أحكام الإحداد
فقه
الجنائز
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/1/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الموت لا بد مه لكلّ إنسان ولذا فقد شرع الله له شرائع ومن ذلك الإحداد للنساء
2- تعريف الإحداد وكيف كان الإحداد في الجاهلية 3- بعض حِكَم وأسرار مشروعية الإحداد
4- حُكم الإحداد على الزوج وعلى غيره وكم هي المدة وذكر بعض مسائل الإحداد
5- ما يلزم المرأة المُحِدّة في فترة الإحداد وذكر بعض الأخطاء التي يقع الناس فيها من ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله، قال الله جل وتعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ، وقال جل وتعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون.
اعلموا وفقني الله وإياكم بأن الموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع، إنه الهادم للذات والأقطع للراحات والأجلب للكريهات، إنك أخي المسلم بعد النعمة والنظرة، والسطوة والقدرة، والنخوة والعزة، يردك الموت إلى حالة، يبادر أحب الناس لك، وارحمهم بك، وأعطفهم عليك فيقذفك في حفرة، أنحاؤها مظلمة، أرجاؤها محكمة، يطبق عليك طينها وأحجارها، ويأتيك هوامها وديدانها، إنه جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليسه، والقبر مقره وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، إنه جدير بمن هذا شأنه أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تأهب إلا له، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا انتظار ولا تربص إلا له.
فسبحان من حكم على خلقه بالفناء، فما لأحد عنه محيص ولا محيد، وسبحانه كم أبكى بالموت خليلا بفراق خليله، وسبحان كم أيتم طفلا فشغله ببكائه وعويله، أوحش المنازل من أقمارها، ونفر الطيور من أوكارها، فسبحانه من إله، أذل بالموت كل جبار عنيد، وكسر به من الأكاسرة كل جبار صنديد، فالملك والملوك، والغني والصعلوك، بقوا تحت الأرض إلى يوم الوعيد.
ومن ورائك للأيام قطاع
صمت لوقتها الشنعاء أسماع
لها بقلبك آلام وأوجاع
أتاك سيل من الفرسان دفاع
تعدي الجليس وأمر ليس يسطاع
لا صبح الصخر منه وهو مياع
ماذا تؤمل والأيام ذاهبة
وصيحة لهجوم الموت منكرة
وغصة بكؤوس أنت شاربها
يا غافلا وهو مطلوب ومتبع
خذها إليك طعانا فيك نافذة
إن المنية لو تلقى على جبل
اللهم يا من لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، أيقظنا من هذه الغفلة، ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة، واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا، ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا يا رب العالمين.
أيها المسلمون: تحدثنا في الجمعة الماضية عن بعض مشاهد الاحتضار لصالحي سلف هذه الأمة، من الصحابة، والتابعين، وحيث أن الموت مصير كل حي، وكل منا صائر إليه لا محالة، فهذه بإذن الله عز وجل، بعض الخطب، لبعض الأحكام المهمة المتعلقة بالموت، والتي يجهلها بعضنا، والبعض قد يقع في مخالفات نهت عنها الشريعة، والأحكام التي لها تعلق بالموت كثيرة، فمنها أحكام الجنائز، وأحكام الإحداد، ومسائل مهمة متعلقة بالوصية، كما أن الصلاة على الميت وما يتعلق به من أحكام، وإليكم أيها الأحبة، في هذه الجمعة، شيئا من أحكام الإحداد.
الإحداد أيها الأحبة: من الأحكام التي خصها الله جل وتعالى بها النساء دون الرجال وهو: تربصٌ، تجتنب فيه المرأة ما يدعو إلى جماعها أو يرغب في النظر إليها من الزينة وما في معناها مدة مخصوصة، في أحوال مخصوصة سنشرحها بعد قليل. إن الإحداد تكريم للمرأة وأي تكريم، وليس حجراً عليها كما يظنه بعض الجهلة. وقبل أن يبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كانت العرب في جاهليتها تعرف الإحداد، لكن كان بصورة مزرية بشعة، فجاء الإسلام، ورفق بحال المرأة، وجعلها في الوضع المناسب لها، كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي زوجها تعمد إلى أسوأ مكان في بيتها، وتجلس فيه عاما كاملا، اثنى عشر شهرا، وتلبس من أخس ثيابها، ولا تغتسل ولا تتنظف ولا ترى شمسا ولا ريحا، حتى إذا حال عليها الحول خرجت بأقبح منظرا فتؤتي بدابة – حمار أو شاة أو طائر، فتمسح به جلدها، فلا يكاد يعيش ذلك الحيوان بعدما تتمسح به، مما يجد من أوساخها وروائحها، هكذا كان الإحداد في الجاهلية الأولى. فجاء الإسلام بهذه الشريعة الربانية، وجعل من أحكام الإحداد ما فيه رفعة وشرف للمرأة.
أيها المسلمون: إن أحكام الله عز وجل غاية في الحكمة، وقد تلمس أهل العلم رحمهم الله عددا من حكم الإحداد وأسرار تشريعه فمما عدوه في ذلك:
أنه تعظيم لهذا العقد – عقد الزوجية – ورفع لقدره ومنها، تعظيم حق الزوج وحفظ عشرته، ومنها تطييب نفس أقارب الزوج ومراعاة شعورهم، ومنها سد ذريعة تطلع المرأة للنكاح أو تطلع الرجال إليها. ومنها أن الإحداد من مكملات العدة ومقتضياتها ومنها: تأسف على فوات نعمة النكاح الجامعة بين خيري الدنيا والآخرة. وأخيرا: موافقة الطباع البشرية، فإن النفس تتفاعل مع المصائب والنوائب، فأباح الله لها حدا تستطيع من خلاله التعبير عن مشاعر الحزن والألم بالمصاب، مع الرضى التام بما قضى الله وقدر.
أيها المسلمون: حكم إحداد المرأة على زوجها المتوفى عنها واجب بنص كلام الرب عز وجل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشراً فيجب على المرأة، أن تمكث في بيتها بعد زوجها أربعة اشهر وعشرة أيام، هذا بالنسبة للزوج، وهل يجوز لها الإحداد على غير زوجها بمعنى هل يجوز لها الإحداد على أبيها أو أمها أو أخيها أو قريب لها، الجواب نعم يجوز، يجوز ولا يجب، فالإحداد على الزوج واجب، والإحداد على غيره جائز بشرط ألا يزيد على ثلاثة أيام، لقوله ، في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)) ولهذا بوب البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله، باب إحداد المرأة على غير زوجها، وهل يمكن أن ينقص مدة إحداد المتوفى عنها زوجها عن أربعة اشهر وعشرا،؟ الجواب نعم، إذا كانت حاملاً، فإن أجلها أن تضع حملها ولو بعد وفاة زوجها بوقت يسير، ولو قبل دفنه، قال الله تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ، وعند أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي أن امرأة من اسلم يقال له سبيعة كانت تحت زوجها، توفي عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل، فأبت أن تنكحه، فقال والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين فمكثت قريبا من عشر ليال، ثم جاءت النبي فقال: ((أنكحي)) رواه الجماعة. قال بأن المرأة الحامل تنقضي عدتها بوضع الحمل فلو كانت المرأة حاملا وسقط الحمل، فهل تنتهي عدتها بالسقط أم تكمل أربعة اشهر وعشرا؟ الراجح والله اعلم، أنه إذا كان السقط تبين فيه خلق إنسان، وابتدأ فيه خلق آدمي، فإنه تنقضي به العدة، وإذا لم يتبين خلق إنسان فلا عبرة بسقوطه ولا يتعلق به حكم، فتبقى المرأة أربعة أشهر وعشرا، ولا عبرة أيضا بنفخ الروح بل العبرة بالتبين قال شيخ الإسلام، وإذا ألقت سقطا انقضت به العدة، وسقطت به النفقة، وسواء كان قد نفخ فيه الروح أم لا، إذا كان قد تبين فيه خلق الإنسان، انتهى كلامه رحمه الله. ولو توفى رجل، ولم تعلم الزوجة بوفاة زوجها إلا بعد شهر مثلا، فهل عدتها من تاريخ الوفاة، أم أن عدتها من وصول الخبر إليها؟ الصحيح أن العدة تبدأ من يوم موت زوجها، ولو تأخر وصول الخبر، فإن لم تعلم إلا بعد خمسة اشهر، فلا يلزمها إحداد. ولو عقد رجل على امرأة، ولم يدخل بها، ثم مات، فهل يلزمها الإحداد؟ الجواب: نعم يلزمها الإحداد، فقد أجمع أهل العلم على أن الإحداد يلزم المتوفى عنها زوجها إذا كانت عاقلة بالغة مسلمة عقد عليها بنكاح صحيح ولو لم يدخل بها. وهل يلزم المطلقة الرجعية، أي التي طلقت مرة واحدة مثلا العدة إذا مات زوجها؟ الجواب: نعم يلزمها الإحداد لأن المطلقة الرجعية، في حكم الزوجة. ولو عقد رجل على فتاة صغيرة، لم تبلغ بعد، ثم مات عنها، لزمها الإحداد أيضا، سواء كانت قد دخل بها أم لم يدخل. ومثلها المجنونة، فإنه يلزمها الإحداد إذا توفى عنها زوجها، ويكون الخطاب متوجها إلى ولي المجنونة فعليه إلزامها بأحكام الإحداد. ولو مات رجل عن زوجه ذمية، ليست مسلمة، فهل تلزم بأحكام الإحداد، الراجح من قولي أهل العلم والله أعلم، أنها لا تلزم بأحكام الإحداد، وهذا هو ترجيح ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد. ومثلها الأمة، فإنه لا إحداد عليها إذا مات سيدها، لأنها ليست زوجة، قال ابن القيم رحمه الله: (الإحداد لا يجب على الأمة وأم الولد إذا مات سيدها لأنهما ليسا بزوجين).
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا... أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
بقي علينا أن نبين، ما الذي يلزم المرأة الحادة على زوجها من أحكام، يلزمها ستة أشياء:
أولا: تجنب أنواع الطيب:
فالمرأة الحادة ممنوعة من الطيب، لحديث أم عطية عند البخاري قوله ، في شأن الحادة: ((ولا تمس طيبا)) ، وعلة المنع أن الطيب مما يدعو إلى النكاح فمنعت الحادة منه لأنها ممنوعة من النكاح، واستثنى النبي الشيء اليسير عند الطهر للحاجة، لرفع رائحة الحيض المنتنة، ثم ها هنا أربعة مسائل تتعلق بالطيب:
1- لا بأس للحادة استعمال الصابون المعطر لأن هذا ليس بطيب، وليس طيبا مقصودا.
2- لا بأس لها أيضا من استعمال الأدهان والمراهم لأنه ليس بطيب.
3- تمنع الحادة من أكل الطيب مما جعلته الشريعة طيبا كالزعفران.
4- لو كانت المرأة تجارتها بالطيب، فإنه لا حرج عليها الاستمرار في التجارة مدة الإحداد إلا أنها تتوقى أن يعلق بها شيء منه.
الثاني: مما يلزم المرأة الحادة: تجنب الزينة في الثياب فيحرم عليها لبس كل ما فيه زينة من الثياب لقوله : ((ولا تلبس ثوبا مصبوغ إلا ثوب عصب)) فالمرأة تجلس في ثيابها العادية وتترك التزين، وما انتشر عند العوام بإلزامها لبس السواد فلا أصل له.
ثالثا: تجنب الزينة في البدن، وذلك بمنعها من خصلتين: الحناء، والكحل. لحديث أم سلمة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله : ((المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل)) رواه أبو داود والنسائي. ويلحق بهذا مساحيق التجميل المستخدمة في هذا الزمان فإنها من الزينة في البدن الممنوعة منها المرأة الحادة.
الرابع: تجنب الحلي. والحلي يشمل كل ما تتجمل به المرأة وتتحلى به من قرط أو سوار أو خاتم سواء كان من الذهب أو الفضة أو غيرهما مما يتخذ زينة كاللؤلؤ والزمرد والألماس ونحوها.
الخامس: إذا كانت المرأة متلبسة بشيء مما نهيت عنه قبل وفاة زوجها كأن تكون متطيبة أو مكتحلة، أو عليها لباس زينة، فإذا دخلت الإحداد فإن الواجب عليها إزالة ما يمكن إزالته منها.
السادس: وجوب لزوم المرأة بيتها، الذي توفي زوجها وهي فيه. فإنه يجب عليها لزوم بيت الزوجية، الذي توفي عنها وهي فيه حتى تنتهي مدة الإحداد. وبناءً عليه. فإذا بلغها خبر وفاة زوجها وهي في غير بيتها كان تكون في بيت أهلها، فإنها ترجع إلى بيتها، وتمكث فيه حتى نهاية الإحداد، لكن قد يكون هناك مسوغ لها للانتقال إلى بيت أخر، فلا بأس بذلك، كخوف هدم البيت أو غرق أو عدو أو حريق، أو وحشة، أو كانت الدار غير حصينة يخشى فيها من اقتحام اللصوص، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها، فإن لها الانتقال إلى ما شاءت من المساكن، ومن الأعذار المبيحة لها للانتقال، إخراج الورثة لها من البيت، أو انتهاء مدة الإيجار قبل تمام عدتها، فلها الخروج، وليس عليها بذل الأجرة على الصحيح. ويجوز لها أيضا الخروج المؤقت كما لو احتاجت إلى طبيب أو شراء حاجياتها إن لم يكن لها من يقضى حوائجها وكل هذا ضرورة والضرورة تقدر بقدرها.
أيها المسلمون: هذا ملخص بعض أحكام الإحداد اختمه بذكر بعض ما أحدثه الناس وانتشر بينهم، وألزموه على أنفسهم، ما انزل الله بها من سلطان، فمن ذلك:
- إلزام المرأة لباساً معيناً أو لوناً معيناً.
- وامتناع المرأة من تمشيط شعرها.
- وامتناعها من الاغتسال.
- وامتناعها من العمل في بيتها.
- وامتناعها من الظهور على سطح البيت.
- واعتقاد المرأة أنه لا يجوز لها تكليم الرجال مطلقا، أو لا يجوز لها الإجابة على الهاتف. فكل هذا غير صحيح، لأن الإحداد أيها الأحبة عبادة، ولا يجوز التعبد لله إلا بما شرع.
ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ومن البدع أيضا في موضوع الإحداد، هذا الإحداد الجاهلي المعاصر الذي يفعل في بعض الدول إذا مات الرئيس، فيوقف الأعمال، وتنكس الأعلام، ويتغير برامج الأعلام بما يناسب المقام، فكل هذا مخالف للشريعة الإسلامية. فهؤلاء الصحابة خير القرون، كلهم ماتوا وكلهم عظماء وأكابر، ثم بعدهم السلف الصالح. مع كثرة من فقدوا رحمهم الله من القواد والرؤساء والسلاطين والأمراء الصالحين لم يفعلوا ما فعله المتأخرون مع صعاليك هذا الزمان، فدل ذلك على عدم مشروعيته لأن فيه تعطيل لأعمال الناس بسبب موت واحد إهدار للطاقات، إضافة إلى أنه مما دخل على المسلمين عن طريقة الكفار، ((ومن تشبه بقوم فهو منهم)).
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، ولا تمتنا إلا وأنت راض عنا، اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين.
(1/887)
أشراط الساعة الصغرى 1
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/7/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن قيام الساعة قد اقترب ولا يَعلم موعد ذلك إلا الله تبارك وتعالى ولكنّ الله تعالى قد
جعل علامات دالة على قُرب وقوع الساعة 2- أقسام علامات الساعة 3- ذكر بعض علامات
الساعة الصغرى
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
اعلموا رحمني الله وإياكم بأن الساعة آتية لا ريب فيها، قال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وقال الله تعالى: اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم.
إن الساعة قريبة أيها الأحبة، لذا ينبغي التنبه إلى أن الباقي من الدنيا قليل، بالنسبة إلى ما مضى منها، روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما بقائكم فيما سلف قبلكم من الأمم ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس)).
إنهم يرونه بعيداً، ونراه قريباً.. عن عتبة بن غزوان قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ليصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم)) رواه مسلم.
إن الله جلت حكمته، قد أخفى على كل أحد وقت قيام الساعة، وجعل ذلك من خصائص علمه لم يطلع عليها أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفيّ عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولكنه سبحانه وتعالى، قد أعلمنا بأماراتها وعلاماتها، وأشراطها، لنستعد لها فهناك كثير من أشراط الساعة، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً لأمته، وقد ظهرت هذه الأشراط، وهذه العلامات منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وهي في ازدياد، وقد تكثر في أماكن دون بعض.
ومن هذه الأشراط، ما ظهر وانقضى، ومنها ما يزال يتتابع ويكثر، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به، ومنها ما لم يظهر إلى الآن ويكون قرب قيام الساعة، وتكون في أمور غير معتادة على الناس.
إليكم أيها الأحبة بعض أشراط الساعة، مع بعض الوقفات اليسيرة مع بعضها، لعلها تعلم جاهلنا، وتذكر ناسينا، وتزيد المتذكر إيماناً على إيمانه.
إن أول أشراط الساعة، بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو النبي الأخير، فلا يليه نبي آخر، وإنما تليه القيامة كما يلي السبابة الوسطى، وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) ويشير بأصبعيه، فضم السبابة والوسطى رواه البخاري.
قال الله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين.
ومن أشراط الساعة: موت النبي صلى الله عليه وسلم روى البخاري في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعدُدْ ستاً بين يدي الساعة: موتي ثم فتح بيت المقدس ثم..)) ذكر بقية الستة.
إن موت النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات قرب الساعة، لقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين، فقد أظلمت الدنيا في عيون الصحابة رضي الله عنهم، عندما مات عليه الصلاة والسلام، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء فيها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا).
قال ابن حجر رحمه الله: (يريد أنهم وجدوها تغيّرت عمّا عهدوه في حياته من الألفة والصفاء والرقة، لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأديب).
بموت النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء، وكما قال القرطبي أول أمر دهم الإسلام، وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وكان موته أول انقطاع الخير وأول نقصانه.
ومن أشراط الساعة: أن يكثر المال في أيدي الناس، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال حتى يُهمّ رَبَّ المال أن يقبله منه صدقة ويُدَعى إليه الرجل فيقول: لا أرب لي فيه)).
وعن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب، ثم لا يجد أحداً يأخذها منه)). لقد تحقق كثير مما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثر المال في عهد الصحابة رضي الله عنهم بسبب الفتوحات الإسلامية، وبسبب الجهاد في سبيل الله، واقتسموا أموال الفرس والروم، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، بسبب بركة عدله، فكان الرجل يعرض المال للصدقة فلا يجد من يقبله، لأن عمراً قد أغنى الناس عن السؤال.
وسيكثر المال في آخر الزمان حتى يعرض الرجل ماله فيقول الذي يعرض عليه: لا أرب لي به. وهذا والله أعلم سيكون في زمن المهدي وعيسى عليه السلام حيث ستخرج الأرض كنوزها فيكثر المال.
ولا مانع من أن يتخلل هذه الفترات، بعض فترات يسود الفقر والمجاعة بعض الأمة، كما هو حاصل الآن، من وجود شعوب ومجتمعات من هذه الأمة تموت فقراً وجوعاً، ولا يكاد يسلم بلد، من وجود محاويج لا يعلم بحالهم إلا الله.
ومن أشراط الساعة: أن تقلِّد هذه الأمة أمم الكفر كاليهود والنصارى، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. فقيل يا رسول الله كفارس والروم، فقال: ومن الناس إلا أولئك)) رواه البخاري. وفي رواية: ((قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى، قال: فمن؟)).
إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم واقِع ومُشَاهد، فقد تشبه عدد غير قليل من المسلمين بالكفار، من شرقيين وغربيين، فتشبه رجالنا برجالهم، ونساؤنا بنسائهم، ويستحي الشخص أن يقول بأن بعض رجالنا تشبهوا بنسائهم، وافتتنوا، حتى أدى الأمر بالبعض بأن خرجوا من الدين والعياذ بالله.
إن من عرف الإسلام الصحيح، عرف ما وصل إليه حال المسلمين، في الفترة الراهنة، من بعدهم عن تعاليم الإسلام، بسبب تقليدهم للغرب الكافر، انحراف في العقائد، تحكيم لقوانين الكفار، ابتعاد عن شريعة الله، تقليد للغرب في الملبس والمأكل والمشرب وليس هناك أبلغ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المحاكاة من قوله: ((شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) ، ماذا جنت الأمة، وماذا استفادت، عندما تمركنت (أصبحت أمريكية، وتفرسنت (أصبحت فرنسية)، وتغرّبت، ماذا جنينا سوى الذل والهوان، ونهب للخيرات، وضرب فوق الرؤوس، والعيش كالعبيد، وبعد هذا كله، خسران الدين، وقبله كان خسران الدنيا، كم نتمنى من أولئك الذين يستوردون للأمة من الغرب مساحيق التجميل، والأخلاق السيئة والعادات، أن يستوردوا النظم الإدارية الجيدة وتنظيم الأعمال التقنية الحديثة، نظم المعلومات، أن يرتقوا بشعوبهم في هذه النواحي، تحديث في نظم المستشفيات، المؤسسات، المقاولات، التحديث في رصف الشوراع، في بناء المعاهد، الجامعات، المدارس.
كم هو المحزن، عندما تجول العالم من أقصاه إلى أقصاه، فترى التخلف في هذه النواحي والقصور، ثم في المقابل تشاهد أنصاف رجال يتسكعون كالنساء، مفتخرين أنهم تفرنجوا، وأصبحت حياتهم غربية، ويدعون للتغريب، إنها فتن أيها الأحبة، نسأل الله جل وتعالى أن يخلص منها هذه الأمة.
ومن أشراط الساعة: انتشار الأمن في بعض فترات الأمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة، حتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخافُ إلا ضلال الطريق)) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.
وهذا قد وقع في زمن الصحابة رضي الله عنهم، وذلك حينما عمّ الإسلام والعدل البلاد التي فتحها المسلمون، أيضاً زمن عمر بن عبدالعزيز، فإن الأمن أيها الأحبة مرتبط بالإسلام والعدل، فإذا رأيت الأمن قد عمّ البلاد فأعلم بأن راية الإسلام مرفوعة والعدل قائم، وهذا يؤيده حديث عدّي رضي الله عنه في صحيح البخاري قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عدي: هل رأيت الحيرة، قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين ذعّار طيء – أي قطاع الطرق من قبيلة طيء – الذين قد سعروا البلاد؟ ولئن طالت بك حياة لتُفتحنَّ كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملئ كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه)). قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملئ كفه.
وسيتحقق هذا الأمن، وسينتشر في زمن المهدي في آخر الزمان، وفي زمن عيسى بن مريم عليه السلام بعدما ينزل، لأن زمنهما سيعم العدل مكان الجور والظلم، وسيملأن الدنيا قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً.
ومن أشراط الساعة: قتال الترك، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوماً وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر)). وقد قاتل المسلمون الترك في عصر الصحابة رضي الله عنهم، وذلك في أول خلافة بني أمية، في عهد معاوية رضي الله عنه وقد كان عند بعض الصحابة تخوف من قتال الترك بعدما سمعوا حديث عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه، قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمتي يسوقها قوم عراض الأوجه، صغار الأعين كأن وجوههم الحجف [وهو الترس] حتى يلحقوهم بجزيرة العرب، أما السابقة الأولى، فينجومن هرب منهم، وأما الثانية، فيهلك بعضهم وينجو بعض، وأما الثالثة فيصطلون كلهم من بقي منهم، قالوا يا بني الله من هم؟ قال: (هم الترك) قال أما والذي نفسي بيده ليربِطُنّ خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين)) رواه الإمام أحمد.
فبعدما سمع بريدة هذا الحديث كان لا يفارقه بعيران أو ثلاثة ومتاع السفر والأسقية للهرب من البلاء الذي سينزل بسبب أمراء الترك.
وقد دخل كثير من الترك في الإسلام، ووقع على أيدهم خير كثير للإسلام والمسلمين، وكونّوا دولة إسلامية قوية، عزّ بها الإسلام، وحصل في عهدهم كثير من الفتوحات العظيمة، منها فتح القسطنطينية، عاصمة الروم، وهذا مصداقٌ لما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عند البخاري، بعد ذكره صلى الله عليه وسلم لقتال الترك قال: ((وتجدون من خير الناس أشدهم كراهية لهذا الأمر، حتى يقع فيه والناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)).
بارك الله لي ولكم في...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين... وبعد:
ومن أشراط الساعة أيضاً: ضياع الأمانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا استند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة)) رواه البخاري. وبين عليه الصلاة والسلام كما في حديث حذيفة: ((أن الأمانة ترتفع في آخر الزمان من القلوب، وأنه لا يبقى منها في القلب إلا أثرها، فيقال: إن في بني فلان رجل أميناً)).
إن من أشراط الساعة، أن الأمانة سترفع من القلوب، حتى يصير الرجل خائناً بعد أن كان أميناً، وهذا إنما يقع لمن ذهبت خشيته لله، وضعف إيمانه، وخالط أهل الخيانة فيصير خائناً، لأن القرين يقتدي بقرينه.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ستكون هناك سنون خدّاعة، تنعكس فيها الأمور، يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون الأمين، ويؤتمن الخائن.
ومن مظاهر تضيع الأمانة، إسناد أمور الناس من إمارة وخلافة وقضاء ووظائف على اختلافها إلى غير أهلها القادرين على تسييرها والمحافظة عليها، لأن في ذلك تضييعاً لحقوق الناس، واستخفافاً بمصالحهم، وإيغاراً لصدورهم، وإثارة للفتن بينهم.
فإذا ضيّع من يتولى أمر الناس الأمانة، والناس في الغالب تبع لمن يتولى أمرهم، كانوا مثله في تضيع الأمانة، عمّ بذلك الفساد في المجتمعات.
ثم إن إسناد الأمر إلى غير أهله، دليل واضح على عدم اكتراث الناس بأمر الدين، حتى أنهم ليولون أمرهم من لا يهتم بدينه، والله المستعان.
ومن أشراط الساعة: قبض العلم وظهور الجهل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل)) رواه البخاري ومسلم.
إن المراد بالعلم هنا، علم الكتاب والسنة، وهو العلم الموروث عن الأنبياء عليهم السلام، فبذهاب هذا العلم، تموت السنن وتظهر البدع ويعم الجهل، أما علم الدنيا فإنه في زيادة وليس هو المراد في الأحاديث، ويكون قبض العلم إما بقبض العلماء كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) رواه البخاري.
وأما، وهذه صورة أخرى من صور قبض العلم، أن لا يعمل العلماء بعلمهم، بمعنى غياب العلماء الحقيقيون الربانيون عن واقع الأمة.
ما الفائدة إذا كنت أحفظ المتون، وأحفظ الكتب والمجلدات، ثم لا أثر لي ولا ينتفع بيّ الناس.
إن العلماء الحقيقيون هم الذين يعملون بعلمهم، ويوجهون الأمة، ويدلونها على طريق الهدى، ويشاهدون في المواقف التي تحتاجهم الأمة، فإن العلم بدون عمل لا فائدة فيه، بل يكون وبالاً على صاحبه.
قال مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي رحمه الله عن طائفة من علماء عصره: (وما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وأما اليوم، فما بقي من العلوم القليلة إلا القليل في أناس قليل، ما أقل من يعمل منهم بذلك القليل، فحسبنا الله ونعم الوكيل). هذا في عصر الذهبي، فما بالك بزماننا هذا؟ فإن العلماء الحقيقيون أعز في وجودهم من الكبريت الأحمر.
ولا يزال أيها الأحبة، العلم ينقص والجهل يكثر، فكلما بعد الزمان من عهد النبوة قل العلم حتى يأتي على الناس زمان لا يُعرفون فيه فرائض الإسلام، وهذا يكون قرب قيام الساعة كما في حديث حذيفة الذي أخرجه ابن ماجة بسند صحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسري على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة يقولون – لا إله إلا الله – فنحن نقولها)).
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله)).
ومعنى هذا أن أحداً لا ينكر منكراً ولا يزجر أحداً إذا رآه قد تعاطى منكراً، وذلك عندما يبقى عجاجةٌ من الناس لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً وذلك عند فساد الزمان، ودمار نوع الإنسان، وكثرة الكفر والفسوق والعصيان.
نسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يرحمنا برحمته.
(1/888)
أشراط الساعة الصغرى 2
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/7/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكملة ذِكر أشراط الساعة الصغرى ومنها : ظهور الربا – فشوّ المنكرات – الزنا -
الغناء – الإعلام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بدأنا في الجمعة الماضية، الحديث عن أشراط الساعة الصغرى، وهي الأمارات والعلامات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أنها ستكون قبل قيام الساعة.
وقد ذكرنا في الجمعة الماضية عدداً منها: بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، موته عليه الصلاة والسلام، يكثر المال في أيدي الناس، تقليد هذه الأمة لأمم الكفر كاليهود والنصارى، انتشار الأمن في بعض فترات الأمة، قتال الترك، ضياع الأمانة، وكان آخرها قبض العلم وظهور الجهل.
وها نحن نكمل الحديث، فهذه مجموعة أخرى من أشراط الساعة، مما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، أنها ستكون وسينتشر بعضها والله المستعان.
فمن أشراط الساعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها: انتشار الربا والعياذ بالله، بين الناس، وعدم المبالاة بأكل الحرام.
عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بين يدي الساعة يظهر الربا)) رواه الطبراني. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام)).
إن الربا أيها الأحبة ومع كل أسف قد ضرب بأطنابه وغرس قوائمه في ديار المسلمين، الذي دينهم يحرم عليهم الربا أشد تحريم، يكفيك في ذلك قول الله تعالى: فأذنوا بحرب من الله ورسوله. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) متفق عليه.
إن الربا الذي قد انتشر في مجتمعات المسلمين اليوم لهو أحد الأسباب الذي أدى إلى فساد الصلات، وإفساد المكاسب والمطاعم والمشارب، وكل هذا سيؤدي إلى عدم نفع الأعمال وقبول الدعاء، والتأييد بالنصر على الأعداء، وبهذا عُلل وجود آية الربا يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعاف مضاعفة بين عدد كثير من آيات الجهاد التي نزلت في غزوة أحد في سورة آل عمران، إيماءً إلى أن من أسباب قبول الأعمال وحصول النصر، تطهير الأموال التي تنفق في العبادات التي من أفضلها الجهاد في سبيل الله.
فإذا أرادت الأمة قبول أعمالها، وحصول النصر على أعدائها، فعليها تطهير أموالها، ومحاربة الربا في بلادها، لا أن تكون هي جالبةً للذل والخزي بنفسها بسبب تعاملاتها الربوية خصوصاً عن طريق ما يسمى بالديون الخارجية.
لقد عصم المسلمون زماناً طويلاً في الماضي من وباء الربا، وحفظت أموال الأمة التي جعلها الله قياماً للمسلمين من أن يسيطر عليها المرابون الذين يأكلون ثروات الشعوب، ويدمرون اقتصادها، ووجد أولئك أن اعتصام المسلمين بدينهم وابتعادهم عن التعامل بالربا جدار صلب يقف في وجه مطامعهم الخبيثة إلى أن وجّه عباد الصليب تلك الهجمة الفكرية الشرسة على ديار المسلمين، وزرعوا ألغام بشرية في أرضها من جلدتها ويتكلمون بلغتها إلا أنهم يحاربون دينها، فكان من جملة ما فعلوا إقصاء الشريعة عن الحكم، وإبعاد الدين عن الهيمنة على حياة الناس، وإفساد مناهج التعليم، وتربية رجال من هذه الأمة وفق مناهج الكفر، فقام أولئك الذين رضعوا فكر الغرب، وتغذوا بُسمّه الزعاف، ينادون بأخذ كل ما عند الغرب، ولا شك بأنها دعوة صريحة للضلال والانسلاخ من القيم، فعمل الذين أضلهم الله على علم والذين اتبعوهم على إقرار الأنظمة الربوية وإقامة المؤسسات والبنوك الربوية في ديار المسلمين وظن بعض هؤلاء أنهم هدوا للطريق التي ترقى بها أمتهم، وها نحن اليوم نشاهد بأعيننا انتشار الربا في ديار المسلمين انتشار السرطان في الجسد، ولا زلنا نعاني من التخلف والقهر والاستبعاد، ولا يزال أباطرة الربا يربضون على قلب الأمة الإسلامية في كل شبر من أراضيها، وكل هذا تحقيق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أشراط الساعة: كثرة الشرط وأعوان الظلمة، روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يكون في هذه الأمة في آخر الزمان رجال – أو قال – يخرج رجال من هذه الأمة في آخر الزمان معهم سياط كأنها أذناب البقر يغدون في سخط الله، ويروحون في غضبه)). وفي رواية للطبراني في الكبير وسنده صحيح: ((سيكون في آخر الزمان شرطةٌ يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط الله، فإياك أن تكون من بطانتهم)). وقد جاء الوعيد بالنار لهذا الصنف من الناس الذين يتسلطون على المسلمين بغير ذنب فعلوه ولا جرم ارتكبوه إلا أن يقولوا ربنا الله، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس..)).
قال النووي رحمه الله: وهذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فأما أصحاب السياط، فهم غلمان والي الشرطة.
وعند مسلم أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: ((إن طالت بك مدة، أوشكت أن ترى قوماً يغدون في سخط الله ويروحون في لعنته، وفي أيديهم مثل أذناب البقر)).
ومن أشراط الساعة: انتشار الزنا، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن فشو الزنا وكثرته بين الناس أن ذلك من أشراط الساعة، ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة.. فذكر منها: ويظهر الزنا)).
وعند الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتي على الناس سنوات خدّاعات)). فذكر الحديث وفيه: ((وتشيع فيها الفاحشة)).
الزنا أيها الأحبة، من أفحش الفواحش، وأحط القاذورات، وقد قرنه الله بالشرك فقال: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ومع ما سينتشر بل انتشر تحقيقاً لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل جريمة الزنا يبدد الأموال، وينتهك الأعراض، ويقتل الذرية ويهلك الحرث والنسل، عاره يهدم البيوت، ويطأطئ الرؤوس، يسوِّد الوجوه، ويخرس الألسنة، ويهبط بالرجل العزيز إلى هاوية من الذل والحقارة والازدراء، هاوية ما لها من قرار، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما ارتفع، إن الزنا يجمع خصال الشر كلها، من الغدر والكذب والخيانة، إنه ينزع الحياء ويذهب الورع ويزيل المروءة، ويطمس نور القلب، ويجلب غضب الرب، إنه إذا انتشر أفسد نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الأبضاع، وصيانة الحرمات، والحفاظ على روابط الأسر، وتماسك المجتمعات، لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن المجتمع كله يصيبه الأمراض والأوجاع بسبب انتشار الزنا، يقول ابن عمر رضي الله عنهما، أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، أعوذ بالله أن تدركوهن، وذكر منها - ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم)).
سؤال يرد؟! ما ذنب المجتمع في أن ينتشر فيه الأمراض؟
ذنبه: أنه لم يقاوم تيار الفساد، ولم يقاوم الأسباب التي تؤدي إلى انشار الزنا في البلد.
ذنبه: أنه لم يأمر بالمعروف ولم ينهى عن المنكر.
ذنبه: أنه يساعد تيار الفساد في التمدد، ويقاوم تيار الخير من أن ينتشر.
فكان ذنب هذا المجتمع، أن يذوق مرارة الوجع مع الزناة والزواني الذين أصابهم الزهري والسيلان والإيدز.
إذا أردنا حماية أنفسنا من أوجاع الزنا، وأردنا حماية أولادنا وبناتنا من الوقوع في هذه الرذيلة، فعلينا بذل كل سبب في الوقوع أمام هذا التيار من خلال:
أولاً: ما يحصل في الأسواق وبالأخص في المجمعات التجارية من التبرج والسفور والميوعة سواءً من الأجنبيات أو من بنات البلد فإن هذا يزيد ارتفاع نسبة الزنا.
ثانياً: ما يعرض في وسائل الإعلام، من أغانٍ ماجنة، وصور فاضحة، وقصص ساقطة، وأفلام هابطة، مما يحرك ويثير شهوة الكبير المتزوج فكيف بالشاب المراهق، والبنت المراهقة، فكل من يتساهل في أن يعرض أو يسمع شيء من هذا في بيته، ثم يقع أحد أولاده في الانحراف، فإنه يتحمل وزره يوم القيامة أمام الله عز وجل.
ثالثاً: إسكات هذه الأبواق العلمانية المضللة التي تسعى في نشر هذا السقوط الاجتماعي إما بكتابة مقالات في جرائد ومجلات، أو نظم قصائد غرامية، وكلمات عشق وغرام ونشرها هنا وهناك، أو بأية طريقة أخرى يحاولون من خلاله نشر سمومهم وأفكارهم، هذا التيار يسعى جاهداً بكل ما أُتي من حيلة ووسيلة إلى تغريب حياة الناس، وجعل الواقع يشابه الواقع الغربي المنحل في كل شيء، إنه لا بد علينا جميعاً من فضح هؤلاء ومقاومة شرهم، بنشر الخير، ورد أفكارهم بالحجة والبرهان والمحاضرات، وإلا لو ترك لهم المجال ونشروا نتنهم، أصابنا جميعاً ذلك الوجع، ((أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم، إذا كثر الخبث)).
والخبث والله قد كثر، وبوادر الانحلال قد لاح، ولا داعي أيها الأحبة أن نشابه النعام ونضع رؤوسنا في التراب، فلنكن صرحاء، هذه المشاكل، وهذه القضايا التي نسمعها كلنا، كل يوم عشرات القضايا، وعشرات الجرائم، في الأسواق، وحول المدارس، والمعاهد والكليات، والشقق المفروشة، وشواطئ البحر، بكل صراحة، هؤلاء أولاد من؟ هل هم أولاد الجن. أم أنهم أولادنا وبناتنا، هذه القصص التي تصل لمراكز الهيئات يومياً بالأرطال من المجمعات التجارية من الذي يمارسها، أولاد كوكب آخر، فلماذا التغافل، ولماذا دس الرؤوس، ولماذا الثقة المفرطة والاطمئنان الزائد، وكأن أولادنا أولاد الصحابة. كلنا يعرف بأن الشهوة لو تحركت فإنها لا تعرف التوسط والاعتدال، حتى تخرج في سبيلها.
فاتقوا الله يا أولياء الأمور في الأولاد والبنات، فإن عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة قال الله تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً.
أيها المسلمون: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع بانتشار الزنا، فوالله إن لم ننتبه سيدركنا قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة عند أبي يعلى قال: ((والذي نفسي بيده لا تفني هذه الأمة، حتى يقوم الرجل إلى المرأة، فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذٍ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط)).
قال القرطبي رحمه الله: (في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، إذ أخبر عن أمور ستقع فوقعت خصوصاً في هذه الأزمان).
رحم الله القرطبي وأسكنه فسيح جناته، إذا كان هذا وقع في زمنه، وقد توفي في القرن السابع، فكيف لو رآى زماننا هذا، الذي قد اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبحت قلة الحياء شعار أسر كاملة، وعوائل معروفة، كانت معروفة إلى سنوات قريبة بالستر والعفاف.
فنسأل الله جل وتعالى أن يدركنا برحمته.
فإن واقعنا ينذر بشر عظيم، وباب سينكسر، نسأله العفو والعافية، إنه سميع الدعاء.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أشراط الساعة، والتي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها ستكثر وتنتشر، بل ويستحلّها الناس ظهور المعازف وأصوات الموسيقى والغناء وانتشارها بين الناس، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سيكون في آخر الزمان خسف، وقذف ومسخ، قيل ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات)) رواه ابن ماجة وسنده صحيح، وهذه العلامة قد وقع شيء كبير منها في العصور السابقة، وهي الآن، وفي هذا الوقت أكثر ظهوراً، وأعظم انتشاراً، فقد ابتلي كثير من المسلمين بالمعازف، وأشربت قلوبهم حب الغناء، وسماع الموسيقى، وارتفعت أصوات المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، في كل مكان، وتساهل الناس في هذا الأمر، وصار سماع الغناء جزء من حياتهم، ولا ينكر ارتفاعه في الأسواق والأماكن العامة، وامتلأت البيوت به، وكل هذا أيها الأحبة، مؤذن بشرّ والله المستعان. فقد جاء الوعيد لمن فعل ذلك بالمسخ والقذف والخسف، كما في الحديث السابق، بل والأعظم من هذا، إذا استحلّ الناس الغناء والمعازف، وفعلاً قد استحلها كثير من الناس، ويستغرب إذا قلت له بأن سماع الموسيقى والغناء حرام، فهؤلاء عقوبتهم كما ثبت في البخاري أنهم يمسخون قردة وخنازير إلى يوم القيامة، فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم تأتيهم – يعني الفقير لحاجة – فيقولوا ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)).
إن المتأمل لواقع الناس اليوم، يرى أن هذه الأمة إن لم يتداركها الله برحمته، فإنها مقبلة على فتن عظيمة، لقد أحب الناس اللهو والعبث والمرح، نزعت الجدية من حياتهم، نسوا أننا أمة مجاهدة، أمة صاحبة رسالة، تكالب علينا الأعداء من كل جانب، نهبت أموالنا، اغتصبت أراضينا، سرقت خيرات الأمة، ومازلنا نرقص ونغني، تعجب أحياناً من رجل كبير في السن يتمايل مع أصوات المعازف، فكيف بالشاب المراهق.
إن مما عوّد الناس على سماع الغناء، وجعلها عادية في حياتهم وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وزاد الطين بِلةً، دخول الدشوش في البيوت، وهذا شر عظيم، وجرم كبير، يرتكبه رب الأسرة في حق أولاده لأنها دعوة صريحة إلى الفواحش، محطات كاملة، تبث وعلى مدى 24 ساعة، برامج فقط رقص وغناء، بشكل فاضح ساقط، والبنت تنظر وتسمع، والولد، والزوجة، والبيت كله يتربى على هذا، ألا تظنون أننا لا نحاسب حساباً عسيراً على هذا، والله سنحاسب، ولعلي أختم كلامي بأن أقرأ عليكم ورقة موقعة من فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حول إدخال رب الأسرة الدش في بيته وما هي عقوبته عند الله عز وجل.
(1/889)
أشراط الساعة الصغرى 3
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/7/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار شرب الخمر من أشراط الساعة الصغرى
2- عقوبة شارب الخمر وحكمه
3- زخرفة المساجد من أشراط الساعة وكيف تكون الزخرفة ولماذا نهي عنها
4- كثرة القتل من أشراط الساعة ومعناه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ومن أشراط الساعة معاشر المسلمين، استكمالاً لما سبق، وما زلنا في علامات الساعة الصغرى وبقي علينا الكبرى، انتشار وكثرة شرب الخمر في هذه الأمة، والأدهى من ذلك استحلال بعض الناس لها، نعم ولا غرابة أن يستحل بعض هذه الأمة ما حرم الله، روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أشراط الساعة)). وذكر منها: ((ويشرب الخمر)). وعند الإمام أحمد وابن ماجة عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه)).
لقد ابتلي عدد غير قليل من المسلمين بشرب الخمر والعياذ بالله، وابتلي به أكثر أصحاب الأموال والترف، وأصحاب الوجهات، لأسباب منها: أن الحصول عليه يحتاج إلى ميزانية، لارتفاع سعره، وهذا ما لا يتمكن منه الفقير الفاسق، ومنها :أن هذه الطبقة من المجتمع، تقليداً لأشباههم الكفار الغربيين، يعتبرونه من مكملات الوجاهة ومن تتمات البروتوكولات – زعموا – لكن مع ذلك الفرق كبير بين المُقلِدّ والمُقَلَّد، فالكفار مع كفرهم، لكنهم أعقل ممن قلدوهم من المسلمين في تناول الخمر، يذهبون عقولهم لكن بعقل، وفي أوقات محددة، وبعضهم تحت إشراف طبيب، أما أصحاب الترف، وأصحاب الملذات واللعب من هذه الأمة، مع كونهم مسلمين، ومع أنهم يعلمون حرمته، لكنهم يذهبون عقولهم بغير عقل، نسمع عن بعضهم أنهم لا يشربون الخمر بالكأس بل بالسطل، حيوانية وبهيمية متناهية، وبعضهم يبقى بالأربع والخمس أيام فاقداً للوعي، لا يترك لنفسه فرصة ولا دقيقة واحدة ليعود إليه عقله.
