ليلة أسري بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم)) [رواه حمد بإسناد صحيح].
عباد الله: وليست الغيبة مقصورة على القول باللسان فقط بل تشمل التعريف بالإشارة والإيماء والغمز واللمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود، فهو داخل في الغيبة، وهو حرام.
أيها المسلمون: إن وقوع المسلم في مسبة أخيه المسلم والإنتقاض منه وذكره بما يكره خيانة عليه وإعتداء على حقه يقول النبي : ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف رحله)).
وهذا اللسان الذي وهبنا الله إياه فهو نعمة أو نقمة، فهو نعمة إن استعملناه في الخير كالذكر وقراءة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقول الحق، وهو نقمة إذا استعملناه في الغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور والبهتان والفحش واللغو والباطل، فما أخطر الكلام وما أعظم شأنه عند الله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد أي ملك يرقبه وهو حاضر يقول النبي : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) [متفق عليه].
عباد الله: إنك ترى الرجل الصالح المحافظ على صلاته وصيامه والمسارع إلى الخيرات المجتنب للمنكرات والمكروهات تراه فيعجبك حاله وإستقامته، ولكنك تراه يغري في أعراض إخوانه المسلمين وينتقصهم ويذكرهم بما يسؤوهم لا يرعى حرمتهم، ولا يتورع عن ذكر معايبهم مع أنه يتورع عن المحرمات والمكروهات الظاهرة ويتمعن لها ويتعجب من فاعليها، ولكنه لم ينتبه لنفسه وما يقع فيه من كبائر الذنوب العظيمة التي هي أعظم من كثير من المنكرات الظاهرة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لادرهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن انتهت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) [رواه مسلم].
ألا ما أعظم المصيبة وأكبر الندامة والخزي والحسرة حين يرى المسلم أن حسناته يوم القيامة قد أخذت منه نعم أعماله وصلاته وصومه وزكاته وحجته، تؤخذ منه، ويصبح صفراً كأنه لم يعملها، أعماله التي كان يركض في الحياة من أجلها يأخذها منه الناس الذين ظلمهم وتكلم فيهم وأغتابهم وأعتدى عليهم، قال النبي : ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) [متفق عليه]. ويقول : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) اللهم تب علينا، اللهم احفظ ألسنتنا وأبصارنا وأسماعنا وبطوننا وفروجنا عما لا يرضيك، واستعملها في مراضيك يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وإمتنانه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك لك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أيها المسلمون: إن الغيبة كبيرة من كبائر الذنوب، وإثمها عظيم، وخطرها كبير، وهي ظلم واعتداء، فلماذا تساهلنا فيها وعمرت مجالسنا بها، وأعتادتها ألسنتنا وتجرأنا عليها مستسهلين لأمرها، ماضين فيها بلا خوف من الله ولا حياء، فما السبب في وقوع الكثير منا في الغيبة؟
إن هناك أسباباً كثيرة منها قلة الناصح والمذكر والقدوة في مجالسنا الذي يرد عن عرض المسلم إذا تحدث أحد فيه بما يكره يقول النبي : ((من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار)) [رواه أحمد].
ومن الأسباب أن يشفى المغتاب غيظه بسبب غضبه على من وقع فيه فيذكر مساويه، ومنها موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء في المجلس ومداهنتهم، ويرى أنه لو أنكر عليهم لأستهزؤا منه وأستثقلوه، فيريد مجاملتهم.
ومنها أن يريد المغتاب أن يبرئ نفسه من عيب نسب إليه فيذكر الذي فعله، ومنها إرادة الفخر والمباهاة ورفعة النفس تنقيص غيره وإظهار فضل نفسه.
ومنها الحسد لمن أثني عليه فيريد زوال تلك النعمة عنه فيقدح فيه لينقص من قدره حسداً له.
ومن الأسباب اللعب والمزاح والضحك والإستهزاء بذكر عيوب الآخرين لإضحاك الناس تكبراً وعجباً.
أيها المسلمون: ويجمع هذه الأسباب من أولها إلى آخرها قلة الخوف من الله وعدم إستشعار مراقبة الله، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية، وفي كثير من الأحيان يقع الكثير في الغيبة باسم الخير والنصيحة، فيلبسها الشيطان عليهم ويغريهم بها، فتارة تكون الغيبة بصفة التعجب مما فعل فلان، وكيف حصل ذلك منه، فيذكر إسمه فيقع في الغيبة، وتارة تكون الغيبة بإظهار الرحمة والشفقة، فيظهر المغتاب الهم والحزن على ما فعل فلان، ويقول: هو مسكين قد آلمني أمره وما ابتلي به، وتارة تكون بإظهار الغضب له مما وقع فيه فلان من المنكر فيذكر إسمه.
والواجب على المسلم أن ينصح أخاه المسلم بينه وبينه، وأن يذكر المنكر الذي وقع دون ذكر إسم الفاعل حتى تتحقق المصلحة بالتحذير من المنكر دون الوقوع في الغيبة.
عباد الله: ما النجاة؟ وكيف الخلاص من هذه الآفة العظيمة المتصلة في حياتنا؟ عن عطية بن عامر رضي الله عنه ((قلت يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك)) [رواه الترمذ بإسناد وحسنه]. وقال النبي : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) [متفق عليه]. وقال سفيان بن عبدالله: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال: ((قل ربي الله ثم استقم، قلت: يارسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا)) [الترمذي وقال حسن صحيح]. وليتذكر المسلم الواقع في الغيبة أن العبد يدخل النار إذا رجحت كفة سيئاته على كفة حسناته، وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه، فيحصل بها الرجحان فيدخل النار.
وليتذكر المسلم أنه لا يرضى أن تذكر عيوبه وزلاته، فكذلك غيره لا يرضى ذلك، فكيف يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
لسانك لا تذكر به عورة أمرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وأما من أساء إليك فغضبت من إساءته، فإساءته إليك لا تبيح عرضه والوقوع في غيبته قال النبي : ((من كظم غيظاً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء)).
وليتذكر المسلم أن موافقة الناس ومجاراتهم وإرضاءهم في مقابل سخط الله أنه من السفه وضعف الإيمان، لأن من أرضى الناس بسخط الله يسخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وأما الاستهزاء بأخيك المسلم والوقوع في غيبته، فعلى المستهزئ أن يتذكر الحسرة والندامة والخزي يوم القيامة بين يدي الله أمام الخلائق يوم تحمل سيئات من استهزأت فيه عليك، ثم تساق إلى النار فإن هذا التذكر رادع إن شاء الله عن إخزاء أخيك وإستهزائك فيه.
أيها المسلمون: واعلموا أن الإستماع إلى الغيبة محرم لا يجوز، والواجب على من سمع الغيبة أن يردها وينكر على قائلها، فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس وتركه، وإذا سمعوا اللغوا أعرضوا عنه ، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً وقال النبي : ((درهم من ربا يأكله رجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) ومع ذلك فإن من أربى الربا الإستطالة في أعراض المسلمين، قال النبي : ((من أربى الربا الإستطالة في عرض المسلم بغير حق)) ، قال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ، وقال النبي : ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الحلجاء من الشاة القرناء)) [رواه سلم].
أيها المسلمون: التوبة التوبة، والبدار البدار ما دمنا في دار المهلة والسعة، ونستطيع الخلاص من حقوق الناس، فنذهب إليهم ونسألهم ونطلب منهم العفو والصفح وندعو لهم ونستغفر لهم ونذكرهم بخير لنخلص أنفسنا من حقوق الآخرين، قال : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [رواه البخاري].
(1/1038)
معنى التوحيد وقيام حقيقته في النفس وأثره على السلوك
التوحيد
أهمية التوحيد, شروط التوحيد
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
11/11/1414
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التوحيد ومكانته 2- تعريفه وأقسامه ومعنى كل قسم 3- أثر تحقيق التوحيد على
سلوك المسلم 4- التحذير من الوقوع في نواقض التوحيد 5- ما هي حقيقة التوحيد وثماره
6- فضل قول " لا إله إلا الله " وشروطها وأركانها 7- معنى شهادة أن محمداً رسول الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا ربكم واخشوه واطيعوه وجددوا إيمانكم وقولوا: لا إله إلا الله تفلحوا.
عباد الله: إن التوحيد هو أول ما فرض الله على العباد فهو أصل الدين وأساسه وهو القاعدة الكبرى والحقيقة العظمى الذي بموجبه يتوجه العبد إلى خالقه فيعبده ويطيعه قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ، وقال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون والتوحيد هو إفراد الله بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وهو ثلاثة أقسام:
أولاً: توحيد الربوبية:
وهو توحيد الله بأفعاله، كالملك والخلق والتدبير والرزق والإحياء والإماتة وغيرها من أفعال الرب العظيمة التي يجب أن نحييها في النفس فنتدبر في أفعاله الباهرة وعظيم صنعه في خلقه في السموات والأرض والجبال والأنفس والبحار وغيرها من العوالم الشاهدة على قدرته وأحكامه وبديع صنعه قال تعالى: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لألي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.
ثانياً: توحيد الألوهية:
وهو توحيد العبادة، وهو توحيد الله بأفعال العباد، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والتوكل والإستعانة والإستغاثة والخوف والرجاء وغيرها وصرفها لله وحده دون سواه بصدق وإخلاص ومتابعة للرسول ، والقيام بتلك العبادات على وجه صحيح بحيث تقوم في القلب قياماً حقيقياً فتنجذب الروح متجهة إلى ربها متعلقة به، يعمرها اليقين باستحضار عظمة الله وخوفه ورجائه والقيام بين يديه مقام الذليل الخائف الوجل المنكسر ليحيى القلب، وهو يؤدي العبادة حياة الحب لله والخوف منه والرجاء له.
قال شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله: وكلما ازداد القلب حباً لله ازداد له عبودية وكلما ازداد له عبودية، ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين، من جهة العبادة، ومن جهة الإستعانة والتوكل، فالقلب لايصلح ولا يتلذذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه.
وقال: ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه. ثم قال: وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله أن ينفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، ويثبت في قلبه ألوهية الحق. وقال ابن القيم رحمه الله: ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤنة نفسه ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن إشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن إشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم، وبهذا التوحيد أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وكل سورة وكل آية في القرآن متضمنة لنوعي التوحيد شاهدة به وداعية إليه، وركنا التوحيد هما الصدق والإخلاص.
ثالثاً: توحيد الأسماء والصفات:
وهو الإيمان بكل ما ورد من أسماء الله وصفاته التي وصف أو سمى بها نفسه أو سماه أو وصفه بها رسوله بدون تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون وقال : ((إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة)) [رواه البخاري]. ومعنى إحصائها: معرفتها لفظاً ومعنى والتعبد لله بها فهو الله سبحانه الذي تألهه القلوب بالمحبة والتعظيم.
قال اعلم الخلق بربه : ((لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)) قال في تيسير العزيز الحميد: فكيف تحصي خصائص اسم مسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد وثناء ومجد وجلال وإكرام وعز وجمال، وكل خير وإحسان وجود وبر وفضل فله ومنه، فما ذكر اسم الله في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العزة، ولا فقير إلا أصاره غنياً، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه، فهو الاسم الذي تكشف به الكربات وتستنزل به البركات والدعوات وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض، وبه أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وشرعت الشرائع وقامت الحدود، وبه شرع الجهاد وأنقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة ووضعت الموازين بالقسط ونصب الصراط وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وعنه السؤال في القبر، ويوم البعث والنشور، فمعرفة أسماء الله سبحانه والتعبد له بها موجبة لدخول الجنة فمنها مثلاً: السميع الذي وسع سمعه الأصوات فهو لاتخفى عليه خافية، فإذا استشعر المسلم ذلك راقب الله وحفظ لسانه عن كل مكروه وأشغل لسانه بكل ذكر وخير، ومنها: البصير الذي لا يغيب عن عينيه شيء، فإذا عني المسلم بذلك واستحضر هذه الصفة فيعلم أن الله يراقبه فينزجر عن الحرام ويسعى في تحصيل مرضاة الله قال تعالى: ويعلم ما في البر والبحر وما تقسط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ومنها: الغفور فإن الله يعفو ويصفح ويستر الذنب ويتجاوز، فإذا علم العبد ذلك سارع إلى التوبة وتعرض لأسباب المغفرة لينالها وتعرض للإحسان على الخلق لينال محبة الله، لأن الله يحب المحسنين، ومنها: المنتقم وشديد العقاب، فإذا استحضر العبد ذلك خاف ربه وتاب وأناب ونهض من كبوته وخرج من معصيته مشيحاً بوجهه عنها نادماً باكياً مقبلاً على ربه مستعيذاً بالله ومستجيراً به أن يغضب عليه، سائله الرضى والتجاوز، وهكذا لا يزال المؤمن يستشعر ويعيش حقائق معاني أسماء الله وصفاته في قلبه فيعمل ويتصرف بموجب مقتضياتها وآثارها، فإذا كان كذلك قامت معاني التوحيد في النفس وتعدل السلوك قال لابن عباس: ((يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) [رواه الترمذي]. أما إذا كانت معرفة التوحيد معرفة نظرية تقرأ وتحفظ دون أن يكون لها حقيقة في القلب ومعنى في الشعور وأثر في السلوك، فإنها لا تحرك الروح والنفس إلى الإخلاص والجد في الطاعات والمسابقة إليها، ولا تدعو المسلم إلى خوف الله ومراقبته وتعظيمه، اللهم افتح على قلوبنا ونوِّر بصائرنا واملأها بخوفك ورجائك ومعرفتك ومحبتك والإنابة إليك يا حي يا قيوم وارزقنا التلذذ بذكرك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
عباد الله: فإن معرفة التوحيد فرض لازم وضرورة قائمة ليسلم للمسلم دينه ويبني عبادته وتوجهه إلى ربه على أساس صحيح، وينبغي أن يخاف على توحيده من الشرك الأكبر والأصغر ولا يقل: أنا فلان أو ابن فلان، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء، قال تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام فإذا كان الخليل عليه السلام إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده وقد كسر الأصنام بيده يخاف أن يقع في الشرك فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه بمراتب، قال إبراهيم التميمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
وليحذر المسلم من نواقض الإسلام فليدرسها ويفهمها وينظر موقعه منها وليسعى في تحقيق توحيده ويكن تحقيق التوحيد بتهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع القولية والاعتقادية والبدع الفعلية العملية ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات، لأن الشرك ينافى التوحيد بالكلية، والبدع تنافي كماله الواجب، والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه، وتحقيق التوحيد من وجهين: واجب ومندوب، فالواجب ما ذكر، والمندوب هو تحقيق المقربين الذين تركوا ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
وحقيقة التوحيد هي: انجذاب الروح إلى الله فلا يكون في قلبه شيء لغيره، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهية لما أمر الله قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون والظلم هنا هو الشرك.
ومن فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما، وأنه يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل وإذا اكمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية، قال : ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) [رواه البخاري ومسلم]. ومن فضائل التوحيد أنه يحصل لصاحبه الهدي الكامل والأمن العام في الدنيا والآخرة، وأنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
ومن فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وكمالها وترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت، ومن فضائل التوحيد أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات، ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله تخف عليه الطاعات لما يرجو من الثواب، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخط الله وعقابه، ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
ومنها أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي فيكون المستعبد لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه فيتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
ومن فضائله أنه إذا تحقق في القلب الإخلاص التام فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، فترجح كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض وعمارها من جميع خلق الله، قال الله في الحديث القدسي: ((يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله)) وكما في حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلاً من الذنوب كل سجل منها يبلغ مد البصر، وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ به هذا المبلغ لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب ذلك العبد صاحب البطاقة، ومن قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يحرمه على النار، فالذي يطلب وجه الله لابد أن يعمل لأنه مبتغى الشيء يُسعى في الوصول إليه، فالذي يريد النجاة من النار عليه أن يسعى في ترك ومجانبة موجباتها، أمامن تراه مقيماً على غيه وضلاله مبارزاً ربه بمعصيته غير مستح منه ولا خائف قد خلا قلبه أو كاد من خشية ربه، فإن حقيقة من كان كذلك أنه لم يسع ولم يطلب وجه الله في هذه الدنيا، لأنه مجرد الأماني والإدعاء لا تكفي، بل لابد من اتباع ذلك بالعمل الصادق، والسعي الحثيث لطلب رضوان الله، والبعد عما يسخطه ولا يرضيه، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بالعلم المنافي للجهل، واليقين المنافي للشك والقبول المنافي للرد، والإنقياد المنافي للترك، والإخلاص المنافي للشرك، والصدق المنافي للكذب، والمحبة المنافية للكراهية وركنا كلمة التوحيد: النفي والإثبات، نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها لله وحده، فكلمة التوحيد لا اله إلا الله هي أفضل الأذكار وأعظمها معنى، فهي الكلمة العظيمة، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وكلمة الإخلاص، وشرعت لتكميلها السنة والفرض، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، فمن قالها وعمل بها صدقاً من قلبه وإخلاصاً ومحبة أدخله الله الجنة على ماكان من العمل، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) [متفق عليه]. وتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله يكون بطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهي وزجر، فهو عبد لا يعبد ورسول لا يكذب.
وينقض تحقيق هذه الشهادة أمران الأول: فعل المعاصي لأن فعلها خروج عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، الثاني: الإبتداع في الدين ما ليس منه لأن المبتدع يتقرب إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله، ولأنه قدح في الحكمة والشرع، فإن الدين كامل والإبتداع استدراك على الشريعة.
أيها المسلمون: إن المتأمل لمعنى التوحيد وتحقيقه وأنواعه وأثره على السلوك والمعاملة ليدرك تماماً أننا مدعوون جميعاً لتجديد هذا المعنى في النفوس وأن نستثير به القلوب ونحيين به المشاعر والأرواح لنكون أمة توحيد متعلقة بربها متوكلة عليه ومستعينة به توالي وتعادي فيه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتستقبل أوامره وأحكامه منقادة راضية مستسلمة وتجاهد في سبيله لا تخشى فيه لومة لائم، ثم إننا مدعوون لنغرس مثل هذه المعاني في نفوس أبنائنا ومن تحت أيدينا ونزرع فيهم تعظيم الله وأمره ونهيه وخشيته وشدة مراقبته في جميع الأعمال والأحوال، وبهذا تستقيم الحياة وتصفو من أكدار التخلف المقيت الذي يعيش في جنباتها ويخيم بظلة على أروقتها من غش في المعاملات ومجاهرة بالمعاصي وطاعة للنفس والشيطان وموالاة للكافرين أو تضييع لحرمات الله، لتصبح الحياة إسلامية حقة موصولة بالله عزيزة الجانب مرفوعة الرأس كريمة عند الله.
(1/1039)
نعمة القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف القرآن 2- فضل قاريء القرآن 3- أفضل أوقات تلاوة القرآن
4- فضل قراءة بعض السور وبعض الآيات من القرآن 5- أثر تدبّر القرآن على النفوس
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة: القرآن كلام الله منه بدأ، وإليه يعود، وهو الحق ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن إبتغى الهدى في غيره أضله الله، فيه نبأ من قبلنا وخبر من بعدنا.
وسماه الله قرآناً لأنه جامع لثمرة جميع الكتب والعلوم، تبايناً لكل شيء وتفصيل كل شيء، فهو كلام الله المنزل من عند الله على رسوله المتعبد بتلاوته، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المعجز بسورة من سوره المجمع عليه قال تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً فأنزل الله كتابه لعباده ليكون لهم هادياً ودليلاً ونعمة ورحمة وبشرى وذكرى، به يهتدون ويستشفون، ولأوامره يتبعون، ولنواهيه يجتنبون، ولقصصه يعتبرون، ولعبره يتعظون، وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين. وقال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
اعلم أيها المسلم أن قارئ القرآن في مصاف العظما،ء ومن أفضل الناس، وأعلاهم درجة، وأن الله يضيء قلب القارئ ويقيه ظلمات يوم القيامة، ويبعد عنه الشدائد قال تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وقارئ القرآن يكتب عند الله من الذاكرين والقانتين، وممن يشهد لهم رسول الله يوم القيامة ولا يحزنه الفزع الأكبر يوم القيامة لأنه في حماية الله، والقرآن يشفع له، وقارئ القرآن تدعوا له الملائكة الكرام بالرحمة والمغفرة، وصاحب القرآن من أهل الله وخاصته، ويستنير عقله، ويمتلئ قلبه بالحكمة، وتتفجر منه ينابيع العلم، فهو لايجهل مع الجاهلين، لأن القرآن في جوفه يحميه من الضلال والغواية وسيئ الأخلاق، وقراءة القرآن تورث خشوعاً في القلب وصفاء في النفس، وأهل القرآن يذكرهم الله فيمن عنده، وتبتعد عنهم الشياطين وتخرج من بيوتهم، ويجيبهم ربهم إذا دعوه وسألوه، ويسعد أهل القرآن بأخذهم للقرآن، ويرفعهم الله به درجات، لأن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع آخرين، وهم الذين أعرضوا عنه وهجروه قال النووي رحمه الله: (أفضل القراءة ما كان في الصلاة، وأما في غير الصلاة فأفضلها قراءة الليل وخصوصاً في الثلث الأخير من الليل، والقراءة بين المغرب والعشاء مستحبة، وقراءة النهار أفضلها ما بعد صلاة الصبح، ولا كراهة في القراءة في وقت من الأوقات).
أيها الإخوة وفي غير الصلاة فمن المستحب أن يقرأ سورة الكهف يوم الجمعة كما يسن أن يقرأها ليلة الجمعة لقوله : ((من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق)) صحيح.
ويستحب الإكثار من تلاوة آية الكرسي، وقراءة المعوذتين، وقل هو الله أحد، وخواتيم البقرة، وآل عمران.
وكان النبي يقرأ خواتيم آل عمران إذا استيقظ، ويستحب أن يقرأ عند المريض بالفاتحة لأنها أعظم سورة في كتاب الله، وقل هو الله أحد، والمعوذتين.
أيها المسلم: استمع إلى كلام ربك وتبين عظيم الأجور لأهل القرآن وما أعد الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم قال تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور. وقال النبي : ((اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما عيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيها البطلة)) ، وقال النبي : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثلما يعمل)) متفق عليه. وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة – وهي ثمر جامع لطيب الرائحة والطعم وحسن اللون يشبه البطيخ) ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لايقرأ القرآن كمثل الحنظلة لاريح لها وطعمها مر)) وقال النبي : ((يجيئ القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يارب زده فيلبس حلة الكرامة ثم يقول: يارب ارضى عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق وتزاد بكل آية حسنة))، وأخبر النبي ((أنه يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)) اللهم انفعنا بالقرآن، واجعلنا من أهل القرآن من أهلك وخاصتك، اللهم انفعنا بالقرآن، واجعله لنا شفيعاً، واجعلنا ممن يتلوه حق تلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر على تفضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه القائم بالقرآن بأحكامه، والمصلي بالقرآن حتى تفطرت قدماه، والحاكم بالقرآن.
أيها الإخوة: إن القرآن كلام الله لذا فهو أعظم الكلام وأتم الكلام ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، الذي بهر العرب والأدباء والفحول القوراع، بهرهم بإعجازه وبلاغته وعظيم نظمه وبراعة إيجازه، القرآن الذي دانت له القلوب وخضعت له المشاعر وتأثرت به النفوس وانقادت لسماعه، كيف لا ولو كانت الجبال الصم الرواسي تعقل لتصدعت وخشعت لعظيم تأثيره لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله والمؤمنون الذين استطعموا حلاوة القرآن وتغنوا بآياته وترنموا يجدون له عظيم الأثر في قلوبهم قال تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله وبالقرآن يجد المؤمن شرح الصدر وقرة العين وذهاب الهموم والغموم كيف لا وهو الشفاء من كل داء، والهادي إلى كل خير، وبالقرآن يجد المريض كشف الضر ورفع اليأس إذا قرأه القارئ بتيقن وإذا استشعر المريض تعظيم كلام ال،له فكم شفي بسببه من مريض، وكم زال من آلام أجسام استعصت على الأطباء، ولكنه كلام الله الشافي الكافي، وبالقرآن لانت قلوب أهل الكفر والضلال، فأصغت إليه قلوبهم، وخافوا من ربهم وعلموا أن هذا القرآن لا يقوله بشر ولا يتفوه به كذاب، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، وبالقرآن لانت قلوب أهل المعاصي والمنكرات وأفاقت من سكرتها ورجعت إلى ربها مخبتة طائعة خاضعة خاشعة قال تعالى: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق. وقال: أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.
فإلى الذين ظلوا على معاصيهم ولجّوا في منكراتهم وإلى الغافلين عن ربهم والدار الآخرة والغافلين عن مماتهم وحشرهم ونشرهم وإلى الذين قهرتهم شهواتهم وشياطينهم وغلبت عليهم فباعوا أوقاتهم للشياطين والشهوات، وعمروا أيامهم بالمعاصي والآثام، إلى هؤلاء وغيرهم الدواء العظيم والمخلِّص الكريم، والشفاء المضمون بإذن الله، إلى القرآن العظيم هلموا تدبراً لآياته وتعظيماً لحرماته واتعاظاً بعظاته، وإعتباراً بقصص الهالكين الذين حلت بهم الويلات من المسخ والخسف والإغراق والصيحة والريح العقيم بسبب ذنوبهم قال تعالى: فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
أيها الإخوة: وبالقرآن الوقاية من الفتن والسلامة من الزيغ والمغريات قال النبي : ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) [1] ، وقد بعث رسول الله رجلاً على سرية كان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله فقال: ((سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟)) ، فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن اقرأ بها فقال رسول الله: ((أخبروه أن الله يحبه)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط، قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس )) وقال : ((لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً )) وكان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح بيده رجاء بركتها.
واسمعوا أيها الإخوة إلى هذا التوجيه النبوي الكريم عن صفة القرآن ومنزلته وثمرة من قرأه وتمسك به حيث يقول : ((إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله المتين والنور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، اتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: ألم حرف ولكن أقول: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [رواه الحاكم فقال: صحيح].
وأبشر يا صاحب القرآن فإنك من أهل الله وخاصته فأعظم به من انتساب، وأكرم به من تشريف قال رسول الله : ((إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته)) وقال النبي عن سورة قل هو الله أحد : ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)) وقال رسول الله : ((إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لصاحبها حتى غفر له)) وقال : ((إن القرآن شافع مشفع ما حل مصدق (خصم مجادل) من جعله امامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار)) صحيح، وقال النبي : ((من قرآ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين)).
وبعد أيها الإخوة فما نصيبنا من القرآن يومياً أو أسبوعياً؟ وهل نتدبر القرآن؟ وهل نرتله في صلاتنا ونتذوق حلاوته؟ وهل نتعظ بعبره وزواجره ونأتمر بأوامره وننتهي عن نواهيه أم نحن للقرآن هاجرون ولحلاوته فاقدون، ونسمع ولا نعتبر، ونقرأ ولا ندكر، لم يؤثر القرآن في حياتنا شيئاً ولم نعظم القرآن كما ينبغي، ولم نخصص من أوقاتنا شيئاً لكتاب ربنا، حتى تلين القلوب وتقبل على ربها تائبة خاشعة طائعة وأي حرمان أعظم من الحرمان من الصدد عن كلام رب العالمين، وأعظم من فقدان إيناسه للصدور والاستشفاء به، وأي خسارة أحاطت بالمغبونين الذين خلت صدورهم من كلام الله.
أيها الأحبة: هيا لنجدد العهد مع الله بتلاوة القرآن والإقبال على تدبر آياته والعمل به لعل الله ان يرفعنا بالقرآن ويدخلنا الجنة بالقرآن ويرحمنا بالقرآن.
[1] رواه مسلم.
(1/1040)
نعمة المرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المرضى والطب, مكارم الأخلاق
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار بلاء وأن الابتلاء يكون بالخير كما يكون بالشر وأن المرض من البلاء
2- فوائد وحكم إصابة العبد بالمرض وثمراته 3- الحث على الصبر وتبيين حكمه وأن الصبر
يتحقق بثلاثة أمور 4- يجب أن يعلم المريض أن الشافي هو الله فيعتمد عليه ويتوكل عليه
ويطلب الدواء بما شُرع ولا يجوز له أن يتداوى بمُحرّم
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل والإستعداد ليوم الرحيل والخوف من الجليل والعمل بالتنزيل.
أيها المسلمون: إن الإبتلاءات سنة ربانية اقتضتها حكمة الله سبحانه في هذه الدار، لتكون داراً للإمتحان في الشهوات والفقر والمرض والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات كما يكون الابتلاء بكثرة الأموال والأولاد والصحة قال تعالى: ونبلوكم بالشر والخير فتنةً وإلينا ترجعون.
ومن جملة الإبتلاءات: الأمراض حيث يبتلي الله بها من شاء من عباده.
واعلم أيها المسلم أن الله سبحانه لايقضي شيئاً كوناً ولا شرعاً إلا وفيه الخير والرحمة لعباده، وللأمراض والأسقام فوائد عظيمة وحكم بالغة لو تأملها المسلم حق التأمل لأدرك بيقين أن المرض نعمة ومنحة من الله ساقه إليه، فمن ثمرات المرض وحكمه أن الله يستخرج من المريض عبودية الضراء وهي الصبر، وهذا لا يتم إلا بأن يقلب الله الأحوال على العبد حتى يتبين صدق عبوديته لله تعالى، قال : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) رواه مسلم، والمصائب والآلام ملازمة للبشر ولا بد لهم منها لتحقيق العبودية لله قال تعالى: ولنبلوكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال قال بعضهم: لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام ولا جزع اللئام، قال شيخ الإسلام: (فمن ابتلاه الله بالمر، بالباساء والضراء فليس ذلك إهانة له بل هو ابتلاء وإمتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيداً، وإن عصاه في ذلك كان شقياً).
عباد الله: ومن فوائد المرض تكفير الخطايا والسيئات التي يقترفها العبد بقلبه ولسانه وسمعه وبصره وسائر جوارحه، فإن المرض قد يكون عقوبة على ذنب وقع من العبد لقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال : ((ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب، وما يدفع الله عنه أكثر)) والاختلاج هو الحركة والإضطراب، وتعجيل العقوبة للمؤمن في الدنيا خير له من عقوبة الآخرة حتى تكفر عنه ذنوبه، عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أردا الله بعبد الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها)) رواه البخاري، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي ومسلم.
ومن فوائد المرض كتابة الحسنات ورفع الدرجات فعن عائشة أن رسول الله طرقه وجع فجعل يشتكي ويتقلب على فراشه فقالت له عائشة لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه فقال النبي : ((إن الصالحين يشدد عليهم وإنه لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة)) وقد يكون للعبد المنزلة العظيمة عند الله ولم يكن له من العمل الذي يبلغه تلك المنزلة فيبتليه الله بما يكره حتى يكون أهلاًَ لتلك المنزلة فيصل إليها، لقول النبي : ((إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها)).
والمرض يا عباد الله سبب في دخول الجنة لأن الجنة لا تنال إلا بما تكرهه النفس لقول النبي : ((حفّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)) رواه مسلم والبخاري.
والمكاره تشمل مجاهدة النفس في القيام بالطاعات وإجتناب المحرمات والصبر على المصائب والتسليم لأمر الله فيها، لقوله يقول الله عز وجل: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) رواه البخاري، وقوله تعالى: ((ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)) رواه البخاري، ومعنى احتسبه أي صبر على فقده راجياً الأجر من الله.
وفي المرض سبب للنجاة من النار فلقد عاد الرسول مريضاً ومعه أبو هريرة في دعك كان به فقال له : ((أبشر فإن الله عز وجل يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة)) والدعك هي الحمى، ومن حكمة المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه، ويذكره بمولاه بعد الغفلة، ويكفه عن معصية بعد الإنهماك فيها فإن الصحة والملذات والمال والشهوات قد تطغى العبد وتغره فينهمك في المعاصي والغفلة، فإذا ابتلاه الله بمرض أو غيره واستشعر ضعفه وذله وفقره إلى خالقه ومولاه وتذكر تقصيره في حقه عاد إلى ربه نادماً ذليلاً متضرعاً.
عاد سلمان رضي الله مريضاً فقال له: (أبشر فإن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستقيا،ً وإن مرض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلا يدري لم عقل ولم أرسل) والمعنى أن الفاجر لم يؤثر عليه المرض فلم يرجع إلى ربه ولم يعرف أن المرض نزل به لإيقاظه من الغفلة وإرجاعه إلى الحق، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: (مصيبة تقبل بها على الله خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله) وقال سفيان: (ما يكره العبد خير له مما يحب لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه).
وفي المرض يتذكر العبد نعم الله السابقة والحاضرة، فكم منحك الله أيها المريض من نعمة وكم دفع عنك من مكروه وكم أنستنا النعم والصحة فضل الله، ولكن المرض يذكر أيام الصحة، فكم من أوقات كثيرة وسنوات عديدة والعبد فيها طليقاً من المرض فتذكر النعم الحاضرة فلقد بقي مسك العقل وسلامة الأعضاء، فاحمد الله واشكره على ما أنت فيه من نعم لا تستطيع لها عداً، اللهم ارزقنا شكر نعمتك واجعل ما أصبتنا فيه من علل سبباً لرجوعنا إليك ورضاك عنا أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفضل بالنعم والدافع للنقم الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال ابن القيم رحمه الله: (لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً أو آجلاً) فلولا الله سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا، والله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبد خيراً سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عبوديته، ورفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه، ولقد كان الصالحون يفرحون بالمرض والبلاء ويعدونه نعمة كما يفرح الواحد منا بالرخاء قال : ((وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)) قال بعض الحكماء: (رب محسود على رخاء، وهو شقاؤه، ومرحوم من سقم، هو شفاؤه، ومغبوط نعمة هي بلاؤه) وقال ابن القيم رحمه الله: (ولو رزق العبد من المعرفة حظاً وافراً لعد المنع نعمة، والبلاء رحمة، وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية، ولتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى، وكان في حال القلة أعظم شكراً من حال الكثرة).
وهذه كانت حال السلف، فالعاقل الراضي من يعد البلاء عافية، والمنع نعمة، والفقر غنى، فالراضي هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه، وقال سفيان الثوري رحمه الله: (منعه عطاء وذلك أنه لم يمنع عنه بخلاً ولا عدماً وإنما نظر في خير عبده المؤمن فمنعه اختياراً وحسن نظر).
أيها المسلمون: وكلما كان العبد أتقى لله كلما كان البلاء عليه أشد لقوله : ((إن عظم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط)) رواه الترمذي، ولما كان الأنبياء والصالحون هم أحب الخلق إلى الله تعالى كان بلاؤهم أشد من غيرهم فعن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً قال: ((الأنبياء ثم الأقل فالأقل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) رواه الترمذي وهو صحيح.
وهذا نبيكم سيد الخلق أجمعين كان أشد الناس بلاءً حيث يشتد عليه المرض أكثر من غيره حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ((ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع من رسول الله)) رواه البخاري ومسلم. وقال أبو سعيد: دخلت على النبي وهو يوعك فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك؟ قال: ((إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجرة، قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ،قلت: ثم من؟ قال: الصالحون إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها (يجمعها)، وإن أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء)).
ثم أبشر يا من أصيب بمرض فمنعك هذا المرض من الطاعات، وحبسك عما كنت تعمل من الصالحات، أبشر فإن أجرك جار وعملك مستمر قال : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) رواه البخاري.
وعليك أيها المريض بالصبر، فإن الصبر على المصائب واجب باتفاق الأئمة والصبر نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. ويتحقق الصبر بثلاث أمور بحبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى للخلق، وحبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر من لطم الخدود وشق الجيوب ونتف الشعور، ولأهمية الصبر ومنزلته من الدين وحاجة المؤمن إليه جاء ذكره في القرآن في تسعين موضعاً كما قال الإمام أحمد رحمه الله: (فإن الله مع الصابرين ويحبهم ويجزيهم أجرهم بغير حساب) قال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفاً، نعم فلقد ذهب الصابرون بخير الدنيا والآخرة لأنهم نالوا من الله محبة الله.
وقيل لرسول الله : أي الإيمان أفضل؟ فقال: ((الصبر والسماحة)) ولكن الصبر يا عباد الله ليس كصبر البهائم الذي لا يصحبه احتساب الأجر عند الله، وليس الصبر المركوم في القلب الذي يصحبه السخط وعدم الرضى.
والصبر المأجور صاحبه هو الذي لا بد أن يتدبر فيه أموراً منها أن يعلم أن المرض مقدر من عند الله قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وأن يتيقن أن الله أرحم به من نفسه ومن والدته والناس أجمعين، وأن يعلم أن ما أصابه هو عين الحكمة من الله، وأن الله أراد به خيراً لقوله : ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) رواه البخاري، وأن ما أصابه علامة على محبة الله له، وأن يعلم أن الجزع لا يفيده، وإنما يزيد آلامه ويفوت عليه الأجر، قال علي بن أبي طالب: (إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور) ثم تذكر الموت وسرعة الإنتقال عن هذه الدار قال : ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبد قط في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقها عليه))، وأن تعلم أن الدنيا دار الإبتلاءات والأسقام والأحزان، وأنها حقيرة عند الله، وأن تعلم أن وراء هذه الدار داراً أعظم منها وأجل قدراً، وأنك لابد مرتحل إليها إن كنت من أهلها، وهي الجنة التي أعدها الله لأوليائه التي تزول فيها الأكدار والأسقام والأحزان.
وعليك أن تتسلى بالنظر إلى من هو أشد منك بلاءً وأعظم منك مرضاً، وأن تنظر وتتذكر أن مصيبتك ليست في دينك، فكل مصيبة ليست في الدين فهي هينة لقوله : ((ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)) رواه الترمذي.
ويحصل الصبر بالتصبر لقوله : ((ومن يتصبر يصبره الله)) ثم انتظر الفرج فإن فيه تهويناً، ومعونة على الصبر، وتصور انجلاء الشدائد وانكشاف الهموم قال ابن القيم رحمه الله: إنتظار روح الفرج معنى راحته ونسيمه ولذته، فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته ماهو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل، ثم دع عنك (لو) فإنها تفتح عمل الشيطان، فإذا أصبت بمرض لسبب من الأسباب فلا تفتح على نفسك باباً للشيطان فتقول: لو فعلت كذا لكان كذا مما فيه اعتراض على قدر الله وقضائه، وإنما عليك بالتسليم والاطمئنان بأن ما أصابك لابد من حصوله، وأن ماشاء الله لابد أن يقع وفق مشيئة الله قال : ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) رواه مسلم.
وأخيراً اعلم أيها المريض أن الله هو الشافي وأنه سبحانه هو مسبب الأسباب، وأنه سبحانه بيده الدواء قال : ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء يبرأ بإذن الله عز وجل)) رواه مسلم.
واعلم بأن الدواء مجرد سبب للشفاء، والشافي حقيقة هو الله سبحانه، فلا تتداوى بمحرم، ولا تتمنى الموت، ولا تستعجل الإجابة، وألحَّ على ربك بكثرة الدعاء والإستغفار والصدقة، واعلم بأن الله لا يخيب رجاء من دعاه ولاذ بجانبه مخلصاً صادقاً، فإن الله حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين، وكن على يقين بالإجابة لقوله : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
وعليك بالرقى الشرعية من الكتاب والسنة فإن أعظم ما يتداوى به العباد هو كلام الله الذي فيه الهدى والشفاء والتنفيس والتفريج قال تعالى: وننزل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين.
(1/1041)
دروس من غزوة أحد
سيرة وتاريخ
غزوات
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
16/10/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معركة أحد. 2- أخذ رسول الله أهبته للقتال. 3- غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر.
4- عمرو بن الجموح. 5- جراحة رسول الله في وجهه. 6- أبو دجانة. 7- مواقف أخرى
للصحابة في أحد. 8- اليقين بنصر الله مهما أدلهمت الخطوب. 9- عدم تعليق الدعوة العمل
لدين الله بحياة الرسول أو شخصه أو شخص غيره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون ما أجمل أن نداوي الجراح المكلومة الغائرة بالسيرة العطرة المعطرة لرسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه،فسيرته بلسم للجراح وملاذ للخائف وحصٌن للراجي، والعوذ عندما تدلهم المصائب والأزمات.
فبَكََّي رسول الله يا عين عبرة ولا أعرفنك الدهر ودمعك يجمد
وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد
تناهت وصاة المسلمين بكفه فلا العلم محبوس ولا الرأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عائب من الناس إلا عازب العقل مبعد
في الخامس عشر من شهر شوال أي في مثل هذه الأيام من السنة الثالثة من الهجرة وقعت معركة أحد بين المسلمين الموحدين ومشركي قريش ومهما أعدت ودبِّجت الرسائل فلن تعطي هذا الحديث ماله من حق في الدروس والعبر التي استفادها المسلمون من زمن الصحابة وحتى يومنا هذه وكأن الله عز وجل حينما قدّر أن الدائرة تدور على المسلمين في نهاية المعركة أراد بذلك أن يعطي الصحابة دروسا في بداية جهادهم ضد المشركين دروسا مؤثرة بالغة ترسخ في أذهانهم فلا ينسوها وتخلد في حياتهم فلا يجهلوها، وكذلك أن تصبح دروسا للأمة جمعاء في حياتها ومعاملاتها ولعل دروس النكبات والهزائم أعظم أثرا من غيرها في كل وقت وحين إلى الجسد المسلم بل والمتداهي، وهم بذلك يشوهون صورة الإسلام حينما يعرضون كل ذلك بالعلم ومحاربة البدعة ومنهج السلف هذه مواقف الإرجاف والنفاق من لدن نبينا محمد e وحتى الآن، فعبد الله بن أبي إنما أراد بذلك العمل أن يضعف المعنويات وأن تخور القوى لدى الصحابة حينما يهزهم هو ومن معه من المنافقين والمرجفين في المدينة بهذا الموقف، فهي طعنة في الظهر ولذلك فقد عاتبهم الله جل وعلا بقوله وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لا تبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان [آل عمران:167] وهو عمل ينطوي على غدر بالإسلام في أحرج الظروف وتلك أبرز خسائر النفاق والإرجاف، ولكن الله الذي صان هذه الدعوة وحماها أراد بمثل هذه المواقف المرجفة أن تصاب الأمة بمثل ذلك لكي تعزل الخبث عنها ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [آل عمران:179]. درس لا بد من الوقوف عليه ونحن نطالع هذه الغزوة إخوة الإيمان، واستعد المشركون بثلاثة آلاف مقاتل بعد أن اصطحبوا نساءهم وعبيدهم وجواريهم وكان المسلمون حينذاك سبعمائة مقاتل مع رسول الله وعسكروا بالشَّعْب جاعلين ظهورهم إلى الجبل ووزع النبي الرماة على أماكنهم وأمر عليهم عبد الله بن جبير في خطة محكمة رائعة، وكانوا خمسين رجلا وأمرهم بأن لا يغيروا أماكنهم مهما ظهر لهم النصر وظاهر هو نفسه بين درعين وتخير من الأقوياء من يكونوا في مقدمة الجيش ،روى ثابت عن النبي وممن قتل من الصحابة حنظلة بن أبي عامر الغسيل حيث قال عنه رسول الله إن صاحبكم لتغسله الملائكة فلما سألوا أهله ما شأنه قالت: إنه خرج وهو جنب ليلة عرسه حين سمع نداء الجهاد، الله أكبر إخوة الإيمان إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم وجهادهم ويوجهون زمامه بعزماتهم هم الذين صلوا هذه الحرب وبهذه التضحيات وبها وحدها وحفظوا مصير الإسلام في الأرض وممن قتل عمرو بن الجموح الذي كان أعرجا ولكنه أقسم أن يطأ بعرجته هذه في الجنة فلبى الله قسمه، وحينما رأى الرماة هذا النصر مالوا إلى المعسكر وخلوا ظهور العدو فكان يوم بلاء وتمحيص حتى وُصَِل إلى رسول الله فرُمي بالحجارة حتى وقع شقه فأصيبت رباعيته وشج في وجهه وجرحت شفته ودخلت حلقات المغفر في وجهه فأكب عليه أبو عبيدة ينزعها بفمه فما أخرجها إلا وقد سقطت ثنيتاه ونزف الدم بغزارة وجعل الدم يسيل على وجه النبي وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، ويمرّ ابن النضر بالمسلمين أثناء القتال فيقولون له مات رسول الله فيقول فما تصنعون بعدة، قوموا فموتوا على ما مات عليه، وبرزت حينئذ بطولة الصحابة رضوان الله عليهم فاجتمعوا حول رسول الله ينافحون عنه فترس أبو دجانة نفسه عن الرسول الله صلوات الله وسلامه عليه فأخذ النبل ويقع في ظهره وهومنحن عليه حتى كثر فيه النبل ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل وهو يقول: ارم فداك أبي وأمي ولما عرف المسلمون رسول الله نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام والحارث بن الضيمة وطلحة بن عبيد الله، وطلحة قد أبلى بلاء يوم أحد حتى عرف ذلك اليوم به فكان يرفع النبي ثم يقاتل المشركين ثم يأتيه فيرفعه ثم يعود للقتال حتى سمي طلحة الشهيد الحي وقال عنه حينما رأى ما صنع أوجب طلحة، أي وجبت له الجنة، ولما أسند رسول الله في الشعب أدركه أبيُّ بن خلف وهو يقول محمد لا نجوُت إن نجوتَ فقال رسول الله للقوم: دعوه فلما دنا تناول رسول الله الجربة فلما أخذها فهزها فانتهض الصحابة من حوله وتطايروا تطاير الشعراء أي الذباب عن ظهر البعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنه تدحرج منها عن فرسه مرارا، وبعد نهاية المعركة وقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثلن في القتلة وبُقرت كبد حمزة ومثل بالصحابة، وخرج رسول الله يلتمس حمزة فوجده بهذه الصورة ممثلا به في بطن الوادي فحزن لذلك أشد الحزن وأمر به فسجي ببردة ثم صلى عليه وكانوا يأتون بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة.
وقال رسول الله من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع فقال رجل من الأنصار أنا فذهب يبحث عنه فوجده جريحا في القتلى وبه رمق، فقال له إن رسول الله يسأل عنك فقال سعد أنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته وأبلغ قولي للأنصار السلام وقل لهم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف ثم لم يبرح أن مات فأخبر النبي بالخبر فاستغفر له وقال رسول الله حينما أشرف على القتلى يوم أحد أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا ويبعثه الله يوم القيامة يرقى جرحه اللون لون الدم والريح ريح مسك.
ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد أن أمر عليا بأن يلحق بالمشركين وكان مهموما حزينا وحينما مر ببيوت الأنصار سمع حزن نسائهم فتأثر وقال: ولكن حمزة لا بواكي له فبكت نساء الأنصار يومئذ حمزة عزاء للنبي.
ومر رسول الله بامرأة من بني دينار أثناء رجوعه، فقالوا لها: قد مات أخوك، فقالت لهم: ما فعل رسول الله ؛ فقالوا لها: مات أبوك؛ فقالت لهم: ما فعل رسول الله ، فقالوا لها: مات زوجك؛ قالت: ما فعل رسول الله ؛ قالوا: خيرا يا أم فلان بحمد الله كما تحبين، قالت: أروني حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد أنها صغيرة.
صورة قوية قارعة للبطولة والتضحية اصطدم بها الكفر في أول المعركة وآخرها فماذا أمامها واضطربت من تحت أقدامه الأرض فما ربح شيئا في بداية القتال ولا انتفع بما ربح آخره وهذا اللون من البطولة مسطر في التاريخ ينتظر من يلقى عليه الضوء ولن يقوم للإسلام صرح ولا ينكشف عنه طغيان إلا بهذه القوى المذخورة المضغوطة في أفئدة الصديقين والشهداء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران:139-142].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن معركة أحد قد تركت آثارا غائرة في نفس النبي تلازمه حتى آخر حياته ولما حانت وفاته جعل آخر عهده بذكريات البطولة أن يودع قتلى أحد وأن يدعوا الله لهم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله على قتلى أحد بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها)) قال عقبة فكان آخر نظرة نظرتها إلى الرسول أخرجه البخاري ومسلم.
وهكذا كانت فائدة الصحابة عظيمة من هذه الغزوة بالرغم من مصابهم فيها ولذلك فإنه يجب على الأمة أن تعلم أن الإيمان بهذا الدين يحب أن يصاحبه يقين تام بنصر الله جل وعلا لهذا الدين وتمكينه، إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [غافر:51]. والوعد الصادق من رسول الله لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك فهذه، الطائفة ظاهرة لا يضرها شيء فقد تخذلهم فئام من الناس وقد يخذلهم المرجفون والخلوف الذين يقفون بين الصفين فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم نمنعكم من المؤمنين كل هؤلاء لن يضروا الدين مهما فعلوا وإن هذا الوعد الصادق ينبغي أن يكون يقيننا به كيقيننا بهذا الدين الذي نعتقده، ونحتاج هذا اليقين أكثر في ساعات الشدة وأوقات الكرب يوم تدلهم الخطوب وتكفهرُّ الأحداث، نوقظ في النفوس صدق هذا الموعود واليقين به، ولذا كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أشد ما يكون تفاؤلا في ساعات الشدة وأوقات الكرب يأتي إليه خباب بن الأرت وقد أمضه الألم من إيذاء المشركين ورسول الله محاَرَبْ من المشركين ويلقى المسلمون من المشركين الشدة يطردون ويؤذون في شعاب مكة فيقول يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر؟ لنا فماذا أجابه الرسول الكريم : (( والله لينصرن الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلا يذل به الشرك وليتمن الله هذا الجدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه)) يقوله في حين أن المسلم ذلك الوقت لا يأمن أن يسير في فجاج مكة آمنا ثم انظر إلى رسول الله وللمسلمين معه يوم الأحزاب حينما أحاط به المشركون حينما كبَّر وكبَّر المسلمون معه، وقال لهم لقد أضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ورأيت القصور الحمر في أرض الروم وأمتي ظاهرة عليها ورأيت قصور صنعاء وأمتي ظاهرة عليها فاستبشر المسلمون حينذاك، وكلما تكالبت على المسلمين الخطوب والكوارث واشتد عليهم الخطب يجب أن يفزعوا إلى يقينهم بصدق موعود الله عز وجل وأن هذا الدين له وهو الذي تكفل بنصره والتمكين له في أرضه وسمائه.
حقيقٌة ينبغي ألا تغيب مهما غامت الرؤى أو غبشت الأجواء ولم يرتبط نصر هذا الدين مصيره بالدول أو بالجماعات أو بالأفراد ولو كانوا الأنبياء قد قتلوا ومع ذلك لم يمتنع أتباعهم عن مواصلة الدعوة والعمل بل لقد عاتب الله أصحاب نبيه في يوم أحد عندما سرى فيهم الوهن عندما أشيع بين ظهرانيهم أن النبي قد قتل فقال لهم: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين [آل عمران:144].
(1/1042)
أي امرأة نريد
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
1/5/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي. 2- خداع المرأة لإخراجها من بيتها وعن دورها
الرئيسي. 3- خطر الإعلام في توجيه المرأة. 4- ضرورة تعليم المرأة. 5- المرأة تعلم أبنائها
وتسعى في تربيهم وتعليمهم. 6- خديجة بنت خويلد. 7- سمية ينت خباط. 8- أم عمارة
المازنية. 9- أم عطية الأنصارية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل وكثرة حمده على آلائه إليكم، ونعمائه عليكم، وبلائه لديكم، فكم خصَّكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة فتوبوا إليه واستغفروه واشكروه، عباد الله، بزغ نور الهداية يشع في ذرُى مكة المكرمة لينتشر في أنحاء العالم، ناشرا معه الفضيلة، داعيا إلى الخير، مرهَّبا من الشر، أقر الفضائل، وَنقَّص الرذائل وألغى ما يخالف الإسلام من عادات جاهلية تسلب الحقوق وتهدر الكرامات.
كان من فضائل الإسلام على المرأة أن أعاد عليها كرامتها، وحفظ عليها ماء وجهها من أن تبذله، وتستذل استذلالا مقيتا، جعلها محفوظة في بيت أبيها تُحْتَرم ويعطف عليها لأنها امرأة، يراها مكرّمة معززة في بيت زوجها تبدي رأيها وتزور أهلها وتصل رحمها، نراها أمََّا تصبح كنفا للابن وينبوع سعادة، يتدفق بأغلى عاطفة إنسانية، فتعالوا إخوتي مرة أخرى لنتحدث عن المرأة بعد أن تحدثنا في خطبتنا الماضية عن كيفية الحفاظ على المرأة فهيا بنا نتناول الحديث عن المرأة التي نريد وماذا نريد من المرأة؟!
إخوة الإيمان: كوّن آدم وحواء أول أسرة في التاريخ عاشت بعد أمر الله لهم بإنجاب الأولاد ثم تربيهم على عقيدة الله عز وجل ونبذ الشرك، إذا فالمرأة تبدأ من الأسرة وتعتبر إحدى ركائزها، بل هي الركيزة الأساسية لهذه الأسرة، التي أمر الإسلام بأن يكون الزوجين فيها مترابطين بهذا الولاء: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21]. وبلغ من عظم هذا الرباط بين الزوجين أن جعله عليه الصلاة والسلام إحدى وصاياه لأمته في خطبة الوداع: ((استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله..)) ، والمرأة سواء كانت أمًا أو زوجة أو بنتا أو أختا أو عمة أو خالة لها مكان محترم وتقدير من نوع خاص، فاحترام الأم ينبع من توجيه إسلافنا بطاعة الوالدين، وتقدير الزوجة لأنها النصف الآخر لدين الرجل وعتبة منزله، وبنتا لتربيتها وحسن رعايتها، أجر مرافقة النبي في الجنة، وأختا يحافظ عليها حتى تجد الزوج الصالح، وعمة وخالة أمر الدين بصلة الرحم من خلالهن وتوعد قاطع الرحم بأشد العقوبات.
أيها الإخوة المؤمنون: لا يمكن لنا أن نتحدث عن دور المرأة ورسالتها المطلوبة منها بمعزل عن الحالة العامة التي تعيشها الأمة، فالمرأة لا تقيم في جزيرة نائية بل تعيش وسط العمعمة، تؤثر وتتأثر، تستقبل وترسل فما كان من ضعف في كيان الأمة أحست به وتأثرت له، وما كان من خير وقوة علمته وتمثلته ليعود نفعا عليها وعلى أسرتها، وحينما نرى كثير من المجتمعات نرى فيها اهتماما أكبر بالرجل كمًا وكيفاً، يتقدم هذا الاهتمام على الاهتمام بالمرأة بل قد يكون على حسابها في التربية والتعليم بما أثر في وجود ظواهر سلبية في شخصية المرأة ودورها ورسالتها.
وعلى الرغم من أن المرأة المسلمة بدأت تنال حظا من التعليم والاهتمام على مستويات رسمية وشعبية إلا أن هذا التعليم والاهتمام تأثر كثيرا بمفاهيم غير إسلامية، تؤكد مثلا على عمل المرأة ووظيفتها خارج البيت أكثر مما تؤكد على الأمومة وقيادة الأسرة، توهم المرأة بخيال حرية خطرة تهدد معتقداتها وسلوكها وكيفية أسرتها، إن الإعلام في أكثر البلدان الإسلامية لا سيما من خلال القنوات الفضائية التي تتابعها وتشاهدها المرأة يعمل على تقديم النماذج النسائية التي يطلبون تمثلها في مجتمعاتنا الإسلامية وأن تقلدها نساءنا إنها نماذج تعيش في بيوت جميلة، وترتدي الثياب الجميلة أيضا، وأحيانا تمثل القيم للناس بل ونساء التاريخ الإسلامي الطاهرات العفيفات، ولكن لا تسأل عما وراء ذلك كله من تهتك قِيَِمِي، تحلل عقدي يؤدي في النهاية إلى كون المرأة سلعة في جنبات سوق نخاسة عالمي ينظر التجار فيه إلى الأخلاق وكأنها تراث أو كماليات، يوجد في الحياة بدائل عنها تجد سماسرة ذلك السوق يقتلون المرأة باسم الحرية، فهم يكسبون المال بفتاة الغلاف ويروجون مصنوعاتهم بصورة امرأة متبرجة أو شبه عارية.
إننا كأولياء على النساء يحتم علينا الإسلام أن نجمع جهودنا في صياغة برامج تربوية لإصلاح المرأة وإعادة دورها المنشود، أن نكرس جهودنا في إعداد موسوعة علمية تتناول شؤون المرأة وشجونها، همومها واهتماماتها، حاضرها ومستقبلها، وأن نعمل بعون الله ثم بالتعاون المثمر البناء مع كل مؤسسة عامة أو خاصة، رسمية وشعبية بل مع الجهود الفردية لننقل التصور إلى حقيقة مرئية، ولنعبر من جموح الخيال إلى طموح الواقع ومن النظريات إلى التطبيقات، ولنبدأ مثلا مع بداية العام الدراسي للمرأة بالتأكيد على العلاقة بين القراءة والفعل، بين المدرسة الشارحة والمدرسة السالكة المطبقة، بين الإسلام بوصفه خِيَِرة الله للناس وصبغة الله التي أرادها للبشر: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، لنساهم في وجود العلم والمعلّمة والإرادة للذين يجعلون بناء العقيدة في شخصية الطالبة أكبر همهم ويحضونها على طلب العمل لنفع دينها وأمتها ودنياها، أخرج البخاري أن رسول الله قال: ((أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران)) ، وقال عروة بن الزبير: " ما رأيت أحدا أعلم بطب ولا بفقه ولا بشعر من عائشة "، يجب أن نساعد في وجود العلم والمعلمة الذين يعدون المرأة الزوجة والمرأة الأم، والمرأة المنتجة مثل أن يعدوا المرأة لوظيفة تخالف طبعها وطبيعتها لتقضي عليها أمًا وزوجة.
ليساعد الآباء والأمهات والأولياء والأزواج المسؤولين في آرائهم ورُآهم، وليكن همُّ الكتَّاب والمثقفين والإعلاميين رفع دور المرأة وتوضيح حقيقته، ليتحدث الخطباء وليتكلم المحاضرون على المرأة الموجود والمرأة المطلوبة، عن الأم التي تخلت عن أمومتها للخادمات، وانشغلت بالأفراح والحفلات، ليتحدث الجميع عن المرأة التي انشغلت عن بيتها للثرثرة عند الجارات في أحاديث تفسد الدين ولا تنفع الدنيا، لنتحدث عن الأم التي صارت مجلات الأزياء ثقافتها مهملة كتاب ربها وسنة نبيها، لتكتب الأقلام وتنطق المنابر بأن المرأة المسلمة هي التي باعت لله نفسها، وبايعت على العفة والجد، ترى واجبها الأكبر في أداء حق ربها ثم في إرضاء زوجها، ورعاية أطفالها وبيتها، قال : (( إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)).
لتكتب الأقلام عن المرأة المسلمة التي تكون مباركة حيث ما حلت فلا تختصر الزوجية بالطبخ ولا تختزلها في الملبس، ولا ترتضي تلك المرأة الخيرة بيتا لا مكان للعلم وحفظ القرآن وتداوله فيه، ولا تقترن برجل لا يعظم شعائر الله ولا يلتزم بشرائع الإسلام، يؤرقها جهل أولادها وسوء خلقهم، كما أنها تقلق لمرضهم وانحراف صحتهم، تخشى على بيتها الانحراف والفساد كخوفها من حيوان مفترس يتربص بأهل بيتها الدوائر، تسعى بكل جهدها لتعليم أولادها واختيار أحسن المعلمين لهم كما تجهد لإطعامهم واختيار لباسهم، روى مسلم عن أنس بن مالك أنه قال: ((جاءت بي أم سليم – والدته – إلى رسول الله وقد أزرتني بنصف خمارها، وردتني بنصفه، قالت: يا رسول الله هذا أنُيَسْ ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقال : اللهم أكثر ماله وولده)) فكان أنس من مكثري الصحابة في الرواية عنه.
إننا إخوة الإيمان نريد المرأة التي تؤثر ولا تستأثر، وتقنع ولا تطمع، تسير مع زوجها وفق قدرته فلا ترهقه بمطالب تجعله فريسة للديون.
إننا نريد المرأة التي تكون بشخصيتها المسلمة لا بوقاً لكل ناعق ناعب وليست مناعا لكل متربص بالبيت المسلم دوائر السوء.
إننا إذ نريد ذلك كله فإننا نطلب من الله عز وجل أن يعيننا على ذلك بفضله ومنّه، ونريد من مجتمعاتنا بكل طاقاتها وإمكانتاتها، نريد قادراً وقائداً ومقوداً العمل على تعبيد الطريق لتدعيم القيم الإسلامية والبراعم الإيمانية لكي ينعم الجميع، مجتمع آمن متراحم متماسك إن شاء الله ،وليضع لبنة الأم المدرسة التي تصنع أجيال المستقبل الواعد.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
إذا كنا نريد نتائج عامة نافعة للأمة فإن المشاركة لا تكون خاصة ولنعلم أن جمع الجهود وتكريسها لتربية المرأة وإعادة دورها المنشود ورسالتها الواعدة هو خير ما يجتمع الناس له ويتواصون به: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) هذه صيغة عموم وجود صدرها يستلزم حضور لوازمها فإذا التزم الأكثر من المجتمع خيرا وطمأنينة، وإن قل الملتزمون بالمساعدة على إيجاد المرأة المسلمة ببذل الجهود وجمع الوسائل والدعاء الصالح والرأي الناصح والدعم بالمال ونشر العلم المقتبس من كتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة السلف الصالح وسلوك المسلمات الصالحات، إن قل كل ذلك فما أخال غدنا إلا كالحا ولا مستقبلنا إلا قاحلا.
وثقتي بالله عز وجل، ثم بالمسلمين الحريصين على مجتمعهم من أمثالكم تحملني على التفاؤل وتدفعني وإياكم لأن نُغَلَّب جانب الأمل بفضل الله ثم بجهودكم التي نسأله جل وعلا أن يبارك فيه ويضاعف أجرها ويضعف عدوها، ولنعلم تماما أيها الأحبة أن ليس في الدنيا خير من نسائنا ما تمَّسْكن بحجابهن وحافظن على آدابهن، وتقيدن بأخلاق وأحكام إسلامهن، وتتبعن خطا ذلك المجتمع الفاضل الذي أخرج خديجة وأسماء والخنساء ومئات من المربيات الفضليات، والعالمات الأدبيات، والأمهات الديّنات الصَّينات اللائي وَلدن أولئك الرجال الذين كانوا قواد الميادين، وفرسان المنابر وأبطال الفكر، وسادة الدنيا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [الأحزاب].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس: حين تداولنا الحديث عن دور المرأة وماذا نريد منها تعالوا بنا نقلب صفحات سيرتنا العطرة لنطالع غيضا من فيض سيرة أعظم النساء في التاريخ فكل مَنْ يرى بداية دعوة الإسلام لا يغفل عن موقف خديحة رضي الله عنها في نصرة الرسول وتثبيتها، فلقد وقفت بجانبه وآزرته معنويا وماديا، وكانت له خير معين إلى أن توفاها الله، أنظر كيف ثبتته حين عاد من رحلة الغار فزعا مهموما: "كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتحمل الكلّ وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الدهر"، ثم إلى صورة سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر التي عذبت في سبيل دينها حتى الموت فخلد التاريخ اسمها أول شهيدة في الإسلام، واستمر دور المرأة، عظيما في سيرة الإسلام الأولى في بيعة العقبة حيث بايع رسول الله ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتان هما نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي، وانظر إلى عائشة رضي الله عنها في إيصال علم النبي إلى الناس، عن أبي موسى الأشعري قال: "ما أشكل علينا أصحاب رسول الله حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما"، أخرجه الترمذي، وكان للمرأة دور كبير في الجهاد حيث لم تبخل بشيء من جهدها، فعن أم سعيد بنت سعد قالت: دخلت على أم عمارة نسيبة بنت كعب فقلت لها: حدثيني خبرك يوم أحد؟ قالت: "خرجت أول النهار ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى الرسول وهو في أصحابه والريح والدولة للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فجعلت أباشر القتال دونه وأذود عن رسول لله بالسيف وأرمي القوس حتى خلصت إلي الجراح " قالت الراوية: فرأيت على عاتقها جرحا له غوار جوف.
وفي صحيح مسلم عن أم عطية الأنصارية قالت: "غزوت مع رسول الله سبع غزوات كنت أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى" تلك أجزاء من سيرة المؤمنات المناضلات المجاهدات الصابرات اللواتي سَمَتْ نفوسهن وعلت أخلاقهن واللواتي يشعرن بحريتهن من خلال عبوديتهن لله وحده.
ونحن نريد من كل ذلك أم المستقبل الباسم المشرق، نريد من ترضي ربها، نريد مربية الأجيال ومدرسة الرجال، وأمل الأمة، نريد مخرجة العلماء والدعاة المحامية عنهم الداعية لهم ذلك هو ما نريده من دور عظيم وبناء للمرأة وتلك هي المرأة التي نريد.
أسأل الله جلت قدرته أن يصلح أحوال المسلمين وأن يصلح نساء المسلمين ويجنبهن ما يكاد لهن ويُخَطَّطْ من تدمير وإفساد، وأن يرزقهن حسن التربية ودوام العمل لخدمة الدين ونشر الإسلام.
وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/1043)
السحر آفة خطيرة
التوحيد
الشرك ووسائله, نواقض الإسلام
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
22/6/1415
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكم السحر والسحرة. 2- التحذير من المروجين للسحر. 3- الطرق الشرعية لعلاج
السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم... يقول الله تعالى في كتابه الكريم: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة:102].
إخوة الإيمان: لكثرة الملحين على تناول هذا الموضوع وطرحه ولتعلقه الكبير بإيمان الناس وعقيدتهم، رأيت لزاما علي أن نتحدث اليوم عن موضوع السحر.
ولست أزعم إخوة الإيمان: أنني سأغوص في تفاصيل هذا الموضوع وطرقه ودروسه وتاريخه، فهذا ما لا أراه مجديا ولا الوقت كافيا، وللأسف أننا نرى الآن انتشار بعض الكتب التي يتداولها عامة الناس من صغار وكبار ورجال ونساء في هذا الأمر وهم لا يعلمون شرها وضررها، أما لماذا نطرح هذا الموضوع، فلأنه موضوع مهم وقضية هامة من قضايا المجتمع كل فرد ينتمي إلى هذا المجتمع ولهذه الأمة هو من المعنيين بحديثنا هذا اليوم عن السحر، إن حديثنا عن السحر، حديث القرآن عن السحر، ذلك الحديث الذي ذكر الله سبحانه وتعالى فيه أن السحر ضلالة وكفر وذكر فيه المولى جل وعلا أن السحر ينتج عنه التفريق بين المرء وزوجه، وقِسْ على ذلك ما تشاء من التفريق بين الأم وأبنائها وبين الوالد وأولاده وبين الجار وجيرانه والقريب وأقربائه.
إننا نعرف أنا هناك من يرى أن طرح هذا الموضوع لا أهمية له بجانب قضايا كبيرة أهم منه ولكن هؤلاء ربما لم يقدروا الآثار العظيمة التي دعتنا للحديث عنه:
أولها: تنبيه الأمة على خطر السحر والشعوذة في المجتمع، فلقد شاع وذاع وراج في مجتمعنا من قضايا السحر والشعوذة الكثيرة، فهو الجزاء الرادع الذي ينتظر الزوج من زوجته أو العكس، وهو كذلك الترجمة الحقيقة لما يحيك في النفس الشريرة من مؤامرات، ومن تدبير لتفريق الأسر، وهدم المجتمع وضياع الأفراد ،ويصاحب ذلك من الهوى المتبع ومن الشيطان المريد ومن ضعف الإيمان ما يجعله تجارة سائغة موجودة في المجتمع يجب التنبه إليها.
ثاني هذه الأسباب: التي دعتنا لطرح هذا الموضوع هو قلة زواج أو لتحقيق نجاح يعتقده الإنسان، ويكون في أكثر الأحيان للتخلص من عدو يراه الإنسان وإنني أقول أن من يسلك هذا المسلك هو من الذين فقدوا المعنى الحقيقي لـ لا إله إلا الله تلك الكلمة التي حملها بين جنبيه ورددها بلسانه وأشهرها وأعلنها مبدأ من مبادئه ولكنه يفقد معنى هذه الكلمة حينما يسلم نفسه إلى الساحر أو الكاهن ليفعل به ما يريد، يقول جل وعلا: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ، أما الأسباب التي أدت بالإنسان إلى ذهابه إلى السحرة فهي:
أولها: ضعف الإيمان : هو سبب لكثير من القضايا حيث يقل توكل الإنسان على ربه فتضعف نفسه لدواعي الشيطان ومهلكاته بالسحر وغيرها.
ثاني هذه الأسباب: الجهل بالدين وقلة العمل فإن كثيرا من الذين يذهبون إلى السحرة لا يعلمون أنه منكر وكفر بل قد يظن الرجل أحيانا أن السحرة مثل القراء الذين يقرؤن الرقى الشرعية، بل يظن البعض أنها قربة له في أن يفرج عن المريض أو المصاب كربته، أو كخدمة لقريب له أو صديق يقول : ((من أتى ساحرا أو عرافا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أحمد، وقال : ((من أتى كاهنا أو عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما)) ، وعد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام:
الإعراض عن دين الله لا يعلمه المرء ولا يتعلمه، وأيضا من الأسباب التي تدعو إلى هذا العمل كثرة الفراغ لدى الشباب والشابات وغيرهم وهو منبع كل شر.
أما السبب الذي لا نستطيع أن نخفي أثره في نشر السحر وتهوين أمره فهي تعرض لنا مثل هذه البائقة التي عدها رسول الله من الموبقات من خلال البرامج المطروحة، فنرى أطفالنا يتلقون الأفلام الكرتونية التي تبين السحر والسحرة وكيف أثرهم حتى أن الساحر منهم بعصاه ذي النجمة يستطيع تحويل كل شيء لما يحب، من تحويل الجو وبناء القصور في لحظة والمدافعة عن المظلومين لكي يحبه هذا الطفل الصغير بل وقد يقلده وكل ذلك يعرض ونحن في غفلة، كذلك ما يعرض في الأفلام والمسلسلات من استعانة بالسحرة واللجوء إليهم عند الشدائد ألا ترون إخوة الإيمان أن لذلك كبير الأثر على الأسرة المسلمة الموحدة.
هذا فضلا عن الجرائد والمجلات التي تجلب لنفسها الإثارة والمتعة بالتشويق مثل هذه الأمور حتى أن جريدة عربية واحدة منها على سبيل المثال استمرت في عرض حلقات مطولة وعبر ثلاث صفحات على الأقل بعنوان كيف تتعلم السحر؟! وغيرها من المجلات والجرائد التي تغفل عنها وهي تعرض المقابلات مع السحرة والكهنة وكيف يتعلمون السحر وما هي طرقكم في السحر إلى أخر ذلك من الأسئلة التعليمية، وانظر مثالا للإيمان بالشعوذة والكتابة والأبراج والحظ فأنت إن ولدت في يوم كذا ستكون مشئوما وفي يوم كذا ستكون سعيدا أو حظك اليوم سعيد أو حظك اليوم شقاء وغير ذلك من ترهات نشتريها بأموالنا ونغذي بها عقول أولادنا ونسائنا.
ومن الأسباب كذلك لإنتشار السحر: سوء بعض العمالة الوافدة، وأكثرها غير مسلم من الخادمات على وجه الخصوص اللاتي يختلطن في البيوت وكذلك السائقين والعمال من الديانات الهندوسية والبوذية والنصرانية وغيرها، وإنني على يقين من أن بعضكم يعرف قصصا تثبت ما أقول.
عباد الله إن أحوال السحرة وعاداتهم وطبائعهم غريبة كل الغرابة، بل وشاذة أنزه أسماعكم وهذا المنبر من ذكر بعضها أو كلها، ولا يفلح الساحر حيت أتى ويكفي هذا الأمر لكي نعلم مدى السوء الذي يصلون إليه حينما يكونوا من السحرة أو الكهنة ولذلك فقد كان حد الساحر ضربة بالسيف كما ورد ذلك عن النبي ، قال الإمام مالك رحمه الله في الموطأ : " الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلق ف أرى أن يقتل إذا عمله بنفسه.." وقال مثل ذلك الإمام الشافعي رحمه الله. وإن مما يساعد السحرة ويجعل سوقهم رائجة الوهم الذي يصيب الكثير منا لأي هاجس يصاب به الإنسان أو حالة نفسية طبيعية تصيبه أو مرض غير معروف للوهلة الأولى وخصوصا لدى النساء اللاتي يسارعن إلى الشك بأن هذا الوهم عمل من السحر، بل ونسارع إلى علاجه قبل كل شيء بالذهاب إلى السحرة وتصديقهم فيما يقولون ودفع المبالغ الطائلة لهم بل والإشراك بالله في بعض الأحيان إما بقول فيه شرك أو بالذبح لغير الله وغير ذلك وهذا من أعظم الطوام، وعلى فرض أن السحر وقع حقيقة لا تجد أننا نسعى لكتاب الله نطلب فيه الشفاء الذي يقول الله تعالى عنه : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [سورة الفلق]. ولا شك أن القرآن أثبت أن فيه العلاج لكثير من الأمراض والأسقام وهناك مع ذلك الطرق المشروعة التي قال بها الفقهاء عند الإصابة بالسحر أو قبل الإصابة به كقراءة الأوراد والأذكار الحافظة للإنسان من كل شر وكذلك الرقى الشرعية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع كتابه وهدي رسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بين لنا الحق بدليله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى سبيله، صلى الله عليه وسلم على آله وأصحابه وكل من الصف باتباع الحق وقبوله، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: بالله ورسوله، لا شك أن لكل داء دواءا علمه من علمه وجهله من جهله إلا الموت كما ورد ذلك عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولا شك أن هناك طرقا شرعية لعلاج السحر والوقاية منها يجب علينا أن نعرفها ونشير بها على الناس ومنها:
أولا: الصبر وقوته على المرض أو الوهم وعدم الخوف والضعف، فإن هذه الأمور كثيرا ما تصيب ضعيف الإرادة ذا الإيمان الضعيف، وكذلك الصبر بعدم التعجل للشفاء مع استخدام الرقى الشرعية من القرآن الكريم، فقد تطول مدة القراءة، والناس مع الأسف يملون ثم يتجهون إلى السحرة، لقد جلس النبي ستة أشهر وهو يستخدم القراءة بالرقى الشرعية حينما أصيب بالسحر، فما بالكم إذا علمتم أن صبر الإنسان لهذه الصيبة رافع لدرجاته زيادة لحسناته فإنه من الابتلاء.
الثاني: من الطرق الشرعية لعلاج السحر: تقوية الإيمان بالله ،والتوحيد في نفوسنا والاتكال على الله وكثرة الاستعاذة بالله واللجوء إليه من شياطين الإنس والجن كما قال سبحانه وتعالى: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [المؤمنون:97-98]. وكما قال تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. [فصلت:36] الآية، واجعل قلبك أخي المؤمن مملوء بتقوى الله ومخافته في السر والعلن وأن تكون متوكلا على الله في جميع أمورك ومن يتوكل على الله فهو حسبه [الطلاق:3].