لقد كثر الخمارين في أوساط الناس، وكثر أيضاً الخمارات، وكل هذا تحقيقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أما كثرة الخمارين، فإن الواقع يشهد لذلك، قبيل سنوات، كان المبتلى بالخمر، لا أحد يعرف عنه، يتستر حتى من أهل بيته، أما الآن، فلكثرة البلوى به، أصبح عند الناس تبلد إحساس وعدم اكتراث بهذا الأمر، فلا يبالي إذا عرف الناس عنه أنه يتعاطى المسكرات ذهب الحياء حتى من الناس، أصبحنا نسمع في واقعنا وكأن الأمر عادي جداً فلان أتانا وهو سكران، فلان يشرب في بيته، فلان.. وهكذا وكأن الأمر لا شيء، أما كثرة الخمارات، فلو اتيحت لك فرصة أن تجلس لبضع دقائق مع أحد أعضاء الهيئات، ليعطيك بعض أخبار الخمارات، فأظنك لا تصدق العدد في البلد الواحد، كالخبر مثلاً ليس بالآحاد، بل بالعشرات وربما أكثر، مصانع داخلية في الشقق والبيوت، وأكثر البلوى والمصائب كما بلغنا من العمالة الأجنبية، فهم سبب لكثير من المفاسد في البلد، يجتمع العشرة وربما أكثر في الشقة الواحدة، وليس بينهم متزوج، ومع غياب متابعة الكفيل، يفعلون كل شيء، فيفتحون لهم مصنعاً، وأحياناً يكون السبب هو الكفيل نفسه إذا أخرّ رواتبهم، وهم بحاجة إلى المال، ماذا يفعلون؟ فيغريهم الشيطان إلى مثل هذه الطرق، لكن المصيبة على من يبيعون؟ تتم البيعة على أولاد البلد، ممن يتوفر في أيديهم المال، فاتقوا الله عباد الله، الأب يتابع ولده، والكفيل يتابع ومكفوله وكلنا نكون رجال هيئة، نتعاون مع الأعضاء الرسميين، لنخفف الشر المنتشر في كل مكان.
أيها المسلمون: لقد تحقق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم في انتشار الخمر، وليس أعظم انتشاراً من أن تباع جهاراً ونهاراً، وتشرب علانية في بعض البلدان الإسلامية، وتحت غطاء رسمي يحمي ذلك كله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
من كان يتصور أن يصل الحال بالمسلمين، أن يرضوا ببيع الخمر في بلادهم، الكفار حكوماتهم كافرة، وليس بعد الكفر ذنب، ولكن العجب فيمن يدعي الإسلام، ثم يرضى ببيع الخمر بين المسلمين، إن كان استحلالاً، فإن من استحل الخمر كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً، تضرب عنقه، ثم لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وإنما يرمس بثيابه في حفرة بعيدة، لئلا يتأذى المسلمون برائحته، وأقاربه بمشاهدته، ولا يرث أقاربه من ماله، وإنما يصرف ماله في مصالح المسلمين، ولا يدعى له بالرحمة، ولا النجاة من النار، لأنه كافر مخلد في نار جهنم إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا. هذا المستحل، أما غير المستحل فهو عاصي لله فاسق خارج عن طاعته، مستحق للعقوبة، وعقوبته في الدنيا الجلد، وقد كان يفتي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من تكرر منه شرب الخمر فإنه يقتل في الرابعة، عند الحاجة إليه، إذا لم ينته الناس بدون القتل. وهذا والله عين الفقه، فإن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل قتل، فما بالكم بالصائل على أخلاق المجتمع، وصلاحه وفلاحه، لأن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه، بل يتعداه إلى نسله ومجتمعه، ولعل هذه الفتوى أنسب فيمن يسمحون ببيع الخمور في ديار المسلمين.
ومن أشراط الساعة: زخرفة المساجد والتباهي بها، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أشراط الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد)) رواه النسائي وابن خزيمة بسند صحيح. وعند الإمام أحمد: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)).
زخرفة المساجد، هو نقشها، وعلة النهي والله أعلم أن ذلك علامة الترف والتبذير والإسراف، إضافة إلى أنه يشغل الناس عن صلاتهم، أضف إلى ذلك قول ابن عباس كما في صحيح البخاري أنه من عمل اليهود والنصارى: ((لتُزخرفُنّها كما زخرفت اليهود والنصارى)). لهذا ولغيره ورد النهي، لمّا أمر عمر بن الخطاب بتجديد المسجد النبوي على عهده، نهى عن الزخرفة وأكد على ذلك فقال: ((أكنّ الناس من المطر، وإياك أن تحمرّ أو تصفرّ، فتفتن الناس)). رحم الله الفاروق عمر، فإن من أتوا بعده، لم يأخذوا بوصيته، ولم يقتصروا على التحمير والتصفير، بل وتعدوا ذلك إلى النقش كما ينقش الثوب.
معاشر المسلمين: إن التباهي في بناء المساجد، صار أمراً ظاهراً لكل أحد، ومنذ القديم، والسلاطين والملوك والخلفاء، يتباهون في بناء المساجد وتزويقها وزخرفتها، حتى أتوا وعلى مر التاريخ بالعجب، ولا زالت بعض هذه المساجد قائمة حتى الآن في الشام ومصر وتركيا، وبلاد المغرب والأندلس والهند، وغيرها. ولا تزال هذه العادة مستمرة إلى يومنا هذا، التباهي، والزخرفة، الأول يبني مسجداً يتباهى بأنه صاحب أطول مئذنة في العالم، والثاني أكبر قبة، والثالث أوسع، والرابع أجمل، والخامس أحسن، المهم أنه على وزن أفعل – ما في العالم، ويمكن أن يلحق ما هو على وزن أفعل: أسوء، وأقبح، إذا كان مخالفاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
إن عمارة بيوت الله جل وتعالى إنما تكون، بالطاعة والذكر والصلاة، وتحقيق ما وجدت المساجد في هذا الدين من أجله، يكفي في المسجد أن يقي الناس الحر والبرد والمطر.
إن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في وقته من جريد النخل لكنه كان مكاناً للصلاة والذكر، وكان مقراً لاجتماع مجلس الشورى، وكانت قاعدة عسكرية، ينطلق منها جحافل الإيمان إلى أصقاع المعمورة، يفتحون البلاد وينشرون دين الله، وكانت جامعة تخرج منها الفقهاء والمحدثين والمفسرين، وكانت مأوى للفقراء والمساكين، كأهل الصفة وغيرهم.
إلى غير ذلك مما وجد المسجد في الإسلام لأجله، أما اليوم فصحيح أن مساجدنا، أطول، وأكبر، وأوسع، و.. و.. لكن المقاصد الشرعية الأخرى للمساجد عطلت، فأصبح أسوء، وأبشع، وأبعد من السنة.
لقد جاء الوعيد من نبيكم بالخبر الصحيح بالدمار إذا زخرفت المساجد وحليت المصاحف، روى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ((إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم)).
والذي عليه الشافعية كما نقله المناوي رحمه الله: (أن تزويق المساجد ولو الكعبة بذهب أو فضة حرام مطلقاً، وبغيرهما مكروه).
فنسأل الله جل وتعالى العفو والعافية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
نفعني الله وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.. وأشهد أن لا إله إلا الله...
أما بعد:
ومن أشراط الساعة أيضاً ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة القتل في آخر الزمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج، قالوا وما الهرج يا رسول الله؟ قال – القتلُ القتل -)) رواه مسلم. وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن بين يدي الساعة الهرج، قالوا وما الهرج؟ قال القتل، قالوا: أكثر مما نقتل؟ إنا نقتل في العام الواحد أكثر من سبعين ألفاً، قال: إنه ليس بقتلكم المشركين ولكن قتل بعضكم بعضاً، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: إنه ليُنزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنه على شيء وليسوا على شيء)).. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتلَ، ولا المقتول فيم قُتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج، القاتل والمقتول في النار)).
وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث قد وقع بعض منه، فحدث القتال بين المسلمين في عهد الصحابة رضي الله عنهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم فتح الباب بعد ذلك.. لكن قتال الصحابة ليس كقتال من جاء بعدهم، فلم تكن لهم أطماع دنيوية على مال أو حكم أو رياسة كما يصور ذلك بعض المنحرفين من الكُتاب، ويصدقه السذج وضعاف الإيمان. تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ويكفي أنهم قوم قد حطوا رحالهم في الجنة.
ثم صارت الحروب تكثر في بعض الأماكن دون بعض، وفي بعض الأزمان دون بعض، وغالبها لا تخلو من أطماع، إما على حكم وهذا الغالب، أو على مال أو حروب طائفية دينية، وأحياناً تقوم حروب دون أن يعرف لها سبب، وإن ما حصل في القرون الأخيرة من الحروب المدمرة بين الأمم والتي ذهب ضحيتها الألوف بل الملايين. وانتشرت الفتن بين الناس بسبب ذلك، وكلما تسلم زعيم حكم دولة فأول ما يبدأ به هو تصفية كل المقربين من الوزراء والأمراء والأعوان للذي قبله.
وكذلك، فإن انتشار الأسلحة الفتاكة التي تدمر الشعوب والأمم، له دور كبير في كثرة القتل حتى صار الإنسان لا قيمة له، يذبح كما تذبح الشياه، وذلك بسبب الانحلال، وطيش العقول، فعند وقوع الفتن، يُقتل المقتول ولا يدري لماذا قُتِل وفيم قُتل، بل أننا نرى بعض الناس يقتل غيره لأسباب تافهة، وذلك عند اضطراب الناس ويصدق على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليُنزع عقول أكثر أهل ذلك الزمان)) نسأل الله العافية، ونعوذ به من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
بقي تعليقان قصيران حول كثرة القتل.
الأول: إن جميع الحروب التي تُكاد ضد المسلمين في هذا الوقت، سواءً كانت موجهة مباشرةً ضدهم أو كانت بالتحريش بينهم، فينبغي أن نعلم أن ورائها الغرب الحاقد على الإسلام، متمثلة في دولة عاد الكبرى – وهي حروب دينية صليبية بحتة – يراد منها القضاء على أكبر عدد من المسلمين بالقتل، وإن كانت في الظاهر قد تأخذ أسباباً تروج في الإعلام أنها غير دينية، لا شك أنهم يحققون مكاسب مادية من وراء ذلك، لكن قضية الدين في المقدمة، ولقد كثر القتل في المسلمين في هذه الأزمان، بسبب هذا المخطط الصليبي الحاقد.
فمرة: يعطون الضوء الأخضر لدولة تغزو جارتها، ومرة يتسببون في فتن بين جارتين فيقع بينهم حروب لسنوات، تستنزف فيها أموال، وتزهق أنفس، ومرة يكونون وراء حرب طائفية داخل الدولة الواحدة، ومرة يكون الطرف الآخر هم أنفسهم مباشرة كما حصل في البوسنة، ويخترعون لها أي سبب.
ما محصلة هذا كله: المحصلة كثرة القتل في المسلمين.
الأمر الثاني: إن هذا القتل الذريع في المسلمين، والغالب أنهم أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم شعوب تلك الدولة أو رعايا الدولة الأخرى، أنهم والعلم عند الله تعالى أن هذا القتل لهم بدون سبب يخفف عنهم عذاب الآخرة، فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن صدقة بن المثنى قال: حدثنا رباح بن الحارث عن أبي بردة قال: بينا أنا واقف في السوق في إمارة زياد إذا ضربت بأحدى يدي على الأخرى تعجباً، فقال رجل من الأنصار قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما تعجب يا أبا بردة؟ قلت أعجب من قوم دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضهم قتل بعض، قال فلا تعجب فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أمتي أمة مرحومة، ليس عليها في الآخرة حساب ولا عذاب، إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن)). وفي رواية أبي موسى في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: ((إن أمتي أمة مرحومة، ليس عليها في الآخرة عذاب، إنما عذابها في الدنيا: القتل والبلابل والزلازل)).
(1/890)
أشراط الساعة الصغرى 4
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/3/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من إعلام الناس بعلامات وأشراط الساعة
2- تقارب الزمان من أشراط الساعة، معنى ذلك وسببه
3- ظهور الشرك من أشراط الساعة وصوره
4- ظهور الفحش وقطيعة الرحم وسوء الجوار
5- تشبب المشيخة وخضبهم بالسواد 6- كثرة الشح ومعناه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: وعوداً على بدء، قبل عدة أشهر تحدثنا ولعدة جمع عن موضوع أشراط الساعة، وقلنا هناك بأن هناك أشراطاً صغرى، وأشراطاً كبرى، ولم نكمل بعد الأشراط الصغرى.
فذكرنا من جملة من ذكرنا، استفاضة المال بأيدي الناس وأن هذا من علامات الساعة، ومنها ضياع الأمانة، وانتشار الربا والزنا والخمور، وظهور الجهل، وكثرة القتل، وانتشار الأمن،وغيرها من العلامات، والتي اشبعت حديثاً هناك.
وها نحن نرجع لموضوعنا مرة أخرى لاستكماله وما يزال الحديث عن علامات الساعة الصغرى.
إن الله جلت حكمته، قد أخفى على كل أحد وقت قيام الساعة، وجعل ذلك من خصائص علمه، لم يُطلع عليها أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفيّ عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعملون.
ولكنه سبحانه وتعالى، قد أعلمنا بأماراتها وعلاماتها وأشراطها، لماذا؟ وما الحكمة؟ لنستعد لها.
إن في سرد هذه العلامات والأشراط عليكم أيها الأحبة، من خلال كلام النبي صلى الله عليه وسلم، تحذير للأمة، وتنبيه للناس ليستيقظوا من غفلتهم، ويدركوا بأن الساعة قريبة، وأن الواجب الاستعداد لها.
وبعض هذه العلامات ظهر وانقضى، والبعض نعيشه الآن، والبعض ننتظره، بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسيقع لا محالة.
ومن أشراط الساعة استكمالاً لما سبق: تقارب الزمان، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان)).
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
ما معنى تقارب الزمان؟ معنى تقارب الزمان، قلة بركة الزمان، كما سمعتم في الحديث تكون السنة كالشهر، تمضي عليك السنة ولم تفعل شيئاً، ولم تنجز عملاً يذكر، كأنه شهر، والشهر يقل بركته، فيصير كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السعفة، كم يستغرق وقت احتراق السعفة، بضع دقائق، الساعة بركتها كالدقائق والله المستعان.
وهذا أيها الأحبة، يشعر به العقلاء من الناس، وأهل العلم، والفطنة، وأصحاب العقول الراجحة، والأذهان الصافية، أما فسقة الناس وجهالهم، وأصحاب الهمم الدنيئة، وأصحاب الشهوات العاجلة، فهؤلاء لا يشعرون بشيء، إن هم إلا كالأنعام، همّ الواحد أن يملأ بطنه من الطعام والشراب ويستمتع ويقف عند ذلك. يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
ما السبب أيها الأحبة في تقارب الزمان؟ وما هو السبب في قلة بركة الوقت؟ وأظن أن الكثيرين منكم فعلاً يشتكي من هذه القضية، يمر عليك اليوم، واليومان والشهر والسنة، والإنجاز قليل، والعطاء ضعيف، السبب هو ظهور الأمور المخالفة للشرع في حياة الناس الخاصة، وفي مجتمعاتهم، إنه من الغلط ربط قلة البركة ونزعها من حياة الناس بغير القضايا الشرعية، إن علاقتها المباشرة بالأمور الشرعية ولا غير، يشتكي الناس من قلة البركة في الأوقات كما كان في الماضي، يشتكي الناس من قلة البركة في المال، يستلم الموظف عشرة آلاف أو أكثر، ولا يدري أين ذهب الراتب وفي الماضي كان يأخذ نصف راتبه الآن، ويجد ما يوفر بل ويتصدق، يشتكي الناس قلة البركة في الأولاد، نعم لديك سبعة أو ثمانية من الولد، لكن أين هم؟ ما وجودهم، ما قيمتهم بين الناس؟ هذه وغيرها يشتكي الناس من نزع البركة فيها، والسبب كما قلت أيها الأحبة وأقول، السبب نحن، ضعف إيماننا، وكثرة معاصينا، وجرأتنا على الحرام، كثرة فشو المنكرات في مجتمعاتنا، وقلة المنكرين كل هذا وغيره، عاقبنا الله جل وتعالى، وهذه تعد عقوبة يسيرة، نزع البركة من حياتنا قال الإمام ابن أبي جمرة الأندلسي رحمه الله تعالى: (ولعل ذلك – أي تقارب الزمان – بسبب ما وقع من ضعف الإيمان، لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات، ففيها من الحرام المحض ومن الشبه ما لا يخفى، حتى أن كثيراً من الناس لا يتوقف في شيء ومهما قدر على تحصيل شيء، هجم عليه ولا يبالي، والواقع – والكلام لا يزال له – أن البركة في الزمان وفي الرزق وفي النبت إنما تكون عن طريق قوة الإيمان، واتباع الأمر واجتناب النهي، والشاهد لذلك قوله تعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ).
ومن أشراط الساعة: ظهور الشرك في هذه الأمة، هذه العلامة ظهرت بل هي في ازدياد، ولها صور وأشكال لا تُحصى، لقد وقع الشرك في هذه الأمة، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث ليحارب الشرك، لقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم فتحها، وحول الكعبة وفوقها 360 صنماً، تعبد من دون الله، وكان بيده معول فصار يضربها ويكسرها وهو يتلو قول الله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاُ فأعلن عليه الصلاة والسلام التوحيد، وأقامه بين الناس، لكن بعد سنوات القرون المفضلة، وقع الشرك في هذه الأمة مرة أخرى، بل ولحقت قبائل منها بالمشركين، وعبدوا الأوثان، وبنوا المشاهد على القبور، وعبدوها من دون الله، وقصدوها للتبرك والتعظيم، وقدموا لها النذور، وأقاموا لها الأعياد، وصور أخرى من الشرك. روى أبو داود والترمذي بسند صحيح عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع السيف في آمتي، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)). هذه بعض صور الشرك مما كان في الماضي ولا يزال، أما اليوم فقد ظهرت صور أخرى، تتعدى عبادة الحجر والشجر، فصار في مجتمعاتنا الطواغيت أنداداً من دون الله، وصار الشرك في تشريع الناس لأنفسهم ما يخالف شرع الله عز وجل، وصار الشرك بإلزام البشر بالتحاكم إلى غير شريعة الله، وصار الشرك بتنصيب أشخاص في جهة أو لجنة أو مجلس، اتخذوا أنفسهم آلهة مع الله في التحليل والتحريم، وصار الشرك في اعتناق البعض المذاهب العلمانية والإلحادية والاشتراكية والقومية والوطنية وغيرها، ثم قبل ذلك كله وبعده، يزعمون أنهم مسلمون.
ومن أشراط الساعة: ظهور الفحش وقطيعة الرحم وسوء الجوار، روى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة)). فهذه ثلاثة أمور ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها من علامات الساعة، وكلها والله منتشرة بيننا.
لقد انتشر الفحش بين كثير من الناس، غير مبالين بالتحدث بما يرتكبون من معاصي، وهذا تفاحش والعياذ بالله، إن من المهانة والذلة والخسة وعدم المروءة أن يقع المرء في معصية أو خطأ أو جريمة أو فاحشة، وقد بات يستره الله، ثم يصبح ويكشف ستر الله عنه بأن يتحدث بين زملائه وأقرانه بما فعل، فإن حصل هذا – وهو حاصل – فاعلم إنها من أشراط الساعة.
أما قطيعة الأرحام، فالله المستعان وإلى الله المشتكى، وصلنا إلى مرحلة، أن القريب لا يصل قريبه، بل يحصل بينهم التقاطع والتدابر إلى درجة أن الشهور تلو الشهور تمر وهم في بلد واحد، وربما في حارة واحدة، فلا يتزاورون ولا يتواصلون، أليس هذا حاصل أيها الأحبة، لاشك أنه حاصل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على صلة الرحم وحذّر من قطيعتها وقال: ((إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال فذاك لك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اقرؤوا إن شئتم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) رواه مسلم.
أما عن سوء الجوار، فحدث عنه ولا حرج، فكم من جار لا يعرف جاره، ولا يتفقد أحواله ليمد له يد العون إن احتاج، بل ولا يكف شره عنه، يقول بعض الجيران، لا نريد من جيراننا خيراً، نريد أن يكفوا شرهم عنا.
نسأل الله جل وتعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يفقهنا في ديننا.
أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: تشبُّب المشيخة، روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون قوم يخضِبون في آخر الزمان بالسواد، كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة)). لقد انتشر بين الرجال في هذا العصر، صبغُ لحاهم، ورؤوسهم بالسواد، يريدون أن يتشببوا، والصبغ بالسواد حرام حرام يا عباد الله، لا يجوز أن يغير الرجل ولا المرأة، الشعر بالسواد، نعم التغيير سنة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتغيير لكن بغير السواد، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غيّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)).
وبهذا يعرف أن بعض المحلات التي تبيع صبغ الشعر الأسود، أنه حرام عليهم، ولا يجوز لهم بيعه، وهذه من البيوع المحرمة، ولا حجة بأن هذا طلبات الزبائن والناس تريد هذا، فانتبه يا صاحب المحل أن تخلط حلال مالك بحرام، فالربح الذي يأتيك من هذه السلعة، اتركها لله وسيعوضك الله خيراً منها.
أما حواصل الحمام، فالمراد به والله أعلم صنيع بعض الرجال في هذا العصر، من حلق العوارض، ويتركون اللحية على الذقن فقط، ثم يصبغونه بالسواد، فيغدو كحواصل الحمام.
أما قول النبي صلى الله عليه وسلم – ((لا يريحون رائحة الجنة)) – قال ابن الجوزي رحمه الله: (يحتمل أن يكون المعنى لا يريحون رائحة الجنة لفعل يصدر منهم، أو اعتقاد، لا لعلة الخضاب، ويكون الخضاب سيماهم، كما قال في الخوارج سيماهم التحليق، وإن كان تحليق الشعر ليس بحرام).
ومن أشراط الساعة أيضاً: كثرة الشح، والشح هو أشد البخل، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((من أشراط الساعة أن يظهر الشح)) رواه الطبراني في الأوسط، وروى البخاري عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشح)). وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزداد الأمر إلا شدة ولا يزداد الناس إلا شحاً)). إن الشح خلق مذموم، نهى عنه الإسلام، ويبن أن من وُقي شح نفسه فقد فاز وافلح، قال الله تعالى: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
عُرف بعض الناس بالكرم، والجود، والسخاء، وأنه رجل معطاء، لا يسمع بباب نفقة في خير إلا وله فيها سهم، فمرة ينفق على مسكين، ومرة يتصدق على فقير، ومرات يرسل لأرامل وأيتام، إذا سمع بجمعية خيرية كان أول المساهمين، وإذا سمع ببناء مسجد كان أول المبادرين، مثل هذا الإنسان يبشر بخير، فإن الله جل وتعالى يبارك له في ماله فكلما زاد في العطاء زاده الله، ((يا ابن آدم انفق ينفق الله عليك، ما من يوم يصبح الناس فيه إلا وملك ينزل من السماء يقول: اللهم أعط منفقاً خلفا، وأعط ممسكاً تلفا)). وهناك من أهل الخير ممن كانت لهم مشاركات طيبة، وبها عرفوا، والآن قلت مساهماتهم، وأمسكت أيديهم على جيوبهم فإذا ما سُألوا أجابوا: الأوضاع الاقتصادية الراهنة، كساد السوق، كثرة الالتزامات الرسمية وغير الرسمية، نقول لهم، هذا هو الاختبار للمؤمن الحقيقي، الذي ينفق وقت الشدة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة. إن الله جل وتعالى يغيّر من أحوال الزمان، من رخاء إلى شدة ومن شدة إلى رخاء، والمؤمن مبتلى، والصادق من لا ينقطع حتى في أوقات الشدة، ويعلم بأن هذا اختبار من الله له، ليضاعف له الأجر والمثوبة.
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم، واستحلوا محارمهم)) رواه مسلم.
(1/891)
أشراط الساعة الصغرى 5
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/4/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة التجارة وفشوها بين الناس حتى تشارك فيها النساء، وأثر ذلك على الرجال والنساء
2- ذهاب الصالحين وقلة الأخيار وكثرة الأشرار ومتى يكون ذلك وأثره على الناس
3- ارتفاع الأسافل من الناس على خيارهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
نواصل حديثنا معكم ايها الأحبة عن أشراط الساعة، ولا نزال في الصغرى منها، ذكرنا في الجمعة الماضية: تقارب الزمان، وظهور الشرك في هذه الأمة، وظهور الفحش، وقطيعة الرحم وسوء الجوار، وتشبب كبار السن، وكثرة الشح.
ثم هذه مجموعة أخرى من أشراط الساعة، فمنها: كثرة التجارة وفشوها بين الناس، حتى تشارك وتزاحم النساء فيها الرجال.
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تشارك المرأة زوجها في التجارة)). وروى النسائي عن عمرو بن تغلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من أشراط الساعة أن يفشو المال ويكثر، وتفشو التجارة)) وهذا أمر حاصل وظاهر لكل أحد، إن كثرة التجارة وانتشارها أمر لا بأس به، بل قد يكون مطلوباً، فهو يغني الإنسان عن سؤال الغير، لكن البأس، أن تؤدي التجارة ويؤدي هذا المال للإفتتان، ثم الطغيان، كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى وكذلك المرأة، الأصل أنه لا بأس من مشاركتها في التجارة، والدخول فيه، لكن البأس ما هو حاصل من واقعنا في هذا الزمان، التمرد، والاستغناء عن الزوج، بل والتسلط عليه، وصار المسكين موقفه ضعيفاً، فالمال بيدها، أضف إلى ذلك نقصان العقل والدين، فماذا تتوقع بعد ذلك، لا غرابة إذا سمعنا، بل أصبح هذا أمراً عادياً عند بعض الأسر، أن تسافر بعض النساء لوحدهن، ولا أتكلم هنا عن بعض الأسفار الداخلية، ولا عن ما ذكره الفقهاء في كتبهم من سفر المرأة مع مجموعة إلى الحج، بل أعني سفر عدد من النساء، وفي الغالب أخوات للسياحة والتنزه والإصطياف في الخارج، وهذا حاصل وواقع.. وصل قلة الحياء والإستهانة بأوامر الله وعدم الخجل حتى من الناس أن يقال ويعرف أن بنات فلان قضين شهراً من عطلة الصيف في أوربا، أو أمريكا، أو أحد بلدان الشام، بل وصار الناس يستقبلون مثل هذه الأخبار دون نكارة، ولا حرج، لو سألت وبحثت عن بعض أسباب ذلك، لوجدت أن وفرة المال، وكثرته في يد المرأة، قد يؤدي إلى مثل ذلك، بل وأشد من ذلك.. لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخشى على هذه الأمة الفقر، إنما يخشى عليها أن تبسط عليها الدنيا، فيكثر المال، وتفشو التجارة، فيقع بين الناس التنافس، الذي يؤدي إلى الهلاك، ففي الحديث أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) رواه البخاري ومسلم.. وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ قال عبدالرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك: تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون)). فالمنافسة على الدنيا، تجر إلى ضعف الدين، وهلاك الأمة، وتفريق الكلمة، كما وقع في الماضي، وكما هو واقع الآن.
تجد أخوين، خرجا من بطن واحد، ومن صلب رجل واحد، يحصل بينهم مشاكل ومنازعات وخصومات، بل ويصل الأمر إلى المحاكم، من أجل خلاف على مزرعة، أو أرض، أو كانا شريكين في تجارة، والله المستعان.
وتصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فشو التجارة، أصبحت ترى مدينة صغيرة، كالتي نحن فيها الآن، كان سوقها قبيل سنوات محصور في شارع واحد، والآن أصبحت المدينة كلها سوق، وتحولت معظمها إلى مجمعات تجارية، أضعاف أضعاف حاجة البلد، والعجيب أن التجار يشتكون من كساد السوق، وفي المقابل هناك ازدياد متضاعف على فتح محلات أخرى وجديدة، بمذا نفسر هذا؟ إن تفسيره أنه أحد علامات الساعة.
أيضاً ومن أشراط الساعة: ذهاب الصالحين، وقلة الأخيار، وكثرة الأشرار، حتى لا يبقى إلا شرار الناس، وهم الذين تقوم عليهم الساعة.. روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض – (شريطته أي أهل الخير والدين) – فيبقى فيها عجاجة – (وهم الأراذل الذين لا خير فيهم) – لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً)). معنى الحديث أن الله يأخذ أهل الخير والدين، ويبقى غوغاء الناس وأراذلهم ومن لا خير فيهم، وتأمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ربط القضية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وروى الإمام أحمد أيضاً بسند صحيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يأتي على الناس زمان، يُغربلون فيه غربلةً، يبقى منهم حثالة – (والحثالة الردئ من كل شيء) – قد مرِجت – (أي اختلطت) – عهودهم وأماناتهم واختلفوا، فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه)).
متى يكون ذهاب الصالحين؟ ومتى يقل الأخيار ويكثر الفجار؟ يكون ذهاب الصالحين، عند كثرة المعاصي، وعند ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث)).
والخبث والله قد كثر، وطفح على السطح، ولم يعد الخبث مستوراً، بل أصبح ظاهراً ويعلن عنه، دخل الخبث معظم البيوت، أصبحت ترى الخبث في شوارع المسلمين وأسواقهم، بل لقد تخلل الخبث إلى سلوكيات الأمة وأخلاقها، كان في الماضي يستحي الناس من ظهور وبروز شيء من خبثهم وفجورهم ومعاصيهم، أما اليوم وصل الأمر إلى المجاهرة بالخبث.
أصبح الرجل الصالح الذي لا يريد أن يتلوث بخبث المجتمع غريباً، بل حتى عوام الناس صاروا يطلقون عليه بقولهم – فلان ملتزم – إذا كان هو ملتزماً فأنت ماذا تكون؟ هذا اعتراف منك بأنك غير ملتزم، أي غير ملتزم بأوامر الله، غير ملتزم بأحكام الشرع، وهذه هي الإنتكاسة أيها الأحبة.
أرجع إلى الخبث، ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث)).
إن كثرة الخبث في المجتمع، سبب لذهاب النعم، وحلول النقم، الخبث سلاّب للنعم جلاّب للنقم، خبث الناس وفجورهم ومعاصيهم يسبب تسلط الخصوم، وتسيطر الأشرار والفجار، وارتفاع الأسعار، وشح الوظائف، وكثرة الجرائم وقلة الأمطار، وانتشار الأوبئة فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ما نزل بالأمة من ذل وهوان وآلام، وعقوبات ومحن وفتن إلا بسبب كثرة الخبث وقلة الصالحين، فحرمت الأمة من خيرهم وبركتهم ودعوتهم، وما يصيب الأمة في واقعها ما هي إلا نذر لكي يعودوا ويرجعوا ويكفوا من نشر الخبث وتقليص تمدد الصالحين. وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقال جل شأنه: فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. ولعلك تسألني وتقول ما هو الخبث؟ وماذا تعني بالخبث؟ فأقول لك إن الخبث صوره لا تعد ولا تحصى لكن خذ بعض النماذج:
إن من الخبث، إقامة الربا، وانتشار الفواحش، وكثرة الزنا ومن الخبث: إكرام الكفار والفجار، وإهانة الصالحين والأخيار، ونبذ أحكام شريعة الجبار، ومن الخبث: تضيع الصلوات ومنع الزكوات، واتباع الشهوات، وارتكاب المنكرات، ومعاداة أولياء من بيده الأرض والسماوات.
من الخبث: انتشار الغش والظلم، كثرة أكل الحرام، ارتفاع أصوات المعازف، تساهل الناس في سماع الغناء، عدم الإكتراث بمشاهدة التبرج والسفور.
من الخبث: فشو رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكع النساء في الأسواق، وكثرة مشاكل المغازلات والمعاكسات، هذه نماذج وغيرها أضعاف مضاعفة.. ولعله ثار في ذهنك، لماذا لم يذكر الخطيب خبث الإعلام وما يبثه من سموم، والخبث الموجود في التلفاز؟
الجواب: فإن هذا لا يكفيه إشارة عابرة، وإنما يحتاج إلى كلام مفصل، وسيكون بإذن الله تعالى، خصوصاً الخبث الأكبر، وشيطان الخبائث، ما يسمونه: الدش.
والمشكلة أن الناس نيام، والمجتمع غافلٌ لاه، لا يعلم بأن الخبث، يهدم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، وينقص المال، وترتفع الأسعار، وتغلو المعيشة، وتحل الهزائم الحربية والمعنوية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.
قال الله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون.
نسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته. وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أشراط الساعة أيضاً: ارتفاع الأسافل من الناس على خيارهم، واستئثارهم بالأمور دونهم، فيكون أمر الناس بيد سفهالهم وأراذلهم ومن لا خير فيهم، وهذا أيها الأحبة من انعكاس الحقائق وتغيّر الأحوال، وهذا أمر مشاهد جداً في هذا الزمان، فترى أن كثيراً من رؤوس الناس وأهل العقد والحل هم أقل الناس صلاحاً وعلماً، إلا من رحم الله مع أن الواجب أن يكون أهل الدين والتقى هم المقدمون على غيرهم في تولي أمور الناس، لأن أفضل الناس وأكرمهم هم أهل الدين والتقوى، قال تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يولي الولايات وأمر الناس إلا من هم أصلح الناس وأعلمهم، وكذلك خلفاؤه من بعده، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها ما رواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران: ((لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حَق أمين)) فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث أبا عبيدة.
اسمع أخي المسلم إلى هذه الأحاديث في أن من أشراط الساعة إرتفاع أسافل الناس، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنها ستأتي على الناس سنون خدّاعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)) وفي حديث جبريل الطويل قوله: ((ولكن سأحدثك عن أشراطها، إذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس، فذاك من أشراطها)) رواه مسلم.
وفي الصحيح: ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((من أشراط الساعة، أن يعلو التحوت الوعول، قال: أكذلك يا عبدالله بن مسعود سمعته من حِبي؟ قال: نعم ورب الكعبة، قلنا وما التحوت؟ قال: سفول الرجال، وأهل البيوت الغامضة يرفعون فوق صالحيهم، والوعول: أهل البيوت الصالحة)) رواه الطبراني في الأوسط.
وفي الصحيحين، عن حذيفة رضي الله عنه، فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبض الأمانة، قال: ((حتى يقال للرجل: ما أجلده ما أظرفه ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)).
وهذا هو الواقع بين المسلمين في هذا العصر، يقولون للرجل: ما أعقله، ما أحسن خلقه، ويصفونه بأبلغ الأوصاف الحسنة، ربما لم يوصف بها بعض الصحابة، وهو من أفسق الناس، وأقلهم ديناً وأمانة، بل قد يكون عدواً للإسلام والمسلمين، ويعمل على هدم الدين ليل نهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولا داعي لكي تتيقن أن إرتفاع أسافل الناس على خيارهم، وتقلد الأمور دونهم، أن تنظر إلى بعيد، لو نظرت إلى أقرب المؤسسات حولك أو الشركات، أو المصالح والمكاتب، لرأيت أنه يتولى أمر هذه المصلحة، أو ذلك المكتب، أو ذلك القسم أو الإدارة، أقلهم علماً وخبرة بل وشهادة، وربما لا يحمل شهادة، ولا يفقه شيء في العمل، وإذا نظرت إلى خلقه وسلوكياته، لرأيته أفسق من في الإدارة، أو المؤسسة، وأنزلهم خلقاً ومعاملة، بل ربما لو فتشت في أوراقه وملفاته، لوجدت عليه قضايا وطامات، سرقات، اختلاسات، ناهيك عن القضايا الأخلاقية، وربما لم يسلم من جره للهيئة عدة مرات. فلو سألت، كيف تقلد هذا هذا المنصب، وكيف ارتفع هذا التحوت، لجاءك الجواب، بأنه هذا هو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون من أشراط الساعة.
(1/892)
أشراط الساعة الصغرى 6
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/4/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظهور الكاسيات العاريات، ومعناه وصور من ذلك
2- صدق رؤيا المؤمن والحكمة من ذلك
3- كثرة الكذب وبعض صوره
كثرة النساء وقلة الرجال وسبب ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم هذه مجموعة أخرى من أشراط الساعة الصغرى، استكمالاً لما سبق.
ظهور الكاسيات العاريات: والمراد بهذا خروج النساء عن الآداب الشرعية، وذلك بلبس الثياب التي لا تستر عوراتهن، وإظهارهن للزينة وما يجب عليهن ستره، من أبدانهن. روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون في آخر أمتي رجالٌ يركبون سروج كأشباه الرجال ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات، على رؤوسهم كأسنمة البخت العجاف، إلعنوهن فإنهن ملعونات)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من أشراط الساعة، أن تظهر ثيابٌ يلبسها نساءٌ كاسيات عاريات).
إن هذه الأحاديث وأمثالها يعد من معجزات النبوة، فإنه لم ير عليه الصلاة والسلام ما أخبر به، ولكنه وقع كما أخبر، وذكر بأن هذا من أشراط وعلامات الساعة: من ذلك ظهور الكاسيات العاريات.
تخرج النساء كما نشاهد في عصرنا هذا، يلبسن ثياب، لكنه لا يستر، الستر مطلوب شرعاً، فتكون المرأة كأنها عارية، إما لرِقة هذه الثياب وشفافيتها، وإما لقصره بحيث أنها لا تؤدي وظيفة الستر المطلوبة، وإما لأنها ثياب ضيقة، تُظهر تفاصيل جسمها، فتبرز صدرها، وعجيزتها، فتكون كأنها عارية، وكل هذا واقع ومشاهد.
إن المجتمع قفز قفزات سريعة في وقت قصير من الزمن، وصار هناك تحول ملحوظ في ملابس النساء عندنا، وشياطين مصممي الأزياء عرفوا من أين تؤكل الكتف.
إن الحديث عن الملاحظات الشرعية على ما تلبسه نساءنا، حديث قد يطول، وليس هذا مجال تفصيله، ولكن سأنبه إلى ظاهرتين، انتشرتا انتشاراً سريعاً وملحوظاً في الآونة الأخيرة، وكلا الظاهرتين، أفتى عدد من علمائنا بحرمتها فعليك أيها الأب أو الزوج، أو ولي الأمر، بعد هذا أن تتبع ما أقوله في أهل بيتك، فإن كان حاصلاً يكون المنع والتنبيه لكي لا تقع أنت أيضاً في الإثم، وتشارك في المحرم لرضاك بهذا، بل ربما يكون الإثم الأعظم عليك لأنك ولي الأمر وبإمكانك المنع، أما المرأة، فهي ناقصة عقل ودين.
الظاهرة الأولى: وضع العباءة على الكتف. وتظن المرأة أنها قد سترت نفسها بهذه الطريقة، وهي قد سترت بعض الستر، لكن ليس هذا ما أمرها الله به، إن العباءة إذا وضعت على الكتف، وقعت المرأة أولاً في محذور التشبه بالرجال، لأن وضع العباءة على الكتف من خصائص الرجال، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، وتقع أيضاً في المحذور الثاني وهو إبراز الجسد وهيئته وحجمه، وهو حرام أيضاً ولا يجوز، فعلى المرأة، أن تضع عباءتها على رأسها، لينزل إلى قدميها وتكون بذلك قد سترت نفسها كما أمر الله.
الظاهرة الثانية: لبس النساء للبنطال. وهذه الظاهرة انتشرت في مجتمعنا مؤخراً انتشار النار في الهشيم، وهي ظاهرة غربية جاءتنا من ديار الكفر، لا تتناسب مع عاداتنا ولا أعرافنا، ولا يناسب هذا مجتمعنا، كيف رضيت به المرأة؟ لا أدري. بل كيف رضي الأب أن تخرج بناته وهن لابسات للبنطال، وكيف رضي الزوج أن تخرج زوجته؟ لا أدري؟ حجتهم أنها ساترة لنفسها بالعباءة، وهذه حجة ضعيفة، فالعباءة قد يحركها الهواء، وكثرة الحركة، وقد تقع المرأة، أقول وإن لم يحصل هذا فإن ظهورها أمام النساء بهذا الشكل فيه محذور شرعي، وهي تجسيد عورتها وإبرازه، فتكون من النساء الكاسيات العاريات اللاتي لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها. فلبسه حرام ولا يجوز، فتنبه أيها الأب، وأنت أيها الزوج.
ومن أشراط الساعة أيضاً: صدق رؤيا المؤمن. فكلما اقترب الزمان، وكلما قربت الساعة كثرت هذه العلامة، وهي أن المؤمن يرى الرؤية في المنام، فتقع الرؤيا في الواقع كما رآها، وكلما كان المرء صادقاً في إيمانه، كانت رؤياه صادقة، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا، أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزء من النبوة)).
لعلك تسأل: ما الحكمة أنه كلما اقترب الزمان صدقت رؤيا المؤمن؟ ولماذا كانت من علامات الساعة صدق رؤيا المؤمن؟
الجواب والعلم عند الله تعالى: أنه كلما اقترب الزمان، زادت غربة الإسلام كما في حديث مسلم – ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)) – إذا زادت غربة الإسلام، قبض أكثر العلم، ودرست معالم الشريعة، وازداد الفتن، وأصبح الناس على مثل الفترة، ويقل عندها أنيس المؤمن ومعينه، فالناس عندها يكونون محتاجون إلى مجدد، ومذكر، لما دَرَس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء، لكن لما كان نبينا آخر الأنبياء وتعذّرت النبوة في هذه الأمة، فإنهم يعوضون بالرؤيا الصادقة، التي هي جزء من خمس وأربعين جزء من النبوة.
وإذا ازدادت غربة الإسلام، وذلك بقلة عدد الأخيار الصالحين، وكثرة عدد الفسقة الموجودين، وأصبح الغلبة لملة الكفر، وأصبحت الترأس لأهل الجهل والفسق، وعندها يشعر المؤمن فعلاً بالغربة، فيقل المعين، وينعدم الأنيس، ويزداد الوحشة، ويأخذ أمر الدين بالاضمحلال، عندها، تأتي هذه العلامة رحمة من الله تعالى، وأنساً للمؤمن، وإكراماً له، وتسلية لقلبه، فتكون رؤياه صادقة، نسأل الله جل وتعالى الإعانة.
ومن أشراط الساعة أيضاً وعلاماتها الصغرى: كثرة الكذب، وعدم التثبت في نقل الأخبار، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)) رواه مسلم. وفي رواية: ((يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم، لا يضلونكم ولا يفتنونكم)).
لا نكون مبالغين أيها الأحبة، إذا قلنا بأن الكذب أصبح من سمات هذا العصر، صار الكذب على جميع المستويات، الخاصة والعامة، الرسمية وغير الرسمية، الصغير والكبير، أصبح الناس لا يثقون بشيء خذ بعض الأمثلة في صحافتهم لعلمهم بأنه قد دخله عنصر الكذب، لمصلحة فلان أو فلان، ومع كل أسف إن شعوب العالم الإسلامي صارت تثق وتأخذ أخبارها من الغرب الكافر، ولا تثق بإعلامها من أجل دقة الأخبار والتثبت والمصداقية عندهم، وأصبح الناس لا يثقون بتصريحات مدرائهم، حتى على مستوى العمل والوظيفة، لدخول عنصر الكذب والنفاق فيه.
والأخطر من هذا كله إذا دخل عنصر الكذب في البيت، كأن يصدر من أب ويعرف الابن، أو يدخل المدرسة، فيصدر من مدرس ويكتشف الطالب، عندها قل على التربية السلام.
ومما يؤسف له، أنك أصبحت تشم رائحة الكذب على بعض الفئات العاملة للإسلام، ويُدخل تحت باب التورية، من أجل مصلحة الدعوة، وهو في الحقيقة كذب.
إنك تستطيع أن تتعامل في دائرة السوق، أو في دائرة العمل، أو غيرهما من قطاعات الحياة، تستطيع أن تتعامل مع فاسق، أو مع شارب خمر، أو مع آكل ربا، لكنك لا تستطيع أن تتعامل مع كذّاب.
اسمع لهذا الحديث الصحيح عند مسلم، عن عامر بن عبدة قال: قال عبدالله بن مسعود: ((إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم، فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدِّث)).
نسأل الله تعالى العفو والعافية، والستر في الدنيا والآخرة.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه... أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أشراط الساعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم: كثرة النساء وقلة الرجال، عن أنس رضي الله عنه قال لأحدثنكم حديثاً لا يحدثكم أحدٌ بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيّم الواحدُ)).
إن الله جل وتعالى يقدّر في آخر الزمان أن يقل من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث، ويقدر جل وتعالى أيضاً حصول الفتن، التي تكون سبباً في القتال، فيذهب بسببه كثير من الرجال قتلى، وتبقى النساء، وهذا كما هو معروف شأن الحروب والمعارك.. جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: ((ويُرى الرجل يتبعه أربعون امرأة يَلُذْن به)).
أيها المسلمون: إن مجتمعنا الذي نعيش فيه، مع أنه ولله الحمد لم يُبتلَ بالحروب والمعارك، ومع ذلك فإن ظاهرة العنوسة ظاهرة واضحة في كثير من البيوتات والأسر، بنات جاوزن سن الزواج ولم يقدر المولى لهن زوجاً يناسبها، وبهذا يظهر حكمة التشريع الإسلامي الذي يحث على التعدد، فالشريعة الإسلامية أباحت للرجل أن يتزوج بأكثر من زوجة حفظاً للمجتمع، وقضاءً على هذه الظاهرة، وإلا فمن لهؤلاء العوانس، غداً يموت أبوها وتموت أمها، وتبقى ذليلة عند أخ لا يحترمها، أو ولي لا يقدّر قدرها. فكونها تحصل على نصف رجل، أو ثلث رجل، خيراً لها أن تعيش طول عمرها بلا رجل، فربما رزقها الله أولاداً تأنس بهم، ويكون لها بيتاً تستقر فيه هذا مع نصف رجل، خير لها أن تعيش طول حياتها لوحدها، وقبل هذا كله، وقبل ذكر هذه المحاسن في التعدد، يكفي أنه تشريع من الله، والله جل وعز هو الذي خلقنا، وهو سبحانه يعلم ما يُصلح أحوالنا وما يفسدها، فلا يحرم الله شيئاً إلا وفيه مضرة، ولا يبيح شيئاً إلا وفيه المنفعة، لكن المشكلة، هذه القناعات عند الناس اليوم، بأن الزواج الثاني يجلب المشاكل، وأن التعدد ظلم للمرأة، ولو فتشنا من أين جاءت هذه الآراء، وكيف صار الناس يعتقدون ويظنون هذا الظن، لوجدت أن الناس أقنعهم بذلك الإعلام، هذه الأفلام التي تعرض على الناس، وهذه المسلسلات التي يشاهدها الناس، تعرض الزواج الثاني بأنه يفرق الأولاد ويظلم المرأة ويجلب المشاكل، مسلسل بعد آخر، وفيلم بعد آخر، يتأثر الناس وتتغير قناعتهم، ولو بحثت خلف الستار، من هم القائمون على هذه الأفلام ومن المنتجون لهذه المسلسلات، هل هم أناس مخلصون، همهم حماية الشعوب المسلمة، ونشر الفضيلة، أم أن القائمين عليها مجرمون، بل ولهم علاقات مشبوهة بمنظمات سرية، ولقد كشف الزمان أوراق عدد من كبار الممثلين – زعموا – ومن أبطال الشاشة، ومن ممثلات قديرات، كما يعبرون، اتضح أنهم أعضاء في منظمات ماسونية، يعملون ليل نهار ويخططون لهدم الدين، فيصورون أحكام الشرع وأوامر الله أنها ظلم ومشاكل، ومع الأسف، نحن مغفلون نصدق ونتأثر بكل ما يبث وينشر.
فهل نرتقي بعقولنا قليلاً.. وهل من تأمل وتبصر.
نغيّر قناعتنا حول أحكام شرعها الله جل جلاله بسبب فيلم أو مسلسل، ونقتنع بأن التعدد خطأ، ثم بعدها لتنتشر الرذيلة والفاحشة في البلد بسبب كثرة العوانس، والمطلقات، ومن مات أزواجهن.
(1/893)
أشراط الساعة الصغرى 7
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/4/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة موت الفجأة بين الناس ومعناه
2- أن تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً، ومعنى ذلك
3- تمني الموت بسبب شدة البلاء وبيان ذلك
4- خروج رجل من قحطان يحكم الناس بالعدل وهو رجل صالح
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ثم هذه مجموعة أخرى من أشراط الساعة الصغرى، استكمالاً لما سبق.
فمنها ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكثر موت الفجأة بين الناس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أمارات الساعة – وذكر منها – أن يظهر موت الفجأة)) رواه الطبراني في الصغير.. وهذا أمر مشاهد في هذا الزمن، حيث كثر في الناس موت الفجأة. لقد كان في الماضي يشعر الرجل ويحس بمقدمات الموت، ويبقى لأيام مريضاً، يعرف أن هذا مرض الموت، فيكتب وصيته، ويودع أهله، ويوصي أولاده، بل ويقبل على ربه، ويتوب مما سلف منه، ويبدأ في ترديد الشهادة، ليُختم له بها. أما الآن، فترى الرجل صحيحاً معافى، لا يشتكي من شيء البتة، ثم تسمع خبر وفاته فجأة، وهذا ما يسمى في الوقت الحاضر بالسكتة القلبية. ومثله الحوادث المفاجأة، التي يهلك بها الناس فجأة، فإذا كان الأمر كذلك، فعلى العاقل أن يتنبه لنفسه، ويرجع ويتوب إلى ربه، لتكن مستعداً أخي الحبيب لموت الفجأة، فربما لا تكمل سماع هذه الخطبة، وكم من رجل كبّر تكبيرة الإحرام، ولم يُسلم منها. ولهذا كان الإمام البخاري رحمه الله يقول:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغتة
كم من صحيح رأيتُ من غير سقيم ذهبت نفسه الصحيحة فلته
قال ابن حجر رحمه الله: وكان من العجائب أن البخاري نفسه رحمه الله وقع له ذلك أو قريباً منه.
ومن أشراط الساعة أيضاً: أن تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)).
إن أرض العرب أرض قاحلة كما هو معروف، شحيحة المياه، قليلة النبات، غالب مياهها من الآبار والأمطار، فمن علامات الساعة أن تنقلب هذه الأرض ويكثر فيها المياه، حتى تكون أنهاراً، فتنبت بها النباتات، فتكون مروجاً وحدائق وغابات، ونحن نشاهد في وقتنا هذا أن عيوناً كثيرة تفجرت كالأنهار، وقامت عليها زراعات كثيرة، ولعل من أعجب ذلك هذا الحديث الصحيح في صحيح مسلم عن منطقة تبوك، والتي بدأنا نشاهد شيئاً من خيرات أرضها، ما لم تكن من قبل.
فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك: ((إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يُضْحِي النهار – أي أنكم ستصلون إليها وقت الضحى – فمن جاء منكم، فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي، يقول معاذ: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبغىُّ بشيء من ماء – أي تسيل بماء قليل – قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مسستما من مائها شيئاً؟ قالا نعم. فسَّبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهما: ما شاء الله أن يقول قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً، حتى اجتمع في شيء، قال ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر، أو قال غزير، حتى استقى الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا، قد ملئ جناناً)). وها نحن نرى الآن أرض تبوك قد ملئت جناناً.
ومن أشراط الساعة أيضاً: تمني الموت من شدة البلاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه)) رواه البخاري.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدِّين إلا البلاء)) رواه مسلم.
وتمني الموت يكون عند كثرة الفتن وتغيّر الأحوال وتبديل رسوم الشريعة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: سيأتي عليكم زمان لو وَجَد أحدكم الموت يُباع لاشتراه. وكما قيل:
وهذا العيش مالا خير فيه ألا موتٌ يباع فأشتريه
والأمر كما قال الحافظ العراقي رحمه الله: إن هذه الحالة، لا يلزم كونه في كل بلد ولا في كل زمن، ولا في جميع الناس، بل يصدق اتفاقه للبعض في بعض الأقطار في بعض الأزمان.
فنحن ولله الحمد نعيش في عافية، أسأل الله جل وعز، أن نبقى في عافية، وأن يجنبنا الفتن، وإلا فالأيام حبلى، فإن هذا العصر الذي نحن فيه الآن، في الوقت الذي نعيش فيه نحن بأمان، فإن غيرنا من المسلمين، وفي بلاد كثيرة، يمرون بأحوال، فعلاً يتمنى الواحد منهم الموت من شدة البلاء.
لقد مرت أيام وما تزال سمعنا أخبارهم على المسلمين في لبنان وفلسطين، ومسلمي العراق من الأكراد وغيرهم، ناهيك عن مسلمي البوسنة أو الشيشان أو غيرها. مرت أحوال على ضعاف المسلمين هناك يتمنى الواحد أن يكون في بطن الأرض، ولا يرى ويعيش ما يحصل له على ظهرها.
تخيل يا أخي أنت: أنهم دخلوا عليك في بيتك وأنت جالس أو نائم مع أهلك وأولادك ثم أمسكوا بأبوك الشيخ الكبير، وذبحوه أمامك ذبح الشاة، وأمسكوا بأمك العجوز وبقروا بطنها وأنت تنظر، ثم انتزعوا منك زوجتك، وانتهكوا عرضها، وفعلوا فيها الفاحشة أمام عينيك، أما أولادك الصغار، فيأخذ الواحد تلو الآخر، ويغمس في بركة حتى يموت غرقاً وأنت تشاهد، أليس الموت خير لك من هذا، ألا تتمنى الموت قبل أن تعيش هذه الحالة، أسأل الله تعالى أن لا نرى مثل هذه الأحوال.
إذن فاعلم يا أخي، بأن لك إخواناً مستضعفين في بلدان كثيرة في العالم الإسلامي وغيره، يعيشون في مثل هذه الحالات وأشد، وتمر بهم أحوال أصعب من هذا، مذابح وحشية يمارس مع المسلمين، القتل بأقسى صوره وأشكاله.. تأتي أخبار من طاجاكستان وغيرها أنه يؤتى بأعداد من المسلمين، ثم يؤخذ الواحد تلو الآخر، ويمرر على منشار كهربائي، تخيل ينتظر دوره في الطابور، وهو يرى أمام عينيه القتل بهذه الصورة، يقطع بالمنشار.
ويؤخذ الأطفال والأولاد، ويوضعون في أنابيب، ثم يغلق طرفي الأنبوب لساعات حتى يموت الطفل.. ألا يكفي في قتل هؤلاء أن يقتلوا مباشرة بالرصاص، أو بالقنابل والرشاشات إبادة جماعية. بلى يكفي.
لكن هؤلاء النصارى يتلذذون في قتل المسلمين بأبشع الصور. وما ذكرت فقط نماذج سريعة، وإلا ما يُرى ويُسمع أشد من هذا. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ونحن هنا منشغلون في متابعة الدوري، وجولات المصارعة الحرة، ورجالنا ولا أقول الشباب أو النساء، بل الرجال ما يزال أحدهم يغني ويرقص وكأن الأمر لا يعنيه. هل تظنون أن الله لا يسألنا، ولا يحاسبنا عن هذا التقصير والإهمال تجاه المسلمين، أم أن الله لا يحاسبنا عن حياة الغفلة واللهو والعبث التي نعيشها، والله الذي لا إله إلا هو سيسأل كل واحد منا، بنفسه عن واقعه، وعن أحوال أمته، فماذا أنت مجيب؟ وقد نعاقب نحن عقوبة دنيوية عاجلة، ونبتلى بمثل ما ابتُلي به غيرنا نتيجة تقصيرنا وغفلتنا عنهم، والحال كما تعرفون من أنفسكم، والله لا نحسن حتى الهرب، لا نعرف كيف نهرب، كما حصل في أزمة الخليج قبل سنوات، فضلاً عن المواجهة والبذل والصبر.
والله جل وتعالى لا يحابي أحدا، لأنك من قبيلة كذا، أو لأن نسبك إلى فلان أو فلان. المخالفة الربانية، وعصيان أمر الله، يوجب العقوبة، إما في الدنيا أو في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة.
فلنتقي الله أيها المسلمون، ولننتبه، كفانا غفلة وكفانا عدم مبالاة، فالأمر جد خطير، ولنبدأ ببعض الخطوات العملية، وكل بإمكانه أن يقدم لأمته.. خذ هذا المثال، لماذا لا تقتطع شيئاً يسيراً من مرتبك ودخلك تجعلها لله، لنكبات المسلمين هنا أو هناك، ولكي نكون عمليين، لا نريد ألف ريال شهرياً، ولا ألفين، هل تعجز عن عشرين ريال شهرياً، في الشهر نريد منك فقط عشرين ريال لا تزيد، فقط نريده شهرياً، تواصل هذا المشرع معنا، البعض يتحمس بسماع خطبة أو محاضرة، ثم يتصدق ويتبرع بألوف ثم ينام بعدها عشر سنين لا نريد صدقات العواطف، وتبرعات الفلتات العارضة، نريد عشرين ريال شهرياً إلى أن تموت، لو حسبنا فقط أهل هذا الحي، والبيوتات الموجودة والتزم كل مكلف بذلك، كم سنجمع شهرياً، أنا متأكد أنها تزيد على العشرة آلاف، أليس هذا المبلغ بإمكاننا أن نفك به عوز أسر فقيرة وأرامل في نفس حينا هذا، ونستر عليهم، لئلا يذلوا أنفسهم لغيرهم، وهكذا لو تحركنا بمثل هذه المشاريع البسيطة السهلة، والتي لا تكلفنا كثيراً، لقدمنا كثيراً لأمتنا، وهذه فقط فكرة خطرت بالبال، وأنا متأكد بأن العقلاء والأذكياء أمثالكم، لو فكروا، لخرجوا بعشرات الأفكار المناسبة.
نسأل الله جل وتعالى أن يلهمنا رشدنا...
أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ضمن أشراط الساعة، أنه في آخر الزمان يخرج رجل من قحطان، يحكم الناس بالعدل، وهو رجل صالح، تدين له الناس بالطاعة، وتجتمع عليه، ويكون ذلك عند تغيّر الزمان، ولهذا ذكر البخاري رحمه الله حديث القحطاني في باب تغير الزمان.
والقحطاني ليس هو المهدي الذي سيخرج أيضاً في آخر الزمان، فإن خروج المهدي يكون من علامات الساعة الكبرى، وسيكون خروجه بعد القحطاني بزمن، وليس القحطاني هو الجهجاه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيحكم أيضاً ويكون له الملك في آخر الزمان، لأن الجهجاه رجل من الموالي، أما القحطاني فهو من الأحرار نسبة إلى قحطان الذي تنتهي أنساب أهل اليمن من حمير وهمدان وغيرهم إليه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)) رواه البخاري ومسلم. ومعنى يسوق الناس بعصاه: كناية عن استقامة الناس، وانعقادهم إليه، واتفاقهم عليه، وفيه إشارة أيضاً إلى القسوة على أهل المعصية، لأنه رجل صالح، يحكم بالعدل، ولا يرضى بانتشار المعاصي والمنكرات تحت ولايته.
ولمّا حدّث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بهذا الحديث غضب معاوية رضي الله عنه، فقام وتكلم وقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن هذا الأمر – أي الحكم – في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين)).
ومعاوية رضي الله عنه لم ينكر حديث خروج القحطاني، ولكنه كان يريد رضي الله عنه التأكيد على أن الخلافة لا تجوز في غير قريش، لكن بشرط، كما في حديث معاوية – ما أقاموا الدين – والحديث في البخاري فإذا لم يقيموا الدين، خرج الأمر من أيديهم، وقد حصل هذا، فإن الناس لم يزالوا في طاعة قريش إلى أن ضعف تمسكهم بالدين فضعف أمرهم، وتلاشى ملكهم، وانتقل الحكم إلى غيرهم.
وهذه سنة ربانية ماضية إلى يوم القيامة فكلما بدّل الناس، بُدّل عليهم.
(1/894)
أشراط الساعة الصغرى 8
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/4/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
كثرة الروم – النصارى – وقتالهم للمسلمين وبيان ذلك وكيف بدأت المعركة مع الروم وأنها
تستمر إلى قبيل خروج الدجال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
واستكمالاً لموضوعنا عن أشراط الساعة، وما نزال في سرد الصغرى منها، فهذه مجموعة أخرى: من علامات الساعة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان كثرة الروم – وهم النصارى – وقتالهم للمسلمين، روى مسلم في صحيحه حديث عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)). وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعدد ستاً بين يدي الساعة – فذكر منها – ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر – وبنو الأصفر هم الروم النصارى – فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية – أي راية – تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)).
وهذا يعني بأن عدد النصارى في هذه المعركة يقارب المليون لأنهم سيأتون تحت 80 راية وتحت كل راية اثنا عشر ألفاً.. وهذا القتال يقع في الشام في آخر الزمان، قبل ظهور الدجال، كما دلت على ذلك الأحاديث ويكون انتصار المسلمين على الروم تهيئة لفتح القسطنطينية، والتي هي فتحها أيضاً من أشراط الساعة.. فعن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفظت منه أربع كلمات أعدُّهن في يدي، قال: ((تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله، قال: فقال نافع: يا جابر لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم)) رواه مسلم. وجاء تحديد أرض المعركة مع النصارى أنها في الشام في حديث أبي الدرداء في سنن أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن فسطاط المسلمين يوم الملحمة في أرض بالغوطة في مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام)).
قال ابن المنيّر رحمه الله – وهو الحافظ زين الدين عبداللطيف من أعيان القرن التاسع الهجري – قال: أما قصة الروم – يقصد المعركة الكبرى بين المسلمين والنصارى – فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر في هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دّل على أن العاقبة للمؤمنين، مع كثرة ذلك الجيش، وفيه بشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون أضعاف ما هو عليه.
أيها المسلمون.. إن صراع المسلمين مع النصارى صراع قديم بدأ هذا الصراع مع غزوة مؤته، وكان هذا أول التقاء للمسلمين مع النصرانية، في جماد الأولى سنة ثمان من الهجرة، وانتهت المعركة الذي كان عدد المسلمين فيه ثلاثة آلاف وعدد النصارى مائة ألف، انتهت بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة، لكن قذف الله الرعب في قلوب النصارى، وبدأ الخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب وقبل هذه الغزوة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام، فكان من جملة ما بعث رسالة إلى قيصر ملك الروم – وهم النصارى في ذلك الوقت ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)).
إن هذا الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم للنصارى يمثل الإعلان الدائم والمستمر على أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى، لأن الشرط الذي في هذا الكتاب هو قبول الإسلام، والخروج من النصرانية، بل والتخلي عن الزعامة، ونحن نشاهد أن زعامة العالم اليوم في أيديهم، أما نحن المسلمون فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب، والسعي لتنفيذه وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.
أيها المسلمون: ينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون هو ديمومة الصراع مع النصارى، وإنه سيستمر إلى نهاية العالم، وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بطريق غير مباشر حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، والأصرح منه قول الله تبارك وتعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
إذن صراع الإسلام مع النصرانية، سيستمر إلى قيام الساعة، وهو فتنة ابتلى الله بها المسلمون، وهذا قدرهم وما عليهم إلا الصبر وحتمية المواجهة، وسيكون هذا الصراع بين مد وجزر، تنتهي بالمعركة الفاصلة، وبالملحمة الكبرى التي يحشد لها النصارى قرابة مليون شخص تنتهي بالهزيمة النهائية حيث لا يقف الجيش الإسلامي إلا بعد أن يفتح روما العاصمة الروحية للنصرانية، وعند هذا الفتح تنتهي معركة الروم، ويتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتم فتح الروم، ويتبع ذلك مباشرة المعارك مع الدجال الذي ينتهي الأمر بقتله، وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها ويقرب العالم من نهايته، ويتحقق وعد الله بتبديل الأرض غير الأرض، ويعود الخلق جميعهم إلى موجدهم لنبدأ بعد ذلك الحياة السرمدية الأخروية.
روى الحاكم في المستدرك والإمام أحمد في مسنده، انتبه لهذا الحديث العظيم، واللفظ للحاكم، عن خالد بن معدان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تصالحون الروم صلحاً آمناً حتى تغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم فتَسلَمون وتفتحون وتنصرون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيقول قائل من الروم: غلب الصليب، ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب، فيتداولونها بينهم، فيثور المسلم إلى صليبهم وهم منهم غير بعيد، فيرميه، ويثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه، فيكرم الله عز وجل تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فيقول الروم لصاحب الروم: كفيناك حد العرب، فيغدرون فيجتمعون للملحمة فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)). وفي رواية أخرى للحاكم: ((ستصالحكم الروم صلحاً آمناً ثم تغزون أنتم وهم عدواً فتنصرون وتسلمون وتفتحون ثم تنصرفون بمرج فيرفع لهم رجل من النصرانية الصليب فيغضب رجل من المسلمين، فيقوم إليهم فيدق الصليب، فعند ذلك تغضب الروم، فيجتمعون للملحمة)).
في هذا الحديث العظيم يتضح بعض الحقائق، التي تبين مستقبل الصراع مع النصارى:
الأول: أن هذه الهيمنة من قبل النصارى اليوم على العالم ستزول، وأن هذه القوة المادية وهذه التقنية لن تستمر حتى نهاية العالم. قال الله تعالى: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. إذن فهذه العقلية التي يعيشها الغرب اليوم، ويرون أنهم قادرون على فعل كل شيء، وهذا التباهي بالقوة العقلية والمادية والعسكرية والتقنية، ستزول بقوة الواحد الأحد.
ثانياً: يشير الحديث إلى خفض الهيمنة العالمية المعاصرة للنصارى، وفك ارتباط الحكومات العربية المعاصرة مع العدو الصليبي اليهودي، وابتعاد النفوذ الصليبي عن المنطقة مما يتيح للمسلمين تسلم زمام الأمور وتكوين دولة إسلامية تمثل قوة جديدة في العالم، يلتجئ إليها النصارى، ويطلبون الصلح للحصول على مساعدة لمحاربة عدوها الذي سينزل بها الدمار.
ثالثاً: إن هذا الصلح الذي سيتم مع النصارى في آخر الزمان يتم بناءً على رغبة من النصارى، فهم الذين يطلبون الصلح بقصد الاستعانة بالمسلمين، وهذا يؤكد أنه سيكون للمسلمين دولة قوية، وهو مؤشر إلى أنه قبل الملحمة ستقوم للمسلمين دولة قوية، يخشاها النصارى، ولمعرفتهم بقوة المسلمين يحشدون لهم ما يقارب من مليون شخص – ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألف –.
رابعاً: يفهم من هذا الحديث أن الفكر العلماني المعاصر التي تتبناه الدول النصرانية، سوف يحل محله الفكر الديني الصليبي، وأن الدول النصرانية ستعود إلى دينها، بعد أن قضت ردحاً من الزمن وهي غارقة في شهواتها وعلمنتها، وأن الدين سيكون هو المحرك لهذه الدول، وهذا يؤخذ من الحديث من قيام رجل منهم برفع الصليب بقصد إظهار القوة النصرانية، فيغضب المسلمون لذلك، فيعمدون إلى الصليب فيكسرونه مما يثير غضب النصارى، فيقومون بقتل الجيش الذي كان معهم، وبهذا ينقضون الصلح مع الدولة الإسلامية.
خامساً: إن هذا الحديث وأمثاله من علم الغيب الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن أمة تؤمن بالغيب ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
فانطلاقاً من إيماننا بالغيب، وثقة بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فنحن على موعد مع الروم وسيتحقق كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى، وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية – روما –، وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويكون الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع الروم، وسيكسر الصليب فوق رؤوس أصحابها، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين.
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق – ودابق قرية قرب حلب – فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً، فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فيتنزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكنه يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته)).
اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين...
أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أشرنا في ثنايا الخطبة الأولى إلى أن من أشراط وعلامات الساعة أيضاً أن يفتح المسلمون القسطنطينية، وسيكون هذا قبل خروج الدجال، وبعد قتال الروم في الملحمة الكبرى، وانتصار المسلمين عليهم، فعندئذٍ يتوجهون إلى مدينة القسطنطينية، فيفتحها الله للمسلمين بدون قتال، وسلاحهم التكبير والتهليل.
والقسطنطينية فتحت أيام الترك، ولكن بقتال ثم رجعت في أيدي الكفار العلمانيين، وستفتح فتحاً أخيراً بخبر من الصادق المصدوق وبدون قتال.
وفتح الترك لها كان تمهيداً للفتح الأعظم. ففي صحيح مسلم حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا نعم يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها – قال ثور الديلي أحد رواة الحديث – لا أعلمه إلا قال – الذي في البحر، ثم يقولوا الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولوا لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا، فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذ جاءهم الصريخ، فقال إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون)).
والقسطنطينية هي المعروفة الآن بِ اسطنبول من مدن تركيا. إن القسطنطينية لم تفتح في عصر الصحابة، فإن معاوية رضي الله عنه، بعث إليها ابنه يزيد في جيش فيهم أبو أيوب الأنصاري ولم يتم لهم فتحها، ثم حاصرها بعد ذلك مسلمة بن عبدالملك، ولم تفتح أيضاً، ولكنه صالح أهلها على بناء مسجد بها، ثم فتحت أيام الترك بقتال، لكنها رجعت تحت حكم الكفار العلمانيين، وها نحن ننتظر الفتح الأعظم لها، بإذن الله عز وجل، وسيسبق ذلك أمور وأحوال، منها عودة ورجوع المسلمين إلى دينهم الذي أعرضوا عنه.
نسأل الله جل وتعالى فرجاً عاجلاً غير آجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/895)
أشراط الساعة الكبرى 1
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/3/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد الكلام عن أشراط الساعة
2- ظهور مهدي أهل السنة وكيف يكون ذلك ، وذكر نسبه وأنه بخلاف المهدي الذي تزعمه
الرافضة
3- الدجال وحال المسلمين عند ظهوره وشيء من أخبار فتنته وأوصافه
4- كيف يعتصم المسلم من الدجال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
كان لنا حديث قبل سنة عن أشراط الساعة الصغرى، وقد استغرق الحديث ثمان خطب، وقد وعدنا باستكمال الموضوع عن أشراط الساعة الكبرى، وها قد حان وقتها.
أيها المسلمون: إن الحديث في مثل هذه المواضيع الذي قد يكون معروفاً عند البعض أو مكرراً، له عدة فوائد:
أولاً: أن الحديث عن قضايا الغيب وما سيكون في آخر الزمان مما يزيد الايمان وإن كان معروفاً.
ثانياً: ليس بصحيح أن كل ما يقال معروف، فقد يعرف بعضنا مثلاً أن الدخان من أشراط الساعة الكبرى، لكن بعض تفاصيلها قد يجهله.
ثالثاً: ليس الهدف من طرح هذا الموضوع هو السرد فقط، لكن الأهم منه زيادة الايمان والتوحيد، والاستعداد لهذه الأحوال، والأهم ربط هذه المسائل وهذه القضايا بواقعنا، أسأل الله جل وتعالى الاعانة والتوفيق.
روى مسلم عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ قَالَ اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ: ((مَا تَذَاكَرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ)).
أيها الأحبة: إذا ظهرت علامة من علامات الساعة الكبرى فإن أخواتها تتبعها كتتابع الخرز في النظام يتبع بعضها بعضاً. روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يُقطع السلك يتبع بعضها بعضاً)).
أيها المسلمون: سيظهر في آخر الزمان وذلك بعد فشو الفساد وكثرة المنكرات واستفحال الظلم وقلة العدل رجلٌ يصلح الله على يديه أحوال هذه الأمة هذا الرجل يعرف عند أهل السنة بالمهدي، من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من ذرية فاطمة بنت رسول الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنهم، يؤيد الله به الدين يحكم سبع سنين، يملأ الأرض خلالها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، تنعم الأمة في عهده نعمة عظيمة، تُخرج الأرض نباتها، وتُمطر السماء قطرها، ويُعطى المال بغير عدد. قال ابن كثير رحمه الله: في زمانه تكون الثمار كثيرة والزروع غزيرة والمال وافر والسلطان قاهر والدين قائم والعدو راغم والخير في أيامه دائم.
يخرج مهدي أهل السنة من قبل المشرق، وعند خروجه لايكون لوحده، بل يؤيده الله بأناس من أهل المشرق يحملون معه الدين ويجاهدون في سبيله كما ورد بذلك الحديث، ووقت خروجه، عندما يقتتل ثلاثة من أولاد الخلفاء على كنز الكعبة كلهم يريد الاستيلاء عليها ولا يكون لواحد منهم معاقبة من الله على نقيض قصدهم فيخرج على الناس فيبايع عند الكعبة. عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة، ثم لايصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلاً لم يُقتله قوم)) – قال ثوبان: ثم ذكر شيئاً لا أحفظه – فقال: ((فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج)) رواه ابن ماجه. ولماذا الراية التي يحملها المهدي سوداء اللون؟ قال ابن كثير: ويؤيد بناس من أهل المشرق ينصرونه ويقيمون سلطانه ويشيدون أركانه وتكون راياتهم سود أيضاً، وهو زيّ عليه الوقار لأن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء يقال لها العقاب. انتهى. روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، ويُعطي المال صحاحاً – أي تسوية بين الناس – وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً)). وفي رواية: ((ثم لا خير في الحياة بعده)). وهذا يدل على أن بعد موت المهدي يظهر الشر والفتن العظيمة مرة أخرى. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح. قال الامام عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: أمر المهدي معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها، وتواترها تواتر معنوي لكثرة طرقها واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق، وهو محمد بن عبدالله العلوي الحسني من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنهم، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان يخرج فيقيم العدل والحق ويمنع الظلم والجور وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلاً وهدايةً وتوفيقاً وإرشاداً للناس. انتهى.
أيها الأحبة: والرافضة يزعمون أن لهم مهدياً ينتظرونه، وهو آخر أئمتهم وهو الامام الثاني عشر المدعو محمد بن الحسن العسكري، وهو عندهم من ولد الحسين بن علي لا من ولد الحسن، ويعتقدون أنه دخل سرداب سامراء منذ أكثر من ألف سنة ولما دخل كان عمره خمس سنوات وهو يعيش هناك ولم يمت وسوف يخرج في آخر الزمان، ويعتقدون أنه حاضر في الأمصار غائب عن الأبصار، وكلامهم هذا لم يقم عليه دليل ولا برهان ولا عقل ولا نظر، وهو مخالف لسنة الله في البشر، فأنبياء الله ورسله الذين هم أفضل الخلق عند الله توفاهم الله وهم أحوج ما تكون لهم البشرية، ومهدي الرافضة ما زال حياً منذ ألف سنة، ثم ما الداعي لغيبته واختفائه طوال هذه المدة وهو حي فلماذا لم يخرج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وواقع الأمة اليوم أحوج ما تكون له قال ابن كثير رحمه الله: ويكون ظهوره من بلاد المشرق – يعني مهدي أهل السنة - لامن سرداب سامرا، كما يزعمه جهلة الرافضة من أنه موجود فيه الآن وهم ينتظرون خروجه في آخر الزمان فإن هذا نوع من الهذيان، وقسط كبير من الخذلان، شديد من الشيطان، إذ لا دليل على ذلك ولا برهان، لامن كتاب ولا سنة ولا معقول صحيح ولا استحسان.
أيها الأحبة: هناك رجال من الحكام ادعوا المهدية، لا أنه المهدي بل تفاؤلاً بأن يكون من الأئمة المهديين الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، منهم المهدي أحد خلفاء دولة بني العباس. وهناك رجال زنادقة ادعوا المهدية على أنهم المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم منهم الملحد عبيدالله بن ميمون القداح عاش في القرن الثالث الهجري، كان جده يهودياً، انتسب زوراً إلى بين النبوة وادعى أنه المهدي، وحكم وتغلّب واستفحل أمره واستولت ذريته على بلاد المغرب ومصر والحجاز والشام واشتدت غربة الاسلام، وكانوا يدعون الألوهية، وهم ملوك الرافضة القرامطة الباطنية أعداء الدين تستروا بالرفض والانتساب كذباً لأهل البيت ودانوا بدين الالحاد ولم يزل أمرهم ظاهراً إلى أن أنقذ الله الأمة منهم بصلاح الدين الأيوبي، فأبادهم وأراح الناس من شرهم.
أيها المسلمون: من علامات الساعة الكبرى الدجال وما أدراكم ما الدجال منبع الكفر والضلال وينبوع الفتن والأوجال، ما من نبي إلا وحذر أمته الدجال بالنعوت الظاهرة وبالأوصاف الباهرة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر تحذيراً لأمته منه فأوضح للناس صفاته وأعماله حتى لاتخفى على ذي بصر.
أيها الأحبة: ليس هناك فتنة ستمر على البشرية عبر تاريخها أعظم من فتنة الدجال، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال))، وفي رواية: ((أمر أكبر من الدجال)) رواه مسلم.
فتسأل وتقول لماذا؟ الجواب: لأن الدجال رجل من بني آدم، واحد من بني البشر لكن الله جل وتعالى يعطيه بعض القدرات والتي لم يعطها لأحد من خلقه ولا أيضاً أحد رسله وأنبيائه، فلهذا يُفتن الناس به وتكون فتنته عظيمة من ذلك أنه يقتل ثم يحي من قتله، يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويأتي للأرض القاحلة الجرداء ويأمرها أن تخرج كنوزها، فتخرج، وأموراً أخرى عجيبة يفعلها كاستجابة الجماد والحيوان لأمره فيسحر الناس ويتبعونه، ومن تبعه وفتن به فهو الخاسر الهالك والله والمستعان.
فربما تسأل ثانية وتقول ولماذا يعطي الله عز وجل هذا الرجل هذه القدرات وهذه الصفات؟ فالجواب: أن الله جل وتعالى لايُسأل عما يفعل هذا أولاً، ثم إن العلماء رحمهم الله تعالى ومنهم الخطابي ذكروا حِكماً في ذلك منها أنها اختبار وامتحان للناس، وأنها على سبيل الفتنة للعباد، فأسأل الله تعالى أن يعصمني وإياكم من كل فتنة.
أيها الأحبة: وقبل خروج الدجال يكون للمسلمين شأن كبير وقوة عظيمة ثم يحصل صلح بين المسلمون والروم، ويغزون جميعاً عدواً مشتركاً، فينتصرون عليه ثم تثور الحرب بين المسلمين والصليبيين وتحصل بينهم ملحمة عظيمة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث هول هذه المعركة وكيف يكون صبر المسلمين فيها، ثم يكون لهم النصر على أعدائهم، ويحصل فتح القسطنطينية، فتغنم غنائمها وبينما المسلمون يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ بأن الدجال قد خرج. والذي يزيد من فتنة الدجال أن الله جل وعز يبتلي هذه الأمة قبيل خروجه بقحط وبلاء شديد، فعندما يظهر ويأتي بالخوارق ويدعي الألوهية يصدقه الناس ويفتنون به. عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ، يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فِي الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ فَلَا تُقْطِرُ قَطْرَةً، وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ فَلَا تُنْبِتُ خَضْرَاءَ، فَلَا تَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَتْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ قِيلَ فَمَا يُعِيشُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالَ: التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ، وَيُجْرَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مُجْرَى الطَّعَامِ)) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم بسند صحيح.
أيها المسلمون: لقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال بصفات دقيقة محددة فقال عنه أنه رجل جسيم، أحمر، جعد الرأس، قصير القامة، أقرب الناس به شبهاً عبدالعزى بن قطن من خزاعة، عقيم لا يولد له، أعور العين، ولقد ركز المصطفى صلى الله عليه وسلم على وصف عيني الدجال، وركز على عوره في غير ما حديث، لأن الدجال مهما تخلص من شئ من صفاته فإنه لايستطيع أن يتخلص من عينيه، فالعينان ظاهرتان بارزتان لكل أحد. قال ابن حجر: "لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية" [1] عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وأن بين عينيه مكتوب كافر)) رواه البخاري. وهذه صفة أخرى للدجال وهو أن الله تعالى مع ما أعطاه من قدرات إلا أنه فضحه بهذه الكتابة التي بين عينيه والتي لا يملك إزالتها، وسيقرأها كل مسلم أراد الله عصمته من الدجال وإن كان أمياً لايقرأ ولا يكتب. قال النووي رحمه الله: "إن هذه الكتابة على ظاهرها وأنها كتابة حقيقية جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، ويظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته ولا امتناع في ذلك" [2].
أيها المسلمون: إن مما يذهل عقول الناس فتنةً بهذا الرجل ما يعطيه الله من أمور منها: أنه يجول أقطار الأرض ويعطى سرعة فائقة في التنقل والتحرك فلا يترك بلداً إلا دخله إلا مكة والمدينة يقف على أنقابهما الملائكة يمنعانه من الدخول، وقد حمى الله تعالى مكة والمدينة من الدجال والطاعون ووكل حفظهما إلى ملائكته، فبعدما يمنع من الدخول كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ينزل بالسبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، يخرج إليه منها كل كافر ومنافق)). وهذا يدل على وجود الكفار في المدينة في ذلك الوقت. قيل يا رسول الله: ((فأين العرب يومئذٍ؟ قال: هم يومئذٍ قليل)).
وعندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سرعة تنقل الدجال قال: ((كالغيث استدبرته الريح)) رواه مسلم.
وأيضاً مما يفتن به الدجال الخلق أن معه ما يشبه الجنة والنار، وواقع الأمر ليس كما يبدو للناس فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يرونه ناراً إنما هو ماء بارد، وأن الذي يرونه ماءً بارداً إنما هو نار. وهذا يدل على أن الناس لايدركون ما مع الدجال حقيقة من شدة الفتنة وأن ما يرونه لايمثل الحقيقة بل يخالفها.
أيها الأحبة: إن الشيطان قد وجد مبتغاه في الدجال، ولذا فهو يعينه ويتعاون معه لكن على الشر، لإضلال الناس زيادةً، ومن المعلوم أن الشياطين لاتخدم إلا من كان في غاية الإفك والضلال. روى ابن ماجة بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له الشيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني اتبعه، فإنه ربك)).
أسأل الله تعالى أن يعصمني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا...
[1] فتح الباري 13/96
[2] شرح النووي على مسلم 18/60
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وأما عن مكان خروج الدجال، فإنه أول ما يخرج كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من المشرق من أرض خراسان من بلد أصبهان ومن حارةٍ يقال لها - اليهودية -، لكن ظهور أمره للمسلمين يكون عندما يصل إلى مكان بين العراق والشام، وعندما يظهر أمره فسيكون اليهود هم أول الناس فرحاً به، رغبة منهم في السيطرة على العالم عن طريقه. روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة)). والطيلسان ثوب يلبس على الكتف يحيط بالبدن خال من التفصيل والخياطة. وأيضاً يتبعه كثير من الأعراب لأن الجهل هو الغالب عليهم، وكذلك النساء فحالهنّ أشد من حال الأعراب، وذلك لسرعة تأثرهنّ وقلة عقلهنّ. ففي الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنها قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَنْزِلُ الدَّجَّالُ فِي هَذِهِ السَّبَخَةِ بِمَرِّقَنَاةَ فَيَكُونُ أَكْثَرَ مَنْ يَخْرُجُ إِلَيْهِ النِّسَاءُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْجِعُ إِلَى حَمِيمِهِ وَإِلَى أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ فَيُوثِقُهَا رِبَاطًا مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَيْه)). رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
سأل الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدة التي يمكثها الدجال في الأرض إذا خرج فقالوا: وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ يَوْمًا يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ قَالَ: لا. اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)) رواه مسلم. وهذا يدل على أن اليوم يطول حقيقة حتى يصبح اليوم الأول كسنة حقيقةً، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كأسبوع، وبقية الأربعين كأيامنا العادية وأولَ ما فكر فيه الصحابة في خضم هذه الفتنة الصلاة، يوم مفزع ومخيف وطويل ينسى فيه المرء أهله وأولاده بل حتى نفسه والصحابة أولَ ما يهمهم أمر الصلاة. ((يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ قَالَ لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)).
أيها المسلمون: وقد قدّر الله لهذه الفتنة مدة ثم تنتهي بقتل الدجال ويكون هلاكه على يد عيسى بن مريم عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان إلى الأرض، وقد عمّت الفتنة فيُنزل الله عيسى عليه السلام كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح عنه أنه ينزل على المنارة الشرقية بدمشق [1] ، فيلتف حوله المؤمنون فيسير بهم قاصداً الدجال، ويكون الدجال وقت نزول عيسى عليه السلام متوجهاً نحو بيت المقدس معه جيوش اليهود فيلتقيان هناك، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقتله عيسى عليه السلام بحربة في يده ويريق دمه، فينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون، فيقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود.
وبقتله لعنه الله تنتهي هذه الفتنة العظيمة والتي يهلك ويسقط فيها كثير من هذه الأمة.
أيها المسلمون: وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة الدجال، أولها الفرار منه وعدم إتيانه، ولو كان المرء واثقاً من نفسه فإنه لا يدري. عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات)) رواه مسلم. وسيعصم الله أقواماً بفرارهم إلى الجبال، ففي صحيح مسلم عن أم شريك قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليفرنّ الناس من الدجال في الجبال)).
ومما يعصم المسلم من الدجال أن يلجأ إلى أحد الحرمين مكة أو المدينة، فإن الدجال محرم عليه دخولهما.
ومما يعصم من الدجال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من قراءة فواتح سورة الكهف وفي بعض الروايات خواتيمها، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنْ الدَّجَّالِ)) رواه مسلم. قال بعض أهل العلم والحكمة في ذلك والله أعلم هو أن الله أخبر في طليعة هذه السورة أن الله أمّن أولئك الفتية من الجبار الطاغية الذي كان يريد اهلاكهم، فناسب أن من قرأ هذه الآيات وحاله كحالهم أن ينجيه الله كما أنجاهم، وما ذلك على الله بعزيز.
ومما يعصم من الدجال التعوذ من فتنة الدجال وخاصة في الصلاة كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الامام مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)).
أيها الأحبة: إذا خرج الدجال فإن الناس سيفتنون به مع ما ورد من تحذيرات وتنبيهات من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ما سمعوا عنه، والسبب هو قلة ورقة الدين والايمان في قلوبهم، إن واقع الناس التي نشاهدها اليوم، والله إنه لايبشر بخير، ولو أتاهم ما هو أقل من الدجال بكثير لفتنهم وأفسد عليهم دينهم وأخلاقهم، يا أخي أنظر في حال الناس اليوم وما يهويهم وما يفتنهم. لو فتح محل جديد في البلد لبيع أي شئ وليكن تمراً فما أن يتسامع الناس به إلا رأيت من له حاجة ومن لا حاجة له طوابير على هذا المحل، الناس اليوم فتنهم الإعلام، وفتنهم المناظر، وفتنهم المجمعات التجارية، وفتنهم السياحة والسفر، وفتنهم أمور تافهة، تتعجب من بعض أصحاب العقول والمكانة أن ينساق وراءها فما بالكم بالدجال، الذي لم تمر ولن تمر على البشرية أعظم من فتنته، إذا كان دين الناس اليوم، ومقدار الايمان في قلوب الناس اليوم وما يعرفون من أحكام الشرع لم يعصمهم من هذه الفتن البسيطة في هذه الفترة، فكيف بذلك الوقت الذي تكون فيه الفتنة أعظم والدين والايمان أقل.
نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
[1] قال المنبر: الصواب أن تقول على المنارة البيضاء شرقي دمشق كما في الحديث في مسلم (( إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق)).
(1/896)
أشراط الساعة الكبرى 2
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/3/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نزول المسيح ابن مريم وصفة نزوله وأدلة ذلك وقتله للدجال
2- ما يقوم به المسيح عليه السلام بعد قتله للدجال
3- حال الناس والأرض أيام المسيح عيسى بن مريم عليه السلام
4- الحكمة من اختيار عيسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء للقضاء على الدجال
5- يأجوج ومأجوج صفتهم ووقت خروجهم وكيف يقضى عليهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بدأنا في الجمعة الماضية الحديث عن أشراط الساعة الكبرى، وانتهينا من الحديث عن المهدي والدجال.
وأيضاً من أشراط الساعة الكبرى: نزول عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان. زعم اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فصدّق النصارى هذه الدعوى ثم اتخذوه ديناً وعقيدةً، فعلقوا الصليب فأبطل القرآن زعمهم هذا وأنه لم يقتل بل رفعه الله إلى السماء، ورفعه إلى السماء كان ببدنه وروحه، وألقى جل وعلا الشبه على غيره قال الله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً ثم أشار الله تعالى إلى أنه سينزل في آخر الزمان فيبقى ما شاء الله له أن يبقى ثم يتوفاه الله فقال جل شأنه: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا. هذا بالنسبة للقرآن، وأما في خبر النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر المصطفى عليه السلام أموراً تفصيلية وذلك أن الله جل وعز يجعل من نزول عيسى عليه السلام رحمة بالأمة وتفريج لكربتها وذلك أنه عندما تشتد فتنة الدجال ويضيق الأمر بالمؤمنين في ذلك الزمان ينزل الله عبده ورسوله عيسى عليه السلام ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق كما ورد بذلك الخبر عليه مهرودتان – أي ثوبين مصبوغين بورس ثم زعفران – واضعاً كفيه على أجنحة ملكين. قال ابن كثير: وليس بدمشق منارة تعرف بالشرقية سوى التي إلى جانب الجامع الأموي بدمشق من شرقيه [1].