الثالث: من الطرق الواقية من السحر: عدم الظلم للآخرين لأنه يورث البغض والعداوة في قلب المظلوم ينسى معه الخوف من الله سواء كان هذا المظلوم هو الزوجة أو الزميل أو العامل أو الخادمة فيلجئه الظالم إلى أن يقع على ضلالة فيما حرم الله فيعمل السحر، فيصيبك على حين غفلة من تركك للأولاد التي وردت عن النبي.
أيضا من الوسائل لمنع السحر ووقوعه: عمل القربات إلى الله سبحانه وتعالى كقراءة القرآن والإكثار منها آناء الليل وأطراف النهار وكذلك الحرص على الأولاد الثابتة عن النبي في الصباح والمساء وكذلك الصدقة والإنفاق فإنها تقي مصارع السوء، وكذلك الإحسان إلى الغير بشتى أنواع الإحسان.
الأمر الخامس من الطرق الواقية من السحر: تجديد التوبة لله جل وعلا من كل ذنب يرتكبه الإنسان فإن الفساد الذي يحوم في نفوسنا مرتع خصب لنمو هذه البوائق واستمرائها لدى الفرد والمجتمع.
وإنني على يقين إخوة الإيمان أن كل هذه الوسائل وما لم يذكر منها كفيلة بأن يحبط كيد الساحر حيث أتى وهي كفيلة أيضا بأن تلغي كل دور للوسوسة والهم والغم الذي يعتري قلوبنا ولا شك أنه ما كان للسحر أن ينتشر في المجتمع وفي بلاد التوحيد على وجه الخصوص لولا ضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب علينا جميعا أفرادا ومسئولين أن ندرك أننا مسئولون عن مقاومة مثل هذا الشرك وغيره وذلك بفضح هؤلاء السحرة والكهنة والإخبار عنهم وعن أماكنهم، وطريقهم، بل وفضح من يدل عليهم ويجلب لهم الزبائن، وكذلك يجب علينا أن ننشر هذا الدين ونعلمه الناس في المساجد والجوامع والمدارس والمنتديات، لأن الجهل كما ذكرنا آنفا باب لكل شر وفتنة فما بالكم الجهل بالتوحيد، أسأل الله العظيم الجليل أن يحمي أنفسنا ونسائنا وذرياتنا من كل من في نفسه شر وفتنة، وأن يرد كيد السحرة والمشعوذين في نحورهم وأن يكفي البلاء والعباد خطرهم وضررهم إنه سميع مجيب.
(1/1044)
القضاء والقدر وموقف المسلم
الإيمان
القضاء والقدر
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – كل ما يقع مكتوب قبل أن تخلق الخلائق
2 – أثر الإيمان بالقضاء والقدر في إطمئنان قلب المسلم
3 – اركان الإيمان بالقضاء والقدر
4 – الرضا بالقضاء عند وقوعه
5 – خطأ نسبة الأمور لأسبابها الظاهرة مع الغفلة عن كونها قضاء الله وقدراً.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وآمنوا به، واعلموا أن الإيمان ليس بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وأركان الإيمان ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
فالإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان التي لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بها كلها، وحقيقته أن تعلم أيها المسلم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم، قال له: أكتب. قال: يا رب ماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)) يا بني إني سمعت رسول الله يقول: ((من مات على غير هذا فليس مني)). [1]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي فقال: ((يا غلام! أني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
والإيمان بالقدر واجب، فإذا آمن الانسان بالقدر إيمانا كاملا لا يعتريه شك اطمأن في حياته، فإذا أصابه شيء علم أنه بقضاء الله وقدره، فيطمئن قلبه.
قال تعالى: ومن يؤمن بالله يهد قلبه
وهذا مما يجعل الإنسان لا يحزن على ما مضى، ولا يخاف من المستقبل.
عباد الله!
وللإيمان بالقضاء والقدر أركان لا يتم إلا بها:
الركن الأول:
أن يؤمن الانسان بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء شهيد، فما من شيء حادث في السماوات والأرض، وما من شيء يحث فيهما مستقبلا إلا وعند الله علمه، ولا يخفى عليه شيء من دقيقه وجليله.
قال تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
الركن الثاني:
أن يؤمن الإنسان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى أن تقوم الساعة، فكل شيء يحدث في الأرض أو في السماوات فهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وقد أشار الله إلى هذين الركنين بقوله: ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير.
الركن الثالث:
أن يؤمن الإنسان بمشيئة الله العامة وقدرته الكاملة، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فكل ما حدث في السماوات والأرض من أفعال الله أو من أعمال الخلق فإنه بمشيئة الله، من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.
وكل شيء يعمله الإنسان ويحدثه فإنه بمشيئة الله، حتى إصلاح طعامه وشرابه وبيعه وشرائه.
وفي الحديث عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)) والعجز: الضعف، والكيس: النشاط.
الركن الرابع:
أن يؤمن الإنسان بأن الله خالق كل شيء ومقدره ومسخره لما خلق له، وأن الله خالق كل الأسباب والمسببات، وهو الذي ربط النتائج بأسبابها، وجعلها نتيجة لها.
عباد الله!
ينبغي للعبد إذا جرت أقدار الله على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يستسلم للقضاء المكتوب، فإنه لابد أن يقع، ولو حاول جميع الناس دفعه عنه فلا راد لقضاء الله، لكن العاقبة الحميدة لمن يقابل ذلك بالرضا، ويعلم أن الأمر من الله، وهو لابد واقع شاء أم أبى.
هذا؛ وإن بعض الناس – وفقنا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه يفسر ما يقع من الأقدار على أنها أمور عادية، فيقول مثلا: الطائرة أو السيارة احترقت لخلل فني، والبيت انهدم لخلل هندسي، والحريق اندلع لماس كهربائي.... وهكذا، يلتمس مسببا سواء كان صحيحا أو غير صحيح، ولا ينظر فيما وراء ذلك من تقدير الله سبحانه وتعالى له.
ولذلك؛ فإن المزارعين حين تصاب محاصيلهم يعزون ذلك إلى تسمم البذور تارة، أو إلى طريقة الري تارة، أو إلى شدة البرد تارة أخرى، ويغفلون عن قضية القضاء والقدر،وأن هذا شيء مقدر، لابد أن يقع.
عباد الله!
وبمناسبة موضوع الزراعة؛ فإني أود أن أنبه بعض المزارعين – هداهم الله – إلى أمر يفعله بعضهم، وهو أمر لا يجوز، وقد يكون ما يصيب زرعه عقوبة من الله، وذلك الأمر هو أن بعض المزارعين بعد انتهاء موسم الحصاد يبقى في الأرض بقايا الزرع مما لا قدرة له على جمعه، فيقوم بإحراق الأرض جميعها بعد أخذ الزرع الصالح منها؛ بحجة أنه سيتخلص من تقلك البقايا، ويكون ذلك خدمة للأرض وللزرع القادم، وقد رأينا أرضاً ذات مساحات واسعة، والنار تشتعل فيها أياماً، تأكل الأخضر واليابس، وما أحب أن أنبه عليه هو أنه يوجد في تلك الأرض المحرقة شيء من دواب الأرض وخشاشها، التي تعيش بين الزرع؛ من نمل، وطيور، وجرذان، وغيرها.. فيشملها الإحراق.
فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: (( قرصت نملة نبياً من الأنبياء؛ فأمر بقرية النمل، فأحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأممم تسبح الله!)) [2].
فلا يجوز الإحراق بالنار؛ لأن تلك الكائنات تسبح لله، وإن من شيء إلا يسبح بحمده [الإسراء:44]. وقد يقول بعضهم: إني متأكد أنه ليس فيها حيوانات، فيقال: إن هذا في المساحة الصغيرة، وأما تلك المساحات؛ فهي كبيرة لا تقطع أطوالها إلا بالسيارات، فيصعب التحرز؛ فالأولى حرثها؛ ليسلم الإنسان من الإثم.
عباد الله!
قد يسبق إلى الأذهان أنه إذا كان القضاء قد سبق؛ فلا فائدة في الأعمال.
وقد سبق أن سأل الصحابة رضوان الله عليهم النبي هذا السؤال فأجابهم بما يشفي العليل ويروي الغليل:
فعن علي قال: قال رسول الله : ((ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة)) فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: ((من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة، فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة)) وفي رواية أخرى قال: ((اعملوا؛ فكل ميسر: أما أهل السعادة، فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة؛ فيسرون لعمل أهل الشقاوة)) [3] ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى [الليل:5-10].
فالقدر السابق لا يمنع العمل، بل يوجب الجد والاجتهاد.
اللهم قدر لنا بفضلك ما فيه صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة؛ إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] - رواه ابو داود(4078).
[2] رواه البخاري.
[3] رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1045)
بيان الدواءين القرآني والمادي - حجاب المرأة / الحلقة الأولى
الإيمان
الجن والشياطين
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
24/5/1410
قباء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الإنسان - هذا المخلوق المكرم - معرض للآفات والعوارض من الأمراض والحوادث وغير ذلك من الأحوال المكروهة وبذلك يظهر ضعفه ويتبين قدره وأنه خُلق ضعيفاً، وأنه خُلق من ضعف فإن هذا الإنسان كلما أحس بالعافية والقوة أو أوتي شيئًا من الجاه والسلطان، أو أوتي شيئًا من المال هو في الغالب يطغى ويتجبر على الناس ويشمخ بأنفه وينسى نفسه وينسى ربه عز وجل، فإذا ما هجم المرض على جسده أو على نفسه أو على عقله اشتد جزعه وانهارت قوته فذهب يضرب في الأرض يمينًا وشمالاً يبحث عن الطب والدواء ويتذلل للأطباء وربما تذلل للدجالين والمشعوذين: إن الإنسان خُلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [المعارج:19-23]. نعم إلا المؤمنين، والمؤمنون هنا وصفهم الرب عز وجل بالمداومة والمحافظة على الصلاة فهم يذكرونه سبحانه دائمًا.
وصفهم بهذا الوصف تنويهًا بعظم شأن هذه العبادة وعظم شأن قدرها وعظم بركتها على أصحابها فالمؤمنون من أبرز سيماهم ذكر الله عز وجل والمداومة على الصلاة والمحافظة على الصلاة.
ولذلك فإنهم يستمتعون دائمًا في جميع أحوالهم ببركات هذه العبادة العظيمة الشأن.
المؤمن المحافظ على ذكر الله وعلى الصلاة يُبتلى كغيره من الناس، قد يبتليه الله عز وجل بالمرض في جسده أو في نفسه أو في عقله ليرفع من درجاته ويعظم ثوابه ويطهره من ذنوبه حتى إذا قدم على ربه يقدم عليه وهو نقى من الذنوب، فالله عز وجل يبتلي المؤمن كما يبتلي غيره.
إلا أن من أبرز سمات المؤمن أنه إذا اُبتلي صبر، ورضي بقضاء الله وآمن بقدره وبأنه سبحانه يفعل في ملكه ما يشاء: لا يُسئل عما يفعل وهم يُسألون [الأنبياء:23].
له ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار سبحانه وتعالى. والمؤمن مع ذلك من شأنه أيضًا أن يتخذ الأسباب لرفع بلاء المرضى عن جسده أو نفسه أو عقله، يتخذ الأسباب بالتداوي امتثالاً لأمر النبي المصطفى فقد أمر بذلك فقال: ((عباد الله تداووا فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء)) [1].
فالتداوي أي طلب الدواء لإزالة المرض هو من اتخاذ الأسباب واتخاذ الأسباب من لوازم التوكل، ولوازم حسن الظن بالله عز وجل ولذلك فإن سيدنا رسول الله وهو أعظم المتوكلين إيمانًا وأعلمهم بالله عز وجل تداوي طلب الدواء لنفسه ووصفه لغيره.
وقد أرشد الرسول لأمته الدواءين الدواء المادي والدواء القرآني أما الدواء المادي فخبره لدى الأطباء والمستشفيات والجراحين هم أهل هذا الشأن.
لكن سيدنا رسول الله لقلة الأطباء في زمنه وندرته في عهده وشفقته على أمته أرشد الناس إلى بعض الأدوية المادية وصفها لهم وأقر بعضًا ممن كان موجودًا من قبل.
فأرشد إلى العسل [2] وأرشدهم إلى القد العود الهندي [3] وأرشدهم إلى السنا المكي [4] ووصف التلبينة [5] أي مرق اللحم الممزوج باللبن، ووصف الاغتسال بالماء البارد للمحموم [6].
ووصف الحجامة [7] ، وذكر الكي من أنواع الدواء لكنه جعله آخر الدواء [8].
فأرشد الناس إلى هذه الأدوية المادية وهي بعضًا من الدواء المادي فإضافة إلى ما أخبرنا به الصادق الأمين المبلغ عن رب العالمين من هذه الأدوية المادية.
فإن الدواء المادي في زماننا هذا قد تطور بتطور الطب والجراحة تطور تطورًا كبيرًا وهذا من أعظم نعم الله على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون، فالمؤمن يتخذ الأسباب إذا ابتلي بالمرض أو بغيره، يتخذ الأسباب يبحث عن الدواء المادي، يذهب إلى الأطباء والمستشفيات وهذا أمر لا يحتاج الناس إلى تحريضهم عليه هم أحرص على أجسادهم وعلى مصالحهم.
إلا أننا نريد بذلك أن ننفي عن الأذهان، عن ما يقوم في أذهان بعض الناس بأن من لوازم التوكل في شريعتنا ترك الدواء وترك طلب الدواء هذا خطأ فادح فإن التداوي من لوازم التوكل لأنه من اتخاذ الأسباب هو من لوازم التوكل ومن لوازم حسن الظن بالله عز وجل، ولو كان ترك الدواء من التوكل لما فعله سيد المتوكلين والمؤمنين رسول الله ، فقد تداوى بنفسه طلب الدواء لنفسه ووصفه لغيره.
هذا عن الدواء المادي، وأما الدواء القرآني فإن الله عز وجل أنزل هذا القرآن شفاءً لما في الصدور، شفاءً لأمراض الشهوات والشبهات وهذا هو الأصل في القرآن العظيم أنه إنما أُنزل ذكرًا قرآنًا مبينًا أي كلامًا يُتقرب للرب عز وجل بقراءته وتلاوته.
وأُنزل حكمًا لقوم يوقنون أي دستورًا ونظامًا إذا التزم الناس بأحكامه وقوانينه وآدابه في حياتهم أفلحوا في الدارين.
ولكن الرب عز وجل من رحمته بعباده أودع في كلامه العظيم في قرآنه الكريم، مع ذلك أودع فيه من أسرار البركة والخير أن جعل فيه الشفاء من الأمراض عضوية كانت أو غير عضوية.
جعل فيه الشفاء من الأمراض، الشفاء من العين، الشفاء من السحر، والشفاء من مس الجن ومن غير ذلك من الأمراض.
جعل في كلامه العظيم الشفاء من الأمراض معنوية كانت أو غير عضوية فعلى المسلم أن يلجأ إلى الدواءين الدواء المادي والدواء القرآني بدلاً من أن يذهب إلى الكهنة والسحرة والدجالين والمنجمين والمشعوذين فيقع في الإثم العظيم يقع في الكفر بما أُنزل على محمد ولا تُقبل له صلاة أربعين يومًا.
بدلاً من ارتكاب هذا الإثم العظيم وبدلاً من ارتياد الكهنة والدجالين والعرافين على المسلم أن يلجأ إلى الأسباب التي أرشده إليها نبينا وسيدنا محمد أن يلجأ إلى الدواءين، الدواء المادي والدواء القرآني.
الدواء المادي المتاح لدى الأطباء والمستشفيات، والدواء القرآني المتاح في هذا الكتاب العظيم المبارك الكريم فيقرأه على نفسه.
يقرأ منه ما تيسر به على نفسه أو يرقيه به غيره من المؤمنين الصالحين الصادقين، فينفع بإذن الله عز وجل.
ومن هنا شُرعت الرقية الشرعية بهذا القرآن العظيم.
ولكن على المسلم أن يكون متبصرًا في أمور دينه، متبصرًا في أمور نفسه لا يسلم نفسه للدجالين والعرافين والمشعوذين فقد كثروا في الآونة الأخيرة وكلهم يزعم أنه يقرأ بالقرآن ويرقي بالقرآن وما كل من زعم ذلك صادق فيه فإن الرقية بالقرآن إنما تنفع إذا رقى بها المؤمن الصادق الصالح أما المشعوذون الكذابون الذين يستغلون الناس باسم القرآن ويأكلون أموالهم بالباطل فعليك أيها المسلم أن تحذر منهم لا تسلم نفسك إليهم فيستغلونك وينهبونك ويفرّغون جيوبك وعلامة هؤلاء الدجالين وإن زعموا أنهم يقرأون القرآن ويرقون بالقرآن أنهم يتحدثون عن أنفسهم دائمًا في المجالس والمناسبات والصحف والمجلات يشهرون بأنفسهم، كأنما يقول كل واحد منهم هاأنذا أيها الناس لدي هذه الأسرار فأقبلوا علىّ حتى أملأ جيوبي من أموالكم، ومن علامة هؤلاء الدجالين المشعوذين الذين يستغلون كتاب الله عز وجل لأكل أموال الناس طمعهم وجشعهم وظلمهم وجورهم على الناس وعلى أموال الناس فإن الشارع الحكيم وإن أباح للراقي بالرقية الشرعية أن يأخذ على رقيته أجرًا إلا أنه لم يبح له أن يظلم الناس ويجور على أموالهم ويرهقهم بل على العكس من ذلك أمر النبي المؤمن صاحب القرآن الذي أوتي الرقية أن ينفع أخاه وأن يعين المسلمين وينفعهم أمره النبي بذلك مع إباحته له أن يأخذ أجرًا إذا احتاج إلى ذلك. في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا رقية إلا من عين أو حمة أو نملة)) [9].
أما العين - وتسمى النفس - ويعرفها الجميع، وأما الحمة فهي: لدغ العقرب وما أشبهها من الحشرات السامة، وأما النملة فهي: جروح أو قروح الإنسان أعاذنا الله وإياكم من ذلك جميعًا.
وليس المراد من هذا الحديث حصر الرقية في هذه الإصابات الثلاث وإنما معنى هذا الحديث أنه لا دواء لهذه الإصابات الثلاث أفضل من الرقية بالقرآن وهي إذا تأملتم واحد منها سببه غير عضوي وهي عين العائن والحاسد واثنان سببهما عضويان وهي الحمة والنملة.
فالرقية بالقرآن العظيم تنفع بإذن الله عز وجل من الإصابات العضوية وغير العضوية.
نسأل الله عز وجل لنا ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (4/278) ، سنن أبي داود (3855) ، سنن الترمذي (2038) ، وقال: حسن صحيح ، وسنن ابن ماجة (3436).
[2] في صحيح البخاري (5680) عن ابن عباس مرفوعا: (( الشفاء في ثلاثة:شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وانهى أمتي عن الكي)).
[3] في صحيح البخاري (5692) عن أم قيس بنت محصن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية..)) الحديث.
[4] في مسند أحمد (6/369) وسنن الترمذي (2081) وقال: حسن غريب ، وسنن ابن ماجة (3461) عن أسماء بنت عميس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأ لها : ((بمَ تستمشين؟)) قالت: بالشبرم. قال: ((حار جار)) قالت ثم استمشيت بالسنى. فقال: ((لو كان شيء يشفي من الموت كان السنى، والسنى شفاء من الموت)).
[5] في صحيح البخاري (5689) وصحيح مسلم (2216) عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن التلبينة تجم فؤاد المريض ، وتذهب ببعض الحزن)).
[6] في مسند أحمد (2/119-120) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا احسستم بالحمى فاطفئوها بالماء البارد)).
[7] انظر حديث البخاري في حاشية رقم(2).
[8] الحاشية (2)
[9] ليس لهذا الحديث أثر في صحيح مسلم ولكن فيه أثر عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال : (( لا رقية إلا من عين أو حمة)) رقم (220). والذي فيه عن أنس أنه قال: رخّص رسول الله في الرقية من العين والحمة والنملة. رقم (2196).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن الرب عز وجل من صيانته للمرأة المسلمة ورعايته لها وحمايته لعفافها ونقائها شرع لها الحجاب، وتلطفًا بشأنها وتكريمًا لها أمر النبي بأن يبلغها هذا الحكم الإلهي فجعل هذه الوسيلة الكريمة الواسطة بينه وبين النساء المسلمات لتبليغهن هذا الأمر الإلهي.
والنبي هو واسطتنا بيننا وبين ربنا لتبليغنا جميع أوامره ونواهيه لا يختص هذا بهذا الحكم لكن هذا الحكم مع بعض الأحكام غيره نص الله تعالى في قرآنه الكريم على النبي وسيلة وواسطة لتبلغه قال عز وجل: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا [الأحزاب: 59].
نعم المرأة المسلمة الصالحة بالحجاب يعرف الجميع عفافها وإيمانها وأنها محضة مصونة عفيفة فلا يتعرض لها أهل الفسق والكبائر ممن في قلبه مرض يعرفن فلا يؤذين [الأحزاب: 59].
يعرف إيمانهن وصلاحهن وتعففهن بالحجاب والحشمة فإن الحجاب رمز الحشمة والحياء فلا يتحرش بهن من في قلبه مرض وبذلك تتم صيانتهن ورعايتهن وحفظهن.
فإن الحكمة التي أرادها الشارع الحكيم من الحجاب هو حماية المرأة من غوائل الفساد وأهل الفساد حتى لا تكون نهبة لكل من هب ودب وحتى لا تُستغل فتهدر كرامتها وتضيع إنسانيتها وتضيع حقوقها فالله عز وجل أعلم بخلقه وبشئونهم وأحوالهم وطبائعهم وغرائزهم وما يصلح حالهم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [الملك: 14].
فهو سبحانه يريد لخلقه يريد لعباده صلاح حالهم واستقامة حياتهم حتى يقبل أعمالهم ويتوب عليهم وحتى يجزل لهم الثواب والتكريم: والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا [النساء: 27].
ولذلك لا يغيظ أهل الشهوات عبيد الشهوات دهاقنة الفساد والإفساد لا يغيظهم شيء من أحوال المرأة المسلمة كما يغيظهم تعففها وحياؤها ورمز ذلك كله الحجاب، الحجاب يغيظ طواغيت الفساد. واحد من طواغيت العرب هذه الأيام نصح فتاتين من رعيته ساكنتين في فرنسا - وما أدري ما الذي ألجأ تلك الفتاتين وأهلهما إلى السكنى في بلاد الكفر والفساد ربما كانت هناك ضرورة ألجأتهم إلى ذلك - فتاتان عربيتان مسلمتان التزمتا بالحجاب فقام الفرنسيون عليهما قام الفرنسيون النصارى الإفرنج عليهما يستنكرون حالهما وحجابهما - ثم انتصرت هاتان الفتاتان، انتصر الحياء والحشمة ووقف ذلك الطاغية من طغاة العرب يزجر هاتين الفتاتين لماذا تفضحوننا أيتها الفتيات المسلمات الحجاب ليس من أحكام الإسلام.
الحجاب رمز الحياء والحشمة يغيظ عبيد الشهوات الذين يريدون من المسلمين أن يميلوا ميلاً عظيمًا.
أما الرب عز وجل فيريد منكم أيها المؤمنون ويريد منكن أيتها المؤمنات يريد أن يتوب عليكم ويتقبل أعمالكم وتستقيم أحوالكم وتصلح حياتكم.
هذا هو ما يريد الرب عز وجل الذي شرع الحجاب للمرأة المسلمة وهو مع ذلك أمر المرأة بغض البصر فإن الحجاب ليس أمرًا شكليًا، إنما المراد منه الحشمة والوقار والتعفف والصون، هذا هو المراد من الحجاب ولذلك أُمرت المرأة المسلمة مع الحجاب أن تغض بصرها عن الرجال ما أمكنها ذلك أُمرت بهذا كما أمر به الرجل.
قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن.... [النور: 30-31].
وسوف نعود إلى تفسير هذه الآية وإلى أحكام الحجاب في الجمعة القادمة بإذن الله تعالى.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
[1] صحيح مسلم (408).
(1/1046)
الخصائص النبوية – حسن العشرة بين الزوجين
الأسرة والمجتمع, التوحيد, سيرة وتاريخ
أهمية التوحيد, الشمائل, المرأة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
كمال بشريته صلى الله عليه وسلم – أركان رسالته صلى الله عليه وسلم : 1- التوحيد : وهو
الركن الأعظم 2- الإيمان بالبعث ولقاء الله – الامتثال والانقياد – اجتناب الشرك – حمايته
صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد , وتحذيره من الغلو – حاله صلى الله عليه وسلم مع
أزواجه وحسن عشرته – الرجال مع زوجاتهم فريقان متناقضان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقال الله عز وجل: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ إنما إلهكم إلهٌ واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا [الكهف: 110].
هذا خطاب من الرب جل جلاله لعبده ورسوله محمد يأمره فيه أن يخبر الناس بحقيقة شخصيته وبحقيقة رسالته. أما شخصيته فهو بشر مثل باقي البشر في الخصائص البشرية من ناحية الخلقة والطبائع والغرائز، إنه مثلهم في ذلك وإن كان يمتاز عليهم بالكمال في الطبيعة البشرية.
فهو في خلقته وخلقه وطبائعه وغرائزه في قمة الكمال وأحسن الأحوال. إنه وإن كان بشرًا مثل باقي البشر إلا أنه اختص كإخوانه الأنبياء والمرسلين اختص بمقام النبوة.
فقوله: بشرٌ مثلكم يثبت المماثلة وقوله: يوحى إلىّ يثبت المغايرة والمفاضلة هذه هي شخصيته كما تنطق بها هذه الآية الكريمة من سورة الكهف، والتي ترد على أولئك المجاذيب تؤدب أولئك المجاذيب الذين أعرضوا عن كلام ربهم وذهبوا يتخيلون ويحيكون الألغاز والأسرار والأحوال التي ما أنزل الله بها من سلطان حول شخصية النبي المصطفى.
فمن قائل إنه خلق من نور، ومن قائل أنه بشر لا كالبشر، ومن قائل إنه سر الخلق فمن أجله خلق الله الكون والأفلاك، إلى غير ذلك من المبالغات التي ترد عليها كلها هذه الآية الكريمة من سورة الكهف بشرٌ مثلكم وهذه الآية في نصفها الثاني تنبهنا إلى أن رسول الله محمدًا بُعث برسالة ليبلغنا إياها بأمر ربه عز وجل. أمره ربه بذلك وشدد عليه الأمر: يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته [المائدة: 67] لكنه فعل وبلغ رسالة ربه أكمل البلاغ فهذه هي رسالته كما تلخصها وتوجزها لنا هذه الآية من سورة الكهف وتجمع أطرافها في عبارتين موجزتين إنما إلهكم إله واحد هذا هو الركن الأول من رسالة المصطفى بل هذا هو الركن الأعظم من رسالته إنه التوحيد.
ثم الركن الثاني وله ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: كما تنطق به هذه الآية من سورة الكهف الإيمان بالبعث وبلقاء الله تعالى في اليوم الآخر: فمن كان يرجو لقاء ربه [الكهف: 110].
والجانب الثاني: جانب الامتثال والانقياد بالعمل الصالح: فليعمل عملاً صالحًا [الكهف: 110].
والجانب الثالث: جانب الحرص على العقيدة على جناب التوحيد والحذر والاحتراس من الشرك : ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا [الكهف: 110]. لقد جاءنا رسول الله بهذه الرسالة التي جوهرها تعلق القلب والجوارح بالإله الواحد الأحد.
فهل نعرض عن ذلك ونذهب نشتغل بحياكة الأسرار والألغاز والمبالغات والغرائب والعجائب حول شخصية النبي معاندين بذلك رسالته التي جوهرها كما قلنا الانشغال بالخالق عن المخلوق، الانشغال بالله وحده عن سائر من سواه.
معاندين بذلك هذه الرسالة ومرتكبين بذلك نهيه عاصين أمره فإنه من شدة شفقته على أمته وحرصه على هدايتها وإرشادها وتحذريها من مزالق الشيطان وحرصه على حماية جناب عقيدتها حماية جناب التوحيد وشدة شفقته على أمته. وخوفه عليها من الوقوع في ذريعة الشرك.
حذَّر أمته من ورطة الغلو، من حفرة الغلو في شخصيته الشريفة الكريمة فعن عبد الله بن الشخير رضى الله عنه قال: انطلقت مع وفد بني عامر إلى رسول الله فقلنا: يا سيدنا. فقال : ((السيد الله تبارك وتعالى)) فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا قولاً فقال : ((قولوا بقولكم - أو ببعض قولكم - ولا يستجرينكم الشيطان)) رواه أبو داود [1].
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ناس إلى النبي فقالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال : ((يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله – مرتين - ولا أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) رواه النسائي [2]. وقد ثبت عنه أنه قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله)) [3].
ولما قال بعض الصحابة: قوموا بنا نستغيث برسول الله، قال لهم رسول الله : ((إنه لا يُستغاث بي إنما يُستغاث بالله عز وجل)) [4].
ولمّا قال له ذلك الصحابيّ: "ما شاء الله وشئت" قال له: ((ويلك أجعلتني لله ندا، ما شاء الله وحده)) [5].
وهكذا نجد النبي المصطفى من كمال شفقته على أمته ومن كمال حرصه على حماية عقيدتها وحرصه على حماية جناب التوحيد وخوفه على أمته من الوقوع في شريعة الشرك والوقوع في ورطة الغلو، يحذرها من ذلك كله وخاصة منه ما يتعلق بشخصيته الكريمة وإلا فهو سيدنا كما أخبر بذلك بنفسه حين قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)) [6]. فإذا كان سيدنا يوم القيامة فهو سيدنا في الدنيا من باب أولى، فلو أطلق أحد عليه وصف السيادة لأصاب الحقيقة وما أخطأها ولكنه إن فعل ذلك من باب الغلو في تعظيمه فقد أثم بذلك لأنه ارتكب نهي المصطفى فإنه إنما نهى أولئك الوفد عن إطلاق تلك الأوصاف عليه لأنهم ربما أطلقوها عليه من باب الغلو في تعظيمه أو خشي عليهم من الوقوع في الغلو في تعظيم شخصه.
فيقعون في مثل ما وقع فيه النصارى فعيسى بن مريم رسول الله لمّا اختصه الله ببعض الآيات والمعجزات وقعت أمته في الغلو في شخصه عليه السلام فرسول الله محمد وقد اختصه الله بأعظم مما اختص بها عيسى بن مريم من الآيات والمعجزات الباهرات وكرّمه أعظم مما كرم عيسى بن مريم أولى بأن يُخاف على أمته من الوقوع في ورطة الغلو في شخصيته الكريمة الشريفة ولذلك حرص على تحذيرها من الغلو في شخصه.
حرص على تحذيرها من ذلك وأمرها بالاحتياط والاحتراز في وصفه وإطلاق الأسماء والأوصاف عليه : ((إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)).
هذه ترجمة عملية وتفسير عملي لقوله تعالى: إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلىّ [الكهف: 110] فـ بشر مثلكم يقابلها "عبد الله" ويوحى إلىّ يقابلها "رسول الله" ، وسوف نعود إلى هذا الباب بمزيد من الدروس والاستنباطات في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود (4806).
[2] لم أجده في سنن النسائي ، فالسنن ليس فيها كتاب ((الأدب الذي يمكن أن يوضع فيه هذا الحديث ، والحديث في مسند أحمد (3/153).
[3] صحيح البخاري (3445).
[4] مسند أحمد (5/316) وفي لفظه اختلاف.
[5] مسند أحمد (1/214، 283، 347).
[6] مسند أحمد (1/281، 295) ، سنن الترمذي (3615) وقال : حسن صحيح وابن ماجة(4308).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها وأرضاها قالت: ((لقد رأيت رسول الله وهو يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأم منه فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو)) متفق عليه [1].
وعن النسائي عنها رضي الله عنها وأرضاها قالت: ((وجاءت السودان يلعبون بين يدي رسول الله فاطلعت عليهم من فوق عاتقه فما زلت انظر إليهم حتى أكون أنا التي انصرف)) [2].
وثبت عنها أيضًا رضي الله عنها أنها قالت: ((كنت ألعب بالبنات - أي بتماثيل البنات - عند رسول الله وكانت تأتيني صواحبي فينقمعن من رسول الله - أي يستترن منه إذا رأينه - فيسربهنّ إلىّ)) أي يردهن ويرسلهن إلىّ فيلعبن معي. متفق عليه [3].
هذا هو هدى المصطفى إنه نموذج رفيع فيما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين وما ينبغي أن يعامل به الرجل زوجته بالرفق واللين ورعاية مشاعرها ومتطلباتها المباحة التي لا تغضب الله ورسوله.
العلاقة بين الزوجين مودة ورحمة متبادلة كما قال الرب عز وجل: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21].
انظر كيف كانت رعاية المصطفى لزوجته وحبيبته أم المؤمنين عائشة وقد كان دخل بها وهى حديثة السن صغيرة، انظر كيف كان يرعى مشاعرها وينتبه إلى متطلباتها وما تهفو إليه نفسها من المباحات فيوفر ذلك لها على قدر طاقته.
وقد استدل العلماء بالحديث الأول حديث لعب الحبشة بالمسجد ونظر أم المؤمنين عائشة إليهم استدلوا بذلك على جواز نظر المرأة إلى الرجال إذا كان بغير شهوة وأُمنت الفتنة أما إذا كانت هناك فتنة كما نرى اليوم من نظر المرأة إلى الممثلين والمغنين والمطربين الفاسدين المفسدين أو نظرها إلى المذيعين المتأنقين الرقيعين الفاسدين المفسدين في التليفزيون أو أشرطة الفيديو أو نحو ذلك حرام لا يحل لامرأة تؤمن بالله ورسوله لأن الفتنة هنا متحققة لا ريب فيها.
واستدل كثير من العلماء بالحديث الثاني حديث لعبها رضي الله عنها وأرضاها بتماثيل البنات على جواز اقتناء التماثيل والصور إذا كانت هناك مصلحة شرعية متحققة في ذلك كمصلحة لعب الأطفال والصغار بتماثيل البنات أو نحوها.
والمقصود أن الرجال مع زوجاتهم فريقان على طرفي نقيض فبعضهم يجور على امرأته لا يحترم مشاعرها ولا ينتبه إلى متطلباتها المباحة كأنما هي خادم محبوس عنده وهذا مخالف لهدى النبي المصطفى ومصادم للحكمة من الحياة الزوجية التي نصت عليها الآية الكريمة الحكمة التي هي المودة والرحمة المتبادلة بين الزوجين.
وبعض الرجال يستسلم لرغبات زوجته حتى وإن كان فيها عصيان لله ورسوله يطيع زوجته طاعة عمياء فربما عقّ والديه بسببها وربما سكت عن المحرمات والمنكرات كتبرجها وسفورها وكاختلاطها بالرجال وكتسكعها في الأسواق ومشاهدتها للأفلام الخليعة يسكت على كل تلك المنكرات إرضاءً لزوجته وطاعةً لها وخوفًا منها، هذا رجل مفتون غفل عن قول ربه عز وجل في محكم كتابه: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم [التغابن: 14].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله. وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يا بن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله بها عشرًا)) [4].
[1] صحيح البخاري (5236) ، صحيح مسلم (892).
[2] سنن النسائي (1594).
[3] صحيح البخاري (6130) ، صحيح مسلم (2440).
[4] صحيح مسلم (408).
(1/1047)
مقام العبودية – طاعة المرأة لزوجها
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أعظم الناس منزلة إلى الله أعظمهم عبودية له – عبودية الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامها
وحمايته جناب التوحيد – وجوب التأدب مع الله عز وجل وإظهار الافتقار والعبودية له
والإنكار على المدَّاحين – الغلو في المدح والإفراط فيه من صفات المداهنين , والمنهج الأقوم
في ذلك – عِظَم حق الزوج ووجوب طاعته في المعروف والآثار في ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد بعث الله رسوله محمداً ليدعو الناس إلى التوحيد ليدعوهم أن يحققوا عبوديتهم لله جل جلاله فإذا وحّد العبد ربه فقد حقق العبودية له سبحانه، وكلما حقق العبد عبوديته لله كانت منزلته أعلى وأعظم عند الله ، ولذلك مدح الرب عز وجل نبيه ومصطفاه مدحه بذلك ووصفه بوصف العبودية مدحه بصفة العبودية ووصفه بها في أعظم المناسبات يذكر الرب عز وجل نبيه ومصطفاه بهذه الصفة، لما قام رسول الله بواجب الدعوة إلى التوحيد رغم معارضة المشركين وتألّبهم عليه، ذكر الرب عز وجل ذلك في كتابه فقال: وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا [الجن:19]. عبد الله أي رسوله محمد وعندما ذكر مقام نبوته وتنزل الوحي عليه قال: فأوحى إلى عبده ما أوحى [النجم:10] وعندما ذكر تنزل القرآن العظيم عليه قال: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده [الفرقان: 1]. وقال: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف: 1]. فإذن الرب عز وجل يمدح نبيه وخليله يمدحه بوصف العبودية لأن هذه الصفة هي سر الكمال في شخصيته.
ومن كمال حرصه على تحقيق العبودية لربه. من كمال حرصه على ذلك كان حرصه الشديد على حماية جناب التوحيد فنهانا على أن نطريه كما أطرت النصارى نبيهم عيسى بن مريم عليه السلام. [1]. أي نهانا عن الغلو في مدحه والمبالغة في وصفه كما يصفه المداحون.
أعظم وصف لرسول الله تصفه به ومدح نمدحه به كما علمنا ربنا وكما أرشدنا إليه هو نفسه هو مقام العبودية مع مقام النبوة والرسالة فإذا قلت: عبد الله ورسوله فقد جمعته بين المقامين.
جمعت له بذلك بين المقامين مقام العبودية لله ومقام الرسالة.
والدرس الثاني من هذا التوجيه النبوي أن على كل مؤمن موحد أن يتأدب مع الله عز وجل وأن يظهر عبوديته لله وأن يظهر تواضعه لله عز وجل، فالمؤمن الموحد يحرص دائمًا على أن يظهر عبوديته للرب عز وجل وتواضعه بين يديه، ويظهر افتقاره إليه وذله وانكساره بين يديه سبحانه وتعالى لا يحق لأحد من الخلق مهما علا شأنه مهما أوتى من قوة وجاه وسلطان أن يظهر شيء من الكبرياء والعظمة أو يظهر الخيلاء والجلالة فإنهما من خصائص الله جل جلاله لا يشركه فيهما أحد.
يقول الرب عز وجل في الحديث القدسي: ((الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني إياهما قصمته)) [2] أي أهلكته وقضيت عليه.
أما المؤمن الموحد فهو كما قلنا يظهر دائمًا عبوديته لله وافتقاره إليه وذله وانكساره بين يديه وسيد المؤمنين والموحدين عبد الله ورسوله محمد كان من أحرص الناس على ذلك، على إظهار عبوديته لله وافتقاره إليه وإظهار ذله وانكساره بين يديه. كان من أحرص الناس على ذلك ولهذا حرص حرصًا شديدًا على أن تعرف أمته مقامه الحقيقي فلا تغلو في مدحه ولا تبالغ في وصفه. إذا نظرت إلى مواقفه وإلى كلامه تجد حرصه الشديد على ذلك يقول : ((أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) [3] فمن غلا في مدحه وبالغ في وصفه حتى خرج عن حد الحق والاعتدال فقد عانده وارتكب ما يكرهه وينهى عنه ويحرمه، وليس في ذلك أي أدب معه ولا هو دليل على محبته الأدب كل الأدب في الامتثال، الامتثال هو عين الأدب، وأعظم دليل على محبته هو طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر فمن مقتضيات محبته أن تفعل محبوباته وتجتنب مكروهاته.
الدرس الثالث من هذه المسألة: أن على كل مؤمن موحد تأدب مع الله عز وجل وتحقيقًا لمقام العبودية لله جل جلاله أن يمتنع عن المدح ويزجر المداحين بل وأن يحثوا في وجوههم التراب كما أمر بذلك المصطفى [4].
فإذا كان المصطفى وهو أحق الناس بالمدح والثناء قد نهى أمته عن الغلو والإسراف في مدحه والثناء عليه فغيره من باب أولى.
وليس المنهي عنه هو مطلق المدح والثناء إنما المنهي عنه هو الغلو والإفراط في المدح والثناء بما ليس هو أهل له، مدح الإنسان بما ليس هو أهل له والمبالغة في ذلك. ولذلك أمر النبي بأن نحثو التراب في وجوه المداحين وليس في وجه كل مادح، والمداح صيغة مبالغة تدل على أمرين:
تدل على من كانت تلك عادته المدح والمبالغة في المدح، عادته ودأبه دائمًا، وتدل على الغلو والإفراط في المدح بما هو خارج عن حد الحق والاعتدال.
وهاتان الصفتان من صفات المداهنين في كل المجتمعات الذين لا ينصحون للإنسان بل يخادعونه، لا ينصحون للإنسان فلا يبصرونه بالحقائق ولكن يخادعونه بالغلو في مدحه والإفراط في الثناء عليه حتى يعموا بصره ويشغلونه عن حقيقة نفسه وعن حقائق الأمور من حوله فما أجدر بهؤلاء أن يُحْثى في وجوههم التراب وتُغلق دونهم الأبواب.
المؤمن الموحد من كمال تواضعه للرب عز وجل وإظهار العبودية له لا يقبل المدح والثناء من المداحين من المنافقين والمداهنين، ولكن لا يدخل في الحد المنهي عنه مدح رسول الله والثناء عليه بما هو أهله وإبراز مواضع القدوة والأسوة والتكريم في شخصه الشريف.
فقد مدحه ربه عز وجل في القرآن وأثنى عليه، مدحه بحسن الخلق ومدحه بشفقته على أمته ورأفته بها وحرصه على هدايتها ، ومدحه أصحابه بين يديه شعرًا ونثرًا فلم ينههم لأنه لم يكن في مدحهم له غلو ولا إفراط.
مدحه حسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة وغيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولكن لكي تعرف الفرق بين الحد المباح المشروع وبين حد الغلو والإفراط اسمع قول كعب بن زهير في وصفه ومدحه حين قال:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعظ وتفصيل
مدحه بأعظم معجزة أوتيها وهى القرآن.
قارن بين هذا وبين قول القائل:
وإن من جودك الدنيا وضَرَّتَها ومن علومك علم اللوح والقلَم
الدنيا والآخرة والجنة والنعيم والصراط كل ذلك من جود المصطفى ، ماذا بقى للرب جل جلاله إذن، اللوح الذي فيه كل ما كان وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة هو من بعض علوم المصطفى ماذا بقى إذن لعلام الغيوب، هذا القائل كأنه قال: محمد هو الله جل جلاله.
سواء قصد ذلك أم لم يقصد هذا هو الغلو الذي خاف محمد عبد الله ورسوله على أمته منه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا [الأحزاب: 70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (3445).
[2] مسند أحمد (2/376، 414، 427، 442)، سنن أبي داود (4090)، سنن ابن ماجة (4174-4175).
[3] مسند أحمد (3/153).
[4] صحيح مسلم (3002).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه أجمعين أما بعد.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته في فراشه فتأبى أن تجيء إليه إلا باتت والذي في السماء ساخط عليها)) متفق عليه [1].
وفي رواية: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات وهو عليها غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح)) [2].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا...)) وذكر منهم: ((امرأة باتت وزوجها عليها ساخط)) [3].
ورُوى مثله عن أبي إمامة رضي الله عنه وقال الترمذي حديث حسن غريب [4] هذا كله يبين عظم حق الزوج على زوجته وأنه يجب عليها طاعته في المعروف عليها أن تطيعه في المعروف وتحرص على تلبية احتياجاته الشرعية خاصة منها ما يتعلق بفراشه، فإن الزوج بحاجة إليها لتعينه على إعفافه وإحصانه خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن وعوامل الفساد والإغراء والانحراف فإذا ما عصت الزوجة زوجها في المعروف وأبت عليه حقه المشروع فإن في إسخاطه في ذلك إسخاطًا لرب العالمين، تبيت والملائكة تلعنها وصلاتها - إن كانت مصلية - لا ترفع إلى ربها عز وجل فعلى المرأة المؤمنة على الزوجة المؤمنة الصالحة أن تراعي حق زوجها وأن تطيعه في المعروف وأن تحرص على تلبية احتياجاته الشرعية، وأن تراقب ذلك من نفسها وأن تعينه على العفاف والإحصان، هذا إذا كان الزوج يعرف حدود الله عز وجل أما إذا كان لا يعرف حدود الله وطلب منها أمرًا محرمًا فلا طاعة له ولا كرامة إنما الطاعة في المعروف أي فيما أباحه الشرع وجعله من حقوق الزوج.
وقال مؤكدًا حق الزوج على زوجته: ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) [5]. ولم يأمرها بذلك لأنه لا يحل لأحد أن يضع جبهته على الأرض وأن يسجد إلا لرب العالمين، لكنه بهذا القول الشريف الكريم أكد حق الزوج على زوجته فياله من حق عظيم.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
أما بعد يا ابن آدم أحبب ما شئت فإن مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان. ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم بذلك ربكم في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56] وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله بها عليه عشرًا)) [6].
[1] بل هو بهذا اللفظ عن مسلم فقط في صحيحه برقم(1436).
[2] صحيح البخاري (5193)، صحيح مسلم (1436).
[3] سنن ابن ماجة(971).
[4] سنن الترمذي (360).
[5] مسند أحمد (4/381)، (5/227-228) (6/76) ، سنن الترمذي (1159)، سنن ابن ماجة (1852).
[6] صحيح مسلم (408).
(1/1048)
حماية النبي جناب التوحيد - تحريم الوشم والوصل والتفلج
التوحيد
الألوهية, الشرك ووسائله
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
معنى قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أنداداً ) وتفسير ابن عباس – وجوب الاحتراز في العبارات
والكلام خشية الوقوع في الشرك – الشرك أنواع ومراتب ودرجات , أخفاها الشرك الأصغر
جوهر التوحيد إفراده سبحانه وحده بالعبادة , وأعظمها تعظيمه جل وعلا : من أساليب التعظيم
القسَم والحلِف به دون غيره – من صور الشرك الأصغر : الحلف بغير الله دون قصد – قول:
ما شاء الله وشاء فلان... وتطبيقات ذلك – تحريم الوصل والوشم ومعناهما وكونهما من
الكبائر , والحكمة من هذا التحريم – الزينة للزوج كيف تكون ؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تبارك وتعالى: فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون [البقرة:22] الأنداد جمع ند والند هو المثل والنظير.
ومعنى أن تجعل لله أندادًا أن تصرف العبادة أو شيئًا منها لغيره.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: أي لا تشركوا بالله شيئًا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أن ربكم لا يرزقكم غيره، وأن الذي يدعوكم إليه رسوله من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وزاد بن عباس رضي الله عنهما هذه الآية تفسيرًا وتفصيلاً فقال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النملة على الصفاء السوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: وحياتك يا فلانة وحياتي أو تقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص أو: لولا البط في الدار لأتانا اللصوص، أو هو كقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشاء فلان. و: لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلانًا هذا كله به شرك. انتهى كلامه رضي الله عنه.
كما رواه بن أبي حاتم. ودل هذا الكلام من ابن عباس رضي الله عنهما أنه يجب على المؤمن الموحد أن يحتاط ويحترز في عباراته وكلامه الذي يتكلم به خشية من الوقوع في الشرك وهو لا يدري.
دل كلام ابن عباس رضي الله عنهما على أن كل مؤمن موحد عليه أن يحترز ويحتاط في كلامه خشية من الوقوع في الشرك، الشرك ليس هو فقط ما يفعله عباد الأصنام والأوثان من صرف العبادة إلى أوثانهم وأصنامهم ذلك هو الشرك الأكبر ذلك أن الشرك أنواع ومراتب ودرجات أكثر من هذه المراتب وهذا النوع وهذه الدرجة تخفى على الناس بل هو أخفى من دبيب النملة على الصخرة الصماء في ظلمات الليل كما عبر ابن عباس رضي الله عنهما وإنما أراد بهذا التعبير تصوير شدة خفاء الشرك على الناس فإن الشرك أخفى من دبيب النملة على الصخرة السوداء في ظلمة الليل.
والتوحيد جوهره أن تؤمن بأن الربوبية والألوهية لله وحده فتوحده سبحانه بجميع أنواع العبادة ومن أعظم أنواع العبادة تعظيم الرب جل وعلا.
ومن أهم أساليب التعظيم القسم والحلف ولذلك لا يجوز لك أن تحلف إلا بالله لا يحل لك أن تقسم إلا بالله فإذا أقسمت بغيره كائنًا من كان فقد وقعت في الشرك. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :لأن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إلىّ من أن أحلف بغيره صادقًا.
ومعنى كلامه هذا أن الحلف بالله كذبًا كبيرة من الكبائر يأثم مرتكبها إثمًا عظيمًا، أما الحلف بغيره ولو كان صادقًا فإنه شرك والشرك أعظم ذنبًا من الكبيرة ولو كان شركًا أصغر فإن الحلف والأقسام بغير الله شرك أصغر أو كفرٌ أصغر لا يخرج المؤمن بارتكابه من ملة التوحيد.
لا يخرج بالحلف بغير الله من ملة التوحيد فقول عمر فقد كفر أو أشرك أي شركًا أصغر أو كفرًا أصغر لكن المؤمن بارتكابه ذلك الشرك يكون قد اقترف ذنبًا عظيمًا هو أعظم عند الله من الكبائر وهذا في مجال المشيئة والقدرة، المؤمن الموحد يعلم أن المشيئة والقدرة كلها بيد الله وحده وأما المخلوق فهو وإن كانت له مشيئة خاصة لائقة به وقدرة خاصة لائقة به إلا أن مشيئة المخلوق وقدرته هي تحت مشيئة وقدرة الخالق سبحانه وتعالى، لا يستطيع المخلوق أن يستقل بمشيئته وقدرته ولذلك فعلى المؤمن الموحد أن يحترز في التعبير في هذا المقام فيستخدم لفظة (ثم) يقول: ما شاء الله ثم شاء فلان، أو لولا الله ثم فلان. فيكون بذلك قد رتب الأمر ترتيبًا صحيحًا سليمًا مستقيمًا فمشيئة الله أولاً وقدرة الله أولاً ثم تأتي مشيئة المخلوق وقدرة المخلوق تحت ظلال مشيئة الله وقدرته سبحانه وتعالى.
أما لو استخدمت الواو فقلت: ما شاء الله وفلان أو لولا الله وفلان فإنك بذلك تكون قد سوّيت بين الخالق والمخلوق لأن حرف الواو بخلاف (ثم)، (ثم) تفيد الترتيب والأولوية وأما الواو فلا تفيد ترتيبًا تفيد مطلق الجمع فتكون بذلك قد سويت بين الخالق والمخلوق، سوّيت بين مشيئة الخالق والمخلوق، سوّيت بين قدرة الخالق وقدرة المخلوق هذا في ظاهر العبارة وإن كنت لا تقصد ذلك ومع ذلك تقع في الشرك وإن كنت لا تقصده.
ولذلك فإن النبي لما قال له الرجل: "ما شاء الله وشئت" قال : ((أجعلتني لله ندًا)) تسوي بين مشيئتي وبين مشيئة الرب تبارك وتعالى، تجعلني مثيله ونظيره، مثله في المشيئة والقدرة. ((قل: ما شاء الله وحده)) أو كما قال [1].
وقال في مقام آخر: ((لا تقولوا: ما شاء الله وفلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان)) [2].
وهكذا فإن كثيرًا من الناس يقع في ألفاظ لا يتنبهون لها، يقعون في عبارات لا يتنبهون لها وهي فيهم شرك.
فقد يقول القائل: لولا جهود رجال الأمن لكثرت الجرائم وانقطعت السبل. أو يقول القائل: لولا فلان لفسدت الأحوال ولأصابنا العنت والحرج أو نجوز لك من العبارات التي توهم في ظاهرها أن المخلوق يستقل في الفعل والتأثير، أو توهم في ظاهرها إسناد الفعل للمخلوق بينما حقه إسناده وإضافته إلى الخالق تبارك وتعالى.
فعلى المؤمن الموحد أن يحترز في كلامه يحتاط في عباراته فيقول: لولا الله عز وجل ثم رجال الأمن، أو يقول: لولا أن الله وفق رجال الأمن أو: لولا أن الله سخر فلانًا لفسدت الأحوال وأصابنا الحرج والعنت فيسلم بذلك من غائلة الوقوع في الشرك الذي هو أخفى من دبيب النملة في الصخرة السوداء في الليلة الظلماء. كما عبر بذلك عبد الله بن عباس حَبْر هذه الأمة رضي الله عنهما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/214، 283، 347).
[2] مسند أحمد (5/384، 394، 398) ، سنن أبي داود (4980).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: عن أسماء رضي الله عنها أن امرأةً سألت النبي فقال: إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمزق شعرها وإني زوجتها أفأصل فيه. فقال : ((لعن الله الواصلة والمستوصلة)) رواه البخاري [1] ومسلم [2].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن رسول الله لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة)) متفق عليه [3].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: ((لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)).
فقال امرأة له في ذلك: أي سألته عن سبب لعنه هؤلاء فقال رضي الله عنه: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله [4].
أما الواصلة: فهي التي تصل شعرها بشعر غيرها والمستوصلة التي تطلب ذلك ويُفعل لها، ومن ذلك ما يسمونه اليوم بالباروكة.
وأما الواشمة فهي التي تغرز الإبرة في يدها أو في وجهها وتحشو مكانها بالكحل أو نحوه، والمستوشمة هي التي تطلب ذلك فيُفعل لها أو يُعمل فيها.
والنامصة التي تنتف الشعر من حاجبيها لترققهما، والمتنمصة من تطلب ذلك ويُعمل فيها. والمتفلجات للحسن اللواتي يفرقن ما بين أسنانهن بالبرد يبتغين في ذلك الزينة.
كل هؤلاء، كل من فعلت شيئًا من هذه الأمور وهي من أمور الزينة وأنواعها فهي ملعونة على لسان رسول الله.
ومن الحكمة في تحريم هذه الأنواع من أنواع الزينة ما فيها من التزوير والتفليس وما فيها من التشويه والتغيير للخلقة الطبيعة التي خلقها الرب عز وجل.
فالمرأة المسلمة وإن كان مطلوب منها شرعاً أن تتزين لزوجها فإن عليها أن تتزين بالأنواع المباحة المشروعة من الزينة وأن تحذر من هذه الأمور التي لعن رسول الله من تفعلها.
أن تحذر من هذه الأمور التي لعن رسول الله النساء اللاتي يفعلنها فالمرأة المسلمة نعم عليها أن تتزين لزوجها لا لغيره كما تفعله بعض النساء إذا خرجن من البيوت خرجن في أكمل زينة وإذا كن في البيوت عند أزواجهن كن في أسوأ حال.
على المرأة المسلمة أن تتزين لزوجها وأن تتجنب الزينة عند خروجها لكن عليها أن تجتنب هذه الأمور التي ذكرها رسول الله.
والدليل على أن من حكمة تحريم هذه الأمور هو ما فيها من التزوير والتدليس ما رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: (قدم معاوية رضي الله عنه المدينة فخطبنا وفي يده كبة من شعر فقال: ما كنت أظن أن أحدًا يفعل هذا إلا اليهود وقد بلغ رسول الله فسماه الزور) [5].
وفي رواية لهما أنه قال رضي الله عنه: (إن هذا إنما أحدثتم من سيئ الزينة وقد نهى عن الزور) [6] أي عن الكذب والتدليس، والنمص كما ذكرنا وبينا هو نتف الشعر من الحاجبين لترقيقهما ولا يدخل فيه نتف المرأة للشعر الذي ينبت في وجهها أو في جسدها في المواضع غير المعتادة كأن ينبت شعر في خديها أو في شاربها أو ذقنها أو في ساعديها أو في ساقيها فلها أن تنتفه ولا حرج عليها.
والتحريم في الحديث هو مقصور على الأنواع المذكورة فيه لا يُقاس عليه غيره، فليس لقائل يقول لا يحل للمرأة أن ترسم جفنيها بالقلم أو تظلل فوق عينيها بالألوان أو تحمر خديها قياسًا على ما ذُكر في الحديث بل المحرم هو المذكور في الحديث فحسب لا تزيد عليه أمرًا آخر إلا بدليل آخر لأن الأصل في الأشياء الإباحة.
والمقصود أن النبي المصطفى يوجه النساء المؤمنات المسلمات إلى التزين لأزواجهن ولكن قدر إمكانهن بما أباح الله ورسوله لهن وعليهن أن يجتنبن الزور والتزوير والتدليس والتغيير لخلق الله فيجتنبن النمص ويجتنبن الوصل والوشم والتفلج للحسن.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب: 56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [7].
[1] صحيح البخاري (5941).
[2] صحيح مسلم (2122).
[3] صحيح البخاري (5942)، صحيح مسلم (2124).
[4] صحيح البخاري (5943)، صحيح مسلم (2125).
[5] صحيح البخاري (5938)، صحيح مسلم (2127).
[6] هذا اللفظ ليس في البخاري ، وإنما عند مسلم فقط (2127).
[7] مسلم (408).
(1/1049)
عن الصيام - عن التائبين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
فضل شهر رمضان , ومنزلة الصائمين – تصفيد الشياطين في رمضان ومعناه – فضل الصوم
مطلقاً , والأيام المستحب صومها – فضل الجمع بين جهاد النفس بالصيام وجهاد أعداء الله
بالجهاد – قَصص التائبين وأثرها في ترقيق القلوب – توبة أُمَّة يونس عليه السلام
_________
الخطبة الأولى
_________
فقال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [البقرة: 183].
إن ربنا سبحانه قد شرع لنا من الأعمال ما نتقرب به إليه ومن أجلها وأفضلها الصوم، وعين لنا مواسم وأوقات مباركات نتعبد له فيها ومن أجلها وأعظمها شهر رمضان، هذا الشهر الكريم الذي أنزل الله فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وقد جعل الله ثواب الصوم له لعظم قدره عنده.
قال رسول الله يقول الرب عز وجل: ((كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي)) [1].
ومعنى قوله: ((إلا الصوم)) أن الحسنات تُضاعف في هذه العبادة أكثر من أي عبادة أخرى لأن الرب عز وجل يتولى هو بنفسه تقدير ثواب هذه العبادة وأجرها.
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن في الجنة بابًا يسمى: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه غيرهم فينادي منادي أين الصائمون، فيدخلون منه حتى إذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد)) متفق عليه [2].
وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال سألتُ رسول الله فقلتُ يا رسول الله مُرني بأمر آخذه عنه فقال: ((عليك بالصوم فإنه لا مثل له)) [3].
وهذه العبادة العظيمة قد شرع الله عز وجل لها أوقاتًا متعددة ومواسم متنوعة أجلها وأفضلها وأعظمها شهر رمضان المبارك، فصيام هذا الشهر الكريم هو أفضل وأعظم أنواع الصيام، وهذا الشهر الكريم هو أفضل وأجل مواسم الصيام يقول رسول الله : ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء وغُلِّقت أبواب جهنم وسُلسلت الشياطين)) متفق عليه [4].
وللترمذي [5] وابن ماجه [6] قال : ((إذا كان أول ليلة من رمضان صُفدت الشياطين ومُردة الجن وغُلقت أبواب جهنم فلم يُفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر اقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة)).
وقال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) [7] أما تصفيد الشياطين وسلسلتهم فليس معناه أنه لا يبقى شيطان ولا جني إلا وصُفد وسُلسل في هذا الشهر الكريم إنما المراد مردة الشياطين أي: رؤوسهم وطواغيتهم الذين هم أكثرهم خبثًا وشرًا وفسادًا وإفسادًا وإغواءً لبني آدم وتبقى بقية من الشياطين الصغار والجن الأتباع يوسوسون لكثير من الناس ولولا ذلك لم تر في رمضان أحدًا يعصى الله عز وجل.
فهذه العبادة العظيمة إذا أخلص الإنسان النية فيها واحتسبها عند الله عز وجل تُفتح فيه أبواب الجنة وأبواب السماء وتغلق فيه أبواب جهنم.
وقد كان رسول الله لذلك يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر فيقول: ((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تُفتّح فيه أبواب الجنة - أو قال: أبواب السماء - وتُغلّق فيه أبواب النار وتُصفد فيه مردة الشياطين ولله فيه ليلة خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم)) [8].
واعلموا أيها المؤمنون أن رسولكم سن لكم من الصيام في غير رمضان أنواعًا من الصيام تتقربون بها إلى الرب عز وجل.
فسن لكم صيام ست من شوال قال : ((من صام رمضان واتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) [9] ، وسن لكم ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيام البيض الأيام الغر، رأى رسول الله أعرابيًا صائمًا فقال: ((إن كنت صائمًا فصُم الغُر)) [10] أي الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر وأفضل الصيام بعد رمضان هو صيام داود عليه السلام كان يصوم يومًا ويفطر يومًا كما أخبرنا بذلك المصطفى [11].
ودل هذا على أن هذا الصيام هو أفضل من صيام الدهر كله، أفضل ممن صام سائر الأيام، بل إن من صام الدهر فقد خالف سنة المصطفى فقد نهى الرسول عن صيام الدهر.
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله سُئل عن صيام الدهر أو عمن صام الدهر فقال: ((ما صام وما أفطر)) [12].
وسُئل عن صيام يومين وإفطار يوم فقال : ((ومن يطيق ذلك)) (11).
فسُئل عن صيام يوم وإفطار يومين فقال: ((لو أن الله عز وجل قوانا على ذلك)) (12).
وسُئل عن صيام يوم وإفطار يوم: ((ذاك صيام أخي داود)) (13).
وقال : ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر ورمضان إلى رمضان كصيام الدهر)) (14) أي يعدل صيام الدهر.
وسُئل عن صيام يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) (15).
وسُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال : ((يُكفر السنة الماضية)) [13] روى كل ذلك مسلم في صحيحه.
ومن أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم كما أخبر بذلك فقال: ((أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم وأفضل الصلاة فيه بعد الفريضة صلاة الليل)) رواه مسلم [14].
وما رؤى صائمًا أكثر منه في شهر شعبان. فمما سنه لنا أيضًا صيام شهر شعبان [15]. وكذلك سن لنا رسول الله صيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وأما الصيام في الجهاد فمن أعظم الأعمال قال : ((من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام)) [16].
ما أعظم أن يجمع المؤمن بين الجهادين جهاد النفس بالصيام وجهاد أعداء الله بالقتال في سبيل الله فإن هذا من أعظم المراتب وأفضل الأعمال.
نسأل الله العظيم أن يعيينا على صيام هذا الشهر الكريم وعلى قيامه وأن يجعلنا من عتقاء النار فيه وأن يوفقنا لفعل الخيرات في سائر الأوقات والمواسم المباركات إنه قريب مجيب الدعوات.
أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (5927)، صحيح مسلم (1151).
[2] صحيح البخاري (1896)، صحيح مسلم (1152).
[3] مسند أحمد (5/249)، سنن النسائي (2220)
[4] صحيح البخاري (1899)، صحيح مسلم (1079).
[5] سنن الترمذي (682).
[6] سنن ابن ماجة (1642).
[7] صحيح البخاري (1901)، صحيح مسلم (760).
[8] مسند أحمد (2/230)، سنن النسائي (2106) سنن ابن ماجة (1644).
[9] صحيح مسلم (1164).
[10] سنن النسائي (2421).
[11] صحيح البخاري (1977)، صحيح (1159).
[12] (11، 12، 13، 14، 15) صحيح مسلم (1159).
[13] صحيح مسلم (1159).
[14] صحيح مسلم (1163).
[15] عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أره – تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – صائماً من شهر أكثر من صيامه من شعبان ن كان يصوم شعبان في كله ، كان يصوم شعبان إلا قليلاً))، صحيح مسلم (1156).
[16] سنن النسائي (2254).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالتوبة التوبة يا عباد الله: توبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [النور:31]. فقد تفشت الغفلة وقست القلوب واستحكمت الأهواء وسيطرت الشهوات وغفل أكثر الناس عن ربهم ونحن الآن في موسم كريم وشهر مبارك فتُب إلى الله أيها العاصي واستيقظ من رقدتك يا أيها الغافل.
ولعل مما يرقق القلوب ويوقظ البصائر ويحرك النفوس ويذكر الناس بربهم أن نقص عليكم في كل جمعة من جمع هذا الشهر الكريم قصة صحيحة ثابتة من قصص التائبين من الأمم كانوا أو من الأنبياء، ومن الصحابة أو من التابعين، من الرجال أو من النساء، من الرعاة أو الرعية.
ولنبدأ اليوم بقصة أمة من الأمم تابت بأجمعها إلى الله عز وجل تابت بعد أن كفرت وكذبت بآيات الله. تابت عند معاينة العذاب ولم يكون ينفع الإنسان أن يتوب في مثل هذا الوقت لكن هذه الأمة نفعها إيمانها ونفعتها توبتها في هذا الوقت العصيب.
إنها أمة يونس بن متى عليه السلام فقد أرسله الله عز وجل إلى أهل نينوى بالموصل وهم مائة ألف أو يزيدون، أرسله الله عز وجل إليهم ليدعوهم إلى توحيده وعبادته، وكان يونس رجلاً حاد الطبع سريع الغضب فكذبه قومه وكفروا بما جاء به وسخروا منه وآذوه.
فتوعدهم عذاب الله عز وجل ثم خرج من بينهم فنظرت تلك الأمة فإذا بالعذاب قد أقبل ظهر بوادره وأقبلت حممه وجعل يطوف على رؤوسهم كأنه قطع الليل المظلم فلما رأوا ذلك فكأنما سُقط في أيديهم وعلموا أن يونس عليه السلام قد صدقهم فبحثوا عنه فلم يقدروا عليه لم يعثروا عليه، فقال بعضهم لبعض: نجتمع جميعًا إلى الله فنتوب إليه فخرجوا جميعًا الرجال والنساء والعواتق والأطفال وأخرجوا معهم أنعامهم وبهائمهم فرقوا بين كل مرضع وولدها من الناس والأنعام وجعلوا الرماد على رؤوسهم ولبسوا المسوح وعجوا إلى ربهم عز وجل جأروا بالبكاء والدعاء واستجاروا من عذاب الله وغضبه ولبثوا كذلك فلما علم الرب الرحمن صدقهم كشف عنهم العذاب، وقد كانت مضت سنته أنه لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب لكنه استثنى قوم يونس فنفعهم إيمانهم ونفعتهم توبتهم بعد معاينة العذاب، وقبل أن يحل بهم وكيف لا يرحمهم الرحمن ويحن عليهم الحنان ويمن عليهم المنان وقد وقفوا جميعًا بين يديه نادمين باكين يعجون ويجأرون مع صغارهم أجمعين فسبحانه وتعالى ما أكرمه وما أرحمه سبقت رحمته غضبه ووسعت رحمته كل شيء.
أما نبيهم يونس بن متى عليه السلام فلما خرج من بين قومه وعلم بعد ذلك أن العذاب لم ينزل بهم ظن أنه بذلك يُعد كاذبًا فخرج مغاضبًا لربه، فركب سفينة فماج البحر بهم فاقترعوا أيهم يلقونه في البحر، فخرجت القرعة على يونس فألقوه في البحر فالتقمه الحوت وذلك قوله سبحانه: إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين [الصافات:140-141] فلما صار يونس في تلك الظلمات في ظلمات بطن الحوت جأر إلى ربه عز وجل واستجار به، توسل إلى الله عز وجل بالتوحيد والتهليل والتسبيح وصار ينادي وهو في تلك الظلمات السحيقة: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فنجاه الرب عز وجل ببركة التوحيد وببركة هذا التهليل والتسبيح، ببركة هذا الدعاء نجاه من تلك الظلمات السحيقة التي لا يظن إنسان إذا وقع فيها أنه ينجو منها.
قال تعالى: فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [الصافات:143-146].
فسبحانك يا أرحم الراحمين. الحمد لله رب العالمين، سبحانه يقبل توبة التائبين ويفرح بأوبة العاصين ويفتح لهم أبوابه فتوبوا إلى الله يا عباد الله، توبوا إلى الله جميعًا لعلكم تفلحون. اغتنموا هذا الموسم الكريم وهذا الشهر المبارك فتوبوا إلى الله العظيم من ذنوبكم ومعاصيكم وتفريطكم في جنب الله.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
[1] صحيح مسلم (408).
(1/1050)
عن الصيام - عن التائبين1
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الصوم
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
من الأيام المستحب صومها عشر ذي الحجة والاثنين والخميس والآثار في ذلك – فضل الصدقة
وتفطير الصائم. فضل دعوة الصائم – هديه صلى الله عليه وسلم في الفطر والسحور – وجوب
الحذر من المحرمات بأنواعها , وتعارض ذلك مع حكمة فرض الصيام – توبة أبي سفيان
بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم , وما فيها من دروس وعِبَر – صلته بالرسول
صلى الله عليه وسلم – عداؤه للرسول صلى الله عليه وسلم , وإهدار الرسول صلى الله عليه
وسلم دمه – قصة توبته وإعراض النبي عنه – غزوة حُنَين وبلاؤه فيها , والدروس المستفادة
من الغزوة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فمما سنه لنا رسول الله من الصيام - سوى صيام شهر رمضان - صيام العشر الأوائل من ذي الحجة وصيام يوم الاثنين من كل أسبوع.
قال : ((هو يوم وُلدت فيه وفيه أُنزل عليَّ)) [1].
وصيام يوم الخميس من كل أسبوع، ففي السنن أنه أخبر بأن الاثنين والخميس يومان تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، قال : ((وأنا أحب أن يُعرض عملي فيهما وأنا صائم)) [2].
واعلموا أن من أعظم القُرب أثناء الصيام الصدقة وأن تفطِّر صائمًا، قال : ((من فطَّر صائمًا كان له مثل أجره من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) [3].
واعلم أيها المؤمن الصائم أن لك أثناء صومك دعوة مستجابة فبادر بالدعاء والرجاء، قال رسول الله : ((ثلاثة لا تُرد دعوتهم: إمام عادل، والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله يوم القيامة دون السحاب وتُفَّتح لها أبواب السماء ويقول: الله بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)) [4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله : ((إن للصائم عند فطره دعوة لا تُرد)) [5].
واعلموا أن من سنن المصطفى في شهر رمضان تعجيل الفطر وتأخير السحور [6].
بعض الناس يتهاون في هذه السنة فيتسحر قبل أن ينام، وأفضل من ذلك فعل المصطفى ؛ فقد كان يأمر بالسحور ويقول إن السحور بركة [7] ويتسحر في آخر الليل قُبيل طلوع الفجر في فترة يمكنه فيها تناول الطعام والشراب [8].
وقال : ((من أفطر فليفطر على تمر فإن لم يجد فعلى ماء فإنه طهور)) [9].
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه كان رسول الله يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء [10].
وعليك أيها الصائم أن تحذر أثناء صومك من سائر المحرمات من الغيبة والنميمة والظلم وأكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا وغير ذلك من المعاصي والمناهي واعلم أنك إذا لم تدع ذلك فليس لله عز وجل حاجة في جوعك وفي عطشك قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [11.
وقول الزور والعمل به يشمل سائر المحرمات لأنه ما من محرم حرمه الله عز وجل إلا وهو إما قول زور وإما فعل زور.
وقال الله عز وجل بعد أن فرض الصوم على المؤمنين علل ذلك الفرض بقوله: لعلكم تتقون ، فإذا لم يكن الصيام لك أيها المؤمن فرصة لكي ينمي روح التقوى في نفسك فتلجم به قلبك عن الوساوس والشبهات والخواطر الشيطانية وتلجم به جوانحك عن المحرمات فلا نصيب لك من الصيام إلا الجوع وإلا العطش أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا لصيام هذا الشهر المبارك وقيامه على الوجه الذي يرضيه عنا وأن يكتب لنا يوم القيامة الدخول من باب الريان، فإنه باب الصائمين في الجنة لا يدخل منه غيرهم. أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم (1162).
[2] مسند أحمد (5/201)، سنن الترمذي (747) وقال : حسن غريب ، سنن النسائي (2358).
[3] مسند أحمد (4/114)، سنن الترمذي (807) وقال : حسن صحيح ، سنن ابن ماجة (1746).
[4] مسند أحمد (2/305) سنن الترمذي (3598)، سنن ابن ماجة (1752).
[5] مسند أحمد (2/477) دون قوله ((عن فطراه)) واللفظ الذي ذكره الخطيب في سنن ابن ماجة (1753)، ولكن من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص.
[6] صحيح البخاري (1957)، صحيح مسلم (1089).
[7] صحيح البخاري (1923)، صحيح مسلم (1095).
[8] صحيح البخاري (575)، صحيح مسلم (1097).
[9] مسند أحمد (4/17، 18) سنن الترمذي (658) وقال : حديث حسن ، سنن ابن ماجة (1699).
[10] سنن الترمذي (696) وقال : حسن غريب.
[11] صحيح البخاري (1903).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فنروي لكم اليوم قصة أخرى ثابتة صحيحة عن توبة واحد من أصحاب رسول الله بل هو أكثر من ذلك صلة بالرسول إنه من أهله وذوي قرابته أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ابن عم رسول الله وأخوه من الرضاع [1]. أرضعتهما حليمة السعيدة فنشأ أبو سفيان تربًا لرسول الله أي يشبهه في مولده وفي رضاعه وفي سنه.
ونشأ مع النبي وكان الرسول يألفه ويحبه ويأنس إليه.
ويا لها من وشائج وصلات عظيمة تقرب الرجل من قلب رسول الله ومن هنا نفهم ونتصور كم كان حرص المصطفى الرحيم الرءوف الحريص على هداية قومه فما بالك بأهله وذوي قرابته، كما كان حرصه على هداية سفيان بن الحارث بن عمه وأخيه من الرضاع.
ولكن يشاء الله أن يأبى أبو سفيان بن الحارث الهداية، ويناصب النبي المصطفى العداوة بل ويبالغ في محاربة الله ورسوله، وفي إيذاء الرسول وإيذاء أصحابه بكل ما أتيح له من وسائل حتى بشعره وقد كان شاعرًا.
وكم كان قدر الألم والحسرة في قلبه الشريف وهو يرى ابن عمه وأخاه في الرضاع وأليفه وأنيسه يناصبه العداوة ويبالغ في النكاية بالمسلمين وكم كان قلبه الشريف يقطر حزنًا وأسى وهو يصدر حكمه بقتل أبو سفيان بن الحارث، أهدر دمه لعظم نكايته بالمسلمين وإيذاءه للرسول والصحابة لا محاباة في دين الله عند النبي المصطفى. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى [الأنعام: 152].
ولكن يشاء الله عز وجل قبل أن تصل السيوف المسلمة إلى أبي سفيان بن الحارث ألقى الله في قلبه الإسلام، يروي هو ذلك فيقول: فقلتُ أصحب من ومع من أكون وقد ضرب الإسلام بجرانه؟ (أي توطدت أركانه وانتشر) قال: فجئت أهلي وأولادي فقلتُ لهم: تهيأوا للخروج فقد أظل قدوم محمد.