وهو رجل مربوع القامة ليس بالطويل ولا بالقصير يميل إلى الحمرة والبياض، جعد الجسم، عريض الصدر، سبط الشعر كأن رأسه يقطر ولم يصبه بلل، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي. ويكون نزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق ويكونون في حال إعداد لحرب الدجال، فيحين وقت الصلاة، وتكون صلاة الفجر فيصطف المقاتلون المسلمون ليصلوا، فينزل عيسى ويعرفه الإمام فيرجع، ويطلب منه أن يتقدمهم ويؤمهم، فيأبى فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فصلّ فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم ويصلي عيسى عليه السلام خلفه، وهذا فخر لهذه الأمة وأي فخر أن يصلي نبيّ خلف رجل صالح من هذه الأمة، وأول عمل يقوم به عيسى عليه السلام هو مواجهة الدجال، فبعد نزوله يتوجه إلى بيت المقدس حيث يكون الدجال محاصراً للمسلمين فيأمرهم عيسى بفتح الباب فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب فيفتحون ويكون الدجال وراءه، معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هارباً فيتبعه عيسى عليه السلام فيدركه عند باب لد الشرقي كما في الحديث فيقتله، ويريهم دمه في حربته، فيهزم الله اليهود.
والسر في ذوبان الدجال إذا رأى عيسى عليه السلام هو أن الله أعطى لنَفَسِ عيسى رائحة خاصة إذا وجدها الكافر مات ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل قال فيه: ((فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات)). ولو تركه عيسى لمات لوحده من رائحة النَفَس، لكن عيسى لا يتركه يموت لوحده بل يقتله بيده لإنهاء أسطورة هذا المخلوق وفتنته، فإن الناس إذا شاهدوا قتله وموته استيقنوا أنه عبد ضعيف مغلوب على أمره، وأن دعواه كانت زوراً وكذباً.
وبعد إهلاك الله للدجال على يد عيسى عليه السلام، يشاء من هو على كل شئ قدير، الذي له الحكمة البالغة ولا يُسأل جل وتعالى عما يفعل أن يخرج يأجوج ومأجوج، ولنا معهم حديث مستقل، لكن من مهام عيسى عليه السلام بنزوله إلى الأرض القضاء أيضاً على فتنة يأجوج ومأجوج، وبعدها يتفرغ عليه السلام للمهمة الكبرى التي أنزل من أجلها، وهي تحكيم شريعة الله الاسلام وإخضاع الناس لشريعة رب العالمين والقضاء على المبادئ الضالة والأديان المنحرفة والتي نخرت بجسد الأمة ردحاً من الزمن، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم بن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب)) – وفي رواية عند مسلم: ((وليضعن الجزية – ويفيض المال حتى لايقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها)) فكسره عليه السلام للصليب دليل على علو النصرانية المحرفة في ذلك الوقت وانتشارها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام)). وأما عن وضع الجزية فليس معناه كما قد يتبادر للذهن لأول وهلة أنه أسقط الجزية عن أهل الكتاب أو أنه قد تغيّر شيئاً في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن معناه أنه لايقبل من اليهود والنصارى الجزية فإما الاسلام وإما القتل. قال ابن كثير رحمه الله: وفي سنة إحدى وأربعين وسبعمائة جدد المسلمون منارة من حجارة بيض وكان بناؤها من أموال النصارى الذي حرقوا المنارة التي كانت مكانها، ولعل هذا يكون من دلائل النبوة الظاهرة حيث قيض الله بناء هذه المنارة من أموال النصارى لينزل عيسى بن مريم عليها، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب، ولا يقبل منهم جزية، ولكن من أسلم وإلا قتل وكذلك غيرهم من الكفار.
أيها المسلمون: ويبقى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم بعد نزوله أربعين سنة يحكم فيها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لاينزل بشرع جديد، لأن دين الاسلام خاتم الأديان باقٍ إلى قيام الساعة لاينسخ، فيكون عيسى عليه السلام حاكماً من حكام هذه الأمة ومجدداً لأمر الإسلام، ولا يكون نزوله على أنه نبيّ، فلا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وحيث قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)). بل يقيم الإسلام في الناس ويصلي إلى الكعبة ويحج ويعتمر.
أيها المسلمون: ويُنعم الله فيها على البشرية وقت حكم عيسى عليه السلام برخاء وأمن وسلام عجيب لم يمر البشرية بمثلها، اسمع لهذا الحديث العجيب قال صلى الله عليه وسلم: ((فيكون عيسى ابن مريم فى أمتى حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً يدق الصليب ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتُنزَع حُمَةُ كلِّ ذات حمة، حتى يُدخل الوليد يده فى الحية، فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب فى الغنم كأنه كلبها، وتملأ الارض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة، تنبت نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانه فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بالدريهمات)). قال النووي رحمه الله: فيزهد الناس في الإبل ولا يرغب في اقتنائها أحد لكثرة الأموال وقلة الآمال وعدم الحاجة والعلم بقرب قيام الساعة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((طوبى لعيش بعد المسيح يؤذن للسماء فى القطر، ويؤذن للأرض فى النبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت. وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره. ولا تشاحّ، ولا تحاسد ولا تباغض)). وعند الامام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فيهلك الله في زمانه – أي في زمان عيسى عليه السلام - المسيح الدجال وتقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم)).
أيها المحب: ولعلك تتسائل، عن اختيار عيسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء لينزل إلى الأرض؟ الجواب: هو أن العلماء تلمسوا بعض الحكم في ذلك: منها: إبطال زعم اليهود بقتله، فينزله الله تعالى في آخر الزمان فيقتلهم ويقتل رئيسهم الدجال. ومنها: إبطال كذب النصارى في أنه صُلب فينزله الله تعالى في آخر الزمان، فيكسر صليب النصارى ويقتل الخنزير، ليتبين عدم صحة هذه الديانة التي تكتسح البشرية اليوم، وأنها ديانة باطلة محرفة لايقبلها الله ومن مات عليها كان من أهل النار، من مات على النصرانية فهو من أهل النار، قال الله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
ومن الحكم: أن عيسى مخلوق من البشر وهو ما يزال حياً، وليس لمخلوق من التراب أن يموت ويدفن في غيرها، فعند دنو أجله ينزله الله تعالى ليدفن في الأرض. وهناك حكم أخرى والله أعلم بالصواب.
قال الامام عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على أن عيسى بن مريم عبدالله عليه الصلاة والسلام رفع إلى السماء بجسده الشريف وروحه، وأنه لم يمت ولم يقتل، ولم يصلب، وأنه ينزل آخر الزمان فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام وثبت أن ذلك النزول من أشراط الساعة. انتهى [2].
فنسأل الله تعالى العصمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
[1] لم نجد في الأحاديث التي بين أيدينا أن الشرق جاء وصفاً للمنارة ، وإنما جاء وصفاً لدمشق ، فالمسيح ينزل في شرق دمشق عند المنارة البيضاء. انظر الروايات في ذلك كما أوردها العلامة الألباني في كتابه تخرج أحاديث فضائل الشام الشام ودمشق للربعي ص56-59. فريق المنبر.
[2] مجموع فتاوى الشيخ 1/433
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أشراط الساعة الكبرى والتي قد سبق الإشارة إليها خروج يأجوج ومأجوج. ويأجوج ومأجوج أمتان كثيرتا العدد لايحصيهم إلا الله وهما من ذرية آدم عليه السلام رجال أقوياء لاطاقة لأحد بقتالهم جاء في وصفهم أنهم صغار العيون عراض الوجوه شهب الشعور. وهم موجودون الآن، والذي يمنع من خروجهم ذلك السد الذي يحبسهم، السد الذي أقامه الملك الصالح ذو القرنين ليحجز بين يأجوج ومأجوج، القوم المفسدون وبين الناس، ولا يُعرف مكان هذا السد بالتحديد لكنه جهة المشرق لقوله تعالى: حتى إذا بلغ مطلع الشمس فإذا جاء الوقت المعلوم واقتربت الساعة اندك السد وخرج هؤلاء بسرعة عظيمة وجمع غفير كبير لايقف أمامهم أحد من البشر فماجوا في الناس وعاثوا في الأرض فساداً، وهذا علامةٌ على قرب النفخ في الصور وخراب الدنيا وقيام الساعة. وقد اختار الله أن يكون خروجهم بعد نزول عيسى عليه الاسلام وقتله للدجال. قص الله علينا خبرهم في سورة الكهف، وذلك أن ذا القرنين في تطوافه في الأرض بلغ السدين فوجد من دونهما قوماً لايكادون يفقهون قولا، فاشتكوا له الضرر الذي يلحق بهم من يأجوج ومأجوج وطلبوا منه أن يقيم بينهم وبين هؤلاء سداً يمنع عنهم فسادهم فاستجاب لطلبهم حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا.
أخبر الله تعالى أن السد الذي أقامه ذو القرنين مانعهم من الخروج فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا وأخبر أن ذلك مستمر إلى آخر الزمان عندما يأتي وعد الله ويأذن لهم بالخروج وعند ذلك يُدك السد ويخرجون على الناس فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وعند ذلك يخرجون أفواجاً أفواجاً كموج البحر (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ). أيها المسلمون: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في زمنه فتح من السد مقدار حلقة صغيرة، ففي البخاري عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه: الإبهام والتي تليها، قالت زينب: فقلت يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)). ومنذ ذلك اليوم وهم يحفرون كل يوم ليخرجوا فإذا انتهى اليوم وذهبوا رجعوا في الغد أعاده الله تعالى كأشد ما كان، وهكذا حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يخرجهم على الناس اندك السد وخرجوا.
أيها الأحبة: يبتلي الله جل وتعالى هذه الأمة في آخر الزمان بهؤلاء البشر، وليسوا كالبشر في فعالهم يأكلون الأخضر واليابس يمر أوائلهم على بحيرة طبرية وهي بحيرة كبيرة في فلسطين، ماؤها عذب، فيشربون ماءها كلها، وعندما يصل أواخرهم للبحيرة يقولون: لقد كان بهذه مرة ماء. ويغشون الأرض كله فيعيثون فساداً فينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم تفادياً لشرهم ومعهم مواشيهم حتى إذا لم يبق من الناس إلا أحد في حصن أو مدينة يقول قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء، قال: ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع مخضبة دماً، للبلاء والفتنة، فيذهب الناس إلى عيسى عليه السلام لعله يخلصهم منهم فلا يملك إلا الدعاء فيدعو الله تعالى فيبعث الله عليهم النغف في رقابهم، وهو الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم فيهلكهم الله بهذا الدود موتة نفس واحدة في الحال، فيصبحون موتى لايُسمع لهم حس فيقول المسلمون: ألا رجل يشري نفسه فيخرج لينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد واحداً منهم محتسباً فيخرج وهو جازم أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي: يامعشر المسلمين: ألا أبشروا فإن الله قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مدنهم وحصونهم ويسرّحون مواشيهم فما يكون لها رعيٌ إلا لحوم هؤلاء الموتى، ولا يبقى في الأرض شبر إلا وأصابه من نتنهم وجيفهم، فيدعو عيسى عليه السلام مرة أخرى فيرسل الله طيراً كأعناق البخت تحملهم وتقذف بأجسامهم في البحر ثم يرسل الله مطراً فيغسل الأرض ما أصابها منهم حتى يتركها كالمرآة.
قال الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: يأجوج ومأجوج من بني آدم ويخرجون في آخر الزمان وهم في جهة الشرق، وكان الترك منهم فتُركوا دون السد، وبقي يأجوج ومأجوج وراء السد والأتراك كانوا خارج السد. ويأجوج ومأجوج من الشعوب الشرقية – الشرق الأقصى – وهم يخرجون في آخر الزمان من الصين الشعبية وما حولها بعد خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لأنهم تُركوا هناك حين بنى ذو القرنين السد وصاروا من ورائه من الداخل وصار الأتراك والتتر من الخارج، والله جل وعلا إذا شاء خروجهم على الناس خرجوا من محلهم وانتشروا في الأرض وعثوا فيها فساداً ثم يرسل الله عليهم نَغفاً في رقابهم، فيموتون موتة نفس واحدة في الحال كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحصن منهم نبي الله عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم والمسلمون لأن خروجهم في وقت عيسى بعد خروج الدجال. انتهى [1].
[1] مجموع فتاوى الشيخ 5/357
(1/897)
أشراط الساعة الكبرى 3
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/3/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال بعض الناس بعد هلاك يأجوج ومأجوج 2- بعث الله ريحاً طيبة تقبض روح كل مسلم
ولا يبقى إلا شرار الخلق 3- وقوع خسوفات ثلاثة قبل قيام الساعة 4- هدم الكعبة في آخر
الزمان على يد رجل من الحبشة والحكمة من ذلك 5- ظهور الدخان وظهور الدابة وطلوع
الشمس من مغربها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
وما زلنا نتحدث عن أشراط الساعة الكبرى.
أيها المسلمون: وصلنا في الجمعة الماضية أن نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم يكون رحمة من الله بهذه الأمة وتفريجاً لها من أعظم كربها وهو فتنة الدجال، ثم يُبتلى الناس بعدها بيأجوج ومأجوج، وأيضاً يهلكهم الله بدعاء عيسى عليه السلام عليهم بعد أن يشاء لهم أن يبقوا في الأرض ما يبقوا، ويعيثوا فيها الفساد، وذكرنا بأن الأمة بعد ذلك تمر عليها فترة من الفترات الذهبية، برجوع الناس للدين وتحكيم الشريعة وارتفاع راية الاسلام واندحار الكفر وأهله، وحصول أمن ورخاء عجيب، حتى أن الحيوانات التي كانت تضر لاتضر فيلعب الصبيان بالحيات كما ورد بذلك الحديث.
وبعد هذا الانتشار العظيم للإسلام الذي يعم مشارق الأرض ومغاربها، يقدر الله تعالى بأن يضعف الإسلام مرة أخرى وينتفش الشر ويظهر ويعلو، وذلك قبيل قيام الساعة، عندها يختار الله تعالى لهذا الدين أن يرفع من الأرض فيرفع القرآن ويذهب العلم وتحصل بعدها أشراط الساعة الكبار كما سيأتي وبعدها يقبض الله تعالى نفس من كان في قلبه بقية من إيمان حتى إذا لم يبقى على وجه الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة. عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا)) رواه ابن ماجة والحاكم وسنده صحيح. وحتى هذه البقية الباقية التي لاتعرف من الدين إلا كلمة لا إله إلا الله تفنى وتبيد، ففي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)). وذهاب هذه البقية الصالحة يكون عن طريق بعث ريح من اليمن وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ألين من الحرير فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته. عن النواس بن سمعان قال: ((فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ)) رواه مسلم. وروى البخاري عن مرداس الأسلمي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة)). وبعد انبعاث هذه الريح تنقطع عبادة الحج فلا حج ولا عمرة. ترجع البشرية بعدها إلى جاهليتها الأولى أو أشد ويعود عبادة الأوثان، ويعبد الناس اللات والعزى مرة أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ((فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لايعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: ما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان)). ويتدنى المستوى الأخلاقي تدنياً هائلاً فقد أخرج البزار وابن حبان بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير، قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم، ليكونن)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لاتفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون خيارهم يومئذٍ من يقول: هلاّ واريتها وراء هذا الحائط)).
أيها المسلمون: يظهر بعدها علامة كبرى، وهي الخسوفات الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب كما في حديث حذيفة بن أسيد في صحيح مسلم. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون بعدي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب. قلت: يا رسول الله! أيُخسف بالأرض وفيها الصالحون؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أكثر أهلها الخبث)).
وهذه الخسوفات لم تقع بعد كغيرها من أشراط الساعة الكبرى التي لم يظهر شئ منها، وما حدث من بعض الخسف في أماكن متفرقة من الأرض وفي أزمان متباعدة فذلك كان من أشراط الساعة الصغرى قال ابن حجر رحمه الله: وقد وجد الخسف في مواضع ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وجد كأن يكون أعظم منه مكاناً أو قدراً [1].
أيها المسلمون: ومن علامات الساعة الكبرى هدم الكعبة المشرفة والقبلة المعظمة: فالكعبة التي يصلى إليها المسلمون اليوم تهدم في آخر الزمان يسلط الله عليها رجلاً أسوداً من الحبشة يسمى ذو السويقتين لصغر ساقيه ورقتهما، وسوف يهدمها حجراً حجراً ويجردها من كسوتها ويسلبها حليها.
وقد يقال كيف يهدمها وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟ قال الله تعالى: أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً. وقال سبحانه: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وقد حماه الله تعالى من أصحاب الفيل وهم حينئذٍ كفار مشركون فكيف يسلط عليه هذا الرجل وهو قبلة المسلمين؟
الجواب: أولاً: أنه يبقى حرماً آمناً، هذا سيكون إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيام الساعة وخراب الدنيا، وليس في الآية استمرار بقاء الأمن إلى قيام الساعة. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار في حديث صحيح وهو حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد أنه سيستحل هذا البيت أهله فقال: ((يُبايع لرجل ما بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله فإذا استحلوه فلا يسأل عن هلكة العرب، ثم تأتي الحبشة فيخربونه خراباً لايعمر بعده أبداً، وهم الذين يستخرجون كنزه)). ففي زمن أصحاب الفيل مع أنهم كانوا كفاراً فما كانوا قد استحلوا البيت فمنعه الله عز وجل منهم. وأما ذو السويقتين الحبشي فلن يهدمه إلا بعد استحلال أهله له، وقد استحل المسلمون الحرم والكعبة عدة مرات، أولها جيش يزيد بن معاوية بأمره، ثم الحجاج في زمن عبدالملك بن مروان بأمره، فسلط الله عليه القرامطة فقتلوا من المسلمين في المطاف ما لا يحصى وقلعوا الحجر الأسود ونقلوه إلى بلادهم، وبقي معهم أكثر من عشرين سنة، فلما وقع استحلاله من أهله مراراً مكّن الله غيرهم من ذلك عقوبة لهم.
ومن أشراط الساعة الكبرى ظهور الدخان، وهذا ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أليم قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما هو دخان قبل قيام الساعة يدخل أسماع الكفار والمنافقين ويعتري المؤمن كهيئة الزكام. أخرج مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال: ((وما تذاكرون؟ قالوا: الساعة يا رسول الله، قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات. فذكر منها الدخان)).
وسيملأ هذا الدخان ما بين المشرق والمغرب ويمكث في الأرض أربعين يوماً فأما المؤمن فيصيبه منه مثل الزكام، وأما الكافر فيدخل فيه هذا الدخان فينتفخ حتى يخرج منه من كل جهة: من فيه ومنخريه وعينيه وأذنيه ودبره. ولا شك أن هذا ابتلاء من الله من جملة الابتلاءات لهذه الأمة في آخر الزمان، ولو تتبعنا بقية الآيات لربما أدركنا شيئاً من حكمة ذلك: وهو البعد عن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمع وتأمل قال الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ.
ومن أشراط الساعة: ظهور دابة تكلم الناس، وهذه الدابة آية من آيات الله وهي مخالفة لمعهود البشر حيث أنها تتكلم وتخاطب الناس قال الله تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. وفي قوله تعالى: أن الناس كانوا بآياتنا لايوقنون. إشارة إلى أن خروج الدابة يكون عندما يكثر الشر ويعم الفساد، ويكون الخير قلة في ذلك الزمان، قال ابن كثير رحمه الله: وأن ذلك يكون عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، يُخرج الله لهم دابة من الأرض فتكلم الناس على ذلك.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ)). رواه مسلم. وذهب عدد من العلماء إلى أن مكان خروج الدابة يكون من مكة من أعظم المساجد.
[1] الفتح 13/84
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن علامات الساعة الكبرى طلوع الشمس من المغرب، وهذا خلاف ما اعتاده الناس من طلوعها من المشرق، ولكن الذي أطلعها من المشرق قادر على أن يغير مسارها فهو خالقها ومدبر أمرها سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)).
أيها المسلمون: وإذا طلعت الشمس من مغربها فإنه لايقبل الايمان ممن لم يكن قبل ذلك مؤمناً، كما أنه لاتقبل توبة العاصي، فبعد خروجها يغلق باب التوبة عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)) رواه مسلم.
إن طلوع الشمس من مغربها آية عظيمة يراها كل من كان في ذلك الزمان، فتنكشف لهم الحقائق ويشاهدون من الأهوال ما يلوي أعناقهم إلى الإقرار والتصديق بالله وآياته، وحكمهم في ذلك حكم من عاين بأس الله تعالى، كما قال عز وجل: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون. قال القرطبي رحمه الله: "قال العلماء: وإنما لاينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضرة الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت". انتهى.
أيها الأحبة: إن طلوع الشمس من المغرب وخروج الدابة يكون متتالياً وربما كما قال بعض العلماء يكون في يوم واحد، وهو اليوم الذي تطلع الشمس فيه من المغرب تخرج الدابة فيه على الناس. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا)) رواه مسلم. ولا يبقى بعد ذلك إلاّ النار التي تخرج من قعر عدن لتحشر الناس إلى محشرهم وبعدها تقوم الساعة.
(1/898)
أشراط الساعة الكبرى 4
الإيمان
أشراط الساعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/3/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النار التي تحشر الناس إلى أرض المحشر وحال الناس معها 2- أن هذا الحشر غيرالحشر
الذي بعد البعث 3- النفخ في الصور وحال الناس عند ذلك 4- ثم تكون بعد نفخة الصعق
نفخة البعث 5- صفة حشر الناس وصفة أرض المحشر 6- حال الناس بعد البعث ومايحصل
من التغير في الكون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
واستكمالاً لما سبق بقي معنا من أشراط الساعة الكبرى النار التي يخرجها الله تعالى من قعر عدن من بحر حضرموت كما جاء في بعض الروايات تحشر الناس إلى محشرهم، وهي آخر علامات الساعة الكبرى، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة ولا يكون بعدها إلا النفخ في الصور. فإذا خرجت هذه النار انتشرت في الأرض كلها حتى تجمع من في المشرق ومن في المغرب تسوق الناس إلى أرض المحشر. روى الترمذي بسند صحيح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستخرج نار من حضرموت قبل القيامة تحشر الناس، فقالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام)). ويكون حشر الناس على ثلاثة أفواج: فوج راغبون طاعمون كاسون راكبون وفوج يمشون تارة ويركبون أخرى يعتقبون على البعير الواحد كما ثبت في الصحيحين: اثنان على بعير وثلاثة على بعير وعشرة على بعير. وذلك من قلة الظهر يومئذٍ. والفوج الثالث تحشرهم النار فتحيط بهم من ورائهم وتسوقهم من كل جانب إلى أرض المحشر تقيل معهم النار حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا ومن تخلف أكلته النار. والأرض التي تحشر النار الناس إليها هي أرض الشام كما روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشام أرض المحشر والمنشر)). وعند الامام أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ يَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ تَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ)).
والسبب في كون أرض الشام هي أرض المحشر هو أنه عندما تقع الفتن في آخر الزمان تكون أرض الشام هي محل الأمن والأمان. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح. وقد تقدم أن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يكون بالشام وبه يكون اجتماع المؤمنين لقتال الدجال.
أيها المسلمون: إن هذا الحشر للناس ليس هو حشر الآخرة، وإنما هذا حشر يكون في الدنيا، وأما الحشر الآخر الذي يكون يوم القيامة فبعد بعث الناس من القبور. قال ابن كثير رحمه الله: فهذه السياقات تدل على أن هذا الحشر هو حشر الموجودين في آخر الدنيا من أقطار الأرض إلى محل الحشر وهي أرض الشام. وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الزمان حيث الأكل والشرب والركوب على الظهر المُشترى وغيره وحيث تُهلك المتخلفين منهم النار ولو كان هذا بعد نفخة البعث لم يبق موت ولا ظهر يُشترى ولا أكل ولا شرب ولا لبس في العرصات. انتهى.
وأما حشر الآخرة فمختلف فقد جاءت الأحاديث أن الناس مؤمنهم وكافرهم يحشرون حفاة عراة غرلاً بهماً كما بدأنا أول خلق نعيده.
أيها الأحبة: إن هذا الكون العجيب الغريب الذي نعيش فيه، يعج بالحياة والأحياء الذين نشاهدهم والذين لانشاهدهم، وهم فيه في حركة دائبة لاتهدأ ولا تتوقف، وسيبقى حاله كذلك إلى أن يأتي اليوم الذي يهلك الله فيه جميع الأحياء وهو يوم النفخ في الصور، الذي ينتهي بعده الحياة في الأرض والسماء كما قال تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وهي نفخة هائلة مدمرة يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشئ ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصّمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة فقال: ((وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أَحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا)) رواه البخاري. والنافخ في الصور هو اسرافيل عليه السلام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مستعد منذ أن خلقه الله ينتظر أن يؤمر فينفخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن طَرْفَ صاحب الصور منذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان درّيان)). وأما في هذا الزمان الذي اقتربت فيه الساعة أصبح اسرافيل أكثر استعداداً وتهيؤاً للنفخ في الصور. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ، فينفخ، قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا)). وسيكون النفخ في الصور يوم الجمعة فعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ)). رواه ابوداود. ولما كانت الساعة تقع في يوم الجمعة فإن المخلوقات تكون خائفة مشفقة كل جمعة إلا الإنس والجن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُسِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينَ تُصْبِحُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ)). رواه أهل السنن.
أيها المسلمون: ثم يأمر الله تعالى بالنفخة الثانية وهي نفخة البعث، فإذا شاء الحق تبارك وتعالى إعادة العباد وإحياءهم أمر اسرافيل فنفخ في الصور، فتعود الأرواح إلى الأجساد ويقوم الناس لرب العالمين ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وقد وصف المولى جل وتعالى مشهد البعث وتعجب الموتى من ذلك فقال سبحانه: ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون. وقبيل نفخة البعث يُنزل الله مطراً من السماء فتنبت منه أجساد العباد من التراب. وهذا يماثل إنبات النبات من الأرض إذا نزل عليها الماء كما قال تعالى: وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ويكون إنبات الإنسان من عظم صغير هو عجب الذنب وهو العظم الصلب المستدير في أصل العجز.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ، ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ قَالَ وَلَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه مسلم. ولمسلم أيضاً قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِي الْإِنْسَانِ عَظْمًا لَا تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ أَبَدًا فِيهِ يُرَكَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا: أَيُّ عَظْمٍ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ عَجْبُ الذَّنَبِ)).
وحيثما هلك العباد فإن الله تعالى قادر على الاتيان بهم سواء هلكوا في أجواء الفضاء أو غرقوا في أعماق البحار أو غاروا في طبقات الأرض أو أكلتهم الطيور الجارحة أو الحيوانات المفترسة فكل ذلك عند الله سواء أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كل شئ قدير.
وسوف يشمل هذا الحشر حتى البهائم كما قال سبحانه: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون.
أيها المسلمون: ويختلف الخلق بعض الشيء في طبيعة الخلق بعد البعث عما كانوا عليه في الدنيا، فمن ذلك أنهم لايموتون أبداً بعد هذه البعثة، فإما نعيم أبدي وإما عذاب سرمدي، ومن ذلك أنهم يبصرون ما لم يكونوا يبصرونه في الدنيا من الملائكة والجن وغيرهم.
وأول من تنشق عنه الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وسيحشر الناس حفاة غير منتعلين عراة غير مكتسين غرلاً غير مختنين. فسألت عائشة رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)).
وسيبعث كل أحد على الحال التي مات عليها من الايمان أو الكفر، أو اليقين أو الشك، كما يبعث على العمل الذي كان يعمله عند موته. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أراد الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم)) رواه مسلم. فالذي يموت وهو محرم متلبس بحج أو عمرة يبعث يوم القيامة ملبيا، والشهيد الذي يقتل في أرض المعركة يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك، والذي يموت وهو يقول لا اله الا الله يموت على التوحيد يبعث يوم القيامة ناطقاً بهذه الكلمة الطيبة، ولهذا استحب تلقين الميت لا إله إلا الله. فاحرص يا عبدالله أن تكون دائماً على خير، واحرص أن تكون في غالب أوقاتك في طاعة فإنك لا تدري متى تقبض، وعلى ماذا تقبض. فهنيئاً لمن تخرج روحه وهو يصلي، وهنيئاً لمن يموت وهو صائم ذلك اليوم، وهنيئاً لمن تقبض روحه وهو في طلب علم أو دعوة أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو صلة رحم أو برٍ لوالدين أو أي عمل من أعمال الخير. ويا خسارة من يموت وهو سكران والعياذ بالله أو تقبض روحه وهو متلبس بمعصية أو جالس في مكان لايرضي الله عزوجل أو يموت وهو يشاهد وينظر في أشياء محرمة. فلنتق الله أيها الأحبة ولنعلم بأن الأعمال بالخواتيم.
أيها المسلمون: وسيكون هذا الحشر في أرض أخرى غير هذه الأرض قال الله تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة هذه الأرض الجديدة التي يكون عليها الحشر فقال كما في حديث سهل بن سعد عند البخاري: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد)). قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: تبدل الأرض أرضاً كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ألا يتوفانا إلا ونحن مسلمون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن يوم القيامة يوم عظيم، أمره شديد، وهوله جسيم، وصفه الله بأنه يوم عظيم فقال: ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ووصف بأنه ثقيل إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورائهم يوماً ثقيلا ووصفه بأنه عسير فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير.
إنه يوم الرعب والفزع، فالمرضعة تفدي وليدها بنفسها، والحامل تسقط حملها من الرعب، والناس كحال السكارى الذين فقدوا عقولهم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وقلوب الظلمة ترتفع إلى حناجرهم فلا تخرج ولا تستقر مكانها وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. وحسبك أن تعلم بأن الوليد الذي لم يرتكب شيئاً يشيب شعر رأسه من شدة هول ذلك اليوم فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً السماء منفطر به كان وعده مفعولاً. وعندها لايعرف أحدٌ إلا نفسه ولا يلتفت إلى غيره، بل يفر من أحب الناس إليه يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه. ويكون الانسان على استعداد تام لبذل كل شيء في سبيل الخلاص من العذاب حتى لو كان يملك كل ما في هذه الأرض ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به بل لو كان يملك ضعف ما في هذه الأرض لافتدى به والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب بل هو على استعداد على أن يبذل ملء هذه الأرض ذهباً إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين. عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول نعم. فيقال له: قد كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك)). رواه البخاري. بل إن الحال يصل في ذلك اليوم أن يتمنى المجرم لو دفع بأعز الناس إليه في النار لينجو هو من العذاب يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تُؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى.
أيها المسلمون: إن هذا الكون سيصيبه دمار كوني شامل رهيب يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها، والفضاء وشمسها وقمرها. فالأرض تُزلزل وتُدك، والجبال تُسيّر وتُنسف، والبحار تُفجّر وتُسجّر، والسماء تَتَشقق وتمور، والشمس تُكور وتذهب، والقمر يُخسف، والنجوم تَنكدر ويذهب ضوؤها، وينفرط عقدها.
فهذه الجبال الراسية القوية الثقيلة تصير كالعهن المنفوش، وهو الصوف المنفوش في خفتها وضعفها وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذٍ وقعت الواقعة ، ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. وهذه البحار والمحيطات الضخمة التي تغطي الجزء الأعظم من الأرض، وتعيش في باطنها عوالم هائلة من الأحياء، وتتهادى فوقها سفن وبواخر تهبط وتقلع على ظهرها الطائرات، هذه البحار تُفجّر وتُسجّر فيتشقق جوانبها ويزول ما بينها من الحواجز ويختلط مائها العذب بالمالح، ثم تشتعل ناراً، ولك أن تتصور هذه البحار العظيمة الهائلة وقد أصبحت مادة قابلة للاشتعال كيف يكون منظرها واللهب يرتفع منها إلى أجواء الفضاء، فلا إله إلا هو العزيز الحكيم. وهذه السماء الزرقاء الجميلة والتي ينشرح صدر الانسان ويسر قلبه وهو ينظر إليها، هذه السماء تضطرب اضطراباً يوم تمور السماء موراً ثم تتشقق فتصبح ضعيفة واهية وانشقت السماء فهي يومئذٍ واهية وتنفطر إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت ويأخذ هذا اللون الأزرق الجميل يزول ويذهب وتأخذ السماء في التلون فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان. وأما الشمس فإنها تجمع وتكور ويذهب ضوؤها، وكذلك القمر يخسف ويذهب ضوؤه. روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت)).
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلّعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة احشرت وتقول للأملاك أين تسير؟
وإذا الجليل طوى السماء بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا السماء تكشطت عن أهلها ورأيت أفلاك السماء تمور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جنينه كيف المصّر على الذنوب دهور
(1/899)
البكاء والخشية
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/7/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفهوم خاطئ عند الناس عن البكاء
2- أحوال بكى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
3- فضل البكاء من خشية الله
4- أنواع البكاء
5- أنواع التباكي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
من جملة المفاهيم التي تغيرت في دنيا الناس اليوم، وقد يستغرب بعضكم هذا المفهوم وربما يقول وهل يستحق مثل هذا الموضوع أن يكون موضوعاً لخطبة جمعة ، ألا وهو مفهوم البكاء.
يظن البعض بأن البكاء لا يصدر إلا من ضعيف، وأن البكاء من خصال وصفات النساء ، وأن الرجل القوي الشجاع لا يبكي ، وكل هذا غير صحيح.فاسمع أخي المسلم شيئاً عن البكاء. قال الله تعالى مادحاً بعض عباده المؤمنين ، وهم أولئك الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الرحمن، فبكوا من خشية الله قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا. وقال عز وجل: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً.
ولقد كان أقوى الناس وأشجع الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي في بعض المواطن ، وكانت عيناه تهملان بالدموع أحياناً ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل. فكان أحياناً يبكي في الصلاة كما في سنن أبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن الشَّخيّر رضي الله عنه قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء)). وتارة كان يبكي رحمة للميت ، عند عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قبَّل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تهرقان)). ولما مات ولده إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال: ((تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)) وشهد عليه الصلاة والسلام جنازة أحدى بناته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على حافة القبر يقول أنس بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث فرأيت عينيه تدمعان. ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((أفيكم رجل لم يقارف الليلة؟ - يعني الجماع - فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله فقال انزل ، فنزل إلى قبرها)).
وتارة كان بكاءه عليه السلام خوفاً على أمته وشفقة عليها ، كما في الصحيح أنه انكسفت الشمس فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وينفُخ ويقول: ((رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، رب ألم تعدني ألا تعذبهم وهم يستغفرون ، ونحن نستغفرك)). وتارة كان بكاؤه إذا سمع القرآن ، وذلك لما طلب من عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه القرآن ، فقال له عبد الله أقرأ عليك وعليك أنزل ، قال: ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) ، يقول عبد الله بن مسعود ، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا قال فرأيت عيني رسول الله تهملان.
فليس بصحيح بأن البكاء يدل على ضعف الرجل وخوره ، وأنه من الصفات الخاصة بالنساء. وقد عُرف عن صديق هذه الأمة أنه كان رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. بل قد يبكي الرجل في موطن النعمة المسداة من الله ، كما بكى أبو بكر رضي الله عنه عندما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في خطبته: ((إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله)) يقول راوي الحديث: فعجبنا لبكائه. فالصديق لم تخرج دموعه هنا إلا عندما استشعر حقيقة فقدان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قد قرُب أجله ، فخرجت تلك الدمعة الصادقة تعبر عن نفسها وكان لسان حاله يقول:
أحرَّ البكائين البكاء المولج
وأنت لأذيال الروامس تدرج
فليس بها للصالحين مُعرّج
فتصبح في أثوابها تتبرج
عليك وممدود من الظل سجسج
فليس البكا أن تسفع العين إنما
أتمنعني عني عليك بدمعة
عفاءُ على دار رحلت لغيرها
لمن تستجد الأرض بعدك زينةً
سلام وريحان وروح ورحمة
أيها الأحبة في الله: نعم إننا نبكي أحياناً ، ويمر على جميعنا ، بعض المواقف ، تخرج الدموع أحياناً ، لكن أقولها صريحة لكم: بأن غالب بكائنا إنما على أحوالنا الشخصية ، يبكي أحدنا لو توفي أبوه ، أو ولده ، أو لو جاءه خبر مفرح فمن شدة الفرح يبكي. وكل هذا ليس فيه عيب ، بل من الطبيعي أن البشر يبكون في مثل هذه الحالات.
يقال بأن رجلاً توفي له ولد في زمن الإمام ابن القيم رحمه الله ، فصار هذا الرجل يوزع الحلوى على الناس ويضحك وهو مسرور. فجاءوا يسألون ابن القيم عن حال هذا الرجل وأنه كيف بلغ من قمة الإيمان ، وكمال التسليم أنه لم يتأثر بموت ولده وبل كان يوزع الحلوى ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مات ولده إبراهيم بكى.
يقول ابن القيم فاستشكل ذلك عليّ فسألت شيخنا شيخ الإسلام. فقال شيخ الإسلام إن حال الرسول أكمل وأعلى لأنه جمع بين الرحمة (وهي الدمعة التي خرجت منه) وبين التسليم للقضاء والقدر ، أما هذا فعمله تصنّع ولم تظهر عليه آثار الرحمة.
فالمقصود بأن البكاء الطبيعي في مثل هذه المواطن ليس بعيب وليست منقصة.
لكن البكاء في المواطن التي جاء الشرع بالثناء والمدح لأهلها قليل ومع الأسف ، قليل بين الناس عامة ، وبين الرجال والشباب المؤمنين الأتقياء ، الذين يحملون راية الإسلام ، خاصة.نعم نبكي عند وفاة قريب وفقدان حبيب ، لكن أين شباب الإسلام ، وأين شباب الدعوة الذين يبكون من خشية الله ، تخرج وتنزل دموعهم خوفاً من الله عز وجل. قال البخاري رحمه الله: باب البكاء من خشية الله. ثم ساق حديث السبعة الذين يظلهم الله ، يوم لا ظل إلا ظله ، وذكر منهم ذلك الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه. روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم)).
أين الشباب الذين يبكون وتنهمر دموعهم عند سماع آيات الله الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون.
والله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله.
أين حملة الإسلام الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.
أين الرجال الذين يسمع لصدورهم أزيز كأزيز المرجل إذا ما وقفوا بين يدي الله في الصلاة. من منا يبكي إذا سمع بآلام وجراحات المسلمين في أي مكان من الأرض. كم سمعنا وربما شاهدنا عبر الصور مجازر للمسلمين ، ومذابح للأبرياء شيوخاً وأطفالاً ونساءً ، تدمر على رؤوسهم أحياناً بيوت الله عز وجل.وقليل المتأثر، وأقل من القليل الذي يبكي على هؤلاء.
من منا بكى فرحاً لله عز وجل عندما سمع بنصر للإسلام حُقق هنا أو هناك. نصراً مادياً أو نصراً معنوياً. من الذي يبكي لو فقدت الأمة ، أحد علمائها أو مصلحيها وتأثر حقيقة كما يتأثر لو فقد أحد أهله وأقربائه. أياً كان هذا الفقد ، إما بموت أو بغيره. أين الذي يبكي ويتأثر ويتقطع قلبه ، عندما يرى أو يسمع بأن شريعة الله تحارب ، وأن دين الله يقاوم ، وأن المسلمين يضيق حتى على أنفاسهم الذي يتنفسون ، وطعامهم الذي يأكلون ، وشرابهم الذي يشربون ، وثيابهم الذي يلبسون.وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فاتقوا الله أيها المسلمون ، كفانا قسوةً ، وكفانا غلظة وتحجرا ، نبكي لأمورنا الشخصية ولا نبكي في المواطن التي يفترض في شباب الإسلام أن يكون قدوة لغيرهم فيه.
أيها المسلمون: عندما نطالب الناس بشكل عام ، وشباب المسلمين الدعاة منهم إلى الله بشكل خاص ، أن يبكوا أو حتى يتباكوا على ما مضى من أمثلة فإنا لا نعني ولا نقصد ولا نريد أن يفهم أحد أن الذي نريده هو البكاء فقط ، أو البكاء لأجل البكاء. كأن نجلس في بيوتنا نبكي على مذبحة تحصل للمسلمين ، أو نبكي على فقد وخسارة عالم أو مصلح ، أو نبكي على تضييق للدعوة يحصل في أي مكان من الأرض. فإن هذا غير مقصود ، بل إن هذا لا يجدي ولا يغير من الأمر شيء. لكن نريد أولاً تأثر القلب ، وتحرك الشعور وأن يصاحب ذلك دمعة صادقة فحسن، لكن المهم وهو المطلوب سواء حصل البكاء أم لم يحصل التفاعل مع أحوال المسلمين ، التأثر لواقع الأمة ، والتقديم لخدمة الدين ، أياً كانت هذه الخدمة ، وأياً كان هذا التفاعل ، وكل بحسب طاقته وما أعطاه الله من قدرات وإمكانيات، هذا يقدم مالاً وتبرعاً ، وآخر يساهم بنفسه ووقته ، وثالث يرفع يديه بالدعاء وهكذا. لكن البكاء لوحده ، والبكاء من أجل البكاء فإن هذا لا يفيد ولا يجدي وغير مقصود.
نسألك اللهم أن تعجل بفرج أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: يقول الإمام العلامة ، شمس الدين ابن القيم رحمه الله والبكاء أنواع :
الأول: بكاء الرحمة والرقة.
والثاني: بكاء الخوف والخشية.
والثالث: بكاء المحبة والشوق.
والرابع: بكاء الفرح والسرور.
والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.
والسادس: بكاء الحزن.
والفرق بينه وبين بكاء الخوف أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لما يتوقع من المستقبل من ذلك، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن ، أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن حارة والقلب حزين.
والسابع: بكاء الخور والضعف.
والثامن: بكاء النفاق ، وهو أن تدمع العين والقلب قاسٍ ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.
والتاسع: البكاء المستعار ، والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة. فإنها كما قال عمر بن الخطاب: تبيع عبرتها وتبكي شكو غيرها.
والعاشر: بكاء الموافقة ، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ، ولا يدري لأي شيء يبكون ، ولكن يراهم يبكون فيبكي.
وما كان منه مستدعىً متكلفاً فهو التباكي ، وهو نوعان: محمود ومذموم ، فالمحمود أن يستجلب لرقة القلب ولخشية الله ، لا للرياء والسمعة ، والمذموم: أن يجتلب لأجل الخلق.
وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله ، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائهما. ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك. وقد قال بعض السلف: ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا.
أيها الأحبة في الله: بقيت نقطة أخيرة ، نختم بها هذا الموضوع ، وهو أن بكاء الشخص أحياناً لا يكون دليلاً على صدق حاله أو مقاله. ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة يوسف وجاءوا أباهم عشاءً يبكون فإن أخوة يوسف تصنعوا البكاء ليصدقهم أبوهم ، مع أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون. وهناك من الخلق من يقدرون على ذلك وهو إخراج دموع حقيقية ، لكن كذباً ودجلاً ، وقليل من الناس من يميز صدق هذا من كذبه ، بل إن الغالب في العامة من تخدعه هذه الدموع. كم في الأمة الآن من يتباكى أمام الناس على الإسلام ، ويتكلم باسم الإسلام ، وهي في حقيقتها دموع التماسيح.لكن نقول بأن هذه الدموع وإن انطلت على العوام ، فإن هناك من يبين هذه الأشياء ، كما قال حكيم:
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
يذكر بأنه كان هناك رجل يصطاد العصافير والطيور ، ثم يمسكها ويكسر أرجلها وأجنحتها ثم يتركها، وكان هذا عمله دائماً، وفي إحدى المرات اصطاد مجموعة من هذه العصافير وكان يوماً بارداً ، ومن شدة البرودة وشدة الرياح كانت عيناه تدمعان ، وهو يكسر الأرجل والأجنحة.
فتقول إحدى العصافير لزميلتها وهما ينتظران دورهما في الكسر.
انظري إلى رحمة هذا الرجل ورقة قلبه علينا وكيف أنه يبكي وعيناه تدمعان.
فتجيب الأخرى ، لا تنظري إلى دمعة عيناه ، ولكن انظري إلى ما تفعل يداه.
قال الله تعالى: وجاءوا أباهم عشاءً يبكون.
اللهم آمنا في أوطاننا.
(1/900)
التصوير - 1 -
التوحيد, فقه
أهمية التوحيد, قضايا فقهية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/2/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوحيد وحماية الشارع له من كل ما يؤثر فيه بالنقص.
2- خطورة الصور والتصوير وما كان لها من أثر على فساد قوم نوح عليه السلام وكذلك فساد
النصارى.
3- حكم التصوير وأدلة ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لا توجد قضية اعتنى بها الشرع وتكرر ذكرها بصور شتى في القرآن مثل قضية التوحيد وافراد الله بالعبادة. والتوحيد لا يقبل خدشاً فيه، فأقل شيء يخالفه يؤثر على صفائه ونقائه في قلب المؤمن. ولما كان الأمر كذلك فقد اعتنت الشريعة الحنيفية بالتحذير من كل ما يخدش في هذا التوحيد أو يضعف أثره في القلوب، القلوب التي تعصف بها الشهوات والشبهات، القلوب التي إن لم توحد الله وتخشع له، وتخضع لجلاله فإنها ولا ريب ستخضع لغيره وتذل لسواه، بل وتتعبد له وترق له، وتلهج بذكر مرادها وهواها.
أيها المسلمون: ومن الأمور التي جاء الإسلام بتحريمها والنهي عنها حفظاً وحماية لجناب التوحيد، النهي عن الصور والتصوير مجسماً كان أو غير مجسم. إن الصور والتصوير باب من أبواب هدم التوحيد والايمان في قلوب العالمين. والذي يدل على خطورة الصور والتصوير ما كان لهما من الأثر الكبير في إخراج الناس من عبادة ربهم سبحانه وتعالى إلى عبادة غيره من الانس والجن والملائكة. وظهرت خطورة الصور أول ما ظهرت على قوم نوح عليه الصلاة والسلام. روى ابن جرير بسنده عن محمد بن قيس قال: إن يغوث ويعوق ونسر كانوا قوماً صالحين من بني آدم وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم (تأمل: لو صورناهم) كان أشوق لنا للعبادة إذا ذكرناهم (فالقصد نبيل والنية سليمة لكن انظر للنتيجة) فصوروهم فلما ماتوا - أي هؤلاء المصورين - وجاء آخرون دبّ إليهم ابليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، فعبدوهم. قال عكرمة: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام. فأتى هؤلاء فأفسدوا التوحيد والاسلام وإفراد الله بالعبادة بسبب الصور التي صوروها، وبسبب هذه الصور بعث الله نبيه نوح عليه الصلاة والسلام حتى يرد القوم عن الشرك وعبادة الصور، إلاّ أن التوحيد لما كان ضعيفاً في قلوبهم، وكانت الصور تملأ أبصارهم أنّى اتجهوا وجدوها مزخرفة ومصورة ومجسمة فملأت قلوبهم، فلم يبق فيها ذكر لله عز وجل وسخروا من التوحيد والإسلام الذي جاء به نوح عليه الصلاة والسلام مما حدا بنوح أن يقول: رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً ومكروا مكراً كباراً وقالوا لاتذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً.
والسبب في كل هذا: الصور. إذن: الصور خطيرة على التوحيد والإسلام وهذه مسألة محسوسة في الشريعة، ولاتنظر إلى كثرة الصور في زمانك هذا وانتشارها وتساهل الناس بها فتظن أن الأمر سهل وهين، لا.. لاتجعل الخطأ الذي استمر عليه الكبير وربى عليه الصغير، يرغمك على أن تتنازل عما هو معلوم من دينك بالضرورة. روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن أم سلمة لما رجعت من أرض الحبشة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها "مارية" فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)) [1]. هؤلاء النصارى أصابهم ما أصاب قوم نوح بسبب الصور أيضاً، صوروا على جدران كنائسهم صورة لمريم عليها السلام، وصورة لعيسى عليه السلام، وصورة لروح القدس وصورة للبطرس وهكذا، فوصل بهم الأمر لعبادتهم [2] ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم – زعموا – ثم خلف من بعدهم خلف جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فعبدوها ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. ثم قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث دليل على تحريم الصور [3].
وما تلعّب الشيطان بأمة من الأمم وفتنها بالصور والتعلق بها والإكثار منها والتفنن فيها مثل ما تلعّب بالنصارى، ولهذا كانوا حتى في حروبهم الصليبية المشهورة عندما يهزمون ويطردون من ديار المسلمين فإنهم يذهبون إلى بلادهم فيصورون تماثيل ويقولون لعوامهم حتى يستجيشوا عواطفهم: انظروا هذا محمد يضرب عيسى، زعموا وكذبوا على الله، فيصورون صورة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب عيسى عليه السلام بالعصا، فتتعالى الصرخات الشيطانية والأحوال النصرانية الكفرية عند أولئك الضالين عن توحيد الله وإفراده بالعبودية أيها الأحبة: واليوم لاتوجد كنيسة من كنائس النصارى ولا معبد من معابد اليهود إلا وفيه صوراً مجسمة وصوراً منقوشة على الجدران، فإذا رأتها عيونهم خضعت لها ورقت وبكت، ولهذا حرم الإسلام على المسلم أن يدخول لهذه الأماكن ولو من أجل السياحة كما يقال أو المعرفة أو النظر والمشاهدة، روى البيهقي بسند صحيح عن أسلم مولى عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قدم الشام صنع له رجل من النصارى طعاماً فقال لعمر: إني أحب أن تجيئني وتكرمني أنت وأصحابك، وهو رجل من عظماء الشام، فقال له عمر رضي الله عنه: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها [4].
وإذا نظرت إلى الاسلام وما يأمر به في هذا الباب تجده ينهى كل النهي عن اتخاذ الصور في المساجد، ولهذا لايوجد مسجد من مساجد المسلمين فيه صورة للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد من الصحابة، وذلك لأن هذا سيهدم صرح التوحيد الذي جاء به عليه الصلاة والسلام، ولم تبتل الأمة في سالف الأزمان بكثرة الصور، وأما في هذا الزمان فالصور قد عمّت وطمّت وهذا من غربة الدين والاسلام والسنة. إذن: الصور وانتشارها وكثرتها وكثرة مشاهدتها سبب من أسباب ضعف التوحيد في القلوب وقد يؤدي إلى زواله منها، وأقل أحوالها أن تضرب القلب بالوهن والمرض فتجعله يبحث عما يطفئ غليله، ولهذا تجد الذين تعلقوا بالصور والإدمان على النظر فيها والتلذذ برؤية شكل الصورة تجد هؤلاء من أعظم الناس عذاباً في الدنيا، قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً في الدنيا وأقلهم ثواباً فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لايحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه ويزول أثره من قلبه، وهؤلاء يشبّهون بالسكارى والمجانين كما قيل:
سَكران، سُكر هوىً وسُكر مدامةٍ ومتى إفاقة من به سُكران؟
أيها المسلمون: اعلموا أن الصور والتوحيد ضدان لايجتمعان في قلب امرئٍ فإما أن يتخذ الصور في قلبه محبوباً له، وهذا هو الشرك، وإما أن يتخذ رب العالمين معبوداً محبوباً في قلبه وهذا هو التوحيد والاخلاص. قال شيخ الاسلام: فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وارادته واستكبر عن ذلك فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون هذا الانسان عبداً لذلك المراد المحبوب إما المال وإما الجاه وإما الصور... انتهى.
وبهذا نعلم أن اتخاذ الصور والتعلق بها وحبها أمر لايجتمع معه الايمان بل هو قرين الشرك بالله والسبب هو التعلق بالصور. فالصورة خطيرة يا عبدالله على توحيدك وإيمانك، نعم، لاتظن أنها سهلة، وتقول أتخيفني صورة؟ نعم إن المؤمن لايخاف من ألوف مؤلفة يقابلها لكن يخاف من كل ما قد ينفذ إلى قلبه فيوهنه ويضعفه عن السير إلى ربه.
ألم تر أن العين للقلب رائدٌ فما تألفُ العينان فالقلب آلف
كم من صورة أضلت من نظر إليها وأخرجته من دائرة الايمان إلى دائرة الخسران، كم من صورة فتنت أمماً بدءاً بأمة نوح ومروراً بأمة النصارى وانتهاءً بما نراه ونشاهده من أحوال الناس اليوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كم من صورة ختم على قلب من تعلق بها بخاتمة السوء فلقي ربه بخاتمة سيئة والعياذ بالله والسبب الصور، وإدمان مشاهدتها، والتعلق بها:
قال بن القيم رحمه الله تعالى: "والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوه. ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولابد، مالم يمنع مانع".
يقول الشاعر:
كل الحوداث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والعين أصل عناها فتنه النظر والقلب كل أذاه الشغل بالفكر
كم نظرة نقشت في القلب صورة راح الفؤاد بها فى الأسر والحذر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها فى أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقتله ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور جاء بالضرر
فالقلب يحسد نور العين إذ نظرت والعين تحسده حقا على الفكر
يقول قلبى لعينى كلما نظرت كم تنظرين رماك الله بالسهر
فالعين تورثه هماً فتشغله والقلب بالدمع ينهاها عن النظر
هذان خصمان لا أرضى بحكمهما فأحكم فديتك بين القلب والبصر
أيها المسلمون:
كيف غزا أعداء الملة هذه الأمة في هذا الوقت، بطرق وأساليب شتى من أهم أسلحتهم الصور وما يبثونه من خلال قنواتهم وتدخل بيوتنا وتفعل فيها ما لا تفعله القنابل والدبابات، كم من شاب ضيع دينه وخلقه بسبب ما تعلق بقلبه من الصور التي يشاهدها صباح مساء، كم من فتاة جلبت العار والشنار على أهلها، بسبب ما تعلق بقلبها من الصور لم تتمكن الخلاص منه حتى نحرت عفتها بيدها. وقد أدرك خصوم الشريعة هذه القضية ولهذا أغرقونا بهذه الصور التي لايكاد يسلم منها أحد، حتى في حاجياتك الضرورية التي تشتريها لاخلاص لك من صورها الماجنة والله المستعان.
أيها الأحبة: نتيجة مهمة لابد أن نخرج بها بكل وضوح وهي: أن الصور تمثل خطراً كبيراً على التوحيد والايمان، وعلى أقل أحواله تضعفه وتؤثر فيه، فإذا أدركت هذا علمت السر في تشديد شريعة الاسلام في شأن الصور والمصورين، وفي شأن اتخاذ الصور في البيوت والمكاتب والمحلات والاحتفاظ بها وتعليقها، وقد جاءت الشريعة بعذاب المصور وبالوعيد الشديد لمتخذيها في البيوت، ناهيك عن أحكام كثيرة متعلقة بهذا الأمر سنفصل فيها بإذن الله تعالى كالصلاة في ثياب عليها صور أو الصلاة في أماكن فيها صور وغير ذلك من الأحكام.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
[1] الفتح 1/523
[2] ولعل هذا من الأسباب التي ساعدت على تأصيل ألوهيتهم ، وإنما عبادتهم كانت ابتداءً من النصىرى عن النصارى ، فريق المنبر.
[3] الفتح 1/525.
[4] آداب الزفاف ص 165.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
يها المسلمون: إن التصوير من الكبائر، وليس من الصغائر كما يظن البعض، بل هو من كبائر الإثم التي قال الله فيها: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما فالتصوير من كبائر الإثم والمعاصي وإليك البيان:
أولاً: أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون)). متفق عليه. وكيف يكون عذابهم؟ عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم)) متفق عليه. يقرعون بهذا أمام الخلائق في ذلك اليوم العظيم، أحيوا ما خلقتم، زيادةً لهم في التنكيل والله جل وتعالى أعلم بأنهم عاجزون عن ذلك لكن لزيادة التنكيل بهم. ومن تعذيبه أيضاً أنه يجعل له بكل صورة صورها نفس تعذبه في نار جهنم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)) رواه الشيخان. ولك أن تتأمل يا أخي في قوله صلى الله عليه وسلم بكل صورة صورها، فلو صور في كل يوم عشرة صور فكم يكون في الشهر ثم السنة، ويكون له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم حتى يستوفي هذه الصور كلها.
ثانياً: المصورون ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي حجيفة عن أبيه أنه اشترى غلاماً حجّاماً فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور)) أخرجه البخاري.
ثالثاً: المصورون يوكل بهم عنقاً من النار نسأل الله العافية: ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: انى وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله الها آخر، وبالمصورين.
رابعاً: الملائكة لاتدخل البيوت التي فيها صور: عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخله فعرفت في وجهه الكراهية فقالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسّدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم أحيوا ما خلقتم. ثم قال: إن البيت الذي فيه الصور لاتدخله الملائكة)). متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام قال: ((إنا لاندخل بيتاً فيه كلب ولا صور)) رواه البخاري. والبيت إذا خلى من تواجد الملائكة فيه فلابد أن يكون مأوى للشياطين والأباليس.
خامساً: يجب طمس الصور: أخرج مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)). وعن أسامة قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً فدعا بدلوٍ من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: ((قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون)) أخرجه الطيالسي بسند جيد.
أيها المسلمون: وللبحث صلة وسوف يستوفى بإن الله تعالى في الجمعة القادمة وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.
(1/901)
التصوير – 2 –
فقه
قضايا فقهية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
27/2/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمور التي يتعرض لها مستخدم الصور والمستعمل لها
2- انتشار التصوير في المجتمعات انتشاراً واسعاً
3- أنواع التصوير وأقسامه وحكم كل قسم
4- بعض المسائل النتعلقة بالصور
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
تحدثنا في الجمعة الماضية عن خطورة الصور وعظيم شرها وأنها فتنت أمماً، ورأينا بعض أحوال عشاق الصور ورأينا خطورتها على عبودية القلب من الطمأنينة والانشراح والسعادة وغير ذلك من الأمور القلبية. ورأينا أن التصوير من كبائر الذنوب وأن عقاب المصورين عظيم عند الله وأنه يتنوع، فهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة، ولهم بكل نفس صوروها نفس تعذب في نار جهنم، وتخرج لهم عنق من النار موكلةً بهم، ومن تعذيبهم أنه يقال لهم أحيوا ما خلقتم، لماذا؟ لأن عملية التصوير فيها مضاهاة لخلق الله والله تعالى يقول: تبارك الله أحسن الخالقين وهذه علة مهمة يجب فهمها في بعض حكم تحريم التصوير، حتى ولو قال المصور: أنا لا أقصد أبداً مضاهاة أو مشابهة الله في الخلق.
الجواب: يقال: بأن الشرع دائماً يأتي لسد الذرائع، والشرع يأتي ليحرم أمراً عاماً، قد لا تكون أنت كذلك؟ لكن غيرك كذلك، فكيف نجيز لك ونحرم على غيرك؟ فالشرع يراعي الجميع، فيسد الذرائع والطرق التي توصل للمحرم، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة)). كل هذا يتعلق بالمصور وأما أولئك الذين لا يصورون لكنهم يستخدمون الصور في بيوتهم وشئونهم ويعلقونها في غرفهم فهؤلاء متعرضون لعدة أمور:
الأول: أنهم قد يفتنون بهذه الصور.
الثاني: عدم دخول الملائكة لبيوتهم.
الثالث: وجود الحرج في بعض عباداتهم كالصلاة في غرف معلق فيها صور.
وقد سبق التعليق على بعضها في الجمعة الماضية.
أيها المسلمون: وقبل أن نواصل حديثنا عن الصور والتصوير فهاهنا تعليقان:
الأول: لا تقولوا بأن الوضع قد تغير والحال تبدل، وأن الزمان الآن ليس كالأول، وأن معظم الناس اليوم يستخدمون الصور، لأننا لو نظرنا لكل ما حرم الله بهذه النظرة فإنه وبعد زمن لاتجد أحداً يتورع عن محرم، فالوضع نعم قد تبدل في هذا الزمان وتغير لكن بمقدار معين، وقد ترك بعض الناس شيئاً من الدين، ثم يأتي الجيل الذي بعدنا ويقول نفس الكلام بأن الزمان قد تغير لكنه سيبدأ من حيث انتهينا نحن وسيترك شيئاً من الدين، بحجة أن الوضع قد تبدل، ثم يأتي الجيل الثالث ويترك بعض الدين بحجة تبدل الأحوال وسيبدأ من حيث انتهى الجيل الثاني، وهكذا، وبعد عدة أجيال تجد أنه لم يعد هناك دين، كلما جاء جيل قال: الوضع تغير فيأخذ من الدين ما يعجبه ويوافقه ويترك في المقابل المعلوم من الدين بالضرورة.
التعليق الثاني: إن الحديث عن التصوير ليس كلاماً عن راجح أو مرجوح أو أنها من السنن، لا، وإنما الحديث عن التصوير حديث عن كبيرة من كبائر الذنوب بإجماع المسلمين كما سيمر معنا إن شاء الله تعالى، ويا سبحان الله وصل بنا الحال إلى درجة يكون الحديث فيها عن المحرمات المقطوع بها في ديننا من الغرائب عند المسلمين، وتنبيه الناس على كبائر هم واقعون بها من عجائب ما تحدثهم به والله المستعان.
أيها الأحبة: يكثر التساؤل كل يوم تقريباً عن أحكام التصوير ما يحل منه وما يحرم وخاصة أنه قد أصبح من الأمور التي عمّت بها البلوى وانتشر بها الشر، فانتشار الصور قد أصبح جزءاً من الحياة اليومية لكل بلاد العالم تقريباً ومسكوكة على العملة الذهبية والفضية والمعدنية والورقية، وكذلك الصحف والمجلات التي لايستطيع أن يستغني عنها فرد لمتابعة أخبار الأمم وأحداث العالم تأتي محملة بالصور ظهراً لبطن، والأقمشة والألبسة والمصنوعات ولا تكاد تجد شيئاً يباع بالأسواق في غلاف أو قرطاس إلا وعليه صورة، إضافة إلى أنك لاتستطيع استخراج جواز سفر أو رخصة قيادة إلا بصورة، هذا عدا ما ابتليت به الأمة من نصب الصور والتماثيل في الميادين العامة، فما حكم ذلك كله، وما هي أقوال علماء الأمة في ذلك؟ إليك الجواب:
التصوير أنواع وأقسام:
النوع الأول: تصوير ذوات الأرواح مما له ظل، من الأصنام والتماثيل المجسمة وهو ما يسمى بالنحت، فهذا حرام بإجماع المسلمين سواء عملت هذه الأصنام والتماثيل باليد مباشرة أو باستخدام الآلات، ومما يدخل في هذا النوع أقسام:
منها: النصب التذكارية للعظماء ونحوهم، فتنحت لهم تماثيل وأصنام وتوضع في الميادين العامة والشوارع الرئيسية، فهذا من أكبر المحادة لله ولرسوله، وهناك متاحف في بعض دول أوربا يصنعون هذه الأصنام لحكام ومشاهير العالم من اللاعبين والمغنيين وغيرهم يصنعونها من الشمع وغيره إذا رآها الانسان رأها كأنها حقيقة من دقة نحتهم، فهذه المتاحف لايجوز للمسلم دخولها ولا زيارتها حتى لو قال من أجل السياحة والنظر، وعملهم هذا من أكبر الكبائر.
ويدخل في هذا النوع أيضاً: شعائر أهل الكفر كالصلبان فيحرم تصويرها بل متى ما رآها المسلم وجب عليه أن يزيلها سواء كانت في ثوب اشتراه أو حزام يلبسه أو ساعة أهديت له، ونحو ذلك ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ)) رواه البخاري.
النوع الثاني: تصوير ذوات الأرواح بدون تجسيم لها، وإنما تصور على ورق أو ثوب أو ستارة أو فرش ونحو ذلك، صورة إنسان أو حيوان أو طائر أو حشرات ونحوها، وتصوير هذا له طريقان:
الطريق الأول: أن تصور باليد مباشرةً بدون تدخل أي شيء، وهو ما يسمى بالرسم، فهذا حرام من كبائر الذنوب، وهو الذي كان شائعاً في الزمن الأول قال بتحريمه القاضي ابن العربي والنووي وابن القيم وابن حجر والشوكاني وغيرهم من علماء الأمة المتقدمين، ويكاد يجمع علماء الأمة المعاصرين أيضاً على ذلك. قال ابن القيم رحمه الله: ومن الكبائر تصوير الحيوان سوء كان له ظل أو لم يكن [1].
الطريق الثاني: أن تصور ذوات الأرواح بالآلات، وهو ما يسمى بالتصوير الشمسي أو التصوير الفوتغرافي، وهذا لم يكن موجوداً في الزمان الأول وإنما يعد مما عمت به البلوى في الأزمان المتأخرة، وهذا حكمه حكم التصوير باليد في الحرمة إذ لافرق بين التصوير باليد أو بالآلة، قال بحرمتها الشيخ محمد بن ابراهيم والشيخ عبدالعزيز بن باز ومحدث وعلامة الشام محمد ناصر الدين الألباني وجمع غفير من العلماء في هذا الزمان. قال الامام عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة ما نصه: (ولقد غلط غلطاً فاحشاً من فرق بين التصوير الشمسي والتصوير النحتي وبعبارة أخرى بين التصوير الذي له ظل والذي لا ظل له، لأن الأحاديث الواردة في هذه المسألة تعم النوعين وتنظمها انتظاماً واحداً، ولأن المضار والمفاسد التي في التصوير النحتي وما له ظل مثل المفاسد والأضرار التي في التصوير الشمسي بل التصوير الشمسي أعظم ضرراً وأكثر فساداً من وجوه كثيرة نسأل الله أن يمن علينا وعلى المسلمين بالعافية من النوعين جميعاً وأن يصلح أحوال الأمة. انتهى [2].
وقال رحمه الله في موضع آخر: ولا فرق في هذا بين الصور المجسمة وغيرها من المنقوش في ستر أو قرطاس أو نحوها، ولا بين صور الآدميين وغيرها من كل ذي روح، ولا بين صور الملوك والعلماء وغيرهم بل التحريم في صور الملوك والعلماء ونحوهم من المعظمين أشد لأن الفتنة بهم أعظم ونصب صورهم في المجالس ونحوها وتعظيمها من أعظم وسائل الشرك وعبادة أرباب الصور من دون الله كما وقع ذلك لقوم نوح. انتهى [3].
أيها المسلمون: والعلماء عندما قالوا بحرمة الصور الفوتغرافية أو الصور الشمسية أجازوا للمسلمين استخدام ما لابد منه وما كان في حكم الضرورة كصورة توضع في جواز سفر أو الإقامة، أو أن تحمل الصور وأنت تصلي كالصور التي على النقود مما لاغنى للمسلم عنها، فهذه حكمها حكم أكل الميتة للمضطر. أسأل الله لي ولكم السلامة والعافية، وسيمر معنا فتاوى العلماء بهذا الشأن في حينه.
النوع الثالث من التصوير: تصوير ما لا روح له، وهذا النوع جائز سواء كان باليد أو بالآلات أو بغيرها، فعندك يا عبدالله من ملكوت السموات والأرض الشيء الكثير فلماذا تحصر نفسك في المزالق وتدخل في المضايق، أنج سعد فقد هلك سعيد.
أخي المسلم: إنك لاتعرف من أين تؤتى يوم القيامة، فالعمل قليل والبضاعة مزجاة والسيئات كثيرة، ثم نتجاسر ونورد أنفسنا موارد الهلكات، أخرج الشيخان عن ابن عباس من رواية سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها فقال له أدن مني فدنا منه، ثم قال: أدن مني، فدنا منه، حتى وضع يده على رأسه فقال له أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فتعذبه في جهنم، ثم قال له: إن كنت لابد فاعلاً فاصنع الشجر وما لانفس له)) وفي رواية مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبَّاسٍ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سَمِعْتُهُ يَقُول: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا)) فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ.
النوع الرابع من أنواع التصوير: التصوير المتحرك مما ينقل على الهواء مباشرة أو ما يكون عن طريق أشرطة الفديو أو الكمبيوتر، هذا النوع من التصوير يختلف حكمه عن سابقه، وقد رخص في هذا عدد من العلماء المعاصرين.
فربما تقول ما الفرق هذه الصورة وتلك الصورة بل ربما تكون فتنة هذه أشد لأنها متحركة؟ الجواب: أن العلماء يفرقون بين ما هو ثابت وما ليس بثابت، فكل الصور الثابتة والتي تبقى فهي محرمة سواء بقيت ثابتة في ورق أو في قماش أو على جريدة أو معلق على حائط، وبأي طريقة كان التصوير باليد أو بالآلة، وأما غير الثابت فحكمه يختلف لأنه بمجرد إقفال الشاشة أو الكمبيوتر تذهب الصورة فلا يبقى، وحتى لو فتحت الشريط المصور عليه فإنك لاترى فيها صوراً بل ترى سواداً، وقاس العلماء هذا النوع من التصوير بصورة الشخص عند وقوفه أمام المرآة، فهو يرى صورة لكنها غير ثابتة، فبمجرد أن ينصرف من أمام المرآة تذهب الصورة، ولذا – وانتبهوا لهذا – علماؤنا عندما حرموا إدخال التلفاز في البيوت ومشاهدتها وأفتوا في الدشوش بالحرمة، لم يحرموها من أجل الصور وإنما التحريم من جهة ما يعرض فيها من صور النساء وما يبث فيها من أفلام العشق والغرام والمجون والموسيقى ونحوذلك، فلذا ينبغي التنبه إلى هذا التفريق الدقيق بين ما هو ثابت وما ليس بثابت، وأن من قال من العلماء إلى إباحة هذا النوع من التصوير فله حظ قوي من النظر، ومن ألحق هذا النوع بالأنواع السابقة وحكم عليها بالحرمة. كحكمه على الثابت ولم يفرق بين الثابت وغير الثابت، فلقوله أيضاً والله أعلم حظ من النظر ولا ينكر عليه. لكن القول الأقوى والله أعلم هو التفريق بين ما هو ثابت وما ليس بثابت.
وهذا سؤال ورد للجنة الدائمة يقول السائل: هل يجوز التصوير بالكاميرا "آلة التصوير" وهل يجوز التصوير بالتلفزيون، وهل يجوز مشاهدة التلفزيون وخاصة في الأخبار؟
الجواب: لا يجوز تصوير ذوات الأرواح بالكاميرا أو غيرها من آلات التصوير ولا اقتناء صور ذوات الأرواح ولا الإبقاء عليها إلا لضرورة كالصور التي تكون بالتابعية أو جواز السفر، فيجوز تصويرها والإبقاء عليها للضرورة إليها.
وأما التلفزيون فآلة لا يتعلق بها في نفسها حكم، وإنما يتعلق الحكم باستعمالها، فإن استعملت في محرم كالغناء الماجن وإظهار صور فاتنة وتهريج وكذب وافتراء وإلحاد وقلب للحقائق وإثارة للفتن إلى أمثال ذلك فذلك حرام، وإن استعمل في الخير كقراءة القرآن وإبانة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى أمثال ذلك فذلك جائز، وإن استعمل فيهما – أي في الخير والشر معاً – فالحكم التحريم إن تساوى الأمران، أو غلب جانب الشر فيه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. وقد وقّع على هذه الفتوى الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله [4].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
[1] أعلام الموقعين 4/403
[2] التنوير فيما ورد في حكم التصوير ص 21
[3] التنوير ص 22
[4] فتاوى اللجنة الدائمة 1/458
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
بقي معنا بعض المسائل المتعلقة بالصور والتصوير نلخصها في الآتي: وجميع هذه الأسئلة عرضت على اللجنة الدائمة ووقع على إجاباتها سماحة الامام رحمه الله.
المسألة الأولى: هل تصح الصلاة في الثوب الذي فيه صورة إنسان أو حيوان؟
الجواب: إذا صلى شخص في ثوب فيه صورة إنسان أو حيوان صحت صلاته مع الإثم [1].
المسألة الثانية: هل يجوز الصلاة في بيت على جدرانه صور؟
الجواب: الصلاة في المكان الذي فيه صور غير جائزة إلا للضرورة وهكذا الصلاة في الملابس التي تشتمل على صور لاتجوز لكن لو فعله صحت مع التحريم [2].
المسألة الثالثة: ما حكم شراء المجلات والجرائد المليئة بالصور مع ما فيها من أخبار مهمة؟
الجواب: المجلات والجرائد التي بها أخبار مهمة ومسائل علمية نافعة وبها صور لذوات الأرواح يجوز شراؤها والانتفاع بما فيها من علم مفيد وأخبار مهمة، لأن المقصود منها ما فيها من العلم والأخبار والصور تابعة والحكم يتبع الأصل [3].
المسألة الرابعة: يقول السائل: هناك أمور تقلقني كثيراً ومنها مسألة الصور التي على النقود فقد ابتلينا بها ودخلت المساجد في جيوبنا فهل دخولها إلى المساجد مما يسبب هرب الملائكة عنها فيحرم إدخالها؟ وهل تعتبر من الأشياء الممتهنة؟ ولا تمنع الصور الممتهنة دخول الملائكة إلى البيوت؟
الجواب: صور النقود لست متسبباً فيها وأنت مضطر إلى تملكها وحفظها في بيتك أو حملها معك للانتفاع بها بيعاً وشراءً وهبة وصدقة وتسديد دين ونحو ذلك من المصالح المشروعة فلا حرج عليك وليست ممتهنة بل مصونة تبعاً لصيانة ما هي فيه من النقد وإنما ارتفع الحرج عنك من أجل الضرورة.
المسألة الخامسة: ما حكم الإسلام في تعليق الصور بالحائط أو جدران المنازل؟
تصوير ذوات الأرواح حرام وتعليقها على جدران المنازل حرام لما ثبت في ذلك من الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريمها وتحريم اتخاذها من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)) متفق عليه. وقوله لعلي رضي الله عنه: ((لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)) رواه مسلم [4].
[1] فتاوى اللجنة الدائمة 1/475
[2] فتاوى اللجنة الدائمة 1/486
[3] فتاوى اللجنةالدائمة 1/460
[4] فتاوى اللجنة الدائمة 1/487
(1/902)
التيه
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/8/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة التيه التي حصلت لبني إسرائيل
2- حال بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام وكثرة عنادهم واستكبارهم
3- سبب وقوع التيه باليهود هو نكوصهم عن الجهاد والحكمة من ذلك
4- أنواع التيه، ونوع التيه الذي تعيشه أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذه الأيام والحكمة من
ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: ما هي قصة التيه التي حصلت لبني إسرائيل، اسمع معي أخي المسلم إلى آيات سورة المائدة، وهي تفصل في ذكر تلك القصة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين. تلك هي قصة التيه الذي حصل لبني إسرائيل والذي استمر أربعين سنة يتيهون في الأرض. لقد جرب موسى عليه السلام قومه في مواطن كثيرة، وفي كل مرة ينعم الله عليهم من آلائه يتنكب أولئك القوم، عجيب أمر يهود. جربهم موسى عليه السلام عندما خرجوا من أرض مصر، فلحقهم فرعون وجنوده، فأغرقه الله جل وتعالى، فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم، فيقولون: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه، حتى يتخذ السامري من الذهب عجلا جسداً له خوار، ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون، إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته. وجربهم موسى عليه السلام، عندما فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء،وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغاً، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر أرض الذل بالنسبة لهم، فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها. وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ فذبحوها وما كادوا يفعلون. وجربهم عندما عاد من ميقات ربه، ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده، فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم، ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقاً فوق رؤوسهم وظنوا أنه واقع بهم ، لقد جربهم موسى عليه السلام في مواطن كثيرة، لكن هذا شأن يهود. ثم ها هو معهم في هذه القصة، قصة التيه، وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم وذلك بنجاتهم من فرعون وقومه فخرجوا قاصدين أوطانهم ومساكنهم التي جعلها الله لهم وهي بيت المقدس، وقاربوا وصول بيت المقدس فحصل لهم التيه في الصحراء أربعين سنة. وسببه أن الله فرض عليهم جهاد عدوهم، ليخرجوه من ديارهم التي جعلها الله لهم، فوعظهم موسى عليه السلام، وذكرهم ليثبتوا على الجهاد، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين لكن اليهود هم اليهود، صفاتهم هي هي، الجبن التنصل، النكوص على الأعقاب، نقض الميثاق قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون.
وهنا أيها الأخوة تبدوا جبلة يهود على حقيقتها، الخوف والجبن وضعف الرجولة، وهذا لا يناقض ما هم عليه في هذا الزمان من القوة والتسلط، والسبب في ذلك، أن الذين أمامهم أجبن منهم وأخوف منهم، وأقل رجولة منهم وإلاّ لو واجهوا أشداء وواجهوا رجالاً، لا نكشف حقيقتهم، أما والساحة خالية فإن القط يستأسد، لكن على من على من هو أقل من القط.
وبعد ما كان هذا هو جوابهم لموسى عليه السلام، تكلم رجلان، هذان الرجلان هما اللذان تكلما وسط أولئك القوم ناصحين مرشدين مخوفين بالله مشجعين لقومهم، ومحركين لهم على قتال عدوهم وجهاده، وقد ذكر الله وصفاً لهذين الرجلين، يعد من أهم الصفات المطلوبة في الرجل الناصح المرشد، وصفهم جل وتعالى بأنهما من الذين يخافون الله وهنا تبرز قيمة الإيمان بالله، والخوف منه قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. فهذان الرجلان من الذين يخافون الله، وخوفهم من الله يُنشئ لهم استهانة بالجبارين، إن خوفهم من الله، يرزقهم شجاعة في وجه كل خطر إن الخوف من الله، يزيل الخوف من الناس، فالله جل وتعالى لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين، مخافته جل جلاله، ومخافة الناس الذي يخاف الله، لا يخاف أحداً بعده، ولا يخاف شيئاً سواه، وإذا وجدت في نفسك يا عبدالله خوفاً من أحد، أو خوفاً من موطن، فاعلم بأن نسبة الخوف من الله قلّ وضعف، وهذه معادلة ثابتة، وكلما زاد خوف الله في قلب العبد قل خوفه من غيره. ماذا قال هذان الرجلان، قالا: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. كم كان أولئك القوم في أمس الحاجة لكلمة حق تخرج من ذلك الموطن، وهكذا الزمان، تجد أن الأحوال تصل في بعض الفترات إلى أنه لابد أن ينبري من يتكلم بكلمة الحق يسمعها للناس، وهذان الرجلان قالا: ادخلوا عليهم الباب أي ليس بينكم وبين نصركم عليهم إلا أن تخرموا عليهم، وتدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، وهذه قاعدة في علم القلوب، وفي علم الحروب، فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم، انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم. وبعدها هل نفع النصح في يهود، وهل استجابوا لمقولة ذلك الرجلان، قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ما أشنع هذا الكلام، بل وقوله لنبي وأين؟ في هذا المقام الحرج الضيق الذي قد دعت الحاجة والضرورة فيه إلى نصرة نبي الله موسى عليه السلام، إنا لن ندخلها أبدا وهكذا يكون الجبن، وبعدها تكون الوقاحة من يهود، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، فانا لا نريد ملكا، ولا نريد عزا، ولا نريد أرض الميعاد، ولا نريد بيت المقدس، فكل هذا فليذهب إن كان هناك قتال وجهاد. وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين الأمم، فبنو إسرائيل الخبثاء هذا كان جوابهم وأما بنو إسماعيل الحنفاء فكان جوابهم عندما شاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال يوم بدر قال الصحابة: ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو رضي الله عنه. كما قال الإمام أحمد رحمه فعندما وصل الأمر إلى هذا الحال، وأصبح القوم يتفلتون من التكاليف، ويتجرءون على نبي الله، عندها كان لابد من العقوبة الإلهية، فجعلهم الله جل وتعالى يتيهون في الأرض أربعين سنة لا يهتدون إلى طريق ولا يبقون مكانهم في الصحراء مطمئنين، عجيب هذا العذاب إنه ليس رجل لوحده لكي يتيه في الصحراء وليسوا أفرادا معدودين لا خبرة لهم بطرق وشعاب الصحراء، كانوا أمة كاملة، مجتمعا كاملا بأسره، تاهوا في صحراء سيناء، ولم يكن تيههم يوماً ولا أسبوعاً ولا سنة، بل أربعين سنة، وحصلت لهم أمور عجيبة وخوارق كثيرة كما يقول الحافظ ابن كثير خلال هذه المدة، فقد مات أقوام وولد أقوام، وحصل تظليل بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم، وإخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجر من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا. وهناك نزلت التوراة وشرعت لهم الأحكام ثم كانت وفاة هارون عليه السلام ثم بعده بثلاث سنين وتوفي موسى عليه السلام، أقام الله عليهم يوشع بن نون عليه السلام نبياً من بعد موسى، ومات أكثر بني إسرائيل في تلك الصحراء، في تلك المدة، وهذه عقوبة دنيوية نزلت بيهود، وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة أو دفع عقوبة أعظم منها قد انعقد أسباب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولعل الحكمة والله اعلم كما ذكر ذلك غير واحد من علماء التفسير أنه في خلال هذه الأربعين سنة يموت أكثر الذين قالوا تلك المقالة لموسى عليه السلام، تلك المقولة الصادرة عن قلوب مريضة، قلوب لا صبر لها ولا ثبات. قلوب ألفت الاستعباد لعدوها ترضى أن تكون مستعبده، مقهورة، ولا استعداد لتقديم تضحية لرفع الظلم والذلة، ولكي ينشأ في تلك الصحراء ناشئة جديدة، تربت أجسادها على خشونة الصحراء، وتربت عقولها على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد والذل المانع من السعادة. قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: البعض منا عندما يسمع بكلمة التيه، وربما أول ما يتبادر إلى ذهنه، أن يتيه طفل صغير عن بيت والديه في بعض سكك المدينة، أو يتيه رجل في صحراء، ونحو ذلك لكن قل ما يتفطن الشخص إلى أن الأمم قد تتيه والشعوب قد تتيه والدول قد تتيه.
وأيضا أيها الأحبة: اذا قلنا بعد هذا كله بأن الأمم والشعوب قد تتيه، فإن الذهن ينصف إلى تيه بني إسرائيل، وكيف إن الله عز وجل جعلهم يتيهون في الأرض أربعين سنة، حتى هلك ذلك الجيل وخرج من أصلابهم جيل تم على يديه فتح بيت المقدس، أقول بأن الذهن قد ينصرف إلى هذا النوع من تيه الأمم والدول، وهو التيه الحسي، لكن هناك نوع آخر من التيه، وهو الذي تعيشه أمتنا هذه الأيام، ألا وهو التيه المعنوي، تيه في الأفكار، وتيه في التصورات، وتيه في المشاعر، وتيه في السلوك، وتيه في الأخلاق، وتيه في تعلم العلوم النافعة، وتيه في إصلاح أوضاع المجتمعات، وأنواع أخرى من التيه تعيشه أمتنا، فما تكاد تلتف يمنة ويسرة إلا وتجد التيه والضياع، تيه في مجالات الاقتصاد، وتيه في مجال الاجتماعيات، وتيه في مجال الإدارة، وتيه في مجال السياسة، وتيه في النظم ومجالات أخرى لا عد لها ولا حصر.
أيها الأحبة في الله: يحلل بعض العلماء والمفكرون، ويقولون بأن التيه التي تعيشه أمتنا هذه الأزمان تربية للأمة، فكما أن بنو إسرائيل تربت في التيه، وخرج منهم ذلك الجيل الذي فتح الله على يديه بيت المقدس، فإن التيه التي تعيشه أمتنا، والعلم عند الله تعالى، أنه لنفس الغرض، وهو أن الطاقات الموجودة الآن في العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، ليست مؤهلة لإصلاح الأوضاع، وليست مؤهلة لتحرير الأرض المغتصبة، وليست مؤهلة للارتقاء بالأمة ونزعها من الوحل الذي تعيش فيه. فالأمة بحاجة إلى تربية ولعل التيه الذي تمر به الأمة هذه الأوقات يربي جيلا قادما متكاملا في جميع الجوانب، ويكون الفتح والنصر على يديه. كأنه والله أعلم، أن الطاقات الموجودة الآن في الأمة، بكافة قطاعاتها عاجزة عن التغيير، قاصرة عن العطاء، فلا بد من التيه لسنوات وسنوات، حتى يزول وينتهي هذا الجيل المتهالك، ويخرج الله جيلا قويا معطاءً، تربى في ظلمات هذا التيه، وتحصن عقديا وفكريا وعلميا وخلقيا، يكون الفتح على يديه، ويكون تحرير الأرض على يديه، ويكون الإصلاح الشامل على يديه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وعندما يقال بذهاب هذا الجيل العاجز والقاصر فإن هذا لاينفي وجود عالم أو مفكر أو قائد أو خبير في أي مجال، لكن يبقى هؤلاء آحادا لا يكفون للارتقاء بالأمة، لأن إحداث التغيير لا يكفيه الآحاد، بل يحتاج الى طاقم متكامل في كل مجال، والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين سواء في البوسنة أو فلسطين أو كشمير أو الشيشان أو حتى في المعتقلات، هذا كله والله أعلم قدر الله لإخراج أجيال صلبة قوية، نشأت وتربت في المعارك والحروب فتكون أصلب عودا وأكثر عتادا وأطول نفسا وأكثر وعيا بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله فيتربون كما تربت بنو إسرائيل في ذلك التيه، والنتيجة إن شاء الله ضد مصالح من يخطط لإبادة الإسلام، ولو تعقلوا ما فعلو ذلك، قال الله تعالى: ولوشاء ربك ما فعلوه.
فنسأل الله جل وتعالى أن يهيأ لنا من أمرنا رشدا، اللهم استعملنا في طاعتك ولا تستعملنا في معصيتك.
(1/903)
الحجر
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/11/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة الله تعالى في خلقه وأن كل شيء مسخر له وجند من جنوده 2- استخدام ابراهيم
عليه السلام للحجر في صد الشيطان ووساوسه 3- انفجار الحجر لموسى عليه السلام ليخرج
منه اثنتا عشرة عيناً 4- عقاب قوم لوط بقذفهم بالحجارة بعد إسقاطهم من الأعلى 5- إهلاك
الله أصحاب الفيل بالحجارة 6- أطفال الحجارة في فلسطين 7- فضل الحجر الأسود الذي
يوجد في ركن الكعبة 8- بعض المسائل التي تتعلق بالحجر
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: ولله جنود السموات والأرض. ويقول سبحانه: وما يعلم جنود ربك إلا هو
أيها المسلمون: إن الله جلت قدرته بيده ملكوت كل شيء وبيده مقاليد كل شيء ،كل ما في هذا الكون مسخر لله جل وعلا، بل أن الكون كله جند من جنود الله جل وتعالى، يسخره كيف يشاء.
فالريح مثلاً جند من جنود الله، يهلك الله به من أراد من الأقوام والمجتمعات التي طغت عن أمر ربها وكذبت رسله، قال الله تعالى: فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية.
والماء كذلك جند من جنود الله، أهلك الله جل وعلا بهذا الماء الذي نراه سهلاً يسيراً، عذباً زلالاً، أغرق الله جل وعلا بهذا الماء أقواماً تمردوا على شرع الله، وفسقوا وظلموا فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي من جنوده، فأغرق القوم قال الله تعالى: وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال لاعاصم اليوم من أمر الله إل من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين.
هذا الماء كان وبالاً على الظالمين الكافرين، وكان أيضاً جنداً من جنود الله ووقف في صف الجيوش المسلمة في غزوة بدر إذ يغشيكم الله النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجس الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام.
ومن جنود الله أيضاً أيها الأخوة والذي يكون عوناً من الله تبارك وتعالى للفئة المؤمنة "الحجر".
نعم الحجر يسخره الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده نصراً وتأييداً لهم، وللحجر قصة طويلة عبر التاريخ مع المسلمين والمؤمنين. من قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فلنمضى معكم أيها الأحبة لنتعرف على قصة هذا الحجر.
نبدأ بابراهيم خليل الرحمن عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام حين يلاحقه إبليس محاولاً اقناعه بالتمرد على أمر ربه حين أمره بذبح ولده اسماعيل، محركاً في نفسه عاطفة الأبوة، ماذا فعل ابراهيم عليه السلام؟ التقط حجراً، أخذها من بطحاء مكة وقذفها في وجه الشيطان، ويعاود إبليس المحاولة مرة ثانية وثالثة، في ثلاثة أماكن مختلفة طمعاً في النجاح في إقناع الخليل، لكن ابراهيم عليه السلام يعاود رجمه في كل مرة حتى يأس، ثم تصبح هذه سنة خالدة واجباً يؤديه الحاج في ذلك المكان إلى يوم الدين، اقتداءً بسنة إبراهيم الخليل عليه السلام، وتعبيراً عن العداء الأبدي بين المسلم وبين الشيطان.
ثم مع موسى عليه الصلاة والسلام، طلب موسى صلى الله عليه وسلم من ربه السقيا لقومه وهم في الصحراء، فئة مؤمنة أصابهم العطش وهم في وسط صحراء قاحلة مع نبيهم، فتوجه موسى لله رب العالمين، فيستجيب الله له، ويأمره أن يضرب بعصاه حجراً. فينفجر من ذلك الحجر بأمر الله جل وعلا، اثنتا عشرة عينا، بعدد أسباط بني اسرائيل. فالحجر الذي لايتوقع عاقل أن يخرج منه الماء، يستجيب لأمر خالقه، ويتفجر منه ذلك الماء العذب الغزير كما قال تعالى: وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل اناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
فهل استطاعت عصا موسى إختراق الحجر والنفاذ الى أعماق الأرض وتفجير الماء؟ كلا، فليس ذلك من خواص العصا. أم أن الحجر تأثر بضربة عصا موسى؟ كلا، فليس من صفات الحجر أن يتأثر بضربة عصا، ولكنها قدرة الله ومعجزته سبحانه، يجريها على يد نبيه، فيأمر جل وعلا بكلمة كن، فتتغير خواص الأشياء، ويتفجر ذلك الماء الزلال في تلك الصحراء الجرداء القاحلة من ذلك الحجر الأصم الصلب، بفعل ضربة عصا. وهي العصا نفسها التي ضرب بها موسى البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.