وكان ذلك قبيل فتح مكة والرسول قد خرج من هذه المدينة المباركة بجيوش الإسلام متوجهًا إلى مكة.
وبادر أبو سفيان بن الحارث إلى لقاء الرسول قبل أن يصل إلى مكة خرج إليه متنكرًا خوفًا من ذلك الحكم النبوي الذي صدر عليه.
خرج إليه متنكرًا حتى لقي الرسول وهو نازل بالأبواء قال: فتنحيتُ من أصحابه فرقًا منهم (خوفًا منهم) لو عرفوه أن يقتلوه تنفيذًا لأمر الرسول.
تنحيتُ من أصحابه فرقًا منهم والناس يأتون رسلاً - أي جيوش الصحابة يأتون كتيبة إثر كتيبة - وأبو سفيان في طرف يراقب هذا المنظر العظيم المهيب - قال: حتى يطلع رسول الله في موكبه فتصديتُ له تلقاء وجهه فلما رآني ملأ عينيه مني أي أخذ يحدق فيّ، يُحدِّقُ فيه أهذا هو أبو سفيان بن الحارث بن العم والأخ من الرضاع والقريب البعيد الذي ناصب رسول الله والمسلمين العداوة وأبلغ النكاية بهم.
يقول أبو سفيان فأعرض عني رسول الله بوجهه إلى الجهة الأخرى فتحولت ناحية وجهه الأخرى فأعرض عني مرارًا فأخذني ما قرب وما بَعُد - أي انتابتني المخاوف والوساوس وظننتُ أنني مقتول قبل أن أصل إليه - ثم أتذكر رأفته ورحمته فيمسك ذلك عني - أي فتذهب الوساوس عن نفسي – قال: وكنت أظن أن رسول الله وأصحابه سيفرحون فرحًا شديدًا بإسلامي لقرابتي برسول الله.
إذن لماذا أعرض عنه الرسول المصطفى ؟ هذا تأديب نبوي بليغ فأبو سفيان بن الحارث كان شديد النكاية بالمسلمين كان شديد المحاربة بالله ورسوله، ومع ذلك فقد تأخر في إسلامه وتوبته وهو مع ذلك صلته وشيجته وقرابته برسول الله جعلت العتاب عليه واللوم أشد من غيره ولذلك أعرض عنه المصطفى ويا له من موقف في مدرسة النبوة، هذه التربية النبوية وهذا التأديب النبوي لا محاباة في دين الله ولو كان ذا قربى.
قال أبو سفيان: فلما رأى المسلمون إعراض رسول الله عني أعرضوا عني جميعًا فلقيتُ أبا بكر الصديق وهو معرض عني، ثم رأيتُ عمر بن الخطاب يُغري بي رجلاً من الأنصار فلما رآني أقبل علىّ وهو يقول: يا عدو الله أنت الذي كنت تؤذي رسول الله ، وبلغت في عداوته مشارق الأرض ومغاربها.
ثم يقول أبو سفيان بن الحارث: فلزمتُ باب منزل رسول الله والمسلمون ما يكلمني أحد منهم، فما ينزل الرسول منزلاً إلا وأنا عند بابه قائمًا ومعي ابني جعفر حتى راح إلى الجُحفة ومضيتُ معه وأنا على هذه الحال حتى فُتحت مكة، وأنا معه على هذه الحال ملازم بابه مع الخيل التي لا تفارقه.
حتى نزل بالأبطح فدنوت من باب قبته فنظر إلىّ نظرًا ألين من النظر الأول فرجوتُ أن يتبسم. ثم دخلت عليه نساء بني عبد المطلب ومعهم زوجتي يرققنه علىّ حتى خرجتُ معه إلى غزوة هوازن وقد جمع المشركون جموعًا ما جمع المشركون مثلها قط لمحاربة رسول الله وخرجوا ومعهم النساء والذرية والماشية فقلتُ في نفسي لما لقيتُ جموعهم: ليرينَّ رسول الله أثرى إن شاء الله.
وصدق أبو سفيان في عهده هذا على نفسه. أبلى في تلك الغزوة بلاءً عظيمًا وذلك أنه لما كتب الله على المسلمين في تلك الغزوة تلك الهزيمة المنكرة عقوبة لهم على إعجابهم بجموعهم وكثرتهم لما قالوا وقد رأوا جموع المسلمين كثيرة عظيمة: لن نُغلب اليوم عن قلة فهزموا حتى وصف القرآن تلك الهزيمة بقوله تعالى: ثم وليتم مدبرين [التوبة:25].
وقعوا في كمين بين تلك الجبال في ديار هوازن فإذا بالسهام تنهال على المسلمين من كل جانب وأخذت الدهشة والمفاجأة المسلمين فانكسروا وتفرقوا عن الرسول المصطفى والرسول صامد ثابت على بغلته الشهباء في يده سيفه وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب. وثبت حوله نفر قليل من أصحابه منهم عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ومنهم أبو سفيان بن عبد الحارث بن عبد المطلب هذا رضي الله عنه وأرضاه.
قال أبو سفيان: فتقحمتُ عن فرسي - أي نزلتُ عن فرسي - والسيف في يدي صلتاً مسلولاً والله يعلم أني أريد الموت دون رسول الله.
وإذا بالعباس آخذ بلجام بغلته فأخذتُ بالجانب الآخر فنظر إلىّ رسول الله وقال لعمه العباس من هذا؟ فقال العباس: ابن عمك وأخوك أبو سفيان بن الحارث فارض عنه أي رسول الله فقال الرسول: قد فعلت قد رضيت فغفر الله له كل عداوة كان يعادينيها.
قال أبو سفيان: فقبَّلتُ رجله في الركاب فرحًا برضاه وعفوه عني. فنظر إلىّ نظرة المحب فقال: أخي لعمري.
ثم أمر العباس أن ينادي فيقول: يا أصحاب سورة البقرة.
أمر عمه العباس أن ينادي جموع الصحابة الذين أنكروا وتفرقوا عنه من دهشة المفاجأة والمصيبة يا أصحاب سورة البقرة يا أصحاب السَمُرة يا للمهاجرين يا للأنصار.
ونادى العباس وكان رفيع الصوت قوى الصوت، وأصحاب السَمُرة هم أصحاب بيعة الرضوان فإذا بهم يجيبون من كل حدب وصوب: يا لبيك يا لبيك. وكروا كرَّ رجل واحد، انعطفوا انعطافة البقرة على ولدها أقبلوا من كل حدب وصوب وهم يقولون: يا لبيك يا لبيك. يأمون ذلك الصوت يجيبون الداعي داعي الله، داعي الجهاد يقول أبو سفيان: وهم قد شرعوا الرماح وحتى وقد خفتُ على رسول الله من رماحهم أن تمسه أكثر من خوفي عليه من رماح المشركين.
أقبل الصحابة مندفعين إلى داعي الله داعي الجهاد وانهارت كل العوائق من حولهم لا يمنعهم شيء عن إجابة الداعي، ما أسرع استجابتهم لداعي الله وما أسرع استجابتنا اليوم لداعي الدنيا وداعي الشهوات وداعي الأهواء.
انظر الفرق بين استجابة ذلك السلف العظيم الكريم أصحاب رسول الله لنداء الجهاد وإجابتهم لداعي الله، وانظر إلى سرعة استجابتنا لداعي الدنيا ولنداء الشهوات ولنداء الأهواء، واشوقاه إلى ذلك السلف العظيم الكريم أصحاب رسول الله ، لكنهم ذهبوا إلى ربهم وبقينا في هذا الزمان زمان الفتنة:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيتُ في خلفٍ كجلدِ الأجرب
هكذا كان سلفكم أيها المؤمنون الصائمون، هكذا كان أصحاب رسول الله مهما كانت الظروف والمواقف، ومهما كانت المواقف حرجة حالكة وهم بشر قد يتفرقون وقد ينكرون، لكنهم لما سمعوا يا أصحاب سورة البقرة يا أصحاب السَمُرة أقبلوا من كل حدب وصوب لا يردهم شيء عن رسول الله وفي هذا الموقف الحالك الحرج أبلى أبو سفيان بن الحارث بلاءً عظيمًا في الدفاع عن المصطفى والجهاد بسيفه بين يديه.
لقد مسح بسيف الجهاد كل ما فرط منه نحو رسول الله. مسح بسيف الجهاد كل خطاياه وكيف لا يفعل ذلك وقد عفا عنه النبي المصطفى الرحيم الكريم سيد الرحماء.
أما بعد... فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة ومنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تُدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [2].
[1] انظر قصة توبته رضي الله عنه: الطبقات الكبرى لابن سعد 4/36-40، سير أعلام النبلاء للذهبي 1/202-205، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 11/169-171.
[2] صحيح مسلم (408).
(1/1051)
العنصريات الجاهلية وضرب الإسلام
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قاعدة المساواة في الإنسانية بين جميع البشر 2- الدعوات الجاهلية تجعل آصرة التجمّع
الإنساني : الأصل , الوطن , الأصل , القبيلة..... 3- في الإسلام التكريم للتقوى والدين
فحَسْب 4- نماذج من غرس هذا الأصل بين المسلمين 5- تحذير رسول الله من دعوة الجاهلية
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات :13]. هذه الآية الكريمة قررت مبدأ عظيما من مبادئ الإسلام الأساسية والمبادئ الأساسية هي بمثابة الاستراتيجية في اللغة العسكرية أي هي أمور ثابتة لا تفريط فيها ولا تهاون في أمرها فهذه ثوابت الدين الرباني الذي ندين الله تعالى به ونعتقده وتصطبغ به حياتنا.
فالمساواة حقيقة راسخة بين البشر أجمعين في الأصول والعناصر والعروق والأنساب فأصل الجميع واحد الأب واحد والأم واحدة وجميع الخلق جميع الناس تتسلسل أصولهم وأنسابهم لتنتهي إلى عنصر واحد هو التراب فلماذا يتوهمون التفاضل فيما بينهم في الأصول وفي العناصر والأنساب، لا قومية ولا عنصرية.
فالقوميات تجعل أساس التجمع بين الناس هو الأصل والعنصر والنسب الأصل والجنس والنسب، القومية تجعل أساس التجمع ومقياس التفاضل والتميز هو الأصل والجنس والنسب ولو كان للأصل والجنس والنسب اعتبار في الإسلام ما أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا الحبشي الزنجي الأسود رضي الله عنه ما أمره أن يرقى على سطح الكعبة المعظمة ليصدح بالأذان وتحته أشراف العرب وثراتهم وذلك في الفتح الأعظم وذلك عندما دخل سيدنا المصطفى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحا وخضعت له قريش بعد أن ناوءته وحاربت دعوته أكثر من عشرين عاما.
لو كان لشعب أو لقبيلة أو لجنس أو لعشيرة أن يفضلوا الآخرين بجنسهم وأصلهم ونسبهم ما زوج رب العالمين زينب بنت جحش القرشية الهاشمية من جهة أمها الأسدية من جهة أبيها زوجها رب العالمين من عبد من مولى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة زوجه منها من فوق سبع سماواته فكان ذلك إعلانا ربانيا سماويا بإلغاء العنصريات والقوميات والقبليات وبتحريم التفاخر بالآباء قال سيدنا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس قد أذهب الله عنكم عبية الجاهلية وتعظمها بآبائها فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله تعالى ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى)) [1].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملؤه إن الله لن يسألكم عن أنسابكم ولا أحسابكم يوم القيامة إن أكرمكم على الله أتقاكم)) [2] صدق المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الميزان الرباني وهذا المقياس النبوي هو الذي حكم بتفضيل بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي على أبي لهب العربي القرشي الهاشمي عم رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا لأن هؤلاء الأعاجم آمنوا بالله واتقوه ونصروا الله ورسوله وذلك العربي القرشي الهاشمي كفر وفجر.
ومبادئ هذا الدين الرباني وموازينه ومقاييسه لا محاباة فيها ولا مداهنة وإلا فمقام القربى من رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولى المقامات أن ينفع صاحبه أن ينفع ذلك المشرك الذي أنزل فيه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة بذمه والدعاء عليه ولكن لا محاباة ولا مداهنة في موازين هذا الدين الرباني ومقاييسه إن هذا الإسلام هو دين الله تعالى لسائر البشر للناس أجمعين إنه يسع جميع الناس ولا يضيق عن أحد على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأصولهم وأنسابهم الإسلام يسعهم جميعا ولا يضيق عن أحد وسيدنا المصطفى رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المسداة أرسل رحمة للعالمين لجميع العالمين أرسل للناس كافة على اختلاف أجناسهم وألوانهم وشعوبهم وقبائلهم هو رحمة للجميع ورسالته للجميع ودين الله الإسلام هو دين يسع الجميع وتنصهر فيه جميع القبائل والشعوب والأجناس والأعراض متساويين في ذلك بين يدي الله لا يتفاوتون إلا بالتقوى هذا مبدأ أساسي من مبادئ هذا الدين العظيم الكريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال الله تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون [الأعراف:158].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أبو داود :ك:الأدب :(5116).
[2] احمد بخوه (4/145).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صَّل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن ناسا من أصحابه تنازعوا فقال قائل منهم: ياللمهاجرين وقال قائل: ياللأنصار فخرج سيدنا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته غاضبا يجر رداءه وقال لهم: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم دعوها فإنها منتنة دعوها فإنها منتنة)) [1].
لقد بعث سيدنا المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم للقضاء على العنصريات الجاهلية المنتنة وليقيم بدلا منها صرح الإيمان الذي يجتمع تحت لوائه جميع المؤمنين إخوانا متحابين تربط بينهم رابطة ووشيجة واحدة هي رابطة الإيمان ووشيجة الإسلام.
ولكن أعداء المسلمين نجحوا اليوم في التسلل إلى صفوفهم وزرع بذور العنصريات الجاهلية المنتنة بينهم فمزقوهم وشتتوا شملهم بعد أن كانوا أمة واحدة مرهوبة الجانب ففي ديار الترك مثلا الماسونيون والصهيونيون ويهود الدونمة بعد أن نجحوا في تقويض صرح الخلافة الإسلامية الذي جعل ديار الترك فترة طويلة من الزمن مركز التجمع الإسلامي لتجمع المسلمين بعد أن نجحوا في تقويض ذلك الصرح زرعوا بذور العنصرية التورانية القومية التورانية بين الترك ورفع لواء هذه العنصرية الجاهلية التركية أحزاب ماسونية مشبوهة كحزب الاتحاد والترقي أو حزب تركيا الفتاة وكان من أبرز طواغيت هذه العنصرية التورانية مصطفى كمال الذي لبث في أول أمره فترة يتمسح بمسوح الإسلام ولقب نفسه بالغازي في سبيل الله وأعلن الجهاد ليخدع المسلمين لتنطلي حيلته على السذج وقد انطلت حيلته فعلا حتى مدحه أحمد شوقي:
الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدد خالد العرب
انخدع به فظنه فعلا مجاهدا غازيا في سبيل الله وما لبث ذلك العنصري اليهودي التوراني أن كشر عن أنيابه فإذا هو عدو لله ورسوله عدو مرير للإسلام فتك بالمسلمين في ديار الترك قتل علماءهم حتى بلغت به الوقاحة أن منع الأذان من على المنابر بالعربية بل أوجب أن يكون الأذان بالتركية من شدة سخريته بالإسلام والمسلمين.
ولقد رد الله كيده في نحره وكيد أذنابه فها هم الترك يتململون وينفضون عن كواهلهم غبار هذه العنصرية الجاهلية التورانية ويجددون إيمانهم بالله ورسوله صحوة إسلامية فيما بينهم وعودة إلى دين الله رغم أنف العنصريين الجاهليين.
وأما نصارى العرب فقد زرعوا بين العرب العنصرية العربية الجاهلية القومية العربية وكان من أبرز حملة راية هذه العنصرية حزب البعث الذي أنشأه قبل خمسين سنة ميشيل عفلق النصراني ومبادئ هذا الحزب.
إن ذهبنا نشرحها يطول بنا المقام، ولكن لخصها شاعر بعثي كافر خبيث بقوله فض الله فاه:
آمنت بالبعث (أي بحزب البعث) ربا لا شريك له وبالعروبة دينا ما له ثاني
فالعروبة بمعناها العنصري الجاهلي المنتن هو دين هذا الحزب العنصري العلماني الملحد الخبيث ومنذ نشأ هذا الحزب هو وأشباهه من التجمعات العنصرية الجاهلية المنتنة يجرون الكوارث تلو الكوارث والهزائم تلو الهزائم على العرب وعلى أمة الإسلام جميعا وكأنما يأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن يحقق وعده الذي أعلنه رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم منذرا أمته يقول عليه الصلاة والسلام: ((لينتهين قوم عن تفاخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان)) [2] فال ذل والهوان والتشتت والانقسام والتقاتل والتناحر كما كانوا يفعلون في الجاهلية قبل الإسلام هذه هي العقوبة الإلهية للذين أعرضوا عن مبادئ الإسلام الخالدة الرفيعة السامية مبادئ المساواة وميزان التقوى والأخوة الإيمانية الإسلامية التي تجمع بين سائر المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم هذه هي العقوبة الإلهية لمن ذهبوا يجرون لاهثين وراء العنصريات الجاهلية المنتنة وراء القوميات تورانية كانت أو فارسية هندية كانت أو بربرية زنجية كانت أو عربية كلها دعاوى الجاهلية التي وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنها منتنة.
طاغية العراق الذي روع الناس اليوم وهتك الحرمات وسفك الدماء وزاد الأمة تمزيقا وفتح الأبواب للأعداء هو إفراز منتن من إفرازات ذلك الحزب العنصري الجاهلي حزب البعث من كوارثه العديدة المتوالية إنه ليس أول كوارثه ولن يكون آخرها، الذين يتوهمون أن الصراع بيننا وبين شخص واحد مخدوعون أو مخادعون، السياسة قلب قد يكون حليف اليوم عدوا غدا وقد يكون عدو الغد حليفا اليوم، السياسة قلب أما المبادئ فهي ثابتة والصراع طويل مرير إلى يوم الدين بين ملتين بين ملة الإسلام وملة الكفر بين مبادئ الإسلام الرائعة السامية الكريمة مبادئ المساواة وميزان التقوى والأخوة الإيمانية وبين العنصريات الجاهلية قومية بعثية تورانية عربية إلى غير ذلك صراع مرير ثابت مستمر ولكن خذوا حذركم أيها المسلمون فتشوا بين صفوفكم وفي دياركم عن الطابور الخامس فتشوا عن العلمانيين عن الجاهليين عن البعثيين فإنهم قد يكونون مندسين بين صفوفكم من أبناء جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويتقطعون غيظا عليكم مهما تمسحوا بمسوح الإسلام وتستروا ونافقوا وأظهروا لكم الموافقة ولتعرفنهم في لحن القول [محمد:30]. ستكشف أقلامهم وأقوالهم ومواقفهم وأفعالهم وخاصة في المحن تكشف ما في صدورهم من بغضاء ومن غيظ على الإسلام وأهل الإسلام قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون [آل عمران:118]. بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون إن كنتم تعقلون.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [3].
[1] أخرجه البخاري بنحوه :ك:التفسير (4622).
[2] أخرجه أبو داود: في الأدب (5116).
والترمذي: في المناقب (395).
[3] صحيح مسلم (408) عن أبي هريره رضي لله عنه.
(1/1052)
سيرة نزول ( اقرأ والمُدثّر )
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
6/9/1408
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
كيف بدأ الوحي – رؤية النبي جبريل – اليهود وجبريل – الحكمة من البداءة ب(اقرأ) دروس من ( يا أيها المدثر )
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الوحي الذي انبثقت أنواره في غار حراء ونزل به جبريل عليه السلام على رسول الله سيدنا محمد حق لا مرية فيه وهو حالة خارجية وليس حالة داخلية بالنسبة للنبي أي هو أمر حدث من خارج ذاته الشريفة فهو قد رأى الملك وسمعه بوضوح وأحس به لما غطه غطة شديدة. وليس الوحي مجرد حالة في ذاتية في ذاته كما يزعم منكرو الوحي. وقال العلماء في تعريف الوحي إنه: الإعلام الخفي. فإذا صح هذا بالنسبة لغير النبي فإن الوحي بالنسبة للنبي غاية في الجلاء والوضوح.
ماذا في الوحي بـ: اقرأ من خفاء على النبي لكن الوحي قد يخ في على غيره ممن حضر حين نزول الوحي على النبي فلا يحس به الآخرون وإن كانوا أحيانا يحسون به كما جاء في الحديث الصحيح حينما نزل جبريل عليه السلام على النبي يشرح معنى الإسلام والإيمان والإحسان فقد تمثل جبريل برجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة ولقد رآه الصحابة الحاضرون حينها وسمعوه بكل وضوح ليعلمهم أمور دينهم كما قال النبي نفسه: (( ذاك جبريل أتاكم ليعلمكم أمور دينكم)) [1] والوحي له دروب وأنواع, الوحي للنبي له دروب وأنواع فمنه ما يكون رؤيا صالحة تقع كفلق الصبح ومنه ما ينفث في روعه, ما يكون إلهاماً ونفثا في الروع كما قال النبي : ((إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها)) [2] , ومنه ما يتمثل له الملك بصورة رجل كما بينا ومنه ما يظهر له على صورته الحقيقية كما وقع في الإيحاء بصدر سورة المدثر فقد رأى النبي جبريل على خلقته الحقيقية جالسا على كرسي بين السماء والأرض ومن أجل أنواع الوحي أن يكلم الله تبارك وتعالى رسوله مباشرة بلا واسطة ولكن من وراء حجاب إما يقظة كما وقع في الإسراء والمعراج حينما فرضت الصلوات الخمس قد كلم الله تعالى نبيه مباشرة دون واسطة ولكن من وراء حجاب وحجابه سبحانه وتعالى النور، وإما أن يكلمه مناما كما جاء في الحديث حديث معاذ الذي رواه الترمذي وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتاني ربي في أحسن صورة وقال: فيم يختصم الملأ الأعلى..)) [3] ، إلى آخر الحديث وهذا حديث عظيم ألف فيه الحافظ بن رجب رسالة نفيسة في شرحه وبيان طرقه وأسانيده.
وأول ما بدئ به النبي من أنواع الوحي هذه الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا حتى تأتى كفلق الصبح كما قالت أم المؤمنين عائشة [4] رضى الله تعالى عنها وأرضاها فرؤيا الأنبياء كلها حق بخلاف غيرهم, رؤيا الأنبياء كلها حق ولهذا يمتثلون ما فيها من أوامر, هذا هو الخليل إبراهيم عليه السلام امتثل أمر ربه لما رأى في المنام أنه يذبح ولده وحبيبه إسماعيل عليهما السلام وامتثل الابن إسماعيل لهذا الأمر مع ما فيه من صعوبة ومشقة عليه وإيلام له حتى فداه ربه بذبح عظيم, فرؤى الأنبياء كلها حق أما رؤى غيرهم من الصالحين وغير الصالحين فتنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الرؤيا الصالحة التي تقع في اليقظة كما جاءت في المنام، وهذه إما أن يراها الرجل الصالح واضحة لا لبس فيها ولا غموض، وإما أن تأتي عن طريق الأمثال فحينئذ تحتاج إلى فقه وبصيرة لتأويلها ولا يستطيع أن يؤلها كل أحد, لا يفقهها ولا يفهمها حين إذا إلا العالمون لأنها جاءت على طريقة الأمثال والإشارات والرموز، وفي هذه الرؤى التي يراها المؤمنون الصالحون فيها بشارة أو نذارة أو معاتبة، فإما أن تكون بشرى وإما أن تكون إنذاراً وإما أن تكون معاتبة ومن الرؤى الصالحة رؤية النبي ولكن ليس كل من رأى رجلاً قال له: أنا رسول الله أو قيل له في المنام هذا رسول الله فإنه قد رأى رسول الله حقا ولذلك كان محمد بن سيرين رحمه الله إذا حادثه أحد أنه رأى رسول الله يقول له: صف لي من رأيت فإن وجد وصفه مطابقا لصفة سيدنا رسول الله المعروفة بشره حينئذ وأما إن وجد وصفه غير مطابق لصفة رسول الله فإنه يقول له حينئذ لم ترَ رسول الله.
وأما كلامه في الرؤيا إن رآه أحد من الصالحين فقال الحافظ بن حجر العسقلاني رحمه الله قال في الفتح [5] يعرض على سنته يعرض كلامه في الرؤيا على سنته فإن طابق سنته فهو حق وإن لم يطابق السنة فإن الخلل في سمع الرائي وبصره وإدراكه، فرؤيا ذاته الكريمة الشريفة حق ولكن الخطأ يقع في سمع الرائي وفي بصره وفي إدراكه، فالمتبع حين إذ سنته وأما إن طابق كلامه وحاله في الرؤيا سنته فليبشر ذلك المؤمن الصالح فإن هذه بشارة له أو فيها تنبيه له أو معاتبة له على حالة من أحواله, قال رسول الله في الحديث الصحيح: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات)) قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرؤيا الصالحة)) [6] , وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ((الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) [7] ، ومعنى وصف الرؤيا بالصلاح استقامتها وانتظامها وموافقتها للكتاب والسنة, وأما قوله إنها - أي الرؤيا الصالحة - تشبه النبوة هذا على وجه التشبيه، أي أن الرؤيا الصالحة تشبه النبوة في كون كل منهما خبرا صادقا عن الله عز وجل، وفي كل منهما اطلاع على بعض الغيب من وجه ما بإذنه سبحانه وتعالى لا إنها جزء من النبوة على الحقيقة فإن النبوة ان+قطعت بموت سيدنا محمد وقال صلى الله عليه وسلم: ((من رآني في المنام فقد رآني حقا)) [8] ، وفي لفظ: ((فقد رأى الحق)) أي فما رآه فهو حق وفي لفظ: ((كأنما رآني في اليقظة)).
القسم الثاني من الرؤى التي يراها الناس: الأضغاث وهذه من الشيطان أو من حديث النفس وهي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تلاعب من الشيطان بالإنسان ليحزنه وليكدره؛ كأن يرى الإنسان نفسه في النوم واقفا في هول ما أو في خطر عظيم ولا يجد من ينجده أو نحو ذلك من المنامات التي تحزن الإنسان وتفزعه وتكدره وقد أرشد النبي أأأأنتللبلبل أن الإنسان إذا ما رأى مثل ذلك واستيقظ فجأة متكدرا أن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وينفث عن يساره ثلاثاً [9] , ومن هذه الأضغاث أن يرى الرجل من يزعم له في المنام أنه من الملائكة أو من الأنبياء ثم يأمره ببعض المحرمات فهذا أيضا من تلاعب الشيطان به, والنوع الثالث من هذه الأنواع: أن يرى النائم في المنام ما تحدثت به نفسه ومنّته في اليقظة فيراه في المنام كما يراه في اليقظة, كل هذا من أضغاث الأحلام. والمهم في هذه المسألة إذا رأى المؤمن شيئا في منامه أن يفرق بين الرؤيا الصالحة وبين أضغاث الأحلام ثم بالنسبة للرؤيا الصالحة أن يفقه معناها ومعنى تأويلها وأن يفهم تأويلها وأن لا يسارع إلى تأويلها بغير علم ولا بصيرة فإنه لا يفقه معنى الرؤيا الصالحة ولا تفقه دلالاتها إلا إذا عرضت على الكتاب والسنة فإن لم يفعل ذلك المؤمن فإنه قد يقع في البدع دون أن يشعر كأن يرى بعض طلبة العلم طالب علم في بلده ينفع الناس ويعلمهم أمور دينهم ثم يرى مثلا رسول الله يأمره بالهجرة إلى الحرمين أو بالهجرة إلى المدينة النبوية فمثل هذه الرؤيا تعرض على الكتاب والسنة فنجد تفسيرها في قول الله تبارك وتعالى: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم [التوبة:122]. فهذا هو تأويلها أنه إشارة من النبي وتنبيه لهذا الواجب المفترض على ذلك الرائي أن يذهب إلى أمكنة العلم ليتزود من العلم ويتفقه في الكتاب والسنة ثم يرجع إلى قومه فيدعوهم ويعلمهم ويفقههم في أمور دينهم, وقبل هذا كله أن يتثبت الناس من الرؤى وصحتها وصحة من رآها وتحدث بها وعدالته وصدقه فقد يدعي كثير من الناس إما كذبا وإما عن سوء فهم وقلة فهم رؤى كثيرة من الرؤى الصالحة لا أصل لها ولا أساس وكثير من الجهال بدلا من أن يتفقهوا وبدلا من أن يتفهموا ويتعلموا الكتاب والسنة يتتبعون الغرائب وينتظرون الخوارق وهذا من جهلهم وقلة فقههم وتقصيرهم في تلك الفريضة العينية الواجب العيني الذي يجب على كل مسلم وهو طلب العلم. قد ينتظر بعض الجهال ممن لا فقه فيه من لا فقه له بالدين يظن أنه لا يصح أمر هذا الدين ولا يستقيم حتى تنزل الملائكة, لا يصح أمر هذا الدين أو يستقيم حتى يظهر المهدى مشابهين بذلك الروافض الذين حفيت أقدامهم وهم ينتظرون عند السرداب منذ مئات السنين.
الفقه في الدين تعلم الكتاب والسنة هذا هو منهج أهل الحق وعلامة أهل الحق وشامة أهل الحق, أما تتبع الغرائب وتوقع الخوارق فهو من علامات أهل البدعة والضلال, فتفقهوا يا مسلمون في كتاب ربكم وسنة نبيكم حتى لا تقعوا في المهالك وفي البدع والضلالات فإن حسن النية وحدة لا يشفع لصاحبه إن لم يتبع بالعلم والعمل.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (50) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البغوي في شرح السنة (4113)، ورواه الحاكم بنحوه في المستدرك (2/4).
[3] أخرجه الإمام أحمد (1/368).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الوحي (3).
[5] كتاب التعبير (الفتح12/404).
[6] البخاري في التعبير (6589).
[7] البخاري في التعبير (6582).
[8] البخاري في التعبير (6593).
[9] صحيح البخاري (6995)، صحيح مسلم (2261).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [1].
[1] صحيح مسلم (408).
(1/1053)
سورة يوسف ( وجاءت سيارة... )
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
11/6/1411
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
سرُّ بيع يوسف بثمن بخس – العناية الإلهية – أهل هذه العناية – معنى الصبر مظاهرتنا في الصبر – الفرق بين الشكوى والإخبار
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين [يوسف:19-20].
قوله: وجاءت سيارة أي رفقة سائرة فسيارة صيغة مبالغة من سائرة، وكانت تلك القافلة سائرة من الشام إلى مصر، وقيل إنهم كانوا من الإسماعليين أي العرب أحفاد إسماعيل بن إبراهيم فأرسلوا واردهم أعاد الضمير على المعنى في قوله "سيارة" ولو أنه أعاده على اللفظ لقال: أرسلت واردها، والوارد هو: الرجل الذي يرد الماء يستقي لقومه. فلما جاء ذلك الوارد لما جاء البئر وأرسل فيها دلوه ليملأها ماءً تعلق بها يوسف فخرج من ذلك الجب الموحش المهلك وكتب الله له النجاة منه على يد ذلك الوارد الذي ما أن رأى يوسف حتى أعلن استبشاره وفرحته ولكنهم بدلا من أن يسألوا عن أهله ليردوه إليهم أضمروا في أنفسهم استرقاقه وبيعه، ولما نزلوا مصر شروه بثمن بخس دراهم معدودة أي باعوه بثمن قليل، وكانوا فيه من الزاهدين وإنما كان ذلك منهم لأن استرقاقهم له كان خلسة وسرقة ولذلك بادروا ببيعه بذلك الثمن القليل قبل أن يفتضح أمرهم، وقيل إن الذين شروه بثمن بخس أي باعوه بثمن قليل هم إخوته لما أخرجته تلك السيارة من البئر حضروا واتفقوا معهم على استرقاقه وبيعه وقبضوا له ثمنا قليلا ومهما يكن الأمر فقد نجى الله يوسف من ذلك الجب الموحش المهلك وكانت العناية الربانية تحف به ولقد كان في استرقاقه وبيعه من عجائب لطف الله عز وجل في تقديره وعنايته ورعايته ليوسف فلو أن يوسف عاد إلى إخوته مرة أخرى لما ترددوا في قتله هذه المرة ولكنه ببركة العناية الربانية الإلهية خرج من الجب إلى القصر إذ اشتراه عزيز مصر أي واليها من قبل الملك وقيل أنه كان وزيرا له على خزائنها فحل يوسف عليه السلام في قصر ذلك العزيز مبجلا مكرما فقد تفرس العزيز فيه الأمانة والنجابة والصدق فاتخذه في مقام الولد وإن كان في الظاهر استرقه واتخذه خادما وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون [يوسف:21]. لقد نجى الله تعالى يوسف فأنقذه من كيد إخوته وأخرجه من ذلك الجب الموحش المهلك إلى ذلك القصر الفسيح وعطف الله عليه قلب العزيز فتمكن يوسف من الأمر والنهي في ذلك البلد الذي كان العزيز مسئولا عليه تمكن من الأمر والنهي في مصر، وهكذا فإن العناية الربانية والرعاية الإلهية كانت تحف بيوسف إعدادا له وتربية له وتهيئة لأمر عظيم تهيئة له للرسالة وتحقيقا وإجابة لدعاء أبيه يعقوب من قبل حينما قال: ويعلمك من تأويل الأحاديث فعلمه الله تعالى من تأويل الأحاديث كما قال هنا ولنعلمه من تأويل الأحاديث [يوسف:21]. أي لنوحي إليه أمرنا ونعلمه تفسير ما أوحي إليه وتأويله كما علمناه تأويل الرؤى وتفسيرها، وهكذا فإن الله تبارك وتعالى يدافع عن عباده المؤمنين وقد كان يوسف عليه السلام من خواص المؤمنين كان من عباد الله المخلصين والله سبحانه وتعالى يدافع عن المؤمنين ولو علم المؤمنون أسرار حكمته وقدرته ورعايته وعنايته بهم لما خافوا من عدو ولا رعبوا من مصيبة ولا فزعوا من نائبة فإنهم إذا أخلصوا اللجوء إلى الله تعالى واخلصوا العبودية والعبادة له ودعوه واستعاذوا به واستنصروه فإنه سبحانه وتعالى ينجيهم من المحن والنوائب والفتن، كما نجا من قبل عبده وخليله إبراهيم نجاه من النار وقلبها بردا وسلاما عليه، وكما نجا من قبل عبده وكليمه ورسوله موسى نجاه وقومه من فرعون حتى فلق البحر أمامهم حتى مشوا بين فلقيه على طريق يبس، وكما نجا نبيه ورسوله الصديق يوسف عليه السلام نجاه من كيد إخوته وأخرجه من الجب إلى القصر، والله سبحانه وتعالى يدافع عن عباده المؤمنين ويحوطهم دائما برعايته وكلاءته ولكن من ذا الذي ينبغي أن يطمئن إلى العناية الإلهية والرعاية الربانية ليس كل أحد إنما هم المؤمنون الذين امتثلوا أوامر الله تعالى الذين صدقوا مع الله ووفوا بعهده وأخلصوا العبودية والعبادة له، أما العصاة الذين تمردوا على أمر الله تعالى وفرطوا في عهده وأعرضوا عنه وانشغلوا في أهوائهم وشهواتهم وملذاتهم حتى إذا أدركهم الغرق وأحاطت بهم المخاطر طمعوا في العناية الإلهية، هؤلاء إن لم يسارعوا بالتوبة لله عز وجل وإصلاح حالهم فإن عليهم أن يخافوا من العقوبة الإلهية لا أن يطمعوا في العناية الربانية فإن سنن الله تبارك وتعالى ثابتة وواضحة كالشمس كل من أطاع الله تعالى فهو في حماه كل من أطاع الله تعالى عاش في حماه تحوطه العناية الإلهية والرعاية الربانية أمنا وسلاما وتمكينا في الأرض ونصرة على الأعداء، وكل من عصى الله وتمرد على أمره طرد من حماه واستحق غضبه وعقوبته عز وجل، وقد تحل به المصائب والنوائب والفتن من حيث لا يحتسب، وقد يسلط عليه الأعداء حتى يسومه سوء العذاب والعياذ بالله، نسأل الله معافاته ومغفرته، ونعوذ برضاه من غضبه، ونلوذ بلطفه وبرحمته، نلوذ برحمته التي وسعت كل شيء. اللهم إنا نعوذ برضاك من غضبك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك. اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ونعوذ بك من سخطك والنار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين واشهد ألا إله ألا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إبنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه: إن إبنا لي قبض فأتنا - أي يموت فتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر - فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السلام ويقول: ((إن لله ما اخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب)) [1] ، ثم ذهب بعد ذلك إليها صلى الله عليه وسلم يتفقدها. رواه مسلم.
قال العلماء إن الصبر هو اعتراف العبد لله بما أصابه منه ورضاه به واحتسابه عنده ورجاء ثوابه، ولذلك فإن على المؤمن أن يجتنب ويحترز من كافة المظاهر التي تتعارض وتتصادم مع الرضى بقضاء الله وقدره وذلك من إظهار الجزع وبث الشكوى والعجيب أن كثير من الناس اليوم لا يكتفون بذلك بإظهار الجزع وبث الشكوى، بل إن كثيرا منهم تجدهم عند حلول المصائب ينصبون السرادقات ويقيمون المآتم ويهيئون بيوتهم للاحتفال بإظهار الجزع، والتهيؤ والتجمع لإظهار الاعتراض على قضاء الله وقدره، والاستنكار لفعله سبحانه وتعالى هذا هو مدلول هذه المآتم هذا هو مدلولها وإن لم يقصدوا ذلك، شعروا أم لم يشعروا، قصدوه أم لم يقصدوا، فإن هذه المآتم وما يفعله الناس عند حلول المصائب من التهيؤ والاحتفال وإقامة السرادقات وتهيئة البيوت لإستقبال المعزين هذه من أكبر مظاهر الاعتراض على قضاء الله وقدره ومثلها بث الشكوى مما أصاب الإنسان، وذم الزمان والتضجر منه ومن حوادثه والتبرم منه ومن حوادثه كل ذلك منافي للصبر مصادم للاحتساب كل هذه المظاهر منافية للصبر مصادمة للاحتساب. أخرج الإمام مالك في موطأه من حديث عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد أرسل الله إليه ملكين فقال أنظرا ماذا يقول لعواده – للذين يزورونه ويعودونه – فإن هو حمد الله وأثنى عليه رفعا الملكان ذلك إلى الله تعالى وهو أعلم به فيقول تبارك وتعالى: إن لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدله لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه وأن أكفر عنه سيئاته)) [2]. الشكوى التي تصادم الصبر هي التي تكون من باب التبرم والتضجر بما حل بالعبد أما إذا كانت الشكوى خالية من هذا المعنى وكانت لمجرد الإخبار عن الحال فهذه لا حرج فيها فقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضا كان يسأله عن حاله ويقول له: ((كيف تجدك)) ؟ [3] وهذا يدل على أن الإخبار بالحال ليس تبرما وتضجرا ولا بئس به، وكذلك البكاء، فإن البكاء إذا كان إظهارا للجزع، البكاء عند حلول المصائب إذا كان إظهارا للجزع وللتبرم والتضجر من قضاء الله وقدره فإنه أيضا منافٍ للصبر ويأثم الإنسان به وأما إن كان البكاء من غلبة الطبيعة مجرد غلبة الطبيعة، من باب غلبة الرأفة والرحمة والشفقة والرقة على القلب فهذا لا حرج فيه فقد دمعت عينا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرى إبنه إبراهيم يعالج سكرات الموت وقال حينئذ: ((إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) [4].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا)) [5] ، اللهم صلِّ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه يزيدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
[1] مسلم: ك: الجنائز (923).
[2] موطأ مالك كتاب العين – باب ما جاء في أجر المريض رقم (5).
[3] سنن الترمذي (983)، سنن ابن ماجة (4261).
[4] البخاري: ك: الجنائز (1241).
[5] صحيح مسلم (408).
(1/1054)
الظلم – فتنة صدام
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من سنن الله أنه يُملي للظالم ثم يأخذه بأليم بأسه 2- بعض ما صنعه صدام حسين بالمسلمين
في العراق 3- تظاهر صدام حسين ببعض المظاهر الإسلامية 4- دعوة للتضرع إلى الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد فقال الله تعالى: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [هود:102]. لابد من وقفة قصيرة اليوم نترك فيها مؤقتاً تلك السلسلة من الدروس، دروس تلك القصة القرآنية الشريفة قصة يوسف الصديق عليه السلام فلأن الحوادث والفتن لا تتركنا وشأننا لابد من التعليق علي مجريات الحوادث التي لا شك أنها تشغل بال كل أحد الآن وهي تتطور بشكل مذهل، فيالها من فتنة تدع الحليم حيران إذا تفكر فيها العاقل تحير وكاد يضيع في متاهاتها ولله في خلقه شؤون وله فيما يقضي حكم وفيما يقدم أسرار وهو العليم الخبير. ولكن هناك جوانب واضحة ودروس بليغة يجب علي كل مسلم أن يتنبه لها ويكون على يقظة منها واعتبار بها فإن الله تبارك وتعالى له سنن لا تتبدل ولا تتغير ومن سننه أنه يملي للظالم ويمهله ويستدرجه، يخوف به بعض عباده ويبتلي به بعض خلقه ويحقق به بعض حكمه ولكنه لا يهمله، لابد في النهاية من أن يأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال سيدنا رسول الله (( إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته)) ثم قرأ هذه الآية: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [1] , كم من ظالم طغى وتجبر وعاند واستكبر وظن أنه لا يقهر حتى إذا حلت عليه عقوبة الله انتهى وانماع كما ينماع الملح في الماء، ولكن العجب العجاب في فعل الطغاة وخاصة الطغاة في عصرنا أنهم لما ابتلى الله بهم بعض خلقه فسلطهم عليهم ومكنهم من رقابهم ساموهم سوء العذاب وظلموهم وبغوا عليهم وطغوا وتجبروا ونسوا الله وغفلوا عن سطوته وجبروته حتى إذا حق عليهم أخذ ربك ودنت النهاية وأحسوا بها تظاهروا بالندم وبالتوبة وبالرغبة في الإصلاح والشفقة علي الناس ولكن لا فائدة من ذلك بعد فوات الأوان، هذا طاغية العراق الهدام ابتلى الله به المسلمين هذه الأيام وقبل هذه الأيام وخاصة في العراق فسامهم سوء العذاب وحارب فيهم الإسلام باسم البعث العلماني الملحد ونشر فيهم الرذيلة وأفسد منهم الأخلاق وسفك دماء الأبرياء ودماء الدعاة والعلماء، سفكها بغير حساب في هجمة واحدة بالغازات السامة أباد من إخواننا الأكراد في شمال العراق آلافاً مؤلفة كانوا عزل آمنين مصلين موحدين فمسحهم مع قراهم من الوجود بلا شفقة ولا رحمة وهم من إخواننا المسلمين المصلين ومع ذلك سفك دمائهم بلا شفقة ولا رحمة والله سبحانه جل جلاله ما أبلغ حكمته وما أعظم علمه يملي له ويمهله حتى يبتلي به بعض خلقه ويخوف به بعض عباده الغافلين عنه المعرضين عنه، وهو يزداد صلفاً وغروراً حتى توج سلسلة طغيانه وظلمه بالغدر والخيانة فهاهو يغدر بالمسلمين فيشعلها فتنة عمياء هوجاء ما رأينا لها مثيلاً في العصر الحديث في مدى الأضرار والمفاسد التي عادت منها على المسلمين وفي مدى المنافع والمصالح التي عادت منها على اليهود الصهيونيين، هاهو يرسل بعض ما تبقى من صواريخه على اليهود الصهيونيين يتظاهر بأنه إنما يحاربهم أو يحارب من أجل القضاء عليهم وماذا تجدي الآن بضعة صواريخ ولو كان صادقاً لبدء باليهود الصهيونيين عند اكتمال قوته وتوافر أسلحته بدلاً من أن يطعن المسلمين من ظهورهم، ولكنه كاذب فهي حلقة من حلقات المؤامرة ينفذها هذا الذنب الخبيث من أذناب اليهود الصهيونيين، فهو بهذه الصواريخ التي يرسلها على اليهود الصهيونيين ربما يقدم لهم آخر خدمة جلى يقدم لهم المسوغ والمبرر الذي لا شك أنهم الآن يحتاجون إليه لكي يدخلوا في هذه الحرب ويحتلوا ما تبقى لديار المسلمين المجاورة لفلسطين، ماذا تجدي الآن بضعة صواريخ وقد انتهت قوة هذا الطاغية ودمرت أسلحته ودنت نهايته، ولكن العجب العجاب أنه لما رأى النهاية قد دنت وأوشكت لجأ إلى التظاهر بالإسلام وصار من المصلين وصار يوهم الناس أنه رقيق القلب على المسلمين، بينما الدماء التي لم تجف بعد لآلاف الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والكبار والصغار من الأكراد وغيرهم من المسلمين التي سفكها بلا حسبان وبلا شفقة ولا رحمة تكذبه وتصرخ بخيانته وخديعته للمسلمين، إنه يفعل فعل الطغاة من قبله؛ فرعون من قبله قتل الأطفال واستحيى النساء وسام الناس سوء العذاب وعاند ربه عز وجل وتجرأ على مقام الإلهية فلما أدركه الغرق وامتلأ الماء في فيه وتقاذفته أمواج البحر الهائجة الغاضبة ورأى النهاية وأحس بالموت صرخ بأعلى صوته: أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. فجاءه الجواب الإلهي: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [يونس:91]. فهذا الطاغية هو واحد في سلسلة الطغاة الذين يتجبرون ويفسدون في الأرض ويحاربون الله ويحاربون أهل الإسلام، هاهو وقد دنت نهايته وأحس بها صار عبد الله المؤمن وتذكر أن هناك شعاراً اسمه الله أكبر وصارت كاميرات التلفزيون تصوره وهو يصلي، وماذا يفيد هذا كله الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، على من تنطلي هذه الألاعيب التي يستخف بها هؤلاء العصاه عقول المسلمين وعقول العالمين، على من تنطلي هذه الألاعيب إنها لا تنطلي على من عنده أدنى عقل أو بصيرة، ولكن العبرة هنا ليست في الطريقة التي ينتهي بها الطغاة فحسب سبحانه ما أعظمه وما أعلمه وما أحكمه يملي للطغاة ولكنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر في نهاية الأمر، العبرة ليست فقط في نهاية الطغاة ولكنها في هذه الظاهرة التي نلمسها اليوم كثير من الطغاة اليوم الذين يبتلي بهم العالم الإسلامي يتظاهرون بالإسلام ويتمسحون به وهذا من الأدلة على قوة الإسلام وإن كان لا يحتاج إلى أدلة، فعلى الرغم من كل هذه المحن التي تمر بأهل الإسلام فإنه يبقى هو الكيان الشامخ الذي تتكسر دونه أمواج الفتن وتنطفئ نيران الطغاة يلجؤون إليه عندما يحسون بضعفهم وهزالهم وانكشاف أمرهم، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرد كيد أعداء الإسلام والمسلمين في نحورهم، اللهم كل من كاد الإسلام والمسلمين فرد كيده في نحره، اللهم وقِ المسلمين شر هذه الفتن، اللهم إنا نعوذ بك ونلوذ بك ونلجأ إليك فإنه لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، سبحانك يا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري (4686) ، صحيح مسلم (2583) عن أبي سعيد الحذري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد فيا أيها المسلمون عليكم بالذكر والدعاء مع فعل الأسباب فإن للنصر أسباباً ولتأييد الله عز وجل أسباباً لابد من تحقيقها وأولها الإقلاع عن المعاصي والتوبة من الذنوب وتطهير النفوس والبيوت والمجتمعات من المحرمات، هذا أول الأسباب بدونه لا يتنزل النصر، لابد مع الأسباب أيضاً من الذكر والدعاء فربما نجاك الله ببركة التهليل والتسبيح والتوحيد واللجوء إليه، إذا ذكرته سبحانه ولهج لسانك بذكره ودعائه والتضرع إليه صادقاً بقلبه ينجيك الله ببركة الذكر والدعاء والتوحيد والتسبيح، فقد كان رسول الله يكثر من الدعاء والتهليل والإلحاح على الله والتضرع إليه والتذلل بين يديه وخاصة عند نزول الشدائد كان من دعائه عند نزول الشدائد ((يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)) [1] وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال علمني رسول الله كلمات أقولهن عند الخوف ((لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم والحمد الله رب العالمين)) [2] وروي عن النبي ((من قال: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، قال الله: لأكفين عبدي))، ولما حاصرت الأحزاب هذه المدينة النبوية وأخافوا أهلها بعد أن اتخذ سيدنا رسول الله ما يلزم من الأسباب واستفرغ جهده في فعل الأسباب وقف بين يدي ربه يستفتح على الأحزاب ويدعو عليهم بهذا الدعاء العظيم ((اللهم منزل الكتاب سريع الحساب مجري السحاب هازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم)) [3] ومن أحسن ما يقال عند الشدائد دعاء ذي النون يونس بن متى عليه السلام وهو في ظلمات بطن الحوت جأر إلى ربه بتلك الكلمات العظيمات ولهج لسانه بها فنجاه الله ببركة ما فيها من التوحيد والتسبيح قال عليه السلام: " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "، فعليكم أيها المسلمون بالتوبة إلى الله والإقلاع عن المعاصي والتوبة من الذنوب والإكثار من الذكر والدعاء والإلحاح على رب الأرباب سبحانه وتعالى والتضرع بين يديه.
أما بعد فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [4] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العليم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
[1] مستدرك الحاكم 1/545 ، وصححه ووافقه الذهبي.
[2] مسند أحمد (1/91، 94).
[3] صحيح البخاري (2966) ، صحيح مسلم (1742) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/1055)
محبة الصحابة رضوان الله عليهم
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1-للصحابة المنة علينا بعد الله ورسوله في دخولنا للإسلام. 2-حب الصحابة إيمان وبغضهم نفاق. 3-تسابق الصحابة في البذل والتضحية. 4-ذكر بعض مانزل فيهم من القرآن. 5-حكم من أبغض الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن حقوق سيدنا رسول الله تعظيم أصحابه وتبجيلهم واحترامهم والدعاء لهم والترضي عنهم وكف اللسان عنهم وعما شجر بينهم فإنهم سلف هذه الأمة وصفوتها وخيرها بعد نبيها بهم نصر الله رسوله وأعز دينه وأعلى كلمته وبسببهم اهتدينا إلى الإسلام، فالمنة في هدايتنا إلى الإسلام لله تبارك وتعالى أولا ثم لمصطفاه ثم لأصحاب رسوله الذين جاهدوا بين يديه أحسن جهاد والذين نقلوا إلي الأمة من بعده السنن والشرائع والقرآن. فلولاهم ما عرفنا شيئا عن الإسلام ولولاهم ما عرفنا شيئا من القرآن ولولاهم ما اهتدينا إلى الإيمان.
فحب الصحابة إيمان وبغضهم كفر ونفاق , بوب الإمام البخاري في صحيحه الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله أبوابا في فضائل الصحابة والمهاجرين ثم قال: باب "حب الأنصار من الإيمان" فخرج فيه حديثا عن البراء رضى الله عنه قال سمعت النبي قال: ((الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله)) [1].
وخرج أيضا حديثاً عن أنس رضى الله عنه أن النبي قال: ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار)) [2]. فإذا كان هذا في حب الأنصار فحب المهاجرين أحرى وأولى وآكد لأنهم أسبق منهم وأفضل منهم, ثم حب السابقين أولى وأوجب وآكد وعلى رأسهم الأربعة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي الذين هم أفضل هذه الأمة بعد نبينا فرضي الله عنهم وأرضاهم.
ثم يا مسلم كيف لا تحب أصحاب رسول الله ولهم كل المنة في عنقك, أصحاب رسول الله هم أنصاره وجنده وأتباعه, إنهم حواريوه لما قال عيسى بن مريم: من أنصاري إلي الله قال حواريوه نحن أنصار الله ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنصاري إلى الله. تسابق أولا المهاجرون إلى الإيمان به ونصرته والذب عنه وتحملوا في سبيل ذلك من الأذى والاضطهاد ما تنهد منه الرواسي الشوامخ ثم تسابق إلي الإيمان به ونصرته الأنصار من الأوس والخزرج, أهل هذه المدينة الطيبة آووا رسول الله ونصروه وجاهدوا بين يديه حق الجهاد حتى قال قائلهم في غزوة نبوية يوم بدر: يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيهم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون [المائدة:24] ولكن نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه [3]. رضي الله عنهم وأرضاهم, هذا مقال لسان الصحابة أجمعين, وهذا كان لسان حالهم دائما جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وجاهدوا بين يديه أحسن الجهاد حتى أعز الله بهم الملة ورفع بهم الكلمة وأظهر بهم دينه علي الدين كله ولو كره المشركون.
يا مسلم كيف لا تحب أصحاب رسول الله فهم أسوته وهم قدوته؟ فكما اصطفى نبيه وخليله وصفيه كما اصطفاه من بين سائر خلقه, اصطفى له أصحاباً وجنداً وأنصارا هم أحسن الناس يومئذ فصاروا أفضل هذه الأمة بصحبتهم لرسول الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
جعلهم الله الأنموذج العملي لهذا الإسلام فما عليك إلا أن تحتذي حذوهم وتتأسى بهم, إنهم التفسير العملي لهذا الدين ولذلك ذكرهم الله تعالى في كتابه ونوه بفضلهم وأثنى عليهم وعلى خلالهم وأوصافهم وأفعالهم من ذلك قوله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [التوبة:100]. ومن ذلك قوله تعالى: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم [الأنفال:74].
وبين تعالى في كتابه أنه تاب عليهم ورضي عنهم فقال مثنياً عليهم وعلى نصرتهم وجهادهم بين يدي رسول الله في أحلك الأوقات وأصعب الظروف لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم [التوبة:117].
وقال تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله منوها بهم وبفضلهم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا كريما [الفتح:29].
دلت هذه الآية الكريمة على أنه لا يبغض أصحاب رسول الله إلا كافر إذ قال: ليغيظ بهم الكفار وهل هناك أغيظ على الكفار وأشد حنقا على قلوبهم من نصرة الصحابة لرسوله وجهادهم أعداء الله حتى دوخوا المجوس والروم, ودوخوا أهل الشرك وطواغيت الكفر في الأرض جميعا.
ثم قسم الله الفيء بين المسلمين أجمعين فبدأ بالمهاجرين فقال: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر:8]. ثم ثنى بالأنصار فذكرهم وذكر أوصافهم منوها بها مثنيا عليهم بها فقال سبحانه وتعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
ثم ذكر سبحانه باقي أهل الإيمان, أهل الملة فوصفهم بهذه الأوصاف فقال تبارك وتعالى: والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10]. وصف الله أهل الإيمان وأهل ملة الإيمان بأنهم لا يكنون بغضا ولا غلا لمن سبقهم بالإيمان وعلى رأسهم أصحاب رسول الله بل يعظمونهم ويبجلونهم ويعرفون لهم حقهم ومن سبقهم في الإيمان ويدعون لهم ويترضون عليهم.
ودلت هذه الآية على أن من لم تكن تلك صفته فهو ليس من أهل الإيمان وليس من أهل منة الإسلام.
ومن هذا المعنى استدل إمام دار الهجرة إمام هذه المدينة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه بهذه الآية على كفر الروافض الذين يسبون أصحاب رسول الله وأنهم لا نصيب لهم من الفيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري كتاب فضائل الصحابة (3572).
[2] البخاري كتاب الإيمان (17).
[3] صحيح البخاري (3952، 4609).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
وأثنى الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم على طوائف مخصوصة من الصحابة وأفراد أعيانهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ فذكر سبحانه وتعالى أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا رسول الله يوم الحديبية، وكان ذلك سنة ست من الهجرة لما خرج سيدنا رسول الله معتمرا قاصدا مكة فصدته قريش عن البيت ففاوضهم رسول الله وأرسل لهم عثمان بن عفان رضى الله عنه ليفاوضهم فاحتبسه أهل مكة, فظن رسول الله وأصحابه أن عثمان قد قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نبرح حتى نناجز القوم))، فالتف حوله الصحابة يبايعونه تحت الشجرة على الموت فأنزل الله تعالى فيهم قوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [الفتح:18].
ونوه الله تعالى في كتابه الكريم بأبي بكر الصديق وذكر فضله وأثنى على نصرته لرسول الله وحسن صحبته له في رحلة الهجرة على وجه الخصوص فقال تبارك وتعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
ثم لما اشترى الصديق رضي الله عنه بحُرِّ ماله بعض الموالي المستضعفين الذين أسلموا فعذبهم أسيادهم, اشتراهم أبو بكر الصديق وأعتقهم فأنزل الله تعالى فيه قوله: وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [الليل:17-21]. ويا لها من منقبة عظيمة للصديق رضي الله عنه ويالها من بشارة له رضي الله عنه.
وأنزل الله تعالى في صهيب بن سنان الرومي رضي الله عنه أنزل قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [البقرة:207]. وسببه أن صهيباً لما أسلم خرج من مكة مهاجرا إلى هذه المدينة الطيبة فتبعه أهل مكة فأخذ كنانته وأخرج منها أربعين سهما ثم قال: لأضعن في كل رجل منكم سهما ثم لأصيرن لسيفي فتعلمن أني رجل وأني تركت بمكة قينيتين فهما لكم. فرجعوا عنه لما سمعوا ذلك، ووصل صهيب إلى المدينة فاستقبله سيدنا رسول الله مبشرا إياه قائلا له: ((يا أبا يحيى لقد ربح البيع)) ثم تلا عليه هذه الآية التي نزلت فيه: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد [1]. رضي الله عن أصحاب رسول الله وأرضاهم أجمعين وجزاهم عن الأمة خير الجزاء.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا)) [2] ، اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العليم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (2/321) مختصرا، وابن سعد في الطبقات 3/171-172، والحاكم في المستدرك 3/398 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
[2] صحيح مسلم (408).
(1/1056)
كمال التوحيد
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله ُتغني عن المخلوقين 2- حماية الله لأوليائه ونماذج منها 3- عبادة محبة الله من
أسمى أمثلة التوحيد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمن عرف الله تعالى أحبه ومن أحب الله لم يلتفت إلى غيره وأصبح قلبه مشغولاً به سبحانه عن غيره وفؤاده مملوءًا بحبه سبحانه وتعالى فلا مكان فيه لغيره.
إن العبد إذا بلغ هذه الدرجة من التوحيد استغنى عن المخلوقين وأقبل بكل قلبه وجميع جوارحه على الله تعالى، فعبادته كلها لله واستعانته كلها لله تعالى، العبد إذا بلغ هذه الدرجة الرفيعة من التوحيد استغنى عن المخلوقين وأقبل بكلّه على الله تعالى فعبادته كلها لله واستعانته كلها بالله تعالى لا يقصد غير باب الكريم لا يقصد إلا باب الرحيم الكريم فهو عند أعتاب بابه مقيم وكل من وقف على باب الرحيم الكريم لقي التنعيم والتكريم، لذلك فإن عباد الله المخلصين الذين حظوا بمقام التوحيد وذاقوا لذة التوحيد هم في شغل شاغل عن الخلائق أجمعين لما هم فيه من لذة النعيم المقيم فقد ذاقوا لذة التوحيد، فلا والله لا يبالون بالمخلوقين ولو اجتمع كل من في الأرض على حربهم والإضرار بهم ما التفتوا إليهم ولا خافوهم وما زادهم ذلك إلا إيمانًا: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [آل عمران:173-174].
لما أجمع قوم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما أجمعوا على إحراقه وأوقدوا لذلك نارًا عظيمة ثم ألقوه فيها كان آخر ما قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قبل إلقائه في تلك النار كان آخر ما قال: حسبي الله ونعم الوكيل [1] ، واستجاب الحكيم الكريم الغفور الودود الحنان المنان فقال: يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم [الأنبياء:69].
يا لبلاغة القرآن العظيم انظر كيف صور القرآن هذا الأمر الكوني لو قال: يا نار كوني بردًا فقط قال المفسرون: لمات إبراهيم من شدة بردها ولكنه قال: "بردًا وسلامًا" ولو لم يقل على إبراهيم لأصبحت النار كلها بردًا إلى يوم القيامة لكنه قيد ذلك الأمر بعبده وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
إن عبد الله وخليله إبراهيم لما لجأ إلى باب ربه الكريم سبحانه وتعالى وقلبه منشغل بحبه سبحانه وتعالى ليس في قلبه غير حب الله والتعلق بالله فإبراهيم وهو في أشد الحالات وهو يلقى في النار ولسانه منشغل بذكر محبوبه ومعبوده "حسبي الله ونعم الوكيل" والمحبوب سبحانه أشد حبًا لعبده وأعظم جودًا وكرمًا فهو لا يترك عبده المحب هذا، غير قانون الكون من أجله فإذا بتلك النار المحرقة المهلكة تنقلب بردًا وسلامًا على عبده وخليله.
وهذا سيد المرسلين وأكرم الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد أعظم الموحدين درجة وأكمل الموحدين مقامًا من حبه لمعبوده وخالقه وسيده مولاه سبحانه وتعالى لم يبال من شدة بأس المكذبين وسطوتهم عليه مستعذبًا ذلك في جناب الرب الكريم فقد رموه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين طاردوه ساخرين مكذبين في جبال الطائف ومهادها، طاردوه ساخرين مكذبين وهو يدعوهم طارده أولئك الأشقياء البائسون وهو يدعوهم إلى النجاة ويحثهم على السلامة وهم مصممون على الهلاك مصرون على النار، لكنه ظل منشغلاً بسيده ومولاه وخالقه ومعبوده سبحانه وتعالى، سيد الخلق وهو في أحلك الأوقات يطارده أعداؤه ودماؤه تسيل على قدميه ومع ذلك هو منشغل بمناجاة الإله والمعبود، لجأ إلى حما ربه وجنابه ووقف على بابه مناديًا ربه راجيًا وداعيًا إلهه بقوله: ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو أن ينزل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)) [2].
إن حب العبد للإله المعبود سبحانه وتعالى مقام عظيم لكنه مقام فيه مقامات ودرجة رفيعة فيها درجات يرفع الله فيها من يشاء من عباده، وقد رفع عبده ونبيه وحبيبه محمدًا إلى أعلى تلك المقامات وأعظم تلك الدرجات تأمل رقة نفسه الكريمة الشريفة وشفافية إيمانه وعظمة حبه لسيده ومولاه، سيد الخلق وهو في أحلك محنة يطارده أعداؤه ودماؤه تسيل على قدميه ومع ذلك هو منشغل بمناجاة سيده ومعبوده ومولاه سبحانه وتعالى: ((إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي)).
لجأ سيد الخلق إلى جناب رب كريم رحيم وفتح الكريم الرحيم أبواب رحمته لعبده وخليله وحبيبه محمد ، يروي ذلك بنفسه لزوجه أم المؤمنين عائشة يحدثها عما لقي بعد تلك المحنة فيقول: ((فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث معي ملك الجبال إليك لتأمره بما شئت فيهم)). قال : ((فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني الله عز وجل إليك أنا ملك الجبال لتأمرني بما شئت فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين)) والأخشبان جبلان عظيمان لكنه قال: ((إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا)) [3] ، صدق من وصفه فقال: عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128].
أيها المؤمنون: إن ربكم وإلهكم ومعبودكم وسيدكم ومولاكم سبحانه وتعالى يحبّ أن تعبدوه وأن تذكروه وأن تناجوه وأن تثنوا عليه وأن تحمدوه بالمحامد كلها، يحب سبحانه وتعالى أن تلجأوا إلى جنابه وتقفوا ببابه فلا يشغلنكم عنه غيره لا تشغلنكم الأبواب عن بابه لا تشغلنكم أبواب المخلوقين عن باب الإله الخالق المعبود سبحانه وتعالى فإنه يغضب على من صرف عنه إلى غيره ويحب من أقبل عليه وفر إليه، من تقرب إليه ذراعًا تقرب الله إليه باعًا ومن أتاه ماشيًا أتاه الله سبحانه وتعالى هرولة.
فيا أيها المؤمن: أخلص قلبك لله تعالى بالعبادة والاستعانة تذق لذة التوحيد وترتق في مقاماته فذلك هو سر التوحيد أن تخلص قلبك لله تعالى بالعبادة والاستعانة ذلك هو سر التوحيد.
فإذا ملأ حب الله تعالى قلبك ذقت لذة التوحيد وارتقيت في مقاماته ودرجاته الرفيعة، وكلما نقص حب الله في قلبك نزلت عن درجات التوحيد حتى إذا تساوى حب الله تعالى وحب غيره في قلبك أمسيت مترديًا في حفرة الشرك، وكلما طغى حب غيره على قلبك ترديت في دركات الشرك إلى أسفل سافلين والعياذ بالله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب [البقرة:165].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صحيحه (68).
[2] أخرجه الطبراني في الكبير [(7/395) برقم (5308) كما في جامع المسانيد لابن كثير)].
[3] أخرجه البخاري في صحيحه (63).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران: 102]. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب: 70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56]. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/1057)
قواعد في التعامل مع الكفار
الإيمان
الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استعلاء المؤمن على الباطل وأهله 2- عقيدة الولاء والبراء من أهم عقائد المسلمين
3- مكر أعداء الإسلام بعقيدة الولاء والبراء 4- الأمر بالعدل والإنصاف للكافر من غير ولاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن موقف المسلم من الكفر وأهله يجب أن ينطلق من ثلاث قواعد:-
القاعدة الأولى: استعلاء المسلم بإيمانه، فإن المسلم الصادق الإيمان هو أعلى من غيره عقيدة وتصورًا للحياة، لأنه في عقيدته وتصوره للحياة هو على الحق وغيره في عقيدتهم وتصوراتهم هم على الباطل، وهو أعلى من غيره في صلته وارتباطه فإن صلة المسلم وارتباطه بالله العلي الأعلى، وهو أيضًا أعلى من غيره في منهجه وهدفه وغايته، وفي شعوره وسلوكه وخلقه، والمسلم أيضًا أعلى من غيره في قوته وإمكانه فإن الله تعالى معه قال سبحانه: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم [محمد:35].
وقال تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران:139].
إن استعلاء المسلم بإيمانه نابع من أنه على الدين الحق والآخرون على الباطل فإنه لا يوجد دين يمكن أن يقبله الله تعالى غير هذا الإسلام الذي بعث الله به الرسل وبعث به خاتمهم سيدنا محمدًا : ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران:85].
فالدين الحق هو الإسلام لا يقبل من أحدٍ أبدًا غيره مهما كان وفي أي مكان لمّا بعث الله خاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد جعل رسالته عامة لجميع الخلق وأمره أن ينادي في الأمم بقوله: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا [الأعراف:158].
فدخل في عموم هذا الخطاب جميع الناس، جميع الأمم الذين يعيشون على وجه هذه البسيطة ودخل اليهود والنصارى في من لم يستجب منهم لدعوة هذا الرسول خاتم الأنبياء محمد ومن لم يدخل في الدين الذي جاء به، من لم يدخل في دينه من اليهود والنصارى فهو كافر وهو في الآخرة من الخاسرين ولن يقبل الله دينًا أبدًا غير هذا الدين الذي جاء به محمد الذي هو الإسلام وربما اعتقد بعض الجهال، ربما توهم بعض الجهال أن هناك دينًا يمكن أن يقبله الله عز وجل من أحد غير الدين الذي جاء به سيدنا محمد وهو الإسلام، ربما توهم بعض الجهال أن كل إنسان يمكن أن يتعبد ربه بما شاء من الأديان وهذا جهل فادح بحقيقة هذا الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره. جهل فادح بحقيقة هذه الرسالة الخاتمة وهذا الوهم من صاحبه لأنه فقد استعلاءه.
القاعدة الثانية: أن على كل مسلم أن يتولى الله ورسوله والمؤمنين فإن عقيدة الولاء من أهم أركان هذا الدين إذ لا يُتصور أن يكون إيمان الإنسان بالله ورسوله وولاءه لغير الله ورسوله، من آمن بالله ورسوله فولاؤه يجب أن يكون لله ورسوله، أما إذا كان ولاؤه لغير الله ورسوله فهذا إخلال بالإيمان. والولاء معناه الموادة والمحبة والنصرة والمؤازرة، والمخالفة فهل يُتصور أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله تعالى وبرسوله ثم هو يناصر ويؤازر غيرهما ويحب غيرهما، فما بالك بمن يوالي عدوهما وما يحب عدوهما وما يؤازر عدوهما، من والى أعداء الله فهو من أعداء الله هكذا أخبرنا الله عز وجل في كتابه إذ يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم [المائدة:51].
فمن والى أعداء الله فهو من أعداء الله، لأن المسلمين الصادقين وليهم هو الله عز وجل ورسوله المصطفى والمؤمنون هكذا على وجه الحصر، فليست هناك ولاية للمسلمين غير هذه الولاية، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون [المائدة:55].
فعلى كل مسلم أن يحقق في ذات نفسه هذا الركن الهام من أركان الدين، أن يحقق في نفسه عقيدة الولاء فيكون حبه وتكون موادته ونصرته ومؤازرته وتأييده قلبًا وقالبًا، قولاً وعملاً لله ولرسوله وللمؤمنين.
القاعدة الثالثة: هي معاداة الكافرين، فإن من مقتضى الولاء لله ورسوله من مقتضى الإيمان بالله ورسوله معاداة من كفر بهما ومحاربة من حاربهما، ومن مقتضى محبة الله ورسوله محبة كل من أحبهما وبغض كل من أبغضهما، فإن من أهم قواعد وأركان الإيمان الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله.
لكن أعداء المسلمين في هذا العصر حريصون على أن يلبسوا على المسلمين هذه العقيدة الهامة أن يشوشوها في نفوسهم، أن يخربوا في نفوسهم عقيدة الولاء لله ورسوله، عقيدة الحب في الله والبغض في الله، وما أكثر الشعارات التي رُفعت اليوم تنادي بالأواصر والروابط المختلفة، تنادي بالروابط الإنسانية، والإخاء الإنساني بمحبة البشر للبشر، شعارات مزيفة براقة رفعها أعداء الإسلام يريدون بذلك تخريب هذه العقيدة الهامة في نفوس المسلمين.
إن الإخاء الوحيد الذي يلتزم به المسلم الصادق الإيمان هو الإخاء الإسلامي الإيماني المبني على آصرة الإيمان ورابطة الإسلام وكل إخاء سوى هذا الإخاء فهو باطل لا يعتبره المسلم أبدًا، أما المساواة بين البشر فإن كل المقصود بها أن المسلم مثل الكافر فهذه مساواة باطلة هل يستوي إسلام وكفر، هل يستوي إيمان وكفر: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [القلم:35-36].
لا يستوي مسلم وكافر أبدًا لا يجتمع مسلم وكافر أبدًا، لا إخاء بين مسلم وكافر أبدًا، فإن ما بينهما المفاصلة والمعاداة والبغض في الله عز وجل.
ومعنى هذه القاعدة الثالثة التي هي معاداة الكافرين وبغضهم معناه أنه لا يحل لمسلم يؤمن بالله ورسوله أن يكنَّ في قلبه مودة ومحبة لكافر أبدًا وهذا أمر لا يمنع من البر والإنصاف إلى المسالمين من الكافرين، البر والإنصاف في المعاملة مع المسالمين من الكافرين، فإن البر والإقساط والمعاملة لمقتضى المسامحة والإنصاف والعدل لا يلزم منه المحبة والموادة والموالاة، فإن المسلم أمره دينه الذي هو دين العدل والإنصاف أن يعدل بين سائر الناس مسلمهم وكافرهم: ولا يجرمنكم شنآن قوم (أي بغض ومعاداة قوم) على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [المائدة:8].
فأنت مأمور أيها المسلم أن تعامل الجميع بمقتضى العدل والإنصاف، لكن لا يحل لك أن تكون معاملتك مع الكافر على مقتضى المحبة والمودة والموالاة التي هي المؤازرة والمناصرة، وفرّق بين الأمرين فإن القرآن فرَّق بين الأمرين.
فرق بين الأمرين بين العدل والإنصاف والبر وبين الموالاة فقال تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [الممتحنة:9].
فالنهي عن موالاة الكافر مسالمًا كان أو محاربًا والمحارب على وجه الخصوص الذي يحاربك أيها المسلم في الدين ويعتدي عليك أو على إخوانك المسلمين فيخرجهم من ديارهم أو يُظاهر على إخراجهم، لا يحل موالاة الكافر أبدًا وخاصة هذا الكافر الذي أعلن الحرب على المسلمين.
أما البر والمعاملة بمقتضى الإنصاف والعدل فلم ينهنا ديننا عن ذلك حتى مع الكافرين المسالمين خاصة من كان منهم ذا صلة أو قرابة، ولكن كما بينت لا يلزم من ذلك الموادة والمحبة فإن المودة والمحبة لكافر لا تجتمع مع الإيمان في قلب واحد أبدًا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [المجادلة:22].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى ولا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا [الأحزاب:70-71].
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا [الأحزاب:56].
وقال : ((من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه بها عشرًاْ)) [1].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَّرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه مسلم في صحيحه (1/306) برقم (408).
(1/1058)
وقفات مع سير الصحابة
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
18/1/1416
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة الانجاز الذي حققه الصحابة في نشر الإسلام. 2- الشاب المتنعم في مكة مصعب بن
عمير وقصة إسلامه ثم شهادته. 3- شجاعة الزبير وتربيته لابنه. 4- ثبات وتضحية ومحبة
خبيب بن عدي. 5- فدائية البراء بن مالك. 6- نظرة في واقع المسلمين المزري.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتوبوا إليه توبة نصوحاً.
إخوة الإيمان: إن التاريخ لم يشهد رجالاً عقدوا عزمهم، ونواياهم على غاية تناهت في العدالة والسّمو، ثم نذروا لها حياتهم على نسقٍ تناهى في الشجاعة والتضحية، والبذل، كما شهد في صحابة رسول الله.
لقد جاء الصحابة في أوانهم المرتقب، ويومهم الموعود، وحين كانت الحياة تُهيب بمن يجدّد لقيمها الروحية، شبابَها وصوابها، جاء هؤلاء مع رسولهم الكريم مبشرين ومنذرين.
وحين كانت الحياة تهيب بمن يضع عن البشرية الرازحة أغلالها، ويحرّز وجودها ومصيرها، جاء هؤلاء وراء رسولهم العظيم محرّرين ومجاهدين.
وحين كانت الحياة تعيش أسوأ مراحل عقل الإنسان، حين هبط إلى مدارك الوثنية، التي كسرت فقارها واعتصرت روحها جاء هؤلاء روّاداً ومستشرفين لمستقبل أفضل في ظلّ توحيد الله جل وعلا.
كيف أنجز أولئك الأبرار كلّ هذا الذي أنجزوا في بضع سنين، كيف دمدموا على العالم القديم بقيصريّاته، وصولجانه، وحوّلوه إلى كثيب مهيل؟. كيف شادوا بقرآن الله، وكلماته، عالما جديداً يهتزّ نضارة، ويتألّق عظمة، ويتفوق اقتداراً؟.