ومع كل هذا تقسو قلوب بني اسرائيل حتى تصبح كالحجارة أو أشد قسوة مع ما رأوا من الآيات البينات، بسبب لجاجتهم والتواء طبعهم ومغالطاتهم ومماحكاتهم المتكررة.
ثم مع قوم لوط عليه السلام، عندما ارتكب قوم لوط تلك الجريمة البشعة التي تنافي الدين والخلق والكرامة والمروءة، تلك الجريمة الشنعاء التي تتعارض مع الفطرة السليمة، ويقال بأن أولئك القوم هم أول من أحدث هذه الفعلة، ولم يكن لها سابق في هذا الأمر، فبعدما دعاهم نبيهم لوط عليه السلام، وحذرهم بل وعرض عليهم بناته لينكحوهم عن طريق الزواج الشرعي، رفضوا الزواج وأصروا على مقارفة الجريمة، أرسل الله ملائكته وأمرهم أن يمطروهم بحجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين، فكانت الحجارة سلاحاً إلهياً فتاكاً ومدمراً في يد الملائكة. قال الله تعالى: ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فانجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين وقال تعالى: قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولايلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد.
ويدور الزمان دورته، ويغزو أبرهة مكة بجيش جرار تتقدمه الفيلة، وهو يريد هدم بيت الله العتيق، ويعجز العرب عن التصدي لهذا الزحف الهائل، أو التحرش به، لضآلة مكانتهم، وتفرقهم الى قبائل متناحرة لايجمعها دين، ولا توحدها عصبية الجنس، ويقفون موقف المترقب العاجز، الذي لايحرك ساكناً، والذي لا يدري ما يفعل، وما يُفعل به ولا ما يراد له، كحالهم هذه الأيام، لايدرون ما يفعلون وما يُفعل بهم، وما يراد لهم، كالريشة في مهب الريح، يقلبها الريح كيف يشاء فلا يجد حيلة زعيم قريش في ذلك الوقت عبدالمطلب، إلا التعلق بأستار الكعبة وهو يردد أرجوزته المشهورة: -
لاهُمّ إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك لايغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
وبعد أن يصل الأمر بقريش مبلغاً عظيماً، حيث بلغت القلوب الحناجر، وشخصت الأبصار، وتركوا الديار وخرجوا من مكة لاحول لهم ولاقوة ولاحيلة. عندها يرسل الله جل وعلا بعضاً من جنوده، طيور تنزل من السماء تحمل حجارة من طين، فترسل هذه الطيور تلك الحجارة الصغيرة، فتنزل على ذلك الجيش كالقنابل فتحرقهم وتتركهم كأوراق الشجر الجافة المحترقة، ويحفظ الله بيته، ويسجل القرآن الكريم وقائع هذه الحادثة في سورة كريمة، يذكّر الناس بأن الكون وما فيه يأتمر بأمر خالقه ويتحرك بمشيئته. ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول [الفيل].
تأملوا رحمكم الله هذه القصة العجيبة، لو لم يخبرنا الله بها في كتابه، ثم جاء أحد وقص علينا هذه القصة، بأن أحجاراً صغيرة يمكن أن تدمر جيشاً جراراً كاملاً بخيله ورجله، ماصدقه أحد، لأننا نعلم ضعف الأحجار الصغيرة أمام قوة الجيوش وعتاد الدول، لكن عندما نعلم بأن هذا الحجر هو الآن جندي من جنود الله يؤثر بأمر الله جل وعلا، ندرك بأنه يمكن بهذه الحجارة فعل الشيء الكثير.
وأظن أنكم تذكرون قبل سنوات، وفي الأرض التي بارك الله فيها، أرض فلسطين التي بيعت بثمن بخس دراهم معدودة، لا شك أنكم سمعتم بأطفال الحجارة، أطفال لم يبلغوا سن الرشد، يقذفون اليهود بالحجارة، بعد أن لم يجدوا حيلة، انتظروا طويلاً نجدة الأهل والعشيرة، ونخوة العروبة والقبيلة، فلم يصلهم منهم سوى عبارات الاستنكار والتنديد، والوعود الجوفاء، وانتظروا المنظمات الدولية، وهيئات حقوق الإنسان، فلم يصلهم منهم أيضاً سوى القرارات الورقية، والوعود الكاذبة، فاذا بهم يلتقطون حجارة من الأرض، يرمون بها اليهود وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى فكانت لتلك الحجارة وقع ودويّ تحدّث عنه الإعلام العالمي في وقته، وخافه اليهود أشد الخوف وهم يملكون القنابل المحرقة والأسلحة الفتاكة، لأن الحجر الآن جندي من جنود الله، مأمورة بأمره، فأثارت الرعب والفزع في نفوس اليهود الجبناء ومن ورائهم من الغرب الصليبي الحاقد، فعقدت مؤتمرات وتحركت المؤسسات ونشطت الدراسات في وقته، لدراسة هذه الظاهرة، حتى تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر أطفال الحجارة، لأنهم يعلمون بأن القضية ليست أحجار في أيدي أطفال، إنها أيد متوضئة مؤمنة، لو تحركت فعلت الأفاعيل، ولو من غير حجارة، والعدو قد جرب المواجهة مع المسلمين الصادقين، ويعلم النتيجة مسبقاً.
سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا
وليس على الله بعزيز أن يهلك هذه العصابة الظالمة المتعدية من يهود بحجارة، كما أهلك أبرهة وجنوده بحجارة الطير الأبابيل.
إن الحجر الذي كان في يوم من الأيام سلاحاً مع اليهود عندما فجّر لهم الماء مع نبيهم موسى وذلك حين كان فيهم بقية من خير، هذا الحجر يصبح اليوم لعنة تطاردهم، وشبحاً يخيفهم، وأخطبوطاً يرعبهم.
وهل ينتهي دور الحجر في مطاردة اليهود عند هذا الحد، لا، إننا نحن المسلمون، لنا جولات قادمة مع اليهود وبالحجر نفسه، وإننا في انتظار حار أن يأتي الوعد الذي أخبرنا به الصادق المصدوق المتحقق بلا شك في نطق الحجر على أرض فلسطين ليدلّ المسلم على مكان اليهودي، ليأتي المسلم فيقتل اليهودي عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ)) رواه البخاي.
سيتعاون الحجر والشجر في إرشاد المسلمين، ودلالتهم على اليهود في أرض فلسطين، وستكون الحجارة من جند الله تعين عباد الله المؤمنين، وتكشف مخابيء اليهود وأماكن إختفائهم وصدق الله العظيم إذ يقول: فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيرا وحينئذ سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وسيعلم الذين قبضوا أي دركات سينزلون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بارك الله لي ولكم... ونفعني وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن أشرف حجر على وجه الأرض الآن هو الحجر الأسود، وهو من أحجار الجنة، وأول ما نزل كان أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحجر الأسود من حجارة الجنة)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((والله ليبعثنه الله يوم القيامة – يعني الحجر – له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق)) حديث صحيح.
إن إماطة حجر من طريق المسلمين لك به صدقة أخرج الترمذي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وارشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، واماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وافراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة)).
إن الحجر يشهد للمؤذن يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني أراك تحب الغنم والبادية، فاذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)).
إن الحجر سيكون أيضاً نوع من عقوبات الله يوم القيامة لنوع خاص من أهل الكبائر وهم أكلة الربا والعياذ بالله ففي حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه عندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ليلة أسري به قال: ((وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فانه آكل الربا)).
أيها المسلمون: قال الله تعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون.
عجباً لقلوب البعض فهي أشد من الحجارة في القسوة، لاتلين لذكر الله ولا تخشع لوحي الله، كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس جبل كل ذلك من خشية الله، والبعض من عباد الله قلوبهم أقسى من الحجر والعياذ بالله، وما الله بغافل عما تعملون.
نسأل الله جل وتعالى أن يلين قلوبنا لذكره وشكره وحسن عبادته..
(1/904)
الحشر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/6/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهيئة التي يحشر عليها الناس، وكيف يحشر المجرمون 2- صفة حشر المتكبرين
3- صفة حشر الذين يسألون الناس وعندهم ما يغنيهم 4- صفة حشر الغال من الغنيمة
أو من الصدقة 5- أن من مات على شيء حشر عليه 6- يحشر المرء مع من أحب
صفة حشر أهل الوضوء والشهداء في سبيل الله 7- أن الله تعالى يحشر جميع الخلائق
حتى الدواب للقصاص بينها، وأن الحشر حشران: حشر في الدنيا وحشر في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى واعلموا أنكم إليه تحشرون.
أيها المسلمون: وبعدما ينفخ في الصور ويقوم الناس لرب العالمين يساق العباد إلى أرض المحشر لفصل القضاء بينهم، ولتجزى كل نفس بما تسعى، فيجزى كل عامل بما يستحق من الجزاء إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من الأحاديث كيف يكون هذا الحشر، وكيف يكون مجيئ الناس لها في هيئات وحالات ومشاهد مختلفة، فبعضهم حسنة وبعضهم قبيحة بحسب ما قدموا من إيمان وكفر وطاعة ومعصية.
ومن تلك الهيئات ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن حالة الناس عند حشرهم وهو أنه سيكون المؤمن والكافر في هيئة واحدة لا عهد لهم بها في الدنيا ولا يتصورون حدوثها ولهذا فقد حصل التساؤل والاستغراب لتلك الحالة كما في الحديث الذي ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحشرون حفاة عراة غرلاً " قالت عائشة: فقلت يا رسول الله: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: " الأمر أشد من أن يهمهم ذاك)) رواه البخاري ومسلم.
فالحشر يكون دون نعل أو خف، ودون ثوب أو لباس، وأيضاً يرجع البشر كهيئتهم يوم وُلدوا حتى إن الغرلة ترجع، وإن كان قد اختتن في الدنيا تحقيقاً لقول الله تعالى: كما بدأنا أول خلق نعيده هذا مشهد من مشاهد الحشر.
مشهد آخر وهو مشهد الكفار، فإنهم سيحشرون والعياذ بالله على هيئة تختلف عن غيرهم وهو أنهم يسحبون في المحشر على وجوههم قال الله تعالى: ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم. قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فأخبر أن الضالين في الدنيا يحشرون يوم القيامة عمياً وبكماً وصما" [1]. قال الله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتُنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: ((أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)) قال قتادة: بلى وعزة ربنا.
إن أمر الآخرة وأحوالها غير أمر الدنيا وأحوالها فكل شيء في الآخرة جديد، ولا عهد للناس به، فهي حياة أخرى لها مميزات وكيفيات لا توجد في الدنيا، وليس على الله بعزيز في أن يمشي الكافر على وجهه هناك كما أنه يمشيه على رجليه هنا، ولله تعالى فوق هذا كله حكم قد ندركها وقد لا ندركها، فإن الكافر في الدنيا كان ذا عتو واستكبار يمشي على رجليه متبختراً معتزاً بنفسه لا يحني رأسه لشيء غير هواه، فلا يعرف التواضع لله في شيء بل كان يستنكف من السجود لربه والخضوع له، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في بيان حكمة هذا المشي حين قال: والحكمة في حشر الكافر على وجهه أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا بأن يسحب على وجهه في القيامة إظهاراً لهوانه بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات. فانتبه يا عبدالله إذا كنت ممن يستكبر أحياناً وتترك السجود لله، فاعلم بأن هذا كفر يوجب أن تسحب على وجهك يوم القيامة في المحشر وبعده الخلود في النار والعياذ بالله.
أيها الأحبة: ومن مشاهد الحشر الأخرى التي وردت في السنة لحشر فئات من الناس صنف من الناس يحشرون في أحقر صفة وأذلها، وهؤلاء هم المتكبرون. فلأنهم في الدنيا يمشون في كبرهم وتبخترهم على الناس، عالية رؤوسهم عن التواضع لله أو لخلقه، هؤلاء المستكبرون ورد في صفة حشرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان)). رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يبعث الله يوم القيامة ناساً في صور الذر يطؤهم الناس بأقدامهم فيقال ما هؤلاء في صور الذر؟ فيقال هؤلاء المتكبرون في الدنيا)). وهذه الحالة المخزية تناسب ما كانوا فيه في الدنيا من تعاظم وغرور بأنفسهم لأنهم كانوا يتصورون أنفسهم أعظم وأجل المخلوقات فجعلهم الله في دار الجزاء أحقر المخلوقات وأصغرها، والجزاء من جنس العمل. قال شيخ الاسلام رحمه الله: فإنهم لما أذلوا عباد الله أذلهم الله لعباده كما أن من تواضع لله رفعه الله [2].
ومن مشاهد الحشر التي تشاهد يوم القيامة مشهد أولئك السائلين المتسولين الذين يسألون الناس وعندهم ما يغنيهم، هؤلاء يأتون يوم القيامة للحشر وفي وجوههم خموش أو كدوح، ومنهم من يأتي وليس في وجهه مُزعة لحم، يعرفهم الناس كلُهم. عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم)) رواه البخاري. وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل وله ما يغنيه جاءت خموشاً أو كدوحاً في وجهه يوم القيامة)) أخرجه النسائي.
أيها المسلمون: ومن مشاهد الحشر أيضاً مشهد أولئك الذين يأخذون من الغنائم وهي من أموال المسلمين العامة، هؤلاء يحشرون في هيئة تشهد عليهم بالخيانة والغلول أمام الخلق أجمعين، فمن غل شيئاً في حياته ولم يرجعه أو يتوب منه فسيظهره الله يوم الحشر وسيشهر به أمام الناس زيادة للنكاية به يحمل ما غل على ظهره قال الله تعالى: وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون قال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم مغنماً بعث منادياً: ((ألا لا يغلنّ رجل مخيطاً فما دونه، ألا لا يغلنّ رجل بعيراً فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء، ألا لا يغلنّ رجل فرساً فيأتي به على ظهره يوم القيامة، له حمحمة)). وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعياً ثم قال: ((انطلق أبا مسعود لا ألفينّك يوم القيامة تجيئ وعلى ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته قال: إذاً لا أنطلق، قال: إذاً لا أكرهك)). أخرجه أبو داود. وقد ذكر بعض أهل العلم بأن المرء يبعث ويحشر يوم القيامة على ما مات عليه من خير أو شر، فالزامر يأتي يوم القيامة بمزماره، والسكران بقدحه، والمؤذن يؤذن، ونحوذلك. نسأل الله حسن الختام. قال الله تعالى: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً. وقال سبحانه: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم وهذا يشمل الطائعين والعاصين كما قال سبحانه: وإذا النفوس زوجت أي قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره، فقرن بين المتحابين في الله في الجنة وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان، في الجحيم فالمرء مع من أحب شاء أو أبى وفي المستدرك للحاكم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحب المرء قوماً إلا حشر معهم)). قال شيخ الاسلام رحمه الله وقد نَقل عن قتادة في تفسير قوله تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم قال: فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وكل كافر معه شيطانه في سلسلة، الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح، ويلحق كل امرئ بشيعته، اليهودي مع اليهود، والنصراني مع النصارى، وأعوان الظلمة كما جاء في الأثر: إذا كان يوم القيامة قيل أين الظلمة وأعوانهم فيجمعون في توابيت من نار، ثم يقذف بهم في النار. وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم ولو برى لهم قلماً، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. فيحشر كل مرء مع صاحب عمله حتى إن الرجل يحب القوم فيحشر معهم كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: ((الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال: المرء مع من أحب)). وقال: ((الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)). وقال: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) [3]. فنسأل الله تعالى أن يحشرنا مع النبين والصديقين والشهداء والصالحين بحبنا إياهم وإن لم نعمل مثلهم.
أيها المسلمون: ومن مشاهد الحشر لأهل الطاعات أهل الوضوء الذين يحشرون غراً محجلين كرامة من الله تعالى لأوليائه وأحبائه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن من أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)) رواه البخاري.
وهناك مشهد الشهداء في سبيل الله فإنهم يحشرون ودمائهم تسيل عليهم. كهيئتها يوم جرحت في الدنيا تفجر دماً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله ثم تكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دماً، اللون لون دم والعرف عرف المسك)) رواه مسلم. وهذا إكرام لهم وبيان لمزاياهم وتشهيراً بمواقفهم وعلو مقامهم عند الله تعالى. قال النووي رحمه الله تعالى: والحكمة في مجيئه يوم القيامة على هيئته أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة الله تعالى.
فاتقوا الله تعالى عباد الله فإن موقف الحشر موقف مكروب ذليل يثير الفزع والخوف، فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد، وفؤاده مضطرب، ولبه طائر، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تنتفض، ولونه متغير، ولسانه وشفتاه قد نشَف، وقد عض على يديه، والعالم والجو عليه مظلم، وضاق عليه أرض المحشر كأضيق من سَمّ الخِياط، مملوء من الرعب والخجل من علام الغيوب ومن الناس وقد أتي يتخطى رقاب الناس ويخترق الصفوف، يقاد كما يقاد الفرس المجنوب وقد رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتهِيَ به إلى عرش الرحمن، فرموه من أيديهم، وناداه الله سبحانه وتعالى فدنى بقلب محزون خائف وجل، وطرف خاشع ذليل، وفؤاده متحطم متكسر، وأعطي كتابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فكم من فاحشة نسيها فتذكّرها، وكم من ساعة قتلها عند منكر، وكم من ليلة أضاعها عند ملهى، وكم من ريال أنفقه في المعاصي، وكم من صلاة تأخر عنها وهو غير معذور، وكم من زكاة تهاون بها، وكم من صيام جرحه بغيبة أو كذب، وكم من أعراض تكلم فيها ولحوم مزقها، وكم من جيران تأذوا بمجاورته، وكم من مخالطة له أوقعته في المعاصي، وكم من أرحام قطعهم، وكم من مسلم غشّه، وكم من حقوق لخلق الله تناساها، وكم من أسرار تسمّعها لم يؤذن له، وكم من محرم نظر إليها بعينيه، وكم وكم وكم.. فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله، وبأي لسان يجيب، وبأي قلب بعقل ما يقول، وبأي يد يتناول كتابه، بل وبأي عين ينظر لرب العالمين: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً.
[1] الفتاوى 18/175
[2] الفتاوى 28/120
[3] الفتاوى 7/63-64
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن هذا الحشر ليس خاصاً بالإنس، بل سيحشر الإنس والجن بل وحتى البهائم والحيوانات والطيور قال الله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون وقال تعالى: وإذا الوحوش حشرت وقال سبحانه: ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير وعند الإمام أحمد من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً وشاتان تقترنان فنطحت إحداهما الأخرى، فأجهضتها قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((عجبت لها، والذي نفسي بيده ليقادنّ لها يوم القيامة)). قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وحشر الجن والإنس والدواب والوحوش فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء تنطحها فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها: كوني تراباً فيراها الكافر فيقول: يا ليتني كنت تراباً.
وأول من يحشر هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث تنشق عنه الأرض قبل كل مخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه القبر)) راوه مسلم.
أيها الأحبة: اعلموا أن الحشر حشران: حشر في الدنيا وحشر في الآخرة. أما حشر الدنيا فسيكون عن طريق النار التي تخرج من عدن تحشر الناس إلى أرض الشام روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشام أرض المحشر والمنشر)). وعند الامام أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ يَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرَضُوهُمْ تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ تَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ)).
والسبب في كون أرض الشام هي أرض المحشر هو أنه عندما تقع الفتن في آخر الزمان تكون أرض الشام هي محل الأمن والأمان. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ)) رواه الامام أحمد بسند صحيح.
وأما حشر الآخرة فإنه يكون يوم القيامة بعد بعث الناس من القبور. ويكون الحشر لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، يحشرون حفاة عراة غرلاً بهماً كما بدأنا أول خلق نعيده. وسيكون هذا الحشر في أرض أخرى غير هذه الأرض قال الله تعالى: يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة هذه الأرض الجديدة التي يكون عليها الحشر فقال كما في حديث سهل بن سعد عند البخاري: ((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد)). قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: تبدل الأرض أرضاً كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة.
(1/905)
الحوض
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
27/5/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثبوت الحوض يوم القيامة والأدلة على ذلك وأن لكل نبي حوض
2- صفة حوض النبي صلى الله عليه وسلم
3- الحرص على الابتعاد عن الأسباب التي تمنع الورود على الحوض
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
من عقيدتنا في يوم القيامة أن فيه حوضاً يُنصب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع السلف على هذا، وآمن به المؤمنون (كل من عند ربنا).
قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لكل نبي حوضاً، ,وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني أرجوا أن أكون أكثرهم وارداً)) وفي حديث آخر: ((إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحاباً من أمته، فأرجوا أن أكون يومئذٍ أكثرهم كلهم وارداً، وإن كل رجل منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصاً يدعو من عرف من أمته، ولكل أمة سيما يعرفهم بها نبيهم))
أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث النضر بن أنس عن أنس قال: سألت رسول الله أن يشفع لي؟ فقال: ((أنا فاعل. فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الميزان. قلت: فإن لم ألقك؟ قال: أنا عند الحوض)). الفتح 11/466.
إذا خرج الناس من قبورهم، واذا أذن الله للأجساد الميتة أن تبعث مرة أخرى يوم القيامة، خرج الناس من القبور، مغبرّة رؤوسهم، حافية أقدامهم، عارية أجسادهم فيحشرون في الموقف، والشمس تكون قريبة من رؤوسهم بقدر ميل، فيصيبهم من العطش ما يصيبهم، أحوج ما يكونون الى شربة ماء يروون بها ظمأهم، فيكون هناك الحوض في أرض المحشر.
الحوض مكرمة ومنّة عظيمة للرسول صلى الله عليه وسلم، ليواصل المؤمنون به الشرب الحسي كما شربوا في الدنيا الشرب المعنوي من الاهتداء والاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولا يشرب ذلك الشرب الحسي في عرصات القيامة إلا من شرب الشرب المعنوي في الدنيا، وإلا فإنه يذاد عنه ويطرد جزاءً وفاقاً.
الحوض أيها الأحبة: منّة الله على رسوله في الآخرة. هو الذي قال الله فيه: إنا أعطيناك الكوثر والكوثر نهر في الجنة، يصب منه ميزابان يشخبان في حوض النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة ليصب فيه الماء من النهر الذي داخلها. الفتح 11/466.
أيها المسلمون: وعندما يقل نور النبوة ويخبو في الناس ينسى الناس أمثال هذه الأحاديث، ومثل هذه العقائد. فقد حصل السؤال عن الحوض في عهد الصحابة، وأنكره بعضهم لأنهم لم يسمعوا به عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دخل أبو برزة الأسلمي على عبيد الله بن زياد، فقال له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال أبو برزة: نعم، لا مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثاً، ولا أربعاً، ولا خمساً، فمن كذّب به فلا سقاه الله منه. الفتح 11/467.
وعن أنس قال: دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض، فقلت: لقد كانت عجائز بالمدينة كثيراً ما يسألن ربهنّ أن يسقيهنّ من حوض نبيهنّ. الفتح 11/468.
وكان أنس يقول: ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم ينكر الحوض.
هذا في عهد من بقي من الصحابة، فما تظن الناس اليوم تعرف عنه؟ ولو عرفت فماذا أعدّت لتلك الساعة ولتلك اللحظة؟!.
يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث عن صفة هذا الحوض فهل لك أن ترعني سمعك بقلب حاضر وأنت تسمع هذه الأحاديث؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن حوضي أبعد من أيلة (بلدة بالشام) من عدن، لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصُد الناس عنه كما يصُد الرجل إبل الناس عن حوضه)).
((أولُ الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوساً، الدُنُس ثياباً، الذين لاينكحون المنعّمات، ولا تفتح لهم السُدد، الذين يعطُون الحق الذي عليهم، ولا يعطَون الذي لهم)).
((إن في حوضي من الأباريق بعدد نجوم السماء)).
((حوضي كما بين صنعاء والمدينة، فيه الآنية مثل الكواكب)).
((حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منه فلا يظمأ أبداً)).
((الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طائر أعناقها مثل أعناق الجُزُر، آكلُها أنعمُ منها)).
((الكوثر حافاتاه من ذهب، ومجراه على الدرّ والياقوت)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((بينما أنا أسير في الجنة اذا أنا بنهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك أُذفر)).
قالت عائشة: نهر في الجنة ليس أحد يُدخل أصبعه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر قال ابن القيم: وهذا معناه والله أعلم أن خرير ذلك النهر يشبه الخرير الذي يسمعه حين يدخل أصبعيه في أذنيه. شرح السفاريني 2/204.
أيها المسلمون المؤمنون: إنها صفات تسلب العقل، وتثير الايمان، وتجدد العهد مع الله، والمؤمن الصادق إذا سمع بمثل هذه الأحاديث عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، اشتاقت نفسه إليه، وعملت كل ما تستطيع حتى تشرب منه، شربة هنيئة تنالها من يد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الحوض موعدنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم. الحوض مأوى أهل الإيمان قبل دخول الجنة. الحوض يُروى عنده الظمأى. الحوض يَأمن عنده الخائفون، ويَسعد عنده المحزونون. الحوض يقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعليّ، وبقية الصحب الكرام. الحوض يقف عليه سادات الأمة وعلماؤها. الحوض يرتوي منه مصلحو الأمة ودعاتها. الحوض بداية فرح المؤمن في الآخرة، لأنه لا يرده إلاّ وقد نجى من هولٍ عظيم وكربٍ جسيم.
أخي الحبيب: ماذا أعددّت للحوض؟ وماذا أعددّت للقيا الحبيب صلى الله عليه وسلم على الحوض؟ أتعلم أنه يُطردُ أناس عن ذلك الحوض؟ أتعلم أن الحوض حرام الشرب منه لأهل الحدث والفجور؟ أتعلم أن الحوض لا يرده إلا المؤمنون الصادقون؟ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إني لكم فَرَط على الحوض، فإيّاي، لا يأتين أحدكم فيذب عني كما يذب البعير الضال، فأقول: فيم هذا؟ فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقاً)) رواه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إني فرطكم على الحوض، من مرّ بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ أقوام، أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً، لمن بدّل بعدي)).
قال العلماء: كل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه بما لا يرضاه الله ولم يأذن به، فهو من المطرودين عن الحوض، وأشدهم طرداً المبتدعة الذين يطعنون في الصحابة ويسبونهم، فهؤلاء مبدّلون لدين الله، محدثون في دين الله بما لا يرضاه الله، ولم يأذن به، وكذلك الظلمة المسرفون في الظلم والجور، وطمس الحق وإذلال أهله، وكذلك المعلنون بكبائر الذنوب، المجاهرون بها، الذين لايستحون من الناس، ولا يستحون من الله.
قال ابن عبدالبر رحمه الله: (كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء) وقال: (وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق المعلنون بالكبائر).
وقال القرطبي رحمه الله: (إن أشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم، كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدّلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع) انتهى.
فيا أخي الحبيب، إن الأمر جد إنه لقول فصل وما هو بالهزل من كان على بدعة فلينتبه، ومن كان مجاهراً بكبيرة فلينتبه، ومن كان مصراً على معصية فلينتبه. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ ناس دوني فأقول: يارب مني ومن أمتي، فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) فكان ابن أبي مليكة يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا. رواه البخاري.
رحماك ثم رحماك يارب: فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم.
كيف بك يا عبدالله وفي ذلك الموقف لو علم بك النبي صلى الله عليه وسلم أنك قد عملت بعده أشياء وأشياء.
كيف لو علم أن أشخاصاً بأعيانهم من أمته صار يأكل الربا كما يأكل الطعام. هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم.
كيف لو علم أن من أمته وفي بيوت المصلين منهم يعرض الزنا والخنا والفجور، بل والكفر بالله عز وجل عبر هذه القنوات الفضائية، وهل بعد إدخال الدشوش في البيوت والتساهل في أمره من إحداث، هل شعرت ما عملوا بعدك؟ والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم. ألا تخشى يا عبدالله أن تطرد عن الحوض يوم العطش الأكبر بسبب ما عملت يداك.
ثم إن أهل البدع عامتهم مطرودون عن الحوض، لأنه يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك. وقد قال هو صلوات ربي وسلامه عليه: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
فاحذر أخي المسلم من البدع، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ومن شؤم البدع أن الله حجب التوبة عن صاحبها كما ورد بذلك الحديث. وذلك لأن البدعة تحلو في عين صاحبها، ويرى أنه يقوم بعمل جليل، فاحذر أيها المسلم من البدع وأهلها، واهجرهم هجراً جميلا.
ومن بلايا هذا الزمان، أن البعض قد يبتلى بالعمل مع المبتدعة، إما رئيساً أو مرؤوساً أو قريناً في العمل، وهم أنجاس أرجاس، مطرودون عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فاحذرهم أخي المسلم، وقل: لكم دينكم ولي دين.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المؤمنون: ويوم القيامة يوضع منبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يخطب عليه في الدنيا على حوضه. قال عليه الصلاة والسلام: ((ومنبري على حوضي)) رواه البخاري فتأمل ذلك الجلال وانظر إلى هذه المعاني التي تزيد المؤمن إيمانا.
وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم البقيع فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا قد رأينا إخواننا؟ فقالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين لم يأتوا بعد. قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك؟ قال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غرّ محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى. قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادنّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً)).
أهل الوضوء والصلاة يردون على النبي صلى الله عليه وسلم في حوضه، وتاركوا الصلاة لايردون، لأن تاركي الصلاة لايكونون غراً محجلين، كيف تكون لهم علامة التحجيل وهم لايصلون؟.
إن المحافظة على الوضوء والصلاة من مبشرات المرء للورود على الحوض، وهذا يدل على النجاة من جهنم وشرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحافظ على الوضوء الا مؤمن)). فالمحافظة على الوضوء من صفات أهل الايمان. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الايمان)).
إنها أعمال ربما استقلها العبد، لكنها الفلاح والنجاح، اذا أردت الفوز بالجنة والورود على الحوض وعدم الطرد عنه، فحافظ على الوضوء، وصلِ الصلاة المفروضة مع الجماعة، وابتعد عن البدع، فلا سلامة إلا بذلك.
أيها الأحبة في الله:
لقد كان الحوض موعداً لكل متظلم لايجد من ينصفه من خصمه، وكان الحوض موعداً لكل من لا يؤدى إليه حقه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للصحابة في آخر حياته كما في صحيح البخاري: ((إني فرطٌ لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني لأنظر الى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها)).
قد ترى أنك لم تُنصف في الدنيا، ولم تأخذ حقوقك كاملة، وهذا طبع في الناس، يرون الذي لهم وينسون الذي عليهم، يريدون من الدنيا أن تطبع على غير هذا. وهي كما قال الشاعر:
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
ومتكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار
إصبر يا عبدالله، فإن موعدك الحوض، يا من تشعر بأنك مظلوم، فاصبر فإن موعدك الحوض، يا من تحس بحرارة التمسك بالسنة في هذا الزمان اصبر فإن موعدك الحوض، ومع أول شربة من حوض النبي صلى الله عليه وسلم تنسى كل ما مرّ بك من المظالم والنقائص.
اللهم نسألك شربة هنيئة من حوض نبينا لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم رحمة اهد بها قلوبنا.
(1/906)
الدعوة إلى الله
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/10/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبدء دعوته إلى الإسلام
2- أساليب المشركين في الصد عن الدعوة والبعد عنها
3- إيذاء المشركين للمؤمنين وصبر المؤمنين على ذلك وذكر أمثلة على ذلك ومنها قصة خبيب
بن عدي رضي الله عنه 4- استمرار الدعوة إلى أن كتب الله لها النصر 5- توجيه كل مسلم
حول واجبه نحو الدعوة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جبال مكة ، في واد غير ذي زرع ، من عند بيت الله المحرم ثم ترعرع ذلك الغلام ، ومضت الأيام تلو الأيام ، والشهور تلو الشهور ، والسنين تلو السنين ، حتى بلغ ذلك الغلام 40 سنة ، فإذا بأمر غريب يحصل له ، يقلب عليه حياته كلها ، يأتيه الوحي من السماء ، ليكون رسول هذه الأمة ، فيفزع من الأمر أول مرة ، ثم يعلم بعد ذلك بتطمين خديجة له من جانب ، وقول ورقة بن نوفل له من جانب آخر ، فيأخذ أمر ربه ، ويصبح بعدها نبي ورسول هذه الأمة.
ذلك الغلام الذي منذ نعومة أظفاره ، وهو يترعرع في فجاج مكة ، ويمشي في أزقتها ، كان يعرف عند قومه منذ صغره بالصدق والأمانة ، فكانت له شخصية ، وكسب شعبية ، بأخلاقه الكريمة وإنك لعلى خلق عظيم ، فلما كلفه ربه بتبليغ رسالته ، وأن يصدع بالحق فاصدع بما تؤمر أعرض عن المشركين دعاهم إلى الإسلام ، واستنكر القوم هذه الدعوة ، واستغربوا هذا الأسلوب الجديد الذي لا عهد لهم به ، والرسول ينادي فيهم: ((قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) فأدرك القوم معنى هذه الكلمة ، وأنها تعني القضاء على آلهتهم والقضاء عليها يقضي على نفوذهم الواسع وسلطانهم الجاهلي.
فلما كان لصاحب الدعوة من المكانة في أنفسهم سابقاً ، لم يتجرأوا في أول الأمر على قتله ، وقتل دعوته في مهدها ، بل اتبعوا أساليب شتى قبل قرار القتل ، فعرضوا عليه المال والجاه والرياسة ، ولم ينجح العرض إذ رأوا أنه ليس لديه أدنى ميل إلى هذه الأمور التي يرونها عظيمة ، فعمدوا إلى أسلوب خسيس يريدون به تدمير أعصاب الرسل – لو استطاعوا – والقضاء على الروح المعنوية العالية فأخذوا يقترحون اقتراحات ساخرة ، يحدثنا القرآن عن شيء من ذلك ، فيقول: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه ولما لم ينجح هذا الأسلوب أيضا ، أخذوا يفترون على من سموه من قبل الصادق الأمين ، ويلقبونه بألقاب مفتريات ، ويشيعون ضد الدعوة إشاعات ، هم يعلمون عدم صحتها قبل غيرهم ، ولم يتركوا باباً من المكر والمكيدة إلا طرقوه ، وها هو القرآن يحدثنا عن مكرهم: وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال. ولما لم تنجح جميع الوسائل التي أشرنا إليها من عرض المال ، والرياسة ، والسخرية ، والشائعات ، والافتراءات وهي ما يسمونه بالحرب النفسية لجأ القوم إلى الحرب الحسية ينالون بها من صاحب الرسالة وأصحابه ، فجروا أحقادهم ، فعقدت جلسة خاصة ومهمة ، لسادات قريش في الحِجر ، واستعرضوا الموقف ودرسوه ، وعددوا ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام ، وما قال في حقهم وفي حق آلهتم ، قالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا وشتم آباءنا ، وعاب ديننا إلى آخر ما عددوه.
ومن باب الموافقة أن يمر بهم النبي عليه الصلاة والسلام ، وهم يتحدثون في أمره.فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به من كل جانب وصاحوا به قائلين: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ فيجيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ، بكل ثقة وثبات:نعم أنا أقول كذا وكذا. وأرادوا قتله فأدركهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وانبرى للدفاع عنه ، فأخذ يدفع هذا ، ويجع هذا في بطنه ، وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ ولما أعجزتهم جميع الحيل ، عقدوا مؤتمراً خطيراً في زعمهم في الأيام التي أخذ المسلمون يهاجرون فيها إلى المدينة ، وظنوا أن الفرصة سانحة فلا تفوت ، ومن الاقتراحات المهمة التي طرحت على بساط البحث والمناقشة للتخلص من النبي ودعوته هي الآتية:
1 – أن يسجن سجناً مؤبداً ولا يفك.
2 – أن يقتل على أيدي عدد من شباب قريش ينتخبون من عدة قبائل ليتفرق دمه بين القبائل.
3 – أن ينفى من البلد.
ولما وضعوا خطتهم وحزبوا أمرهم ، كشف الله السميع القريب أسرار مؤتمرهم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين هذا ، وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيد محمداً عليه الصلاة والسلام وصحبه إلا صلابة وتصميماً ، تصميماً في المضي مهما كانت التضحيات. وفي الوقت الذي كانوا يؤذونه عليه الصلاة والسلام، هذا الإيذاء كانوا يؤذون المؤمنين به ويعذبونهم بألوان العذاب ، وقد سجل التاريخ ما فعل أمية بن خلف ببلال الحبشي في بطحاء مكة ليكفر بمحمد ، ويعبد اللات والعزى، ولا يزيد بلال على قوله: أحد أحد. وهو تحت الصخرة ، ولكن إيمانه كان أعظم وأثبت ، وكانت هذه الكلمة من بلال تعني الهتاف بلا إله إلا الله ، وقل هو الله أحد.
وفي مكان آخر من مكة أيضاً نرى آل ياسر يعذبون ويفتنون ليكفروا بالإسلام ، ويعبدوا اللات والعزى ، ويموت الأب وهو شيخ كبير تحت التعذيب من توه.
أما الأم الشجاعة فقد أغلظت القول على أبي جهل ، فطعنها لشدة جهله برمحه ، فقتلها فهي أول شهيدة في الإسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بآل ياسر ، وهم يعذبون فيقول لهم: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
وقد شهدت أيام النبوة أبطالاً خلد التاريخ بطولتهم وشجاعتهم وثباتهم على عقيدتهم مهما كلفهم ذلك من الثمن ، ولو كان الثمن إزهاق أرواحهم الطاهرة فلنتخذ منهم خبيب بن عدي كمثال فقط لندرك أثر العقيدة في نفوسهم.
خبيب أحد الذين بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بعض القبائل التي تسكن بين مكة والمدينة ، وهي قبيلة عضل وما جاورها من القبائل فبينما هو في طريقه اعتقل ثم حمل إلى مكة، وباعه المجرمون لبني الحارث بن عامر بن نوفل ، ليقتلوه بحارث بن عامر الذي قتله خبيب يوم بدر ، وفي اليوم المحدد لقتله خرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه في الحل بعد أن يصلبوه ، فاستأذن منهم ليصلي ركعتين ، يناجي فيهما ربه ، وهو ساجد فأذنوا له ، فصلى ركعتين حسنتين ، فلما فرغ أقبل عليهم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنني لجزع من الموت لاستكثرت ، أو أطلت فرفع خبيب على الخشبة فقيل ارجع عن الإسلام نخلِ سبيلك ، فقال: لا والله ، ما أحب أن أرجع عن الإسلام ، وأن لي ما في الدنيا جميعاً ، وله دعوة مستجابة على الكفار في هذه المناسبة في كتب السير وكتب الحديث ولا نطيل بذكرها.
ومما قاله خبيب وهو معلق مصلوب (اللهم إني لا أرى إلا وجه العدو، اللهم أنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، بلغه عني أنت) فبلغ جبريل سلامه إلى النبي فأخبره النبي أصحابه.
قبائلهم واستجمعوا كل مُجمعِ
عليّ لأني في وصال بمضبع
وقربت من جذع طويل ممنع
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فقد بضعوا الحمى وقد يأس مطمعي
وقد هملت عيناني من غير مجزع
ولكن حذاري جسم ،ـار ملفع
على أي جنب كان في الله مصرعي
يبارك على أوصال شلو ممزع
ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا
وكلهم مبدٍ للعداوة جاهد
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي
فيارب صبرني على ما يراد بي
وقد خيروني الكفر والموت دونه
وما بي حذار الموت إني لميت
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
ولست بمبدٍ للعدو تخشعاً
فأخذوا يمزقون جلده أشلاء برماحهم وهو يترنم بأبياته المشهورة التي منها:
وفي وسط هذه المحن والمشاكل المحزنة أظهر الله دينه ، وقويت شوكته وأعز الله أتباعه حتى قامت له دولة في طيبة فطابت لأتباعه ، وطاب مقامهم بها ، فجعل الرسول عليه الصلاة والسلام يستقبل الوفود تلو الوفود ، وهم يدخلون في الإسلام ويسألون عن تعاليمه ، وفي الوقت نفسه يرسل جيشه إلى الأطراف ، ليدعو إلى الله بالتي هي أحسن أولاً ، وللمعاند السيف ، هكذا أظهر الله الإسلام وأعز أهله ، ولو كره الكافرون.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وقافلة الدعوة تسير، ثم سلم الرسول الزمام لرجال أمناء تسلموا الدعوة وساروا بها سيرتها الأولى لم يغيروا ولم يبدلوا ، فأخذوا يفتحون القلوب قبل أن يفتحوا البلاد، فأقبل الناس على الإسلام محبة وتقديراً لحملته لما رأوا فيه الرحمة والإنصاف والعدل وعدم التناقض ، وهي الصفات التي جعلت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً.
هكذا مثل الإسلام أصحابُ رسول الله وأتباعهم وحببوه إلى الناس ثم انتهت تلك القرون التي هي بحق خير هذه الأمة ((خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
فآل الأمر بعد 14 قرناً إلينا ، وأصبحنا شئنا أم أبينا نحن المسئولون أمام الله عز وجل عن هذه الدعوة ، وتبليغها للناس. فمنا المقصر ومنا المفرط ومنا الباذل ، وفي ذلك فلتنافس المتنافسون.
لكنها كلمة نقولها للدعاة إلى الله عز وجل ، في هذا المقام لمن نذر نفسه لله ، وكل ينبغي أن يكون كذلك حسب طاقته ، يا من أنت الآن في إجازة (غفلة) ، اعلم أنك وقف لله فإذا لمع لك فجر الأجر ، فليهن عليك ظلام التكليف.إذا ضاق عليك طريقه ، فشق لنفسك ألف طريق ، إذا أُغلق دونك باب ، فافتح لنفسك ألف باب ، ولن تُعدم وسيلة قدم من وقتك يومياً ، ولو بضع ساعات ، تثقل بها موازينك يوم القيامة.
إذا بزغ لك نجم الهمة في ظلام ليل البطالة فأردمه بقمر العزيمة ، لتشرق الأرض بنور ربها.
أخي المسلم: إنما أنت همة علية ، ونفس تضيء ، وهمة تتوقد ، أنت لا تعيش لنفسك ، ويجب أن تقنع نفسك أنك لا تعيش لها.
جد تجد ، ليس من سهر كمن رقد ، هذا دبيب الليالي يسارقك أنفاسك ، وسلع المعالي غاليات الثمن ، انظر لنفسك واغتنم وقتك ، فالدواء قليل ، والرحل قريب ، والطريق طويل مخوف ، والخطر عظيم ، والعقبة كؤود ، والناقد بصير.
أخي المسلم: خض ميدان التنافس وأت بجديد ، فإن قال لك البطالون والمثبطون: لو تفرغت لنا. فاقرع أسماعهم بصوت عمر بن عبد العزيز: وأين الفراغ ، والله لا مستراح للمؤمن إلا تحت شجرة طويى.
أيها المسلمون: إن النفس الإنسانية ، لابد لها أن تتحرك فإذا هي كفت عن الشر ولم تتحرك للخير ، بقى فيها فراغ وخواء ، قد يردها إلى الفساد والعياذ بالله.إن كل واحد منا أيها الأحبة سائر لا واقف إما يميناً أو شمالاً ، أو أماماً أو خلفاً ، ليس هناك وقوف البتة ، إنما هي مراحل تطوى إلى الجنة. مسرع ومبطئ ، متقدم ومتأخر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر.
أيها المسلمون: إنه لا تمام لحقيقة الإيمان في القلب ، حتى يتعرض القلب للمجاهدة في هذا الدين ، بدءاً من كراهية الباطل إلى السعي في الإصلاح، إلى نقل الناس من الغواية إلى الهدى ، إنها باختصار الدعوة إلى الله ، التي تغير ماهية الشيء فتجعل من الرجل غير الرجل ومن القلب غير القلب ، تجعل صاحبها كالنحلة ، لا تأكل إلا طيبا ، ولا تخرج إلا طيبا ، وإذا وقفت على عود لم تكسره. بل مثل النحلة ، ما أخذت شيئاً منها إلا نفعك.
أيها المسلمون: إننا على ثقة بالله عز وجل ، وإنه ما يزال في الأمة رجال.
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتصغر في عين العظيم العظائم
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتعظم في عين الصغير صغارها
أيها المسلمون: إنه يراد من كل واحد منكم الآن وفي هذه الفترة من حياة الأمة أن يقدم الكثير والكثير ، يراد من كل أسرة أن تقدم شيئاً لدينها ، أن تدخر من قوت شهرها ثمناً لكتاب قيم تقرأه الأسرة ، ثم يُهدى لمن ينتفع به ، ومبلغاً لمسلم محتاج ، وشريطاً نافعاً بالدعوة بالقول والعمل ، لأننا نفترض بالأُسر أنها صلُحت ونريدها الآن مصلحة بناءة.