وقبل هذا كله، وفوق هذا كله، كيف استطاعو في مثل سرعة الضوء أن يضيئوا الضمير الإنساني، بحقيقة التوحيد، ويكنسوا منه إلى الأبد وثنية القرون؟! تلك هي معجزتهم الحقة التي تميزوا بها، وتلك هي مفخرتهم التي فاخروا فيها التاريخ.
ولنقترب في خشوع وغبطة من أولئك الرجال الأبرار، لنستقبل فيهم أروع نماذج البشرية الفاضلة وأبهاها، ولنرى تحت الأسماء المتواضعة أسمى ما عرفت الدنيا من عظمة ورُشد، ولنشهد كتائب الحق وهي تطوي العالم بأيمانها، زاحمة جوّ السماء برايات الحقيقة الجديدة، التي أعلنوا بها توحيد الرب، وتحرير الخلق.
أيها الإخوة المؤمنون: هذا رجل من أصحاب محمد ، ما أجمل أن نبدأ به الحديث: غرة فتيان قريش، وأوفاهم بهاءً وجمالا وشبابا، بل كان أعطر أهل مكة في زمانه، إنه مصعب بن عمير شاب من شباب قريش، ما أن سمع بالرسالة التي جاء بها محمد الأمين إلا وكان هذا الفتى من شباب الدين الجديد المضحين لأجله، وكانت أم مصعب حناس بنت مالك قوية النفوذ، وظل مصعب يتفادى غضب أمه التي لا تعلم بإسلامه، ولا بتردُّده على دار الأرقم.
ولكنها علمت في نهاية الأمر، وغضبت وحبسته في ركن قصي من الدار، ثم فرّ بدينه إلى الحبشة بعد أن ترك وراءه زينة الدنيا ومباهجها.
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوسً حول رسول الله فما أن أبصروا به حتى حنوا رؤوسهم وذرفت عيونهم دمعاً شجياً، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقّعا باليد، وتذكروا صورته قبل إسلامه، فقال لهم رسول الله : ((لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، لقد ترك ذلك كله حباً لله ورسوله)).
وهاجر بعد إلى المدينة بعد أن اختاره الرسول لأعظم مهمة حينها، لأن يكون سفيره إلى المدينة يفقّه أهلها ويدعوهم إلى الإسلام، ونجح في مهمته نجاحاً منقطع النظير.
وقدم رسول الله إلى المدينة وبدأت المعارك بينه وبين مشركي مكة: بدرٌ ثم أحد، وكان مصعب هو حامل الراية يوم أحد، يقول ابن سعد فيما رواه في الطبقات: حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ثم أخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندقّ الرمح، ووقع مصعب، وقبل أن يسقط اللواء تلقاه علي بن أبي طالب ، وجاء الرسول وأصحابه بعد المعركة يتفقدون شهداءهم، ووقفوا دامعي الأعين عند جثمان مصعب الخير. يقول خباب بن الأرت: (هاجرنا مع رسول الله في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من قضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له شيء يكفّن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برز رأسه، فقال لنا رسول الله : ((اجعلوها ممّا يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر)) ، ووقف رسول الله على مصعب بن عمير، وقال: وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما: ((لقد رأيتك بمكة وما بها أرقّ حلةً ولا أحسن لمّة منك، ثم ها أنت ذا شعث الرأس في بردة)) ، هذا مصعب بن عمير وهذه هي همّته.
واقلب الطرف في سيرة ذلك الجيل، تتجدد لك معاني الثبات والبطولة والفداء، لقد شهدت أزقّة مكة وسككها فتى في فخامة وعزة من عمره، نعم في الخامسة عشرة، يعدو في الأسواق شاهراً سيفه ميمّما يبحث عن رسول الله ، كان هذا الفتى هو الزبير بن العوام سمع هيعة فظنّ أن رسول الله قد أصيب بسوء، فاحتمل سيفه وانطلق يبحث عنه حتى إذا وصل إليه رآه النبي على تلك الحال، قال: ما بك يا زبير قال: يا رسول الله سمعت هيعة فخشيت أنك أصبت بسوء؛ قال: وماذا كنت تفعل؟ قال: كنت أضرب بسيفي هذا من أصابك، فدعا له النبي بخير، هذه همّته، وربّى عليها ابنه عبد الله، فقد شهد عبد الله بن الزبير معركة اليرموك وعمره اثنا عشرة سنة، قد ركب فرسا ووكل به والده الزبير رجلا يمسك فرسه من أن يقتحم به وسط المعركة.
هكذا كانت تصنع نفوس ذلك الجيل، وعلى هذا النحو كانت تربي، فداء وتضحية لأنبياء الله للدعوة إلى الله بالغالي والنفيس.
ثم إلى درس عظيم من دروس الفداء مع خبيب بن عدي، حينما أسره المشركون في مكة وراحوا يُساومونه على إيمانه، ويلوحون له بالنجاة إذا هو كفر بمحمد ، ومن قبل بربه الذي آمن به، لكنهم كانوا كمن يحاول اقتناص الشمس برمية نبل.
وحينما يئسوا مما يرجون قادوه إلى التنعيم حيث يريدون قتله، واستأذنهم خبيب في أن يصلي ركعتين، فأذنوا له، وصلى خبيب ركعتين في خشوع وثبات، ثم التفت صوب قاتليه، وقال لهم: ((والله لولا أن تحسبوا أن بي جزعاً من الموت لازددت صلاة))، ثم تصفح وجوههم في عزم وراح ينشد:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزّع
وبدأت الرّماح تنوشه، والسيوف تنهش لحمه، فاقترب منه أحد زعماء المشركين، وقال له: أتحب أن محمداً في مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك، فانتفض خبيب كالإعصار وصاح بهم: (والله ما أحب أني في أهلي وولدي معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة)، ثم قال: (اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلّغه الغداة ما يصنع بنا)، واستجاب الله دعاءه، فبلغ رسول الله حال خبيب فدعا له واستغفر وترحّم له.
وأنتقل بكم إلى أسطورة من أساطير الشجاعة والجهاد في سبيل الله، إنه من إذا أقسم على الله أبرّه، كما قال عنه إنه البراء بن مالك، ومما يشهد له موقفه يوم اليمامة في جهاد الردة حين راح البراء يجندل أتباع الكذّاب مسيلمة بسيفه، واندفع المرتدون هاربين إلى الوراء حتى احتموا بحديقة في حصن كبير، ولاذوا بها وأقفلوا عليهم بابها، وكادت المعركة أن تنتهي بحيلة أولئك لولا أن الله يسّر البراء بن مالك، فقد صاح بالمسلمين بأن يحملونه على ترس ويلقون به من أعلى باب الحديقة على المرتدين، وكما قال أبو بكر : (احرص على الموت توهب لك الحياة)، فحمله المسلمون ثم اعتلى الجدار وسقط عليهم يبارزهم بسيفه لوحده داخل الحديقة حتى فتح الباب واقتحمته جيوش الإسلام بعد أن تلقى من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة خلّفت جرحاً غائراً.
بالله عليكم إخوة الإيمان حدثوني عن أصحاب دين افتدوه بمثل هذه البطولات.
كنا جبالا في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحاراً
بمعابد الإفرنج كان آذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لن تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
إننا حين نأخذ غيضا من غيض هذه السير العطرة، والتضحيات النبيلة، إنما نريد نماذج دالة، والسيرة ملأى بما يرفع الهمم، ويذكر العزائم من قصص هؤلاء الصحابة الأبرار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يُعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً.
بارك الله ولي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، يمنّ على من يشاء من عباده بهدايته للإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واسع الفضل والآلاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان خلقه القرآن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: لقد استشرفنا عظمة صحابة رسول الله عن قرب، وصحبنا خلال لحظات مشرقة ثلّة مباركة منهم، وفي هؤلاء الثلّة نرى صور جميع الأصحاب، نرى إيمانهم وثباتهم وبطولتهم وتضحياتهم وولاءهم وعدلهم، نرى البذل الذي بذلوا، والنصر الذي أحرزوا، والدور الذي نهضوا به لتحرير البشرية بأسرها من وثنّية الضير وضياع المصير.
فما الحال؟ وما الواقع اليوم، والأمة تدّعي الصلة بذلك الجيل وتلك الطائفة، إن الواقع مرير وإن الأمة ممزقة وإن التكالب على المسلمين ورميهم عن قوس واحدة حاصل، وإن الغفلة عظيمة وما أشبه ليلة بعض من بلدان المسلمين بأندلس البارحة.
أين اللواء وخيل الله يبعثها عمرو ويصرح في آثارها عمر
أيها الأحبة: ألا نملك مثل تلك الطاقات التي كانت في صفوف الصحابة، ألا نحيي مثل أمجاد الصحابة رضوان الله عليهم في نفوس شبابنا.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد ودمعه في الخد أدراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبّوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفرا يُشيدون لنا مجداً أضعناه
إنه المجد الذي خسرناه يوم تأخرنا في آخر ركب الأمم، إنه المجد الذي أضعناه يوم تقهقرنا، والتهى شبابنا بالترهات والأباطيل، إننا نملك من الطاقات ما يوازي طاقات شباب الصحابة رضوان الله عليهم ولكننا لم نحسن التعامل معها، ولا تربية أبنائنا عليها، تهينها الأمة وتمتهنها، وتقتلها ولا تنتفع بها وهي أحوج ما تكون إليها.
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
وإن النصر لبعيد ما دام هذا حال الأمة مع طاقاتها، وإن النصر لبعيد حين تدمر النفوس ويهان المخلصون، ويرفع المجرمون إلى مرتبة الأتقياء، ولا يسمع الناصحون، فهل تنفع عندها تلك الطاقات.
إنها دعوة إليكم أيها المربون والأولياء، أيها الناصحون والكتاب والأدباء أن تأخذوا بأيديكم وبحجز شبابكم لنرد إلى مناهل سيرة النبي وصحابته ورود العطشان، وأن نجعل همّ شبابنا في قضايا أمته ودعوته، وأن يكون قدوتهم تضحية مصعب، وفداء خبيب، وحماية الزبير وشجاعة البراء، وإيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
اسأل الله العظيم جلّت قدرته أن يهيأ النصر لهذه الأمة على جميع أعدائها وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعزّ فيه أهل الطاعة ويذل فيه أهل المعصية، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
(1/1059)
الحكمة ضالة المؤمن
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
2/8/1417
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرجل الضعيف هو الذي تهزمه العادات والتقاليد السيئة. 2- القوي هو الباحث في الحقيقة
المذعن لها. 3- سلمان الفارسي الباحث عن الحقيقة وتفاصيل هجرته في فارس إلى المدينة.
4- علامات النبوة كما رآها سلمان. 5- سلمان نموذج للأخوة الإسلامية. 6- قصة سلمان
نموذج في طلب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
إخوة الإيمان: يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الترمذي وصحّحه: ((لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، لكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم..)) الرجل الضعيف هو الذي يستعبده العرف الغالب، وتتحكم في أعماله التقاليد السائدة، حتى ولو كانت خطا يجرّ معه متاعب الدنيا والآخرة، أما الإنسان القوي الطموح فهو معين لا ينضب للنشاط الموصول، والحماسة المذخورة، واحتمال الصعاب، ومواجهة الأخطار، بل لديه الدوافع الحثيثة للبحث عن الحقيقة، ولو دفعه ذلك لصراع الأعداء أو لقاء الموت.
إخوة الدين والعقيدة: من الحكمة أن نسعى ونطمح إلى كل خير يوصلنا إلى عبادة الله الصحيحة من الخطأ، السليمة من الشرك، الخالية من التقصير والأهواء المضلّة، سواء كان ذلك عن طريق العلم النافع أو العمل الصالح أو الخلق القويم، والحكمة ضالة المؤمن يقبلها أنى وجدها فهو أحق بها.
وحين نبحث عن الحكمة ونطمح نراها في العلم النافع والحق المبين، في كتاب رب العالمين وسنة سيد الأنبياء المرسلين، قال : ((لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنتي..)) ، إن تلك المعاني نراها متحققة واضحة جليّة في قصة سلمان، ولم يكن سلمان قرشيا، وكما لم يكن عربيا، بل سلمان ابن الإسلام سلمان الفارسي.
روى الإمام أحمد بسند صحيح في مسنده وابن سعد في الطبقات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثنا سلمان الفارسي ذات مرة فقال: ((كنت رجلا من أصبهان، وكان أبي دهقان أرضه، أي راهبهم، وكنت من أحب عباد الله إليه، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار التي توقد، ولا تخبو، وكان لأبي ضيقة أرسلني إليها يوما، فمررت بكنيسة للنصارى فسمعتهم يصلون، فأعجبتني صلاتهم فقلت: هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، فما رجعت حتى أرسل إلي أبي في أثري، وسألت النصارى عن أصل دينهم، فقالوا: في الشام، وقلت لأبي حين عدت إليه ما رأيت وأُعجبت به، فجعل في رجلي حديداً وحبسني، فأرسلت إلى النصارى أني قد دخلت في دينهم، وأن يبحثوا لي عن ركب إلى الشام لأرحل معهم، وقد فعلوا فحطمت الحديد، وخرجت، وانطلقت إلى الشام فسألت عن عالمهم فقالوا لي: الأسقف. فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم وأصلي وأتعلم، وكان رجل سوء في دينه يجمع الصدقات من الناس ليوزّعها ثم يكتنزها لنفسه، ثم مات، فجاءوا بآخر جعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً على دينهم خيراً منه، ولا أعظم رغبة في الآخرة وزُهدا في الدنيا ودأبا على العبادة. وأحببته حبا عظيما فلما حضره قدره، قلت له: بم تأمرني وإلى من توصي بي؟ فقال: أي بني، ما أعرف أحداً من الناس على مثل ما أنا عليه إلا رجلا بالموصل، فلما توفي أتيت صاحب الموصل فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم ثم حضرته الوفارة فسألته فدلني على عابد في نصيبين، ثم أتيته وأخبرته وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، فلما حضرته الوفارة أمرني أن الحق برجل في عمورية من بلاد الروم، فرحلت إليه وأقمت معه واصطنعت لمعاشي بقرات وغنيمات، ثم حضرته الوفاة فقلت له: إلى من توصي به؟ فقال: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه أوصيك به، لكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين إبراهيم حنيفا يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرّتين، فإن استطعت أن تخلص إليه فافعل وإن له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وإن بين كتفيه خاتم النبوة إذا رأيته عرفته.
ومر بي ركب ذات يوم فسألتهم عن بلادهم فعلمت أنهم من جزيرة العرب فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم إلى أرضكم؟ قالوا: نعم، واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، فظلموني وباعوني إلى رجل من اليهود، ورأيت نخلا كثيرا فطمعت أن تكون هي ما أقصّ من مهاجر النبي المنتظر، وأقمت عند الرجل الذي اشتراني حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها حتى أيقنت أنها البلد الذي وُصف لي، وأقمت معه أعمل له في نخله حتى بعث رسول الله ، وقدم المدينة وإني لفي رأس نخلة يوما وصاحبي جالس تحتها إذ أقبل رجل من يهود، من بني عمّه، فقال: يخاطبه قاتل الله بني قيلة إنهم ليتقاصفون على رجل بقباء قادم من مكة يزعمون أنه نبي، فوالله ما هو إلا أن قالها حتى أخذتني العرواء فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي ثم نزلت سريعاً أقول: ماذا تقول؟ ما الخبر؟ فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا؟ أقبل على عملك، فأقبلت على عملي.
ولما أحسست جمعت ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئت رسول الله بقباء فدخلت عليه ومعه نفرٌ من أصحابه، فقلت له: إنكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتكم أحق الناس به ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله وأمسك هو فلم يأكل، فقلت لنفسي: هذه والله واحدة، إنه لا يأكل الصدقة، ثم رجعت وعدت إليه عليه السلام في الغداة، أحمل طعاماً، وقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه: كلوا باسم الله، وأكل معهم، قلت لنفسي: هذه والله الثانية: إنه يأكل الهدية، ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته فوجدته في البقيع قد تبع جنازة وحوله أصحابه وعليه شملتان مؤتزرا بواحدة فسلمت عليه ثم عدلت لأنظر إلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله فإذا العلامة بين كتفيه، خاتم النبوة كما وصفه لي صاحبي، فأكببت عليه أقبّله وأبكي، ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدّثته بحديثي وهو يحب أن يسمعه أصحابه.
ثم أسلمت وحال الرّق بيني وبين شهود بدر وأحد وذات يوم قال لي رسول الله : ((كاتب يا سلمان فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أغرسها وأربعين أوقية ثم دعا الرسول الصحابة ليعينوني حتى اجتمعت لي ثلاثمائة نخلة، فلما صفرت لها جاء عليه الصلاة والسلام فجعل يضع النخل بيده، فوالذي نفسُ سلمان بيده ما مات منها نخلة واحدة، وأعطيتهم الباقي فعتقت، وشهدت مع رسول الله الخندق ثم لم يفتني معه مشهد)).
إخوة الإيمان: إن هذه القصة تحمل المعاني والمواقف العظيمة والتضحيات الجسيمة في كل ما يملك الإنسان من أجله الدين الحق الذي هو أغلى وأعز من كل شيء، فأي إنسان شامخ كان سلمان الفارسي، أي توفيق عظيم أحرزته روحه المتطلّعة، وفرضته إرادته الغلاّبة على المصاعب فقهرها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولاً؟ أي ولاء للحقيقة أخرج صاحبه طائعاً مختارا من ضياع أبينه وثرائه ونعمائه، إلى المجهول بكل مشاقه وأعبائه، ينتقل من أرضٍ إلى أرض، ومن بلد إلى بلد، ناصباً كادحاً عابداً، ويظلّ في إصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقاً، فيجمعه الله بعد ذلك بالحق، ويلاقيه برسوله مؤمنا مسلماً، ثم يشهد بعينيه رايات الله تخفق في كل مكان في الأرض هدى وعمراناً وعدلاً.
إن عبرا عظيمة ينبغي الوقوف عليها في قصة سلمان الفارسي، فلقد رأينا فيها تحكيم العقل الذي هو أساس كل فضيلة، وهو طريق الحق فما أن تبين أن دينا خيرا من دينه حتى بادر بالإستجابة إليه، والسؤال عن أصل هذاالدين نابذا الأهواء والضلالات التي يعيشها قومه من كبر وجهل وعصبية، كما نرى فيها توجيه الدعوة لأبيه بترك ما هم فيه من ضلال وخرافة بعبادتهم لنار لا تلبث أن تنطفئ.
رأينا في قصة سلمان الخير، وهذا كان لقبه ورأينا حبّه للعلم الموصل للحق بسؤاله عن أصل هذا الدين وإصراره للوصول إليه وحين نتحدث عن سلمان الفارسي نتحدث عن الشخصية التي بذلت كل شيء في سبيل امتلاك اليقين وحيازة الحقيقة، نتحدث عن رجل هجر الخرافة والأسطورة والارتحال في كل فج، وإلى كل صقع، طلبا للعلم الذي يتحقق فيه الصعود في الدنيا والسرور في الآخرة.
نرى كذلك في قصة سلمان الفارسي تضحيته بنفسه وأهله وبلده وماله وقومه وما يدينون به، فلقد ضحّى بحياة القصور التي تعيشها عائلته إلى حياة كلّفته إنفاق صدر شبابه في رحلة اليقين، كما ضحى بحريته فقبل عبودية الجسد ليظفر بحرية المعتقد، قبل عبودية الشكل ليذوق حلاوة العبودية لله، كل ذلك لأنه وجد أن الحق هو الرباط الوحيد الذي يجمعه لا رباط النسب ولا الجنس ولا العرق ولا اللون أو غيرها ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظم أن تكون من الجاهلين.
رأينا في قصة سلمان الفارسي الهمة الكبيرة والعزم القوي للوصول إلى ما ينفعه في دينه من العلم، فحين نتحدث عن سلمان نتحدث عمن طلب الراحة على جسر المتاعب، وعمّن أراد أن يعيش لذة البحث الدائمة عن الكمال نتحدث عن الشخصية التي رأت كمالها في بحثها الدائم عن الكمال فلم ترض بحضور منقوص وجناح مقصوص ولا بعلم يضيء الدنيا ويضيع الآخرة، والعقيدة تسوّق الواقع وتسوّغه ولا تنقذه.
رأينا في قصة سلمان الفارسي تجشم المتاعب وعدم يأسه وتحمله مشاق التنقل من بلد إلى بلد في سبيل الاستزادة من العلم حتى خدم العلماء من أجل ذلك، بل صبر على الغدر والخيانة والضرب والإهانة كل هذا في سبيل الوصول إلى الحياة العزيزة الشريفة، نرى في قصة سلمان فرحة الشديد عند لقائه برسول الله حتى أنه بكى من شدة الفرح كالظمآن حين يقع على نبع الماء، وذلك عندما يتيقن من صدق نبوته عليه الصلاة والسلام.
ومن فضل الله سبحانه ورحمته أنه لا يخيّب جهاد عبد تعب في الوصول إلى الحقيقة ويكرمه بعد ذلك حتى وصل إلى مكانة عظيمة عند رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى قال عنه: (سلمان منّا آل البيت)، وهكذا كان حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الحق والرجوع إليه والبحث عنه وما زادهم تواضعهم للحق إلا رفعة، فمن تواضع لله رفعه فالحق ضالتهم أنى وجدوه قبلوه وتمسكوا به دون تردد، عن صغير أو كبير من غني أو فقير من رجل أو امرأة.
أما حال كثير من الناس مع الأسف فهو عدم المبالاة فيما ينفعهم في أمر دينهم، فهؤلاء لا يكلفون أنفسهم أدنى تكلفة في سبيل البحث عن العلم الحق الذي يحيي القلب بذكر الله ويحميه من الأمراض وينجيه من عذاب يوم القيامة، بل تجد بعضاً منّا مع الأسف يأتي الحق عليه ويطرق مسامعه ممن يتبرّع بإيصاله وذكره ونشره، لكننا نعرض عنه حتى لا ينغص ملذاتنا، وبعض الناس لا يكتفون بهذا بل يقفون ضد الحق ويجادلون بالباطل، إما جهلاً أو نفاقا أو تبريراً، مخادعين لأنفسهم وغيرهم، معطلين تحكيم النقل والعقل، حتى انقلبت كثير من المفاهيم لدى الناس، فمشاهدة ما هبّ ودبّ من المحرمات في القنوات الفضائية وغيرها يسمونه انفتاحا ويسمّون الربا فوائد، والرشوة هدية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة وشدة وتضييقاً، وغير ذلك من المفاهيم المخادعة التي تقف ضد الحق وتشوّههه، فأين ذلك من قصة الباحث عن الحقيقة المضحي لأجلها سلمان الفارسي الذي إذا تحدثنا عنه فإننا نسقط أصنام الفلسفة اليونانية التي يُجلها البعض، كما نسقط الفلسفة الحديثة الذين أسّسوا الدنيا بمعزل عن الدين، وخلاصاً للأجساد دون نجاة للأرواح وفرّوا من الشرك إلى الكفر.
تلكم قصة سلمان الفارسي فهل نعتبر بها وبمثيلاتها من القصص والعبر التي ملأت كتب السير والتراجم نسأل الله أن يديم علينا نعمة الإسلام وأن يزيدنا من فضله ورحمته إيمانا به وطاعة له.
نسأل الله جلّت قدرته أن يجعلنا ممن يرون الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرون الباطل باطلاً ويجتنبونه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1060)
قوة وعزيمة
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القوة قوة الإيمان والقلب. 2- التردد سمة من سمات الضعف والخور وضعف اليقين.
3- الأمر بجدية التعامل مع دين الله وشريعته. 4- ذم تقليد الناس ومسايرتهم في باطلهم.
5- صور لقوة الإيمان. 6- أثر قوة الإيمان في غرس هيبة الأمة في صدور أعدائها.
7- التمني واستعادة الأحزان والتحسر من مظاهر الضعف وقد استعاذ منها رسول الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها الأخوة المؤمنون: أخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
العقيدة المكينة معين لا يتضب للنشاط الموصول، والحماسة المذخورة، واحتمال الصعاب، ومواجهة الأخطار، بل هي سائق حثيث يدفع إلى لقاء الصعاب والأهوال دونما تهيب، وتلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يضفي على صاحبه قوة تنطبع في سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقاً من قوله، وإذا اشتغل كان راسخاً في عمله، وإذا اتجه كان واضحاً في هدفه.
وما دام مطمئنا إلى الفكرة التي تملأ عقله، وإلى العاطفة التي تعمر قلبه، فقلّما يعرف التردد سبيلاً إلى نفسه، وقلّما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، لسان حاله قوله تعالى: اعملوا على ما مكانتكم إني عامل فسوق تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه وتحل عليه عذاب مقيم.
حديثنا إخوتي عن المؤمن القوي الذي يسير في الحياة كرجل ذي مبدأ متميز، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدتهم مخطئين نأى بنفسه.
أخي المؤمن: إن صدق العقيدة وصحتها يضفي على صاحبها قوة تظهر في أعماله كلها، فإذا تكلم كان واثقا، وإذا عمل كان ثابتاً، وإذا جادل كان واضحا، وإذا فكّر كان مطمئناً، لا يعرف التردد ولا تميله الرياح، يأخذ تعاليم دينه بقوة لا وهن معها خذوا ما آتيناكم بقوة ويقول جل وعلا: يا يحي خذ الكتاب بقوة المؤمن يأخذ أمره بعزيمة لا رخاوة معها، لا قبول لأنصاف الحلول، ولا هزال ولا استهزاء.
هذا هو عهد الله مع أنبيائه والمؤمنين، جد وحق، وصراحة وصرامة.
أما الرجل الضعيف فهو الذي يستعبده العرف الغالب، وتتحكم في أعماله التقاليد السائدة، ولو كانت خطأ يجر"ّ معه متاعب الدنيا والآخرة.
إن المؤمن الحق مستنير الدرب يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إذا رآهم على الحق أعانهم، وإن رآهم على الخطأ جانبهم، متمثلاً قوله : ((لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا)) [رواه الترمذي].
المؤمن القوي يثق بما يوقن به، ويستخف بما يلقاه من سخرية واستنكار عندما يشذ عن عرف الجهّال، ويخطّ لنفسه نهجا يلتمس به مثوبة الله عز وجل، ولئن كان الإيمان بالأوهام يغري البعض بأن يسخر ويتهكم فإن الإيمان بالإسلام الحق يجب أن يجعل أصحابه أقوياء راسخين.
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاًً.
المؤمن القوي يجب أن يكون وثيق العزم، مجتمع النية، على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقرّبه منه، باذلاً قصارى جهده في بلوغ مأربه.
والإسلام يكره للمسلم أن يكون متردداً في أموره يحار في اختيار أصوبها وأسلمها، ويكثر الهواجس في رأسه فتخلق أمامه جواً من الريبة والتوجّس، فلا يدري كيف يفعل أو يتصرف إن هذا الضعف والاضطراب لا يليق بالمؤمن القوي.
الإيمان القوي هو القوة في الحق، والقوة في المصارحة فيه، وذلك حين يبتعد المؤمن القوي عن المداهن والمجاملة المذمومة، فتراه يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ واضحة، لا يصانع على حساب الحق، ومن يحيا بالحق لا يتاجر بالأباطيل، المؤمن القوي غني عن التستر بستار الدخل والاستغلال، سيرته مبنية عل ركائز ثابتة من القوة والفضيلة والكمال.
ومن أجل هذا، فإن الصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبثق من هذا السمو النفسي والقوة الإيمانية، وقوة الاستمساك بالحق والرضا به ولو كره الكارهون، ولا تكون قوة بصدق، خالصة بحق إلا حين تبتعد عن مشاعر الشماتة، وحب الأذى، وقصد التشهير ومن الاستعجال والانتقام.
ومن قوة الإيمان القوة في ضبط النفس والتحكم في الإرادة التي تنشأ من كمال السجايا وحميد الخصال، كإباء الضيم، وعزة النفس والتعفف، وعلوّا الهمة، وإنك لترى فقيراً قليل ذات اليد ولكنه ذو إرادة قوية، ونفس عازمة، شريف الطبع، نزيه المسلك، بعيد عن الطمع والتذلل.
إن القوة في ضبط النفس آخذة بصاحبها بالسير في مسالك الطهر ودروب النزاهة، والاستقامة على الجادة، أما الرجل الخرب الذمة، ومن سقطت مروءته فلا قوة له ولو لبس جلود السباع ومشى في ركاب الأقوياء، وقد قال هود عليه السلام لقومه آمراً إياهم بالاستغفار، والبعد عن مزالق الخاطئين: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
عباد الله: إن قوة الإيمان هي التي تحفظ الإسلام وأهل الإسلام، فلا يُصَدون عن دين الله ولا يفتنون، قوة ترهب أعداء الله، فعلى ديار الإسلام لا يعتدون، قوة ترهب أعداء الله فلا يقفون في وجه دعوة الإسلام وأوليائها، وهي قوة كذلك من أجل الاستنصار للمستضعفين وللمغلوبين على أمرهم، ليظهر أمر الله ويحق الحق ويبطل الباطل: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم.
أيها الأخوة المؤمنون: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، والتوكل الذي يقوى الإنسان به ضربٌ من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عوناً ولا أملاً إلا توكله على الله الذي يأوي به إلى ركن شديد، ويستمدّ هذا التوكل ثباتاً ورباطاً على منهجه ومبدئه، وفي جميع مجالات القوة يكون الخير والمحبة الإلهية: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)).
وحين قال عليه الصلاة والسلام: ((استعن بالله ولا تعجز)) ، فهو يمثّل صورة أخرى من صور قوة الإيمان إنها قوة العزم والأخذ بالأسباب على وجهها، يستجمع المؤمن في ذلك كل ما يستطيع في سبيل تحقيق غاياته، غير مستسلم للحظوظ.
إن المرء مكلّف بتعبئة قواه وطاقاته، لمغالبة مشكلاته إلى أن تنزاح عن طريقه فإذا استطاع تذليلها فذلك هو المراد، ثم بعد ذلك يكل أمره إلى ربه ومولاه، أما التردد والاستسلام للهواجس والوساوس، وتغليب جوانب الريب والتوجّس فهذا مجانب للقوة، وصدق العزيمة.
فالقوة في الجزم، والحزم والأخذ بكل العزم، ولهذا كان من أعظم المصائب الهدامة العجز والكسل، والجبن، والبخل، فهي صور من صور الضعف والخور، وقد استعاذ منها جميعها نبيّكم محمد في دعاء رفعة إلى مولاه، قائلا: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين قهر، وقهر الرجال)) [متفق عليه].
إنها كلّها أمراض تصب في مصاب الضعف، والانهزام النفس والعملي.
إن الصبر والرجاء هما عدة اليوم والغد، يتحمّل المرء في ظلهما المصائب الفادحة فلا يذل، بل يظل محصنا من نواحيه كلها، عالياً على الأحداث والفتن، لأنه مؤمن، فالمؤمن لا يضرع إلا لله.
إن استعادة الأحزان، والتحسر على فات، والتعلّق بالماضي وتكرار التمني بـ "ليت" والتحسّر في الزفرات بـ"لو" فليس من خلق المؤمن القوي، فإن لو تفتح عمل الشيطان، وما عمله إلا الهواجس والوساوس، فهو الوسواس الخنّاس، فلا التفات إلى الماضي إلا بقدر ما ينفع الحاضر ويفيد المستقبل، فاتقوا الله – رحمكم الله – واستمسكوا بعرى دينكم وخذوا أمركم ودينكم بقوة حكمة، وسيروا في درب الحق بعزيمة متوكلين على ربكم، معتصمين بحبله، تكونوا من الراشدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين.
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اتقوا الله وتوبوا إليه.
أيها الأخوة المؤمنون: ومما يرسُم لنا حديث نبينا صلوات الله وسلامه عليه من جوانب القوة إلى جانب قوة الأخذ بالأسباب وشد العزائم، قوة اليقين المتمثلة في عقيدة المسلم أمام الأحداث والمتغيرات ((وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا)).
إنها ثقة بالله واعتماد عليه حين تتوالى الظروف المحرجة، وتنعقد الأجواء المدلهمة، ويلتفت المرء يمنة ويسرة فلا يرى عوناً ولا أملاً ولا ملجأً ولا ملاذا إلا إلى الله، وبالله، وعلى الله، ذلكم هو مسلك النبيين والمرسلين والصالحين من بعدهم: ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون.
إن جماع ذلك إخوتي أن القوة هي عزيمة النفس، وإقدامها على الحق في أمور الدنيا والآخرة، إنها إقدام على العدو في الجهاد، وشد عزم في الأمر بالعروف والنهي عن المنكر، وصبر على الأذى في الدعوة إلى الله، واحتمال المشاق في ذات الله، واصطبار على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وسائر المفروضات، ونشاط، ودأب في طلب الخيرات والمحافظة عليها.
فاتقوا الله رحمكم الله وخذوا بعزائم الأمور، واعتصموا بحبل الله وتوكلوا عليه، وصلوا وسلموا...
(1/1061)
استخلاف المؤمنين في الأرض
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
إسماعيل الخطيب
تطوان
29/3/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله للمؤمنين بالتمكين والنصر. 2- شرط الله عليهم الإيمان والعمل الصالح.
3- نماذج لتحقيق هذا الوعد للمؤمنين. 4- الدعوة لنصر الله ودينه في أرض فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً [النور:55].
عباد الله: يقرأ المؤمن هذا الوعد من الله تعالى لعباده المؤمنين بأن يمكّن لهم في الأرض فيكونوا سادتها، أقوياء فيها، يعيشون في أمن وسلام، كما يقرأ في كتاب الله قوله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين [الروم:47]. وقوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمين [المنافقون:8]. ويتساءل: أين هو التمكين في الأرض للمؤمنين اليوم؟ إن المسلمين اليوم لا سيادة لهم، ولا قوة لهم، ولا عزة لهم، بل وصلوا إلى ذلة ما بعدها ذلة، وأية ذلة أعظم من أن يستولي اليهود على الأرض المباردكة، أرض فلسطين موطن الأنبياء والرسل، ومعراج النبي ومسراه، حيث المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين.
إن المؤمن بالله وبكتابه وبرسوله لابد أن يتألم غاية الألم لواقع المسلمين هذا، لكنه في الوقت نفسه يعلم أن وعد الله حق، وأن وعد الله واقع.
فالله تعالى وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فما حقيقة الإيمان التي بها يتحقق وعد الله؟
إن الإيمان بالله يقتضي طاعة الله، والاستسلام لأمره في كل شيء، فوعد الله بالنصر والتمكين إنما هو لمن عمل بأمر الله وطبق شرع الله، إنه بذلك يكون جديراً بالاستخلاف الذي هو التصرف في الأرض بالإصلاح والعدل لتحقيق الطمأنينة والأمن.
والله تعالى حقق هذا الوعد للمسلمين، حققه لهم عندما نصرهم على المشركين في عهد رسول الله على الصلاة والسلام. حققه لهم في عهد الخلفاء الراشدين، حققه لهم عندما فتحوا البلاد شرقاً وغرباً، حققه لهم عندما منً عليهم باسترداد فلسطين، وتحرير القدس من حكم الصليبين، بقيادة صلاح الدين.
فإذا كان المسلمون اليوم قد وصلوا إلى هذه الحالة المزرية، فليحاسبوا أنفسهم، وليتدبروا قول ربهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم [محمد:7].
وكيف ينصر المؤمنين الله؟ ينصرونه في نفوسهم باخلاص العبودية، بانتفاء أي نوع من الشرك، فلا يتوج المؤمن بالدعاء ولا بالتذلل ولا بالرغبة إلا إلى الله تعالى. وينصرونه في واقع الحياة بتطبيق شريعته وإقامة المنهج الذي وضعه للحياة. فإن نَصَرَ المؤمنون الله بنصرهم لدين الله أعزهم ونصرهم على عدوهم.
عباد الله: جُرح فلسطين أعظم جرح، وكارثتها أعظم الكوارث، أرض فلسطين ليست ملكاً للفلسطينيين وحدهم بل هي للمسلمين جميعاً، هي أمانة في أعناقهم، فهي ميراث نبيهم، وإذا كان يهود قد تسلطوا عليها وطردوا أهلها، وسفكوا الدماء بها ولا زالوا منذ خمسين سنة يرتكبون فيها المظالم والتصرفات الوحشية تحت حماية الدولة الأمريكية. فما كان للمسلمين أن يعترفوا باغتصاب عدو فاجر خبيث، ولا أن ينساقوا تحت أي ضغط لما يسمى بعملية السلام وهي في الواقع عملية استسلام، لقد كان على المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يصلحوا أحوالهم، كما فعل أجدادهم عندما واجهوا الاحتلال الصليبي لفلسطين مدة تزيد عن تسعين سنة، ومع ذلك لم يستسلموا بل نصروا الله بتحكيم شرعه، فنصرهم الله القائل: وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم [الأنفال:10].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1062)
اليوم أكملت لكم دينكم
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, الترفيه والرياضة
إسماعيل الخطيب
تطوان
2/3/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشريعة يسر لاغتنامها. 2-منزلة تلاوة القرآن في الآخرة. 3- الحث على تنظيم الوقت
واستغلاله بطلب العلم والذكر. 4- يجوز للإنسان أن يروح عن نفسه بأنواع من اللهو البريء.
5- شروط جواز اللهو.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فعندما نزل قوله تعلى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً [المائدة:5]. كان دين الله وهو الإسلام قد اكتمل نزوله ببيان عقائده وأحكامه وآدابه، فكل ما يحتاج إليه الناس من أمور نياهم وأخراهم بينه الله لهم في كتابه وفي سنة خاتم رسله، وبذلك بين الله للناس نظام الحياة الذي يقوم على أساس تحكيم شريعة الله في أوضاع الحياة كلها.
والملاحظة التي ينبغي تأملها في هذا الدين هي أن الإسلام دين واقعي، لذلك فهو لم يطلب من الناس شيئا فوق طاقتهم، قال تعالى: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها [البقرة]. فهو تعالى لا يلزم الناس إلا بما يقدرون عليه من غير حرج ولا عسر، فليس في أداء الصلاة والزكاة، ولا في الصوم والحج، ولا في الذكر والدعاء وتلاوة الكتاب، ولا في التفقه في الدين، ما يجلب المشقة، خاصة إذا نظم المسلم وقته فجعل لكل عمل وقتاً معيناً، فللصلاة وقتها المعلوم: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً [النساء:103]. ولتلاوة القرآن وقت محدود، فقد أمر الله عباده بتلاوة كتابه، وبين النبي أن التالي لكتاب الله إذا دخل الجنة قيل له: ((اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها)) [1] ، كما ينبغي أن يخصص وقتاً للذكر والدعاء بالكلمات الواردة عن رسول الله ، فذكر الله من أعظم القرب، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر الله مثل الحي والميت )) [2] ، وكل الأعمال الصالحة لابد في معرفتها من العلم لذلك كان على المسلم أن يخصص وقتاً لمدارسة العلم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) [3] وقد فرض الله تعالى على كل مسلم أن يأتي لصلاة الجمعة ليتزود بالعلم النافع.
فإذا أدى المسلم حق الله عليه، كان له أن يروح عن نفسه بما يباح لتنال القلوب حقها من الراحة، وقد شرع النبي لأمته ألواناً من اللهو النافع كالمسابقة على الأقدام، والمصارعة، والرماية التي قال عنها: (( عليكم بالرمي فإنه من خير لهوكم )) [4].
وكألعاب الفروسية رياضة وتدريب، قال عمر: ((علموا أولادكم السباحة والرماية، ومروهم فليثبوا على ظهور الخيل وثباً)) والصيد في البر والبحر متعة ورياضة، وقد بين الله في كتابه وفي سنة نبيه أحكام الصيد ليسير المسلم في أموره كلها على هدى وبصيرة، وليعلم الناس أن الإسلام لا يعرف شيئا اسمه التشدد أو التزمت، فالإسلام دين سماحة ويسر ونبينا عليه الصلاة والسلام كان في خلوته يصلي ويطيل الخشوع والبكاء والذكر والدعاء، فإذا خالط الناس أرشدهم ووجههم، وداعبهم، وتبسم في وجوههم، وما زحهم، ولم يقل إلا حقاً.
عباد الله: هناك ألوان من اللهو حرمها الإسلام وبين ضرررها ومفاسدها، فكل لعب فيه قمار فهو حرام، وقد شدد الإسلام في أمر القمار، فقرنه الله تعالى بالخمر والأنصاب والأزلام، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( من قال لصاحبه: تعال أقامرك. فليتصدق)) ، فمجرد الدعوة إلى المقامرة ذنب يوجب الكفارة. وهناك شروط ثلاثة ينبغي مراعاتها عند القيام بكل عمل ترفيهي هي:
أولاً: أن لا يتسبب في تأخير الصلاة عن وقتها.
ثانياً: أن لا يخالطه قمار.
ثالثاً: أن لا يكون داعياً إلى الفحش وردئ الكلام.
وهذا الأمر ملاحظ لدى لاعبي الورق (الكرطة) والضامة وغيرها، فمجلسهم لا يسلم من الفحش والسب ورفع الأصوات مما لا يتناسب مع المروءة، ويتسبب في العداوة والبغضاء، ولقد كان من أسباب تحريم الخمر والميسر أنهما يتسببان في العداوة والبغضاء قال تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنت منتهون [المائدة:91].
والملاحظ أن المداومين على هذه الألعاب التافهة (كالكرطة) والضامنة يتساهلون كثيراً في ذكر الله وتلاوة كتابه، فالقلب إذا انشغل بالتوافه صعبت عليه جلائل الأعمال.
[1] رواه الترمذي بسند صحيح.
[2] رواه البخاري.
[3] رواه البخاري.
[4] رواه البزار والطبراني باسناد جيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1063)
العفة والحرام
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
26/5/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقل عطية الله للإنسان. 2- الرابطة الزوجية نعمة من نعم الله. 3- تهذيب الإسلام للدافع
الجنسي. 4- واقع بعض المسلمين البعيد عن العفة. 5- حكم الإجهاض لحمل الزنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه في كتابه الحكيم: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً [الإسراء:70].
عباد الله: كرّم الله الإنسان بأن أحسن إليه وأنعم عليه، كرمه عندما خلقه، وأمر الملائكة أن تسجد له، كرّمه بأن وهب له العقل الذي استطاع به أن ينتج وينشئ ويعمر هذه الأرض. كرّمه بأن وفقه لاختراع مختلف وسائل النقل في البر والبحر والجو، كرّمه بأن رزقه من الطيبات التي لا عدّ لها: الشمس والهواء والماء، والصحة والحركة والحواس، والمشاهد الجميلة البديعة من جبال ووديان وأنهار وبحار، ثم هذه المطاعم والمشارب، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم:74].
والإنسان إنما يكون إنساناً، إذا هو تفكر في هذا التكريم، واستخدم نعم الله في طاعة الله، وسار في حياته على المنهج والطريق الذي بيّنه وأوضح معالمه رُسُل الله عليهم صلوات الله وسلامه عليهم، وإن من أجلِّ نعم الله على عباده هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى بين الذكر والأنثى، قال تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [الروم:21]. ووضع سبحانه من التشريعات ما يضمن حقوق الرجل والمرأة، فلا يكون الاتصال بينهما إلا بعقد صحيح، وزواج شرعي، ولذلك فدين الله تعالى لا يقر بحمل المرأة إلا من زوجها، والقرآن الحكيم من الوقت الذي شدد فيه على أمر الزنا فقال سبحانه وتعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً [الإسراء:32]. دعا إلى العفة في مجال الممارسة الجنسية، فقال تعالى: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله [النور:33]. والعفة هي الكف عما لا يحمل ولا يجْمُل، فالآية تطلب من الرجل والمرأة إذا لم يجدا سبيلاً إلى الزواج أن يمتنعا عن الزنا، ذلك أن الزنا فاحشة يتعدى أثرها إلى المجتمع كله، ولقد كان النبي يسأل الله في دعائه قائلا: ((اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)) [1] ، ويقول: ((اللهم إني أسألك العفة والعافية في دنياي وديني وأهلي ومالي)).
إذا علم هذا فما هو واقع العفة في مجتمعنا؟
إن الواقع يثبت أن هذا المجتمع ابتعد اتبعاداً كبيراً عن شرع الله، وأن العفة أصبحت عند طائفة من الناس من الأمور القديمة البالية، فالفتاة كالشاب لها مطلق الحرية في مصاحبة من تشاء من الذكور، وفي الذهاب للمراقص والسهرات، وتكون النتيجة – وفي كثير من الأحيان هي الحمل – ثم بعد ذلك العمل على التخلص من ذلك الحمل، ولا شك أن هذه الفتاة التي نشأت وترعرعت بطريقة عفوية، فلا الأب وجهها، ولا الأم أرشدتها، هذه الفتاة ستمر بأحرج مراحل حياتها، فالذي زنا بها تركها مع آلامها، وراح يبحث عن غيرها، ومجتمعها صار ينظر إليها بعين الاحتقار، بينما أهلها يبحثون عن وسيلة للتخلص من هذا الحمل الحرام، إن الأنثى في الواقع هي الضحية الأولى، فالذكر تُنسى جريمته ويستطيع بكل سهولة أن يتزوج متى شاء، وتبقى الأنثى مع همومها المدمرة لحياتها وصدق الله العظيم: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى:30].
عباد الله: بقي لنا أن نعلم حكم الشرع في إسقاط حمل السفاح.
إن الواقع يثبت أن جل اللواتي يحملن من سفاح يعمدن إلى إسقاطه، وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من مليوني امرأة يمتن سنوياً بسبب الاجهاض، كما أن الملايين من النساء يصبن بعاهات وأمراض منها العقم الدائم. ولقد بين علماؤنا أن الزانية التي تسقط جنينها تجمع بين السوأتين: الزنا والقتل، وأن إسقاط الجنين هو من الوأد، قال تعالى: وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت وقد جاءت امرأة – تعرف بالغامدية – إلى رسول الله وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله: أصبت حداً فأقمه علي، فأجّل رجمها حتى فطمت وليدها وأتت به النبي وفي يده كسرة خبز، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر الناس برجمها.
فليس في الإسلام رخصة للزانيات بأن يسقطن حملهن ليعدن بعد ذلك إلى ممارسة الفاحشة، بل إن الإسلام الذي كرم الإنسان يحميه وهو جنين كما يحميه في مراحل تكوينه، ولا ذنب له أن جاء عن طريق الزنا فربنا يقول: ولا تزر وازرة وزر أخرى.
[1] رواه مسلم وغيره.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1064)
حماية العقل من المسكرات والمخدرات
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
23/11/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشريعة جاءت لحفظ الضروريات الخمس. 2- من فوائد العقل. 3- أضرار الخمر
وزراعة المخدرات. 4- تحريم زراعة المخدرات والاستعاضة عنها بالأعشاب المفيدة والثمار
الطيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: بعث الله الرسل ليبلغوا للناس دين الله وشريعته، وجاءت التشريعات كلها لحفظ وتحقيق مصالح الناس، وإن أصول مصالح الناس هي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل.
فالعقل هو واحد من الضروريات الخمسة التي يجب المحافظة عليها. فإذا ضاع العقل ضاع الدين، وضاع النسل والمال، وضاعت النفس وضاع كل شيء.
فالعقل هو الذي يُدرك ما في التشريع من الحق والعدل ومصالح العباد، وآيات الله في هذا الكون إنما يعقلها ويفهمها أهل العقول السليمة إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. والعقل قد يضعف فلا يقوم بمهمته، وذلك لأسباب منها ما هو فطري كما هو حال أهل البله والعته وهؤلاء لا تكليف عليهم ولا لوم، ومنها ما يكون بسبب يتسبب فيه الإنسان، وفي مقدمة ذلك تناوله للمسكرات والمخدرات.
فلقد ثبت للعقلاء أن الخمر بجميع أنواعها تتسبب في مفاسد لا عد لها ولا حصر. كما أثبت العلماء أن تأثير المخدرات على العقل كبير وخطير، قال الطبيب الأندلسي (ابن البيطار) عن الحشيش: أنه يسكر جداً، وقد استعمله قوم فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون.
ولقد ابتليت مناطق ببلادنا بزراعة المخدرات، وزراعة المخدرات إفساد في الأرض بعد إصلاحها، قال ربنا عز وجل: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:56].
فالأرض كلها صالحة للإنتاج الصالح النافع، ودعوى أن منطقة (كتامة) لا يمكن أن تنتج إلا (الكيف) دعوى باطلة يردها القرآن والواقع، فها هي الدراسات الميدانية تثبت أن جبال الريف والمناطق المجاورة لها تنتج أكثر من ستمائة نبتة قابلة للاستغلال في الصناعات الصيدلية والتجميلية والعطرية، ولقد قامت وحدة متخصصة بكلية الطب والصيدلة بالرباط بدراسات ميدانية أثبتت أن جبال الريف خلقها الله تعالى لتكون مصدراً للدواء بما تنتجه من نباتات صالحة، لكن فكر البشر المنحرف أبى إلا أن يجعلها مصدراً للداء بإنتاج الكيف، هذا الإنتاج الذي يصل إلى 32 ألف طن سنوياً ويزرع في مساحة تصل إلى 70 ألف هكتار. بينما الأرباح المالية يجنيها الوسطاء المحليون والدوليون أما المنتجون فحصتهم أقل من 1/65 من القيمة الإجمالية.
إننا لنسأل الله تعالى أن يوفق أهل كنامة وما حولها من مناطق تزرع فيها هذه العشبة الخبيثة (الكيف) إلى أن يبْرعوا في إنتاج نباتات الأدوية والعطور عسى الله تعالى أن يكفر عنهم سيئاتهم ويغفر لهم ما ارتكبوه من الإثم بإنتاجهم للمخدرات المهلكات التي تسببت في فساد كبير.
عباد الله: إن الأرض لا تكون صالحة إلا بزراعة ما أحل الله.
أما إذا زرعت بما حرم الله فذاك إفساد فيها، ومن ذلك زراعتها بالعنب الذي ينتج منه الخمر، ولقد ثبت للعقلاء أن الخمر بجميع أنواعها خطر على العقول وعلى الصحة وعلى الأسرة وعلى المجتمع.
فهي رجس من عمل الشيطان، وإذا كنا نستنكر زراعة (الكيف) وترويجه، فإننا أيضاً نستنكر إنتاج الخمر وبيعه، ذلك أن نظرة الشريعة للخمر والمخدرات واحدة فليس من المنطق أن نحارب الحشيش والكوكايين ولا نحارب الوسكي والبيرة.
وليس من المنطق والعقل أن نؤسس مكتباً لمحاربة المخدرات، بينما يوجد مكتب آخر لتنظيم وحماية وترويج الخمور، وليس من المنطق والعقل أن نتابع مروجي المخدرات ونترك بائعي الخمر يفسدون العقول ويخربون البيوت، فمروجوا الخمر كمروجي المخدرات مفسدون في الأرض محاربون لشرع الله يستحقون اللعن والعذاب إن لم يتوبوا إلى ربهم قبل فوات الأوان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1065)
حقوق المسلمين في المال العام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الزكاة والصدقة
إسماعيل الخطيب
تطوان
16/1/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الصغير والكبير إلى مساعدة الآخرين خلال فترة ضعفهما. 2- كفالة الإسلام للرضيع
3- المال العام حق لكل المسلمين بلا تفريق. 4- الدعوة لكفالة ورعاي المسنين. 5- رعاية
الإسلام للمحتاجين سبقت التكافل الموجود في الغرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا تعالى: الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير [الروم:54].
عباد الله: هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته، هي أطوار لا يفلت منها أحد ممن مدّ الله له في العمر، فالإنسان خلقه الله من ضعف، وتأمل، وتفكر، لم يقل الله تعالى خلقكم ضعافاً أو في حالة ضعف، إنما قال: خلقكم من ضعف أي أن مبناكم على الضعف، كأن الضعف هو المادة الأولى التي أوجد الله منها الإنسان، وها أنت ترى أن الإنسان يبدأ جنيناً في بطن أمه، ثم يصير طفلاً مولوداً ثم رضيعاً مفطوماً، وهو في كل هذه الحالات في غاية الضعف. ثم إن الله تعالى يمده بالقوة عندما يصل إلى سن الفتوة والشباب، ليعود بعد ذلك مرة أخرى إلى الضعف حيث يظهر النقصان عندما تأتي الشيخوخة ومعها الشيب الذي يعطي الشيخوخة منظرها وهيأتها.
والله تعالى رؤوف بعباده، فإذا كان الإنسان في فترة القوى قادراً على القيام بمصالحه فإنه في حالة الضعف الأولى والثانية عاجز عن تحقيق مصالحه إلا بمساعدة من الآخرين.
فهل باستطاعة المولود الرضيع أن يُؤمّن قوته؟ إنه عاجز عن ذلك كل العجز، لذلك أوجب الله نفقته على أبيه، قال تعالى: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف بل إن الإسلام نظر نظرة واسعة عندما فُرض لكل مولود في الإسلام ما يكفيه، ولقد كتب عمر إلى الآفاق أن يُفرض لكل مولود في الإسلام بمجرد ولادته بعد أن كان ذلك بعد فطامه.
فإذا مدّ الله في عمر الإنسان وجاءت حالة الضعف الثانية، كان بحاجة ماسة إلى المساعدة والإعانة حتى لا يبقى معزولاً ولا يتحمل الأعباء دون معين أو نصير، بل له أن يستفيد من ضمانات المجتمع والنظام التكافلي فيه، والأمر ليس إحساناً فردياً، بل هو نظام تقوم عليه دولة الإسلام، فالإسلام يعتبر أن المال ملك للأمة كلها، ولقد كان عمر يحلف على أيمان ثلاث يقول: (والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، ووالله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال نصيب). ولا شك أن الضعيف والعاجز والشيخ الكبير أحق به من غيره.
إذا علمنا هذا، فلنسأل أنفسنا: ما مدى العناية التي ينالها المسنون في مجتمعات المسلمين، في الوقت الذي نعلم فيه أن الغربيين بلغوا شوطاً كبيراً في هذا المضمار، حيث فرضوا لكل مسن، وهو من بلغ الستين سنة – راتباً ترتفع نسبته بارتفاع المعيشة، وهو حق للجميع دون استثناء.
إن الواقع يثبت أن الاهتمام إنما ينصب على من اصطلح على تسميتهم بـ(المتقاعدين) أي الذين كان لهم عمل في إدارة أو معمل أو ما شابه ذلك من الذين كانوا يدفعون من رواتبهم مبالغ لصندوق التقاعد، أما غيرهم – وهم الأكثرية- من أصحاب الأعمال الحرة، فلا يُهتم بهم
إذن فما مصير الحمّالين، ما مصير النساء اللواتي يبعن في الطرقات، ما مصير هؤلاء وغيرهم إذا بلغوا الستين وعجزوا عن اكتساب قوتهم وعلاج مرضهم وأداء كرائهم، هل يتركون للتسول في الطرقات، ونحن نعلم أن عمر بن الخطاب مر بطريق فوجد يهودياً يتسول، وقال له: أخذنا منك الجزية وأنت قوي، فلا نتركك وأنت ضعيف محتاج، ثم أمسك بيده وأخذه إلى بيت المال وفرضه له ما يكفيه.
هذا هو الإسلام، وهذا نظام الإسلام، والعجيب أننا أخذنا عن الغربيين قوانينهم المخالفة للإسلام، ولم نأخذ عنهم أنظمتهم التي تتفق مع الإسلام، ومنها أنظمة التكافل الاجتماعي. هذا التكافل الذي يجعل المسلمين وحدة متساندة، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً )) [1] ، ويقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)) [2].
وتلك هي الغاية: عندما يسعى الجميع إلى غاية واجدة هي تحقيق السعادة والأمن للمجتمع كله.
[1] رواه البخاري.
[2] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1066)
حقوق الإنسان بين الإسلام والأمم المتحدة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
إسماعيل الخطيب
تطوان
22/8/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاخر الغرب وحضارته بالاعلان عن ميثاق حقوق الإنسان. 2- أول حق على الإنسان حق
الله عليه وهو عبادته. 3- خطبة حجة الوداع تقرر حقوق الإنسان. 4- ضياع حقوق الإنسان
في ظل الحضارة الغربية. 5- حقوق الإنسان المسلم عند الغرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد روي عن معاذ بن جبل، قال: قال النبي : ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن لا يعذبهم)) [1].
عباد الله: الحديث عن الحق والحقوق أصبح في عصرنا يتكرر باستمرار، خاصة بعد أن صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل خمسين عاماً، ولقد ظن بعض الناس أن البشرية لم تعرف الحديث عن حقوقها إلا بعد ما سعت هيئة الأمم المتحدة إلى دراسة هذه الحقوق والإعلان عنها ودعوة الدول إلى الالتزام بها. وقد تناسى أولئك حقيقة بعثة الرسل، ولم يسألوا: لِمَ بعث الله الرسول من آدم ونوح إلى نبينا محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. إن هذا الحديث النبوي يبين لنا الحكمة من إرسال الرسل وهي أن يبينوا للناس حق كل ذي حق، ابتداء من حق الله على عباده، وحق الله على عباده، كما بينه الرسل هو أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاًً.
والعبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، فالصلاة والصيام وأداء الزكاة والحج، عبادة، وذكر الله بالقلب واللسان وتلاوة القرآن عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، والحكم بشرع الله عبادة، وكل عمل يُعين على طاعة الله عبادة، فالنوم إذا قُصد به التقوِّي على الصيام أو على قيام الليل يكون عبادة، واتصال الرجل بزوجته إذا قصد به التعفف عن الحرام يكون عبادة، وهكذا فكل عمل يرضاه الله ويحبه عبادة. والإنسان عبدٌ ولابد، فأما أن يكون عبداً لله، وإما أن يكون عبداً للطاغوت – وهو كل معبود من دون الله – قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والشرك هو جعل شيء من العبادة لغير الله تعالى، فحق الله على عباده أن يطيعوه في كل أمر، ففي طاعتهم له خير في الدنيا والآخرة، وقد وعد الله المؤمنين الصادقين العاملين للصالحات بالمغفرة والجنة، والله لا يُخلف الميعاد، فأصبح عدم تعذيبهم وإدخالهم الجنة حقاً لهم على الله. فالله تعالى لا يُضيع حق كل ذي حق، وقد بعث رُسله فبينوا الحقوق والواجبات، وها هو نبينا عليه الصلاة والسلام يقف في حجة الوداع ليُذكّر الناس بحقوقهم وواجباتهم فيقول: (( أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم)) إنه أول إعلان يعلنه رسول الله ، وهي وصية سيكررها في آخر خطبته تأكيداً لها وإبرازاً لخطورة الاعتداء على الأموال والدماء.
فيوم عرفة – على التحقيق – هو يوم الإعلان عن حقوق الإنسان فيه أعلن الرسول حق الإنسان في الحياة، وفي الملكية، وفصّل حقوق النساء، ووجباتهن، وبين حقوق وواجبات المحكومين والحكام، وأعلن أن من حق كل إنسان أن يعيش في أمن واستقرار، وأعلن أن الله تعالى خالق العباد رحمهم بأن أدى إليهم حقوقهم فهم في خير ما أدوا هذه الحقوق.
عباد الله: لقد عانت البشرية – وما زالت تعاني – من ضياع الحقوق، والدول التي وقعت أول مرة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م كانت هي الدول الاستعمارية التي استعبدت الإنسان وقهرت الشعوب، ومن مهازل التاريخ الحديث أنه في نفس العام الذي تم به الإعلان عن حقوق الإنسان قامت العصابات الصهيونية بطرد شعب من أرضه ووطنه لتؤسس دولة اعترف بها دعاة الحقوق الذين لا يعترفون في الواقع إلا بحقوقهم هم، فهل كانت فرنسا سنة 48 تعترف بحقوق شعوب المغرب العربي، وهل كانت بريطانيا تعترف بحقوق الشعوب التي كانت تستعمرها، وهل تعترف أمريكا اليوم بحق أطفال العراق في الحياة وهي تمنع عنهم الغذاء والدواء, بل هل تسمح شريعة أو قانون بحصار شعب ومنعه من حقوقه الأساسية؟ إن حقوق الإنسان عند الغربيين ما هي إلا شعارات جوفاء لذلك كان على علماء المسلمين أن يبينوا للناس حقوق الإنسان وواجباته كما بينها الإسلام وطبقها الرسول وخلفاؤه ليعلم الناس أنهم لن يصلوا إلى حقوقهم كاملة إلا بتطبيق شرع الله وإقامة دينه.
وصدق الله العظيم القائل: إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [الأنعام:57].
[1] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1067)
الترف والفسق طريق الدمار
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
إسماعيل الخطيب
تطوان
27/4/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هلاك الأمم بظهور المعاصي وعدم تغييرها. 2- المنكر بين فعل المترفين وتقليد الضعفاء.
3- نماذج من تبذير أغنياء المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراْ [الإسرء:1].
عباد الله: خلق الله العباد لعبادته وطاعته وأسبغ عليهم النعم، ليشكروه عليها، وأرسل إليهم الرسل، وطلب الله من عباده إيثار الطاعة على المعصية، وأخبرهم أنه لا يُهلك أمة بعذاب إلا بعد الرسالة إليهم والإنذار، قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً. وهلاك الجميع إنما يكون إذا ظهرت المعاصي ولم تغير، في صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث )).
والخبث كل فعل قبيح نهى الدين عنه، والآية تبين أنه إذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها فعلت ما تستحق به الهلاك، وظهر فيها أهل الترف وكثروا، والترف هو الترفه والتوسع في النعمة هذا التوسع الذي يلهى صاحبه عن الآخرة والاستعداد لها، قال تعالى: واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين فالذين عصوا وفسقوا اشتغلوا بالمال والملذات، وآثروا ذلك على الآخرة، مع العلم أن الله أمرهم كما أمر الناس جميعاً بفعل الطاعات واجتناب المعاصي. إلى ذلك يشير قوله تعالى: أمرنا مترفيها أي أمرناهم بالأعمال الصالحة لكنهم خالفوا ذلك وأقدموا على الفسق، والفسق هو الخروج عن أحكام الشرع، والفاسق هو الذي أقر بالشرع ثم خالف جميع أحكامه أو بعضها.
والمترفون هم طبقة الكبراء النّاعمين الذين جمعوا المال في الغالب من حرام، وصاروا يتفننون في استجلاب وسائل الترفيه واللهو والعبث، لا يفرقون بين الحرام والحلال أو الطيب والخبيث كما لا يبالون بارتكاب الفواحش ونشرها بين الناس، وهكذا ترى الضعفاء يُقلدونهم في انحرافهم وفسقهم، فتشيع الفاحشة في الأمة، ويتحلل الناس من الدين وما يدعو إليه من قيم، فيصابون بالاسترخاء وفقدان الحيوية والقوة، كما هو واقع اليوم، فأغلب الناس لا همّ لهم إلا ملذات البطن والفرج، فالمشاريع الناجحة هي التي لها علاقة بالمأكل والمشارب، أو الملاهي من مراقص وخمارات ودور للبغاء، وها أنت ترى أن الفساد عمّ جميع الطبقات الاجتماعية.
فالعري والإباحية وانعدام الأخلاق والتعامل بالربا والرشوة، والسرقة والغش، وغير ذلك من الموبقات، منتشرة بين الأغنياء والفقراء، وأهل المدن وسكان البوادي على حد سواء، وبذلك أصبح الإسلام غريباً بين المنتسبين إليه، فإلى الله المشتكى، إنه سميع بصير.
عباد الله: يقول تعالى: وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً لقد مضت سنة الله، أنه كلما انتشرت الذنوب في أمة عاقبها كما عاقب السابقين، وها هو عقاب الله نازل والناس في غفلة، ها هم الأعداء يتحكمون في بلاد المسلمين. ها هم المسلمون يقتل بعضهم بعضاً بعد أن اختلفوا وتفرقوا، وها أنت ترى أن بلاد المسلمين هي أغنى البلاد، ومع ذلك فإن شعوبها فقيرة مريضة، والملايين منهم يهجرون أرضهم بحثاً عن الرزق بينما تجد المترفين المفسدين يبذرون الأموال على شهواتهم وملذاتهم، ولقد جاء في إحصاء أخير أنه في أسبوع واحد أنفق العرب في لندن ما يساوي ميزانية دولة، كما أن الأغنياء المترفين من دول الخليج انفقوا خلال سنة في أوربا ما يساوي خمسة مليارات دولار. على ماذا؟ على الزنا والخمور والقمار، ومختلف الجرائم، ولا نذهب بعيداً، فمن أغنياء بلدنا – وما أكثرهم – من يشتري بيتاً شاطئياً بنصف مليار ونيفق عليه سنوياً الملايين بينما شباب هذا البلد يرمى بنفسه في أمواج البوغاز طلبا للقمة العيش، وصدق ربنا: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين فمفاسد التبذير لا حد لها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1068)
صلاة الجمعة – آدابها وفضائلها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الخطيب
تطوان
21/1/14120
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص يوم الجمعة. 2- سنن يوم الجمعة. 3- سنن صلاة الجمعة. 4- محظورات
تتعلق بصلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
عباد الله: هذا اليوم يوم الجمعة، هو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان، ولقد جعل الله تعالى لأهل كل ملة يوماً يتفرغون فيه للعبادة ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا، فيوم الجمعة يوم عبادة يختص عن غيره من الأيام بأنواع من العبادات منها استحباب الإكثار من الصلاة على رسول الله وذلك لأن يوم الجمعة سيد الأيام ونبيناً سيد الأنام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره. ومنها صلاة الجمعة التي هي آكد فروض الإسلام، من تهاون بها طبع الله على قلبه، ومنها الأمر بالإغتسال واستعمال الطيب، ومنها لبس أحسن ما عند المصلى من ثياب، قال نبينا عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر في يوم الجمعة: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) ، ومنها تبخير المساجد بالطيب عند انتصاف النهار، ومنها عدم جواز السفر بعد الزوال حتى تصلى الجمعة.
وإن المؤمن بالتزامه وعمله لما أمره الله تعالى في هذا اليوم ينال من ربه الثواب العظيم والأجر الجزيل، فقد جاء عن النبي أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها، وفي صحيح البخاري عن سلمان قال: قال رسول الله : ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدّهن من دهنه أو يمسُ من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلى ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام: إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)).
ولما كان يوم الجمعة يوم العبادة والطاعة فلا شك أن معاصي أهل الإيمان تكون فيه أقل من معاصيهم في غيره من الأيام، لذلك فإن جهنم لا تُسجر – أي لا تحمى – في هذا اليوم بينما هي توقد في كل يوم، وفي هذا اليوم ساعة الإجابة ففي الصحيحين قال : ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلى يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه)).
وجاء في صحيح مسلم أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة، وقد قال : ((من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى ]يصلى)).
ولما كان يوم الجمعة يوم عيد فقد فهينا عن إفراده بالصوم فقال : ((لا يصومنّ أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده)) [1]. وقد وقع الترغيب في التبكير إلي المساجد في هذا اليوم، ففي الصحيحين أن النبي قال: ((من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنةً (أي ناقة تخر بمكة) ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً)) وذلك لأنه لما كان يوم الجمعة يوم عبد، والعيد يشتمل على صلاة ونحر للأضحية جعل الله التعجيل إلى المسجد بدلاً من الأضحية وقائماً مقامها.
عباد الله: يوم الجمعة من أفضل الأيام واجتماعها من أفضل الاجتماعات، ومناسبتها من أفضل المناسبات، وليس هناك اجتماع يجتمع فيه أهل الإيمان بعد اجتماع عرفات أعظم من هذا الاجتماع، فلا نشك في أنه يضم طائفة من أولياء الله الصادقين ومن التائبين المخلصين، فتعظيمه واجب على كل مسلم، وهو يوم يشهد على كل واحد ماذا عمل فيه قال تعالى: وشاهد ومشهود الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، وهو يوم تحف فيه الملائكة بأبواب المساجد فيكتبون الأول فالأول، حتى يخرج الإمام فإذا خرج طووا صُحفهم.
والصدقة في هذا اليوم أفضل من الصدقة في سائر الأيام، والمؤمن المداوم على صلاة الجمعة لا شك أنه سيموت بين صلاتين: صلاة قضاها وصلاة ينتظرها، ولقد دعانا ربنا إلى الإكثار من ذكره في هذا اليوم قال عز وجل: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون لذلك كان على المؤمن أن يتفرغ في هذا اليوم لعبادة الله من اغتسال، وصلاة للنوافل، وتلاوة للقرآن وصدقة، وزيارة للمقابر، وذكر لله، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. خاصة في هذا الزمن الذي وقع فيه إهمال خطير ليوم الجمعة، فمن الناس من لا يحرص على صلاتها، ونبينا يقول: ((من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه)) ، ومنهم من يأتيها وهو مهمل لآدابها، فلا يعتني بنظافة ولا بلباس ومنهم من يرتكب فيها أخطاء فادحة كتخطي الرقاب والتشاغل عن سماع الخطبة وعدم الاهتمام بتسوية الصفوف، فاحرصوا رحمكم الله على التفقه في دينكم، واغتنموا هذه اللحظات المباركة، فاسألوا الله من فضله.
[1] رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1069)
دروس من الحروب الصليبية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
إسماعيل الخطيب
تطوان
22/12/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أراد الله من المسلمين أن يكونوا جسداً واحداً. 2- نصرة المسلم المظلوم واجبة. 3- دخول
الإسلام إلى البلقان. 4- الشيوعية تحاول طمس الإسلام. 5- الله غالب على أمره ولو كره
الكافرون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول نبينا عليه الصلاة والسلام: ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى)) [1].
عباد الله: هكذا يريد الله تعالى من المؤمنين أن يكونوا، يريدهم أن يكونوا كالجسد الواحد ويظهر ذلك في تراحمهم وتواددهم وتعاطفهم، أما التراحم فالمراد به أن يرحم بعضهم بعضاً بأخوة الإيمان، وأما التوادد فالمراد به التواصل الجالب للمحبة كالتزاور والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به إعانة بعضهم بعضاً، فتشبيه المؤمنين بالجسد الواحد فيه تعظيم حقوق المسلمين والحض على تعاونهم خاصة إذا تعرض بعضهم للظلم والقهر، فلقد فرض الله على المسلمين استنقاذ إخوانهم من أي ظلم أو اعتداء قال تعالى: وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر [الأنفال:72]. أي إذا دعاكم إخوانكم من أرض الحرب وطلبوا عونكم بنفير أو مال لإنقاذهم فأعينوهم فذلك عليكم فرض، كما هو الحال اليوم بالنسبة للمسلمين في كوسوفا والبلقان وفي مناطق أخرى من العالم، فها أنتم ترون والعالم كله يرى إلى أي مدى وصل الحقد الصليبي الصربي الأرثوذكسي، هذا الحقد الذي يريد أن يقضي على أي وجود إسلامي في أوربا. أوربا التي هالها وأزعجها أنه في الوقت الذي طُرد فيه المسلمون من الأندلس في غرب أوربا، بدأ الإسلام ينتشر في شرقها في منطقة البلقان، فانتشر الإسلام على يد الأتراك العثمانيين في مقدونيا وألبانيا وكوسوفو والسنجق والبوسنة والهرسك وأصبحت المآذن في كل هذه الأرجاء تردد صباح مساء نداء: الله أكبر. ومنذ عام 1912م والمخططات تعمل للقضاء على الإسلام في تلك الإنحاء، فالحكم الشيوعي حارب الإسلام حرباً لا هوادة فيها، حتى وصل الأمر في ألبانيا إلى منع الأسماء الإسلامية وفي مقدمتها اسم: محمد، ونشأت أجيال تحت الحكم الإلحادي الكافر القاضي بقهره وسفكه لدم كل من يظهر شيئاً من الإسلام، حتى ظن أعداء الإسلام أنهم قد قضوا تماماً على أي وجود إسلامي، لكنهم فجئوا، كما فوجئ الغرب – بنور الإسلام يشع في تلك الأرجاء بمجرد انحسار الحكم الشيوعي، فما إن سقطت الأنظمة الشيوعية حتى ارتفعت المآذن وامتلأت المساجد، وظهر الشباب الحافظ لكتاب الله، والمتقن للغة العربية، ويتقن أعدء الإسلام أن نور الله لا ينطفئ أبداً قال عز وجل: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [التوبة:32].
فالإسلام كتلك الحبة التي تبقى في باطن الأرض عشرات السنين فإذا نزل المطر نبتت من جديد، وهذا الأمر واقع في الدنيا كلها، فلقد عمل أعداء الإسلام للقضاء على دين الله بكل الوسائل: أباحوا المحرمات، حاربوا التعليم الإسلامي، همشوا لغة القرآن، ألغوا تطبيق الأحكام الشرعية، شجعوا كل أنواع الملاهي المفسدة للشباب، جعلوا من وسائل الإعلام – وفي مقدمتها التلفزة معاول لهدم الأخلاق، نشروا الصحف والكتب التي تشكك حتى في الإيمان بالله، ومع ذلك فهل تم القضاء على الإسلام؟! ذلك رأى الصرب ومن يساندهم من الصليبيين الأرثوذكس في اليونان وروسيا أن لا سبيل للقضاء على عشرة ملايين مسلم بلقاني إلا بقتلهم أو طردهم من ديارهم، ولذلك عمدوا إلى شن أشنع مجزرة بشرية عرفها التاريخ الحديث على مرأى ومسمع من العالم كله. كل هذا يقع بشعب مسلم مسالم، والمسلمون الذين يقدرون بأكثر من مليار كأنهم لم يسمعوا بما يجري لإخوانهم، بل وجدنا أن بعض الحكومات العربية تؤيد الصرب بينما الأخرى لم تفعل أي شيء لإشعار الصرب الحاقدين باستنكارها، وهكذا يهمل المنتسبون للإسلام فرض النصرة كما أهملوا الفروض الأخرى ليبقى دم المسلمين في البلقان يراق لأنهم وقفوا صامدين يدافعون عن المساجد وعن دور تحفيظ القرآن وعن مدارس تعليم اللغة العربية والفقه، فإلى الله المشتكى مما نحن فيه من تفرق وخذلان وضعف وهوان، ونسأله سبحانه أن يتداركنا بلطفه وعفوه، وأن ينتقم لأوليائه من أعدائهم الحاقدين بمنه وكرمه.
[1] البخاري : كتاب الادب 27.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1070)
الفقر ومتاعبه العاجلة والآجلة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, قضايا الأسرة
إسماعيل الخطيب
تطوان
25/6/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يوجد في القرآن ولا السنة مدح للفقر. 2- استعاذة النبي من الفقر ، وذكر بعض آثاره.
3- مشكلة التفاوت الاقتصادي الكبير في المجتمع وآثارها عليه. 4- شرائع أمر بها الإسلام
لمحاربة الفقر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن الفقر داء خطير حاربه الإسلام وعمل على القضاء عليه، ولا توجد في القرآن آية واحدة تمدح الفقر، ولا يوجد في السنة حديث واحد صحيح يمدح فيه رسول الله الفقر.
بل إن الإسلام يجعل الغنى نعمة من الله، ويجعل الفقر مصيبة تنزل بالإنسان، يستعاذ بالله منها.