نريد من طالب المدرسة ، أن يدخر من مصروفه ويسهم به في الدعوة إلى الله ، وأن يربى منذ صغره على العمل للإسلام.
نريد من الوجوه أن تتمعر لانتهاك حدود الله ، يعقبه تغيير أو إنكار.
نريد من التاجر أن يدعو بماله ، يقتطع مبلغاً شهرياً ولو بسيطاً يجعله في مصالح المسلمين ، وأحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل لطبع كتاباً ، أو بنظر معسراً ، ينفس كرباً يقضي ديناً ، يطرد جوعاً.
نريد من المدرسين والمدرسات ، أن يغرسوا الإيمان في قلوب أبناء الأمة ، إنهم والله مسؤولون أمام الله عن أولاد المسلمين.
الأمة بحاجة إلى قلوب تعرف الخشوع ، وعيوناً تعرف الدموع.
أرأيت عيناً للدموع تعار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها
نطالب المربين تربية ، كتربية أبي بكر وعمر وصحبهم رضي الله عنهم ، لا نريد فراخ الصقور أن تربى تربية الدجاج فهذا جور ، ولا الأُسْدُ أن تربى تربية الخراف. إن الواقع الآن محتاج إلى كل جهد أيها الأحبة ، محتاجة إلى كل جهد مهما ضئل حجمه وصغرت مساحته وقل عدده ، فعند الله لا يضيع مثقال ذرة. فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره.
الأمة بحاجة إلى مضاعفة الجهد ، وتكثيف العطاء ، وترجمة الكلام إلى عمل.
آفة الأمة: كثرة الشاكين المتوجعين ، وقلة المداويين.كثرة من يسبون الظلام وقلة من يوقدون ولو شمعة ، نعم أيها المسلمون ، لم يعد أحد هناك إلا ويشكو فمن المشكو منه إذن.
إن علينا أن ننتقل من دائرة الشكوى إلى دائرة العمل المتواصل الدؤوب.
لا ترضى أخي المسلم أن تكون من المتفرجين ، تنتظر العمل من الآخرين ، تنتظر حتى يأتي شخص من الخارج ، فيصلح لك أوضاع بيتك. بل يعمل الجميع وكل على قدر جهده وطاقته.
من استطاع منكم أن يميط شوكة من طريق فليمطها، ومن استطاع منكم أن يبذر حبة فليبذرها، من كان عنده علم دعا به ، ومن كان عنده مال دعا به فالمسئولية على الجميع ، كل بحسبه.
والأمة كلها مسئولة عن فرائض الله وحدود الله وشرائع الله وتحكيم كتاب الله.
إن المستمع عليه من المسئولية كما على المتكلم مسئولية تحويل الكلام إلى عمل ، والأفكار إلى وقائع ، وإن اختلفت درجة المسؤولية المسلم مطالب بالعمل إلى آخر رمق ، لو قامت الساعة وبيده فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها.
يدعو إلى الله إخفاءً وإعلانا
ولنجعل الفعل بعد اليوم نيرانا
فلينطلق كل فرد حسب طاقته
ولنترك اللوم لا نجعله عدتنا
والله لا عمل أنفع للمسلم من عمل يقضيه في الدعوة إلى الله ، بياناً باللسان ، وجهاداً باليد ، ونفقة من العلم ، والمال والوقت فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام ، أياً كان تخصصه ومستواه ، فالله الله أن يأتي الإسلام من قبله ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة ، همه أداء الواجب والمشاركة حسب طاقته لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإياك ثم إياك أن ترضى بحياة الذل والمسكنة والعبودية لغير الله.فإن المسلم ينبغي له أن يأبى ذلك.
شباب بسيف العصر دوماً مدججٌ
وألبابهم في موكب العلم هودج
ولله ناموس من العدل أبلج
لعمري لئن لم يدرك الأمر أهله
وشيب بمحراب الرسول قلوبهم
فإن الرحى لن يخطئ الحبّ طحنها
(1/907)
الردة
التوحيد
نواقض الإسلام
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/5/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الردة 2- حكم المرتد في الدنيا وحكمه في الآخره
3- أنواع الردة وكيف يحذر المسلم منها 4- الحكمة من وجوب قتل المرتد
5- عمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع المرتدين وأثر ذلك على أمة الإسلام
6- أسباب الردة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الردة: حكم شرعي حكم الله به على من كفر بعد إسلامه طواعيةً بنطق أو اعتقاد أو فعل أو شك ولو كان هازلاً.
والمرتد له حكم في الدنيا وله حكم في الآخرة. أما حكمه في الدنيا فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري. وقد أجمع العلماء على ذلك وما يتبعه من أحكام من عزل زوجته عنه، ومنعه من التصرف في ماله قبل قتله، فإن قتل مرتداً صار ماله فيئاً لبيت مال المسلمين من حين موته، لأنه لا وارث له، فلا يرثه أحد من المسلمين لأن المسلم لا يرث الكافر ولا يرثه أحد من الكفار ولو من أهل الدين الذي انتقل إليه لأنه لا يقر على ردته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)). قال ابن قدامة رحمه الله: "من ارتد عن الاسلام من الرجال والنساء وكان بالغاً عاقلاً، دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه، فإن رجع فبها ونعمت، وإلا قتل". قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المرتد شرّ من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة". انتهى.
وأما حكمه في الآخرة فقد بينه الله تعالى بقوله: ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
أيها المسلمون: وأنواع الردة كثيرة: أعظمها الشرك بالله تعالى بعد إسلام، ويدخل تحت هذا صوراً كثيرة من دعاء غير الله من الموتى والأولياء والصالحين أو ذبح لقبورهم أو نذر لها أو طلب الغوث والمدد من الموتى كما يفعل عباد القبور اليوم قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومن جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية أو جحد الملائكة فهو مرتد. ومن جحد البعث بعد الموت فهو مرتد، ومن سب الله تعالى أو سب نبيه صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن جحد تحريم الزنى أو جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كشرب الخمر وأكل الخنزير أو حرّم شيئاً مجمعاً على حله فهو مرتد. ومن استهزأ بالدين أو سخر بوعد الله أو بوعيده أو امتهن القرآن الكريم أو زعم أن القرآن نقص منه شيء أو كتم منه شيء فلا شك في ارتداده، ومن جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام)) فهو مرتد. ومن سوّغ لنفسه اتباع غير دين الإسلام ولو في جزئية أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن لم يكفر من دان بغير الإسلام كاليهود والنصارى والشيوعيين والملاحدة أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فقد ارتد وكفر بالله عز وجل. ومن ادعى علم الغيب فهو مرتد، ومن اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه أو أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن تولى وظاهر المشركين وأعان اليهود أو النصارى على المسلمين فهو مرتد. ومن حكّم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية ويرى أنها أصلح للناس من شريعة رب العالمين فهو مرتد. ومن سب الصحابة أو أحداً منهم كأن كان دينه سب أبي بكر وعمر واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي وأن جبريل غلط فلا شك عند أهل السنة في ردته وكفره. ومن اعتنق فكر الشيوعية أو القومية العربية أو العلمانية بديلاً عن الإسلام فلا شك في ردته، ومن ترك الصلاة إما جحوداً أو تهاوناً مع الإقرار بوجوبها فإنه مرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) ولقوله تعالى: ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين وقد كثر اليوم التهاون بالصلاة والتكاسل عنها والأمر خطير جداً فيجب على من يتهاون بالصلاة أن يتوب إلى الله وينقذ نفسه من الردة ومن النار.
أيها المسلمون: إن نماذج الردة أكثر مما ذكر، وما سبق عبارة عن أمثلة فقط، والمتأمل يرى أن صوراً كثيرة منها وقعت وانتشرت بين المسلمين، لذا يجب الحذر، وأول خطوات الحذر: التعلم والتفقه في الدين، فإن من لا يعرف الردة يوشك أن يقع فيه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".
أيها المسلمون: ومن ارتد عن الإسلام فإن حكم الشرع فيه أن يستتاب ويمهل ثلاثة أيام فإن تاب وإلا قتل، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما بلغه أن رجلاً كفر بعد إسلامه فضربت عنقه قبل استتابته، فقال: "فهلا حبستموه ثلاثاً، فأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني" رواه مالك في الموطأ.
والحكمة في وجوب قتل المرتد أنه لما عرف الحق وتركه صار مفسداً في الأرض لا يصلح للبقاء لأنه عضو فاسد يضر المجتمع ويسىء إلى الدين، وقد يفتح المرتد لأعداء الأمة ثغرات للإضرار بها بما يقدمه لهم من معلومات، وقد تؤدي الردة إلى اضطراب المجتمع بإغراء البسطاء بالإقتداء بالمرتد حين يظفر بحماية أعداء الملة وما يغدوقون عليه من رفاهية العيش. لذا كان من محاسن حكم الشريعة قطع رقبة المرتد.
أيها الأحبة: معلوم ذلك الموقف العظيم الذي وقفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المرتدين تلك الوقفة الخالدة الذي كان تطبيقاً عملياً لتنفيذ حكم الله، فعقد أحد عشر لواءً وأرسل بهذه الجحافل نحو الذين امتنعوا من دفع الزكاة وارتدوا على أعقابهم وكتب إليهم كتاباً مع قواد المسلمين جاء فيه: أما بعد: فقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به اغتراراً بالله تعالى وجهالة بأمره وإجابة للشيطان، وإني بعثت إليكم فلاناً في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وأمرته ألاّ يقاتل أحداً ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب له وأقر وكفّ وعمل صالحاً قَبِل منه ذلك وأعانه عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك.. إلى آخر الرسالة. لقد كان لحزم أبي بكر رضي الله عنه وصلابته في التعامل مع هؤلاء المرتدين أثره الواضح في استئصال شأفة الردة من جميع أنحاء البلاد وحفظ بذلك وحدة الأمة ووقاها من الهلكة يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله منّ علينا بأبي بكر"
عباد الله: للردة أسباب، ولعلي أن أشير إلى بعضها: من أسباب الردة: الذكاء والعقل والاعتداد بالرأي والاعتداد بالنفس والثقة المطلقة بها: لا شك بأن العقل نعمة من الله جل وتعالى على العبد، لكن ينبغي أن يعلم العبد بأن للعقل حدوداً، وهناك قضايا ينبغي للعبد أن لا يخوضها بعقله وإلاّ هلك مثل قضايا الغيب ونحوها، فهناك من العباد من أعطاهم المولى عقولاً غير عادية، لكن هذا العقل كان سبباً في ردتهم قال عنهم شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله: "أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً". من هؤلاء عدد ذكرهم الذهبي في تاريخه كالسهروردي الذي كان يتوقد ذكاءً وكان بارعاً في أصول الفقه قال عنه الذهبي: مفرط الذكاء لم يناظر أحداً إلا أربى عليه إلا أنه قليل الدين. فهذا الرجل مع ما أعطاه الله من الذكاء إلا أن علماء وقته أفتوا بقتله، لأن عقله أدخله في التعطيل والانحلال، فقتل بسبب عقله وذكائه، ومات مرتداً والعياذ بالله [1]. ومنهم أيضاً الحلاج الذي اشتهر بالذكاء لكنه تزندق، وأفتى العلماء بقتله ردة وقتل، نسأل الله العفو والعافية [2].
قال الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: من قال إنه يؤمن بعقله فقط دون الشرع فإنه يبين له أن هذا كفر، فإن أصر على مقالته فهو كافر مرتد عن الإسلام، يستتاب من جهة ولاة الأمر فإن تاب وإلاّ قتل مرتداً [3].
ومن أسباب الردة: الشهوات: سواء كانت شهوة الفرج أو شهوة المنصب ولكل ضحايا سقطوا فيها، وقد جمع بين الأمرين أحد أبناء الملك السلطان المعز التركماني حاكم مصر في القرن السادس الهجري وكان ديناً عاقلاً لكن أحد أولاده تعلق قلبه بامرأة نصرانية فتزوجها وأنجبت له أولاد تأثروا بأمهم فعاشوا على النصرانية ثم تنصر هو في النهاية وسمى نفسه ميخائيل، قال الذهبي رحمه الله في السير في ترجمته [4] : نعوذ بالله من الشقاء فهذا بعد سلطنة مصر كفر وتعثر. وممن ترك الحق من غير ردة بسبب شهوة الملك والسطان هرقل وقصته معروفة مشهورة ذكرها البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس حيث ذكر اللقاء التي تم بين سفيان بن حرب وهرقل حيث سأل هرقل عن بعض الأمور المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، عن نسبه وهل أتباعه يزيدون أم ينقصون وهل يتهم بينكم بالكذب وهل يغدر ثم سأله بماذا يأمركم فقال يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ فقال هرقل في آخر كلامه: فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. فهرقل كان يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم فماذا الذي جعله لا يتجشم الصعاب حتى يخلص إليه؟ ولماذا لم يسلم؟ إنها شهوة الملك. لأنه يعلم أنه بمجرد إسلامه سيفقد الحكم والسلطان.
ومن أسباب الردة أيضاً: الفقر: فقد يكفر الانسان بسبب الفقر، والذي لم يجرب الفقر لا يمكن له أن يتصور الأمر، نسأل الله تعالى أن لا يرينا ذلك. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفقر. فنعوذ بالله من الفقر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] نزهة الفضلاء 3/1483
[2] نزهة الفضلاء 2/1042
[3] فتاوى اللجنة الدائمة 2/7
[4] نزهة الفضلاء 3/1594
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أسباب الردة أيضاً: تبني الشخص لبعض الأفكار، وقد تكون البداية عبارة عن قراءات واطلاعات ثم يبدأ بالإقتناع بهذه الأفكار ثم يعتنقها ويعتقدها بديلاً عن الإسلام ثم يبدأ بالدفاع عنها وترويجها وربما الكتابة والتأليف، ولو تتبعنا أغلب من اقتنع بمبادئ العلمانية أو الحداثة فإنهم بهذا الشكل، مطالعات وقراءات حتى تصل إلى حد القناعة والإقتناع ثم تصبح العلمانية أو الحداثة هو الدين الجديد الذي يعتنقه بديلاً عن الإسلام، ومثلهم من اقتنع بمبائ الشيوعية والماركسية وصاروا يعتقدون أنها أفضل من مبادئ الإسلام. وتأسف كثيراً عندما تطالع على صفحات المجلات والجرائد كتابات من هذا النوع تطرح الفكر العلماني وتنادي بالحداثة وتهاجم أصول الدين بأنها من الموروثات القديمة البالية والتي يجب أن تستبدل بما عند الغرب، ويزداد أسفك عندما تجد من هو غارق في الشيوعية الحمراء إلى أذنيه بل ويتنقص الذات الإلهية والعياذ بالله، ثم تجد هناك من يمدحه ويثني عليه ويتأسف على فقده ولعل من أقرب الأمثلة القريبة على ذلك ذلك الشاعر الهالك المدعو بالبياتي والذي هلك قريباً والحمد لله، ومع كل أسف بعض جرائدنا ومنذ أكثر من أسبوع وما زالت تكتب المقالات في مدحه والثناء عليه والأسف على فقده. إسمع لبعض ما يقول البياتي: يقول في ديوانه – كلمات لا تموت – وهو يمجّد الشيوعية فيقول: ولم يزل، لينين، في صوته الأخضر، إنساناً من الشعب، ولم تزل، موسكو، على عهدها، منارة للسلم والحب. انتهى.
فنسأل الله أن يحشرك مع لينين وأن يبعثك على حب موسكو.
ويقول ونعوذ بالله من هذا الكلام في ديوانه السابق – كلمات لا تموت – في قصيدة عنون لها بأقوال، يقول:
يا رفيقة الليال، الله في مدينتي يبيعه اليهود، الله في مدينتي مشرد طريد، أراده الغزاة أن يكون، لهم أجيراً، شاعراً، قواد، يخدع في قيثارة المذّهب العباد، لكنه أصيب بالجنون، لأنه أراد أن يصون، زنابق الحقول من جرادهم، الله في مدينتي يباع بالمزاد، دعارة الفكر، هنا رائجة، ودعارة الأجساد. انتهى.
فأي كفر وردة عن الدين أكثر من هذا والعياذ بالله، يصل الوقاحة والاستهزاء بالله عز وجل إلى هذا الحد، ثم يمدح الرجل وتكتب المقالات في الثناء عليه والخسارة على فقده. وبالمناسبة فإن معظم الحداثيين تفوح من قصائدهم وشعرهم تنقص الذات الإلهية والعياذ بالله، وكأن الحداثة لا تكون إلا بذلك، وأما البياتي الهالك فقد اجتمع فيه الأمران الحداثة بمفهومها المنحرف والفكر الشيوعي الماركسي.
أزكموا أنوفنا عندما هلك نزار قباني وسطر الحداثيون والعلمانيون المقالات في مدحه وكأن الأمة خسرت عالماً من علمائها أو مجاهداً من مجاهديها، واليوم هلك البياتي والقصة تتكرر. وكل من كتب مقالاً في مدح البياتي أو التأسف على موته فإنك تشك في دينه وعقيدته.
أيها المسلمون: الحذ الحذر مما ينشر ويكتب ويقال، فإن هناك من يدس السم في العسل، وغالب الناس لا يميزون ولا يقرأون ما وراء السطور، ولو دقق الشخص وتأمل لرأى الردة عن الدين بعينها.
(1/908)
أحكام السفر المباح
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الآداب والحقوق العامة, السياحة والسفر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/2/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد السفر المباح
2- ما الذي ينبغي للمسلم أن يفعله إذا أراد السفر
3- بعض أحكام السفر
4- آداب المسافر المتعلقة برجوعه من سفره
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الحديث عن السفر والسياحة هو حديث الساعة، وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن السفر والسياحة المحرمة، ثم تعرضنا للسياحة الجائزة وذكرنا بعض المحاذير في ذلك. ولوع الناس بالسفر في الإجازات، حتى كأن الإجازة من غير سفر لا تكون. صار لزاماً ذكر بعض الأحكام والآداب المتعلقة بالسفر المباح والسياحة الجائزة. اعلموا رحمني الله وإياكم بأن السفر له فوائد كثيرة أشار إليها الشافعي رحمه الله في قوله:
تغرب عن الأوطان تكتسب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
فان قيل في الأسفار ذل وشدة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته بدار هوان بين واش وحاسد
فالشافعي رحمه الله عدّ من فوائد السفر خمس فوائد: وهي: انفراج الهم، واكتساب المعيشة، وحصول العلم، والآداب، وصحبة الأخيار والأمجاد. وقال الثعالبي: من فضائل السفر، أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى، وقال أبو الحسن القيرواني: كتب إلى بعض أخواني: مثل الرجل القاعد كمثل الماء الراكد، إن ترك تغير، وإن تحرك تكدر، وفي هذا يقول الشافعي:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني وجدت وقوف الماء يفسده والعود في أرضه نوع من الحطب
وعن فوائد الأسفار العزيزة، إنه يرفع الذل عن الإنسان إذا كان بين قوم لئام، وإذا عاش في وسط يكيدون به، ويتربصون به، وكان هذا الإنسان ذا شأن فليبحث له عن أرض يعرفون قيمته، وقد ورد عن الشافعي أيضا حول هذا المعنى: أنه قال:
ارحل بنفسك من = رض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
فالعنبر الخام روث في مواطنه وفي التغرب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره وفي أرضه وهو مرمي على الطرق
لما تغرب حاز الفضل أجمعه فصار يحمل بين الجفن والحدق
أيها الأحبة في الله :
من عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع ثم يستحل ممن كان بينه وبينه مماطلة في شيء أو مصاحبة. ويكتب وصيته ويوكل من يقضي دينه ما لم يتمكن من قضائه ويترك لأهله ما يلزمهم من نفقة ونحوها. ويستحب له أن يطلب رفيقاً موافقا راغبا بالخير عارفاً في الشر، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه. ويستحب السفر يوم الخميس، لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا في يوم الخميس. رواه أبو داود. والسنة أن يخرج باكراً، لحديث صخر بن وداعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار)) ، وكان صخر تاجرا فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله، أخرجه أبو داود والترمذي. ونهى عن سفر الإنسان لوحده، لحديث عبد الله بن عمر رضي عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) رواه البخاري. وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)) رواه أبو داود والترمذي. والسنة أن يؤمروا أحدهم، لما رواه أبو داود عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) قال نافع: فقلت لأبى سلمة، فأنت أميرنا.
ومن أحكام السفر، أن المسافر قد يحتاج إلى الراحة بعض الوقت أثناء الطريق، خصوصا آخر الليل، فعليه أن يجتنب الطريق، لما أخرج مالك في الموطأ حديث خالد بن معدان يرفعه ((ثم قال: وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطرق – والتعريس نزول المسافر آخر الليل ساعة للاستراحة - فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات)).
ولا ينسى في أول سفره دعاء السفر: ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)).
ومن فضل الله أن الأعمال التي كان يعملها العبد من الأعمال الصالحة والتي تفوته بسبب سفره، فإنها تكتب له وإن لم يعملها، روى البخاري في صحيحه عن أبى موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله مقيما صحيحا)) وأيضا المسافر مستجاب الدعوة فعن أبى هريرة يرفعه ((ثلاث دعوات مستجابات، لاشك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر)) رواه أبو داود والترمذي. والرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفره إذا علا على شرف كبر، وإذا هبط واديا سبح، فيشرع للمسافر التكبير إذا ارتفعت به الأرض، والتسبيح إذا انخفضت به الأرض. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) رواه البخاري. قال أهل العلم: التكبير عند إشراف الجبال استشعار لكبرياء الله عندما تقع عليه العين من عظم خلق الله، إنه أكبر من كل شيء، وأما تسبيحه في بطون الأودية فقيل انه مستنبط من قصة يونس عليه السلام وتسبيحه في بطن الحوت قال تعالى: فلولا انه كان من المسبحين وقيل معنى التسبيح عند الهبوط: استشعار تنزيه الله تعالى عن صفات الانخفاض والضعة والنقص. وإذا خاف المسافر من قوم أثناء سفره دعا بما رواه أبو داود عن أبى موسى رضي الله تعالى عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوما قال: ((اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم)). ومن أحكام السفر: المسح على الخفين، فعن صفوان بن عسال قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة ايام ولياليهن، رواه الترمذي وغيره، فيجوز للمسافر أن يمسح على الجوارب وهو مسافر ثلاثة ايام بلياليهن يبتدأ المسح، من أول مسحة يمسحها. ومن الأحكام: التيمم، فإن الله جعل التراب بدلا عن الماء عند انعدامه أو تعذره، فالمسافر قد ينقطع به الماء فلا يجوز له تأخير الصلاة، بل يتيمم بالتراب ويصلي، فيضرب الصعيد ضربة واحدة يمسح بهما كفيه ووجهه، والتراب يرفع الحدث الأصغر والأكبر.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العزيز الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن أحكام السفر أيضا: جواز الفطر في رمضان قال الله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فافطر الناس)) متفق عليه. والإنسان مخير بين الصيام والفطر بحسب مقدرته فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن حمزة بن عمر الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم والسلام أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) متفق عليه. وعن أنس بن مالك قال: ((كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعِب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)) متفق عليه.
ومن أحكام السفر وهذا من رخص الله عز وجل علينا قصر الصلاة وجمعها، فإن المسافر يجوز له أن يقصر الصلاة ويجمع أيضا مادام أنه مسافراحتى يرجع إلى بلده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كنا نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة لا نخاف إلا الله عز وجل نصلي ركعتين)) رواه النسائي بسند صحيح، وعن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم اصلي مع الأمام؟ فقال: ((ركعتين، سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم)) رواه مسلم.
فالمسافر يجوز له قصر الرباعية ركعتين، وله الجمع أيضا سواء جد به السير أم لم يجد به السير مادام أنه مسافر لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن وائله أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاًًً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً.
ويسقط عن المسافر السنن الرواتب التي كان يصليها مقيما وهي راتبة الظهر والمغرب والعشاء، وباقي السنن التي كان يحافظ عليها حال إقامته يفعلها في السفر أيضا. أما راتبة الفجر والوتر فما كان يدعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا ولا سفرا.
ومن أحكام السفر، جواز أداء النوافل وكذلك الوتر على الدابة أو السيارة وهي تسير، وإن لم تكن إلى جهة القبلة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماءً صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)) متفق عليه. وعن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد إن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة)) رواه البخاري.
ومن أحكام السفر، أن المصلي حال الجمع يصلى بأذان واحد وإقامتين. وإذا صلى المسافر خلف إمام مقيم فإنه يتم الصلاة معه.
ثم هاهنا بعض الأحكام والآداب المتعلقة برجوع المسافر من سفره: ينبغي للمسافر سرعة العودة إلى أهله إذا قضى حاجته من سفره، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله)) رواه البخاري. وجاء النهي من طرق الرجل أهله ليلاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً)) ، وفي رواية: ((نهى أن يطرق أهله ليلا)) ، زاد في رواية: ((لئلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم)). وفي رواية: ((حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة)). وهذه كلها روايات البخاري ومسلم. وفي رواية أبى داود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما ذهبنا لندخل قال: ((أمهلوا حتى لا ندخل ليلا، لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة)). وفي رواية له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل)).
ولا بأس بالخروج لتلقى المسافر، يقول السائب بن يزيد رضي الله عنه: (أذكر أني خرجت مع الصبيان، نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك) أخرجه البخاري. ويسن للمسافر أن يدعو بما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من سفر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون))، فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة. رواه مسلم.
ومن السنة، أن يبدأ المسافر عند رجوعه بالمسجد فيركع فيه ركعتين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من حجته دخل المدينة، فأناخ على باب مسجده، ثم دخله فركع فيه ركعتين، ثم انصرف إلى بيته قال نافع: فكان ابن عمر كذلك يصنع)) أخرجه أبو داود بسند صحيح. وله عن كعب بن مالك رضى الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس)).
(1/909)
السفر المذموم
موضوعات عامة
السياحة والسفر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/2/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ينقسم السفر إلأى مباح ومذموم وأمثلة كل نوع
2- التنبيه إلى خطر وأضرار السفر إلى بلاد الكفر أو ما يشابهها من أجل السياحة
3- من يجوز لهم السفر إلى بلاد الكفر وشروط ذلك
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله جل وتعالى حبب السفر أو ما يسمى بالسياحة إلى نفوس كثير من خلقه، وجعل في السفر حكماً كثيرة، بل لقد اعتاد الناس الأسفار واتخذوها هواية واستفادت كثير من شركات السفر والسياحة من وجود هذه الرغبة لدى الناس، فسهلت لهم الكثير من ذلك، لابتزاز أموالهم.
والسفر أيها الأحبة، تختلف أنواعه بحسب المقاصد والأماكن، فهناك سفر مباح محمود، وهناك سفر محرم مذموم. فمن الأسفار السفر في طلب العلم كأن يسافر الرجل إلى بلد آخر لطلب العلم، وهذا السفر قد يكون واجبا وقد يكون نفلا، وذلك بحسب كون العلم واجبا أو نفلا، وقد رحل جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، من المدينة مسيرة شهر في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه عن عبد الله بن أُنيس، حتى سمعه عنه. قال الإمام الشعبي: لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا.
وهناك السفر لأجل العبادة، كسفر الحج والعمرة والجهاد في سبيل الله، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)). وهناك السفر المندوب: كسفر طلاب العلم بعضهم إلى بعض والالتقاء في منتديات علمية وطرح المسائل العلمية واستفادة بعضهم من بعض، ومنه تخصيص طلاب العلم السفر لزيارة بعض العلماء، للجلوس معهم، والتخلق بأخلاقهم وآدابهم، وتحريك الرغبة للاقتداء بهم، واقتباس الفوائد العلمية من أنفاسهم. وهناك السفر للهرب من بلد حفاظا على الدين، كأن يبتلى المؤمن في بلد ما في دينه، ويؤذى ويضيق عليه، ويلاحق في كل مكان فهذا يخرج ويبحث له عن أرض يعبد فيها ربه ويبلغ دين الله عز وجل، وللمؤمن في هذا قدوة بأنبياء الله ورسله، فغالب أسفارهم كان من هذا الباب، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حيث هاجر من مكة إلى المدينة بعدما ضيقت قريش الخناق عليه وعلى أصحابه، وصار يراقب في كل مكان، وحصلت الأذية الجسدية لبعض الصحابة، فعندها هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام وترك مكة وهو يحبها، وذهب إلى المدينة ليعبد ربه سبحانه وتعالى. وهناك السفر للهرب من بلد حفاظا على البدن كأن ينتشر مرض في بلد، عفانا الله وإياكم، ويهلك الناس فيرحل عندئذ الشخص حفاظا على حياته وحياة أولاده، أو ترتفع الأسعار في بلد ما يصل إلى درجة أن يتضرر بعض فئات المجتمع في أبدانهم، ولا يتحملون البقاء، فيشرع أيضا لهؤلاء السفر للبحث لهم عن أرض يأكلون فيها لقمة العيش. وهناك السفر من أجل الدعوة إلى الله، كأن يسافر بعض الدعاة خصوصاً في الإجازات إلى داخل البلاد أو خارجها للالتقاء بالناس ونصحهم وإرشادهم في مساجدهم ومجتمعاتهم وإعطائهم بعض أساسيات الدين التي يجهلونها، وإلقاء بعض الخطب في مساجدهم، وفي هذا خير كثير ونفع عظيم بإذن الله عز وجل. وهناك السفر من أجل الفساد وارتكاب الفواحش وهذا أمره واضح ومكشوف، كسفر زرافات من الشباب في الإجازات إلى بلاد معروفة، بعضها مع كل أسف بلاد عربية وأخرى شرقية أو غربية، من أجل ذبح الفضيلة وهتك الستر والخلق وجلب الأمراض، إضافة إلى إضاعة الدين والخلق والمال نسأل الله العافية، وهؤلاء لاشك أنهم إذا رجعوا تعودوا على ما كانوا يمارسونه هناك، فيبحثون عنه هنا، وهم الآن في الغالب سبب انتشار كثير من الجرائم والمخالفات والأمراض في طول البلاد وعرضها وهناك السفر للتجارة، وهناك السفر للعلاج، وهناك السفر للسياحة والتنزه وغيرها من الأسفار. ولي مع هذا الأخير وقفة بمناسبة قرب الإجازة الصيفية وقد حزمت الحقائب ورتبت التذاكر وهو ما اعتاده بعض الناس مع بدأ إجازة المدارس وقدوم حر الصيف السفر للنزهة والسياحة والترفيه عن الأولاد والبحث عن الأماكن الباردة والشواطئ والأنهار وهؤلاء سفرهم لا يخلو من حالتين: أو قل السفر إلى مكانين، إما إلى أماكن مباحة، أو إلى أماكن محرمة. أما المحرم من هذا والمذموم، فهو السفر إلى بلاد الكفار أو إلى بلاد تشبه بلاد الكفار في كثير من الجوانب وكم في هذا السفر من مفاسد، يصطحب الشخص معه عائلته من نساء ومراهقين ومراهقات، بل ربما يصل الأمر ببعض العوائل أن يسافروا لوحدهم، والبعض يرسل الأولاد من بنين وبنات فقط، كل هذا بدعوى النزهة والسياحة، وعليك أن تتصور كم من المفاسد في هذه الأسفار وفي هذا النوع من السياحة.
إليكم أيها الأحبة طرفا من مفاسدها من ذلك: أن هؤلاء الأغنياء والمترفين ينفقون أرقاماً لا عد لها ولا حصر من الريالات. كم من الضربات هذه تؤثر في المجتمع شعروا أم لم يشعروا، فمن الناحية الاقتصادية سحب هذه الأرصدة وإخراجها خارج البلاد له تأثير كبير في اقتصادها، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فيها إنعاش لاقتصاد الدولة الأخرى، ودعم لأرصدتها، فإذا كانت تلك من بلاد الكفار، صار دعما بطريق غير مباشر، وإذا كانت دولة كافرة محاربة، أصبحت أيها الغني، مصدر شؤم على إخوانك المسلمين في بلدك ومعاوناً للكفار، علمت بذلك أم لم تعلم.
كم كان جميلا، لو كان عند أغلب هؤلاء الذين يسافرون في الإجازات للخارج ويصرفون هذه الملايين أقول كم كان جميلا وحسنا – وأتحفظ على عبارة لو كان لديهم شيئا من الوطنية - وأستبدلها، لو كان لديهم ولاء لدينهم، لأن الوطنية ما هي إلا دعوة للتراب – فكم كان جميلاً أن يحركوا هذه الأموال في بلادهم، ويعملوا بها مشاريع نافعة، تعود عليهم هم شخصياً بالأرباح، وتعود على البلد بالنماء والخير والازدهار. ولكن مع كل أسف، سافروا للهوى والشيطان، وأنفقوا ما أنفقوا على ترف رخيص، وعلى بذخ في الأكل في أزهى المطاعم، والسكن في أرقى الفنادق، ونثر للمال ذات اليمين وذات الشمال، هذه واحدة. ومن مفاسد هذه الأسفار أيضا: أن فيها من المعاصي ما الله به عليم، إن أغلب تلك البلاد التي يصطاف بها الناس، بلاد تتعرى بها الأجساد المحرمة، على الشواطئ وغيرها، وتشرب فيها الخمور كالماء، وينتشر فيها الزنا انتشار النار في الهشيم، هذا كله فضلا عن الجو المادي الذي تقسو به القلوب، ناهيك عن الشبهات العقدية، والانحرافات السلوكية ناهيك أيضا عما ينتشر بين أولئك في تلك البلاد، من أمراض معدية قذرة، وأوبئة مستعصية مهلكة، فماذا يحصل هناك؟ إن أغلب المصطافين يأنسون بتلك المناظر وإلا لما ذهبوا إليها، ويعتادونها، وربما واقعوا البعض منها، ثم ينطلق المراهقون والمراهقات من الصغار والكبار، غير مصدقين ما هم فيه من فوضى وإباحية، لاسيما وقد اعتادوا في بلادهم جو المحافظة، وقطع الشهوات إلى حد ما. إضافة إلى اعتياد الأطفال على رؤية النساء العاريات، وسماع المعازف المحرمة، وتدرب المرأة على مخالطة الرجال، والجلوس في المطاعم، والتسوق بكل حرية، والاحتكاك بالأجانب، فيا لعجب المسلمين، يشهدون أن لا اله إلا الله، كيف يخلعون الكرامة، وينسلخون من الحياء، ويباشرون المعاصي وكأنها شيء مألوف، ويا لعجب لأناس قد يكونون هنا من رواد المساجد، ثم يرضى هناك أن يكون ديوثا في أهله وبناته وأولاده فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله في أنفسكم وفي أهليكم، فإن النفوس الضعيفة تألف هذه الأشياء رويداًً رويدا، إلى أن تلغ في حمئها كما يلغ الكلب في الإناء، وهي لا تشعر، فإذا أشربت النفس درجة، تهيأت للتي تليها ثم تلغ وتقع فيها، ثم تتهيأ للتي بعدها، حتى تقع في أكبر الفتن وهي لا تشعر.
إن النفوس الضعيفة تأخذ كل ما يساق إليها وينتهي بها الأمر إلى إن تفقد خصائصها الإسلامية التي بها قوامها، ثم تميع وتذوب، أو تضمحل وتفنى، فلا تتعجب بعد ذلك أخي المسلم: إذا رأيت نماذج - ومع كل أسف - من أبنائنا شخصياتهم مهزوزة، لا تلمس فيهم الرجولة، يطيلون شعورهم كالإناث، يتمايلون وهم يمشون، فإنما رأيت أحد نتائج السفر إلى بلاد الكفار. قال الله تعالى: يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون إنها أيها المسلمون ناراً محرقة، أنقذوا أنفسكم، وأنقذوا معكم ذويكم، الذين تزعمون أنكم تحبونهم، أنسيتم أنكم تتقلبون في نعم الله صباح مساء، ثم أتظنون أن هذا سيدوم لكم، كلا والله، كل هذا سيترككم يوماً ما، حتى تعودوا حفاة عراة في حفرة مظلمة، يملأ التراب أفواهكم، عندها تتمنون ولو لحظة واحدة، أن تعودوا إلى الدنيا، فتنفقوا شيئا من هذا المال في سبيل الله، لكن بعد فوات الأوان. فاتقوا الله عباد الله أطيعوا أمره، واجتنبوا نهيه، واستغفروه من الذنوب والخطايا إنه هو الغفور الرحيم.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن مفاسد السفر إلى تلك البلاد الكافرة، أن المسلم لا يستطيع أن يظهر دينه كما أمره الله، وذلك لأنه ضعيف الشخصية أصلا، وإلا لو كان رجلا لأظهر دينه بقوة هناك، هل من يذهب إلى هناك لديه شعور بأنه يحمل ديناً عظيماً يشتمل على كل معاني الخير، صحة في الاعتقاد، ونزاهة في العرض، واستقامة في السلوك، وصدقا في المعاملة، وترفعا عن الدنايا، وكمالاً في الأخلاق؟ هل من يسافر إلى هناك لديه شعور بأن ما عدا الإسلام فهو انحطاط وهبوط ونزول وسفول إلى مهاوي الرذيلة ومواطن الهلاك؟ أم أن الغالب يذهب بشعور الإعجاب بالغرب والانبهار بما عندهم لذا تجده من هنا يغير ملابسه، ويتشبه بهم حتى لا يعرف هناك بأنه مسلم، والأمرّ من هذا أنه يجبر نساءه بالتكشف، نعوذ بالله من الخذلان.
ومن مفاسد هذه الأسفار، إنها لم تعد سراً، الجار يعلم عنها، وزملاء العمل، حتى من في الدول الأخرى، أصبحوا يعرفون بأن أثرياء دول الخليج هذا ديدنهم، فماذا تتصورون أن يقع في نفوس الفقراء المحتاجين، سواء القريبين أم البعيدين ممن لا يصلهم شيء من هؤلاء الأثرياء حتى ولا الزكاة المفروضة. بل قل ما هو موقف بعض مسلمي العالم ممن يبادون إبادة جماعية وتحتل أراضيهم وتنتهك أعراضهم، ويسحقون كالبهائم والعياذ بالله، وربما جلس الواحد منهم أياما بدون غذاء ولا مأوى، وهم يعلمون بأن إخوانهم في العقيدة – زعموا –، همّهم، أن تأتي الإجازة ثم تحزم الحقائب إلى بلاد الكفار، الذين هم أصلا يبيدون أولئك المسلمين، ولا يصلهم أي شيء من مساعدات أو غيرها، بل ولا يفكرون في أوضاعهم والله المستعان.
أيها المسلمون: هذه بعض مفاسد السفر إلى بلاد الكفار فأقول وان لم يكن هناك أية مفسدة، يكفى في الموضوع، المنع الصريح الواضح في الإسلام من الإقامة بين ظهراني المشركين. روى أبو داود والترمذي قوله عليه الصلاة والسلام: ((أنا برئ من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين)). قال الله تعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً. وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله والداعية إلى الله والمسافر للعلاج أو لدراسة ما ينفع المسلمين أو للتجارة، كل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه، عالماً بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادراً على إقامة شعائره، وللضرورة حينئذ أحكامها.
أيها المسلمون: وأما السفر المباح والسياحة الجائزة، فهو كذهاب الكثيرين للتنزه في داخل البلاد، والإنسان محتاج للراحة في بعض الأحيان، ولا بأس من السفر مع الأولاد أحياناً بل قد يكون مطلوباً، لكننا نحذر من وقوعنا في بعض المحرمات في أسفارنا وإن كان السفر والسياحة في الداخل فمن ذلك:
سفر المرأة بغير محرم. هذا الأمر الذي كثر مع الأسف بين المسلمين، وتساهل الناس في هذا الموضوع، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رقة الدين، وضعف الخوف من الله، وإلا فالنهي صريح واضح في هذا الشأن روى البخاري في صحيحه حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو محرم)) وجاء تفصيل المحرمية في حديث آخر عند البخاري وهو حديث أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو زوجها أو ابنها أو أخوها أو ذو رحم منها)).
ومن المحاذير: حضور الحفلات الغنائية والتي بدأت تنتشر بحجة السياحة، إن سماع الغناء والموسيقى محرم في الإسلام كما نعلم جميعاً أشد التحريم ويعد صاحبه فاسقاً، فكيف إذا صاحب ذلك اختلاط مع النساء وحصل فيه من التبرج ما الله به عليم، فإنه يزداد حرمة وإثماً بذلك. قال الله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وقد حلف الصحابي الجليل عبدالله بن عباس أن المراد به الغناء. وفي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليكونن من أمتي أقواماً يستحلون الحرى والحرير والخمر والمعازف)). ويمكنك أن تتنزه يا أخي أنت وأولادك وأن تنال قسطاً من السياحة المباحة وتبتعد عن أماكن الحفلات الغنائية، والمسارح الهابطة.
ومن المحاذير: التساهل في مسألة الحجاب والستر بحجة السفر والسياحة، فيحصل من العوائل المعروفة هنا بالمحافظة والتساهل هناك، من تبرج بخفية واختلاط واحتكاك بالرجال في الأماكن العامة والحدائق والمنتزهات دون تحفظ، وتعريض المرأة نفسها لأمور هي في غنىً عنها، والأعجب هو سكوت الزوج والرضا بذلك، والله المستعان كل ذلك تحت مظلة: السياحة، ولا داعي للتضييق على الأهل والأولاد. يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا. اللهم صلِّ على محمد...
(1/910)
البيوع المحرمة
فقه
البيوع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/3/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بعض أنواع البيوع المحرمة
2- أنواع من البيوع الجائزة التي يستنكرها الناس
3- توجيهات ونصائح للتجار وأصحاب المحلات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هذه هي الخطبة الرابعة ، وما يزال حديثنا مستمراً عن السوق ، ولعلها خاتمة المطاف. ذكرنا في الجمعة الماضية ، بعض أنواع البيوع المحرمة ، المنتشرة بين الناس. فذكرنا الأصناف الربوية التي نص النبي صلى الله عليه وسلم عليها أنه لابد فيها من التماثل والتقابض في مجلس العقد ، وقلنا بأن أكثر ما يحصل وقوع الناس في المحرم في مثل هذا النوع من البيع هو الذهب.
وقلنا بأن من البيوع المحرمة ، بيع الغرر وذكرنا بعض صوره ، وركزنا على ما هو منتشر من بيع اليانصيب ، (أنت وحظك) وقلنا بأنه حرام ولا يجوز.
وقلنا أيضاً من أنواع البيوع المحرمة ، بيع ماء الفحل وبيع الميتة ، وبيع الدخان ، وبيع جلد الأضحية وقلنا أيضاً من البيوع المحرمة ، بيع الدم ، وبيع المضامين ، وحبل الحبلة ، وهو حمل الناقة التي في بطنها جنين ، وبيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، والنخل حتى يزهو ، والسنبل حتى يبيض ويأمن العاهة.
ومن البيوع المحرمة ، والذي قد سبق أيضاً ، بيع المسلم على بيع أخيه ، وعن سلف في بيع ، وعن شرطين في بيع.
أيها المسلمون: وإكمالاً لما سبق: نقول ومن البيوع المحرمة:ما يحدث من حراج السيارات ، فيأتي بالسيارة وينادي عليها ويقول: كومة من حديد ، أمامك كومة من حديد ، يظنون أنهم بفعلهم هذا يسلمون من تبيين العيوب ، كذبوا والله ، كذبوا على الله وعلى عباد الله ، بل وعلى أنفسهم ، مادام أنه يعلم بأن في السيارة عيوباً ، يلزمه شرعاً أن يبينها ، وكلمة كومة من حديد ، لا تنجيه عند الله عز وجل.
ومن البيوع المحرمة ما يفعله بعض الدلالين ، بل كثير من الدلالين ، الذين يدخلون ضمن المشترين يزيدون في السعر ، متفقون متواطئون فيما بينهم ، ولا يريد واحد منهم شراء السيارة تتلبس بشخص مسكين ، جاء إلى السوق ليس له خبرة في السيارات ولا يعلم حيل الدلالين ، فيأخذها فرحاً بها يظن أنه قد فاز بصفقة ثمينة ، وهو قد خُدع ، وصار مضحوكاً عليه ، ولو رست على واحد من هؤلاء الدلالين ، لأرجعها على صاحبها كما قد اتفقوا في الباطن ، وفعلهم هذا حرام ولا يجوز ، وما يكسبونه من مثل هذه البيوع ، سحت ونار في بطونهم.