هذا نوح عليه السلام يبشر قومه بثواب الله لهم في الدنيا إن هم آمنوا واستغفروا ربهم من ذنوبهم، فيقول: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً [نوح:10]. فالمال الصالح للعبد الصالح نعمة من الله وثواب، أما الفقر فقد استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام منه بقوله: ((اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر)) فقرنه بالكفر، لأن الفقر المدقع قد يكون سبباً في الشك في حكمة التنظيم الإلهي، وقد قال بعض العلماء: إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك. فالفقر خطر على الإيمان، ثم هو بالتالي خطر على الأخلاق، خطر على المجتمع كل، فهو السبب في زعزعة الأمن والإستقرار، روي عن أبي ذر أنه قال: عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
ومشكلة المشاكل هي أن يكون هناك تفاوت بين سكان البلد الواحد، فتجد من الناس من يعيش في ترف ونعيم يُبذر المال ويفسد في الأرض، وإلى جانبه فقراء لا يجدون قوت اليوم، ولا ثمن الدواء، إن هذا الفقر الناشيء عن سوء التوزيع يملأ قلوب الفقراء بنار الحقد والبغضاء، ويدفعهم إلى تقبل أفكار الهدم والفوضى.
لذلك اتخذ الإسلام الوسائل الكفيلة بالقضاء على الفقر، ويُثبت التأريخ أن المسلمين عندما طبقوا الإسلام انعدم الفقر في المجتمع المسلم.
إن الوسيلة الأولى لمحاربة الفقر هي العمل قال تعالى على لسان نبيه صالح: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها [هود:61]. أي جعلكم عمارها بالبناء والغرس ومختلف الأعمال، وقد ضمن الله تعالى الرزق لعباده قال سبحانه: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [هود:6]. وعلى الإنسان أن يحبث عن الرزق الذي كتبه الله له، قال تعالى: فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه فمن مشى أكل، ومن قعد وتكاسل حُرم. لذلك وجدنا أمة الإسلام أمة الحرف والصناعات تفخر أسرها بالانتساب إليها فيقال: الخراز والدباغ والحداد والنجار والخياط والصباغ، وهكذا لأنهم رأوا أن الحرفة والصغة عز لصاحبها وأمان من الفقر.
وقد حث الله عباده على الهجرة طلباً للرزق قال تعالى: وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله لذلك وجدنا الصحابة ومن بعدهم ينطلقون في الأرض لنشر الدين وطلب العلم والتماس الرزق.
والإسلام يوجب على الحاكم أن يفتح أبواب العمل وأن يساعد على الكسب الحلال، وهذا ما طبقه الرسول عليه الصلاة والسلام عندما جاءه رجل يطلب الإعانة، فقال له: هل في بيتك شيء قال: حلس وإناء ماء، فقال له: ائتني بهما، فباعهما النبي بدرهمين، فقال له: اشتر بأحدهما طعاماً وبالآخر فأساً واذهب فاحتطب وبع. فأرشد النبي بذلك إلى أمرين:
الأول: إن على ولي الأمر أن يهئ للناس فرص العمل.
الثاني: اجتناب المعونة المادية والوقتية التي قد تدفع الكسالى إلى ترك العمل، والاعتماد على عطايا الناس.
غير أن هناك من الفقراء من يعجز عن العمل إما لمرض أو شيخوخة، أو غير ذلك، هؤلاء أوجب الله تعالى معونتهم، فأوجب على ذوي القربى أن يكفل غنيهم فقيرهم، قال تعالى: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [الأنفال:57].
إن الزكاة هدفها الأول هو إغناء الفقراء – الذين لم يجدوا عملاً أو أن دخل عملهم لا يكفيهم أو أنهم من العاجزين عن العمل. وقد جعل الإسلام الزكاة حقاً من حقوق الله على عباده وحقاً من حقوق الإنسان على أخيه الإنسان.
فإن لم تحقق الزكاة الكفاية كان على الدولة أن تحقق الكفاية للفقراء من مختلف المداخيل، ذلك أنه من حق كل فرد في المجتمع المسلم أن يوفر له تمام الكفاية من مطالب الحياة، وآيات القرآن تنذر بالويل والعذاب لمن أهمل المسكين وحرم الفقير. قال تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين [الأحزاب:6].
وقال : ((أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1071)
المجاهدة بالقرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
إسماعيل الخطيب
تطوان
22/3/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بمجاهدة الشيطان والظالم من الإنسان. 2- من الجهاد بذل المستطاع في الدعوة
للإسلام. 3- الجهاد بالقرآن وعظمته لإدخال الناس في الإسلام. 4- ضرورة استخدام وسائل
الإعلام المختلفة في الدعوة للقرآن. 5- هجر المسلمين للقرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا سبحانه وتعالى : فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً [الفرقان:52].
عباد الله: الجهاد هو بذل كل الجهد والاستطاعة في مدافعة العدو، والأعداء أصناف، فالشيطان عدو للإنسان يدعوه للعصيان ومخالفة أمر الرحمن: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً [فاطر:6]. فوجب على المسلم أن يبذل قصارى جهده في مجاهدة الشيطان، وذلك بالاستمساك بالقرآن واجتناب العصيان، والنفس الأمارة بالسوء عدوة للإنسان فوجبت مجاهدتها.
والعدو المعتدى الظالم الذي قاتل المسلمين وأخرجهم من ديارهم – كاليهود الذين استولوا على أرض الإسراء والقبلة الأولى وطغوا وبغوا – تجبُ مقاتلته وحربه حتى تتطهر الأرض من رجسه.
ومن الجهاد بذل كل ما يُستطاع في سبيل دعوة غير المسلمين إلى الدخول في دين الله، ولقد دعا الله عباده المؤمنين إلى جهاد الكافرين بالقرآن فقال تعالى: وجاهدهم به جهاداً كبيراً [الفرقان:52].
القرآن من القوة والتأثير العميق والجاذبية ما يهزم الكفر، ويقضي على الضلال، وهذا الجهاد يكون بابلاغ القرآن إليهم بمختلف الوسائل، ولقد علم الكفار أن لسماع القرآن تأثيراً كبيراً في النفوس، ولهذا كانوا يقولون للجماهير: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [فصلت:26].
واليوم هيأ الله لعباده أعظم الوسائل لإبلاغ القرآن للمسلمين ولغيرهم، فالراديو والتلفزيون في كل بيت، وأغلب المسلمين لا يعرفون القرآن، بل منهم من لا يقرأ القرآن إلا على القبور كأنه كتاب الأموات لا كتاب الأحياء. فإذا كان هذا هو حال المسلمين، فما بالك بغيرهم.
إن الواجب يفرض على كل بلد مسلم أن تكون به إذاعة وقناة تلفزية تبلغ القرآن بختلف اللغات للمسلمين ولغيرهم. إن هذا العمل جهاد في سبيل الله، قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [العنكبوت:69]. وتبليغ القرآن أعظم القربات والطاعات، ولقد يسره الله وسهله للفهم وللحفظ، قال تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر [القمر:17].
غير أن الواقع يثبت أن المسلمين هجروا كتاب الله، بينما نجد النصارى يجتهدون أيما اجتهاد في نشر إنجيلهم المحرف وينفقون أموالاً طائلة تجمع من التبرعات ولهم مئآت الإذاعات والقنوات التلفزية التي تدعو للنصرانية المحرفة، ثم هناك عشرات الآلاف من المنصرين – ولا نقول (المبشرين) لأن التبشير إنما يكون بالخير والحق – يعملون متطوعين في شتى بلاد العالم، فماذا يفعل المسلمون، وماذا يقدمون لدينهم ولكتاب ربهم.
لقد صدق عليهم قول الله تعالى: وقال الرسول يا رب إن قوم اتخذوا هذا القرآن مهجوراً [الفرقان:30]. هجروا قراءته، وهجروا حفظه وهجروا فهمه هجروا العمل به، وهجروا أحكامه، هجروه لم يجعلوه دستور حياتهم بينما جاء القرآن لينظم الحياة الدنيا وليسعد الناس بتطبيق أحكامه والعمل به.
عباد الله:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جهاد في سبيل الله، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((جاهدوا بأيديكم وألسنتكم وأموالكم )) [1]. فبالنهي عن المنكر يرتدع أهل التبشير يكون أيضاً بالشر فبشرهم بعذاب أليم ، وخفت فيها صوت المعروف، وإن من المنكر الذي انتشر، ما يشاهد في الشواطئ من إباحية وفجور: من عري فاضح، وخلاعة ومجون، وفي كل يوم يزداد الأمر سوءاً بفتح المراقص والملاهي الليلية التي تؤجج نار الشهوة الحيوانية بين الشباب، وتتسبب في مزيد من الانحراف بانتشار المسكرات والمخدرات والزنا، ثم ما ينتج عن ذلك حتماً من أمراض ومفاسد لا حد لها، فإلى الله سبحانه المشتكى، ونسأله سبحانه أن يُطهر بلادنا من جميع الموبقات والمحرمات، وأن يلهمنا رُشدنا، ويجعلنا جميعاً من أهل طاعته بمنه وفضله وكرمه.
[1] أبو داود في الجهاد – انظر جامع الأصول 2:565
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1072)
الحج منافعه وآدابه
فقه
الحج والعمرة
إسماعيل الخطيب
تطوان
16/11/1419
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة إلى حسن الخلق ولطف التعامل في الحج. 2- الحج موسم لتهذيب الأخلاق.
3- شروط للحج المبرور. 4- إخلاص النية في الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا عز وجل: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب [البقرة:197].
عباد الله: إن المؤمن بالله في حاجة بعد هذه الصلاة التي يصليها كل يوم، وبعد شهر رمضان الذي يصومه كل عام، وبعد أدائه الزكاة، وبعد استقامته وأدائه لحقوق الله وحقوق العباد، بحاجة إلى أن يشهد موسماً هو ملتقى المؤمنين المحبين المخلصين من الذين لبوا النداء وأتوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم، وهم يلبون ويهللون ويكبرون في أرض أرادها الله تعالى أن تكون واحة للأمن والسلام يجد فيها المؤمن راحة قلبه وطمأنينة نفسه، في جو كله ذكر وتسبيح وبر وإحسان، إنه موسم عبادة، لذلك جاء المنع من أعمال وجاء الوعيد والتهديد على أعمال، وجاء الأمر بأعمال، ولا ينبغي للحاج أن يتوجه إلى تلك الأرض المباركة حتى يعلم كل ذلك. وإن أول ما ينبغي أن يعلم هو أن على الحاج أن يكون في غاية اللطف وحسن المعاملة مع كل من حوله من إنسان وحيوان ونبات، فمع أخيه الإنسان لا جدال ولا خصام ولو اضطره الأمر إلى التنازل عن حقه قال عز وجل: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. ومع الحيوان سلم تام فلا يزعج طيراً ولا يصطاد وحشاً، قال عز وجل: وحُرّم عليكم صيد البر ما دمتم حُرماً [المائدة:96]. ومع الشجر والنبات لا إفساد ولا اعتداء. قال : ((إن هذا البلد حرام لا يُعضد شوكه - أي لا يقطع – ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها)) [1].
وفي هذا الحديث أمر في غاية الأهمية فلا يحل للمؤمن أن يلتقط لقطة – وهي المال الذي ضاع لصاحبه والتقطه غيره – إلا بنية الإعلان عنها لمدة عام، لذلك ذهب العلماء إلى أن على الحاج أن لا يلتقط أي شيء يجده حتى يجده صاحبه، وبذلك يتحقق الأمن في بلد الإيمان والإسلام.
والحج موسم عبادة لذلك جاء النهي عن الرفث، وهو الكلام الفحش المستقبح وغيره. الفسوق وهي المعاصي خاصة التي فيها أذية للناس كالتنابز بالألقاب، قال تعالى: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [الحجرات:11]. وكالسباب، قال : ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) ، فإذا التزم الحاج بهذا السلوك، وعمر وقته بتلاوة القرآن وذكر الرحمن والبر والإحسان مع القيام بأعمال الحج اقتداء برسول الله كان حجه مبروراً، فالحاج بانقياده لربه الذي وظف عليه أعمالاً في الحج لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة، هو بذلك يظهر عبوديته لله، فيستحق بذلك الثواب العظيم، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((والحج والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة )) [2].
عباد الله: قد يعتقد البعض أن كل من حج غفر ذنبه ورجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، بينما المغفرة تحتاج إلى شروط في مقدمتها أن يكون مال الحج من حلال، وأن يكون الحج مبروراً، والحج المبرور هو الذي لم تقع فيه معصية، وأن لا يكون عليه حق من حقوق الناس، فكلنا نعلم أن منزلة الجهاد أعظم وأكرم، سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذ؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)) [3].
ومع ذلك فإن الشهيد الذي قتل في سبيل الله يبقى مطالباً بحقوق الناس، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) [4].
وهناك أمر آخر قد يغفل عنه البعض، قال ربنا عز وجل: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص في الحج هو أن لا يكون الحامل عليه إلا العبادة، فمن كان قصده الأول هو التجارة بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر لأجل الحج، فلا حج له، نعم إن الكسب مباح في أيام الحج إذا لم يكن هو المقصود بالذات. قال عز وجل: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم [البقرة:198]. فالتجارة رخصة خاصة للذين يأتون بالسلع الضرورية للحجاج، فهؤلاء عملهم فيه نوع عبادة، ويبقى أن التفرغ للمناسك والتنزه عن جميع حظوظ الدنيا في تلك البقاع الطاهرة أتم وأكمل.
[1] البخاري – كتاب الحج:43.
[2] رواه البخاري ومسلم، فتح الباري 3:382 رقم 1521.
[3] البخاري ومسلم – فتح الباري 1:77 رقم 26.
[4] مسلم 3:1502.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1073)
مشروعية الطلاق للمصلحة
فقه
الطلاق
إسماعيل الخطيب
تطوان
7/11/1418
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بالمسائل التي تخص المرأة. 2- الطلاق حل أخير لمشكلات الزوجين.
3- تحديد الطلاق بثلاث لِحفظ كرامة المرأة. 4- أحكام الطلاق. 5- الخلع. 6-دعوى تحرير
المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد شرع الله تعالى للأسرة المؤمنة حدوداً بتطبيقها يتحقق الاستقرار والاطمئنان، وهذه الحدود اعتنت عناية خاصة بالمرأة، فنزلت آيات القرآن تحدد للمسلمة الأصول العامة التي يجب أن تحافظ عليها في لباسها وعملها وعلاقتها بمجتمعها، كما أن آيات الكتاب الحكيم بينت الحدود التي تصون كرامتها، وتحفظها من اعتداء الرجل عليها. وإذا كانت المجتمعات الإسلامية اليوم قد ظهرت فيها بوادر خطيرة، تهدد نظام الأسرة فما ذلك إلا بسبب البعد عن حدود الله، فربنا سبحانه وتعالى يقول: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [البقرة:229].
وهذا التحذير ورد في سورة البقرة أثناء الحديث عن الطلاق وأحكامه، فالله تعالى شرع الطلاق وبين أحكامه في كتابه الحكيم، مع العلم أن الواعي لأحكام الشريعة لا يصل إلى الطلاق إلا عندما تستحيل المعاشرة بين الزوجين، قال رسول الله : ((ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق)) [رواه أبو داود].
فاللجوء إلى الطلاق كاللجوء إلى بتر عضو من الجسم، فهو الحل الأخير للضرر الذي يصيب أحد الزوجين أو هما معاً. ومن حكمة الله تعالى أن جعل الطلاق ثلاث مرات قال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
سأل أبو رزين الأسدي النبي قائلاً: سمعت الله يقول: الطلاق مرتان فأين الثالثة فقال : (( أو تسريح بإحسان )) [رواه أبو داود].
ولو لم يكن للطلاق عدد محدود لكانت المرأة أُلعوبة بيد الرجل يطلقها المرة بعد المرة، كما كان الأمر في الجاهلية. ومن حكمة الله تعالى أن جعل الطلاق بيد الرجل على أن يستعمله في حدود ما شرع الله، وقد بين العلماء أن الطلاق يكون حراماً إذا كان لغير سبب أو ضرورة، فالزواج نعمة، والطلاق من غير حاجة إليه فيه ضرر على الزوج والزوجة، ونبينا يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ثم إن الرجل يتحمل بالطلاق نفقات مالية، لذلك يكون أحرص على بقاء الزوجية، على أن الشرع الحكيم أباح للمرأة أن تتخلص من الزوجية بطريق الخلع في حالة ما إذ اشتد الشقاق وصعب العلاج.
فالفراق إن طلبه الزوج، فبيده الطلاق وعليه أن يتحمل تبعاته، وإن طلبته الزوجة فبيدها الخلع وعليها أن تتحمل تبعاته إن طلبت الفراق اختياراً من غير إكراه ولا ضرر، أما إن كان هناك إضرار من الزوج تستحيل معه العشرة كالضرب والسب والإكراه على فعل المنكر أو المنع من القيام بالواجبات الشرعية، فللزوجة أن تطلب الطلاق من القاضي كما أن لها أن تطلب الطلاق لعدم النفقة ولغيبة الزوج.
والملاحظ أن القرآن الحكيم اهتم اهتماماً ملحوظاً بأمر الطلاق، ففي سورة البقرة نقرأ اثناعشرة آية تبين حكم الإيلاء أو الهجر، والعدة، وما ينتج عن الطلاق، وفي سورة النساء ثلاث آيات تبين حكم الله في الإضرار بالنساء، وفي سورة الأحزاب آية تبين حكمه تعالى في الطلاق قبل الدخول وما ينتج عنه. وفي القرآن الكريم سورة جل آياتها تبين حكم الطلاق هي سورة الطلاق التي تبدأ بقوله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [الطلاقء:1]. بين فيها أن الطلاق لا يكون أثناء الحيض، وأن المرأة تستحق السكنى في مدى العدة، وبين مدة العدة لمن يئست من المحيض أو للحامل وما يجب لها من نفقة خلال الحمل وفي مدة الرضاع، وبذلك يتبين للمؤمنين أن الله تعالى أعطى الحق كاملاً للمرأة والرجل وأن الخير كله في تطبيق الأحكام التي بينها الله تعالى لقوم يعلمون.
عباد الله: ها أنتم علمتهم أن الله تعالى بين في كتابه الأحكام المفصلة الدقيقة للطلاق، خاصة في سورة الطلاق التي وجه الخطاب في بدايتها للنبي الكريم إشعاراً بخطورة الأمر، وأن أحكام الطلاق من تعداها وخالفها ظلم نفسه، قال تعالى: وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه هذه الحدود نجد اليوم من النساء من اللواتي أعلن الحرب على أحكام الله – من يطالبن بالغاء الأحكام الشرعية المتعلقة بالطلاق، وينظمن لأجل ذلك ندوات لتحريض النساء على المطالبة بنبذ أحكام الله، ونحن نعلم أنه لا يعرض عن حكم الله إلا مطموس، ولا يحارب حكم الله إلا كافر ملعون، فهؤلاء النسوة لو كن مؤمنات حقا لطالبن بتطبيق حدود الله، ورضين بما شرعه الله: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [المائدة]. إن هؤلاء المارقات يعملن بكل الوسائل على الغاء ما تبقى من الأحكام الشرعية المتمثلة في مدونة الأحوال الشخصية، فيطالبن بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وبإلغاء الولي في الزواج، تقليداً للغربيين الذين جعلوا الطلاق حقاً للرجال والنساء على السواء، فكثر عندهم الطلاق وصار أضعاف ما عند المسلمين.
إن هذه الحركة النسائية فتنة خطيرة وشر مستطير، إذا لم يقف العلماء في وجهها بكل قوة فإنها ستتسبب في خراب كبير للمجتمع، بتدمير الأسر، والقضاء على الرابطة الزوجية التي حاطها الإسلام بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها.
فالله الله في شرع الله وحكمه، وربكم يقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].
ويقول مخاطباً رسوله والمؤمنون وأن أحكم بينهم بما أنزال الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزال الله إليك [المائدة:49]. فلنحذر هذه الفتنة التي تسعى إلى المزيد من الإعراض عن شرع الله، وليسع أهل الإيمان للدعوة إلى تطبيق شرع الله في أمورنا كلها لنحقق بذلك العز والسعادة في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1074)
اغتنام الوقت
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
إسماعيل الخطيب
تطوان
6/1/1420
الحسن الثاني
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتقال الإنسان من طور إلى طور. 2- لكل مرحلة مسؤوليتها وواجباتها. 3- مسؤوليات
مرحلة الشباب. 4- مسؤوليات مرحلة الكهولة والهرم. 5- التحذير من إضاعة الأعمار
والأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيقول ربنا عز وجل: الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير.
عباد الله: الإنسان ينتقل من حال إلى حال ومن طور إلى طور، فمرة يكون في غاية الضعف عندما يكون جنيناً وطفلاً مولوداً ورضيعاً ومفطوماً، ثم ينتقل إلى طور القوة، في مرحلة الشباب والكهولة، ثم ينحدر بعد القوة إلى الضعف والشيبة. وهذه الأطوارلا يُفلت منها أحد ممن مدّ الله له في العمر، فما من إنسان يمتد عمره إلى ما بعد الستين إلا ويمر بها، ليعلم الإنسان أنه خاضع لإرادة مدبر حكيم يخلق ما يشاء، ويقدر ما يشاء، هو سبحانه الذي يُقدر لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره يخلق ما يشاء وهو العليم القدير.
وهذا الانتقال من حال إلى حال ينبهنا إلى أن عمل الإنسان يختلف من مرحلة لأخرى.
فمرحلة الطفولة تنقسم إلى مبكرة (3-5سنوات) ومتوسطة (6-8- سنوات) ومتأخرة (9-11سنة). ومرحلة المراهقة. وهي مرحلة الانتقال من الطفولة إلى الرشد وتستمر من 12سنة إلى 21سنة وتقسم إلى ثلاثة مراحل، ثم مرحلة الرشد من 22 إلى 60 سنة ثم تأتي الشيخوخة.
وكل مرحلة من هذه المراحل لها مطالبها وأعمالها المختلفة المتناسبة مع النمو الجسمي والعقلي، فإذا كان من حق الطفل الصغير أن يلهو ويلعب جل أوقاته، فليس ذاك من حق الشباب وهو في مرحلة بناء مستقبله، إذ أن فترة الشباب هي فترة المسؤولية، لذلك جاء في الحديث النبوي ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه – أو قال: المجنون – حتى يعقل، وعن الصغير حتى يشب) ) [1] فالإستقامة والقيام بالواجبات وترك المنهيات أمر مطلوب من الشباب قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله...)) الحديث [2].
فالمطلوب من الشباب أن يعطى للوقت قيمته، فهو الخاسر والمحاسب إن ضيعه فيما لا يُفيد وهو الرابح السعيد إن عمره بما يُفيد، وكل إنسان عند الموت يسأل عن شبابه فيم أبلاده.
فإذا مدّ الله في العمر حتى الستين فقد بلغ العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم، قال تعالى: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ((أعذر الله إلى أمرئ أخر أجله حتى بلّغه ستين سنة)) [3]. فإذا كانت أعمار هذه الأمة بين الستين والسبعين – كما جاء في الحديث أ فإن استكمال الستين مظنة لانقضاء الأجل، فهي سن الإنابة والخشوع وترقب الموت. وفي الآية والحديث تنبيه إلى أن من بلغ الستين لم يبق له عذر يعتذر به كأن يقول: لو مدّ لي في أجلي لفعلت ما أمرت به، فصاحب الستين مر بسن الطفولة، وهي سن اللهو واللعب، ثم بسن الشباب وهي سن الفتوة والقوة، ثم بسن الكهولة، وهي اكتمال القوة، ثم تأتي الشيخوخة ابتداء من الستين فيظهر الضعف والنقص والإنحطاط، لذلك ينبغي لمن بلغ الستين أن يحمد الله على أن مدّ له في عمره، وأن يُقبل على الطاعة، وعلى الاستعداد للموت والدار الآخرة، فلا ينبغي له أن يلهو مع اللآهين، ولا أن يضيع وقته فيما لا نفع فيه، وهو يرى أن الأعوام الباقية من عمره تمر بسرعة مذهلة.
والإنسان إذا كان في سن الشباب قد يعذر إن حصل منه طيش، لكنه لا يعذر وهو في سن الشيخوخة، فالنبي ذكر الشيخ الزاني من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم [4] ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم. فالشخص الذي بلغ سن الشيخوخة ولم يتب إلى الله ولم يقلع عن الانحراف والفسوق شخص لا شك أنه سيموت على سوء الخاتمة، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
وها هو كتاب الله يبين حال هؤلاء عندما يكونون في النار وينادون من كانوا يعرفونهم في الدنيا قائلين: ألم نكن معكم فيجيبهم المؤمنون المتقون: بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [ الحديد:14].
يقول أهل التقوى: نعم كنتم معنا في الدنيا ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالإسراف في الشهوات واللذات والمعاصي، وأخرتم التوبة حتى فات وقتها وغرتكم الأماني أي ظننتم أن الله سيغفر لكم، بينما أنتم مصرون على المعاصي حتى جاء أمر الله وهو الموت وقد خدعكم الشيطان وزين لكم أعمالكم فأضلكم وأهلككم.
إن كثيراً من الناس – خاصة من بلغ سن الشيخوخة – يضيعون أعمارهم في اللهو واللعب حتى إذا ذكروا بالموت ودعوا إلى التوبة قالوا: دعنا من هذه المنفرات، وحدثنا بالمفرحات، ولا يزال هذا المغرور منكباً على شهواته، غافلاً عن يوم مماته حتى يأتيه الموت، وهو على ضلالة.
اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا، وسهل لبلوغ رضاك سبلنا، وحسن في جميع الأحوال أعمالنا، اللهم ايقظنا من نوم الغفلة، ونبهنا لاغتنام أوقاتنا ووفقنا لمصالحنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] مسند أحمد – حديث رقم 956.
[2] متفق على صحته.
[3] البخاري – كتاب الرقاق – باب 5.
[4] قال : (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ييزكيهم ، قال معاوية: ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان وملك كذّاب وعائل مستكبر )) صحيح مسلم ج1 ص72.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1075)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتحذير من الاختلاط
الأسرة والمجتمع, الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, خصال الإيمان, قضايا المجتمع
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
30/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في الإسلام. 3- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- مراتب النهي عن المنكر.
5- مفاسد الاختلاط بين الجنسين في المدارس. 6- حضّ المسلمين على إنكار الاختلاط.
7- عظم المسؤولية على الوالدين. 8- مكر أعداء الإسلام بالمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على المسلمين القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [آل عمران:104]، فأوجب الله سبحانه وتعالى أن ينتصب من هذه الأمة طائفة تقوم بهذا الواجب العظيم، وجعل الله من شروط حيازة الخيرية لهذه الأمة قيامها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110]، فأساس التشريع الإسلامي مبني على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الدين كله أمر بمعروف ونهي عن المنكر فالتوحيد أمر بعبادة الله وحده لاشريك له ونهى عن الشرك قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً [النساء:36] والصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر قال تعالى: وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون [العنكبوت:45]، والزكاة أمر بمعروف ونهي عن منكر قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليه إن صلاتك سكناً لهم [التوبة:103] تطهرهم من دنس البخل والشح والهلع والأثرة والأنانية وتمنيهم عند الله سبحانه وتعالى بالمثوبة والأجر والدرجات العلى والصوم كذلك يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال رسول الله : ((فاذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل)) 1 ، والحج كذلك شرع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [البقرة:197].
فيا عباد الله إن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص الأمة المحمدية فقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم [التوبة:71]، وهو سبب من أسباب التمكين للمؤمنين في الأرض قال الله تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
وهكذا نجد كل أركان الإسلام إنما جاءت لتؤكد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك يدل على أهمية القيام به في الإسلام، ولما كانت المنكرات قد فشت وعمت وطمت فإن المسئولية تقع على كاهل الجميع في تغيير المنكرات وقد جعل الرسول مراتب التغيير ثلاثاً فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) 2 فكل مسلم قادر على تغيير المنكر وجب عليه أن يغيره بيده فيما له قدرة عليه أو مسئولية، فإن لم يستطيع فالإنكار باللسان واجب، وذلك بالنصيحة والتوحيد والإرشاد، وإن أدى الى نوع تغليظ وتعنيف إن إقتضت المصلحة ذلك، فإن لم يتمكن من هذا وذاك فالواجب على المسلم إنكار المنكر بالقلب وذلك أضعف الإيمان، أي آخر مراتب الإيمان وحدوده، فعن عبدالله بن مسعود أن رسول الله قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) 3 ، (فعلم أن القلب إذا لم يكن فيه كراهة ما يكرهه الله، لم يكن فيه من الإيمان الذي يستحق به الثواب وقوله ((من الإيمان)) أي: من هذا الإيمان وهو الإيمان المطلق، أي: ليس وراء هذه الثلاث ماهو من الإيمان، ولاقدر حبة خردل، والمعنى: هذا آخر حدود الإيمان، ما بقي بعد هذا من الإيمان شيء، ليس مراده: إنه من لم يفعل ذلك لم يبق معه من الإيمان شيء، بل لفظ الحديث إنما يدل على المعنى الأول) 4 ، فيا عباد الله إن المنكرات بين المسلمين كثيرة وفي إزدياد، والسيئات يتفاقم أمرها بين الفينة والأخرى، ومن هذه المنكرات فرض الإختلاط بين الجنسين في المدارس، وهو أمر إن تم لا قدر الله فسينذر بكارثة وسوف يحصل مالا تحمد عواقبه، فإن الميل الفطري بين الجنسين عميق في التكوين الحيوي، فالاختلاط بين الجنسين يؤدي إلى شيوع الفساد وإنتشار الزنا وتحلل الأخلاق وفسادها وكثرة أولاد الزنا وذهاب الحياء وظهور السفور والتبرج وحصول هذه الأمور بعضها أو كلها إيذان بفتح باب الفتنة، فعن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله ويلٌ للعرب من شرق قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) 5 ، وقد فسر بعض أهل العلم الخبث بالفجور والفسوق، وذهب بعضهم الى أن الخبث هو الزنى خاصة، وقيل: أولاد الزنى، وفي هذا الحديث دليل على شؤم المعصية والواجب تحريض المسلمين على إنكارها وتغييرها، فيا أيها المسلمون: الواجب عليكم أن لا تسكتوا عن هذا المنكر، فلوسكتم عنه كما سكتم عن غيره وعن ماهو أعظم منه عم العذاب والبلاء ونزلت الفتن والمصائب والإبتلاءات كما قال تعالى: وأتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وأعلموا أن الله شديد العقاب [الأنفال:25]، فاذا حصل الإختلاط بين الجنسين لاقدر الله، فالواجب على كل أب أن يمنع إبنته من الذهاب الى المدارس المختلطة والتعلم فيها، فأجلسها في البيت وعلمها كتاب ربها وسنة نبيها وأدبها بأدب الإسلام تكن لك ذخراً عند الله، وأما اذا أطلقت لها العنان وشجعتها على الدراسة في المدارس المختلطة فلا تلومن الا نفسك إن جاءت لك بفضيحة أو حملت معها العار والشنار، وحينها والعياذ بالله ستندم ولات ساعة مندم، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين وأجعلنا للمتقين إماماً.
1 - متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 - رواه مسلم.
3 - رواه مسلم.
4 - أنظر مجموع الفتاوي 7:52 – شيخ الإسلام بن تيمية.
5 - متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
فإن المسئولية على البنات تقع على كاهل الجميع فكل أب مسؤول عن أولاده وكذلك المرأة مسؤولة عن تربية أولادها وبناتها وقد قال : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في بيته وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) 6 ، فكل إنسان سيسأل يوم القيامة عن ما إسترعاه الله حفظ ذلك أم ضيع.
فيا عباد الله: إن الإختلاط شره مستطير، وخطره عظيم وكبير فمامن أمة عرفت الإختلاط الا وذهبت أخلاقها
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأعداء الإسلام من اليهود والنصارى والعلمانيين أدركوا أن الوسيلة السهلة لإفساد المسلمين إنما يكون بإشاعة الفاحشة بينهم ومن أهم الطرق المؤدية الى ذلك الإختلاط بين الجنسين.
ولما أعدت فرنسا حملتها لاحتلال الشام ومصر كان برفقه الجيش الفرنسي المحتل جيش آخر من النساء الغانيات الفاتنات الجميلات فقال أحد الجنود لقائده: إن مهمتنا معروفة ولكن ماهي مهمة هذا الجيش من النساء، فقال له: يا أحمق أن كاساً وغانية يفعلان في شباب محمد - - ما لا يفعله ألف مدفع أو دبابة.
إن الواجب على المسلم أن يحافظ على بناته ويؤدبهن بأدب الإسلام وديننا الحنيف وضع للمرأة المسلمة القيود التي تحصنها وتحافظ على كرامتها وتصون عفتها فقال تعالى: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة [الأحزاب:33]، وقال تعالى: وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن [الأحزاب:53]، فياعباد الله إن الواجب عليكم أن تحافظوا على بناتكم وتمنعوهن من التبرج والسفور والإختلاط، فأجعلوا البنت تقر في بيتها ولا تشجعوها على الإختلاط بالرجال في المدارس والجامعات وأمتثلوا لدين الله وأمره تفلحوا وترشدوا.
6 - متفق عليه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
(1/1076)
النهي عن الرشوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
21/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل. 2- حرمة مال المسلم. 3- بيان انتشار داء الرشوة.
4- الرشوة سحت. 5- الرشوة توجب اللعنة. 6- صور من الرشوة. 7- حكم هدايا الموظفين
والعمال. 8- آثار أكل المال الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله سبحانه وتعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [البقرة:188]، ففي هذه الآية الكريمة ينهى الله سبحانه وتعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، وذلك بالطرق غير الشرعية فإن الواجب على المسلم أن لا يأكل المال الا بالطرق المشروعة، ويأمره أن لا يستحل أموال الناس بالإثم والحرام. قال علي بن طلحة عن إبن عباس: هذا في الرجل يكون عليه ماله وليس عليه فيه بينة، فيجمد المال ويخاصم الى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد وسعيد إبن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم 1 ، قال قتادة: أعلم يا إبن آدم أن قضاء القاضي لايحل لك حراماً ولا يحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا) 2 ، فأموال المسلمين حرام لا يجوز إستحلالها إلا بحقها أو بطيبة من أنفسهم وقد حرم الإسلام أموال المسلمين فقد قال رسول الله في حجة الوداع: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)) 3 وإن من وسائل أكل أموال الناس بالباطل، الرشوة التي انتشرت في هذا الزمان، وفي بلادنا على وجه الخصوص حتى صارت ديدن كثير من المسلمين، يأخذونها ولا يخافون من أكل الحرام، ولا يتحرجون من أكل الأموال بالإثم، فقل أن تجده موظفاً أو قاضياً أو عاملاً إلا وهو يمد يديه لأخذ الرشوة من دون حياء من الله، ولا خجل من الناس، فاعلموا يا عباد الله أن هذا المال الذي يؤخذ بطريق الرشوة حرام وسحت، وآخذه متعاط مالاً حراماً وقد وصف الله تعالى اليهود بأنهم سماعون للكذب آكالون للسحت [المائدة:42]. وقد حكى ابن رسلان في شرح السنن عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا قوله تعالى: أكالون للسحت بالرشوة، وحكى عن مسروق عن إبن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ قال: لا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون، ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك، فإن أهدى لك فلا تقبل. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة - أحد أئمة التابعين -: القاضي اذا أخذ الهدية فقد أكل السحت واذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر 4.
أيها المسلمون: إن الإسلام قد نهى عن الرشوة لأنها سحت، ومال حرام وهي من أكبر الكبائر والذنوب وصاحبها معرض للوعيد فقد لعن رسول الله المرتشين، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله : ((لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم)) 5 ، وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله ((الراشي والمرتشي والرائش)) 6 يعني الذي يمشي بينهما، والراشي هو دافع الرشوة، والمرتشي هو آخذها وقابضها، والرائش الوسيط بين الراشي والمرتشي، فهؤلاء جميعاً ملعونون من الله وعلى لسان رسوله أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً [النساء:52].
فيا عباد الله: إعلموا أن اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل، والملعون لايفلح أبداً إلا إن تاب من ذنبه وتاب الله عليه، وما استحق الراشي والمرتشي والرائش اللعن إلا لعظم الذنب والجرم الذي إقترفه، فالحذر الحذر من التساهل في الرشوة وتعاطيها وقبضها وأخذها وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
1 - تفسير إبن كثير 1:225.
2 - تفسير إبن كثير 1:225.
3 - متفق عليه من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه.
4 - نيل الأوطار 4:172.
5 - رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
6 - رواه الإمام أحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن مما يدل على مسمى الرشوة وإطلاقها ما يدفعه الناس إلى القضاة والحكام، وكذلك ما يأخذه العمال على أخذ الصدقات، وما يأخذه الموظفون والعمال وأرباب المهن من الناس في الوظائف الحكومية العامة التي يتقاضون منها أجوراً شهرية، فما يأخذونه من الناس نظير ما يقدمونه من الأعمال التي هي من صميم ما أوكل اليهم مما يتقاضون به أجراً هو أيضاً من الرشوة، وهو حرام بالإجماع، فيا عباد الله إنه قد عم في هذه الأيام بين المسلمين قبض الرشوة ودفعها وتهاون المسلمون في ذلك نتيجة الفساد الإداري المالي الذي يضرب بأطنابه في جذور المجتمع، فقل أن تجد من يتحرز عن هذه الأموال التي يأكلها أكثر الناس سحتاً يكسبونه حراماً، فالمال الحرام لايأتي بخير أبداً وصاحبه لا يبارك الله له في أهله وماله، وعاقبة المال الحرام وخيمة.
وأعلموا أن الهدايا التي تقدم لعمال الصدقة والموظفين حرام، وهي من الرشوة ودليله عن أبي حميد عبدالرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلاً من الأزد يقال له: إبن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي الي. فقام رسول الله على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً، والله لايأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أوبقرة لها خوار أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي عفرة إبطيه فقال: اللهم هل بلغت (ثلاثاً))) 7 ، والرغاء هو صوت الأبل والخوار هو صوت البقر.
أيها المسلمون إن المصائب التي تتوالى علينا بين حين وآخر وتفاقم المشكلات وتعاظم المنكرات وإنعدام الأمن وشيوع الفساد وتتابع المحن والإبتلاءات كلها بسبب ذنوبنا ومعاصينا ونحن نضج ونشكو وندعو الله ولا يستجاب لنا، إذ كيف يستجاب للإنسان وهو يأكل المال الحرام، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن الله طيب لايقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم [البقرة:172] الآية، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه الى السماء، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)) 8 ، أي كيف يستجاب لمن هذه حاله.
إن المال الحرام كما أنه سبب من أسباب شقاء الإنسان فهو من أسباب حجب إجابة الدعاء هذا في الدنيا أما في الآخرة فإن آكل أموال الناس بالباطل معرض للوعيد فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لادرهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) 9 ، فيامن يأكلون الرشوة ويستحبونها أحذروا من أكل أموال الناس بالباطل، واعلموا أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وردوا المظالم إلى أهلها وتوبوا إلى الله قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
7 - متفق عليه.
8 - رواه مسلم.
9 - رواه مسلم.
(1/1077)
رحمة الله الواسعة
التوحيد, فقه
الأسماء والصفات, الحدود
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
9/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر رحمة الله بعباده. 2- إقامة الحدود لا ينافي رحمة الله الواسعة. 3- حقيقة قول
الانهزاميين: الإسلام دين الرحمة والتسامح. 4- عداء اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين.
5- لا رحمة إلا في تطبيق شرع الله في الأرض. 6- المؤمنون أشداء على الكفار رحماء
بينهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الله سبحانه وتعالى قد كتب على نفسه الرحمة بعباده فقال تعالى: كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم الى يوم القيامة لا ريب فيه [الأنعام:12]، فهو رحيم بعباده ورحمته تفيض بهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)) 1 ، فرحمته سبحانه وتعالى بعباده تتجلى في إبتداء الوجود والخلق، وفي نشأة خلقه وتكوينهم، وإعطاءهم الإستعداد الكامل للحياة والتعليم وتتجلى في تسخير الله سبحانه وتعالى لهم كثيراً مما قدره لهم قال تعالى: وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [إبراهيم:32-34]، وتتجلى كذلك في رعايته لعباده وحفظه وكلاءته لهم كما قال تعالى: قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون [الأنبياء:42].
وتتجلى رحمته أيضاً في تجاوزه سبحانه وتعالى عن سيئات عباده وإمهاله لهم إن عصوه أو أذنبوا، وفي مجازاته السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها والمضاعفة لمن يشاء، وفي محو السيئة عن من تاب إليه قال تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون [الأنعام:160]، وقال تعالى: والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم [البقرة:261]، وتتجلى رحمته سبحانه وتعالى بفتحه باب التوبة على عباده فيتوب عليهم إن تابوا من ذنوبهم، قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم [الزمر:53]، وقد شاء الله أن يرحم جميع الناس فيرزقهم، مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم قال الله تعالى: وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [البقرة:126]، فرحمة الله الواسعة قد شملت جميع الخلائق فهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءً وأنزل في الأرض جزءً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)) 2 ، وعن عمر رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله بسبي فإذا إمرأة من السبي تسعى قد تحلب ثديها اذا وجدت صبياً في السبي فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته فقال : ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على ألا تطرحه، قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها)) 3 ، غير أن رحمة الله الواسعة لا تنافي العقوبات التي أمر الله بها لمعاقبة المفسدين والمعرضين عن دينه، فإن من تمام رحمته سبحانه وتعالى تطبيق شرعه في الأرض الالتزام بشرع الله والاحتكام إليه فيه السعادة للناس في الدنيا والآخرة، ولذلك حد الله الحدود وأمر بالقصاص وفرض الجهاد وأهدر دم ومال الكافر الحربي والمرتد قطعاً لدابر الشر والكفر حتى يعيش الناس في أمان واطمئنان فإن من عمى وتجبر وطغى وإستكبر فلا رحمة له، ومن كفر بالله وخرج عن شرعه وأعرض عن ذكره فلا رحمة له ومن أفسدت الأرض أو سعى فيها بالإفساد وأنتهك الحرمات وإرتكب المعاصي واقترف الشرور والسيئات فلا رحمة له، ولذلك فرض الله سبحانه وتعالى الحدود والقصاص على مرتكبي الكبائر ومقترفي الذنوب العظائم ففي حد الحرابة قال تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم [المائدة:33]، وهذا ما طبقه رسول الله في حق الرهط الذين قدموا عليه من عكل فعن أنس رضي الله عنه قال قدم رهط من عكل على النبي كانوا في الصفة فاجتووا المدينة فقالوا يارسول الله: أبغنا رسلاً – أي أطلب لنا لبناً- فقال: ((ما أجد لكم الا أن تلحقوا بإبل رسول الله ، فأتوها فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي وأستاقوا الذود، فأتى النبي الصريخ فبعث الطلب في آثارهم فما ترجل النهار حتى أتي بهم فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم ثم القوا في الحرة يستسقون فما سقوا حتى ماتوا)) 4 ، فالمفسدون في الأرض لا يرحمون وكذلك العصاة المقترفون للذنوب لا يرحمون فقد قال رسول الله : ((من لا يَرحم لا يُرحم)) 5.
إن الله سبحانه وتعالى حين أمر بإقامة حد الزنا على الزناة كما قال في كتابه الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [النور:2]، وبقطع يد السارق والسارقة كما قال تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم [المائدة:38] فإنما ذلك من تمام رحمته بعباده، فإن قطع دابر الشر وبتر الأعضاء الفاسدة عن المجتمع يؤدي الى حصول الخير وعمومه وشيوع الأمان والطمأنينة والعيش في حياة سعيدة آمنة، وهي الرحمة الواسعة التي كتبها الله على نفسه والتي تفيض على عباده وتشملهم. وأعلموا عباد الله أن إقامة الحدود والقصاص على الجناة ومرتكبي الذنوب والمعاصي التي تستوجب إقامة الحد على فاعلها هي أيضاً رحمة بمرتكبيها إن كانوا من الموحدين فإن من عوقب به في الدنيا فلا عقوبة عليه في الآخرة، فالحدود والقصاص كفارة لمرتكبيها فمن رحمة الله بعباده أن فرض معاقبتهم بها في الدنيا حتى لا يعاقبوا بها في الآخرة فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كنا عند النبي في مجلس فقال: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا وقرأ هذه الآية كلها أي قوله تعالى: يا أيها النبي اذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لايشركن بالله شيئاً [الممتحنة:12] ، الى آخرها، فمن وفي منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) 6 ، وأما هلاك الكافرين والأمر بقتالهم وإهدار دماءهم وأموالهم فإن ذلك من تمام الرحمة بالناس لتخليصهم من المشركين والكافرين الذين يعيثون في الأرض فساداً ويهلكون الحرث والنسل.
والبشرية اليوم بغياب شرع الله قد شقت شقاءً عظيماً وخسر العالم خسارة جسيمة بإنحطاط المسلمين، وتبوأ الكافرون الصدارة والقيادة في الأرض، ولذلك تتجلى لنا تمام رحمة الله عز وجل بإنزال الكتب وإرسال الرسل وبعث الأنبياء لتجنيب البشرية الشقاء ولهدايتهم الى الخير ولإبعادهم عن الشر ولذلك فإن الرحمة كل الرحمة إنما تكون في تطبيق شرع الله قال الله تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً [الإسراء:9]، ولما كان الأمر كذلك، كان المؤمنون هم المستحقون لتمام رحمة الله فإنها تعمهم دون غيرهم، وخصهم الله برحمته الواسعة الشاملة قال تعالى: وكان بالمؤمنين رحيماً [الأحزاب:43] وقال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [الأعراف:156-157] هذا هو مفهوم رحمة الله بعباده أما ما يطرحه المنهزمون اليوم من أن الإسلام دين رحمة وتسامح وأنه لا يعادي الكافرين ولا يدعوا الى العنف والقتال والبراءة من الكافرين، فكلام يقطر سماً زعافاً، الهدف منه هو إماتة روح العزة الإسلامية عند المسلمين، فرحمة الله لمن يستحقها، وأما من عتى وطغى وتجبر وإستكبر فلا رحمة له ولا كرامة.
1 - متفق عليه.
2 - متفق عليه.
3 - متفق عليه.
4 - رواه البخاري.
5 - متفق عليه من حديث أبي هريرة.
6 - رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الصيحات التي يطلقها بعض الكتاب وللأسف فإن منهم بعض الإسلاميين من أن الإسلام دين تسامح ورحمة فلماذا العداء بين بني بشر؟ ولماذا لا نتسامح مع اليهود والنصارى؟ ليعيش الناس جميعاً على إختلاف أديانهم وتباين عقائدهم في سلام ووئام؟
إن هذه الصيحات مع منافاتها لسنة الدفع والتدافع هي سنة قدرية كونية فإن الواقع كذلك يكذبها، فالصراع بين المسلمين والكافرين قائم منذ أن بعث الله نبيه والى يومنا هذا بل وإلى قيام الساعة، فواقعنا خير شاهد على ما أقول، فاليهود يستهدفون الإسلام والمسلمين وكذلك النصارى والوثنيون والمشركون في الأرض قاطبة يستهدفون الإسلام والمسلمين، فسلوا الأندلس ماذا فعل فيها الإفرنج وكيف ذبحوا عشرات الآلاف من المسلمين وهتكوا فيها الأعراض، سلوا دول آسيا الوسطى كيف فعلت بهم الشيوعية وكم من الملايين من المسلمين أييدوا منها، سلوا محاكم التفتيش والحروب الصليبية عن الجرائم التي إرتكبها الصليبيون ضد المسلمين.
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
تبكي الحنيفية السمحاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خاوية قد أصبحت ولها بالكفر عمران
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
إن ما يجري على المسلمين من قتل وتشريد وإنتهاك للأعراض وإستباحة للحرمات والمقدسات في فلسطين ولبنان وفي كشمير والفلبين وفي الصومال وأفغانستان وفي الشيشان وداغستان وفي البوسنة والهرسك وكوسوفا وفي دول البلقان من قبل أساطين الكفرلخير دليل وشاهد على أن الرحمة البشرية إنما تكون بسيادة الإسلام على الناس كافة، فماذا خسر العالم بإنحطاط المسلمين؟ انظر ما فعله الصرب الصليبيون بالمسلمين في البوسنة الهرسك وفي كوسوفا قتلوا عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، بتروا بطون الحوامل واغتصبوا المسلمات وانتهكوا الأعراض ودفنوا في المقابر الجماعية المئات من الأحياء وما نقموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد [البروج:8-9]، إن البشرية اليوم تشقى شقاءً عظيماً بسبب غياب شرع الله فدماء المسلمين مستباحة، فالهندوس الوثنيون في الهند قتلوا مئات الآلالف من المسلمين وذبحوهم كالنعاج، وكل طواغيت الأرض والإستكبار العالمي بزعامة أمريكا وبالتحالف مع اليهود يسعون الى إجهاض الإسلام من الوجود وإبادة المسلمين إبادة جماعية، ثم يأتي هؤلاء المنهزمون نفسياً ينادون بالتسامح مع من تلطخت أياديهم بدماء المسلمين بحجة الرحمة بين العباد.
فيا أيها المسلمون إن الرحمة لا تشيع في الأرض إلا بالإسلام وتطبيق شرع الله فرحمة الله بعباده إنما تكون بطاعته واتباع نبيه محمد فالمؤمنون هم الذين يستحقون الرحمة وأما الكافرون الذين كذبوا الله ورسوله وعادوا الله ورسوله والمؤمنون فلا رحمة لهم بل الرحمة بين الناس إنما تكون بإراحة البشرية من الكافرين والمشركين وتجنيب الإنسانية شقاء الكفر والشرك والردة، ناهيك عن أن الله سبحانه وتعالى، وهو أعلم بمن خلق قد بين لنا في كتابه العزيز أن الكفار على اختلاف أديانهم لن يكفّوا عن إيذاء المسلمين وعدائهم، وهم -أي الكفار- قد أخذوا على أنفسهم عهداً أن يشنوا حرباً لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين قال الله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة:120] وقال تعالى: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [البقرة:109]، وقال تعالى: ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله [النساء:89]، وقال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا... [المائدة:82].
هذا هو كلام الله واضح كوضوح الشمس في وسط النهار فلا التفات لصيحات المنهزمين بعد وضوح القرآن وبيان الشرع وليس بعد الكتاب والسنة حجة لمحتج فقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ الأنعام:45] ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى الرحمة بالمؤمنين والشدة على الكافرين من أوثق عرى الإيمان ومن لوازم التوحيد ومقتضياته قال تعالى: واخفض جناحك للمؤمنين [الحجر:88] وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [المائدة:54] وقال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.. [الفتح:29] هذا هو دين الله الذي نؤمن وندين به، الرحمة بالمؤمنين والشدة والغلظة على الكافرين ومن يدعو الى غير ذلك فليس هو من الإسلام في شيء ونحن براء منه ومن دعوته ودينه لكم دينكم ولي دين [الكافرون:6]، إن مفهوم الرحمة في الإسلام والذي يجب أن يسود بين الناس هو التراحم بين المؤمنين جميعاً على غير أرحام بينهم، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) 7 ، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) 8 فمن كان من أهل الإيمان فهو من أهل الرحمة، وهو أهلٌ لأن يرحم، ومن لم يكن من أهل الإيمان والإسلام فلا رحمة له ولا كرامة هذا هو مفهوم الرحمة الإلهية التي يجب أن نعيها ونفهمها ونحن مسلمون نؤمن بما جاءنا من عند ربنا وعلى لسان نبينا ونقول آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الآلباب [آل عمران:7] فصدق الله العظيم وكذب المنهزمون المموهون.
7 - متفق عليه.
8 - متفق عليه.
(1/1078)
سنة التدافع والمدافعة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
2/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدم الصراع بين الحق والباطل. 2- إهلاك الله لأعداء الرسل. 3- تفضيل الله لهذه الأمة.
4- الجهاد من خصائص هذه الأمة. 5- الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة.
6- الدعوات الباطلة : الإنسانية ، العالمية ، وحدة الأديان ، حقوق الإنسان. 7- انهزامية دعاة
السلام العالمي. 8- نصرة الله للمؤمنين إذا جاهدوا في سبيله. 9- الحكم من مشروعية الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن من سنة الله القدرية والكونية أن ينجي أولياءه المؤمنين ويهلك ويدمر أعداءه الكافرين، فمنذ أن خلق الله سبحانه وتعالى الخلائق والصراع بين الحق والباطل على أشده فكانت إرادة الله بإهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين في كل صولة وجولة مع الكفر وأهله، فنوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم الى الله فكذبوه وكفروا به وبما جاء به من عند ربه وقام من معه يدعونهم الى الله فكذبوه وكفروا به وبما جاء به من عند ربه، وما آمن معه الا قليل، فنجاه الله ومن معه وأهلك قومه الكافرين المكذبين قال تعالى حاكياً عنه في كتابه: قال رب إن قومي كذبون فأفتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين [الشعراء: 117-120] وكذلك قوم عاد وثمود دمرهم الله وأهلكهم لما كذبوا الرسل وأشركوا بالله فقال الله تعالى: كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [الحاقة: 4-8].
وكذلك قوم لوط أهلكهم الله لما فعلوا الفاحشة وكفروا بالله وكذبوا رسولهم، فأرسل الله سبحانه وتعالى عليهم حجارة من السماء فدمرهم الله بها، قال تعالى: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وماهي من الظالمين ببعيد [هود:82-83]، وقوم شعيب لما كذبوا رسولهم أهلكهم الله فقال تعالى: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [الشعراء:189] وفرعون الذي عتى وتجبر وطغى وأعلن كفره وتمرد على الله عز وجل دمره الله وأهلكه هو وشيعته فقال تعالى: ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [الأعراف:137]، فهذه سنة الله القدرية الكونية في إهلاك الكافرين فكل الأمم السابقة تولى الله سبحانه وتعالى فيها إهلاك المشركين والكافرين بنفسه قال تعالى: فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [العنكبوت:40]، غير أن الله سبحانه وتعالى فضل أمة محمد على سائر الأمم بأن أقامها مقام عذابه القدري فجعل الله إهلاك الكفار على أيدي المؤمنين وهذا تشريف لمحمد ولأمته قال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم [التوبة:14-15].
فمن تكريم الله لهذه الأمة أن أقامها مقام عذابه القدري ولذلك ما فرض الله سبحانه وتعالى الجهاد بنوعيه الدفع والطلب الا على محمد وأمته ولذلك كان الجهاد في هذا الدين ذروة سنام الإسلام وبه أمر النبي القائل: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فاذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، الا بحق الإسلام، وحسابهم على الله عز وجل)) 1 ، إن سنة التدافع بين الحق والباطل قائمة ومستمرة الى قيام الساعة، ودين الإسلام مبني على مقاتلة الكافرين والتنكيل بهم وتطهير الأرض منهم ومن أوثانهم وشركياتهم وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله [الأنفال:39]، وهذا ما أمر الله به رسوله اذ يقول: فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون [الأنفال:57\]، يقول العماد ابن كثير في تفسيره (2:423) فإما تثقفنهم في الحرب أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب فشرد بهم من خلفهم أي: نكل بهم. قال ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وإبن عيينة ومعناه: غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً، ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة لعلهم يذكرون وقال السدي: يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
واعلموا يا عباد الله أن سنة الله الجارية في عباده هي الدفع والمدافعة فيدفع الله الشر بالخير، والباطل بالحق، والكفر بالإيمان، والكافرين بالمؤمنين قال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين [البقرة:251]، وقال تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [الحج:40]، فاليهود يهود الى قيام الساعة، وكذلك النصارى صليبيون الى قيام الساعة، والكفر كفر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والمؤمنون مؤمنون حتى يدخلوا الجنة، والصراع بين الفريقين قائم، والمدافعة مستمرة الى قيام الساعة بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [الأنبياء:18]، فليعلم هؤلاء الذين يدعون الى السلام مع اليهود والتسامح مع الصليبين، والتجاوز ونبذ العداوة مع المرتدين أن هذه الدعوات يروجها اليهود والصليبيون، فمنهج التفسير الغربي للمدافعة تنص على أن يبقى اليهود والنصارى أقوياء ليطبقوا عقيدتهم فينا، لذلك يرجون بيننا دعوات الإنسانية والعالمية ووحدة الأديان، ويؤسسون منظمات العفو الدولي وحقوق الإنسان لتحقيق ما يصبون اليه ويهدفون إليه، ألا وهو إذلال المسلمين وإماتة روح الجهاد في نفوسهم، وإنني لأستغرب من دعاة السلام العربي مع دولة يهود فهؤلاء قد تنصلوا عن دينهم وأهانوا أنفسهم ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء [الحج:18].
ومن يهُن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام، لكنني أتعجب من بعض المنتسبين الى الحركات الإسلامية حين يدعونك الى مثل هذه الدعوات، والحقيقة أن أمثال هؤلاء قد اصيبوا بإنهزامية نفسية، فباتوا يروجون لفتاوي عقيمة وكلمات ممجوجة سقيمة الهدف منها: إماتة العزة في نفس المسلم والقضاء على روح الجهاد الإسلامي لإرضاء أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
فيا أيها المسلم إن الجهاد في سبيل الله هو عز الإسلام والمسلمين وعلم الجهاد قائم وماض الى قيام الساعة فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) 2 ، وهذا مما أكده رسول الله فعن سلمة بن نفيل الكندي قال: ((كنت جالساً عند رسول الله فقال رجل: يا رسول الله أذال الناس الخيل - أي أهانوها وإستخفوا بها- ووضعوا السلاح وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها فأقبل رسول الله بوجهه وقال: كذبوا، الآن جاء القتال ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيع الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله)) 3 ، هذه هي سنة الله القدرية الكونية في الصراع بين الحق والباطل وهذه هي الحقيقة الناصعة الربانية التي يجب أن نؤمن بها، أما ما يدعوا إليه المنهزمون نفسياً فإنه منهج غريب عن المنهج الإلهي ودعوة خرقاء لاصلة لها بعزة الإسلام، فنحن أقامنا الله مقام عذابه القدري، فجعل هلاك الكفار على ايدينا وهذه كرامة وشرف لنا يجب علينا أن لا نفرط فيها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
1 - متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
2 – متفق عليه.
3 - أخرجه النسائي (6:214) بإسناد صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى المؤمنين ضمانات أكيدة عند جهادهم في سبيل الله، فمنها أنه يدافع عنهم، وأنه ناصرهم ما داموا ينصرون دينه، وأنه ممكنهم الأرض ومستخلفهم فيما إذا أقاموا علم الجهاد وأعترفوا بدينهم لا بغيره، قال تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:38-41]، وقد يتساءل المرء إذا كان الله قد تولى الدفاع عن المؤمنين فلماذا فرض عليهم الجهاد؟ ولماذا لم يهلك الله الكافرين كما أهلك الأمم السابقة؟ ممن كذّبوا الله ورسله وبذلك يعفي المسلمين عن تكاليف الجهاد وتبعاته؟
وللإجابة عن هذا التساؤل نقول: إن الله سبحانه وتعالى فرض علينا الجهاد بنوعيه: الدفع والطلب، لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، وقد يظهر لنا بعض تلك الحكم فمنها:
أولاً: أنه سبحانه وتعالى شرفنا وكرمنا بأن أقامنا مقام عذابه القدري فأي كرامة وتشريف أعظم من هذا.
ثانياً: أنه سبحانه وتعالى فرض الجهاد على هذه الأمة للإبتلاء، ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون [الأنفال:37]، ويبتلي الله عباده ليعلم الصادق في إيمانه من الكاذب والمؤمن من المنافق ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [محمد:31] فالله قادر أن ينتصر منهم من غير قتال ولكن جعل الجهاد والدافع والمدافعة ليبلوا المؤمنين بالكافرين قال تعالى: ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [محمد:4]، وقال تعالى: وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [آل عمران:141]
ثالثاً: إن من الحكم التي لأجلها فرض الله الجهاد وعلى المؤمنين أن يبين أنه لا يريد من عباده مجرد صلاة وصيام وقيام وذكر وتلاوة قرآن فقط، نعم هذه العبادات مطلوبة ولكن أن يقتصر الإنسان عليها، ثم ينكفئ على نفسه فيحشرها في زاوية من زوايا العبادة كفعل الدراويش والمتصوفة، تاركاً الأرض يعبث فيها الأعداء فلا يدفعهم ولا يجاهدهم ولا يأطرهم على الحق أطراً ولا يقصرهم عليها قصراً، فهذا الصنيع مما يأباه الله لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم أبداً.
(والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة وليظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون جملة دعوته وحماتها من التنابلة الكسالى، الذي يجلسون في إسترخاء ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون الى الله بالدعاء، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الإعتداء، نعم يجب أن يقيموا الصلاة وأن يرتلوا القرآن وأن يتوجهوا الى الله بالدعاء في السراء والضراء، ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة والذخيرة التي يدخرونها للموقعة والسلام الذي يطمئنون اليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والإتصال بالله) 3 ، إن المنهزمين نفسياً والراكضين اللاهثين خلف السلام المزعوم مع دولة اليهود غافلون عن سنة التدافع والمدافعة، فالإنهزامية التي تملأ نفوسهم سببها الذل الذي منيوا به نتيجة تركهم الجهاد في سبيل الله وما ترك قوم الجهاد الا ذلوا، وصدق رسول الله القائل: ((اذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم)) 4 ، فنحن قوم عزنا بالإسلام وبإقامة على الجهاد، شرف لنا وفخر لنا وكرامة لنا أن أقامنا الله مقام عذابه القدري ليكون هلاك الكافرين على أيدينا، فالمنهزمون نفسياً من باتوا يخافون حتى من ظلهم، فلا مقام لهم بيننا، فإن سنة الله الجارية في هذا الكون هي الإثخان بالكافرين وإظهار العداوة لهم وبغضهم ومقاتلتهم وذلك من أوثق عرى الإيمان يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [المائدة:54] هذه هي سنة الله الجارية في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً [فاطر:43].
3 - في ظلال القرآن 4:2425 - سيتعطب.
4 - أخرجه أبو داود بإسناد حسن عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(1/1079)
صفات المنافقين
الإيمان
نواقض الإيمان
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
14/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضح الله للمنافقين في كتابه. 2- صفات المنافقين. 3- أشباه المنافقين من المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى: في كتابه العزيز صنفاً من الناس يتلونون بكل لون ويأتون الى الناس بوجوه متعددة يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، يتظاهرون بأفعال الخير وهم من أفسد الناس باطناً ذلكم الصنف هم المنافقون الذين ضررهم على الإسلام والمسلمين أشد من ضرر الكفار الأصليين، ولذلك حذر الإسلام من فعالهم وأمر المسلمين أن لاينخدعوا بهم، فقال تعالى في بيان حالهم وكشف أستارهم وفضح عوارهم: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون واذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لايعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينيهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لايبصرون صم بكم عمي فهم لايرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولوشاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير [البقرة:8-20].
والمنافقون يقولون ما لايفعلون فهم يتظاهرون بالتوحيد ومحبة الله وهم من أكذب الناس وأفسدهم باطناً، ولذلك حذر رسول الله من الإتصاف بصفاتهم، فلهم علامات يعرفون بها تميزهم عن غيرهم، فيستدل عليهم بقرائن أحوالهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((آية المنافق ثلاث: اذا حدث كذب واذا وعد أخلف واذا اؤتمن خان)) 1 ، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) 2 ، فهذان الحديثان أفادا أن من خصال المنافق وصفاته الكذب في الحديث وخلف الوعد وخيانة الأمانة وغدر العهد والفجور في الخصومة، فهذه الخصال المذمومة لا يتصف بها جميعها الا من كان منافقاً خالصاً، فالمنافقون ديدنهم الكذب فهم كاذبون في مقالهم وفعالهم، ويوجد بين المسلمين اليوم صنف من هؤلاء يتزيون بزي الإسلام ويطلقون اللحى ويقصرون الثوب، ويبرمون العمامة ولكنهم يكذبون على الله فيتزلفون الى الطاغوت ويبيعون دينهم بعرض من الدنيا قليل، يشترون الضلالة بالهدى والعماية بالنور ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، يكذبون على الجهلة من المسلمين في أنهم إنما يريدون بعملهم هذا خدمة الإسلام والمسلمين والذود عن حياض هذا الدين وهم كاذبون في الحقيقة موالون لأعداء الله ومعادون لأولياءه وعدواً بالناس بنصرة الدين ثم ظهروا في المواقف التي فيها الخذلان للإسلام والمسلمين، عاهدوا في الله بنصرة الإسلام ثم نقضوا العهد والميثاق في دخولهم في في أحلاف الجاهليين خانوا الأمانة التي حملوها مع أن السماوات والأرض والجبال ناءت بحملها لعظمتها فلم يؤدوها كما ينبغي أداءها فتنصلوا عن مبادئهم واذا بهم يركضون لاهثين خلف العلمانيين يطلبون منهم الفتات على موائد النفاق فبئس الفعل فعلهم وبئس الصنيع صنيعهم يا أيها الذين آمنوا لاتخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [الأنفال:27] فحري بالمسلمين أن يحذروهم ويجتنبوا أعمالهم ويحذروا من أقوالهم فإن للقوم كلاماً معسولاً، وبهم من القول وزوراً، والمعصوم من عصمه الله تعالى من شرورهم ونفاقهم والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.
1 - متفق عليه زاد مسلم في رواية: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)).
2 - متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن من صفات المنافقين رفض تحكيم شرع الله وإرادة التحاكم إلى الطاغوت والصد عن رسول الله كما قال تعالى: ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً واذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً [النساء:60-61].
ومن صفاتهم أيضاً: إتخاذهم الكفار أولياء من دون المؤمنين قال تعالى: بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً [النساء:138-140]، وقد ذكر الله بعض صفاتهم في سورة التوبة التي سميت بالفاضحة لأنها فضحتهم وكشفت أسرارهم وهتكت خبايا نفوسهم وعرّت ماهم عليه من الكفر والنفاق فلنستمع الى شيء من آيات سورة التوبة التي فضح الله فيها المنافقين قال تعالى: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [التوبة:48-50]. ومن صفاتهم أيضاً مناصرتهم للكفار وموالاتهم لهم والوقوف معهم عند حربهم على الإسلام قال الله تعالى: ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصركم والله يعلم إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لاينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لاينصرون [الحشر:11-12] فهكذا هي أفعالهم يوالون الكافرين ويطيعونهم وينصرونهم على المسلمين في حال حربهم، ولكنهم جبناء لا يثبتون في معمعات المعارك، فعند الجد والقتال لاينصرون الكفار، بل يولون الأدبار خاذليهم فهم جبناء رعاديد، ومن صفاتهم أنهم يكثرون الإدعاء بأنهم مؤمنون بالله وبالرسول ومطيعون الله وللرسول مع إنهم كاذبون في ادعائهم، ودليل ذلك إعراضهم عن الاحتكام الى الله ورسوله كلما دعوا اليه قال الله تعالى: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين واذا دعوا الى الله ورسوله لحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم إرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [النور:47-50].
هذه هي بعض صفات المنافقين أولياء الشيطان وأنصار الكفر والطواغيت فالحذر الحذر منهم ومن فعالهم ومقالهم والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم.
(1/1080)
مفهوم السعادة في الإسلام
الإيمان
فضائل الإيمان
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
7/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختلاف الناس في الطريق إلى السعادة. 2- حقيقة السعادة في الاستقامة على الدين.
3- المرء مع من أحبّ. 4- مقوّمات السعادة. 5- كلمات لبعض السعداء الصالحين.
6- صفات الأشقاء ومصيرهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن السعادة كلمة خفيفة على اللسان، حبيبة الى قلب كل إنسان، وما من إنسان الا وهو يسعى الى السعادة وتحقيقها في حياته، فأكثر الناس يظن أن السعادة في المال والثراء الفاحش، ومنهم من يتصور أن السعادة في أن يكون له بيت فاخر وسيارة فارهة، ومنهم من يعتقد أن السعادة في المال والأولاد، ويعتقد البعض أن السعادة في أن تكون له وجاهة في المجتمع، أو يتبوأ أعلى المناسب القيادية في البلد، ومنطق بعض الناس أن السعادة تكون في السلطة والملك، ومن الناس من يقول أن السعادة في أن يتزوج إمرأة حسناء ويظفر بذات الحسب والنسب والمال والجمال وذات الدلال، وللناس فيما يعشقون مذاهب وقليل من الناس هم الذين عرفوا حقيقة السعادة في الدنيا فعلموا أن السعادة إنما تكون بالإستقامة على دين الله قال تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لايبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ماصنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [هود:15-16] وقال تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً، أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً [الإسراء-60] وقال تعالى: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب [الشورى:20] فالسعيد هو من سعد في الدارين والمؤمن لما كان مستقيماً على طاعة الله ورسوله فله السعادة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا أنعم الله عليه بأن وفقه الى السير على طريقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير صراط المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى ، فهو كما أنه مع أولياء الله فسيحشر معهم، فإن المرء مع من أحب كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي قال: ((المرء مع من أحب)) 1.
فيا أيها المسلمون إن للسعادة مقومات، ومن أهمها وحدانية الله سبحانه وتعالى وطاعته وإتباع رسوله وذلك بالعمل بسنته القولية والعملية والإبتعاد عن الإحداث في الدين ولذلك نجد أن أسعد الناس هم الموحدون لله الذابون عن سنة رسول الله ، فالصالحون من عباد الله ولو كانوا في شظف من العيش تجدهم من أسعد الناس وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجادلونا عليه بالسيوف، وقال الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا. وقال آخر: إن لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال آخر: إنه لتمربي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب 2.
ويحكي إبن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام فيقول: (وسمعت شيخ الإسلام إبن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري إني رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة. وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخيرونحو هذا وكان يقول في سجوده وهو محبوس: ألهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ماشاء الله وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى والمأسور من أسره هواه. ولما دخل الى القلعة وصار داخل سورها نظر اليه وقال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله عذاب وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه 3 ، فهذه هي السعادة الحقيقة لا ينالها إلا من تذوقها ولا يتذوقها الا من إنشراح صدره للإسلام وأطمأنت قلبه بالإيمان أقول ما تسمعون وصلى الله على محمد آله وصحبه.
1 – متفق عليه.
2 – أنظر الوابل الصيب من الكلم الطيب لإبن قيم الجوزية ص 671 ضمن مجموعة الحديث.
3 – المصدر السسبق بعد / 670 – 671.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن السعيد من سعد بطاعة الله، والشقي من شقي بمعصيته لله إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأتي لاتكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقور ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والأرض الا ماشاء الله إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء الله ربك عطاءً غير مجذوذ [هود:103-108] فالسعداء هم أولياء الله المتقون الذين يعيشون في ظلال الكتاب والسنة تطمئن قلوبهم بذكر الله الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مئاب [الرعد:28-29] وأما الأشقياء فإنهم معرضون عن الله وعن دينه وشرعه، مكذبون برسله وباليوم الآخر، ناقضون العهد وميثاقه، فسوف يعيشون عيشة ضنكاً كما قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه:124-126] ويوم القيامة يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فلا يكون بينها وبين رؤوسهم الا مقدار ميل فيبلغ بهم الرشح الى أنصاف آذانهم، في ذلك اليوم الذي يفر فيه المرء من آخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، في ذلك اليوم يسعد فيه السعداء سعادة لا شقاوة بعدها أبداً، ويشقى الأشقياء شقاءً ما بعدها شقاء، في ذلك اليوم يعطى الناس صحائفهم ولايدرون ما الله فاعل بهم فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم أقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية [الحاقة:19-24] هذا هو حال السعداء في ذلك اليوم الذي تنشر فيه صحائف الأعمال وتهتك فيه السرائر وأما الأشقياء فما هو حالهم إسمعوا الى قول الله تعالى: وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فأسلكوه لماذا كل هذا العذاب عليه يارب إنه كان لايؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام الا من غسلين لا يأكله الا الخاطئون [الحاقة:25-37]. فهنيئاً للسعداء الفائزين في الدارين، وبئس الأشقياء الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة واستحبوا العاجلة على الحياة الباقية الدائمة، فيا أيها المسلمون إعملوا لآخرتكم قبل مماتكم وخذوا من دنياكم ما ينفعكم يوم الدين يوم الحسرة والندامة يوم لاينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
فاذا أردتم السعادة فإنها في طاعة الله وفي الإستقامة على منهج الله في التمسك بسنة رسول الله في الموالاة في الله وفي العبادات لأجل الله ، السعادة تكون في تحقيق التوحيد والمتابعة قولاً وعملاً وظاهراً وباطناً، فمن تحقق فيه ذلك فهو السعيد في الدنيا، وهو الذي سيسعد في الآخرة، وأما من عصى الله ورسوله وكذب بآياته وعادى أولياءه ووالى أعداءه وأشرك مع الله غيره ولم يتبع رسوله فهو من الأشقياء في الدنيا والآخرة وسيصلى ناراً حامية ويسقى من عين آنية ، نعوذ بالله من النار ومن حال الأشقياء ونسأله الجنة وأن يحشرنا مع السعداء آمين.
(1/1081)
مظاهر موالاة المشركين
الإيمان
الولاء والبراء
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
6/7/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الموالاة في الله والمعاداة في الله. 2- أهم مظاهر موالاة المشركين:
أ- اتباع سننهم. ب- تعليم القوانين الوضعية. ج-التشبه بهم. د- الاحتفال بأعيادهم.
3- مفاسد تقليد الكفار. 4- من مواقف السلف. 5- عزة المسلم في التمسك بدينه.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن من أصول الدين الحنيف الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله، وذلك من أوثق عرى الإيمان، فالواجب على المؤمن الموحد أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين ويتبرأ من الشرك والكفر وأهلهما.
وهو دين إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه وجعلهم الله سبحانه وتعالى قدوة لنا قال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآءوا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده [الممتحنة].
وهو دين رسول الله الذي أمره الله هو وكل المؤمنين أن لا تتخذوا الكفار أولياء فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق [الممتحنة:2].
فهذا في حق الكفار عامة أما في حق أهل الكتاب خاصة قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [المائدة].
وقد قطع الإسلام صلة النسب بين المؤمن وآبائه وإخوانه وأبنائه وأزواجه وعشيرته إن كانوا استحبوا الكفر على الإيمان فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [التوبة].
فكما أن الله سبحانه وتعالى قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين، أمر بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وذلك من لوازم التوحيد قال الله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله فإن حزب الله هم الغالبون [المائدة]. وقال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون [المجادلة].
فيا عباد الله: هذه النصوص من كتاب الله تعالى توجب على جميع المسلمين أن يوالوا في الله ويعادوا في الله، ولكن كثيراً من المسلمين جهلوا هذه الحقيقة التي تعتبر من أوثق عرى الإيمان فوقعوا في بعض مظاهر موالاة المشركين، وهذه المظاهر مع أنها في حياة المسلمين كثيرة وللأسف فإننا نشير إلى أهمها:
فمن مظاهر موالاة المشركين اتباع سنن اليهود والنصارى كما أخبر عنه رسول الله بقوله: ((لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن)) ؟ متفق عليه.
وأيم الله لقد اتبع كثير من الملسمين سنن وطرق اليهود والنصارى وهذا الحديث علم من أعلام النبوة، فكثير من المسلمين اليوم اتبعوا اليهود والنصارى في العقائد والعبادات والمعاملات وفي العادات والتقاليد.
ففي مجال الاعتقاد تشبه بعض المسلمين باليهود والنصارى، ففعلوا مثل فعلهم في أنبيائهم وصالحيهم فعظموهم إلى درجة أن أعطوهم خصائص الربوبية والعياذ بالله، فبينت القباب والمشاهد على أضرحة وقبور الصالحين واتخذوها مزارات ومساجد وأعياداً، ورسول الله قد حذرنا من ذلك وهو في سكرات الموت كان يشتد نكيره على من فعل ذلك، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال في مرض موته: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد، قالت: يحذر ما صنعوا، ولو لا ذلك أبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً)) متفق عليه. وقد وقع ما أخبر عنه رسول الله ، فأقام بعض المسلمين المزارات للأولياء وبنوا عليها القباب والمشاهد والمساجد واتخذوها أماكن عبادة، وكل هذا من مظاهر موالاة المشركين.
ومن مظاهر موالاة المشركين تنحية شرع الله وتحكيم القانون الوضعي اللعين والدستور الكفري المستبين اقتداء باليهود والنصارى والمشركين والله سبحانه وتعالى يقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة].
ومن مظاهر موالاة المشركين أيضاً الاعجاب بالكفار وتقليدهم في الملبس والمظهر والتزين بزيهم ورسوله الله يقول: ((ومن تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي هريرة.
ومن مظاهر موالاة المشركين أيضاً: الاحتفال بأعيادهم، والعيد مظهر ديني كما قال تعالى: لكل أمة جعلنا منسكاً [الحج]. أي عيداً، فنحن معشر المسلمين لا عيد لنا إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، أما الأعياد التي تسمى بأعياد الثورة والأعياد الوطنية ونحوها فكلها من مظاهر التشبه بالكفار، ولا يجوز الاحتفال بتلك الأعياد، وقد وصف الله سبحانه وتعالى عباد الرحمن بقوله: والذين لا يشهدون الزور إذا مروا باللغو مروا كراماً [الفرقان].
قال مجاهد وقتادة (لا يشهدون الزور) أي لا يحضرون أعياد الكفار. وذلك أن الأحتفال بأعيادهم من مظاهر موالاتهم، وهو يخدش في أصول الدين والتوحيد والإيمان، والمحتفلون بأعياد الكفار معجبون بهم، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الإعجاب بالكفار فقال تعالى: ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [التوبة].
فالواجب على المسلم أن يحذر ذلك ويتعاهد إيمانه ويجرد التوحيد لله ويوالي في الله ويعادي في الله ويحب في الله ويبغض في الله.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا في ديننا ويجنبنا الزيغ والزلل والضلال وادعوا الله استغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن اتباع اليهود والنصارى والاقتداء بهم في العادات والتقاليد أمر شائع بين المسلمين، وهو مظهر من مظاهر موالاتهم التي نهينا عنها، فنرى اليهود موجة عارمة من مظاهر الاقتداء باليهود والنصارى في في الأكل والمشرب وفي الملبس والمظهر، وهذا يهدد شخصية المسلم بالمسخ ويجعلها معجبة بالكفار، وهذا الإعجاب يؤدي بالمسلمين إلى الميل إليهم ظاهراً. والميل ظاهراً سيؤول بالمسلمين إلى الميل إليهم باطناً، وهذا أمر معلوم لمن وفقه الله لذلك الفهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيها المسلمون: شتان بيننا وبين أصحاب رسول الله الذين اعتزوا بهذا الدين وحده فلم يتشبهوا باليهود والنصارى، لا في النقير ولا في القطمير، بل كانوا يخالفونهم تديناً كما كان رسول الله يعجبه مخالفتهم في كل شيء قطعاً لذريعة الفساد وحسماً لمادة الشر، وبهذه التربية الإيمانية التي تلقوها عن رسول الله تشبعوا بروح العزة الإيمانية فلم يعجبوا بالكفار بل كانوا ينظرون إليهم نظرة احتقار وازدراء لا نظرة إعجاب وإجلال ممتثلين قوله تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [آل عمران].
ولنأخذ موقفاً من تلك المواقف المشرفة التي سجلها لنا التاريخ الإسلام بأحرف من نور. موقف ربعي بن عامر مع قائد الجيش الفارسي رستم، لما قال رستم لربعي: ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوغ بديارنا قال ربعي: الله اتبعثنا لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. ثم التفت إلى يمين رستم وإلى شماله فرأى جيشاً مصطفا راكعاً خاعاً ذليلاً مهاناً فقال: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، وما أرى والله قوماً أسفه منكم، إننا معاشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضاً، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض. فالتفت الدهماء إلى بعضهم البعض يتهامسون وهم يقولون: صدق والله العربي. أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته حتى قال أحد أفراد بلاط رستم: لقد رمى هذا العربي بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه.
إنها عزة الإسلام وكرامة الإيمان.
هذا هو الفارق بيننا وبين أولئك.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المحارب
إن الواجب على المسلمين أن يقتدوا بنبيهم ويتمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم ويوالوا في الله ويعادوا فيه ويحبوا في الله ويبغضوا فيه، ولا يعجبوا بالكفار ولا يقتدوا بهم، فإن ذلك مما يناقض التوحيد والإيمان.
والأمة الإسلامية ما ذلت ولا هانت إلا حين اتبعت أبناء القردة والخنازير وتشبهت بهم في الهدي الظاهر والباطن، حتى أصبح المسلم ضعيف الإرادة ذليلاً مهاناً محتقراً من علوج الروم وأبناء المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى.
فيا عباد الله: لا عزلنا إلا بالإسلام، ولا كرامة لنا إلا بهذا الدين، فإن عزنا وكرامتنا إنما يكون بالإسلام لا بغيره، فنقول كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله أذلنا الله)،
فالحذر الحذر من مشابهة اليهود والنصارى وإياك إياك أن تتشبه بهم في ما يسمى بالموضة وفي العادات والتقاليد واستمسك بدين الله الذي فيه الخير والهداية لك، واعلم بأن الواجب علينا التأسي برسول الله والاقتداء به وبسنته القولية والعملية ثم التأسي بسيرة السلف الصالح صحابة رسول الله واتباعهم وتابعيهم وأئمة الهدى في الدين ممن أنعم الله عليهم في الدارين من قال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً [الأحزاب].
فتشبهوا ام إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
جعلنا الله من المتمسكين بدين الحق والمتبعين صراط الله المستقيم المعرضين عن منهج اليهود والنصارى آمين.
(1/1082)
حكم الاحتفال بعيد رجب
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
28/6/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجبوب اتباع الرسول. 2- التحذير من البدع. 3- بدعة صيام أول جمعة من رجب
وبدعة صلاة الرغائب. 4- بدعة صلاة أم داود. 5- أعياد المسلمين الشرعية. 6- بطلان قول
من قال إن اسلام أهل اليمن كان في أول جمعة من رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بالمحافظة على السنة والدعوة إليها، وحث على اتباع رسوله ، وأمر به وأوجبه فقال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [الحشر:7]. وجعل الله سبحانه وتعالى الفوز بمحبته عز وجل إنما ينال باتباع رسوله قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران:31-32].
قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى -: (ادعى أقوام محبة الله فابتلاهم أو قال فامتحنهم بهذه الآية: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني.. الآية.
ونفى الله الإيمان عن من لم يحكم رسول الله ولم يرض بحكمه فقال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [النساء:65]. وجعل الله سبحانه وتعالى الاحتكام إليه وإلى رسوله عند التنازع والاختلاف فقال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً [النساء:59]. قال العلماء: معناه الرد على الكتاب والسنة.
وحذر الله من مخالفة سنته وتوعد المخالف بالفتنة في الدنيا والعذاب الأليم الموجع في الآخرة فقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].
وفي هذا الزمان الذي قل فيه العلم وكثير فيه الجهل وتحكم فيه الرويبضة، ترى انتشار البدع وشيوعها، وتعلق الناس بها حتى ظنوا أنها من دين رسول الله ، وقد حذرنا رسول الله من شر البدع والأحداث في الدين فعن أبي نجيح العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب – أي خافت – وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)) [1].
وقد أحدث الناس بدعاً كثيرة من الأزمنة والأمكنة، ومما أحدثه الناس في زماننا هذا بدعة جمعة رجب فإنه (يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكر في وقت السلف، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة).
وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة السماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم. والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم: النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة، وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة، وإظهار الزينة ونحو ذلك، حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام، وحتى لا يكون له مزية أصلاً. وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلي فيه صلاة تسمى صلاة أم داود فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلاً) [أنظر اقتضاء الصراط المستقيم – شيخ الإسلام ابن تيمية ص292-293].
ويتخذ كثير من الناس أول جمعة في رجب عيداَ زاعمين أنه يوم دخل الإسلام إلى اليمن، ومنهم من يشد الرحل إلى مسجد معاذ بن جبل بالجند معتقدين فضيلة ذلك، وهذه الأمور كلها من البدع المحدثات في الدين التي ليس عليها دليل صحيح صريح يصلح الاحتجاج به، بل إنها من ادّعاءات المدعين ومقالات الأفاكين المبتدعين، وعلى فرض صحة ثبوت أن إسلام أهل اليمن كانت في أول جمعة من رجب – مع أنه لم يثبت ذلك ولم يصح – لا يجوز اتخاذه عيداً، فإننا معشر المسلمين لا عيد لنا إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، وكل عيد سوى هذين العيدين فمن أعياد الجاهليين، فقد أخرج الشيخان في صحيحهما عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: دخل عليّ أبو بكر، وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتن، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ؟ وذلك يوم عيد. فقال رسول الله : ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)) وفي رواية: ((يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم)) وفي الصحيحين أيضاً أنه قال: ((دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى)). وهذا الحديث يدل على أمور [2] : أحدهما: قوله : ((إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)) يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم.
فكما أن للمشركين أعيادهم التي يختصون بها فلا نشركهم فيها فكذلك نحن لنا أعيادنا الخاصة التي يشاركوننا فيها، فاللام تقتضي الاختصاص.
الثاني: وهذا عيدنا يفيد حصر أعيادنا في يومين (عيد الفطر وعيد الأضحى) فليس لنا عيد سواهما.
الثالث: إن قوله : ((وإن عيدنا هذا اليوم)) تقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصراً في جنس يومي عيد الفطر والأضحى، فإن التعريف بالألف واللام والإضافة يفيد الإستغراق.
الرابع: قوله : ((وإن هذا اليوم)) أي جنس هذا اليوم إشارة إلى جنس الشروع من الأعياد لا حصر العيد في ذلك اليوم الذي كان في عهده.
وعليه فإن القول بأن إسلام أهل اليمن كان في أول جمعة من رجب زعم باطل لا دليل عليه، ولو ثبتت فليس فيه حجة لاتخاذه عيداً، وأما تخصيص مسجد معاذ بن جبل شد الرحل فبدعة أخرى يضاف إلى بدعية اتخاذ ذلك اليوم عيداً واجتماعاً، فإن شد الرحل لا يجوز شرعاً إلا إلى المساجد الثلاثة كما جاء في الحديث الصحيح أنه قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)).
فشد الرحل إلى مسجد معاذ بن جبل في أول جمعة من شهر رجب بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم إن الادعاء بأن هذا المسجد المذكور بناه معاذ بن جبل يحتاج إلى دليل صحيح ولم يصل إلينا من طريق صحيحة بأسانيد صحيحة أن معاذاً بنى ذلك المسجد، وعلى فرض ثبوته فليس فيه دليل على جواز شد الرحال إليه فإن كثيراً من الصحابة هاجروا إلى سائر البلدان والأمصار وبنوا فيها مساجد ولم يكن ذلك مدعاة لشد الرحال إليها.
فالواجب على المسلمين العمل في السنة واجتناب البدعة تحقيقاً للمتابعة وتجريداً للتوحيد.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتوفاناعلى التوحيد والإيمان ويجنبنا طرق أهل الأهواء والبدع إنه على ما يشاء قدير، ادعوا الله واستغفروه.
[1] رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[2] انظر الاقتضاء لشيخ الإسلام ص294.
_________
الخطبة الثانية
_________
فإن البدعة والإحداث في الدين أصل كل شر وبلية في الدين، وكلما بعد العهد وتقادم الزمان كلما ظهرت البدع وانتشرت على مدار الدهور والأزمان. فالواجب على المسلم أن يتبع السنة ولا يبتدع في دينه، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والبدعة شر لا تأتي بخير أبداً.
واعلموا عباد الله: أن من طاعة رسول الله ومحبته وتعظيمه وتوقيره اتباع سنته، فمن اتبع سنته كان مطيعاً له، ومن أطاعه كان مطيعاً لله قال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً [النساء].
فمن لم يتبع سنة رسول الله كانت عاصياً لله، وهو من أهل الوعيد المستوجبين للنار، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [1].
فالامتناع والإباء عن دخول الجنة المراد به الامتناع عن اتباع سنته.
فعليكم بالسنة ودعوا البدعة فإنها تؤدي إلى الفرقة والاختلاف في الدين، فعن ابن مسعود قال: (اتبعوا، ولا تبتدعوا فقد كفيتم).
واعلموا يا عباد الله: أنه ليس رجب فضيلة تذكر سوى أنه من الأشهر الحرم، وأما يفعله بعض الجهلة ممن يعتقد لشهر رجب فضيلة من تخصيص أيامه بصيام أو لياليه بقيام دون سائر شهور السنة فقد ابتدع في الدين، ومن اعتقد أن لأول جمعة منه فضيلة فقد فعل ما لم يثبت عن السلف تعظيمه، ومن اعتقد أول خميس من رجب أو أول ليلة جمعة منه فضيلة خاصة توجب تعظيمه أو تخصيصه بقيام أو صيام أو عيد فقد ابتدع في الدين ما ليس منه كما جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) [2]. ولفظ مسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
فهذه الأمور التي يفعلها الناس كلها من البدع المحدثة في الدين والواجب على العلماء والدعاة إنكارها وبيانها للناس أنها بدعة وليست بشرع، وأن الواجب على الناس، أن يسألوا عن دينهم وأن يستفتوا أهل العلم من أهل السنة والجماعة ويقتدوا بهم لا بغيرهم، فرب عالم هو رأس في البدعة والضلالة والأحداث في الدين لا يجوز سؤاله ولا استفتاؤه، فإن المبتدع مخرج من زمرة العلماء، فالعلماء العاملون بعلمهم هم الذين يرجع إليهم في العلم والافتاء عملاً بقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النمل].
وامتثلوا قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم [الحجرات:1].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في الدين ويعلمنا التأويل وأن ينفعنا بما علمنا وفقهنا ويحبب إلينا الكتاب والسنة والعمل بهما، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان والأهواء والبدع آمين، آمين.
[1] رواه البخاري.
[2] متفق عليه.
(1/1083)
حرمة قتل النفس المسلمة بغير حق
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
23/5/1420
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الإسلام للضروريات الخمس. 2- القتل بغير حق من كبائر الذنوب. 3- سدّ الذرائع
إلى القتل. 4- ظاهرة التفجيرات في الأماكن العمومية. 5- التحذير من التهاون في حمل
السلاح. 6- وجوب الدية والكفارة في قتل الخطأ. 7- بيان جُرم الذين يثبتون التفجيرات.
8- بيان حقيقة الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن الإسلام حافظ على الكليات الخمس الضرورية وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال ووضع الحدود والقيود التي تحافظ على هذه الضروريات الخمسة، ففي سبيل حفظ الدين تزهق الأنفس المسلمة في الجهاد في سبيل الله، لأن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس والنسل والعقل والمال، ولأجل الحفاظ على النفس حرم قتل النفس المسلمة بغير حق، وأمر بالقصاص في القتل فقال تعالى: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تفلحون [البقرة:179] وعن عبدالله بن مسعود أن رسول الله قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة)) 1 ، فدم المسلم حرام وماله حرام وعرضه حرام، وقد صان الإسلام الدماء والأموال والفروج، ولا يجوز استحلالها الا فيما أحله الله فيه، وأباحه، وقتل المسلم بغير حق من كبائر الذنوب، والقاتل معرض للوعيد، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن قتل النفس بغير حق فقال تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [الأسراء:33].
وحفاظاً على النفس المسلمة البريئة من إزهاقها وقتلها بغير حق نهى رسول الله عن الإشارة الى مسلم بسلاح ولو كان مزاحاً سداً للذريعة، وحسماً لمادة الشر التي قد تفضي إلى القتل، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يشير أحدكم الى أخيه بالسلاح فإنه لايدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)) 2 ، وفي رواية لمسلم قال: قال أبو القاسم : ((من أشار الى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع، وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) ، فاذا كان مجرد الإشارة الى مسلم بالسلاح نهى عنه رسول الله ، وحذر منه ولو كان المشير بالسلاح مازحاً، ولو كان يمازح أخاه من أبيه وأمه، لأنه قد يقع المحذور ولات حين مندم، فكيف بمن يقتل الأنفس البريئة ويروع المسلمين بتفجير المحلات والأسواق العامة، ويستهدف أرواح الأبرياء، فيقتل الأنفس المسلمة بغير حق، فيالها من جريمة نكراء، ويالها من بشاعة تقشعر منها الأبدان، ولقد شاعت في الآونة الأخيرة حوادث القتل والتفجيرات بشكل مخيف، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى القسوة والغلظة التي تملأ قلوب هؤلاء القتلة المجرمين، يقتلون المسلم ولأتفه الأسباب، فقست قلوبهم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة. فأعلموا عباد الله أن المسلم دمه معصوم وماله معصوم، ولا يجوز استباحة دماء المسلمين وأموالهم الا بحقها، بل لايجوز الإشارة الى المسلم بالسلاح، لأن الشيطان قد ينزع في يده فيقتل نفساً بخير حق، فيتحمل الوزر عند الله، ومعنى ينزع أي يرمي فيقع الفساد.
فالإشارة بالسلاح ولو مزاحاً قد يقع من وراءه القتل والفساد فكيف بمن يتعمد قتل المسلم بغير حق فإن من فعل ذلك كان معرضاً لأشد العذاب والعقاب والوعيد قال الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً [النساء:93]. إن الإسلام قد شدد على المسلم في هذا الأمر لخطورته فالناس قد يتهاونون في السلاح من غير مبالاة فيقع المحذور، وكم من حوادث قتل حصلت بسبب إشارة الناس بالسلاح بعضهم الى بعض، أو تعاطيهم السلاح مسلولاً غير مغمود في غمده، فالحذر الحذر يا عباد الله من التهاون في مثل هذه الأمور فإنها قد جرت للمسلمين الويلات والمصائب وأعلموا أن رسول الله ((نهى أن يتعاطى السيف مسلولاً)) 3 ، فتعاطى السلاح دون أن يؤمّن، والتهاون في الإشارة بالسلاح عن طريق المزاح أقل أحواله أنه يؤدي الى جرح المسلم هذا اذا لم يؤدي الى قتله، فاتقوا الله يا عباد الله وامتثلوا لأمر ربكم وتوجيهات نبيكم ترشدوا.
1 - متفق عليه.
2 - متفق عليه.
3 - رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن – عن جابر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن تعظيم الإسلام النفس المسلمة والتشديد في النهي عن قتلها لا يقف عن حدود النهي عن قتل المسلم بغير حق، بل إن الإسلام أوجب الدية والكفارة على قاتل النفس المسلمة خطأ، فقتل الخطأ شرع فيه الإسلام الكفارة والدية، وهو خطأ غير مقصود، تعظيماً لحرمة النفس المسلمة التي صانها الإسلام، ووضع لها القيود للحفاظ عليها، قال الله تعالى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله إلا أن يصدقوا، فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً [النساء:92].
قتل المسلم خطأ يدل على التشديد في حرمة النفس المسلمة فإذا كان الإسلام قد وضع هذه القيود على من قتل مسلماً خطأ فكيف بمن يزهق الأرواح البريئة متعمداً قتل الأنفس المسلمة بغير حق، كيف بمن يزرع القنابل والألغام والمتفجرات فيستهدف الأرواح المسلمة البريئة، فيقتل العشرات ويجرح المئات ويروع الآلاف من المسلمين، كيف بمن يقتل الصغير والمرأة والشيخ العجوز من غير جريرة اقترفوها إنما أشباعاً لنزواته الشيطانية، والأعجب من ذلك أن ترى من لا ضمير له ومن نزعت الرحمة من قلبه يتبنى مثل هذه الأعمال الإجرامية والوحشية البشعة، فما من حادثة تفجير تقع الا وهو يعلن مسئوليته عنها مع أن هذه الحوادث كلها إنما أستهدفت أرواح الأبرياء من المسلمين، إن من يعلن تبنيه لمثل هذه الأعمال الإجرامية إما أن يكون خارجياً يرى رأي الخوارج في إستباحة دماء المسلمين وأموالهم، وإما أن يكون رجلاً أحمق ساذجاً مغفلاً يعتبر تلك الجرائم نوعاً من الجهاد.
فأعلموا يا عباد الله أن معركتنا مع اليهود والنصارى والمشركين والمرتدين. فالمسلم الغيور على دينه هو الذي يرى أن لاعصمة لمال الكافر الحربي ودمه، وأُمر المسلم بمقاتلة المشركين كافة لقوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [التوبة:36]، فاذا وجدت القدرة عند المسلمين واستكملوا الإعداد وكانت بيدهم الشوكة التي تمكنهم من الجهاد في سبيل الله أمروا بمقاتلة من لا يدين بدين الإسلام من الكفار المحاربين ممن يلونهم من المنافقين والمرتدين، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة وأعلموا أن الله مع المتقين [التوبة:123]، ولا يستثنى من ذلك من الكفار إلا الذمى والمعاهد ومن أعطى له الجوار.
أما أن يجعل الإنسان هدفه المسلمين فيستبيح دماءهم وأموالهم وهم يشهدون أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويصومون ويحجون فذلك مما تبرأ منه الإسلام، ونحن براء من ذلك، وقد أثبتت الأحداث والوقائع المؤسفة التي حصلت أن بعض السذج ممن صرح أو أعلن مسئوليته عن تلك الحوادث المؤسفة أنه ليس هو وراءها!! فالعجب أن يعلن إنسان مسئوليته عن قتل الأنفس المسلمة، وهو ليس من تدبيره فأي سذاجة وحماقة أعظم من هذا فأمثال هؤلاء - لست أدري - أيحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فإن كان ذلك كذلك فتلك مصيبة، أم أنهم يتشبعون بما لم يعطوا، فإن كان الأمر على ما وصفنا فليعلموا أن رسول الله يقول: ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) فالمصيبة إذاً أعظم، ثم يعتبرون ذلك نوعاً من الجهاد وهم قد جمعوا في جرائمهم تلك بين قتل الأنفس الزكية المسلمة بغير الحق وبين ترويع المسلمين وإيذائهم وهو منهي عنه قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما أكتسبوا فقد إحتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً [الأحزاب:58] وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر مانهى الله عنه)) 4 ، اللهم إنا نشهدك أننا براء من هذه الأفعال والجرائم ومن أصحابها.
4 - متفق عليه.
(1/1084)
المسلمون في استراليا
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد السلام بن محمد زود
سدني
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من المسئول عن ضياع أبنائنا في استراليا والغرب 2– واقع أبنائنا مُر وسببه ذنوبنا
ومعاصينا 3- نعمة الله لا تدوم إلا بشكرها أي بطاعة الله 4- صور مما صنعه الآباء من معاصي وكبائر 5- انغماس بعض المسلمين بالربا
6- قصة مُرابي 7- وقوع الناس في الكسب الحرام
_________
الخطبة الأولى
_________
من المسؤول عن فساد وضياع أبناء المسلمين في الغرب؟ من المسؤول عن فساد وضياع أبناء المسلمين في الغرب عامة وهنا في استراليا خاصة؟
سؤال هائل وخطير يطرح نفسه اليوم وبقوة على الساحة المحلية، والجميع يريد جوابا؟ من المسؤول إخواني في الله: أهي الدولة؟ أم إعلامها؟ أم مدارسها؟ أم المشايخ والمربين؟ أم الأهل؟
والجواب باختصار: إن الجميع مسؤول، ولنا مع كل طرف من هذه الأطراف وقفة بمشيئة الله تبارك وتعالى، ووقفة اليوم مع الأهل، فأصغوا إليها لعلنا نستفيد منها.
إخواني في الله: إن أبناءنا أغلى ما نملك في حياتنا بعد ديننا، والحرص على صلاحهم وإصلاحهم مطلب شرعي، لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً [التحريم:6]. وتضييع هذا المطلب يؤدي إلى حسارتهم في الدنيا والسؤال عنهم يوم القيامة لقوله : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ...)) متفق عليه من حديث ابن عمر [1].
إن واقع أبناء المسلمين في هذه الديار وغيرها من ديار الكفر، لا شك أنه واقع مرير، بل ومصيبة أصابتنا والله بسب ما كسبت أيدينا، قال الله تعالى يخاطب الناس جميعا مسلمهم وكافرهم: وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ [الشورى:30]. قال ابن كثير رحمه الله: أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب، فإنما هي بسبب سيئات تقدمت لكم وَيَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها، كما قال في آية أخرى وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهَ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]. أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق وَلَكِنْ يُؤَخِرُهُمْ إِلى أجَلٍ مُسَمَّى [فاطر:45]. أي إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذ، ويوفي كل عامل بعمله، فيجازي بالثواب أهل الطاعة، وبالعقاب أهل المعصية.
وبين سبحانه وتعالى في سورة الروم أن ما يصيب العباد من من مصائب إنما هي عقاب منه لهم على بعض ما عملوه من الذنوب والمعاصي، فقال تعالى: ظَهَرَ الفَسَادُ فِيْ البَرِ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أيَدِي النَّاسَ ليُذِيْقَهُم بَعْضَ الذِِي عَمِلُوا [الروم:41]. وبين الحكمة من ذلك فقال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. أي عن المعاصي، إن كانوا أصحاب معاصي، وعن الكفر إن كانوا أهل كفر إن كانوا أهل كفر، كما قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
الأسباب التي أدت إلى فساد الأبناء وضياعهم:
ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى فساد أبناء المسلمين وضياعهم، لا بد من مراجعة ماضيهم، بدءا من أهلهم، وبيتهم، ومدرستهم، ورفاقهم، بالإضافة إلى مأكلهم ومشربهم وملبسهم، ومن خلال ذلك يمكن أن نقف على الأسباب التي أدت إلى ذلك.
إن الناس إخواني في الله: يوم قدموا إلى هذه البلاد، كان منهم الفقير فأغناه الله، والجائع فأطعمه الله، والعُريان فكساه الله، والخائف فأمنه الله، والمطرود المشرد فآواه الله، أعطاهم الله تعالى ما يريدون، وأمنهم مما يخافون، فالمفروض بهم أن يذكروه، وعلى نعمه يشكروه، وبالعبادة يفردوه، امتثالا لأمره تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152].
ولكنهم لم يفعلوا ما أُمروا به، وانكبوا على الدنيا يجمعونها من حلها وحرامها، حتى جاء اليوم الذي ألقت فيه بأبنائهم وفلذات أكبادهم إلى الشوارع، ومن ثم إلى السجون، والله أعلم بالمستقبل ربما إلى التصفيات الجسدية كما حصل لبعضهم.
ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه امتن على قريش أيما امتنان، فأطعمهم بعد أن كانوا جائعين، وأمنهم بعد أن كانوا خائفين، ثم أمرهم بعبادته ليشكروه على نعمه، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]. فمن استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا والآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
أجل سلبهم الأمن والأمان، والأكل والطعام، لأنهم لم يعبدوه ولم يشكروه، بل عصوه وكفروا به. وما حلت الهزيمة بالصحابة رضوان الله عليهم في غزوة أحد، واستشهد منهم سبعين رجلا يومها، إلا بسبب معصية بعض الرماة لأمر من أوامر رسول الله حين أمرهم أن لا ينزلوا عن الجبل فعصوا الأمر ونزلوا باجتهاد منهم، وبعد أن حلت بهم الهزيمة تساءلوا فيما بينهم: كيف أُصبنا بهذا؟ كما قال تعالى عنهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا؟ فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. أي بسبب عصيانكم لرسول الله.
إذاً فالمعاصي يا عباد الله، هي سبب المصائب والخوف والجوع، بل وسبب زوال النعم وحلول النقم، والعياذ بالله تعالى. لذلك: يجب أن نعتبر بهذه الأمثال وهذه الآيات، وأن لا نقابل نعم الله علينا بمعصيته، والوقوع فيما حرم علينا، لئلا يحل بنا ما حل بمن قبلنا، قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43].
والآن إخواني: ما الذي كسبته أيدينا حتى حلَّ بنا وبابنائنا ما حلَّ؟.
والجواب: أن الواقع الذي عاشه أهلنا منذ قدومهم إلى هذه البلاد، والذي لا زلنا نعيشه نحن اليوم هو الذي يكشف لنا عما كسبته أيدينا. ولنبدأ بتحليل المشكلة من البداية:منذ أن قدم الأوائل إلى هذه البلاد ما الذي فعلوه؟
الجواب: باشروا العمل من صبيحة اليوم الثاني بعد وصولهم، بماذا عملوا؟ بما تهيأ لهم من حلال أو حرام. ماذا كانوا يأكلون ويشربون؟ ما يجدونه في المحلات من حلال أو حرام عالمين أو جاهلين، حتى حدثنا بعضهم: أنهم كانوا يشربون البيرة بدل العصير والعياذ بالله.
بعضهم كان يصلي فلما وصل إلى هنا ترك الصلاة. وبعضهم كان يواظب على صلاة الجمعة في المسجد، فلما وصل إلى هذه البلاد وفتح الله عليه الدنيا، أصبح يصليها ظهرا في العمل.
وبعضهم كان يصلي الصلاة على وقتها يوم أن كان عاطلا عن العمل، فلما أقبلت عليه الدنيا ووفقه الله للعمل، انشغل عنها فأصبح يجمعها ويصليها في نهاية النهار عندما يعود إلى بيته، وطبعا بعد خروج وقتها، وقد جاء في الأثر الضعيف: ( أنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني) رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند ضعيف [2].
وبعضهم كان يزكي يوم أن كان فقيرا، فلما أقبلت عليه الدنيا ترك الزكاة وقال متفلسفا: إن ما تأخذه الدولة من ضريبة ( TAX ) (التكس) هي الزكاة بعينها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أما صيامهم: فقد كان القليل منهم يصومون، وبعضهم كان يقرأ في القرآن بل ويحفظ سورا منه، وبعد مرور وقت على بدئه بالعمل انشغل عن القراءة لعدم وجود الوقت الكافي، وربما نسي ما كان يحفظه من كتاب الله لقلة المراجعة.
وبعضهم كان إذا رأى منكرا نهى عنه، فلما وصل إلى هذه الديار، ورأى حياة ومجتمعا غير التي نشأ فيه، ترك ذلك وقال: عجبا للناس في هذه البلاد، كلما أردنا أن ننهى عن منكر قالوا: لا تتعب نفسك، البلد بلد حرية ( free country ) نفعل فيها ما نشاء.
أما الحج فالحمد لله حافظوا عليه، بل وأكثروا منه، حيث إن غالبهم قد حج، وبعضهم يحج كل عام، والقليل منهم لم يحج بعد، نسأل الله أن ييسره لهم. وأما لباس النساء فكان في بداية أمره محتشما، ثم مع مرور الوقت انحسر شيئا فشيئا عن رأسهن وأيديهن وأرجلهن حتى أصبحن كاسيات عاريات كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة [3] أن رسول الله قال: ((صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاَتٌ مَائِلاَتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا)).
وأما البيوت: فلم يكن أحد منهم يفكر في شراء بيت، لأنهم جاءوا لفترة محددة يعملون خلالها ثم يرجعون، بدليل أنهم تركوا نساءهم وأولادهم في بلادهم، لكن لما استمرت أوضاع بلادنا في التدهور، فكروا في الإقامة رسميا في هذه البلاد، فاستدعوا نساءهم وأولادهم فأحضروهم إلى هذه البلاد.
وكان أحدهم يستحيل أن يأكل الربا أو يتعامل به ولو تعرض للموت، وربما كان متزوجا وله أولاد ومع ذلك يسكن مع أهله في بيت واحد، فلما وصل نساؤهم وأولادهم إلى هذه البلاد وجدوا أنهم بحاجة إلى بيت يملكونه، فطرقوا أبواب البنوك فوجدوا الربا أمامهم، فاستعاذوا بالله منها وابتعدوا، بل وأنكروا أشد الإنكار على من تعامل بها، لكن بعد مرور سنوات تأثروا بمن قبلهم، وأقنعوهم بأن الربا حلال في هذه الديار، خاصة لشراء البيت الأول، كما أفتانا الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، أعني مشايخ الضلال في هذه البلاد وخارجها. أخيرا غيَّر المساكين رأيهم في الربا، فوقعوا فيه واشتروا البيت الأول، ثم المطعم الأول، ثم المحل الأول، وهكذا لم يقفوا عند حد، بل تحولوا والعياذ بالله إلى مستهزئين بمن لا زال يقول بحرمة الربا، غافلين أو متغافلين عن الآيات والأحاديث المحرمة للربا، كقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]. وقول جابر بن عبد الله : ((لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ)) رواه مسلم [4]. بل ومقدمين عليها قول من أفتاهم من مشايخ الضلال في الداخل والخارج.
ولا أقول لإخواني: لا تشتروا بيوتا وسيارات ومطاعم ومحلات وابقوا فقراء هكذا، لا بل اشتروا ولو مدينة سدني كلها لكن بالحلال. وقد قال وسيقول أهل الدنيا: إذاً انتظر حتى تجمع المال الحلال وتشتري به بيتا، وقد وُجد أناس قبلك قالوا مثل قولك، ولا زالوا حتى الآن يعيشون بالأجرة لم يحققوا أي مستقبل لهم ولا لأبنائهم، وأنت منهم، نعم أنا منهم، وسأبقى هكذا فقيرا إلى رحمة الله، غنيا عما في أيدي الخلق من حرام، فاللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، ولا تخزنا يوم العرض عليك.
ثم جرَّ الحرام إلى الحرام، كما هي سنة الله القائل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]. قالوا هذا البيت الذي تعبنا فيه ووضعنا فيه أموالنا، لا بد أن نؤمنه في شركات التأمين حتى لا نخسره، فأمنوا عليه بالحرام أيضا.
وأقول للذين يؤمنون مستقبلهم ومستقبل أولادهم: لقد أمنتم مستقبلكم فماذا كانت النتيجة؟ هموم وغموم، ومصائب ومشاكل ومتاعب داخل الأسرة، وداخل البيت لا يعلم بها إلا الله، مشاكل بين الزوج وزوجته، ومشاكل بين الأخ وأخيه، ومشاكل بين الأهل وأبنائهم، ومشاكل بين الأولاد ورفاقهم، ومشاكل بين الأولاد ومجتمعهم، كم من زوج طلق زوجته بسبب الذنوب والمعاصي؟ وكم من زوجة طردت زوجها من البيت بعد أن استدعت الشرطة عليه بسبب بعده أو بعدها عن الدين؟ وكم من ولد عق أباه وأمه، بل وضربهما، بل ربما أرسلهما إلى بيت الرعاية عند الدولة؟ وكم من أب يتمنى أنه لم يرزق بأولاد، وكم من أب يعيش عيشة السجين في قصره، والهم والغم والنكد يحيط به من كل جانب، علما بأنه لا ينقص عليه من أمور الدنيا شيئ، كم وكم لا ينتهي...
أخي في الله: إن الدنيا الدنيئة ليست مستقبل المسلم، إن مستقبل المسلم الحقيقي جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، الجنة هي مستقبل المسلم، والجنة هي دار إقامة المسلم، وفي الجنة منزل المسلم، ونعيم المسلم، وراحة بال المسلم إن شاء الله تعالى، أما الدنيا فوالله ما رضيها الله جزاءً وثوابا لعبده المؤمن، ولم يرضها دار إقامة وقرار لعبده المؤمن، إنما هي دار عبور ومرور، فأمِّن مستقبلك الأخروي عبد الله، واهتم به خيرٌ لك في الدنيا والآخرة. والله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، لأن تسكن العمر كله بالأجرة خير لك من شراء بيت واحد بالحرام، خير من أن تحل عليك لعنة الله، خير من أن تعرِّض نفسك لعذاب الله في القبر، ويوم القيامة حين يقوم أكلة الربا من قبورهم كالسكارى، يقومون ويقعدون وهم في طريقهم إلى جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
والذي يدعو للدهشة والعجب أن حوالي 90 إلى 95 في المائة من أبناء الجالية الإسلامية التي تعيش في هذه البلاد وغيرها من بلاد الغرب، يتعاملون اليوم بالربا بيعا وشراء، بدءا من شراء البيت وانتهاء بما الله به عليم، وهذه ظاهرة خطيرة كانت من الأسباب المباشرة لما آل إليه حال أبنائنا، عرف ذلك من عرف وجهل ذلك من جهل.
أخي في الله: أيا كنت وأينما كنت لا تأمن عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة، ولا تأمن مكر الله فإنه لا يأمن مكرَ الله إلا القوم الخاسرون، ولا تفرح بالحرام فإن الله لا يحب الفرحين، لا تفرح بشراء بيت أو سيارة أو غسالة أو براد أو غير ذلك بالربا، ولا تقل أصبحت أملك بيتا آمناً فيه على نفسي وعيالي، لا والله لن ترى الأمن والأمان النفسي ولا الجسدي في البيت أنت ولا عيالك، أي أمان هذا وقد أعلن الله ورسوله الحرب عليك بعد أن أعلنتها على الله ورسوله، والله ستموت وتترك كل ما اشتريته بالحرام خلف ظهرك، وستسأل عنه وحدك بين يدي ربك، ولن تطول فرحتك به في الدنيا، فضلا عن الخوف والعذاب الذي ينتظرك هناك عند الله تعالى إن لم تتب وترجع إليه، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين: إذا خافني في الدنيا أمنتُه يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفتُه يوم القيامة)) [5].
فبالله عليك هل أنت خائف من ربك؟ لا والله لو كنت خائفا منه ما اشتريت قلما بالربا، فضلا عن شراء بيت لا بل بيوت ومحلات.
قصة رجل تعامل بالربا:
انتبهوا عباد الله، واستيقظوا من هذه الغفلة التي عمت الجميع، إن أحدهم في هذه البلاد اشترى بيتا بالربا منذ خمس وعشرين سنة وسدد ثمنه كاملا، ولم يكتف بذلك بل غره الطمع فاستأجر مطعما بالربا أيضا، وفيه ما فيه من أنواع الطعام حتى لحم الخنزير، ووالله ما هي إلا أشهر معلومات، حتى أعلن إفلاسه وعجزه عن سداد أقساط البنك، فخرج من المطعم صفر اليدين، وللبنك عليه أكثر من 100 ألف دولار، وبيته مرهون للبنك في أي لحظة يبيعه ليستوفي حقه، وها هو يدفع للبنك كل شهر ألفي دولار.
قصة شراء بيت بالربا:
وبعضهم لما وصل إلى هذه الديار أراد أن يجمع مبلغا من المال في وقت قصير ليرجع إلى بلاده ويبني مستقبله هناك، فاتفق مع صهره واشتروا بيتا بالربا، وغرهم ما تعطيه الدولة من مساعدة مجانية قدرها (6) ستة آلاف دولار لمن يشتري البيت الأول، وبعدما انتقلوا إلى البيت بشهر، وإذا بهم يستيقظون ذات صباح على رائحة دخان تخرج من البيت، وإذا بها نار تشتعل فيه، فما عرفوا كيف خرجوا منه سالمين، بعد أن فتحوا النوافذ وبدأوا برمي الأولاد منها وكادوا ينسون واحدا منهم نائما على السرير لولا أن الله قدّر لهم أن يخرجوه، وهكذا خسروا البيت وخسروا معه (38) ألف دولار في شهر واحد، بعدما ظلوا يجمعون بها وقتا طويلا. ومن الآيات العظيمة التي حصلت أن عاد الأهل بعد أيام ليقفوا على أطلال بيت كان بالأمس حلما واليوم أصبح فحما، وإذا بهم يجدون كل شيء قد احترق حتى المصحف وجدوه قد احترق إلا صفحة الربا من آخر سورة النساء، وكان لهذه الحادثة الأكبر في نفوس أصحاب البيت، وغيرهم ممن سمع بقصتهم.
إخواني: هذه بعض القصص، وما عندكم من أخبار عن هذا الموضوع أكثر مما عندنا، وصدق الله العظيم إذ يقول: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276]. أي يذهبه، إما أن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعدمه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى: قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]. وقال تعالى: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ [الأنفال:37]. وقال: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم: 39]. وقال النبي : ((الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلّ)) رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود [6].
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، فأنت تريد بالربا أن يزيد مالك، والله ينقصه لك ويذهبه عنك.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ رَافِعٍ الطَّاطَرِيُّ بَصْرِيٌّ حَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى -رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ- عَنْ فَرُّوخَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّ عُمَرَ رَضِي اللَّه عَنْه -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا فَقَالَ: مَا هَذَا الطَّعَامُ؟ فَقَالُوا: طَعَامٌ جُلِبَ إِلَيْنَا، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ وَفِيمَنْ جَلَبَهُ، قِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ، -والاحتكار: إمساك السلعة وعدم بيعها حتى يرتفع سعرها- قَالَ: وَمَنِ احْتَكَرَهُ؟ قَالُوا: فَرُّوخُ مَوْلَى عُثْمَانَ، وَفُلاَنٌ مَوْلَى عُمَرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالاَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ، فَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالإْفْلاَسِ أَوْ بِجُذَامٍ)) فَقَالَ فَرُّوخُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أَعُودَ فِي طَعَامٍ أَبَدًا، وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ: إِنَّمَا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ، قَالَ أَبُو يَحْيَى -راوي القصة- فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا [7]. والجذام: مرض تتساقط منه أطراف الجسم.
فاللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة. لذلك أتوجه بهذا النداء القرآني، لكل أخ مقيم على الربا والتعامل به: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة:278].
ومن أصرَّ على التعامل بالربا بعدما جاءته موعظة الله عز وجل في هذه الآية الكريمة، فسينتقم الله منه في الدنيا والآخرة كما قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. [البقرة:279]. وكما قال أيضا: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] البخاري (893) ، مسلم (1829).
[2] عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد : كتاب الصلاة – باب في المحافظة على الصلاة لوقتها (1677). وقال: وفيه عباد بن كثير، وقد أجمعوا على ضعفه.
[3] صحيح مسلم (2128).
[4] الصحيح (1598).
[5] حلية الأولياء لأبي نعيم (6/98)، نقلا عن السلسلة الصحيحة للألباني (742)، وصحيح الجامع (4332).
[6] المسند (1/395)، وقال احمد شاكر في تعليقه على المسند: إسناده صحيح. رقم (3754).
[7] المسند (1/21)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. رقم (135).
_________
الخطبة الثانية
_________
إخواني في الله: بعد سماع ما تقدم أظن أننا أدركنا شيئا من معنى قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30].
ولعلنا عرفنا أيضا أسباب المصائب والأمراض التي تصاب بها الشعوب والأمم والأفراد.
كم من شاب طلب من زوجته خلع الحجاب ولبس القصير من الثياب!! وكم من أم أمرت ابنتها بذلك أيضا عسى أن يراها الشباب فيطلبون يدها.
وكم من إنسان دخل سلك التجارة وأصبح يبيع ويشتري الحلال والحرام في محله حتى البيرة ولحم الخنزير، بحجة أن التجارة في المحل لا تمشي إلا ببيع ذلك. وكم من مسلم يعمل في هذه المحلات بحجة أنهم لم يجدوا عملا في غيرها.
وكم من أم تذهب إلى المحل فتشتري ما هب ودبَّ من أنواع الطعام والشراب بدون أن تبحث عن الحلال من الحرام، ولو قيل لها هذا حرام يا أختنا، لرأيتها تغضب وتنظر إليك من أعلى إلى أسفل قائلة: كل شيء عندكم حرام حتى هذا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة المسلمون: أصبح مطعمنا حراما، ومشربنا حراما، وملبسنا حراما، ومسكننا حراما، وغذينا بالحرام، فبالله عليكم كيف يستجيب الله لنا؟ وقد ذكر النبي الرجل أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له [1] ، أنى يستجاب لهذا وقد أغلق أبواب استجابة الدعاء كلها، أو كيف نسأل الله الجنة؟ ورسول الله يقول: ((وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) [2].
وأخيرا: بعضهم منذ أن وصل إلى هذه الديار وهو لا زال يعمل حتى الآن، وقد جاوز عمره الخمسين أو الستين، ولو سألت عنه: أين هو الآن الآن في هذا اليوم المبارك؟ لقيل لك بكل صراحة: هو في المصنع أو المحل أو السوق، ولو حضر المسجد تراه ينام بسرعة لكثرة الإرهاق والتعب.
بالله عليكم مثل هذا وغيره ممن سبق ذكرهم من الآباء والأمهات، ماذا قدموا لأنفسهم في آخر حياتهم؟ هل تفرغوا لعبادة ربهم القادمين عليه، والإكثار من ذكره بالأعمال الصالحة، والتوبة إليه من جميع الذنوب والآثام التي ارتكبوها في حق أنفسهم أولا وحق أولادهم ثانيا، والله عز وجل يقول: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:14-15].
مثل هذا يجب أن يقضي ما تبقى من عمره بين أولاده وأولاد أولاده، يعلمهم آية من كتاب الله، وحديثا من أحاديث رسول الله r ، عله ينتفع بهم بعد موته، فقد قال : ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: وذكر منها:... أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم عن أبي هريرة [3].
وإلا فبالله عليك من سيدعو لك؟ ومن سيترحم عليك بعد وفاتك يا مسكين؟ من سيحج عنك إن لم تكن قد حججت بعد؟ من سيتصدق عنك؟ محلك التجاري الذي أسسته بالحرام؟ أم بيتك الذي اشتريته بالربا؟ أم مطعمك الذي بعت فيه الحلال والحرام؟.
مثل هذا الصنف من الرجال: ماذا قدموا للإسلام؟ كم مسجدا أو مصلى بنوه لله أو ساهموا في بنائه؟ كم يتيما أو أرملة كفلوا؟ كم داعية إلى الله فّرغوا؟ كم جزءا من كتاب الله وحديثا من أحاديث رسول الله حفظوا ولأبنائهم حفَّظوا؟
إسمع أخا الإسلام: ما قلت لك الذي سمعتَه إلا من باب النصح والتبليغ والتذكير وأداء الأمانة، وإلا فكلنا ذو خطأ، وكلنا أصحاب معاصي بحاجة إلى رحمة الله، ولا خير فينا إن لم نقل ذلك ونذكر به، ولا خير فيكم إن لم تسمعوا وتنتفعوا بما سمعتم، وإلا فليسمع الجميع قول الله تعالى في بيان من هو الخاسر حقيقة يوم القيامة: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
عبد الله ماذا ستقول غدا لربك وقد قصَّرت في حقه وحق رسوله وحق نفسك وزوجتك. أما أولادك وما قدمته لهم طيلة عمرهم، فله لقاء خاص في الأسبوع القادم بمشيئة الله تبارك وتعالى. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
[1] صحيح مسلم (1015).
[2] حلية الأولياء (1/31) بهذا اللفظ، ورواه أحمد والحكم وغيرهما بنحوه.نقلا عن صحيح الجامع (4519).
[3] صحيح مسلم (1631).
(1/1085)
الاستعداد ليوم الرحيل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة زوال الدنيا والتحول عنها ، ووجوب الاستعداد للحساب. 2- سعة علم الله عز وجل
واطلاعه على كل صغيرة وكبيرة ، وانكشاف أمر الإنسان وشهادة جوارحه عليه. 3- كيفية
النجاة والفرار إلى الله:
أ- تحقيقه التقوى وأسبابها. ب- محاسبة النفس. ت- إصلاح القلب وتطهيره من الأمراض
وعلامات ذلك. ج- إصلاح اللسان وبيان خطورته ، وتطهيره بالذكر. د- حفظ الفرج. هـ- إصلاح البطن وصيانتها من الحرام. 4- بيان حقيقة الدنيا ، والحث على الزهد فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون اعلموا أن الدنيا ليست بدار بقاء ولا خلود وإنما أنتم عما قليل منها تظعنون وما هي إلا أيام وعنها ترحلون ثم أنتم بين يدي ربكم تحاسبون فماذا أنتم يومئذ قائلون إذا أبدت لكم الصحف العيوب وشهد عليكم السمع والأبصار والجلود.
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [الكهف:49].
ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا اله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون [فصلت:19-21].
فيا ويح ابن آدم يستخفي من الناس بالمعصية ويغفل عن جلده وسمعه وبصره لا يستتر منها ينسى أنها ستشهد عليه وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن بستعتبوا فما هم من المعتبين.
أهلكتهم غفلتهم عن جلودهم وسمعهم وأبصارهم التي لا تفارقهم والتي لا يفوتها شيء من معاصيهم والتي تشهد عليهم وتفضحهم ووالله إنها لفضيحة كفيلة بأن تنغص على الإنسان دنياه كلها تشهد عليه بين الخلائق وتفضحه بأعماله وأقواله القبيحة وينكشف كذب الإنسان وينكشف ظلمه وينكشف فجوره وتنكشف نواياه ويصبح عاريا من كل شيء العري المعنوي بعد العري الحسي ويخذله الشيطان الذي كان يقاومه في الدنيا ويشجعه على معصية الله ويحثه على المخالفة ويزين له أعماله الخبيثة وأقواله اللئيمة.. وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإني إنهم كانوا خاسرين.
فيا ويل الغافلين ويا ويح المفرطين فالعجب كل العجب ممن يخشى من رقابة البشر الذين ينعسون وينامون ويتغوطون ويبولون وينسون ويغفلون ولا يخشى من رقابة الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم – وهو معهم.. وهو معهم – إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا [النساء:108].
فالحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها ووسع بصره الموجودات جميعها ووسع علمه الأشياء كلها دقها وجلها.. إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما.. فأين تذهبون وإلى أين تفرون.. يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر.. فلا مفر منه إلا إليه فخير لكم أن تفروا إليه من اليوم منيبين إليه معترفين بذنوبكم بين يديه مطهرين نفوسكم وقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم من كل زلل وغي.. ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين.. وتزودوا ليوم المعاد ولا تلهكم دار الغرور والهوان فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء.. كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.. فأعدوا ليوم الدين عدته ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بغيته فإن المولى جل وعلا أبى أن يكون الفوز إلا لأهل التقوى الذين حصلوا طرقها وأسبابها فوعدهم ووعده الحق بقوله: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [مريم:72]. وقال عز وجل: إن للمتقين مفازا [النبأ:31]. وقال سبحانه: ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور:52]. من التقوى أن يستعد العبد ليوم البعث والنشور فالتقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل.
فلا يكن استعدادكم ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان فإن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه لقلة يقينهم بلقائه ووقوفهم بين يديه في انتظار ثوابه أو عقابه فقادتهم غفلتهم عن وقفة الحساب إلى الاستمرار في المخالفة والعصيان والتمادي في التفريط والإهمال لا يذكرون عن مقامم بين يدي الله الملك الديان ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [المطففين:4-6]. فيقومون في رشحهم وعرقهم وهولهم ورعبهم وغمهم وكربهم وبؤسهم ونكدهم خمسين ألف سنة في انتظار فصل القضاء والقصاص بينهم في محكمة الله العادلة لا يخاف فيها المؤمن ظلما ولا هضما ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [الأنبياء:47]. فالعاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لذلك اليوم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18]. خبير بأعمالكم خبير بأقوالكم خبير بمشاعركم وما تكنه قلوبكم وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [النمل:74-75].
فهل أصلحت قلبك استعدادا للقاء الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89]. هل طهرت قلبك من الشك والرياء هل طهرته من الظنون ومن التعلق بغير الله أو التوكل على غير الله هل طهرته من خوف ما سوى الله هل طهرته من كل محبة سوى محبة الله والحب في الله هل طهرته من أمراض الحقد والحسد والغل لإخوانك المسلمين والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر:10]. فأصحاب الجنة هم أصحاب القلوب السليمة الهينون اللينون وقد أتاكم من مقال نبيكم صلى الله عليه وسلم قوله: ((يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير)) [1] وقال يزيد بن أسد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتحب الجنة؟)) قلت: نعم قال: ((فأحب لأخيك ما تحبه لنفسك)) [2] فكونوا من أهل الإيمان الصادقين الذين سلمت قلوبهم لله وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين فيحبون لهم ما يحبون لأنفسهم ويظنون بهم الخير ولا يظنون بهم السوء فكونوا أيها المسلمون من أهل القلوب السليمة قابلوا الإساءة بالإحسان والخطيئة بالغفران والغلظة بالرفق والجهل بالحلم والعبوس بالابتسامة ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [فصلت:34]. وليس ذلك ضعفا كما يظن الجهال المتكبرون وليس ذلك نفاقا أو كذبا كما يزينه الشيطان للمغرورين المفتونين وإنما هي منزلة عظيمة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ والصابرون من الرجال وأصحاب النفوس العالية الصابرة وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [فصلت:35]. ولا يخدعنكم الشيطان الذي يكره الخير للمسلمين فيصور لهم العفو ضعفا وحسن المعاملة ومقابلة الإساءة بالإحسان نفاقا وعجزا ليغري المسلمين ببعضهم بعضا فالمبادرة عباد الله فوتوا عليه غرضه وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم [الإسراء:53]. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء [المائدة:91]. إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم فانتبهوا عباد الله وأصلحوا قلوبكم فصلاح القلب هو أول عمل تستعدون به لمفارقة هذه الدار دار الغموم والأسقام وغدا ترحلون عنها إلى دار بقاء بلا زوال ودار نعيم بلا هوان ووالله لو صلحت القلوب لصلحت الأقوال والأعمال ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) [3].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] أخرجه مسلم ح (2840).
[2] أخرجه أحمد في المسند (4/70) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/186) ، ورجاله ثقات ، وانظر الفتح الرباني للبنا (19/68).
[3] أخرجه البخاري ح (52).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله قاهر المتجبرين وناصر المستضعفين وقيوم السماوات والأرضين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ذل لكبريائه جبابرة السلاطين وبطل أمام قدرته كيد الكائدين قضى قضاءه كما شاءه على الخاطئين وسبق اختياره من اختاره من العالمين فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين ولولا ذلك ما امتلأت النار من المجرمين ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [السجدة:13]. تلك حكمته سبحانه وهو حكم الحاكين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله العبد الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وسلم وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن الاستعداد ليوم الرحيل بعد إصلاح القلب إصلاح اللسان ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:16-18]. فإن الرجل ليتكلم الكلمة لا يلقي لها بالا يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ومن تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق وعاد بالهم والبؤس وأكثر الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم كلاما فيما لا يعنيهم قال الحسن رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانا من الله عز وجل والعناية المرادة لا يحددها هوى النفس والقلب وإنما الذي يحددها هو حكم الشرع.
فلا تطلق لسانك في كلام يجر عليك أحقابا وحوبا
ولا يبرح لسانك كل وقت بذكر الله ريانا رطيبا
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن شرائع الإيمان قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله تعالى)) [1] ففي ذكر الله شغل لك يكفيك عن الكلام فيما لا ينفعك ويكفيك من الغيبة والنميمة ومن الفحش والسباب ومن اللغو والكذب قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون [المؤمنون:1-5]. فمصدر الخطر العظيم على الإنسان فرجه ولسانه فهما أكثر ما يدخل الناس النار ووالله كم عاقل لبيب قل عقله بسبب الشهوة وكم من عابد افتتن وسقط وخاب سعيه بسبب الشهوة فكلنا يحتاج إلى وقاية من هذه المهالك العظيمة فلسنا ملائكة بل كلنا بشر فينا الشهوة وفينا الضعف وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. نسأل الله السلام والعافية.
فغض عن المحارم منك طرفا طموحا يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
ثم لا بد من إصلاح البطن وصيانتها عن أي لقمة حرام أو أكلة حرام ولا يتم ذلك إلا بالأكل من الطيبات وتطهير المال من الحرام والشبهات ولا تقع في الحمق والغفلة كالذي يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام ومأكله حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك أنى يستجاب له وقد أعمته الدنيا فاكتسب في تحصيلها الذنوب والآثام ولم يرع حق من أنعم عليه ورعاه
نحن ندعو الإله في كل كرب ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابة لدعاء قد سددنا طريقها بالذنوب
فالدنيا لا تستحق من الاهتمام ذلك القدر الذي يوقع الإنسان في المعاصي والمحرمات.
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعد نفسك من أهل القبور وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك فإن لكم أيها المسلمون بيوتا تتوجهون إليها غير هذه الدار فاعبروها ولا تعمروها يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار [غافر:39]. فمن ذا الذي يبني على موج البحر نارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا فإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل ولا تنسوا أن الدنيا حرامها عقاب وحلالها حساب وهي والله ليست بدار قراركم كتب الله عليها الفناء وكتب الله على أهلها منها الظعن فكم من عامر موثق عما قليل يخرب وكم من قليل مغتبط عما قليل يظعن فاحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى فالعجب كل العجب ممن الدنيا مولية عنه والآخرة مقبلة عليه يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة فوالذي نفسي بيده إن أحدكم لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ويصبح في أهل الآخرة فكم من مستقبل ليوم لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لا يدركه.
وما أدري وإن أملت عمرا لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر أن كل صباح يوم وعمرك فيه أقصر منه أمس
فلا يدعوك ما انت فيه من زهرة الدنيا وزينتها إلى الابتهاج بها والغفلة عم بعدها وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع [الرعد:26].
فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما آن لك أن تتوبا
ألا فاقلع وتب واجهد فإنا رأينا كل مجتهد مصيبا
وأقبل صادقا في العزم واقصد جنابا للمنيب له رحيبا
وكن للصالحين أخا وخلا وكن في هذه الدنيا غريبا
وكن عن كل فاحشة جبانا وكن في الخير مقداما نجيبا
ولاحظ زينة الدنيا ببغض تكن عبدا إلى المولى حبيبا
فمن يخبر زخارفها يجدها مخالبة لطالبها خلوبا
وغض عن المحارم منك طرفا طموحا يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجده في قلبه روحا وطيبا
ولا تطلق لسانك في كلام يجر عليك أحقابا وحوبا
ولا يبرح لسانك كل وقت بذكر الله ريانا رطيبا
وصل إذا الدجى أرخى سدولا ولا تضجر به وتكن هيوبا
تجد أنسا إذا أودعت قبرا وفارقت المعاشر والنسيبا
وصم ما تستطيع تجده ريا إذا قمت ظمآنا سغيبا
وكن متصدقا سرا وجهرا ولا تبخل به وكن سمحا رهوبا
تجد ما قدمت يداك ظلا إذا ما اشتد بالناس الكروبا
و كن حسن السجايا وذا حياء طليق الوجه لا شكسا غضوبا
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة امرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
[1] صحيح ، أخرجه أحمد (4/188 ، 190) ، والترمذي (3375) وقال : حسن غريب ، وابن ماجة (3793).
(1/1086)
حق الرسول صلى الله عليه وسلم والتحذير من الغلو فيه
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الاتباع, البدع والمحدثات
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من محبة الصحابة للنبي. 2- تحذير النبي من الغلو فيه. 3- من حقوق النبي
علينا اتباعه والإيمان به. 4- محبة النبي وتوقيره وتعزيزه. 5- الصلاة على النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فقد بلغت محبته ومكانته عليه الصلاة والسلام في قلوب أصحابه الغاية القصوى من المحبة والمنزلة التي تجوز لبشر، وقد شهد بهذه الحقيقة المشركون أنفسهم.
فهذا أبو سفيان، وقد كان مشركا يسأل زيد بن الدثنة وقد أتوا به ليقتلوه: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن مكانك نضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي!! فقال أبو سفيان للملأ من حوله: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا!!
وفي غزوة أحد حين انكشف المسلمون وتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لخطر شديد وقد أحاط به المشركون يريدون قتله عليه الصلاة والسلام حتى شجت جبهته الشريفة وأصيبت رباعيته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته في هذه اللحظات العصيبة لم يكن أحد من أصحابه الكرام يفكر إلا في شيء واحد ألا يصل إليه عليه الصلاة والسلام أذى، فأحاطوا به بأجسادهم يصدون بها عنه الرماح وضربات السيوف.
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد: انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه فقلت: كن طلحة فداك أبي وأمي. كن طلحة فداك أبي وأمي. فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بن يديه صريعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دونكم أخاكم فقد أوجب)).
وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: ناشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذه فجعل ينضضه حتى استله ندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دونكم أخاكم فقد أوجب)) قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضع عشر ضربة.
فلما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء أم في الأموات)) فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأموات أنت أم في الأحياء؟ قال: أنا في الأموات فأبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبينا عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله إن خلص لنبيكم وفيكم عين تطرف.. والأمثلة غير ذلك كثير.
ولكن بالرغم من كل هذه المحبة والإجلال والمكانة العظيمة له عليه الصلاة والسلام في قلوب صحابته الكرام فإنهم لم ينزلوه فوق منزلته صلى الله عليه وسلم ولم ينسبوا إليه شيئا من خصائص الألوهية.. كما يفعل كثير من الناس اليوم، قادهم إلى ذلك الغلو الذي حذرهم منه عليه الصلاة والسلام فقال: ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه]. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله)).
وهذه مسألة من المسائل العظيمة زلت فيها أقدام كثير من الناس فينبغي على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه وعبده لا يجوز هذه المنزلة وهو سيد ولد آدم والشافع لهم يوم الحشر بإذن الله كما قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)) فكون الرسول بشرا لا ينقص من قدره ولا يجعلنا نرفض الاقتداء به كما قال المشركون: أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر بل إن بشريته هي التي تجعل منه القدوة التي نقتدي بها والأسوة التي نتأساها لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كما أمر وتحمل في سبيل ذلك صنوف الأذى والإضطهاد وكابد المشقات حتى نصره الله وبلغ دينه، وله في ذلك بكل مسلم أجر، وله على كل مسلم حق.
فما هو حق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته؟ أهو إطراؤه وقد نهى عنه؟ أم هو المدائح وفيها من الغلو الشيء الكثير؟ أم هو صرف شيء من العبادة إليه كالاستشفاع والإغاثة ودعائه من دون الله؟
والجواب أنها ليست شيئا من ذلك بل هذا يناقض أمره صلى الله عليه وسلم وقد نهى عنه أشد النهي إذن، ما هي حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته؟ يمكن أن نجمل هذه الحقوق في أربعة أمور:
الأول: تصديقه والإيمان به واتباع سنته وطاعته.
الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم ومحبة سنته ومحبة ما يحبه.
الثالث: توقيره وتعزيره.
الرابع: الصلاة والسلام عليه.
ونعرض لهذه الأمور بشيء من التفصيل:
الأمر الأول: وهو تصديقه عليه الصلاة والسلام والإيمان به واتباع سنته وطاعته :
وهذا هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله قال تعالى: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا ً وقد أمر الله عباده بطاعة نبيه فقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)).
وقد أمر الله عباده المؤمنين باتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، وجعل ذلك شرط محبته عز وجل ودليلها فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وقال: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ، ولا يتحقق إيمان أحد حتى يقبل حكمه ويسلم لقضائه ويرضى بأمره فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً.
وحذر من مخالفته والخروج عن أمره فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أو تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وقال: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً.
الأمر الثاني وهو محبته صلى الله عليه وسلم:
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الشيخان: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) وأخرجا عن أنس أيضا: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)) فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر)).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ((ما أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله قال: ((أنت مع من أحببت)).
ولمحبته صلى الله عليه وسلم علامات منها الاقتداء به وإيثار شرعه وتقديمه على أهواء النفس وذكره بالصلاة عليه كما شرع ومحبة أصحابه وما يحبه صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: وهو تعزيره وتوقيره وتعظيم أمره صلى الله عليه وسلم:
فقد قال تعالى: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعذروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً وروى الإمام مسلم عن عمرو بن العاص قال: (وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه).
وخير تعظيم لرسول الله تعظيم سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وتعظيم أمره ونهيه وعدم تقديم رأي أحد مهما كان على رأيه، لا كما يفعل كثير من الناس اليوم فتقول لهم: قال الرسول.. فيقولون لك: إن الشيخ الفلاني يقول كذا أو الأستاذ فلان يقول كذا أو أخبار اليوم تقول كذا.
وقد أنكر ابن عباس على قوم يقول لهم: قال الله، وقال الرسول، فيقولون: قال أبو بكر وعمر، وحذرهم من أن يحل عليهم عذاب من الله.
وكذلك ما يفعله كثير من العوام وغيرهم ممن ينتسبون إلى الدعوة من السخرية بسنته عليه الصلاة والسلام وممن يحرص عليها في ملبسه وهيئته ومختلف أموره فيسخرون منهم، بل ذلك من أمور الكفر التي اتصف بها المنافقون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه الغر الميامين إلى يوم الدين وبعد:-
فالأمر الرابع من حقوقه عليه الصلاة والسلام هي الصلاة عليه:
لقوله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما والصلاة من الله ثناؤه على أنبيائه، والصلاة من الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء والتعظيم والتكريم.
والصلاة عليه من أعظم الذكر روى الإمام أحمد بن عامر بن ربيعة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي فليقل عبد من ذلك أو ليكثر)) وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) وتتأكد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأعمال منها:-
1- إذا ورد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)).
2- الصلاة عليه في المجالس لقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)).
3- الصلاة عليه عند سماع المؤذن لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه مسلم وغيره: ((إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)).
4- الصلاة عليه عند دخول المسجد والخروج منه وعند المرور بالمساجد فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: ((اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: ((اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك)) ولقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. رواه إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة.
5- الصلاة عليه في التشهد الأخير، وهو ركن من أركان الصلاة أو واجب، وأما الصلاة عليه في التشهد الأول فهي مستحبة.
6- الصلاة عليه في صلاة الجنائز.
7- وتستحب الصلاة عليه عند ختم الدعاء لقول عمر: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك.
8- يوم الجمعة يستحب فيه الإكثار من الصلاة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أفضل أيامكم يوم الجمعة، ففيه خلق آدم وفيه قبض، فيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت – يعني وقد بليت – قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) [رواه احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة].
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه واخلاص العبادة له وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به وألا نفعل شيئاً يشعر بعدم التعظيم والاحترام كرفع الأصوات قرب قبره صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يشفعه فينا، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واسقنا من يديه الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا وصل اللهم وبارك على نبينا محمد كما صليت وباركت على سيدنا لإبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
(1/1087)
حقيقة الصدق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, مكارم الأخلاق
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظروف غزوة تبوك. 2- تخلف المنافقين عن الغزوة واعتذارهم عن ذلك. 3- الصدق في
النية. 4- الصدق في الأقوال ومستلزماته. 5- الصدق في الأمثال. 6- الصدق في مقامات
الدين. 7- علامات الصدق ومظاهره. 8- الأسباب الجالبة للصدق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين هذه الآية من سورة التوبة وهي من أواخر ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري عن البراء قال: آخر آية نزلت: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وآخر سورة نزلت براءة، وكان نزول هذه السورة في أعقاب غزوة مشهورة هي غزوة تبوك.
وكان المسلمون وقتها في عسرة وجدب وضيق وكان زمان حر شديد وبلاء، والناس ينتظرون الثمار التي قد أينعت ويستطيبون البقاء في الظل، فإذا بداعي الجهاد يؤذن للخروج لملاقاة الروم في بلادهم.
وجلى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وأنهم يقصدون الروم في بلادهم على خلاف هديه صلى الله عليه وسلم في الغزوات الأخرى حيث كان يوري بالوجهة التي كان يقصدها حيث يبغت العدو، ولكنه هاهنا أعلمهم بذلك ليأخذوا أهبتهم واستعدادهم لمشاق الطريق.
وتسابق المسلمون في التجهز للغزو والتصدق حتى خرج الجيش ولم يتخلف إلا رجل مغموس في النفاق أو رجل أعذره الله وثلاثة نفر جعلوا يتأخرون ويسوفون الخروج حتى فاتهم الجيش ولم يستطيعوا إدراكه ثم كان من أمرهم عند عودته صلى الله عليه وسلم أن صدقوه الحديث ولم يكذبوا كما فعل المنافقون الذين جاءوا يعتذرون عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة وكان من أمرهم ما قصه الله عز وجل علينا في هذه السورة: وعلى الثلاثة الذين خلفوا إلى قوله: ما كانوا يعملون.
والمتأمل في هذه الآية والمناسبة التي جاءت فيها يلفت انتباهه أمر جدير بأن يقف المرء أمامه ويتفكر فيه جيدا، فهذه الآية خطاب للمؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين، فخرج من ذلك الخطاب: المنافقون.
ثم هؤلاء المؤمنون منهم المهاجرون والأنصار ممن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم من هم في الصدق، ومنهم أيضا الثلاثة الذين تخلفوا وهم أيضا صدقوا ولم يسلكوا مسلك المنافقين في الاعتذار الكاذب، فما الأمر إذن؟! ليست المسألة هي مسألة قول فقط ليكون الإنسان مع الصادقين، بل هناك حقيقة أخرى للصدق هي أعم من كونه مجرد صدق في القول وفقط، نلتمس جزءا من هذه الحقيقة من خلال التأمل في الآيات التي جاءت بعد هذه الآية: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه هذا بعض وصف للصادقين الذين يأمرنا الله عز وجل أن نكون معهم بأنهم هم الذين لا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتخلفون عن نصرته ولا عن دعوته ولا يرغبون بأنفسهم عن نفسه، أوجع تأنيب يمكن أن يؤنب به مؤمن صادق أن يقال له أنه يرغب بنفسه عن مثل ما تعرضت له نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل هذه الدعوة ويؤثرون أنفسهم عن نفسه ويشفقون على أنفسهم أن تلقى شيئا مما لاقته نفسه الحبيبة صلى الله عليه وسلم فإذا كان هذا الخطاب وما يحمله من معان قد خوطب به هؤلاء النفر الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وأمرهم الله عز وجل أن يكونوا مع الصادقين ألا يلفت ذلك انتباهنا نحن للنظر في أنفسنا وحالنا هل نحن حقا مع الصادقين؟!
سؤال جدير أن يوجهه كل واحد منا إلى نفسه، ولكن قبل أن نعجل بالإجابة لنتريث قليلا حتى ندرك أولا حقيقة ذلك الصدق وعلامات أصحابه وصفاتهم الذين أمرنا الله عز وجل أن نكون معهم، فكثر من الناس يظن أن ركن الصدق الوحيد هو صدق اللسان فقط، وهذا الصدق لاشك في أهميته ومنزلته، ولكنه يمثل جانبا فقط من جوانب الصدق، والإنسان لا يبلغ مرتبة الصديقية حتى تتحقق فيه أركانها جميعا، فحقيقة الصدق تشمل صدق النية والإرادة وصدق القول وصدق الأعمال وصدق الأحوال يقول ابن تيمية رحمه الله: ومما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأفعال.
فأما صدق النية والإرادة: فيستلزم أن تكون بواعث الأعمال والسكنات كلها لله عز وجل، وأن يكون الظاهر معبرا عن الباطن، فإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا يدل على عدم الصدق في النية كما قال الله عز وجل في وصفه المنافقين: يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
ومن ذلك حديث الثلاثة أول من تسعر النار بهم يوم القيامة، فإن كل واحد منهم لما خالفت سريرته علانيته قيل له: كذبت لأنه كان كاذبا في نيته وإرادته الباعثة على العمل، فالعالم لما قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قيل له: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: قارئ وكذا الذي قاتل ليقال: شجاع، والمنفق ماله ليقال: كريم، لما كانت بواعث الأعمال في حقيقتها غير وجهه سبحانه قيل لهم: كذبت.
ومن صدق النية: الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه فمن ذلك أن يعاهد الإنسان ربه لئن آتاه مالا ليصدقن أو لئن عافاه الله من مرضه أو نحوه فإنه سيداوم على طاعته ولن يعود إلى معصيته إلى غير ذلك من الوعود والعهود التي يأخذها على نفسه، فإذا كانت هذه العزيمة ضعيفة أو مترددة كان هذا نوعا من الكذب كما وصف الله تعالى المنافقين بذلك فقال: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون فالصدق في العزم يستلزم الوفاء به عند التمكن منه ثم الاستمرار على ذلك الوفاء.
وأما الركن الثاني من أركان الصديقية فهو الصدق في الأقوال:
وهذه المرتبة من الصدق من أعظم المراتب وتكميلها من أعظم الأمور وأشقها على النفس، لكن ليس الصدق منحصرا فيها كما يظن كثير من الناس، وهذا النوع من الصدق يستلزم أمورا ثلاث:
الصدق في نقل الأخبار:
وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يسمع كما قال عليه الصلاة والسلام: ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) وكما قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) ومن ذلك لمز الدعاة والمصلحين وترديد الأباطيل والأراجيف الكاذبة التي يروجها المغرضون والمفسدون بهدف تشويه دعاة الحق الذين يصدعون به ولا يخافون لومة لائم ولا يتزلفون طاغوتا أو ظالما فيرمونهم تارة بالبدعة وأخرى بالضلال وثالثة ورابعة، ويتلقف هذه التهم أناس لا علم لهم ولا تثبت فتلوكها ألسنتهم، وكأنها قضية مسلمة لا مرية فيها، وقد حذر سبحانه من هذا المسلك المنحرف فقال: إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقال الله عز وجل: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلاً قال ابن عباس: أي لا تقل، وقال: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم، وهذا النوع من الصدق في القول يحتم على الصادق أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه جل وعلا كقوله مثلا: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن قلبه إذا كان منصرفا عن الله تعالى مشغولا بأماني الدنيا وشهواته فهو كذب.
الصدق في الوعد والوفاء به:
سواء كان هذا الوعد على مكان معين أو في زمان معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه، فالصدق في القول يستلزم الوفاء بها وعدم إخلافها مهما كانت الظروف، وللأسف الشديد فإن هذا النوع من الصدق في القول لازلنا نفتقده كثيرا في واقعنا وقل من يحرص عليه.
الصدق في الوفاء بالعقود والعهود :
سواء كان عهدا مع الله عز وجل أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع أي أحد فالوفاء بكل ذلك من لوازم الصدق كما أن إخلاف أي منها من لوازم الكذب والنفاق وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون.
فالوفاء بعهد الله عز وجل يقتضي توحيده وإفراده بالعبادة، كما يقتضي التحاكم إلى شرعه وحده والكفر بالطاغوت، وهذا هو مقتضى الصدق في شهادة أن لا إله إلا الله التي يرددها الإنسان بلسانه.
كما أن الوفاء بعهده صلى الله عليه وسلم يقتضي إحياء سنته والذب عنها وتقديم قوله على قول كل أحد، وهذا مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله، فمن أخل بشيء من ذلك المقتضى فهو كاذب في هذه الشهادة كما قال الله عز وجل مكذبا المنافقين عندما قالوا: نشهد إنك لرسول الله فقال: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون.
فلما كان واقعهم يخالف مقتضى هذه الشهادة باطنا وظاهرا، ومن ذلك رفضهم التحاكم إلى شرع الله عز وجل كما قال سبحانه عنهم: ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا وقال سبحانه: ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون.
وأما الوفاء بعهد الناس فقد جعل الشرع إخلافه والغدر فيه من أشد أنواع الكذب بل جعله من أركان النفاق وآيات المنافقين كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان: ((أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهم كانت فيه خصلة من النفاق: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أحمد من حديث أبي هريرة: ((لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعا)).
ولذا كان حرص السلف على الوفاء بالعهد بل بما هو دونه فأخرج الفريابي عن عبد اله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال: انظروا فلانا لرجل من قريش. فإني كنت قلت له في ابنتي قولا يشبه العدة وما أحب أن ألقى الله تعالى بثلث النفاق، وأشهدكم أني قد زوجته.
وأما الركن الثالث فهو الصدق في الأعمال:
وهذا يستلزم أن يجاهد الإنسان نفسه لتكون سريرته وعلانيته واحدة، وألا تدل أعماله الظاهرة على أمر باطن لا يتصف به حقيقة كمن يتظاهر بالخشوع في الظاهر، والقلب ليس كذلك، ولذا كان بعض السلف يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. وقال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور. وقال معاوية بن قرة: من يدلني على بَكاء في الليل بسّام في النهار؟!
وأما الركن الرابع فهو الصدق في مقامات الدين:
وهو كما يقول صاحب الإحياء: أعلى الدرجات وأعزها، وهو صدق أحوال القلب من الصدق والرجاء والحب والتوكل والرضا واليقين وسائر هذه الأمور التي لها مبادئ ينطلق الإسم بظهورها وغايات لمن نال حقيقتها، والناس يتفاوتون فيها تفاوتا عظيما ولنضرب مثلا لأحدها الخوف مثلا: ما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه الاسم، ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة، ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه!! في حين أنه إذا خاف حاكما ظالما أو قاطع طريق فإنه يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه.
انظر إلى أولئك الذين يتخلفون عن الجمعة وعن الصلاة أو ربما لا يصلون بالمرة ألا يزعم كل واحد منهم انه يخاف الله رب العالمين؟! وهذا الذي يفطر في نهار رمضان من غير عذر ألا يزعم أنه يخاف الله رب العالمين؟! وذلك الذي يسرق ويغش ويزني ويرابي ألا يزعم كل واحد منهم أنه يخاف الله رب العالمين؟! وهؤلاء النسوة المتبرجات السافرات الكاسيات العاريات ألا يزعمن أنهن يخفن الله رب العالمين؟! مثال آخر محبة الله عز وجل... كم من مدع لها وهو كاذب في دعواه وواقعه يناقض هذه الدعوة ويكذبها، وقد فضح الله هؤلاء بآية واحدة فقال لهم: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فهذه أخوة الإسلام هي حقيقة الصدق وأركانه، وهي كما رأينا لا تقتصر على مجرد صدق الحديث فحسب وإن كان هذا أحد أركانها، وقد جاء القرآن بما يدل على هذا المعنى في غير آية في وصف الصدق والصادقين، ومن ذلك قوله عز وجل: ليس البر أن تولوا وجهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر وهذا صريح في أن الصدق يكون بالأعمال الظاهرة والباطنة، ومنه قول عز وجل: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ومنه قوله جل وعلا: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون.
ومن علامات الصدق ومظاهره التي يدل تخلفها على ضعف الصدق:
طمأنينة القلب وسكينته:
يقول عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)) ومن مظاهر هذه الطمأنينة الثبات في الشدة والفتنة كما قال الله جل وعلا: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين فالذي يثبت في مواطن الشدة والبأس هم الصادقون وحدهم، أما أهل الكذب والريبة والنفاق فسرعان ما يولون الأدبار وتتناوشهم الظنون والأوهام ويظنون بالله غير الحق كما قال المنافقون لما رأوا الأحزاب قد تكالبوا على المسلمين ليستأصلوهم فقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وكما صور الله حالهم عند المخاوف والشدة: فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت أما أصحاب الصدق ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً.
ومن علاماته أيضا الزهد في الدنيا والاشتغال بالأعمال الصالحة.
وهذا من لوازم صدق التأهب للقاء الله عز وجل، إذ هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية من اليقظة والتوبة والإنابة والزهد والمحبة والرجاء والخشية وسائر أعمال القلوب، فالصادق جعل طاعة ربه قبلة قلبه، ونصب قلبه أين كانت يتوجه إليها إن كان علم وجدته مع أهله أو جهاد وجدته في صف المجاهدين أو صلاة وجدته في القانتين أو ذكر وجدته في الذاكرين أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين يدين بدين العبودية أنى استقلت ركابها، فإن قيل له: ما تريد من الأعمال؟ قال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعتني أو فرقتني، ثم هو مع ذلك حريص أشد الحرص على إخفاء عمله من الخلق كراهة إطلاعهم عليه، وهذا أيضا من علامات الصدق ولذا فقد كان سلفنا أحرص الناس على إخفاء أعمالهم كراهة الشهرة والظهور، فعن بكر بن ماعز قال: ما رؤي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، وكان عمله كله سرا إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه. وقال الحسن: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا.
ثم تجد الصادق على اجتهاده هذا يشعر بالتقصير فيرجع باللوم والإصلاح والمراجعة على نفسه فأخرج أحمد عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: ((لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل))، وفي رواية للترمذي: ((وهم يخافون ألا يتقبل منهم)) ، أولئك يسارعون في الخيرات.
ثم لا تجد الصادق غافلا عن أمر دينه وقضايا أمته بل إن من علامات صدقه أن تجده مهتما بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا من لوازم الانتماء لهذا الدين ومحبة الله عز وجل التي تقتضي من صاحبها ألا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة، وهو يرى الفساد وقد دب في أديان الناس ودماءهم وأعراضهم يقول ابن القيم رحمه الله: أي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبلاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في ماله أو جاهه بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمال مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل.
ثم من أبرز علامات الصدق:-
الصدق في الحديث سواء كان إخبارا عن أمر ماجن أو وعدا بشيء مستقبل.
ومن علامات الصادق كذلك:
قبول الحق والتسليم له:
مهما كان قائله صغيرا أو كبيرا... عدوا أو صديقا.
فهذه حقيقة الصدق وبعض علاماته وصفات أهله، ويمكن الآن لكل منا أن يجيب نفسه عن السؤال الذي وجهناه في أول الكلام هل نحن حقا مع الصادقين؟
فإن كانت الإجابة بنعم فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأله سبحانه الثبات على ذلك، وإن اختلت هذه الحقيقة في نفوسنا فهذه بعض الأسباب الجالبة للصدق، وإذا صدق الإنسان مع نفسه في الأخذ بها وتدبرها فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملا والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين.
الأسباب الجالبة للصدق:
معرفة الصدق وثمرته ومكانة أهلة:
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: وهو منزل القوم الأعظم والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين قال تعالى: ومن يطع الله والرسول.
كما أن الصدق أساس الإيمان وركنه الركين وأساس قبول الطاعات والقربات، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة كما قال سبحانه: ليجزي الله الصادقين بصدقهم وكما قال: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ويقول ابن تيمية رحمه الله: والصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصدق)) كما أن الصدق أساس الخير والبركة والنماء في الأموال والأولاد وكل المعاملات كما قال عليه الصلاة والسلام: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) وكان جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إذا بايع أحدا قال: أعلم يا أخي أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك فاختر.
فقد يتوهم بعض الناس أن ستر الحقائق ودفن الأخطاء والعيوب في التعاملات يدر لهم ربحا ويدفع عنهم شرا، وهذا وهم وسراب، فمثل هذا التاجر كسبه ممحوق بركته حتى تجد كثيرا منهم يتساءل ويعجب أين تذهب أموالنا في حين أن غيرهم ممن يصدق في بيعه يبارك الله له في هذا القليل.
كما أن من ثمرات الصدق:-
تفريج الشدائد وكشف الكربات والنصر على الأعداء:
ومن ذلك الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه... ففرج الله عنهم بصدقهم فخرجوا.
ومن ذلك قصة الذين خلفوا إنما نجوا بالصدق، ولو كذبوا لهلكوا في الدنيا والآخرة كما أخبر سبحانه عن المنافقين.
ثم من أعظم ثمرات الصدق في الدنيا:
حسن الخاتمة:
وما أعظمها من ثمرة لو لم يكن للصدق ثمرة لكفى، فحسن الخاتمة هي التي من أجلها شمر المشمرون، وهي التي أقضت مضاجع الصالحين وأوجلت قلوب العارفين، وهذا حق لا ريب فيه فإن العبد عندما يصدق ويتحرى الصدق فإنه يكتب عند الله صديقا ويوفق إلى قول كلمة الصدق عند موته التي هي شهادة ألا إله إلا الله، التي من كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة، وهذه الكلمة إنما يكون للنطق بها في هذا الموقف هذا الفضل لأنها صدق في ذاتها ولا يوفق إليها إلا صادق، وهو عندما يقولها في هذا الوقت تكون شهادة صدق لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة وانقادت بعد إبائها واستعصائها وأقبلت بعد إعراضها وذلت بعد عزها وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها واستسلمت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته وتجرد فيها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا واستوى سره وعلانيته فقال: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره وشارف القدوم على ربه وخمدت نيران شهوته وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه، وصارت الدنيا وراء ظهره فكانت تلك الشهادة الصادقة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها.
هذه بعض ثمرات الصدق وأهميته ومعرفة ذلك لا شك من الأسباب المهمة الجالبة للصدق
ومن الوسائل الأخرى:
توحيد الله عز وجل ومعرفته سبحانه حق المعرفة:
إذ إن أكثر ما يوقع المرء في الكذب والنفاق هو الخوف من المخلوق أو الطمع فيما عنده أو هو التعلق بغير الله رغبة أو رهبة، فإذا تحقق في القلب التوحيد الحق ومعرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأن الأمر كله بيده لا يملك جلب النفع ودفع الضر إلا هو فإنه عندئذ لا يقع في الكذب أيا كانت بواعثه.
ومن الوسائل الجالبة للصدق:
التخفف من الدنيا وعدم الركون إليها:
فالانغماس في ملذات الدنيا وترفها والركون إليها ينشأ من الغفلة عن الآخرة وتشتت القلب ولذا تجد الكذب وصوره يكثر في مواقع التجار وتعاملاتهم أكثر من غيرهم.
ومن الوسائل الجالبة للصدق أيضا:
تحري الصدق في الحديث:
وتجنب الكذب مهما كانت العواقب، وهذا من أعظم الوسائل كما قال عليه الصلاة والسلام: ((وإن العبد ليصدق ويتحرى الصدق)) ومما يساعد على ذلك أن يحرص الإنسان على عدم الوقوع فيما يعتذر منه إذ أن هذا من الأسباب التي تلجئ إلى الكذب.
ومن الوسائل كذلك:
الإكثار من الدعاء والاستغفار واللجوء إلى الله عز وجل في ذلك:
وهذا من أعظم الأسباب وأنجحها ومن دونه لا يجدي غيرها، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم الذي علمه إياه ربه: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة))
ومنها:
الإجهاد في الطاعات والأعمال الصالحة.
مصاحبة الصالحين والتأسي بهم وقراءة سيرهم:
و إذا ذكر الصدق والصادقين فلابد أن يذكر صديق هذه الأمة الذي جاء بالصدق وصدق به فقد كانت حياته كلها صدقا في إيمانه وإخلاصه وتضحيته ومحبته لله ولرسوله، وبهذا الصدق فاق إيمانه إيمان الأمة كلها.
وإذا ذكر الوفاء بالعهد مع الله فلابد أن يذكر أنس بن النضر لما غاب عن غزوة بدر كبر عليه ذلك وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد كان ذلك يوم الوفاء له، انطلق وهو يقول: واها لريح الجنة إني لأجدها دون أحد. وقاتل حتى قتل، فوجد رضي الله عنه وفي جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، فما عرفته أخته إلا ببنانه، ونزل قوله جل وعلا: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله.
وإذا ذكر صدق النية والعزيمة فلابد أن يذكر البكاءون، وهم الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم معه للغزو فلم يجد ما يحملهم عليه انصرفوا وأعينهم تفيض من الدمع لا لفوات دنيا ولكن لتخلفهم عن الجهاد ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1088)
حقيقة العدل
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العدل حل لكثير من مشاكل مجتمعاتنا. 2- النصوص تأمر بالعدل حتى مع العدو. 3- عدل
المسلمين مع أعدائهم. 4- العدل مع الله عز وجل في توحيده وتنزيهه عن الشريك. 5- العدل
مع العباد. 6- لوازم ومقتضيات للعدل مع الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
حديثنا بمشيئة الله تعالى حول موضوع من الموضوعات الهامة التي بها صلاح العباد والبلاد وعليها قامت السماوات والأرض، وبها صلاح القلوب وتألفها، ألا وهو العدل
إذ إنه من أقوى أسباب الاختلاف والفرقة بين العباد هو الظلم والاعتداء وفقدان العدل والإنصاف، ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل مع نفسه ومع الناس فإن كثيرا من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية ستزول وتحل بإذن الله، وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الخطاء إما الجهل وإما الظلم، والجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط.
والإنسان بطبعه ظلوم جهول كما قال تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً فالأصل فيه عدم العلم والميل إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائما إلى فقه وعلم مفصل يزول به جهله، وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وأكله وشربه ونومه ويقظته وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله وعدل ينافي ظلمه.
وأصل العدل هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب كما أن الظلم فساده، ومن أمارة العدل الحياء والسخاء والهين واللين، وأما تباشيره فالرحمة، وأما بابه فالاعتبار وهو ذكر الموت بتذكر الأموات والاستعداد له بتقديم الأعمال، وأما مفتاحه فالزهد وهو اخذ الحق من كل حد قَبل الحق، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق من غير مصانعة أحد.
وقد أمر الله به عباده في آيات كثيرة من كتابه العزيز وبين محبته لأهله فقال عز وجل: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وقال سبحانه: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً وقال سبحانه مبينا وجوب العدل في كافة الأحوال دون مراعاة لقرابة أو عرف أو غير ذلك من الاعتبارات الأرضية الجاهلية: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كانت بما تعملون خبيرا يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل دون أن تأخذهم في الله لومة لائم شهداء لله أي أدوها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين أي اشهد بالحق ولو عاد ضررها عليك أو على الوالدين والأقربين لا تراعهم فيا إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقر فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
نعم، إنها أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال، والذي يكفل العدل بين الناس والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين، وفي هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأعداء والأصدقاء والأغنياء والفقراء، وليس الأمر مجرد مثاليات نظرية لا تجد سبيلها في التطبيق العملي.. كلا.. وكلنا يعرف موقف عمر رضي الله عنه من القبطي الذي ضربه عبد الله بن عمرو بن العاص.
وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من أحب الخلق إلي ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا اعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
ويبين الله عز وجل محبته لأهل القسط والعدل في آيات كثيرة من كتابه الكريم فقال: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وقال: وإن حكمت فأحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وروى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا)) وروى مسلم كذلك عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم وعفيف متعفف ذو عيال)) وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر أولهم ((إمام عادل)).
ولكن هل للعدل أقسام ولوازم لا يتحقق إلا بها؟ والجواب.. نعم، وحتى تتضح لنا صورة العدل كاملة فإننا نذكر أقسامه ولوازمه، فأقسامه ثلاثة: عدل مع الله، وعدل مع النفس، وعدل مع الخلق ولكل واحد منها لوازمه.
فأما العدل مع الله:
فهو أعظم العدل وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له وهو الحق الذي قامت به السماوات والأرض ومن أجله خلق الله الخلق كما قال سبحانه وتعالى: ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون ويقابل هذا القسم من العدل أعظم الظلم وهو الإشراك بالله عز وجل والكفر به والتحاكم إلى غير شرعه ومنهجه القويم مصداق قوله تعالى: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ومثل قوله سبحانه: الذين آمنوا ولم يلبثوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وقوله عز وجل: والكافرون هم الظالمون.
وأما القسم الثاني من أقسام العدل فهو:
العدل مع النفس:
ويدخل في هذا العدل قيام الإنسان بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها والعمل على خلاصها ونجاتها مما لا تطيقه من عذاب الله وغضبه مصداق قوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ويقابل هذا النوع من العدل ظلم الإنسان لنفسه بترك ما أمر الله به أو بفعل ما حرم الله عز وجل عليه مما هو دون الشرك وما لا يتعدى ضرره إلى غيره إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون وأما القسم الثالث من أقسام العدل فهو:
العدل مع العباد:
وهذا القسم من الأهمية بمكان وهو ثمرة القسمين السابقين، ولا يمكن أن يتحقق هذا القسم أو غيره من الأقسام إلا بتطبيق شرع الله عز وجل واتباع منهجه جل وعلا الذي أمرنا به وبينه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وإلا فلا عدل ولا قسط ولا استقامة وإنما كفر وظلم وفسوق كما قال سبحانه: ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
فحيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر كما لازمه الظلم والتناقض، ظلم الفرد للجماعة أو ظلم الجماعة للفرد أو ظلم طبقة لطبقة أو ظلم أمة لأمة أو ظلم جيل لجيل، وعدل الله عز وجل وحده هو المبرأ من الجهل الهوى والميل لأي من هؤلاء.
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام.
وكما قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
وهذا القسم الأخير من أقسام العدل له لوازم ومقتضيات كثيرة لا يتحقق إلا بها منها:
1- التثبت من الأمر قبل الحكم عليه:
فمن العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة قبل الحكم عليها وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام والله عز وجل يقول: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فالإنسان مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده أمام الله عز وجل، وهي أمانة عظيمة يرتعش لها الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق الإنسان بكلمة، وكلما روى رواية أو أصدر حكما على شخص أو أمر أو حادثة.. ولا تقف ما ليس لك به علم.. لا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين وما لم تتثبت من صحته من قول يقال أو رواية تروى أو غير ذلك والله عز وجل يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)).
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تبين ويقول تعالى مستنكرا على أمثال هؤلاء: وإذا جاءهم أمر من الخوف أو الأمن أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى ألي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً فرب كلمة عابرة وفلتة لسان تجر على الشخص ذاته وعلى جماعته كلها ما لا يخطر ببال، وقد يحدث بسببها من الشقاق والبغضاء ما تزول دونه الجبال الرواسي. ومن لوازم هذا القسم من العدل أيضا:
2- العدل في النقد ومعالجة الخطأ:
وهذا الجانب من جوانب العدل يحتاج إليه في كل حال من أحوالنا الفردية والجماعية وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها روح المحبة والإخلاص ويجدر بنا أن نذكر هذا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ من خلال سيرته عليه الصلاة والسلام، ونختار منها موقفه صلى اله عليه وسلم من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة ومعالجته صلى الله عليه وسلم لهذا الخطأ رغم شناعته وخطورته.
والقصة في صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير وكلنا فارس قال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين)) فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب فقالت: ما معنا من كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله بها عن أهله وماله فقال صلى الله عليه وسلم: صدق ولا تقولوا إلا خيرا فقال عمر: إنه قد خان الله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال: (أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم))، فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. فهذه ثلاث مراحل لمعالجة العادلة للخطأ مهما كانت ضخامته.
المرحلة الأولى: في التثبت من وقوع الخطأ، وفي هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي، حيث أوحى الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة وأين؟
المرحلة الثانية :و هي مرحلة التثبت وتبين الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ، وهذا الأمر متمثل في قوله صلى الله عليه وسلم لحاطب: ما حملك على ما صنعت؟ وهذه المرحلة مهمة إذ قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذرا شرعيا في ارتكاب الخطأ وتنتهي القضية عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب، ولم يكن العذر مقنعا، ولكنه طمأن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدق حاطب وأنه لازال مسلما نقول: إذا لم يكن العذر مقنعا من الناحية الشرعية فإنه يصار إلى:
المرحلة الثالثة: وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ وحشدها إلى جانب خطئه، فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته، وهذا هو الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم مع حاطب رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمر حينما استأذن في قتل حاطب: ((أليس من أهل بدر؟)) فقال: ((لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم)) فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوها وكما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحد فأفعاله الذي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته فأيهما غلب كان التأثير له.
وخلاصة هذا اللازم أن العدل في القول والفعل ومعالجة الأخطاء لو سلكنا فيها ذلك المسلك النبوي السابق تفصيله لما وقع كثير من المسلمين فيما وقعوا فيه اليوم من كيل التهم والتشهير وتتبع العثرات والذي لا يستفيد منه إلا الشيطان وحزبه، ولا يفرح الشيطان بشيء فرحه بالفرقة والاختلاف بين المسلمين. روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه مرفوعا: (إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة فيجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئا قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت) قال الأعمش: أراه قال: يلتزمه.
فإذا كان فرح الشيطان بالفرقة بين الزوجين بهذه الدرجة فكيف يكون فرحه بالفرقة بين دعاة المسلمين.. فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين يقول عمر رضي الله عنه: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا وما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
ومن لوازم هذا القسم من العدل أيضا:
3- الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له:
ولعل هذا اللازم من أصعب لوازم الحق تحقيقا لأنه يمثل قمة العدل والتقوى والورع حيث نرى الكثير من دعاة المسلمين اليوم فضلا عن عامتهم إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك حتى يحسبونه غلبة، في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك – من إصابة غيرهم للحق – فإنهم يحزنون لهذه الإصابة وهذا والعياذ بالله هو الظلم والحقد والحسد الذي لا يلتقي مع العدل وحب الخير للناس.
ومن لوازمه كذلك:
4- الشهادة للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته:
فإننا نرى اليوم كثيرا من الناس يفرطون في محبتهم أو كرههم فإذا أحبوا شخصا أو طائفة ما فإنهم يفرطون في هذا الحب ولا يعدلون فيه، فلا يرون إلا الحسنات، ويتجاوزون عن الأخطاء والسيئات ويبررونها ويؤولونها، وكأن من أحبوه لا يجوز عليه الخطأ، وهذا غلو واعتداء في الحب قد يؤدي إلى الغلو في الرجال وتقديسهم، وفرق شاسع بين التقدير والتقديس، وفي مقابل ذلك إذا أبغضوا شخصا أو هيئة ما فإن هذا الكره ينسيهم كل الحسنات والإيجابيات أو يشككون في نوايا فاعليها في الوقت الذي لا يذكرون إلا الأخطاء مع التضخيم والتهويل لها، وهذا عين الظلم والاعتداء ومجانبة العدل والإنصاف الذي يقتضي الشهادة للمحسن بإحسانه بتجرد وإنصاف، وللمسيء بإساءته مع النصح له وتلمس الأعذار إن كان هناك ثمة عذر شرعي، والانتباه إلى أن كل ابن آدم خطاء، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.. فالاعتدال في الحب والكره من لوازم قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين وهكذا كانت سيرة سلفنا الصالح رضي الله عنهم ومواقفهم مع المخالفين لهم.
ومن لوازم هذا العدل كذلك:
5- الابتعاد عن النجوى:
فمما يفرضه العدل على المسلم أن يبتعد عن النجوى التي من شأنها إحزان المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم، وهي عامل مهم في ترويج الإشاعات يقول عز وجل: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون والنجوى لا تأتي بخير إلا في أحوال ثلاثة ذكرها الله عز وجل في قوله: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ولكن للأسف الشديد فإن الكثير من هذه اللوازم إن لم تكن جميعها لم تزل في الطور السلبي النظري دون أن تجد طريقها إلى التطبيق العملي الواقعي، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى مرض القلوب لأن صاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين وإن آذوه، لا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، بل لسان حاله يقول: ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ويقول: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ويقول: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون ويلوذ بالله عز وجل مستعينا به على نفسه سائله أن يطهر قلبه من الغل لإخوانه المسلمين بل ويدعو لهم: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ويعمل على طهارته من الظلم والغل والحقد والحسد مستشعرا معنى قوله عز وجل: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هينين لينين، أشداء على الكفار، رحماء بينهم.
ولو تأمل كل واحد منا قوله عز وجل: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم لو جعلنا هذه الآية منهجا لنا في تعاملنا لزالت كثير من أسباب الفرقة والشقاق والخلاف التي حذرنا الله منها وعاقبتها فقال: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.
كذلك فإن من أسباب حصول العدل ولوازمه في الوقت ذاته.
6- الصدق والوضوح:
فالصدق يؤدي إلى العدل كما أن العدل يستلزم الصدق والوضوح في الأقوال والأفعال بعكس ما يحدث في زماننا من الأساليب الغامضة في تعامل المسلمين مع بعضهم البعض، وهذا الغموض وعدم الوضوح وسوء الظن بالمسلمين من الأمراض الخطيرة التي تؤدي إلى إذكاء العداوة والفرقة بين المسلمين وعدم إطمئنان بعضهم إلى بعض، والأصل أن يفترض الصدق في المسلم وألا يساء الظن به ورأينا كيف قال صلى الله عليه وسلم عندما سمع من حاطب عذره قال: ((صدق ولا تقولوا إلا خيرا)) ولم يذهب إلى سوء الظن به واتهامه بالكذب أو باللف والدوران كما يقولون.
وفي الصحيحين عن حكم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)). فإن كان الصدق والوضوح سببا لحصول البركة للمتبايعين على سلعة، والكذب والكتمان يمحق بركة بيعهما، إذا كان الأمر كذلك في أمر من أمور الدنيا فكيف يكون الحال إذا كان الصدق أو الكذب على أمر من أمور الآخرة لأن الدعوة عبادة يراد بها الدار الآخرة، فالصدق والوضوح بين أصحاب الدعوة وحسن الظن فيما بينهم ينتج عنه نتائج طيبة ويبارك الله عز وجل في جهودهم وتعاونهم، والعكس بالعكس، فإن الكذب والأساليب الملتوية لم ينتج عنها إلا الفرقة وسوء الظن وتشتيت الشمل.
وهنا يجب إيضاح أنه لا تعارض بين وجود الصدق والوضوح وبين الكتمان فإن كان لابد متحدثا فليكن صادقا واضحا وإلا فليصمت، هذا بين المسلمين بعضهم البعض، أما الكافرون والمنافقون الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وينكلون بالدعاة والعلماء الصادقين المخلصين فإن التعامل معهم يجب أن يكون بحذر وتقدير ما ينبغي أن يقال وأن لا يطلعوا على أسرار المسلمين بحجة الصدق والوضوح.
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل وأصلحوا ذات بينكم وألزموا أنفسكم بالعدل في القول والعمل، واحذروا من نزعات الشيطان وحزبه إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً فوتوا عليه مكره وكيده إن الشيطان آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن رضي بالتحرش بينهم.
فاتقوا الله عز وجل فهي مفتاح كل خير، وهي مفتاح العدل يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
أيها المسلمون: إن أعداءكم أعداء الله قد وحدوا صفوفهم وجمعوا كلمتهم ليصدوكم عن دينكم وإن الواجبات الملقاة على المسلمين الصادقين أكبر وأضخم مما تستطيعه طائفة واحدة منهم فإن لم يصلحوا ذات بينهم ويوحدوا صفوفهم وكلمتهم فإن فسادا كبيرا لاشك نازل إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
اللهم إنا نسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وزينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1089)
عُباد الشيطان
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
الجن والشياطين, فرق خارجة
هشام بن محمد برغش
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض شبابنا يعبدون الشيطان. 2- صور ألفناها لعبادة الشيطان. 3- الخلل في فهم معنى العبادة ، وقصرها على صور دون صور. 4- من صور عبادة الشيطان التحاكم إلى الجاهلية
وتقديم شرائعها على شريعة الله. 5- من صور عبادة الشيطان موالاة جنده ومحاربة أعدائه.
6- الصورة الجديدة لعبادة الشيطان ثمرة لغراس الإعلام الفاسد والمناهج التعليمية المسمومة
والحرب الفكرية على الإسلام ودعاته. 7- الكيل بمكيالين ، ولو كالوا بأحدهما لكان ظلما.
8- دعوة الآباء إلى تربية أبنائهم وصونهم عن مدارك الفساد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لاشك أن أكثرنا أو جميعنا قد قرأ أو سمع بما تناولته الصحف ووسائل الإعلام من ظهور طائفة من عباد الشيطان أخزاه الله، وربما تعجب الكثير كما أظهرت وسائل الإعلام عجبها واستنكارها أن توجد هذه النوعية من الناس، وربما تعجب آخرون إذا قلنا أن هذا القطاع من الشباب إنما يمثل صورة واحدة من عبادة الشيطان، وهذه الصورة وإن كانت تمثل قمة الانحراف وفساد الفطرة إلا أن هؤلاء الذين أنكروا عليهم وقع أكثرهم وهم لا يشعرون في عبادة الشيطان أيضا وإنما يزول عجبهم يوم يقفون بين يدي الحق جل وعلا فيقول لهم: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون [يس:60-64]. ولكن ولات حين مناص فيومئذ لا ينفع الظالمين معذرتهم ولا تلاومهم وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم [إبراهيم:22].
وإنما غفل هؤلاء وأولئك عن إدراك هذه الحقيقة لما أصابهم وأصاب الأمة كلها من قصور فهم. قصور في فهم معنى العبادة حتى أصبحت العبادة عندهم هي بعض الركعات وزكاة وصيام وحج، هذا في أحسن الأحوال، وإلا فإن أكثرهم أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولا يعرف الزكاة، والصيام عنده شهر لهو ومجون ومسلسلات وفوازير، وسفره إلى بلاد الكفر والفجور، والفساد أحب إليه من حجه إلى بيت الله الحرام، وغاب عن هؤلاء مفهوم العبادة الحق الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، فلما فسد تصور العبادة على هذا النحو وأصبحت قاصرة مبتورة المعنى فارغة المحتوى وقع هؤلاء في عبادة الشيطان وهم لا يشعرون تماما كما فسد مفهوم الشرك في حس الناس وأصبح هو تلك الصورة الساذجة التي تعلمناها في المدارس ويعرضونها في الأفلام التي يسمونها دينية - أنه أن يسجد الإنسان لصنم أو حجر وفقط فلما زالت هذه الصورة الساذجة أصبحنا – كما نعتقد أئمة التوحيد ووقع علينا قول ربنا: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [يوسف:106].
وأُولى صور عبادة الشيطان التي وقع فيها هؤلاء وهم لا يشعرون عندما أعرضوا عن شريعة الرحمن وآثروا عليه شرعة الجاهلية والشيطان، فنحوا شرع ربهم وحاربوا سنة نبيهم ورضوا بحكم الجاهلية وهم يزعمون أنهم - رغم ذلك - مؤمنون ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً [النساء:60-61].
ومن هذه الصور ظنهم أنهم يمكنهم أن يتخيروا من الإسلام ما يشاءون ويدعوا منه ما لا يوافق أهواءهم فيقولون مثلا: نطبق الإسلام في بعض المجالات مثل الأحوال الشخصية أو بعض السلوكيات والعلاقات الاجتماعية، أما في الاقتصاد، وأما في السياسة، وأما في العلاقات الخارجية.. فيقولون: لا، لأنه لم يعد يصلح، فاقتصاد العالم قائم على الربا وسياسة الدولة وعلاقاتها على ميثاق الأمم المتحدة وهلم جرا.
وهؤلاء متبعون خطوات الشيطان بنص كلام ربنا جل وعلا: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان [البقرة:208]. أي ادخلوا في الإسلام ظاهرا وباطنا، قلبا وقالبا في كل شئونكم وأحوالكم وعلاقاتكم، وإلا فأنتم متبعون خطوات الشيطان إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر [محمد:25-26]. فكيف بمن يطيعونهم في الأمر كله؟!
ومن عبادتهم له أيضا إشاعتهم للعري ونشرهم للفجور وحبهم إشاعة الفاحشة في المؤمنين وهم إن لم يصرحوا بذلك بألسنتهم إلا أن أفعالهم خير دليل على ذلك، ويكفي أن تطالع وسائل الإعلام أو أن تنظر إلى مفاسدهم وعملهم في نشر الكفر والعقائد الباطلة نساء عاريات وصور فجور وزنا ودعارة ومحاولة تغليف ذلك بأغلفة الفضيلة والشرف وهؤلاء عباد للشيطان متبعون خطواته كما قال الحق جل وعلا: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وانتم لا تعلمون [النور:19]. ثم حذر الذين آمنوا من سلوك سبيلهم وسبيل شياطينهم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر [النور:21].
ومن صور عبادتهم للشيطان محاداة الله ورسوله والصد عن سبيل الله ومحاربة أوليائه وتشويه صورهم والتنكيل بهم، في الوقت الذي يوالون فيه أعداءه ويعظمونهم ويقربونهم.
واستمع إلى قول الحق وهو يصف من كان هذا سمته وصفته بأنه من حزب الشيطان.. ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويظنون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلِّين [المجادلة:14-20].
فهما حزبان لا ثالث لهما: إما حزب الله وجنده وعبادته وحده والدعوة إليه، وإما حزب الشيطان والدعوة إلى سبيله والصد عن سبيل الله الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً [النساء:76]. فكل هذه صور لعبادة الشيطان يقع فيها كثير من الناس.
وأما هذه الصورة التي ظهرت في الآونة الأخيرة فهي ثمرة خبيثة لهذا الغراس النكد الذي زرعه وتعهده أولئك المستنكرون يوم أن حاربوا منهج الله، يوم أن حاربوا الفضيلة وجعلوا يربون النشء تربية مبتوتة الصلة بالله عز وجل، ويحذفون من مناهج التعليم كل ما يربط النشء بربه، حتى السلام حذفوه من المناهج لأنه تحية الإسلام وأبدلوه بغيره، يوم أن زينوا للفتاة التبرج والسفور وحاربوا الحجاب والمحجبات وضيقوا عليهن وحرموهن من دخول المدارس والجامعات، يوم أن بثوا سمومهم ليلا ونهارا وسرا وجهرا في وسائل إعلامهم، ويوم أن سمحوا بأجهزة استقبال الفساد والفجور والكفر والإلحاد يوم أن شوهوا صورة الإسلام ودعاته وجعلوا التمسك بسنن المصطفى صلى الله عليه وسلم تطرفا وإرهابا وبثوا في نفوس الشباب أن التمسك بسنن أئمة الفساد والضلال: مدنية ورقي، يوم أن حالوا بين دعاة الخير حملة منهج الرحمن، حالوا بينهم وبين الطلبة والطالبات في المدارس والجامعات لينفرد بهم دعاة العلمانية وأصحاب الشهوات، ثم بعد ذلك يستنكرون ويعجبون، وربما هذا الاستنكار والعجب محاولة منهم لامتصاص غضبة الشعوب المسلمة أن يظهر بين ربوعها هذا الكفر الصريح، وإلا فإنهم في الوقت الذي ينكلون فيه بكل داعية دون التفريق بين صغير وكبير أو شيخ أو امرأة أو طالب أو غيره ويطالبون باستخدام أقصى العقوبات مع هؤلاء مع عباد الرحمن فإنهم يلتمسون الأعذار لعبّاد الشيطان، فيرون أنهم شباب مغرر بهم وأنهم لا يعرفون ما يقولون.. وهكذا، يا سبحان الله!! إننا نطالب هؤلاء أن يعاملوا عباد الرحمن وأن يتلمسوا لهم الأعذار كما يعاملون عباد الشيطان وأن يعاقبوهم كما يعاقبون هؤلاء ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [البقرة:204-205]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، ورحمنا بنبيه عليه الصلاة والسلام، فهدى به من الضلالة، وجمع به من الشتات، وألف به من الفرقة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق أولياءه الوعد بالنصر على أعدائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم رسله وأنبيائه. صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
أمة الإسلام: يا أمة تقتل نفسها بنفسها وتقود أبناءها إلى الهاوية ،إذا كان الله عز وجل حرم وأد البنات وقتل الأبناء فإن أعظم منه أن يتركوا هكذا حتى يصل بهم الأمر إلى العبادة الصريحة للشيطان، وكلنا عرضة لأن يصيب أبناءنا ما أصاب هؤلاء إذا استمر أولياء الأمور في غفلتهم عن رسالتهم التي أناطهم الله بها والتي أمرهم بالقيام بحقها كما قال سبحانه: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً [التحريم:6]. وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [1].
ولكن للأسف الشديد لقد تحول اهتمام الآباء والأمهات إلى جانب واحد فقط وهو الحرص على تعليم أبنائهم الأمور الدنيوية فقط، وأغفلوا تربيتهم تربية إسلامية وتعليمهم أمور دينهم وشرع ربهم، وهم لا يعلمون أنهم بذلك سيخسرون الدنيا والآخرة.
أما الآخرة فلإعراضهم عن ربهم وأما الدنيا فإنه لا صلاح لها إلا بصلاح الدين، فعلى أولياء الأمور إن أرادوا حفظ أبنائهم من هذه الطرق المعوجة التي تقودهم إلى الهاوية فعليهم أن يراجعوا موقفهم فيتعهدوا أبناءهم ويحرصوا على تعليمهم الصلاة والصدق والحياء وسير السلف الصالح ولتكن وصية لقمان لابنه نبراسا ومنهاجا لكل أب ومرب وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه الآية [لقمان:13].
ومن ذلك أيضا صونهم عن وسائل الإفساد من تلفاز ومجلات ماجنة وتافهة وإبعادهم عن أصحاب السوء وأماكن الفساد، ثم عليهم أن يتفقدوا المناهج التي تعطى لهم وما فيها من أمور تخالف شرع الله جل وعلا، فيحذروهم ويبينوا لهم المنهج الحق ثم عليهم أن يحضوهم على الفضائل والطاعات وذكر الله عز وجل، ومن أعظم ذلك الصلاة والقرآن.
ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة الآية [التحريم:6].
[1] أخرجه البخاري ح (893)، ومسلم ح (1829).
(1/1090)
إصلاح النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
محمد بن سعد
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه. 2- درس من هزيمة أحد. 3- خطوات في إصلاح
النفس وتزكيتها. 4- الوسائل المعينة على معرفة الإنسان حقيقة نفسه. 5- الالتجاء إلى الله
ودروه في الإصلاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة: الكرام كم هي عجيبة تلك النفس، وكم هي محيرة، ثم كم هي خطيرة.
كم هي عجيبة لما فيها من منحنيات ومنعطفات كثيرة؟
وكم هي محيرة لما تتصف به من صعوبة الفهم والتعامل.
ثم كم هي خطيرة؟ خطيرة لأن الإنسان إذا كان جاهلا بنفسه فقد حكم على نفسه بالخسار والانهزام، لأنك إذا جهلت نفسك، فستدخل معركة مع أعدى أعدائك، وهو الشيطان على أرض بصيرة بأرض المعركة، وأرض المعركة هنا هي النفس في الوقت الذي يعرف الشيطان فيه طبيعة تلك النفس، وعنده من الخبرة بنقاط ضعفها ومواطن نقصها ما يكفي لجعلها أرضا لكل شر، ومغرسا لكل صفة خبيثة، فإذا دخلت معركتك مع الشيطان وأنت جاهل بنفسك فلا شك أنك ستخسرها.
كم هي خطيرة تلك النفس لما لها من تأثير على حياة الإنسان ومصيره في الآخرة، فقد اتفق علماء السلف على أن النفس قاطع وحاجز بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا تستطيع أن تصل إلى مرضاة الله عز وجل والنجاة يوم القيامة إلا بعد تهذيبها والسيطرة عليها، قال تعالى: ونفس وما سواها ألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وقال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً.
كم هي خطيرة تلك النفس لأن نتيجة صلاحها وفسادها لا يؤثر على حياة الفرد ومصيره فحسب، بل يؤثر على المسلمين عامة وعلى الدعاة خاصة.
أصاب المسلمين في غزوة أحد الشهيرة ما أصابهم من القرح الشديد حيث قتل سبعون من الصحابة وجرح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وشج وجهه الشريف وانكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وتساءل بعض الصحابة رضوان الله عليهم ما سبب الهزيمة ألسنا نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وعدنا الله تعالى بالنصر؟ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير سبب الهزيمة من أنفسكم، بسبب مخالفة الرماة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم ترك أماكنهم ونزولهم لجمع المغانم وقال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أيها الأخوة الكرام: إنه بالرغم ما للنفس من خطورة وأهمية كبيرة إلا أنه وللأسف يجعل كثير من الناس نفوسهم ولا يهتمون بمعرفة ولا تطهيرها، هذا صنف.
ومن الناس من يعرف في نفسه الصفات الذميمة والأمراض الكثيرة كالبخل أو الكبر أو الرياء أو حب الرياسة والسيطرة على الآخرين أو حب الانتصار للنفس في الباطل أو العجب وحب الظهور أو الاعتزاز الشديد بالرأي الشخصي، ولكنه لا يقاوم تلك الصفات، بل ويتساهل مع ما تدفعه إليه من أعمال، فتنمو تلك الصفات، ويصعب عليه السيطرة على نفسه.
والصنف الثالث من الناس لا يملك قوة على مواجهة نفسه ولا يريد أن يعترف أنه مصاب بتلك الصفات الذميمة، وبالتالي لا يفكر أساسا في علاجها، فهل هذه حال أناس يدركون أهمية صلاح نفوسهم؟
إننا يجب أن نعيد النظر في اهتمامنا بتزكية النفس لنقضي على تلك المظاهر السابقة أو تقل في صفوف المسلمين، وإلا فالنتيجة وخيمة لا يرضى بها إلا عدو، وليس مبالغة القول أننا يجب أن نقف كثيرا مع نفوسنا نحاسبها كما يحاسب الشريك المتخوف شريكه، وأن نخطو بقوة وعزيمة كما يخطو الجندي المهاجم على عدوه، ولعل المقام يسمح بإلقاء الضوء على بعض خطوات إصلاح وتزكية النفس.
أما الخطوة الأولى لإصلاح وتزكية النفس: هي معرفة موقع النفس ودرجتها، لقد وصف الله سبحانه تعالى النفس في القرآن الكريم بثلاثة صفات أو قل ذكر لها ثلاث درجات.
أما الصفة الأولى أو أدنى وأخس درجة هي النفس الأمارة، وهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوة فائرة ونزعة نابضة وظلم أو حقد أو فخر إلى آخره، فإن أطاعها العبد قادته لكل قبيح ومكروه قال تعالى: إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي فأخبر سبحانه وتعالى عن تلك النفس أنها أمارة وليست آمرة لكثرة ما تأمر بالسوء، ولأن ميلها للشهوات والمطامع صار عادة فيها إلا إن رحمها الله عز وجل وهداها رشدها.
أما الصفة الثانية أو الدرجة التي يمكن للنفس أن تعلو إليها فهي النفس اللوامة، وهي النفس التي تندم على ما فات وتلوم عليه، وهذه نفس رجل لا تثبت على حال فهي كثيرة التقلب والتلون، فتذكر مرة وتغفل مرة، تقاوم الصفات الخبيثة مرة، وتنقاد لها مرة، ترضي شهواتها تارة، وتوقفها عند الحد الشرعي تارة.
أما الصفة الثالثة أو أعلى مرتبة يمكن أن تصل إليها نفسك وترقى هي النفس المطمئنة، وهي تلك النفس التي سكنت إلى الله تعالى واطمأنت بذكره وأنابت إيه وأطاعت أمره واستسلمت لشرعه واشتاقت إلى لقائه، كرهت كل معصية وأحبت كل طاعة وتخلصت من الصفات الخبيثة من الشح والأنانية واللؤم والخيانة واستقرت على ذلك فهي مطمئنة، وهذه النفس هي التي يقال لها عند الوفاة يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي هذه هي أحوال النفس التي تتردد عليها والنفس تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا وها هنا موضع مجاهدة النفس وتزكيتها فمجاهدة النفس تعني أن تنقل نفسك من حمأة النفس الأمارة إلى إفاقة النفس اللوامة ثم إلى نقاء وطهارة النفس المطمئنة والثبات على ذلك وحتى تعرف أين موقع نفسك أمام هذه الدرجات وأين يقف المؤشر فأنظر إلى الصفة الغالبة.
الخطوة الثانية: في إصلاح نفسك: هي الاعتراف بالعيوب والتعرف عليها، إن اعتراف الإنسان أن به عيوبا خطوة هامة في طريق الإصلاح لأن الإعراض عن معرفة العيوب هو ضعف ونقص وفقدان للشجاعة في مواجهة النفس، بل هي إحدى صفات المعرضين عن رسل الله عز وجل حيث قال تعالى: ولكن لا تحبون الناصحين وإن مما يجعلك ترفض الاعتراف بالعيب الشعور بأنك قد بلغت مرحلة من الصلاح لا تحتاج فيها إلى تذكير ونصح لكثرة ما قرأت وعلمت في إصلاح النفوس، وتطمئن إلى هذه المعرفة دون أن تقف مع نفسك وقفة حازمة لترى هل تخلصت فعلا من الأخلاق الذميمة، لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه المبشر بالجنة يقول: رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي، وكان يذهب إلى حذيفة ليعرف هل هو من المنافقين أم لا، وكان أحد تلاميذ سفيان الثوري يدعو الله عز وجل ويقول: اللهم عرفني نفسي. وقال محمد بن كعب القرطي: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال: فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرا بعيوبه.
هذا وإن من أهم الوسائل التي تعين على معرفة عيوب النفس.
1- العلم: فنظرك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يوقفك على أمراض النفس ويشخصها لك ويبين لك الصفات الذميمة وكيف تتجنبها وتعالجها، هذا فضلا عن ذكر الصفات الطيبة للنفس للتحلي بها.
كان شميط بن عجلان يقول: إن المؤمن اتخذ كتاب الله عز وجل مرآة فمرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المؤمنين، ومرة ينظر إلى ما نعت الله عز وجل به المغترين.
2- الأخ الناصح الشفيق: الذي يبصرك بعيوبك ويرى أن ذلك واجبا عليه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) قال ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرهه.
قال محمد بن واسع: ما آسي على الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا اعوججت قومني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة ولا لله عز وجل فيه تبعة.
كان سفيان الثوري يقول: أدركنا الناس وهم يحبون من قال لأحدهم: اتق الله تعالى وقد صاروا اليوم يتكدرون من ذلك.
3- أعداؤك وخصومك فإنهم يتلمسون دائما معايبك.
4- معرفة ما تنتقد من الناس من المكاسب والمعايب، واجتهادك ألا تقع فيها.
الخطوة الثالثة: لإصلاح النفس مجاهدة الصفات الذميمة في النفس والصفات الذميمة التي في النفس كثيرة مثل الحقد، الحسد، البخل، التكبر عن قبول الحق، الخيانة، الرياء، احتقار الآخرين لميزة يراها الإنسان في نفسه لعلم أو مال أو جاه، الاغترار بالرأي الشخصي.
ولتتمكن من مقاومة تلك الصفات عليك أن تثق تماما أنها ستمنعك مما فيه صلاحك في الدنيا والآخرة وأنها ستجلب غضب الله عز وجل فلا تستجيب لندائها ولتفعل ما يقتضيه مخالفتها قال الشاعر:
إذا طالبتك النفس يوما بشهوة وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما هواك عدو والخلاف صديق
وخذ عندك مثلا لذلك، قد يهم الإنسان بالإنفاق في سبيل الله إعانة الدعوة أو التصدق على الفقراء والمساكين أو غير ذلك، فيحول الشح والبخل المتأصل في النفس دونك ودون الإنفاق، وتتولد في نفسك المعاذير لئلا تنفق، وتبدأ نفسك تكثر أمامك الحاجة الملحة للمال حتى تمسك يدك عن الإنفاق في سبيل الله.
خذ مثالا آخر قد تتولد عندك في فترة من فترات الراحة والإرتخاء دافع قوي للصلح مع ذلك الأخ الذي تشاحنت معه وتأزمت بينك وبينه العلاقة وتمثلت أمامك الآية التي يقول الله عز وجل فيها: ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإذا بالنفس الأمارة وبكبرها وحقدها تقف أمامك لتحول بينك وبين مصالحة أخيك. كيف وكيف وكيف وهو الذي أخطأ في حقك؟ كيف وأنت لم تمس له كرامة؟ وأنت الذي ما قصرت في حق من حقوقه؟ وإذا بهمتك المندفعة للخير تقف وتشل بفعل نفسك الأمارة إن لم تزدك حقدا، وقد يهم البعض بأن ينطلق في ميدان الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والتعلم، فلا يكاد يبدأ حتى تخرج عند طبيعة نفسية هي غلبة حب الكسل والراحة والخمول، فتقعده عن هذا المجال العظيم وتؤخره عنه، وقد يوجد عند بعض الناس في نفوسهم شيء من العجب أو الرياء، فلا ينشط إلا في المجالات التي يكون فيها فرصة للظهور والبروز، فإذا ما أصبح وحيدا كسل عن كثير من العبادات والطاعات والسنن التي كان يفعلها أمام الناس، فينبغي لمثل هذا أن يعلم أن نفسه ستوقعه في الهلاك وستهدم عليه كل ما يقيمه من أعمال إلا أن يقاومها ويجاهدها ويقف لها بالمرصاد وليكثر من عمل الطاعات في الخفاء ليعود نفسه الإخلاص والصدق في العمل.
والنفس تعلم أني لا أصادقها ولست أرشد إلا حين أعصيها
قال ابن الجوزي: وما زلت أغلب نفسي تارة وتغلبني تارة، فخلوت يوما بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك إن جمعت شيئا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا قلت لها: فالمحنة عند الموت أن يحظى به غيرك ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر. ويحك اتركي هذا الذي يمنع الورع لأجل الله أَوَمَا سمعت أن من ترك شيئا لله عوضه الله خير منه.
ثم هذا هو يجاهد نفسه وقد أصابه نوع من العجب بعلمه قال: وجدت رأي نفسي في العلم حسنا إلا إني وجدتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها: فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف أين الحذر؟ أَوَمَا سمعت بأخبار الصالحين في تعبدهم واجتهادهم أَوَمَا كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ثم قام حتى ورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع؟
الخطوة الرابعة في تزكية النفس: هي تنمية الصفات الطيبة ورعايتها حتى يكون لها الغلبة، وذلك مثل صفات الحلم والكرم والتواضع، ولا يكفي لتنمية تلك الصفات ورعايتها في نفسك أن تقرأ فيها كتابا أو تحفظ في فضلها نصوصا وأشعارا، ولكن تحصيل تلك الصفات لابد له من مجاهدة وتمرن وتدريب.
ومثال ذلك من أراد أن يكون حليما فهذا ينبغي له أن يقو إيمانه ويزيد صبره ويكظم غيظه ويملك نفسه في مواقف الغضب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الحلم بالتحلم)).
والصبر إذا تكلفته وتمرنت عليه اكتسبته وكما قالوا: المزاولات تعطي الملكات، ومعنى هذا أن من يزاول شيئا واعتاده وتمرن عليه صار ملكة وسجية وطبيعة ولا يزال العبد يتكلف الحلم والصبر والصدق حتى تصير له أخلاقا.
قال ابن الجوزي رحمه الله ما مختصره: تأملت عجبا وهو أن كل شيء مطلبه غالي يطول سعيه ويكثر الطلب في تحصيله وكذلك الشرف والجود والشجاعة والزهد، ولولا ما عانى يوسف عليه السلام ما قيل له أيها الصديق.
الخطوة الخامسة: محاسبة النفس والمحاسبة هي التمييز بين ما لك وما عليك قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد فأمر سبحانه العبد أن ينظر فيما قدم لغد وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه من عمل أن يلقى الله به أو لا يصلح.
ومحاسبة النفس نوعان أولا: محاسبة قبل العمل، وهو أن تقف عند أول همك بالعمل وتنظر أهو لله أم لا؟ أهو موافق للشرع أم لا؟ قال الحسن رحمه الله: رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله أمضاه وإن كان لغيره تأخر.
أما النوع الثاني في محاسبة النفس: فهو بعد العمل محاسبتها على طاعة قصرت فيها، ومحاسبتها على معصية ارتكبتها ثم يحاسبها بما تكلمت به أو مشت رجلاه أو بطشت يداه أو سمعت أذناه، ماذا أرادت بذلك وكم فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟ قال تعالى: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون وقال تعالى: ليسأل الصادقين عن صدقهم قال أحد السلف: فإذا سأل الله الصادقين فما بالك بالكاذبين.
وفي الختام ينبغي لمن يرجو زكاة نفسه وإصلاحها أن يستعين بالله عز وجل دائما ويدعوه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: ((الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من سيئات أنفسنا)) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الله عز وجل أن يعيذه من جميع الصفات الذميمة، فكان يقول في أذكار الصباح والمساء: ((رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر)) ، ((اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه)) وكان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل)) وفي سنن الترمذي عن حصين بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يا حصين كم تعبد؟)) قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال: ((فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟)) قال: الذي في السماء، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها)) فأسلم حصين فقال له عليه الصلاة والسلام: ((قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1091)
الجنة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
محمد بن سعد
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعوة إلى الأعمال التي تقرب للجنة. 2- وصف بعض من نعيم الجنة ومنازلها. 3- كيف
نؤمن بالجنة حقيقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إخوة الإسلام في هذا اليوم العظيم ومن هذا المقام الكريم أتوجه إليكم بهذا الإعلان الهام والنداء العام، إنه دعوة إلى كل من انتسب إلى دين الإسلام، والداعي هو ربنا الرحمن في كتابه العظيم القرآن سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله.
وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
إنها دعوة مهيبة ورسالة كريمة إلى حيث الراحة والاطمئنان والأمن والأمان والروح والريحان.
دعوة من الله جل جلاله لسكنى دار الخلد وجنة المأوى، صحتك فيها لا تقل ولا تفنى، وثيابك فيها لا تبلى، ووجهك فيها كالنجم في السما أو هو أصفى، وسنك فيه الثلاثة والثلاثين لا يتعدى، والجمال والكمال عليك فيها قد استولى حياتك فيها حياة رضية، وعيشك فيها سعادة أبدية، وأوقاتك فيها أوقات هنية، إنها دعوة تطير النفس في أجوائها وتحلق الروح في سمائها ويستروح القلب في قسماتها بعيدا عن الحياة الدنيا التي أكثر عيشها كدر وصفوها ممزوج بالمرر، إن سعد فيها المرء يوما شقى أياما، وإن تنعم ساعة تألم ساعات بل أعواماً. لا يخلو فيها فرح من ترح، ولا بهجة من حزن، ولا سرور من ألم.
إن كان فيها الإنسان فقيرا تعب في تحصيل قوته وقوت عياله، وإن رزقه المال فيها شقى في حفظه وإنمائه وإن ذاق فيها ما لذ وطاب ضاق بعدها بإخراج فضلاته، فما أحقر نعيم الدنيا الزائف أمام النعيم الحقيقي في الجنة، وما قيمة نعيم الدنيا من نعيم دار يقول الله عز وجل في كرامة أهلها وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريراً ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضة قدروها تقديراً ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلاً ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثَمَّ رأيت نعيما وملكاً كبيراً عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً.
ها هي ذي الهيئة العامة لجنة الخلود، وتلك هي صورتها المرهفة اللطيفة وظلالها الوارفة الأليفة فأهل الجنة جزاهم الله تعالى بصبرهم عن المعاصي وصبرهم على الطاعات جنة عظيمة يسكنونها، وحريرا جميلا يلبسونه، ثم ها هم يجلسون على الأسرة بين القطوف الدانية والثمار المتدلية يتنسمون هواء مناخ لطيف وأجواء صافية لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، فالجو حولهم رخاء ناعم في غير حر، ندي لطيف في غير برد، ودانية عليهم ظلالها وذلل الله لهم ثمارها وقطوفها تذليلا. قال مجاهد: إن قام العبد ارتفعت معه الثمار بقدر وإن قعد تذللت له، وإن اضطجع تذللت له، يطوف عليهم الخدم بأنواع من الشراب في آنية من فضة وأكواب صافية كالقوارير الزجاج، وهي بأحجام مقدرة تقديرا يحقق المتاع والجمال وتمزج كؤوس خمرهم بالزنجبيل كما مزجت مرة بالكافور كذلك تملأ من عين جارية في الجنة تسمى سلسبيلا قال مجاهد: سميت بذلك لسلاسة سيلها، وحدة جريها، ويطوف على أهل الجنة الولدان المخلدون لا تزيد أعمارهم ولا يتغيرون، إذا رأيتهم وهم منتشرون يخدمون أهل الجنة وهم صباح الوجوه وضيئو الأوان والحلي والثياب.. حسبتهم لؤلؤا منثوراً وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً أي إذا رأيت يا محمد – صلى الله عليه وسلم – هناك في الجنة رأيت مملكة لله عظيمة وسلطاناً باهراً، ثم ها هم أولاد أهل الجنة يرفلون وينعمون في ثياب تبعث على النفس البهجة والانشراح فهي ثياب من السندس الأخضر وهو الحرير الرقيق الرفيع أو من الإستبرق وهو الحرير السميك الغليظ. وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً.
قال الله عز وجل في حديث قدسي: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على أثرهم لأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد، لكل امرئ منهم زوجتان، كل واحدة منهما يرى مخ سوقهما من وراء لحمهما من الحسن، يسبحون الله بكرة وعشيا، لا يسقمون ولا يتمخطون ولا يبصقون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة)) أي أعواد البخور.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له: تمن فيتمنى ويتمنى فيقول له هل تمنيت؟ فيقول: نعم، فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لو امرأة من نساء أهل الجنة أشرقت لملأت الأرض ريح مسك ولذهب ضوء الشمس والقمر)) ولا يتسع وقت كهذا إخوة الإسلام لذكر أوصاف الجنة وأحوال نعيمها إنما هي تذكرة، فمن شاء ذكره.
وكيف يقدر قدر جنة غرسها الرحمن بيده وجعلها جزاء لأحبابه وملأها برحمته ورضوانه.
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران.
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الخالق الرحمن.
وإن سألت عن قصورها فمن اللؤلؤ والفضة أو خالص العقيان.
وإن سألت عن أشجارها فثمارها كيفما شئت انتزعت بأسهل الإمكان.
فواكه شتى تنوعت ألوانها وطعومها وتزينت على الأغصان.
وإن سألت عن أنهارها فهاك وصفها من القرآن.
قال تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غبر آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم ومن أعظم نعيم أهل الجنة المتعة بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم وسماع كلامه قال تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن أناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟!)) قالوا: لا يا رسول الله فقال: ((هل تضرون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟!)) قالوا: لا يا رسول الله قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) أي ستكون رؤيتكم لله عز وجل رؤية واضحة [رواه الشيخان].
أيها المسلمون: إن الإيمان بالجنة وما أعد الله فيها لأوليائه من أهم أركان الإيمان باليوم الآخر، فقد أكثر الله عز وجل من وصفها وذكر كرامة أهلها لما لذلك من تأثير على النفوس عظيم، فللإيمان بالجنة أهمية كبيرة وآثار عظيمة، فمن الأسباب التي تجعل الإيمان بالجنة ركنا هاما في حياة المسلم كثرة ذكر الجنة، ورسوخ الإيمان بها في القلب حافز هام لعزيمة المسلم ليندفع إلى الطاعة والعبادة، ولك أن تقارن بين رجلين: الأول يعرف أوصاف الجنة وأنواع النعيم بها والآخر لا يعرف عن الجنة التي أعدها الله تعالى للمتقين شيئا، هل سيكون حالهما واحداً في عبادة الله عز وجل؟
كلا إن الأول لمعرفته بأوصاف الجنة ولإيمانه الراسخ بنعيمها سيندفع إلى العبادة والطاعة شوقا إليها.
قال ابن القيم: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ورجاء هذه والهروب من هذه فترت عزائمه وضعفت همته ووهن باعثه، وكلما كان أشد طلبا للجنة وعملا لها كان الباعث للطاعة أقوى، والهمة أشد، والسعي أتم، وفي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أول ما نزل القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام – أي رسخ في قلوبهم - نزل الحلال والحرام.
ولو ذهبنا نذكر ماضي السنة من قوله صلى الله عليه وسلم من عمل كذا فله كذا في الجنة لطال المقام وذلك تحريضا للعمل ولتكون الجنة محفزا إليه ودافعا له، فمن ذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) ، بل إن إبراهيم عليه السلام يحرض أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويحثها على الذكر لأنه غراس الجنة عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)).
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبعث الهمم ويشحذ النفوس ويرغبها في الجهاد لم يزد على أن يقول: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض كما في غزوة بدر، فتمتلئ نفوس المسلمين بشجاعة خارقة للعادة وشوقا غريبا للجنة واستهانة نادرة بالحياة حتى كان الجنة أمامهم يرونها رأي العين، فلا تنشغل نفوسهم إلا بنعيمها ولا يفكرون إلا في الوصول إليها.
لما انهزم المسلمون في أحد ووجد أنس بن النضر تخاذل بعض الناس أسرع ليقاتل المشركين فاستقبله سعد بن معاذ فقال له: إلى أين؟ فقال أنس: واها لريح الجنة، أجده دون أحد. فقاتلهم حتى قتل قال: فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وطعنة ورمية.
قوله: (واها لريح الجنة) قال النووي قال العلماء: واها كلمة تحنن وتلهف.
وقوله: (أجده دون أحد) محمول على ظاهره، وأن الله تعالى أوجده ريحها من موضع المعركة، وقد تثبتت الأحاديث أن ريحها توجد من مسيرة خمسمائة عام.
ومن الأسباب التي تجعل الإيمان بالجنة ومعرفة نعيمها وأوصافها على غاية كبيرة من الأهمية في حياة المسلم أن معرفتك بالجنة تجعلك لا تنخدع بزخارف الحياة الدنيا الفانية. قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال عليه الصلاة والسلام: ((اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم)) قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال: ((الجنة)). قالوا: ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل، أي لا نتراجع عن هذه الصفقة، وقاموا يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك مع أنهم يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين، بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم، وأن العرب كلها ستحاربهم وأنهم لن يهنئوا بعيش آمن خلال المعركة مع الجاهلية، ولكنهم قارنوا بين نعيم الدنيا الزائل وبين ذلك النعيم المقيم، فاختاروا الجنة وقالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
دخل رجل على أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فما وجد في بيته شيئا مما يجمعه الناس من متاع الدنيا فقال الرجل لأبي الدرداء: أين متاعكم؟ فقال أبو الدرداء: لنا دار هناك – يقصد الآخرة – نرسل إليها تباعا كل ما نحصل عليه من متاع، ولو كان استبقينا في هذه الدار شيئا لبعثنا به إليكم ثم في طريقنا إلى تلك الدار – يعني الآخرة – عقبة كؤود – يقصد الحساب يوم القيامة – المخف فيها خير من المثقل، فأردنا أن نتخفف من أثقالنا علنا نجتاز... ثم قال للرجل: هل فهمت؟ قال نعم وجزاكم الله خيرا.
أيها المسلمون: كيف نؤمن بالجنة؟ كيف يكون إيماننا بالجنة صادقا راسخا؟ كثير من الناس يظن أن الإيمان بالجنة هو معرفة أوصافها فحسب وهذا فهم قاصر إن الإيمان بالجنة يتضمن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن تزرع الشوق في قلبك لها.
الأمر الثاني: أن تحقق شروط دخول الجنة من توحيد الله عز وجل والاستقامة على الكتاب والسنة وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم. وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلكم يدخل الجنة إلا من أبى)) قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)).
الأمر الثالث: أن يكون في قلبك خوف شديد من فوات الجنة لأنه كما أن الجنة قريبة منك فالنار قريبة كذلك، وكما قد تدخل هذه قد تدخل تلك.
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيهما يؤمر بي لاخترت أن أكون ترابا قبل أن أعلم.
وبكى عمر بن عبد العزيز فقالت له فاطمة زوجه: ما الذي أبكاك؟ فقال: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير وجاءت عمر بن عبد العزيز جاريته يوما فقالت: لقد رأيتك في رؤيا يا أمير المؤمنين فقال: وما هي؟ قالت: رأيت كأن القيامة قامت وكأن الناس بدءوا يمرون على جسر جهنم، ورأيتك يا أمير المؤمنين، وقبل أن تكمل وقع عمر مغشيا عليه فأسرعوا إليه ليفيقوه والجارية تقول له: رأيتك يا أمير المؤمنين والله قد نجوت رأيتك قد نجوت لتطمأنه وتهدأ من روعه.
غشي عليه من الفزع خوفا على مصيره، والأمر كله لا يعدو أن يكون مناما لا يقدم ولا يؤخر، ولكن لأن قلبه كان مليئا بالإيمان، وكان يعلم أن أحدا لا يعلم مصيره خشي من فوات الجنة.
الموت باب كل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1092)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
محمد بن سعد
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صعوبة ساعة الاحتضار وكربها. 2- صفة قبض الروح. 3- لا تنفع التوبة إذا غرغرت
الروح. 4- صورة لحسن الخاتمة وأخرى لسوء الخاتمة. 5- موقف في يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيع جنازة يوما، فلما وصلوا إلى القبر ووضعت الجنازة، وأخذ الناس يهيلون عليها التراب جلس عليه الصلاة والسلام وأخذ عودا وجعل ينكت به في الأرض وينظر إلى القبر ثم قال للصحابة رضوان الله عليهم: ((يا إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا)).
أيها المسلمون: هل تذكرنا الاحتضار وآلامه؟ هل تذكرنا الموت وسكراته الموت؟ تلك الساعة الحاسمة تلك الساعة الفاصلة التي يقف فيها البشر عاجزين مقهورين أمام الموت الذي يشرب من كأسه جميع الخلق، العصاة منهم والمطيعون، الطغاة والعاملون، الفقراء والميسورون، الضعفاء والمتسلطون، الموت الذي لا يهاب شيخا كبيرا، ولا يترك طفلا صغيرا ولا يخشى أميرا أو وزيرا، الموت طالب لا يمل الطلب، ولا يبطئ الخطى، ولا يخلف الميعاد ولا يعجزه مقيم، ولا يتفلت منه هارب، هو رحى دوارة بين الخلق، وكأس يشربونها، هو هادم اللذات، ومنغص الشهوات، ومفرق الأحبة والجماعات.
هل تذكرنا تلك الساعة التي سيأتينا فيها ملك الموت ومعه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب فيقف عند رأسك ثم يبدأ في نزع روحك من جسدك فيبدأ الرأس يرتعد، والأطراف تبرد، والعين تشخص، واللسان يغرغر، فإن كنت مؤمنا صالحا قال ملك الموت: أخرجي أيتها الروح المطمئنة، أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان، فيسيل روحك كما تسيل القطرة من فم السقاء، فتأخذها ملائكة الرحمة، ولا تتركها في يده طرفة عين، فيضعونها في كفن من أكفان الجنة ويطيبونها بحنوط من حنوط الجنة ثم يصعدون بها إلى السماء ويستفتحون لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائك حتى السماء السابعة ثم يقول الله عز وجل: اجعلوا كتاب عبدي في عليين.
وإن كان العبد فاسقا أو كافرا قال الملك: أخرجي أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فينزع روحه كما تنزع الشوكة من الصوف المبلول، فتأخذها ملائكة العذاب ولا يدعونها في يده طرفة عين، فيضعونها في كفن من أكفان النار وحنوط من حنوطها ثم يصعدون بها إلى السماء ويستفتحون لها.. فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه فلا يفتح.
فماذا أعد كل منا أيها المسلمون لتلك الساعة الرهيبة والنازلة العظيمة، والله إن كثرا من الناس عن الموت لغافلون، وفي الشهوات غارقون، وللمعاصي مرتكبون، وللصلاة تاركون وللزكاة مانعون، وللحرمات ناظرون، وللسحت والرشاوي آكلون، وللفواحش منتهكون، وللقرآن هاجرون، وللسنة تاركون، وبالحرام يتكلمون، وبالظلم يتعاملون، ومن المواعظ لا يبكون، ويبنون القبور ويدفنون الموتى ثم لا يتعظون، ولا هم يتوبون، ترى الفاجر يدفن الميت بيده ثم يمضي إلى فجوره، والعاصي يصر على معصيته، قست القلوب، وجفت العيون، وانشغل الناس بذكر الدنيا عن ذكر الآخرة قال تعالى: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم.
أيها المسلمون: إن غفلة كثير منا عن الموت ترجع إلى أنهم لا يدركون خطورته ولا يفهمون معناه ولا يعلمون ما بلحظات الموت من عظائم وأهوال ولا يدركون ما به من مصائب ودواهي، الواحدة منها يشيب لهولها الوليد وينصهر لشدتها الحديد.
وأول تلك الدواهي ساعة الاحتضار وما بها من آلام ونزعات وما يصحبها من غرغرة وسكرات، لا يقوى المحتضر من شدتها أن يتأوه ولا يستطيع من قوتها أن يخرج صراخا سئل أحد الصالحين وهو يحتضر كيف ترى الموت؟ قال: أرأيت الشاة الحية عند سلخها كيف يكون حالها؟
وعاد بغضهم مريضا فقال له: كيف تجدك؟ قال: هو الموت فقال له: وكيف علمت أنه الموت؟ قال: أجدني أجذب جذبا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنور محمي يلتهب فقال له: فأعهد – أي أوصي – قال: أرى الأمر أعجل من ذلك، فدعى بدوارة وصحيفة ليكتب وصيته قال الرجل: فوالله ما أوتي بها حتى شخص بصره فمات، وذلك لأن الروح تخرج من كل طرف من أطراف الجسد ومن كل عضو من أعضائه ومن كل خلية من خلاياه.
ويقول العلماء إن سكرات الموت أشد من نشر بالمناشير وضرب بالسيوف، وما لنا نذهب بعيدا وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه الإعياء الشديد وأخذ عليه بها ماء، فجعل يمسح وجهه به ليخفف من وطأة الموت وشدته ويقول: ((لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم بالرفيق الأعلى)) ثم شخص بصره ومالت يده وشغلت رأسه وقبض صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هذا هو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الموت، وهو الذي رفع الله ذكره وأعلى في العالمين قدره، فكيف سنواجه نحن الموت وقد كثرت ذنوبنا وطفحت عيوبنا وانتشرت معاصينا، كيف سنكون في تلك اللحظات ونحن بهذه الذنوب والسيئات.
أما المصيبة الثانية والداهية التالية في الموت فهي شدة الحسرة والندم التي يشعر بها المحتضر، فالواحد منا يبقى طوال حياته غافلا ساهيا ينتهك الحرمات يمينا وشمالا لا يبالي حتى إذا فاجأه الموت عرف وقتها أن الله حق وأن الحلال بيّن وأن الحرام بيِّن، فتتولد عنده حسرة شديدة وندم عظيم على ما فاته في حياته، ويتمنى لو يعود فيصلح من شأنه ويكثر من الطاعات، ولكن للأسف الشديد فبرغم شدة حسرته وندمه إلا أنها حسرة لا تنفع، وندم لا يقبل، قال تعالى: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً. ولو قبل الله عز وجل توبة أحد بعد غرغرة الموت لقبل توبة فرعون عندما أحاطت به الأمواج حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين فماذا كان جواب الله عز وجل له: آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون.
كان يزيد الرقاشي يعظ نفسه كل ليلة عندما يجدها تكاسلت في الطاعة فيقول: يا يزيد من ذا يصلي عنك بعد الموت، يا يزيد من ذا يصوم عنك بعد الموت، يا يزيد من ذا يتصدق عنك بعد الموت.
وأما ثالثة الدواهي والمصائب في الموت فهي أن الموت خاتمة الحياة والأعمال، به يتحدد مصيرك، وعلى أساسه تبعث يوم القيامة قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((يبعث العبد على ما مات عليه)) وأحدنا لا يدري متى سيأتيه الموت؟! أيأتيه على إيمان أم على كفر؟! أيأتيه على عمل صالح أم على عمل طالح؟! أيأتيه على خير وعبادة أم على شر ومعصية؟!
ألا تستلزم خطورة هذه الساعة منا أن نكون في توبة دائمة حتى إذا فاجئنا الموت كنا في أحسن أحوالنا وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن من عقوبات الذنوب والمعاصي أن قلب الإنسان ولسانه يخونانه أشد ما يخونانه عند الاحتضار، فربما تعذر على المرء النطق بالشهادة كما حدث لبعض الناس، وكان منشغلا بتجارته عن ذكر الله عز وجل وطاعته، فلما احتضر وقيل له: قل لا إله إلا الله كان يقول: هذا مشتري جيد وهذه بضاعة رخيصة. وظل هكذا حتى قبض.
يقول ابن القيم معلقا: سبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا، وكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله قلبه عن ذكره وكان أمره فرطا.
كان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلى رفع يديه قائلا: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة. فقال أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فقام وصلى فقبض الله تعالى روحه وهو ساجد.
و لكم أيها المسلمون أن تقارنوا بين خاتمتين، الأولى: لرجل من أهل الخليج أغدق الله عليه بالمال الوفير والنعم الكثيرة، ولكنه للأسف لم يكن يعرف حق الله تعالى فيها، فكان ينفقها في الحرام، ذهب مرة إلى إحدى بلاد الإباحية في شرق آسيا ونزل بأحد الفنادق وطلب خمرا ثم أخذ يشرب منها قارورة بعد قارورة وزجاجة بعد زجاجة حتى أحس بالألم يعتصر بطنه وشعر بالرغبة في التقيؤ فذهب إلى دورة المياه، وهناك لم يعرف أنها ستكون لحظاته الأخيرة عندما أخذ يتقيأ ما بجوفه من خمر خرجت روحه ووقع.. فتجمع الناس بالخارج وأخذوا يطرقون عليه الباب ثم كسروه فوجدوا رأسه في أخس مكان في دورة المياه.
قارنوا بين خاتمة هذا الرجل وخاتمة هذا الشاب الذي جلس في المسجد بعد صلاة الفجر ينتظر صلاة الضحى مع إخوانه فلما أخذ ركنا وجلس يقرأ القرآن وكانت هي الساعة الأخيرة من عمره، على هذه العبادة المباركة ففزع إخوانه وقاموا إليه مسرعين لينجدوه، ولكنهم وجدوه قد فارق الحياة علام سيبعث هذا الغلام، وعلام سيبعث هذا الرجل؟! سيبعث هذا الغلام وجوفه مليء بذكر الله عز وجل ويقال له إن شاء الله تعالى: أقرأ ورتل فإن منزلتك عند الله تعالى عند آخر آية كنت تقرأها، وسيبعث ذلك الرجل وفمه ملئ برائحة الخمر وجوفه ملوث بها.
تلكم أيها المسلمون أعظم دواهي الموت التي ينبغي أن نتعظ بها: قوة السكرات والنزعات وشدة الندم والحسرات ومصير خاتمة الحياة فهل يبقى بعد ذلك للمذنب أن يصر على ذنبه؟ هل يبقى بعد ذلك للفاجر أن يمضي في فجره؟ هل يحق بعد ذلك لعاقل أن يبتعد عن ربه؟
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لعرسها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فمن عاش ألفا وألفين إنه لابد من يوم يسير إلى القبر
أيها المسلمون: إن خطورة الموت تكمن في أنه فاصل بين حياتين وحاجز بين دارين: دار الحياة الدنيا ودار الحياة الآخرة، دار العمل ودار الجزاء، دار الاختبار ودار الحساب، فالإنسان منا إذا مات استقبل حياة جديدة وبدأ حسابه وقامت قيامته حتى إذا أذن الله تبارك وتعالى لإسرافيل بالنفخ في الصور وبدأ النشور وحقت الحاقة ووقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً فكانت هباءً منبثاً يومئذ ينشق القبر من فوقك ويزحزح التراب عنك وتخرج عاريا تنفض عن رأسك الغبار وتقوم بين أفواج من البشر وأمواج من الخلائق من لدن آدم عليه السلام.
وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون.
يوم ندعو كل إناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً.
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً أقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
فماذا ستفعل أيها العبد المسكين أمام تلك الأهوال؟ وما الذي سينفعك وقتها؟ والله لن ينفعك وقتها مال ولا بنون؟ لن ينفعك إلا قلب سليم وركعة ركعتها في جوف الليل أو آية قرأتها من كتاب الله ترجو ثوابها أو صدقة وضعتها في يد يتيم أو دمعة نزلت من عينيك خوفا من الله جل وعلا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1093)
من أرضى الله بسخط الناس
العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, قضايا دعوية
محمد بن سعد
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث يأمر بالتماس رضا الله فحسب. 2- موقف العلماء الربانيين من المنكرات.
3- موقف علماء السوء من المنكرات. 4-الضغط على بعض الدعاة قد يؤدي بهم إلى المداهنة.
5- مواقف في الثبات وأخرى في المداهنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة الأحباب: هيا لنقضي بعضا من الوقت في الحديقة الزهراء والجنة الغناء، في رياض السنة المشرفة وبين حدائقها المكرمة، نسير في ربوعها ونستريح في ظلالها نستنشق عبير أزهارها ونقطف من ثمارها ونصلي ونسلم على صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم.
أخرج الترمذي في الزهد عن رجل من أهل المدينة قال: كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فبعثت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام الله عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) والسلام عليك [والحديث إسناده صحيح]. وفي رواية لإبن حبان: ((من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله، ومن أسخط الله برضى الناس وكله الله إلى الناس)) [وسنده صحيح أيضا، والحديث ذكره الشيخ الألباني في حديث الجامع الصغير السيوطي وقال عنه الشيخان شعيب وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيقهما لزاد المعاد: إسناده صحيح]. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من التمس رضا الناس)) التمس يعني: طلب، وقوله عليه الصلاة والسلام (كفاه الله مؤونة الناس) المؤونة التبعية والمقصود كفاه الله تعالى شر الناس وأذاهم.
أيها الأخوة الكرام: ها هو ذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيرا إلا دلنا عليه، ولا شرا إلا حذرنا منه، ها هو ذا عليه الصلاة والسلام في كلمات بسيطة الأسلوب بليغة التركيب وجيزة المبنى عظيمة المعنى يعطينا في هذا الحديث الشريف مبدءا هاما في معاملة الناس ومعايشتهم، فذكر عليه الصلاة والسلام طريقين لا ثالث لهما.
الطريق الأول: طريق من التمس رضا الله تعالى ولو سخط عليه الناس، وهو طريق ينبع من توحيد العبد لربه عز وجل، إذ ليس للإنسان أن يتوجه إلا لله، فلا يخاف إلا إياه، ولا يرجو سواه، ولا ينطلق في حياته إلا طلبا لرضاه في كل حركاته وسكناته في كل معاشراته ومعاملاته، فينفذ ما أمر الله تعالى به لا يلتفت في ذلك لمدح مادح أو ذم ذام، ولا يضع في نفسه وهو يرضي الله عز وجل أدنى حساب لسخط أحد من الخلق أو رضاه مهما كلفه ذلك من مشاق.
والطريق الآخر: هو طريق من لم تخلص نفسه لله عز وجل، طريق ضعاف الإيمان ومن اهتزت عقيدتهم فهو يبحث عما يرضي الناس ويفعله، وعما يعرضه لسخطهم فيتركه، ولو كان ذلك على حساب دينه، ولو كان في ذلك ما يسخط ربه عز وجل، لأن المهم عنده ألا يخسر الناس وألا يكون في موضع نقمتهم وغضبهم.
إنها لقضية خطيرة حقا، ذلك أن الإنسان لابد له أن يتعامل مع الناس ويعيش بينهم، ويجب عليه في نفس الوقت أن يعيش بمنهج الإسلام موحدا لله عز وجل مطبقا لحدوده، ولكن كثيرا من الناس حوله ينحرفون ويفجرون ويظلمون ويتعدون حدود الله تعالى، ومن هنا كان على المسلم أن ينكر ذلك وأن يغيره ويحارب تلك المنكرات والمخالفات وأن يظهر دين الله عز وجل، عندئذ يطلب منه هؤلاء المنحرفون أن يسكت أو يوافقهم على انحرافهم، ويضغطون عليه بشتى الوسائل كما هو الواقع الذي نعيشه فالمسلم المتمسك بدينه اليوم يعيش في هذه المجتمعات المنحرفة وبين الحكومات الضالة الظالمة والأسر الغافلة، فيسعى بينهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحيي الإسلام ويجاهد لإقامته في الحياة فينزعج الناس الغافلون والمنحرفون منه ويتضايقون.
يتضايقون من هذا الذي يخالفهم في سلوكه ومظهره، وينكر عليهم ما اعتادوه من المنكرات، وينزعج منه الطغاة من الحكام، فيواجه المسلم الملتزم بدينه حربا ضروسا وهجوما عنيفا بشتى الوسائل لإسكاته أو لإبعاده عن منهجه، ولكيلا يستجيب لدعوته الناس فيواجه الاستهزاء والتهديد أو التعذيب أو السجن أو المحاربة في الرزق، ويقف المسلم ممتحنا أمام الطريقين اللذين لا ثالث لهما إما أن يرضي الله عز وجل ولا يبالي بسخط الناس وأذاهم، فيسير مستقيما لا يميد ولا يحيد، وإما أن يرضي الناس فيوافقهم على انحرافهم وضلالهم ويتميع معهم ليتجنب بطشهم أو سخطهم، فيسخط الله عز وجل.
وكثيرا ما يتعرض المسلم الملتزم بدينه وهو ينطلق في الحياة يتعامل مع الناس لمثل هذا الموقف ليتخير أحد الطريقين. ولنستعرض على ذلك أمثلة فمن أهم هذه الأمثلة والصور ما يقع للعلماء عندما تظهر المنكرات ويعم الفساد ويطغى الحكام ويصبح واجبا عليهم الإنكار والتغيير وبيان الحق للناس قبل غيرهم، فمن العلماء من لا يفكر إلا فيما يرضي الله عز وجل فيحارب الباطل ويفضح الظالم، وأقل درجات إنكار المنكر الإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك إيمان.
ومن العلماء وهم علماء السوء الذين يسيرون في ركاب الحكام وضالة الناس فيرضيهم طمعا بما عندهم أو خوفا من بطشهم ونقمتهم، فلا يأمر ولا ينهى بل يبيعون ذممهم ودينهم بحفنة أموال أو بمنصب عال، ويسرعون إلى عتبات السلاطين بالفتاوى المعلبة الجاهزة، وكم رأينا فتاوى لعلماء السوء في وسائل الإعلام من صحف ومجلات وإذاعات عندما يسألون عن أمور قد تخفى على كثير من الناس كحكم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار أو حكم بناء المساجد على القبور أو تلك القوانين الوضعية التي يكبل بها المسلمون أو تلك الموالاة الصريحة لليهود والنصارى، فتجدهم يدورون في فتواهم حول الحق ويداهنون السلاطين.
والذي يفضح لك علماء السوء ويبين أنهم يسعون لرضا سلاطينهم لا إلى رضا الله عز وجل أنك تجد الفتوى الواحدة في المسألة الواحدة تتغير وتتبدل كلما تغير رأي الحاكم أو تبدل اتجاهه أو كلما تغير حاكم وجاء آخر، وكم شاهدنا وقرأنا لمن يكتب في تحريم الربا كله عاما ثم يكتب في حله كذلك عاما آخر، ورأينا من بارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس حتى لا يقال عنه متخلف أو متحجر، وحتى لا يتهمه أرباب الصحف في مقالاتهم بأنه يعيش بعقلية القرون الوسطى.
وأقرب الأمثلة على ذلك أنه حدث كلام في لجنة الشؤون الدينية بمجلس الشعب حول استصدار قرار بإلغاء مهرجانات السينما لما فيها من عري وفساد وما لها من تأثير على دين الناس، فاستنكر ذلك صاحب أخبار الناس بجريدة الأخبار، ويبدو أن استنكاره كان موجها لرئيس اللجنة، فسارع رئيس لجنة الشؤون الدينية الذي يحمل درجة الدكتوراه لينفي اللوم عنه وعن جميع أعضاء اللجنة، ولو مجرد التفكير في هذا القرار فقال ردا على المقال: عزيزي محرر صفحة أخبار الناس، بخصوص مقالتك الخاصة بإلغاء مهرجانات السينما في مصر إن الأمر لم يتعد رأيا من الضيوف الذين يحضرون اجتماعات اللجنة، ولم يؤيده أحد من الأعضاء، وبالتالي لم يصدر به قرار.
ومن الصور الخطيرة التي يقف الإنسان فيها ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل، وإما أن يرضي الناس ما يحدث لبعض الدعاة عندما يتعرضون للضغوط، فيحاول أعداء الدعوة أن يساوموا الدعاة للتنازل عن بعض الأمور أو السكوت عنها أو إيجاد خط مودة بينهم في مقابل السماح للدعاة ببعض الحرية.
وكثيرا ما تضعف نفوس وتزل أقدام أمام تلك الضغوط والإغراءات، أضف على ذلك ما يدب في قلوبهم من ملل بسبب طول العداء وكثرة الأذى، فيميل البعض إلى المصالحة والمداهنة في أمور الدعوة، فيقدمون رضا الناس على رضا الله عز وجل، ويخطئون الطريق، فالله عز وجل لا يرضى بالمداهنة في دينه، ولا يرضى بأنصاف الحلول أو أن يتصافح الحق مع الباطل أبداً.
ولعل من الصور التي يقف فيها المرء ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل أو يرضي الناس ما يحدث للشباب عندما يضغط الوالدان الغافلان على أولادهم، فيأمران مثلا بما فيه معصية الله أو عندما يطلب الأصدقاء من صديقهم ألا ينكر عليهم بعض المخالفات التي يرتكبونها وألا يزعجهم بنصائحه وألا قاطعوه وخسرهم.
إن تلك الصور وغيرها كثير لو تأملناها لوجدنا الناس أمامها ينقسمون على العموم إلى قسمين: قسم لا يفكر إلا في رضا الله عز وجل، وقسم تضعف نفسه أمام الضغوط.
ولقد بين عليه الصلاة والسلام لنا عاقبة كل طريق ونهايته.
أما الطريق الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس)) فبين أن الله تعالى تكفل وتعهد بحفظ من يطلب رضاه ويقدمه على رضا الناس كما قال تعالى في كتابه الكريم: أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام.
أليس الله بكاف عبده وقرأ بعضهم: أليس الله بكاف عباده يعني أنه سبحانه وتعالى يكفي من عبده وتوكل عليه ويخوفونك بالذين من دونه يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا، ولهذا قال عز وجل: ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام يعني أليس الله منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه، فإنه سبحانه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد انتقاما منه.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكل من أرضى الله بسخط الناس كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل الحرام وصبر على عداوتهم – أي عداوة المنحرفين والظالمين من الناس – ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت الرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار، ومن ابتلي من العلماء وصالحي الولاة والتجار وغيرهم.
لقد كان علماء السلف الصالح رحمهم الله يضربون الأمثلة الرائعة في الثبات أمام طغاة الناس من الحكام وغيرهم، وكان نتيجة هذا الثبات أن أكرمهم الله عز وجل بالنصر أو بالشهادة
استدعى عمر بن هبيرة والي العراق الحسن البصري والإمام الشعبي ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم هل ينفذها أم لا فسأل عمر الشعبي في هذا الموقف أولا، فقال كلاما يرضي الوالي والخليفة، والحسن البصري ساكت، فلما انتهى الشعبي من كلامه التفت عمر بن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد، فوعظه الحسن البصري موعظة قوية أمره فيها بالمعروف ونهاه فيها عن المنكر، ولم يداهن أو يواري فقال فيما قال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد في الدنيا والآخرة، وإن تك مع يزيد في معصيته فإن الله يكلك إلى يزيد، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنا من كان في معصية الخالق عز وجل، فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، وأكرم الحسن البصري إكراما شديدا، ولم يلتفت إلى الشعبي فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد، واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسا هاما تعلم ألا يرضي أحدا دون الله تعالى بعد ذلك قال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولاً لا أجهله – يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن – ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قال وجه الله.
ولو تأملنا موقف الدعاة أمام بطش الطواغيت واغراءاتهم لوجدنا إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم قد تعرض لضغوط ومساومات عديدة ليتنازل عن بعض أمور الدعوة كما قال سبحانه: ودوا لو تدهن فيدهنون أي ود الكفار لو تدخل معهم يا محمد في مجال المساومة على الدين، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حاسما في موقفه حتى وهو في أحرج الأوقات وأشد الأزمات وهو محاصر بدعوته وأصحابه يعذبون ويتعرضون للأذى لم يحاول أن يرضي الكفار قط ولو بكلمة واحدة تسخط الله عز وجل، بل فضح عليه الصلاة والسلام الشرك والمشركين فماذا كانت النتيجة فتح الله عليه ونصره وأيده وآواه إلى المدينة وأعره وأعز المسلمين، ولو مال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكفار قليلا أو أرضاهم وهذا مجرد افتراض فقد قال الله عز وجل: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لأتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ً إن الله عز وجل يصون ويرضي من يقدم رضاه على رضا الناس وليس شرطا أن لا يؤذى أو يعذب فقد يؤذى المسلم لحكمة يعلمها الله عز وجل كأن يكون تكفيرا لسيئاته أو رفعا لدرجته أو لينال الشهادة وما أعظمها منزلة كما في الحديث الحسن: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)).
أما عاقبة من يقدم رضا الناس على رضا الله عز وجل فهي الخيبة والخسران يقول عليه الصلاة والسلام: ((ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) ومن وكله الله تعالى للناس وقع في المهالك وتخطفته الخلائق وأصابه الخذلان وتجرأ عليه كل إنسان بل أكثر من ذلك قد ينقب الذي كان يسعى لإرضائه فيصير له عدو كما جاء في قول للسيدة عائشة رضي الله عنها: من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما.
وكما ضرب الإمام ابن القيم في ذلك مثلا برجل متدين تقي حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم إلا بموافقته لهم أو سكوتهم عنه فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى وأضعاف ما كان يخاف لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلابد وأن يهان ويعاقب على يد غيرهم، فالحزم كل الحزم كما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية.
أيها الأخوة الكرام: وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/1094)
تجربة
الإيمان
الجن والشياطين
أبو إسحاق الحويني
غير محدد
غير محدد
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله رب العالمين، الذي أبان لعباده من آياته ما به عبرة للمعتبرين، وهداية للمهتدين، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، أمر بالتفكير في مخلوقاته؛ ليستدل بها على قدرة خالقها وعظيم صفاته وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلا، يدرك به الأمور، ويميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد، والخير والشر، وجعل مناط التكليف على وجود هذا العقل، فإذا اختل العقل ارتفع التكليف عنه. وقد أمر الله تعالى الإنسان أن يستخدم هذا العقل، الذي أنعم به عليه فيما يعود عليه بالنفع، يستخدمه في التفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته، بل يتفكر في خلق نفسه، فانقسم الناس في ذلك إلى أقسام، وخير هذه الأقسام من وصفهم الله بقوله سبحانه: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.[آل عمران:191]
وشر هذه الأقسام من قال الله فيهم: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون.[الأعراف:179]
فيتبين بهذا أن التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب، وأصحاب العقول السليمة الراشدة.. فينبغي للمسلم أن يعتني به، فإن الإنسان مع طول الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات العظيمة في هذا الكون.
عباد الله: إن التفكر في خلق الله تعالى ليزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين، ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ [فاطر:28] ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك، يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمَ، ولا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل. ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه.
عباد الله: إذا نظر العبد إلى ما خلق الله تعالى في هذا الكون من المخلوقات العظيمة، والآيات الكبيرة، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه سبحانه إله واحد كامل العلم والقدرة والرحمة، فمن آياته خلق السموات والأرض فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وعظمتها، عرف بذلك تمام قدرته سبحانه: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ،[النازعات:27-28] والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ، [ الذاريات:47] أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لهم من فروج [ق:6]
أخرج أبو داود وغيره عن العباس – - قال: قال رسول الله – -: ((هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف – أي سمك – كل سماء مسيرة خمسمائة سنة - وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)) [1] [1].
ومن آياته: خلق الأرض وما جعل الله تعالى فيها من الرواسي والأقوات والخلق الذي لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى. فانظر كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من رزقه، وانظر كيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين [ الذاريات:20] ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق هذه السماوات العظيمة وهذه الأرض وما بينهما في ستة أيام، ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام.. وهو سبحانه لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس:82]، ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها. حكى الحافظ ابن كثير – رحمه الله – أنه سُئل أحد الأعراب فقيل له: ما الدليل على وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!.
ومن آياته: ما بث في السماوات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا الله تعالى أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن أبي ذر – - قال: قال رسول الله – -: ((أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)) 2
. جاء في الصحيحين عن النبي - -: ((أن البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)). وروى أبو داود وغيره بسند صحيح عن جابر – - أن رسول الله – - قال: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة)) [2] [2].
وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلا عن أنواعه وأفراده فانظروا أولا كم على هذه الأرض من البشر من بني آدم، ليسوا بالآلاف ولا حتى بالملايين، بل بالمليارات آلاف الملايين، ومع ذلك فألسنتهم وألوانهم مختلفة فلا تجد شخصين متشابهين من جميع الوجوه كما قال تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.
قال ابن كثير [3] [3] - رحمه الله -: ((فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر. بل لابد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا يظهر بالتأمل، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لابد من فارق بين كل منهم وبين الآخر)). ا.هـ.
ثم انظر ما على هذه الأرض من أصناف الحيوانات التي لا يحصيها إلا الله تعالى! كم على اليابسة فقط من أصناف هذه الحيوانات؟ وكم في هذه البحار والمحيطات من أصناف الحيوانات؟ وهي مع ذلك مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع للعباد الذي يعرفون به كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف به الإنسان قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته.
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
وكل دابة من هذه الدواب وكل صنف من هذه الحيوانات خلق لحكمة بالغة فلم يخلق شيء من هذا الكون عبثا قطعا: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ، وقد تكفل الله برزق هذه الدواب ويعلم مستقرها ومستودعها: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
ومن آياته: هذه الرياح اللطيفة التي يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه الكثيرة ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه إلى بعض سريع بإذن الله وإذا شاء أن يفرقه سريعا أصبحت السماء صحوا وفي ذلك أعظم الدلالة على عظمة خالقها ومصرفها ومدبرها ولذلك فقد أقسم سبحانه – وهو سبحانه إذا أقسم بشيء من مخلوقاته دل ذلك على عظمة المقسم به – كما قال سبحانه: والذاريات ذرواً ، ومعنى الذاريات أي الرياح: فالحاملات وقراً ، أي: السحاب التي تحمل وقرها من الماء. وهذه الرياح وهذا السحاب مسخر بأمر الله تعالى لا يتجاوز ما أمره به خالقه ومنشؤه سبحانه وتعالى.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس – - قال: أصابت الناس سَنة على عهد النبي - أي شدة وجهد من الجدب وعدم نزول المطر – قال: فبينما النبي – - يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله: هلك المال، وجاع العيال، وانقطعت السبل فادع الله لنا. فرفع النبي – - يديه، يقول أنس: وما نرى في السماء قزعة – أي قطعة سحاب – يقول: فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته – -. سبحان الله العظيم! صعد النبي – - المنبر وما في السماء من قزعة سحاب وما نزل إلا والمطر يتحادر من لحيته!.
فسبحان الله! إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
يقول انس – -: مطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله !تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع النبي – - يديه وقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر)). يقول أنس – -: فما يشير بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا على المدينة وسال الوادي شهرا ولم يجئ أحد من ناحيته إلا حدَّث بالجود: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير.
2 المسند (5/173) سنن الترمذي (2312) سنن ابن ماجه (4190).
[2] [1] قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن. وقواه ابن القيم – رحم الله الجميع-.
[2] [2] قال الحافظ الذهبي في (العلو للعلي الغفار :ص114): (( إسناده صحيح )). وقد ذكر الألباني عدة شواهد له في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/232) رقم (151).
[3] [3] تفسير ابن كثير :3/530.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/1095)
الإنفاق في سبيل الله
فقه
الزكاة والصدقة
عبد السلام بن محمد زود
سدني
23/9/1420
مسجد السنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة النصوص الشرعية للإنفاق في سبيل الله. 2- المال عطية الله يبتلي بها عباده.
3- الصدقة تدفع البلاء. 4- الله يخلف لك صدقتك. 5- الصدقة تطهير من الذنوب.
6- صدقة السر. 7- نصائح للمنفقين في سبيل الله. 8- وقت الصدقة. 9- ثمرات الصدقة في
الدنيا والآخرة. 10- ندم البخيل والشحيح. 11- شبهات يثيرها الشيطان في وجه المنفقين.
12- الصدقة زادك بعد الموت. 13- صور من إنفاق الصحابة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخواني في الله: رغب الإسلام في الصدقة، والعطف على الفقراء، ومواساة أهل الحاجة والمسكنة، ورتب على ذلك أعظم الأجر عند الله تعالى يوم القيامة. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [البقرة:267]. وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16].
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ،... وَلَرَسُولُ اللَّهِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)).
وإن رجلا سأله فأعطاه غنما بين جبلين فأتى الرجل قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. [رواه مسلم].
إخواني في الله: آيات من كتاب الله تعالى، نادي الله فيها عباده المؤمنين، وأمرهم بالإنفاق في سبيله، ليدخروا ثواب ذلك عنده، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة من قبل أن يأتي يوم وهو يوم القيامة لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.
واعلموا إخواني: أن الله تعالى ابتلاكم بهذا المال، فمن استعان به على طاعة الله، وأنفقه في سبل الخيرات، كان سببا موصلا له إلى رضوان الله والفوز بالجنة، قال تعالى: إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور.
ومن استعان بماله على معصية الله، وأنفقه في تحصيل شهواته المحرمة، واشتغل به عن طاعة الله، كان سببا في غضب الله عليه واستحقاقه العقاب الأليم، قال الله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة:34].
والإنفاق في سبيل الله: خير تقدمه لأخراك، قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
والإنفاق في سبيل الله: يدفع الله عز وجل به عن العبد البلاء، حتى كان بعضُ العلماء يوصي إخوانه إذا أصابتهم الشدائد والملمات، أن يكثروا من الصدقات حتى يرحمهم الله عز وجل، وكم من يد أعطت لوجه الله عز وجل عافاها الله ودفع عنها البلاء.
والصدقة دليل وبرهان على إيمان صاحبها: قال : ((... والصدقة برهان...)) [رواه مسلم].
والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار: قال : ((تصدقوا ولو بتمرة، فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) [صحيح ابن المبارك].
والصدقة فيها تيسير على عباد الله المؤمنين وتنفيس لكرباتهم، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.....)) [رواه مسلم].
والصدقة يخلفها الله عليك: قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]. وقال تعالى في الحديث القدسي: ((أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)) [متفق عليه من حديث أبي هريرة]. وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا)) [متفق عليه].
والصدقة تطهر صاحبها من الذنوب والخطايا وتزكيه: قال تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها الآية: [التوبة:103].
والصدقة لا تنقص المال بل تزيده وتبارك فيه: فعن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ)) [رواه مسلم].
وبالصدقات تستر العورات، وتفرج الكربات، وتدفع الشدائد عن عباد الله المؤمنين والمؤمنات، فكم من صدقة دَفعت عن صاحبها أبوابا من البلايا لا يعلمها إلا الله، وكم من صدقة رحم الله بها معذبا، وفرّج بها عن المهموم الهموم والكروب، فإذا عظمت على الإنسان ذنوبه، وكثرت منه خطاياه وعيوبه، فما عليه إلا أن يكثر من الصدقات رجاء أن يرحمه الله بها.
إخواني في الله: هذه الصدقات كان النبي يُرَغّب في إخفائها لينال الإنسان أجره كاملا عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)) ذكر منهم: ((وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ)). لذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يحرصون على إخفاء صدقاتهم، حتى ذكروا عن التابعي الجليل زين العابدين، أنه كان ينفق على الناس في ظلمات الليالي، فلما توفي فَقَدَ أكثرَ من ثلاثين بيتا من ضعفة المسلمين رجلا يقرع عليهم الباب بالليل بالطعام، فكانوا رحمهم الله يخفون الصدقات رجاء أن يتقبلها الله منهم.
أخي في الله: ولكي يتقبل الله صدقتك ينبغي أن تراعي الأمور التالية:
1- أن تصلح نيتك: فتقصد بصدقتك وجه الله عز وجل، قال تعالى: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [البقرة:272]. فإنك إن لم تقصد وجه الله وقصدت بها الرياء والسمعة لم تقبل منك، وبالتالي تعاقب على ذلك أيضا.
2- أن تتخير الأجود من الحلال الطيب الذي تحبه فتنفقه، قال تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا)) [مسلم].
وعن سعيد بن هلال أن ابن عمر رضي الله عنهما نزل الجحفة وهو مريض فاشتهى سمكا، فلم يجدوا إلا سمكة واحدة، فلما قربت إليه أتى مسكين حتى وقف عليه، فقال له ابن عمر: خذها، فقال له أهله: سبحان الله! قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه. فقال: إن عبد الله يحبه!!
ووقف سائل على باب الربيع فقال: أطعموه سكراً فقالوا: ما يصنع هذا بالسكر؟ نطعمه خبزا أنفع له قال: ويحكم أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر!!
3- أن تقدم ذوي الحاجة من أقربائك وذوي رحمك، فقد قال رسول الله : ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)) [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني].
4- أن تتحرى بصدقتك أهل الدين الذين يستعينون بهذه الصدقة على طاعة الله، ولا ينفقونها في معصيته فتكون معاونا لهم على المعصية والإثم.
5- أن تسر بصدقتك ما استطعت، إلا إذا كان في إعلانها مصلحة راجحة فأعلنها، قال تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم الآية [البقرة:271].
وذكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) [متفق عليه].
6- وعليك أخي المتصدق أن تتصدق بما سهل عليك وإن كان قليلا، المهم أن لا ترد السائل ولو بأيسر شئ، فعن جابر قال: (ما سئل النبي شيئا قط فقال: لا). [متفق عليه]. وأتى سائل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعندها نسوة، فأمرت له بحبة عنب، فتعجب النسوة منها، فقالت: إن فيها ذرا كثيرا !! تتأول قوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره [الزلزلة: 7].
7 - وعليك أخي أن تعود نفسك على الصدقة ولو كنت فقيرا، فقد سئل عن أفضل الصدقة فقال: ((جهد المقل)) [رواه أحمد والنسائي وأبو داود]. أي صدقه الفقير.
أفضل أوقات الصدقة:
واعلم أخي أن أفضلَ ما تكون الصدقة إذا كانت في عز الشباب، واقتبال العمر، مع كمال الصحة والعافية، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: ((أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ)) فهذه الصدقة من أحب الصدقات إلى الله تعالى.
ثمرات الصدقات: أما الثمرات التي تجنيها من صدقتك فكثيرة منها:
1 - بل من أعظمها وأجلها رحمة الله لك، وغفرانه لسيئاتك: فعن أبي هريرة أن النبي قال: ((غُفِرَ لإمْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ -بئر- يَلْهَثُ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ الْمَاءِ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ)) [رواه البخاري]. أجل لقد غفر الله لهذه المرأة البغي من بغايا بني إسرائيل، لأنها سقت كلبا شربة ماء، وإذا كان هذا في كلب بهيم فكيف بمن يسقي إنسانا يذكر الله تعالى؟! كيف بمن يفرج همَّ بيت من بيوت المسلمين، فيكفله في كل شهر بمال يتقرب به إلى الله رب العالمين، فلذلك أول ما يجنيه الإنسان من الصدقة رحمة الله عز وجل به.
2 - وأما الخصلة الثانية التي تجنيها من صدقتك: فهي محبة الناس ودعاؤهم لك: فإن القلوب فطرت على حب من أحسن إليها، وكم من أناس أنفقوا أموالهم في الطاعات ماتوا وكأنهم لا زالوا في الناس أحياء، وكم من أناس أنفقوا لوجه الله ما زالت الناس تذكرهم بصالح الدعوات، حتى بعد وفاتهم ومماتهم، فالله عز وجل يجعل لأهل الصدقات من حسن الذكر وجميله الشيء الكثير.
3 - وأما الخصلة الثالثة التي تجنيها من الصدقات: فهي أنها تدفع النار عنك يوم القيامة: فعن عدي بن حاتم عن النبي أنه قال: ((اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلاَثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) [رواه البخاري].
وورد في الحديث الصحيح عن النبي أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن امرأة جاءتها ومعها ابنتها، فأعطتها عائشة تمرتين، فأخذت الابنة تمرة فأكلتها، فجاءت الأم تريد أن تأكل تمرتها فطلبتها ابنتُها منها فأعطتها الأم تلك التمرة، فعجبت عائشة من صنيعها، فلما دخل النبي عليها أخبرته خبرها، فقال : أتعجبين من أمرها إن الله غفر لها بتلك التمرة. 4 - ومن ثمرات الصدقات: أنها تظلك يوم القيامة وتحول بينك وبين حر الشمس حينما تدنو من رؤوس العباد، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ يَزِيدُ: وَكَانَ أَبُو الْخَيْرِ لَا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ بَصَلَةً أَوْ كَذَا)) [رواه الإمام أحمد].
5 - ومن ثمرات الصدقات: أنها تدخلك الجنة من باب الصدقة، كما قال النبي : ((وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ..)) [متفق عليه].
7 - ومن ثمرات الصدقات أن الله يضاعف لك أجرها إلى سبعمائة ضعف يوم القيامة: فعن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال: رسول الله : ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة)) [رواه مسلم].
وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ- فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ -صغير الخيل- حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ)) [رواه البخاري].
التحذير من البخل:
إخواني في الله: بعد أن رغب الله عز وجل في الإنفاق، حذر من البخل والإمساك، وأخبر أن الممسكين عن الإنفاق سيندمون في ساعة لا ينفع فيها الندم، وهم على فراش الموت قادمين على الله تعالى، روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: (مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَفْعَلْ يَسْأَلِ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ) فَقَالَ رَجُلٌ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ اتَّقِ اللَّهَ، إِنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ، قَالَ: سَأَتْلُو عَلَيْكَ بِذَلِكَ قُرْآنًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9-11].
إخواني في الله: وحتى لا نقع في الحسرة والندم في ساعة لا ينفع فيها ذلك، قال : ((َصَدَّقُوا فَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالأَمْسِ لقَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهَا)) [أخرجه البخاري عن حارثة بن وهب الخزاعي].
أخي في الله: والله لن تجد أياما تعينك فيه النفس البخيلة الشحيحة على الإنفاق في سبيل الله، أفضل من هذه الأيام في هذا الشهر المبارك الذي غُلت فيه الشياطين وصفدت، فاغتنم هذه الفرصة أخي، وتقرب إلى الله بالإنفاق في وجوه الخير، ابتغاء مرضاة الله.
وبالمقابل فإن الإنسان ليندهش من بعض أصحاب الأموال الذين يملكون الآلاف والملايين، ثم تَشُحُّ أيديهم بقليل من المال ينفقونه في سبيل الله، حتى على أنفسهم أحيانا، وإني لأسألك أخي الغني: لمن تدخر هذا المال؟ ولم يبق لك من هذه الحياة إلا سنوات أو أيام معدودات لا سيما إن تجاوزت السبعين، لم يبق من عمرك إلا كالشمس على رؤوس الجبال عند غروبها، فأنت لا تدري أيُصَبِّحك الموت أم يمسيك.
أخي وأختي لقد دعاكما الله ورسوله إلى الإنفاق في أبواب الخير، وهي كثيرة: دعاكما إلى الإنفاق لإطعام جائع، أو تفطير صائم، أو كسوة عار، أو إغاثة ملهوف، أو كفالة يتيم مات أبوه، أو إلى الإنفاق في مشروع دعوة، كتوزيع كتاب أو شريط، أو تجهيز غازي في سبيل الله، أراك أخي وأختي لا زلتما مترددين.
إياك أخي أن تتعلل بخوف الفقر وأنت الذي تملك الآف الدولارات بل ملايينها، وإياك أن تحتج بأنه ليس لديك أموالا نقدية للإنفاق.
فأقول لك: ليس ضروريا أن تكون الصدقة التي دعاك الله إليها دولارات نقدية، بل قد تكون الصدقة أرضا أو سيارة أو عمارة أو بيتا أو شقة تجعلها وقفا في سبيل الله، يعود ريعها على الفقراء والأيتام والمساكين والمشاريع الخيرية وما أكثرها، ويعود أجرها عليك ولو بعد وفاتك.
وإياك أن تقول أخشى أن لا تصل الصدقة إلى مستحقيها، وقد علمت أن إخوانك يوصلونها، وعلى كل حال ألم تسمع حديث رسول الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة والذي قال فيه رسول الله : ((قَالَ رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ)).
إن المال أيها الأخ الكريم هو العنصر المفقود في معظم الأعمال الخيرية الإسلامية، فقد وجدنا المسلمين قادرين بإذن الله على أن يقوموا بالدعوة، ونشر الخير، وإحياء الجهاد في سبيل الله، ولا ينقصهم في ذلك كله إلا المال، واللهُ قد جعل المال بيدك خازنا له وأمينا عليه، أفيسرك أن يُكوى به جنبك وجبينك وظهرك يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!!.
إذا فأسرع أخي في الإنفاق من مالك وأنت على قيد الحياة قبل أن يتحول هذا المال الذي تعبت في تحصيله طيلة حياتك إلى ورثتك، الذين هم بين أمرين: إما أن يتقوا الله فيه، فيكون ذلك في ميزان حسناتهم يوم القيامة، ورحم الله يحي بن معاذ الذي قال: مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما: قيل ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله.
أخي في الله: فكِّر قليلا: من سيتصدق عنك غدا؟ ومن سيحج عنك إن لم تكن قد حججت بعد؟ ومن سيدعو لك؟ ربما من تصدقت عليه يدعو لك، وابنك الذي يرثك لا يذكرك بدعوة صالحة، بل إن صدقة جارية تتركها من بعدك قد تكون خيرا لك من ابنك الذي ورث مالك، ولم يذكرك بدعوة صالحة أو بصدقة يتصدقها عنك بعد وفاتك.
وهذه حقيقة لا أقولها من فراغ، أين أبناء هذه البلاد الذين يدعون الله لآبائهم وأمهاتهم وهم على قيد الحياة؟ فضلا عن أن يدعوا لهم أو يتصدقوا عنه بعد الوفاة، هل رأيت ابنك يوما رافعا يديه إلى الله يدعو لك بدعوة صالحة؟ أرجو ذلك.
إسمع ماذا قال الحسن البصري رحمه الله: بئس الرفيقان: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.
أخي إستمع معي إلى هذا الحديث الذي يخلع القلوب خلعا، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله وهو في ظل الكعبة فقال: ((هم الأخسرون ورب الكعبة)) قالها ثلاثاً، قال أبو ذر: فأخذني غم، وجعلت أتنفس وقلت: هذا شر حدث في، فقلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: ((الأكثرون أموالا، إلا من قال في عباد الله هكذا وهكذا، وقليل ما هم)) [رواه مسلم]. أفيسرك أخي أن تكون من الخاسرين يوم القيامة بسبب إمساك المال وعدم إنفاقه؟!!. ورحم الله من قال:
يا جامعا مانعا والدهر يرمقه مقدرا أي باب منه يغلقه
مفكرا كيف تأتيه منيته أغاديا أو رائحا بل كيف يتركه
جمعت مالا فقل لي هل جمعت له يا جامع المال أياما تفرقه
المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إرفق ببال فتى يغدو على ثقة إن الذي قسم الأرزاق يرزقه
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يبق في ظلها هم يؤرقه
وقال رجل للحسن: إني أكره الموت فقال الحسن: ذاك أنك أخرت مالك، ولو قدمته لسرك أن تلحق به.
عوتب سهل بن عبد الله المروزي في كثرة الصدقة فقال : لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يبقي في الأولى شيئا !
وحكي أن بعض الزهاد وقف على جمع فنادى بأعلى صوته : يا معشر الأغنياء لكم أقول : استكثروا من الحسنات فإن ذنوبكم كثيرة , ويا معشر الفقراء لكم أقول : أقلوا من الذنوب فإن حسناتكم قليلة.
ورحم الله من قال:
إذا المرء لم ينفعك حيا فنفعه أقلُ إذا ضُمت عليك الصفائح
بأية حال يمنع المرء ماله غدا فغدا والموت غاد ورائح
ثم اعلم أخي أن مالك الحقيقي هو ما قدمته لآخرتك، سأل النبي أصحابه يوما فقال: ((أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدَّم، ومالَ وارثه ما أخَّر)) [رواه البخاري عن ابن مسعود].
وقال سلمان الفارسي: إذا مات السخي قالت الأرض والحفظة: رب تجاوز عن عبدك في الدنيا بسخائه، وإذا مات البخيل قالت: اللهم احجب هذا العبد عن الجنة كما حجب عبادك عما في يديه من الدنيا. – وقال : ((يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) [رواه مسلم].
ثم دعني أخي أهمس في أذنك هذه الكلمة التي قالها الحسن البصري رحمه الله: من أيقن بالخلف جاد بالعطية. لكن مشكلتنا أن إيماننا ضعيف، نخشى الفقر إن أنفقنا، مصدقين بذلك وعد الشيطان: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء [البقرة]. واعلم أنك إن منعت ما عندك منعك الله ما عنده.
ثم أين أنا وأنت أخي من إنفاق السلف: - قال عروة: رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا وهي ترقع درعها، وقسمت في يوم مائة وثمانين ألفا بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية عليّ فطوري وكانت صائمة يومها، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها جاريتها: أما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحما نفطر عليه؟ فقالت: لو ذكرتني لفعلت.
وقال علي: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفني، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى.
وعن الأحنف بن قيس أنه رأى رجلا في يده مال: فقال: لمن هذا المال؟ فقال: لي، فقال: أما أنه ليس لك حتى يخرج من يدك، وفي معناه قيل:
أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وأذكر نفسي وإخواني بقوله تعالى: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ.. [محمد:38].
أخي في الله: لا تحرم نفسك من هذا الأجر الذي سمعته، والذي تكون أحوج ما تكون إليه عند لقاء فاطر الأرض والسماوات، قال الحسن البصري رحمه الله: إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال، ثم يموت ويدعه لغيره، فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر، فيجد ماله في ميزان غيره.
إخواني في الله: أذكركم بهذه القصة العجيبة، خصومة حصلت في عهد النبي بين أبي لبابة ويتيم على نخلة، حيث كان هناك بستان لأبي لبابة، وبجانبه بستان آخر لهذا اليتيم، وبينهما نخلة، واليتيم لم يدرك بعد، فقال أبو لبابة: هذه النخلة لي، وقال اليتيم الصغير هذه النخلة لي، تشاجرا، فما كان من اليتيم إلا أن ذهب إلى النبي واشتكى له أبا لبابة، فاستدعى النبي أبا لبابة وقال له: ((هذا اليتيم يشكوك في نخلة أخذْتَهَا له)) ، أو كما قال فقال أبو لبابة: والله ما كان ذلك لي يا رسول الله، وما كنت لآخذ نخلته، فقال النبي : ((إذاً نخرج ونعاين)) ، فخرج النبي بنفسه ليعاين البستانين وليعاين النخلة، وهذا من تواضعه وحكمه العدل، ولما وصل إلى النخلة المختلف عليها، وجدها في بستان أبي لبابة واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بها إليه، لا حاشاه أن يجور في حكم، فحكم بالنخلة لأبي لبابة، فذرفت دموع اليتيم وانحدرت على خديه، فأراد أن يجبر كسر قلبِ هذا اليتيم، لأنه لم يدرك الحق، فقال لأبي لبابة: ((أعطه هذه النخلة ولك بها عِذق في الجنة)) - أي نخلة مثمرة أو غصن نخلة في الجنة مقابل هذه النخلة - لكن أبا لبابة كان في وقت غضب، إذ كيف يشكوه والحق له، ويشكوه إلى من؟ إلى رسول الله فقال: لا، فسمع بذلك أبو الدحداح، وكان يتمنى مثل هذه الفرصة رضي الله عنه وأرضاه، فقال يا رسول الله: لئن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي بها عِذْقٌ في الجنة؟ قال: ((نعم)) ، فيلحق أبو الدحداح بأبي لبابة ويقول: أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله، خذ بستاني كلّه وأعطني هذه النخلة، قال: أبيعُكَها لا خير في نخلة شكيت فيها إلى رسول الله ، فباعه النخلة بالبستان كلّه، وذهب أبو الدحداح إلى أهله ونادى فيهم: يا أم الدحداح ويا أبناء أبي الدحداح قد بعنا البستان من الله فاخرجوا منها، فخرجوا ومع أطفاله بعضُ الرطب، فقام يأخذه ويرميه فيها وهو يقول: قد بعناها من الله جل وعلا بعذق في الجنة لا نخرج منها بشيء، خرج هو وأهله وقد باع كل شيء من دنياه واشترى عذقا، واشترى غصنا من نخلة عند الله جل وعلا.
لكن هل اكتفى بذلك وقال: لنا عذق من نخلة في الجنة، يكفي لا صلاة ولا صيام ولا زكاة، لا والله، فالذي بذل هذه في سبيل الله سيبذل أعظم منها في سبيله، بذل المال والأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة، ثم في الأخير يقدم نفسه لله جل وعلا.
ويخرج في معركة أحد، التي ابتلي فيها المؤمنون ابتلاء شديدا، وربوا فيها تربية عظيمة، حيث كسرت فيها رباعية المصطفى ، وشج وجهه، وساعة انتهت المعركة ذهب يفتش عن أصحابه وهو في تلك الحالة ويتفقدهم، ويأتي إلى صاحب العذق إلى أبي الدحداح، وإذا به مضرج بدمائه، فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: رحمك الله أبا الدحداح، ((كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ - أَوْ قَالَ شُعْبَةُ - لأَبِي الدَّحْدَاحِ)) [رواه مسلم].
لا إله إلا الله، ماذا خسر أبو الدحداح، خسر شجيرات خسر نخيلات، لكنه فاز بجنة عرضها السموات والأرض، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.. -
وماذا خسر أبو بكر الصديق الذي أنفق ماله كله في سبيل الله، ونصرة دين الله؟!
وماذا خسر الفاروق عمر الذي أنفق نصف ماله في سبيل الله ورفع كلمة الله؟!
وماذا خسر ذو النورين عثمان الذي جهز جيش العسرة 700 بعير بأحلاسها وأقتابها، واشترى بئر رومة للمسلمين، ولا زال ينفق وينفق حتى قال النبي : ( (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)).
والله ما خسر واحد منهم أبدا، بل اشتروا بأموالهم جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، جعلني الله وإياكم منهم، اللهم آمين.
وأنت أخي وأختي ماذا تخسر لو أنفقت 100 دولار من مالك فدفعتها لاستئجار بيت من بيوت الله تَذْكُرُ فيه اسم الله أنت وأولادك وزوجتك آمنا مطمئنا؟! لا والله لن تخسر أبدا، إذاً فاغتنم الفرصة، وأنفق اليوم من مالك ما تجده غدا أمامك حاضرا، قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً [آل عمران:30]. وأذكرك بقوله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96].
أخيرا أرجو المعذرة من إخواني وأخواتي فقد أثقلنا عليكم هذا العام، لكن ماذا نفعل تجاه المصائب والنكبات التي نزلت ولا تزال تنزل بالمسلمين في كل مكان، وآخرها قضية الشيشان، الأمر الذي يستدعي الوقوف بجانبهم بكل قوة، لذلك أشكر كل الإخوة والأخوات الذين أنفقوا ولا زالوا ينفقون من أموالهم في شتى مشاريع الخير، شكرا لكافلي الأيتام والأرامل، وشكرا لمن أنفق من ماله لتفطير إخوانه الصائمين هنا وهناك، وشكرا لكل من قدم من ماله لإخوانه المسلمين في الشيشان، وشكر لمن تبرع ولا زال يتبرع لهذا المسجد، مسجد السنة، وشكرا لكل من ساهم في تقديم الجوائز لمسابقة القرآن والسنة،
(1/1096)
الإخلاص والحديث عن ليلة النصف من شعبان
التوحيد
الشرك ووسائله, شروط التوحيد
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – هل يغفر الله الشرك الأصغر أم لا.
2 – من صور الشرك الأصغر الغلو فيما دون العبادة
3 – التخويف من الرياء
4 – أول من تسعر بهم النار المراءون
5- ليلة النصف من شعبان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخوة الإسلام :
يقول الله جل وعلا في كتابه العزيز: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فكل ذنب مهما كان قد يتجاوز الله عنه لمن يشاء، لأن الشرك ظلم عظيم وإساءة بالغة في حق الله جل وعلا.
وإن مما يفزع القلب أن ذلك الشرك الذي لا يغفره الله قد قال بعض العلماء: إنه يشمل الشرك الأصغر كما يشمل الشرك الأكبر، وأشار ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك بقوله : قد يقال الشرك لا يغفر منه شيء، لا أكبر ولا أصغر على مقتضى القرآن.
وإن صاحب الشرك، أي الأصغر، يموت مسلما، لكن شركه لا يغفر له، بل يعاقبه عليه.
ومع ذلك فالآية تحتمل القول الآخر أي شمولها للشرك الأصغر كذلك، ولهذا قال ابن عثيمين حفظه الله : وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقا، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر، لأن قوله: أن يشرك به أن وما بعدها- كما يعلم الذين يفهمون النحو أو قواعد اللغة العربية- في تأويل مصدر تقديره: إشراكاً به،أي إن الله لا يغفر إشراكا به، والنكرة في سياق النفي فتفيد العموم ( [1] ). هذا كلام ابن عثيمين حفظه الله.
أقول إن هذا مما يفزع القلب ويخيف النفس، لأننا لو علمنا المراد بالشرك الأصغر ما ظن واحد منا أن ينجو منه، ومع ذلك فنحن -إلا من رحم الله -غافلون عن التوبة منه والإقلاع عنه.
قال العلامة السعدي في تعريف الشرك الأصغر: هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها، إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لم يبلغ رتبة العبادة، كالحلف بغير الله ويسير الرياء، ونحو ذلك.
يا للهول، الحلف بغير الله الذي يدور على الألسنة ليل نهار، الحلف بالنبي، والحلف بالأنبياء، والأمانة وبالشرف، والحلف بحياة فلان وعلان.
ويسير الرياء الذي يندر أن يمر يوم ولم نتلبس به إلا من رحمه الله، فاليسير منه أي الخفي والقليل شرك أصغر، فكيف بالكثير الظاهر هو إظهار بعض العبادات أو الأمور الشركية وتحسينها بقصد نيل ثناء الناس أو إعجابهم.
وعرفت فتاوي اللجنة الدائمة في الشرك الأصغر بأنه كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الأكبر، ووسيلة للوقوع فيه، وجاء في النصوص تسميته شركا.
وعلى رأس القائمة الرياء، فهو على رأس قائمة الشرك الأصغر، ونص عليه النبي فيما رواه أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد أن رسول الله قال : ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) ، فسئل عنه فقال : الرياء [حسن ابن حجر إسناده في بلوغ المرام ] وقال المنذري إسناده جيد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال عبد الله بن شبيب بن خالد وهو ثقة – هامش القول المفيد 1/144.
وروى الإمام أحمد عن شداد بن أوس قال : كنا نعد الرياء على عهد رسول الله الشرك الأصغر، صححه الألباني في صحيح الترغيب (572فتح المجيد).
ولأحمد بن أبي سعيد مرفوعا (( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، قالوا : بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل )) حسنه الألباني في صحيح الترغيب صحيح الجامع، فتح المجيد ص57.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد ( [2] ) قال : ((خرج علينا رسول الله فقال: أيها الناس إياكم وشرك السرائر، قالوا : يا رسول الله وما شرك السرائر، قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)).
وعن شفي بن مانع الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال : من هذا، فقالوا : أبو هريرة، قال، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت، أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثنا سمعته من رسول الله عقلته وعملته،قال، فقال أبو هريرة : أفعل لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله في هذا البيت، ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفا وخوفا ثم أفاق، فقال : لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم مال خارا على وجهه، واشتد به طويلا، ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله : ((إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة لقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل سمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا رب، قال : فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم آناء الليل والنهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى مل أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى يا رب، قال : فما عملت فيما آتيك، قال : كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذلك، ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقال له : بماذا قتلت فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له : كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جري، فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم الناس يوم القيامة)). والحديث إسناده صحيح عن الألباني في صحيح الترغيب 1/13-15 وصحيح الجامع كما في ملحق فتح المجيد ص 572-573
وقد دخل شفي راوي هذا الحديث على معاوية ، وكان سيافا لمعاوية، فدخل عليه فحدثه بهذا الحديث عن أبي هريرة، فقال معاوية : وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديد حتى ظننا أنه هلك، وقلنا : قد جاء هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية عن وجهه فقال : صدق الله ورسوله: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذي ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.
تأملوا إخوة الإسلام تلك الأعمال المذكورة في الحديث، قراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه والتصدق والجهاد، أعمال عظيمة لكنها قد لا تسلم من آفة الرياء.
وللرياء صور كثيرة أشار إليها أهل العلم مثل التمتمة وتحريك الشفتين بين الناس بدون ذكر فعلي، أو مع الذكر لكن مع تعمد إظهار ذلك لنيل ثناء الناس بخلاف من قصد اقتداء الناس به وتنبيهم لذلك.
ومن صور الرياء، أن يسأل بعض أهل العلم أسئلة معينة لم تدع إليها حاجة ليرى مكانه ويعرف إطلاعه يذكر إنجازاته إلى غير ذلك من مسالك الرياء.
وكل إنسان على نفسه بصيرة، فعليه كفها عن ذلك ومحاسبتها وأن يستعيذ بالله أن يشرك به شيئا يعلمه، ويستغفره لما لا يعلمه، أعاذنا الله وإياكم من الرياء، ورزقنا الإنابة إلى الله والإخلاص.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
( [1] ) القول المفيد على كتاب التوحيد 1/141.
( [2] ) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب فتح المجيد 572.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد :
فمن الأمثلة الرائعة التي ضربها لنا سلفنا الصالح في الإخلاص والبعد كل البعد عن الرياء ما قصه علينا محمد بنا المنكدر قال :كانت لي سارية في مسجد رسول الله أجس أصلي إليها بالليل فقحط أهل المدينة سنة فخرجوا يستسقون فلم يسقوا، فتساندت إلي سارتي، فجاء رجل أسود تعلوه صفرة متزر بكساء وعلى رقبته كساء أصفر منه،فتقدم إلى السارية التي بين يدي،وكنت خلفه،فصلى ركعتين ثم جلس فقال : أي رب خرج أهل حرم نبيك يستسقون لم تسقهم فأنا أقسم عليك لمّا سقيتهم.
قال ابن المنكدر: ( مجنون قال : فما وضع يده حتى سمعت الرعد، ثم جاءت السماء بشيء من المطر، أهمني الرجوع إلى أهلي، فلما سمع المطر حمد الله بمحامد لم أسمع بمثلها قط، قال: ثم قال : ومن أنا وما أنا حيث استجبت لي، ولكن عذت بحمدك وعذت بطولك وطول، والسعة والغنى والخير الكثير والمن )
ثم قال : فتوشح بكسائه الذي كان متزرا به وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه، ثم قام فلم يزل قائما يصلي حتى إذا أحس الصبح سجد وأدبر وصلى ركعتي الصبح ثم أقيمت الصلاة فدخل في الصلاة مع الناس ودخلت معه فلما سلم الإمام قام فخرج وخرجت خلفه حتى انتهى إلى باب المسجد، فخرج يرفع ثوبه ويخوض الماء، فخرجت خلف رافعا ثوبي أخوض الماء فلم أدري أين ذهب.
فلما كانت الليلة الثانية صليت العشاء في مسجد رسول الله ثم جئت إلى ساريتي فتوسدت إليها، وجاء فقام فتوشح بكسائه وألقى الكساء الآخر الذي كان على ظهره في رجليه وقام، يصلي، فلم يزل قائما حتى إذا خشي الصبح سجد ثم أوتر ثم صلى ركعتي الفجر.
وأقيمت الصلاة، فدخل مع الناس في الصلاة ودخلت معه، فلما سلم الإمام خرج من المسجد وخرجت خلفه فجعل يمشي وأتبعه حتى دخل دارا عرفتها من دور المدينة ورجعت إلى المسجد، فلما طلعت اشمس وصليت خرجت حتى أتيت الدار فإذا أنا به قاعد يخرز- والخرز : خياطة الأدم، وخرز الخف صنعة، الخزار صانع الخف-، وإذا هو سكاف، فلما رآني عرفني وقال : أبا عبد الله مرحبا، ألك حاجة، تريد أن أعمل لك خفا، فجلست فقلت : ألست صاحبي بارحة الأولى ؟ فاسود وجهه وصاح بي، قوال : ابن المنكدر، ما أنت وذاك؟ قال : وغضب، قال: ففرقت والله منه، وقلت : أخرج من عنده الآن.
فلما كان في الليلة الثالثة، صليت العشاء الآخرة في مسجد رسول الله ثم أتيت ساريتي فتساندت إليها فليم يجيء، قال : قلت: إنا لله، ما صنعت، فلما أصبحت جلست في المسجد حتى طلعت الشمس ثم خرجت حتى أتيت الدار التي كان فيها فإذا باب البيت مفتوح، وإذا ليس في البيت شيء، فقال لي أهل الدار : يا أبا عبد الله ما كان بينك وبين هذا أمس ؟ قلت : ماله؟ قالوا : لما خرجت من عنده أمس بسط كساءه في وسط البيت ثم لم يدع في بيته جلدا ولا قالبا، -نعل من خشب كالقبقاب أو قالب الخف- إلا وضعه في كسائه ثم حمله ثم خرج فلم ندري أين ذهب !
قال محمد بن المنكدر : فما تركت في المدينة دارا أعلمها إلا طلبته فيها فلم أجده رحمه الله، صفة الصفوة 2/190-192 وعنها أخذه ، أين نحن من أخلاق السلف.
هكذا كان خوف سلفنا على إخلاصهم وفرارهم من الرياء وكراهيتهم الشهرة، وامتلأت قلوبهم بمحبته وتعلقت به فلم يفتنها حب جاه أو ثناء، نسأل الله جل وعلا أن يصلح فساد قلوبنا، وألا يحبط أعمالنا.
في الختام أذكر نفسي وإياكم أن رسول الله كان يكثر الصيام في هذا الشهر(شعبان)، وقد أخذ كثير من العلماء من ذلك استحباب الصوم في شعبان لكن من لم يكن له عادة بالصوم فلا ينبغي أن يصوم إذا انتصف شعبان لقوله : ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا ))
أما من كان عادة بصيام شعبان فله أن يصوم النصف الثاني، إلى ما قبل رمضان بيوم أو يومين أي إلى الثامن والعشرين من شعبان، ويكره له وصل آخر شعبان برمضان لقوله : ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه)) رواه البخاري. ولم يورد بتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام.
وتخصيص ليلتها بقيام،كما لم يثبت يقينا أن تحويل القبلة يوم النصف من شعبان، وإنما الثابت أن ذلك كان قبل غزوة بدر.
وقولهم أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة المباركة التي قال الله تعالى فيها: إنا أنزلناه في ليلة باركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم فهذا غير صحيح، لأن المراد بها ليلة القدر التي نزل فيها القرآن، وهي في رمضان، وهذا واضح جدا في الآية، فالخير في الاتباع والشر في الابتداع.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/1097)
الصوم وبر الوالدين
الأسرة والمجتمع, فقه
الصوم, الوالدان
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – استقبال شهر رمضان
2 – خصائص شهر رمضان
3 – الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
4 – الأمر ببر الوالدين
5 – التحذير من عقوق الوالدين
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام: روى الحاكم بإسناد صحيح عن كعب بن عجرة قال : قال رسول الله : ((حضروا المنبر، أي اجتمعوا عنده، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين )) ، فلما نزل قلنا : يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه قال : (( إن جبريل عرض لي فقال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصلي عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قلت : آمين )).
ففي هذا الحديث إخوة الإسلام ثلاثة أمور عظام: صوم رمضان والصلاة على النبي كلما ذكر، وبر الوالدين.
أما الأمر الأول وهو صوم رمضان، فيهمنا الحديث عنه في هذه الأيام حتى لا ينسلخ شهر رمضان ونحن كما نحن ملطخون بالذنوب والأوزار، وبعد من أدرك رمضان ولم يغفر له.
فإن من نعمة الله عز وجل على عباده أن هيأ لهن مواسم للخيرات، ولتزكية النفوس وهو عز وجل أعلم بما يصلح عباده المذنبين، وهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، فشرع صيام ذلك الشهر المبارك لعلكم تتقون، وجعله عونا على معاداة الهوى والشيطان لعلكم تتوبون وتتذكرون.
فهو شهر تسلسل فيه الشياطين وتضيق مجاري الشيطان في بني آدم، وتستجاب فيه الدعوات، وفيه ليلة عظيمة هي خير من ألف شهر، ويتفضل فيه رب الخلائق بعتق من يشاء من النار في كل ليلة وعند كل فطر، جعلنا الله وإياكم من عتقائه في ذلك الشهر المبارك.
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي أمامة عن النبي أنه قال : ((لله عند كل فطر عتقاء)) وروى البزار عن أبي سعيد الخدري أنه قال : قال رسول الله : ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة (يعني رمضان) وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة)).
وروى النسائي والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله : (( أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم )).
فطوبى لعبد آخذ بأسباب المغفرة في هذا الشهر، فحفظ جوارحه عن العبث فيما لا يحل له، وألجم هواه وشهوته بلجام التقوى، وأمسك لسانه بزمام الشرع، وحول سمعه وبصره عن الفسق والتفاهة إلى كتاب الله عز وجل فجعل نظره فيه، وسمعه.
أما الأمر الثاني : فهو الصلاة على النبي ، والمؤمن الصادق، والمحب لنبيه مدفوع دفعا للصلاة عليه في كل حين لما علمه من فضله وتبليغه الرسالة وحرصه على الأمة وشفقته عليها، ونصحه لها، وجهاده في الله حق جهاده، متحملا ما أصابه من الضرب والخنق، والقذف بالحجارة، والسب والتجويع والسخرية وإلقاء التراب والأقذار على رأسه وجسده الشريف صلوات ربي وسلامه عليه.
فأي جفاء هذا حين لا يصلي عليه أتباعه، هذا العمل السهل، فما أيسر أن يقول العبد، عليه الصلاة والسلام، أو اللهم صل على نبينا محمد أو أفضل من هذا، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد.
أمر يسير من ضن به على رسول الله فهو البخيل حق، كما قال المصطفى إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي، واسمعوا هذا الوعيد في قوله : ((من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي – أي لم يصل علي – خطئ طريق الجنة)).
وإن كان العبد مأمورا بالصلاة على النبي كلما سمع ذكره على وجه الخصوص فإنه مأمور إجمالا بالصلاة على النبي في أي وقت كما في قوله جل ذكره : إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.. إنك حميد مجيد
وقال ((من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (( من صلى علي حين يصبح عشرا، وحين يمسي عشرا، أدركته شفاعتي يوم القيامة )).
وإذا كانت الصلاة على النبي فاضلة في كل وقت فإن فضلها يتأكد في يوم الجمعة كما في السنن وغيرها أن أوس بن أوس قال : قال رسول الله : ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة )) وفي رواية: (( إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا يا رسول الله : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت – بليت – قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء )) صلوات الله عليهم جميعا.
أما الأمر الثالث الخطير في حديث اليوم فهو بر الوالدين فإن عقوق الوالدين قد عم وطم في هذا الزمان حتى تلبس به الصالح والطالح، وقست القلوب، وتبلد الإحساس، وماتت المشاعر والعواطف، وقدم الأصحاب على الوالد، وقدمت الزوجات على الأمهات.
ألا ما أقبح العقوق، ما أقبح العقوق لا سيما عند كبر الوالدين، وأين ذلك العقوق من قول الله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً وقوله : ((لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ))
وحسبنا تلك الدعوة الصادقة من جبريل عليه السلام وتأمين رسول الله بالبعد والذل والهوان ليس على من فرط في حق والديه، وإنما على من لم يبلغ من البر بهما ما يدخله الجنة فما بالك بمن عقهما.
فالعقوق أيها المسلمون يتصدر أكبر الموبقات المهلكات بعد الشرك بالله عز وجل كما أن بر الوالدين يتصدر مرتبة متقدمة في دين الله عز وجل، فبر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، ومن الأبواب التي يلج العبد منها إلى الجنة، ففي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : سألت رسول الله : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : ((الصلاة على وقتها، أي أول وقتها كما في بعض الأحاديث – قلت: ثم أي ؟ قال : بر الوالدين، قلت: ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله)).
فالمؤمن مأمور ببر الوالدين وفاء وإحسانا لهما، وخدمة وتفقدا لهما ولحوائجهما وما يرضيهما، وحرصا لذلك على هدايتهما، دعاء لهما وبدءا بهما في رفق وأدب في الدعوة والإرشاد مع اللين والصبر: وأنذر عشيرتك الأقربين.
وإذا كان حق الوالدين من الحقوق العظيمة المؤكدة فإن حق الأم آكد وأعظم، يقول الله عز وجل: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن فهنا تأكيد على حق الأم لما تكبدته وتتكبده من أجل ولدها، لذا أمر رسول الله بلزومها برا وخدمة وإحسانا فقال عليه الصلاة والسلام : ((إلزمها فإن الجنة تحت أقدمها))، وفي رواية (( ألزم رجلها فثم الجنة)).
وجعل رسول الله حقها آكد من حق الأب ثلاث مرات، حين سأله رجل : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي، قال : ((أمك، قال: ثم من؟ قال : أمك، قال: ثم من؟: قال : أمك، قال ثم من، قال : أبوك)).
وبر الوالدين أيها المسلمون لا يسقطه شيء حتى الشرك، فلو كان الوالدين مشركين فإن برهما يبقى واجبا، فعن أسماء رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله : إن أمي قدمت علي راغبة، أي مشركة، أفأصلها، فقال لها عليه الصلاة والسلام (( نعم، صلي أمك)).
ولكن ذلك لا يعني طاعتهما في المعصية أو في مخالفة أمر الله أو مصاحبتهما لحضور المعاصي، ولا يعني كذلك نصرتهما على أهل الحق المؤمنين أو السكوت عنهما إذا ما اعتديا على العقيدة.
بل إن اتخذ الوالدان خط محاربة المسلمين والكيد لهم فحينئذ يجب على الابن مناصرة أهل الحق ولو على والديه: قوامين بالقسط شهداء لله على أنفسكم أو الوالدين والأقربين
وهذا أبو عبيدة يقتل أباه يوم بدر لأنه وقف محاربا لله ولرسوله، وفي ذلك ومثله قوله عز وجل: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيديهم بروح منها ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أخي المسلم :
فاتق الله في والديك وبرهما، وأحسن إليهما ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وخاصة إذا كانا كبيرين في السن، ومهما بذلت أيها المسلم نحوهما، فلا يساوي ما بذلاه نحوك، فقد كانا يحملان عنك الأذى، ويسهران لتنام هادئا، وإذا مرضت قلقا عليك، ويرجوان حياتك، وأنت إن حملت عنهما شيئا من الأذى، أو سهرت في تمريضهما، أو طال سقمهما، فإنك تسأم مصاحبتهما، وقد ترجو موتهما.
أيها المسلمون : إن الولد ما دام صغيرا فإنه يظهر حبه لأمه قبل كل أحد، ثم لا يحب بعد أمه إلا أباه، الذي إذا دخل هش وبش له، وإذا خرج تعلق به، يرى أنه إذا رضي أعطاه كل شيء، وإذا غضب قدر على كل شيء، يخوف الناس كلهم بأبيه، فأي حب واحترام بعد هذا، ولكنه إذا كبر نسي الجميل، وأنكر المعروف وقابل ذلك بالإساءة والعقوق.
فاتق الله أيها الولد، واعلم أنك إن كنت اليوم مع والديك بارا أو عاقا، فسوف تكون غدا إن كان لك أولاد محتاجا إلى بر أبنائك، وسيفعلون كما فعلت، كما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، فبروا آباءكم تبرّكم أبناؤكم.
واعلم أن عقوبة العقوق وخيمة ومعجلة في الدنيا قبل الآخرة، قال النبي : ((كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات)).
ثم لتعلم أيها المسلم أن دعوة الوالد على ولده مستجابة، قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده )). وفي رواية : ((دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على الولد)).
فيا من أبكى أبويه، فيا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما، وحملهما أعباء الهموم، وجرعهما غصص الفراق، ووحشة البعاد، هلا أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، كم آذيتهما مرار وهما يدعوان الله سرا وجهارا، ويبكيان عليك وأنت صغير شفاقا وحذرا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفا وفرقا، فهما أليفا حزن، وحليفا همّ رغمّ، فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء فارقتهما على رغمهما باكيين، وتركتها محزونين، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حدثيك عن أسماعهما، لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غمضا إن تأخرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خلو مكانك ففقدا أنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سح الدموع، فصار الولد خبرا، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هو لهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك، وأبصرا أقرانك، ولم يبصراك معهم، فهنالك تسكب العبرات، وتتضاعف الحسرات، وأنت إذا فقدتهما وابتليت بموتهما فإنك لا تذكر إلا حينئذ فضلهما، وتمقت نفسك على إساءتك لهما، وتقول: ويحي، ماتا قبل أن أبرهما، وياخسارتي، إذ لم أقم برد جميلها، ولم أشكر حسن صنيعهما، وقد رحلا قبل أن يجدا مني ما يرضي نفوسهما، ويسمح عنهما ماعاشا من نكد مني في حياتهما.
فأدرك نفسك من اللحظة إن كنت مقصرا في حقهما، وأما إن كانا قد توافهما ربهما، فمالك إلا صدق التوبة والاستغفار لنفسك ولهما بعد رحيلهما، ولله الأمر في قبول توبتك واستغفارك أو عدم قبولهما.
ربنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، واغفر لنا ولوالدينا والأموات المسلمين.
(1/1098)
الدعوة إلى الله
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
هشام بن عبد القادر عقدة
دمنهور
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – الرسل يقومون بواجب الدعوة إلى الله
2 – دور أمة الإسلام في القيام بمهمة الرسل
3 – الداعية لاينتظر نتيجة عمله الدنيوية
4 – الدعاة يقيمون حجة الله على خلقه
5 – حاجة الناس إلى الدعوة والدعاة
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام : يقول الحق جل وعلا في محكم كتابه: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين.
إن هذه الآية الكريمة بما فيها من تنويه في الدعاة وثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولا منهم لتهيج هذه الأمة بل ولتحمس كل ذكر فيها وللقيام برسالة هذه الأمة ومهمتها في عزة وسعادة، فإن الله جل وعلا قد حمّل هذه الأمة مسؤولية الدعوة وهداية البشرية.
فإنه من المعلوم أن من رحمة الله تعالى بالبشرية أنه كلما انحرفت البشرية يرسل الله إليهم نبيا يجدد لهم أمر دينهم ويردهم إلى الجادة القوية: ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقوم لا يؤمنون.
وبعد طي سجل الرسل بمحمد وانقطاع الوحي من السماء جعل الله هذه المهمة إلى أتباعه عليه الصلاة والسلام: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.
وعلى هذا فإن هذه الأمة مسؤولة عن هداية البشر هداية إعلام وإرشاد وإظهار للحجة، ومستشهدة وموقوفة لتحاسب عن تبليغ الرسالة إلى البشرية.
إنه لمن المفيد النافع في هذا العصرالذي فترت فيه الهمم ومحقت فيه العزائم وأصيبت قلوب كثيرة باليأس، إنه لمن المفيد النافع في مثل هذا العصر أن ينطلق الداعية في دعوته من شعوره بمسؤولية الدعوة وأمانتها التي جعلها الله في عنقه لا من منطلق كسب الاتباع والحصول على النتائج، بل عليه أن يفكر في مسؤولية الدعوة أولا قبل أن يفكر في قبول المدعو لدعوته.
فإن كثيرا ممن يبدأون الطريق بالتفكير في النتائج قبل التفكير بالمسؤولية والملقاة على عواتقهم ينتهون نهاية خاطئة، فإن الناس إذا بدأوا بالتفكير في النتائج فلم يحصل لهم يقين بالنتيجة ولم يروا شيئا واضحا في الأفق يغريهم بالتقدم أحجموا عن السير في الطريق وعفوا أنفسهم من القيام بالدعوة ظنا أن معهم المبررات التي تسمح لهم القعود.
كلا إن أمر القيام بالدعوة ليس كأمر القيام بالمشاريع والصفقات الدنيوية التي إن لم يظهر نجاحها تركها الإنسان دون حرج، وإنما القيام بالدعوة مسؤولية لا يملك المسلم التنصل منها، شأنه في ذلك شأن أنبياء الله الذين كلفوا بحمل الرسالة، فإن منهم من يأتي يوم القيامة ومعه الرجلان ومنهم من يأتي ومعه الرجل الواحد، ومنهم من يأتي وليس معه أحد، ولو أن الله تعالى أراد من الأنبياء والدعاة القيام بالدعوة لمجرد الحصول على النتيجة ما بعث مثل هؤلاء الأنبياء ولا كلفهم كل هذا العناء إذا كانوا سيأتون وليس معهم أحد وهو عليهم بذلك جل وعلا، ولكنه جل وعلا أراد منهم القيام بمسؤوليتهم وحسابهم إنما هو على ذلك، وإن إبلاغهم الدين لهذه البشرة وإقامتهم الحجة عليها، حتى لا يكون للضال حجة على الله، وليظهر عدله تعالى وإعذارا للخلق، إن هذا كاف لقيام الرسل وأتباعهم بمهمة الرسالة.
رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
وأنت أيها المسلم عليك أن تنطلق اليوم في دعوتك بهذا المفهوم، لئلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة، فإن الله يحب ذلك ويريده، والمحب الصادق يسعى في تحقيق مراد محبوبه، وسواء استجاب الناس وتغير المجتمع أم لم تحدث استجابة، فإن مراد الله من عمل المرسلين والدعاة يتحقق بقطع حجة الخلق على الله حتى لا يكون لهم عذر في ضلالهم، وإن هذا ليفتح بابا واسعا أمام الداعية فلا يقلق، وينطلق من خلاله في دعوته دون أن يصبه اليأس أو الوهن مهما ضعفت النتائج أو انعدمت ، نحسبه أن يسعى في تحقيق مراد الله من الإعذار إلى الخلق حتى لا يكون لهم حجة حين يحاسبهم.
فلو لم يكن إلا هذا الباب الذي يلج من خلاله الداعية ليقوم بدعوته لكفى، فكيف وهناك أبواب كثيرة تقول للمسلم هلم إلى القيام بالدعوة، وهلم إلى القيام برسالتك، فمنها احتياج الخلق إلى الدعوة انتظار كثير من الناس من يعلمهم ويأخذ بأيديهم ويربيهم.
ومنها رؤية الاستجابة لدعوة فعلا في كثير من البيئات والأشخاص رغم الظروف الحالكة والعوانق المتعددة.
ومنها أن القيام بالدعوة يطهر الداعي نفسه ويزكيه، ويجعل له قيمة ويجعل له ولحياته معنى هو المنتفع قبل غيره بقيامه بدعوته ورسالته.
فأين أنت أيها المسلم من هذه المعاني، وكيف تتراخي وتتشاغل أو تمل وتسأم وتنسى هذه المعاني العظيمة الكفيلة بحث المسلم على القيام بالدعوة.
وكرة أخرى أذكرك بأنه لو لم يكن في قيامك بالدعوة إلى دين الله إلا تحقيق مراد الله بقيام حجته البالغة على خلقه وانقطاع حجة الخلق عليه لكفى بذلك محمسا ومهيجا لك على القيام برسالتك، وإن في القرآن من النصوص ما يلقي ضوءا ساطعا على نوعية مسؤولية الداعي ويحدد موقفه تحديدا واضحا كما في قول المولى جل وعلا: وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون
اللهم انفعنا بالقران العظيم وثبتنا على الالتزام بالدين والدعوة إليه إلى أن نلقاك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد له الذي شرع الدعوة وأصّلها، والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي حمل لواء الدعوة، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فالمسلم دائما بين جذبين: جذب إيمانه وهمته ووعيه وشعوره بمسؤوليته، فهو من ذلك في عمل صالح أوعلزمة خير، وجذب الشيطان من جهة أخرى، وتزينه الفتور وحب الدنيا، فهو من ذلك في غفلة وفرح وطول أمل.
وعلى الفطن أن يقوي جذب إيمانه بكل الوسائل حتى ينتصر على جذب الشيطان وتزينه، ولعل في تذكير نفسي وإياك -أخا الإسلام- ببعض الآيات والأحاديث التي توقفنا على مسؤوليتنا تجاه هذا الدين وتدعونا إلى القيام بها ما يقوي فينا نداء الإيمان والعزيمة والمسؤولية ويضعف نداء الشيطان بالتخاذل والتكاسل وحب الدنيا: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وقال جل وعلا: ولتكن منكم أمة يدعون أي لتكونوا دعاة إلى الخير أي لتكونوا أمة داعية إلى الخير، كما تقول ليكن منك رجل قوي أي لتكن رجلا قويا.
وهذا القول باعتبار من في الآية للجنس لا للتبغيض: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.
وقال تعالى: وادع إلى سبيل ربك والأمر للنبي أمر له ولأمته جميعا إلا من استثني.
وقال تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال القرطبي رحمه الله : فجعل الله تعالى الأمر المعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورأسها الدعوة إلى الإسلام.
وقال تعالى: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذا قال تعالى في مدح هذه الأمة وبيان رسالتها: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
وقص الله علينا من خبر بني إسرائيل مافيه تحذير بليغ لنا لمن ترك القيام بالرسالة أو قصر في إنكار المنكر والسعي في إزالته فقال جل وعلا: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.
لا شك أن حمل رسالة الإسلام والقيام بمهمة الدعوة بمعناها الشامل يدخل فيه النهي عن الفساد في الأرض كما يدخل فيه الدعوة إلى الخير، فالدعوة إلى الله لا تنفصل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...
(1/1099)