ومن البيوع المحرمة:الإحتكار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: لا يحتكر إلا خاطئ " والمحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاجه الناس فيحبسه ، حتى إذا زادت حاجة الناس أخرجه وزاد في سعره ، وهو بفعله هذا ظالم ، ولهذا ، كان لولي الأمر ، أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه ، فإنه يجبر التجار على بيع الناس بقيمة المثل لو عُلم أنه محتكر.
ومن البيوع المحرمة:البيع بعد النداء الثاني لصلاة الجمعة ، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فمنع الله جل وتعالى البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه على من كان مخاطباً بغرضها.عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: ((ولينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم.
ومن البيوع المحرمة:بيع شيء حلال لشخص تعلم أنه يستخدمه في محرم ، فإن كنت لا تعلم فالبيع جائز ، كبيع العنب لمن يتخذه خمراً ، وبيع السلاح أيام الفتنة ، أو بيعه لأهل الحرب فكل هذا حرام ، ومثله بيع أدوات الزينة على النصارى أيام احتفالاتهم بأعيادهم المحرمة ، فكل هذا يعد من البيوع المحرمة ، قال الله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
أيها المسلمون: وفي المقابل هناك أنواعاً وأنواعاً من البيوع الجائزة ، والتي أباحتها الشريعة ، فلا بأس بذكر بعض صورها مما يستشكله بعض الناس.
فمن البيوع الجائزة:بيع العربون ، وصورته ، أن يشتري المشتري شيئاً ، ويدفع للبائع جزءاً من قيمته ، ويكون عربوناً – فيحجز البائع له هذه السلعة مدة معينة يتفقان عليها ، فإذا حضر في المدة تم البيع واحتسب العربون من ضمن القيمة ، وإلا فهي من حق البائع ، هذا جائز ولا بأس به.لما روى الإمام أحمد عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية ، بأربعة آلاف درهم ، فإن رضي عمر كان البيع نافذاً وإن لم يرضى فلصفوان أربعمائة درهم.
ومن البيوع الجائزة: بيع المزاد العلني ، فيجوز أن يعلن عن سلعة أو عقار أو أراضي ثم يتزايد الناس عليه ، وهذا لا يعارض النهي عن بيع المسلم على بيع أخيه ، فإن النهي المقصود بعد تمام البيع ، أما المزاد فإن البيع لم يتم بعد.
ومن أنواع البيوع التي أباحتها الشريعة: بيع الأجل ، كأن تشتري شيئاً وتدفع ثمنه فيما بعد ، سوءا تسلمه دفعة واحدة ، أو على أقساط ، أو دفعة مقدماً والباقي على أقساط ، فهذا جائز ولا حرج فيه ، لكن في غير الأصناف الربوية الستة التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن البيوع الجائزة في الشريعة أيضاً: بيع السلم ، وبيع السلم هو عكس بيع الأجل تدفع الثمن الآن ، وتستلم المبيع فيما بعد مثاله: لو ذهبت إلى مصنع وطلبت أن يصنع لك خزاناً ، فيجوز أن تدفع الثمن كاملاً الآن ، والخزان لم يصنع بعد.ويكون الخزان معلوماً موصوفاً في ذمة البائع ، ويكون الاستلام بعد شهر ، هذا جائز ، تدفع الثمن الآن ، وتأخذ البضاعة بعد شهر ، هذا يسمى بيع السلم وهو مما أباحته الشريعة والحمد لله.لكن هذا النوع من البيع له شروط. روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: ((من أسلف [وفي رواية]: من أسلم ، فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)).
فلابد أن يكون المسلم فيه معلوماً ، قدره ، ووصفه ، وثمنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ولعل خاتمة الحديث عن السوق ، يكون بإهداء بعض التوجيهات والنصائح ، للتجار وأصحاب المحلات في الأسواق:وألخصها في ثمان نقاط:
حسن النية والمقصد ، في ابتداء عمله بالتجارة فلينو بها الاستعفاف عن السؤال ، وكف الطمع عن الناس ، استغناءً بالحلال عنهم ، واستعانة بما يكسبه على الدين ، وقياماً بكفاية العيال ، ولينو النصح للمسلمين وأن يحب لسائر الخلق ما يحبه لنفسه ، ولينو اتباع طريق العدل والإحسان في معاملته ، ولينو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ما يراه في السوق ، فإذا أضمر هذه النيات كان عاملاً في طريق الآخرة ، فإن استفاد مالاً فهو مزيد ، وإن خسر في الدنيا ربح في الآخرة.
2 – أن يقصد وتكون نيته حسنة بهذه التجارة أو بهذا المحل سد باب من فروض الكفايات ، فإن التجارات لو تركت ، لتعطل معاش الناس ، ولتضرر أكثر الخلق ، فانتظام أمر الكل بتعاون الكل. وتكفل كل فريق بعلم ، ولو أقبل الجميع على تجارة واحدة لتعطلت البواقي.
3 – أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة ، وأسواق الآخرة هي المساجد رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
فينبغي أن يجعل التاجر أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته ، فيلازم المسجد ويواظب على الأوراد ، ثم إذا سمع الأذان وهو في محله أو دكانه ، ترك ما بيده وبادر إلى مساجد الله لأداء فريضة الله ، حتى يبارك المولى له في تجارته.
لا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده فيكون عمره ضائعاً ، وصفقته خاسرة ، وما يفوته من الربح في الآخرة ، لا يفي به ما ينال في الدنيا ، فيكون ممن اشترى الحياة الدنيا بالآخرة ، بل العاقل الذي يشفق على نفسه بحفظ رأس ماله ، ورأس المال هو الدين.
4 – أن لا يقتصر على هذا ، بل يلزم ذكر الله في السوق ، فإذا دخل قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، وبنى له بيتاً في الجنة)).
ولا بأس أن يشتغل بعض الوقت وهو في السوق ، بالتهليل والتسبيح والاستغفار
5 – أن لا يكون شديد الحرص على السوق ، والتجارة ، فيكون أول داخل وآخر خارج ، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تكونن ان استطعت أوَّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فإنها معركة الشيطان وبها نصب رايته)). وعن مسلم أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحب البلاد إلى الله المساجد ، وأبغض البلاد إلى الله السوق)).
6 – لا يكفي أيها التاجر ، أن تقتصر على ترك الحرام ، لا يكفي هذا ، ترك الحرام واجب عليك ، بل ينبغي عليك أن تتقي مواضع الشبهات أيضاً ، ومظان الرَّيب ، ابتعد عن ما تشك فيه ، وأيضاً حاول ، أقول حاول أن لا تتعامل مع كل منسوب إلى ظلم أو خيانة أو سرقة أو ربا ، فلا تعامله ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
7 – راقب نفسك أيها التاجر ، في كل معاملاتك فإنك مُراقب ومحاسب ، وأعد لك فاتورة أو ورقة أو معاملة جواباً عندما تُسأل يوم القيامة. فوربك لنسألنهم أجمعين ما كانوا يعملون.
8 – أكثر أيها التاجر من الصدقات ، فلعله أن يخفف ما يختلط بتجارتك مما لا تستطيع الفكاك منه أخرج أصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يا معشر التجار ، إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة)).
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا...
(1/911)
السوق (شروط البيع)
فقه
البيوع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/3/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الناس اليوم في البيع والشراء
2- شروط البيع وبيان كل شرط وذكر أمثله عليه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بدأنا حديثنا في الجمعة الماضية عن السوق وقلنا بأنه حديث طويل ، فكان حديثاً عن جملة نصائح وآداب ، أما اليوم ، فالكلام سينصب على شروط البيع.
لكن قبل ذلك ينبغي أن يُعلم بأن كثيراً من أخلاق أهل الإيمان قد تلاشت عند كثيرين في أبواب البيع والشراء ، فأصبحت تجد المسلمين في بيعهم وشرائهم على أسوأ حالة.كثير من الناس اليوم تذهب بركة بيوعهم وشرائهم لأنهم أناس جشعون ، إذا ذكر القرش والريال طار من ذهنه ذكر الجنة والنار ، أصبحت لا تشعر بالصدق عند بيعك وشرائك ، اسمع أخي الحبيب إلى هذه القصة والتي أنقلها لك من صحيح البخاري ، لترى العجب في الصدق والأمانة والإخلاص في تبايع أولئك وماذا كانت نتائج مثل ذلك البيع.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اشترى رجل من رجل عقاراً له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني ، إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب ، وقال الذي له الأرض، إنما بعتك الأرض: وما فيها - بمعنى أنها لك - فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه ، ألكما ولدٌ قال أحدهما: لي غلامٌ ، وقال الآخر: لي جارية. قال: أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا)).
تأمل أخي الكريم إلى حسن المعاملة ، والأمانة من الطرفين ، ماذا كانت النتيجة ، لقد قرب ذلك البيع والشراء بينهما حتى أصبحا متصاهرين، وفي المقابل تأمل في العلاقة بين الباعة والمشترين في هذا العصر ، منذ أول لحظة يطأ المشتري بقدمه المحل ، والبائع يفكر كيف يضحك عليه ، والمشتري يضع في حسابه أن هذا عدو له يريد نهب ماله ، وعلى إثرها تكون طريقة المساومة بينهما ، ثم إذا قُدر بينهما تبايع تنتهي العلاقة بعد أول خطوة يضعها المشتري خارج المحل.
أما فكرت يا أخي ، في أبواب الحياة الدنيا الأخرى لا يوجد إلا بيع وشراء فقط في المحلات ، لو صدقته أيها البائع ، ثم صدقته أيضاً أنت أيها المشتري بإخلاص وأمانة ، وكانت العلاقة حسنة بينكما ، لربما تكونت صداقة ، ثم مودة ، ولربما تكونت مصاهرة ، مثل ما سمعتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. لماذا نفهم البيع والشراء فقط قبض ثمن ودفع سلعة.
أسأل الله جل وتعالى أن يصلح أحوالنا.
أيها المسلمون: ومن كبريات مشاكل أسواقنا قلة فقه الناس بأحكام البيوع ، ورحم الله ذلك الزمن الذي كان لا يبيع أحد في السوق إلاّ وهو متأهل في مسائل البيوع ، عارف لأحكامه ، وقد كان في بعض أمصار المسلمين يمر الفقهاء على أصحاب الدكاكين ، ويسألونهم عن عويص المسائل ، والباعة يجيبون ، والذي لا يجيب يعزل من السوق ، ولا يُسمح له بالبيع ، فماذا عساك أن تقول عن باعة هذا الزمان الذي لا أظن أنه سيجيب لو سألته عن أبسط مسائل الطهارة ، والله المستعان.
وأما عن شروط البيع ، فأرعني سمعك بارك الله فيك:لأنك لا تخلو إما أن تكون بائعاً أو مشترياًً.
الشرط الأول: التراضي: فلا يصح البيع من مكره بلا حق ، لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما البيع عن تراضٍ)) أخرجه ابن ماجة. فالرضى شرط من شروط البيع وتمامه ، فلا يجوز غصب إنسان على بيع أرضه أو مزرعته، ولو حصل هذا فالبيع غير صحيح.
ومثل ذلك لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلاً ، أُحرج منك، فباع عليك ، فلا يجوز لك أن تشتري.لأنه غير راضي.
الشرط الثاني: أن يكون كلاً من البائع والمشتري جائزي التصرف مكلفين ، فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن وليه ، قال الله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم فإذا أذنا لولي سواءً كان أباً أو زوجاً ، صح البيع ، وكل هذا فيما فيه قيمة مرتفعة ، أما الأشياء اليسيرة ، التي جرت العادة إعطاء الصبي إياه فلا بأس ، كأن ترسل ولدك الصغير ليشتري خبزاً ونحو ذلك مما جرت العادة ، ولهذا لو ذهب الصبي الصغير بغير علم والديه، واشترى أشياء فلك إرجاعها لأن البيع لم يصح أصلاً.
الشرط الثالث: أن يكون المباع طاهراً مباح النفع ، فيجب أن يكون المباع مباح المنفعة ، وما حرم منفعته ، حرم بيعه ، كآلات اللهو والطرب ، فإنه لا يجوز بيعها ، لأن منفعتها محرمة ، ومثله أشرطة الغناء المسموعة ، وأشرطة الأفلام المرئية ، فإن كل هذا حرام ولا يجوز بيعه ، فليتق الله أولئك الذين لا عمل لهم إلا بيع هذه المحرمات ، أكلهم وشربهم من هذا البيع الحرام ، ألا فليعلموا أن كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به.
وما لا نفع فيه أيضاً الحشرات ، فإنه لا يصح بيعها ، فبذل المال فيها إضاعة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، ويدخل في هذا الشرط أيضاً ، الكلب ، فإنه لا يجوز بيعه ولا شراءه ، لأنه نجس ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ، ومن قتل كلباً فإنه لا يضمنه لصاحبه ، فثمنه هدر ، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم اقتناءه لثلاثة أمور فقط: الحرث والماشية والصيد. وعند البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان)) وأنا أسأل: هل يجمع الشخص في اليوم قيراطان.
وأيضاً مما لا يصح بيعه ، الميتة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، ((إن الله حرم بيع الميتة)) فأورد الصحابة رضي الله عنهم إيراداً فقالوا: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة ، فإنه تطلى بها السفن أو تدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا. هو حرام)). أي مع انتفاع الناس بها فهي ميتة يحرم بيعها ، ويستثنى من الميتة ، السمك والجراد، فيجوز بيعها ولو ميتاً.
الشرط الرابع: أن يكون البائع مالكاً للمبيع يجب أن يكون البائع مالكاً لبضاعته ، وفي قبضته وحوزته ، وفي مستودعه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) رواه الإمام أحمد ، فنهاه أن يبيع ما ليس عنده ، ومما يدخل في هذا الشرط أنه لا يصح بيع ما ينبت في الأرض من كلأ وعشب وشوك ، ومثله مياه العيون والآبار ، لا يجوز بيعها ، لأنها ليست ملكاً لأحد ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)).
فهذه لم تخرج بقدرة الإنسان ، بل بقدرة الله عز وجل.أما إذا أخرجها الإنسان وحازها وملكها وصارت في حوزته فله بيعها.
ومما يدخل في هذا الشرط أيضاً ، وهو شرط ملك المبيع أراضي المسلمين ، فإنها ليست ملكاً لأحدٍ بعينه ، فلا يجوز بيعها ، ولهذا لو أجمع المسلمون كلهم ، من أولهم إلى آخرهم ، عربهم وعجمهم ، واتفقوا على أن يبيعوا أرض فلسطين ، على اليهود ، لا يصح هذا البيع ، ولا يجوز ، لأنهم لم يمتلكوا حتى يبيعوا.وبهذا يُعلم العبارة الباطلة ، التي طالما رددها الجهلة (الأرض مقابل السلام). بأي حق ، وبإذن من تتصرف ، وتعطي الأرض مقابل السلام – زعموا.
الشرط الخامس: أن يكون مقدوراً على تسليمه. لأن ما لا يقدر على تسليمه ، شبيه المعدوم ، فلا يصح بيعه ، ومثل الفقهاء رحمهم الله لهذا الشرط ، فقالوا كبيع الطير في الهواء ، والسمك في الماء ، فكل هذا غير مقدور على تسليمه ، فلا يصح بيعه ، والبيع في مثل هذه الحالة عده الفقهاء من الغرر ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، أخرجه مسلم.
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم.
أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الشرط السادس من شروط صحة البيع ، أن يكون المبيع معلوماً عند البائع والمشتري رؤية أو صفة ، فإن لم يكن معلوماً صار جهالة ، وجهالة المبيع غرر ، والغرر منهي عنه ، فالمشتري لابد أن يرى المبيع ، أو يصفه له البائع وصفاً تكون بمنزلة الرؤية ، كأن يقول له ، عندي سيارة لونها كذا ، وصفتها كذا ، وفيها كذا وكذا.حتى يتخيل المشتري وكأنه ينظر إليها ، ويكون الواصف أميناً ، عندها يجوز البيع ، ولو لم يرها لأن الوصف هنا يتنزل منزلة الرؤية.
ويصح بيع العينة ، كأن ترى عينة من سلعة ، ويكون الباقي مثلها، ولا يشترط أن تراها كلها ، خصوصاً فيما ينضبط كالمصنوعات الحديثة.
ويدخل في هذا الشرط أن بيع العمى وشراءه صحيح ، وإن كان لا يرى فلديه من الحواس ما يغنيه عن البصر.
ومما يدخل في هذا الشرط أنه يجوز بيع ما مأكوله في جوفه ، وإن كان لا يرى ، كالرمان والبطيخ ، والبيض ، فيصح بيع ما مأكوله في جوفه ، لأنه جرت العادة بذلك ، وتعامل الناس به من غير نكير ، ولأن في فتحه إفساداً له.
الشرط السابع: أن يكون الثمن معلوماً.
فلا يجوز البيع بدون تحديد الثمن ، وبسببه تحصل الإشكالات بين المسلمين. إن تحديد الثمن مهم عند البيع والشراء ، ولهذا عده الفقهاء شرطاً حتى يقطعوا الخصومة بين المتبايعان.
أيها الأحبة: وبعد خطبة الجمعة الماضية والتي تعرضنا فيها لشيء من منكرات الأسواق وما يحصل فيها ، وحذرنا أولياء الأمور من بعض الباعة وذكرنا شيئاً من أوصافهم صار ولله الحمد نوع تفاعل مع الموضوع الذي طرح فجاءتني ورقة من بعض أصحاب المحلات القريبة الغيورين ، وما يجري حولهم ، وهم بلا شك أدرى بأحوال السوق لأنهم يعيشون فيها ويقضون جل أوقاتهم فيها ، أسأل الله أن يعينهم.
اقرأ الورقة عليكم كما وصلتني تماماً وبخط أصحابها وأحذر مرة أخرى أولياء الأمور أن ينتبهوا على نساءهم ومحارمهم ، فالأسواق فيها فساد عظيم ، وعندما تكلمت في الجمعة الماضية عن منكرات الأسواق ، لم أكن أتخيل بأن الخرق متسع إلى هذا الحد. نسأل الله السلامة والعافية.
أما الورقة فيقول صاحبها:...
ربنا آتنا في الدنيا حسنة...
(1/912)
السوق آداب وتوجيهات عامة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, البيوع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/2/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأسواق لحياة الناس 2- إباحة الاشتغال بالتجارة، وكيف كان حال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا....
3- مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم للسوق وتعهده له...
4- توجيهات وآداب لمن يرتادون السوق...
5- حال النساء عند دخول الأسواق وماالذي يجب على أولياء الأمور
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).
إن الحديث عن السوق حديث طويل ، لكثرة مسائله وجهل الناس بمعظمها ، ولحاجة الناس اليومية ، من دخولهم إلى الأسواق لبيع أو شراء أو نحوه ، فهذه فاتحة الحديث عن الأسواق:
السوق أيها الأحبة ، قديم قدم هذا الإنسان ، فقد وجدت منذ كثر الناس على سطح المعمورة ، وازدحمت وضاقت بهم البلدان.
وقد كان للعرب في الجاهلية أسواقاً يتبايعون فيها ، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومَجّنَّة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية ، فلما كان الإسلام فكأنهم تأثموا فيه ، فنزل قول الله تعالى: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم.
وكان بالمدينة في الجاهلية عدة أسواق متنوعة الأغراض ، منها سوق حُباشة ، وهذه السوق كانت مخصوصة لبيع العبيد ، وسوق بالجسر في بني قينقاع وغيرها من الأسواق.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، حدد مكاناً معيناً للسوق في موضع بقيع الزبير ، وضرب فيه قبة، وقال لأصحابه: هذا سوقكم.
ولكنه عليه الصلاة والسلام ، رأى غيره أنفع منه وأكثر تحقيقاً لمصالح المسلمين ، فعدل عنه ، وذهب إلى مكان آخر يسمى حَرُّ فسيح ، وخطه برجله وقال: ((هذا سوقكم فلا يُنتقصن ولا يُضربن عليه خراج)).
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم ، مما أعلمه ربه من علم الغيب ، أنه حذر بعض أصحابه من بعض الأسواق ، ففي الحديث الصحيح أنه قال لأنس: ((يا أنس إن الناس يُمصرون أمصاراً ، أي إن الناس سينشئون في المستقبل مدناً يسكنون فيها – وإن مصراً منها يقال لها البصرة ، فإن مررت بها أو دخلتها ، فإياك وسباخها ، وكُلاّءها – وهو شاطئ النهر – وسوقها ، وباب أمرائها، وعليك بضواحيها ، فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف ، وقوم يبيتون يصبحون قردة وخنازير)) وبعض هذا الحديث لم يتحقق بعد. والله المستعان.
وعندما جاء الإسلام ، أولى للسوق اهتماماً خاصاً فقد دعى هذا الدين إلى العمل بالتجارة ، واكتساب المال عن طريقها ، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ، وقال عز وجل: رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
أيها المسلمون: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتاد الأسواق كسباً للرزق وطلباً للمعاش ، حتى عاب المشركون عليه ذلك بقولهم ، كما حكى ذلك القرآن وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
هذا وقد اقتدى به صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فكانوا يرتادون الأسواق ، ويتجرّون فيها بأموالهم ، ولا يرون في ذلك بأساً.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه بزازاً ، يتاجر بالبز ، وكان يغدو إلى السوق فيبيع ويبتاع ، إلى أن فُرض له عطاءً بعد أن تولى الخلافة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يعلل خفاء أحكام بعض المسائل الشرعية عليه بانشغاله بالصفق في الأسواق ، وحديث عمر في البخاري في كتاب البيوع ، باب الخروج في التجارة.
ثم هذا الصحابي المهاجر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يعرض عليه أخوه في الله سعد بن الربيع أن يشاطره ماله ، ويختار إحدى زوجتيه فيطلقها له ، فيلقى هذا الإيثار النبيل ، بعفاف نبيل ويقول عبد الرحمن لسعد: بارك الله لك في مالك وأهلك ، لا حاجة لي في ذلك ، وإنما دلني على السوق ، لأتجر فيها ، فدله سعد عليها فغدا إليها ، فأتى بأقط وسمن ، وباع واشترى حتى فتح الله عز وجل عليه.
أيها المسلمون: لقد حظي السوق في عهده صلى الله عليه وسلم باهتمامه ورعايته ، فتعهده بالإشراف والمراقبة ، ووضع له ضوابطاً ، وسن له آداباً ، وطهره من كثير من بيوع الجاهلية المشتملة على الغبن والغرر والغش والخداع والربا.
كما منع عليه الصلاة والسلام ، بيع المحرمات فيه ، ومنع: إنشاد الأشعار والتفاخر بالأحساب والأنساب فيه ، وقد داوم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفقد أحوال السوق بنفسه ، أو مع بعض أصحابه ، ومراقبة الأسعار ، ومنع أي احتكار أو استغلال قد يقع فيه.
روى مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟فقال: أصابته السماء يا رسول الله ، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس ، من غشنا فليس منا)).
عباد الله: هذه خمسة توجيهات أو سمّها آداب متعلقة بالسوق ، أقدمها بين يديك لتأخذ بها ، وتراعيها عند دخولك وخروجك من السوق.
أولاً: إذا دخلت السوق ، فعليك بهذا الدعاء، وينبغي علينا جميعاً حفظه.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، وبنى له بيتاً في الجنة)) حديث حسن رواه الترمذي.
إن السوق في الغالب ، مكان غفلة عن ذكر الله ، فهو موضع سلطنة الشيطان ، ومجمع جنوده ، لهذا شُرع للمسلم الذكر ليقاوم غلبة الشيطان.
ثانياً: لا تكن سخاباً بالأسواق ، والسخب هو رفع الصوت بالخصام واللجاج ، ورد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر)) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه. السخب مذموم في ذاته ، فكيف إذا كان في الأسواق ، التي هي مجمع الناس من كل جنس ، إنه لا يليق بالرجل العاقل الرزين أن يكون سخاباً يستفزه أقل إنسان ، من أجل ريالات معدودات ، فالعقل العقل أخي المسلم.
ثالثاً: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.
إن كثرة تردد العبد على الأسواق ، يعرضه لرؤية ما لا يرضي الله عز وجل ، فإن الأسواق قل ما تسلم من مناظر محرمة ، خصوصاً ما نراه من تسكع نساء هذا الزمان في الأسواق والتبرج وإظهار الزينة بدون حياء ، فعليك أخي المسلم إذا دخلت السوق أن تغض بصرك بقدر ما تستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إن الله جل وتعالى جعل العين مرآة القلب. فإذا غض العبد بصره ، غضّ القلب شهوته وإرادته.وإذا أطلق العبد بصره ، أطلق القلب شهوته وإرادته. أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فالعين تزني وزناها النظر ، واللسان يزني وزناه النطق ، والرجل تزني وزناها الخطى ، واليد تزني وزناها البطش ، والقلب يهوي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) فبدأ بزنى العين ، لأنه أصل زنى اليد والرجل والقلب والفرج.وهذا الحديث من أبين الأشياء على أن العين تعصي بالنظر وأن ذلك زناها ، لأنها تستمتع به. ((يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية)) قالها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه في حديث رواه الإمام أحمد.
ومعظم النار من مستصغر الشرر
فتك السهام بلا قوس ولا وتر
في أعين الغيد موقوف على الخطر
لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضرر
كل الحوادث مبداها من النظر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
يسر مقلته ما ضر مهجته
رابعاً: كثرة الحلف.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، المسبل إزاره ، والمنّان ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للكسب)) متفق عليه. والمعنى أن البائع قد يحلف للمشتري أنه اشتراها بكذا وكذا ، وقد يخرج له فواتير في ذلك ، فيصدق المشتري ، ويأخذها بزيادة على قيمتها ، والبائع كذاب ، وإنما حلف طمعاً في الزيادة ، فهذا يعاقب بمحق البركة ، فيدخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي أخذها من حيث لا يحتسب ، بسبب حلفه.
اعلم أخي التاجر أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي ، فإن عاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب ، روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً أقام سلعته وهو في السوق، فحلف بالله: لقد أُعطى بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزل قول الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
نفعني الله وإياكم..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
خامس هذه الوقفات ، مع المرأة ، ودخولها للأسواق ، وهذه القضية لوحدها تحتاج إلى خطبة مستقلة:
روى الطبراني بسند صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الديوث ، والرَّجَلَةُ من النساء ، ومدمن الخمر)).
والديوث هو الذي يرضى الخبث في أهله ومحارمه، وأي خبث أيها الأحبة أشد وأعظم مما يشاهد من أوضاع النساء في الأسواق في هذا الزمان ، من التبرج والسفور والاختلاط بالرجال وقلة الحياء ، والمصيبة أنه على مرأى ومسمع من الأزواج وأولياء الأمور ، تنزل المرأة للسوق ، وفي كثير من الأحيان لغير حاجة ، فقط أنها تشعر بملل في المنزل ، والحل الذهاب لقضاء عدة ساعات في الأسواق، تدخل المحل وتخرج، وتدخل الآخر وهكذا ، وتسّعر بعض البضائع ، وهي لا تريد الشراء، وفي الغالب يفوح منها رائحة الطيب.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل)) هذا إذا كان خروجها إلى المسجد للصلاة. فما بالكم بالسوق. اسمع أخي المسلم يقول صلى الله عليه وسلم: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت ، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية ، وكل عين زانية)) رواه الإمام أحمد.
أقول أين غيرة الأزواج ، وحرمة أولياء الأمور على محارمهم.خذ أمثلة سريعة من واقع السوق:
تدخل المرأة للمحل، وتبدأ تساوم صاحب المحل بكل جرأة ووقاحة ، ودون حشمة ولا حياء ، والديوث جالس في السيارة ينتظرها مع الأولاد.
قضية أخرى: إن تجمل المرأة ، عند خروجها من المنزل ، ونزولها للأسواق قد تجد له تخريجاً ، لكن بماذا نفسر تجمل أصحاب المحلات وبائعي الدكاكين ، ووضع العطورات ، التي تجد أحياناً رائحتها وأنت خارج المحل ، وانتقاء الألوان الجذابة للملابس، وبعضهم يفتح القميص عند صدره ، أقول ، ماذا يريد هؤلاء ، وبماذا نفسّر هذه الظاهرة.
قضية ثالثة: وأحياناً تشاهد سيارة محمّلة بمجموعة من النساء مع السائق.تقف السيارة وسط الطريق ، ثم تنزل هذه الحمولة ، فتنفلت في السوق ، كل واحدة منهن تذهب من جهة ، والموعد بعد 4 أو 5 ساعات في المكان الفلاني ، والسائق المسكين يبحث له على رصيف مناسب ينتظر طوال هذه المدة.
أما عن المعاكسات والمغازلات في الأسواق فحدث ولا حرج ، بدأً بالبائع في المحل ، ذلك الرجل الأنيق الجميل ، الذي ذكرنا خبره قبل قليل ، وانتهاءً بهذا الشباب المراهق الفارغ ، العاري من الدين والخلق والحياء.
أقول وقد ساعدت هذه المجمعات التجارية في كثير من الأحيان على ازدياد الفساد في أسواقنا ، فإن صعوبة الجو في فصل الصيف عندنا قد يخفف، من التحرك والمكوث لساعات طويلة في الأسواق، لكن ومع هذه المجمعات المكيفة ، فإن الشر والفساد نسأل الله السلامة في تمدد وانتشار.
فاتقوا الله أيها الآباء ، وأيها الأزواج ، تابعوا نساءكم ، لا تتساهلوا في خروج المرأة للسوق ، وإن كان هناك حاجة فلا تذهب إلا وأنت معها. فإن الذئاب كثر ، والدين رقيق، والنساء ناقصات عقل ودين.
وأخيراً احذر ثم احذر وامنع أهلك تماماً من استخدام غرف المقاس داخل المحلات ، فإنها مصيبة ، وأي مصيبة.
روى بعض أصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)).
فإنه يحرم على المرأة أن تخلع ثيابها في السوق ، بحجة القياس ، وتظن أنها في غرفة مستورة ولا أظن أن قصص وأخبار غرف المقاسات تخفى على العقلاء أمثالكم.
اللهم استر عوراتنا ، آمن روعاتنا ، واحفظنا، اللهم رحمة اهد بها قلوبنا...
(1/913)
الشتاء البارد
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/10/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن شدة الحر وشدة البرد من نفس جهنم 2- أن تقلب الطقس من برد إلى حر والعكس هو
بأمر الله تعالى وله حكم في هذا 3- من السنة الإبراد بصلاة الظهر عند شدة الحر والتعجيل
بها في البرد 4- كيف تصلي الجمعة في الحر الشديد والبرد الشديد 5- فضل الصوم في
الشتاء 6- من عجائب فصل الشتاء والصيف 7- أن برد الشتاء يذكر بالفقراء 8- بعض
الأحكام الفقهية التي قد يحتاجها الناس في فصل الشتاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله تعالى هو الذي خلق السماء والأرض وهو الذي أوجد اليابس والماء وهو الذي يكور الليل على النهار، ومكور النهار على الليل، وهو الذي يأتي بالصيف الحار وبالشتاء البارد ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. ولنا مع قدوم قليل من البرد هذه الأيام بعض تأملات وذكر بعض الأحكام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعضاًً فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)) رواه البخاري. قال ابن عبدالبر رحمه الله هذه الشكوى بلسان المقال. وقال القاضي عياض رحمه الله: إنه الأظهر. وقال القرطبي رحمه الله: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته. قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي رحمه الله نحو ذلك ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب. وتنفسها على الحقيقة.
والمراد بالزمهرير شدة البرد , ولا إشكال من وجوده في النار ففيها طبقة زمهريرية نسأل الله العافية.
فهذه النار عندما اشتكت إلى خالقها، والشكوى كانت من أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها؟ وكيف بمن يعذب فيها؟ وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها؟ فشفقةً من الله بهذه النار التي خلقها لإحراق الكفار والمنافقين والعصاة ومن يستحق دخولها، أذن لها بنفسين، نفس في كل موسم فأشد ما نجد أيها الأحبة من الحر ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما نجد من البرد أيضاً ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها وقالت: أكل بعضي بعضا، فجعل لها نفسين: نفسا فى الشتاء، ونفسا فى الصيف، فأما نفسها فى الشتاء فزمهرير، وأما نفسها فى الصيف فسَمُوم)).
لبس الشتاء من الجليد جلودا فالبس فقد بَرَد الزمان بُرودا
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا فغدا لسكان الجحيم حسودا
وترى طيور الماء في وكناتها تختار حر النار والسّفّودا
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما حرك لنا عوداً وحرّق عودا
وهذا سؤال وجه لفضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: هناك من ينسب شدة البرد أو الحر للعوامل المناخية أو لطبقة الأوزون أو لدوران الكرة الأرضية فهل يصح هذا التأويل؟ فكان الجواب: لاشك أن شدة الحر وشدة البرد لها أسباب طبيعية معلومة، ووجودها بأسبابها من تمام حكمة الله عز وجل، وبيان أنه سبحانه وتعالى خلق الخلق على أكمل نظام، وهناك أسباب مجهولة لا نعلمها نحن، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)). وهذا سبب غير معلوم، لايُعلم إلا بطريق الوحي ولا حرج على الإنسان أن يضيف الشيء إلى سبب معلوم حساً أو شرعاً لكن بعد ثبوت أنه سبب حقيقي، وإن كان سبباً وهمياً أو كان سبباً مبنياً على نظريات لاأساس لها فإنه لايجوز اعتمادها لأن إثبات الوقائع أو الحوادث إلى أسباب غير معلومة لا عن طريق الشرع ولا عن طريق الحس يدخل في ما نهى الله عنه في قوله: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً.
أيها المسلمون: وقد ينزعج بعض الناس من برودة الشتاء كما يتضايق البعض من حر الصيف، وفي كلٍ منهما وفي تقلب الأحوال عموماً مصالح وحكم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول وما فيها من المصالح والحكم، إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفا كله لفاتت منافع ومصالح الشتاء، ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعا كله أو خريفا كله.
ثم بدأ رحمه الله يذكر بعض فوائد البرد ودخول فصل الشتاء فقال: ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرَد الذي به حياة الارض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل، وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الأبدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه، فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم، وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء. انتهى كلامه رحمه الله.
ولشيخ ابن القيم، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس كان يتحدث فيه رحمه الله على هروب الشيء من ضده، وأن كثيراً من الأشياء يمكن أن تقاوم بأضدادها، وهذه قاعدة مهمة يحتاجها الجميع عامة والمصلحون خاصة، فمَثّل لقاعدته بكلام يناسب موضوعنا فقال رحمه الله: ويسخن جوف الإنسان في الشتاء، ويبرد في الصيف، لأنه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة الى باطن البدن، لان الضد يهرب من الضد، والشبيه ينجذب إلى شبيهه، فتظهر البرودة إلى الظاهر، ولهذا يسخن جوف الأرض في الشتاء وجوف الحيوان كله، وتبرد الأجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة الى الاجواف. انتهى كلامه رحمه الله. فإذا عرفت بأن الضد يهرب من الضد، والشبيه ينجذب إلى شبيهه، أدركت وعرفت بأنه لاطريق للتخلص من رقّ المعصية إلاّ بضدها وهي الطاعة، وأنه إذا ارتاحت نفسك بالجلوس مع العصاة، فهذا من انجذاب الشبيه إلى شبيهه، والله المستعان.
أيها المسلمون: لقد جاءت السنة بالإبراد بصلاة الظهر في حر الصيف تخفيفاً على الناس فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ)). رواه البخاري. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا اشتد البرد بكّر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال صلى الله عليه وسلم: ((أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد، حتى رأينا فيئ التلول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شده الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة)) متفق عليه. وهذا الحكم خاص بصلاة الظهر وأما صلاة الجمعة وإن كانت في وقت الظهر فإنها تصلى في وقتها حتى في الحر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الجمعة فالسنة أن تصلى في أول وقتها في جميع الأزمنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصليها في أول الوقت شتاء وصيفا، ولم يؤخرها هو ولا أحد من أصحابه، بل ربما كانوا يصلونها قبل الزوال، وذاك لأن الناس يجتمعون لها، إذ السنة التبكير إليها، ففي تأخيرها إضرار بهم.
ونعلم بأن السنة أن يقرأ الإمام في ركعتي الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسبح والغاشية ثبت ذلك أيضاً في صحيح مسلم، والسنة أن يقرأ الإمام مرة بهذا ومرة بهذا لئلا تهجر السنة، ولكن كما قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله لو أن الإمام راعى أحوال الناس ففي الشتاء البارد قرأ بسبح والغاشية ولم يقرأ بالجمعة والمنافقون تيسيراً على الناس، ومثله في أيام الحر الشديد، وذلك لأن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
أيها المسلمون: بوب الامام الترمذي رحمه الله في سننه فقال: باب ما جاء في الصوم في الشتاء. ثم أخرج بسنده عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ)). حديث صحيح. وكانت غنيمةً باردةً لحصول المؤمن على الثواب بلا تعب كثير، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار، فحقاً إنها لغنيمة باردة، فأين أصحابها؟
أيها المسلمون: لقد عذّب الله أقواماً بالريح الباردة في الشتاء كقوم عاد كما قد ذكر ذلك أهل التفسير وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة وهو السحاب الذى يخال فيه المطر أقبل وأدبر وتغير وجهه فقالت له عائشة إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا فقال: ((يا عائشة وما يؤمننى، قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم )).
أيها المسلمون: ومن عجائب فصل الشتاء أنه وقت لا يناسب نبات الأسنان عند الأطفال ومثله في حر الصيف فإنه ربما سبب للطفل التقيؤ والحمى وسوء المزاج، ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله وقال بأن أفضل وقت لذلك، نباتها في الربيع والخريف، ووقت نباتها لسبعة أشهر وقد تنبت في الخامس، وقد تتأخر إلى العاشر، فينبغي التلطف في تدبيره وقت نباتها.
ومن العجائب: أن من حكم الله تعالى أن نبات وفواكه الشتاء لو أُكل في الصيف أو العكس لربما أضر البدن وسبب له الأذى. قال ابن القيم رحمه الله: فلو كان نبات الصيف إنما يوافي في الشتاء لصادف من الناس كراهية واستثقالا بوروده مع ما كان فيه من المضرة للأبدان والأذى لها، وكذلك لو وافى ما في ربيعها في الخريف أو ما في خريفها في الربيع، لم يقع من النفوس ذلك الموقع ولا استطابته واستلذاذه ذلك الالتذاذ، ولهذا تجد المتأخر منها عن وقته مملولا محلول الطعم، ولا يظن أن هذا لجريان العادة المجردة بذلك، فإن العادة إنما جرت به لأنه وفق الحكمة والمصلحة التي لا يخل بها الحكيم الخبير. انتهى كلامه.
ومن عجائب الحر والبرد والصيف والشتاء: هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه ضمن كرامات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ فَقُلْنَا لَوْ سَأَلْتَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ. فَتَفَلَ فِي عَيْنِي ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ)) قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا بَعْدَ يَوْمِئِذٍ.
أيها المسلمون: وللفقراء علينا حقٌ دائم، ويتأكد هذا الحق لهم في الأزمات والملمّات، وفي النكبات والصعوبات، ومن ذلك أن نرحمهم ونعطف عليهم مع برد الشتاء، يقول أحدهم:
أتدري كيف قابلني الشتاء وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيف البرد يفعل بالثنايا إذا اصطكت وجاوبها الفضاء
وكيف نبيت فيه على فراش يجور عليه في الليل الغطاء
فإن حل الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ آفته الشتاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي يهدده من الفقر العناء
وكيف يداه ترتجفان بؤساً وتصدمه المذلة والشقاء
يصب الزمهرير عليه ثلجاً فتجمد في الشرايين الدماء
خراف الأرض يكسوهن عِهنٌ وترفل تحته نعمٌ وشاء
وللنمل المساكن حين يأتي عليه البرد أو جُنّ المساء
وهذا الآدمي بغير دار فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي ولا أرض تقيه ولا سماء
معاذ الله أن ترضى بهذا وطفل الجيل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عوز وضيق ولا تحنو؟ فمنا هذا الجفاء
أخي بالله لا تجرح شعوري ألا يكفيك ما جرح الشتاء
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن من الأحكام التي تحتاجها الناس والمتعلقة بالشتاء غالباً: مسألة المسح على الجوربين، وهي مسألة عقدية فقهية وقد ذكرها بعض العلماء في كتب العقائد منهم ابن أبى العز الحنفي في شرحه للعقيدة الطحاوية وسبب ذكره لذلك أن هناك بعض الفرق الباطنية والمنحرفة ينكرون سنيّة المسح على الخفين، منهم الرافضة والمعتزلة وغيرهم، وقد تواترت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ليس في قلبي من المسح على الخفين شي، فيه أربعون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح في الحضر والسفر، ولم ينسخ ذلك حتى توفي ووقّت للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن في عدة أحاديث حسان وصحاح وكان صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر الخفين، ولم يصح عنه مسح أسفلهما، ومسح على الجوربين والنعلين، ومسح على العمامة مقتصرا عليها ومع الناصية، وثبت عنه ذلك فعلاً وأمراً في عدة أحاديث، ولم يكن يتكلف ضد حاله التي عليها قدماه بل إن كانتا في الخف مسح عليهما ولم ينزعهما، وإن كانتا مكشوفتين غسل القدمين ولم يلبس الخف ليمسح عليه. انتهى كلامه.
وكيفية المسح أن يبل يديه بالماء ثم يمرّهما على ظهر الخفين من أطرافهما مما يلي الأصابع إلى الساق مرة واحدة، ولو مسح اليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى، فهذا حسن، ولو مسح كليهما بيده اليمنى فلا حرج في ذلك.
ويبدأ مدة المسح من أول مسحة مسحها وليس الابتداء من الحدث بعد اللبس كما قال به البعض، فإذا لبس الإنسان الجورب لصلاة الفجر ولم يمسح عليهما أول مرة إلا لصلاة الظهر فابتداء المدة من الوقت الذي مسح فيه لصلاة الظهر فيمسح المقيم إلى مثل ذلك الوقت من الغد.
وإذا تمت المدة وهو على طهارة، فطهارته باقية حتى تنتقض، فإذا انتقضت بعد تمام المدة وجب عليه غسل رجليه إذا توضأ، ثم يلبس من جديد.
ومن تمت مدته فنسى ومسح بعد تمام المدة فعليه أن يعيد الصلاة التي صلاها بالمسح الذي بعد تمام المدة.
وأيضاً من المسائل المتعلقة بالشتاء غالباً: مسألة صلاة الاستسقاء وقد نزول المطر، هل نصلي الاستسقاء وقد نزل المطر؟
الجواب: أننا لانصلي ولا نخرج للصلاة وقد نزل المطر. قال ابن قدامة رحمه الله: وإن تأهبوا للخروج فسُقوا قبل خروجهم، لم يخرجوا وشكروا الله على نعمته وسألوه المزيد من فضله.
وقال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله: وإذا سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذا الحال لكانوا مبتدعين، لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم. انتهى كلامه.
(1/914)
الشجر
قضايا في الاعتقاد, موضوعات عامة
البدع والمحدثات, مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/10/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1-عظيم خلق الله تعالى للشجروتقلب أحوال الثمر عليها 2-أمثلة وتشبيهات ضربها الشارع
للشجرة 3-أن الشجر يسبح بحمد الله بل ويلبي مع المسلمين في حجهم وعمرتهم 4-أن الشجر
يستريح بموت الفاجر بل ويعين المسلمين على قتال اليهود 5-صفة شجر الجنة وكيف يغرس
المسلم لنفسه شجرا في الجنة 6- شجرة الزقوم وصفها ولمن هي 7- حكم شجر الحرم 8-لا
يشرع غرس الأشجار على القبور 9- يجوز تصوير الأشجار 10-حكم أسبوع الشجرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله جل وتعالى خلق من جملة ما خلق هذه الأشجار التى نراها وتفيؤ ظلالها ونستروح من عبيرها، ومنها ما يثمر فيكون نفعه أكثر مما نأكل منها مما أنعمه الله وتعالى وأحله لعباده، قال الله تعالى: أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون.
إن هذه الأشجار في بعض جوانبها لها شبه بالإنسان، ففي كل عام لها حمل ووضع! فهي دائماً في حمل وولادة فتأمل في تكون حمل الشجر وتقلبه من حال إلى حال كتنقل أحوال الجنين المغيب عن الأبصار، ترى العجب العجاب فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين، بينا تراها حطباً قائماً عارياً لا كسوة عليها إذ كساها ربها وخالقها من الزهر أحسن كسوة، ثم سلبها تلك الكسوة وكساها من الورق كسوة هي أثبت من الأولى، ثم أطلع فيها حملها ضعيفاً ضئيلاً بعد أن أخرج ورقها صيانة وثوباً لتلك الثمرة الضعيفة لتستجنّ به من الحر والبرد والآفات، ثم ساق إلى تلك الثمار رزقها وغذّاها في تلك العروق والمجاري فتغذّت به كما يتغذى الطفل بلبان أمه، ثم ربّاها ونماها شيئاً فشيئاً حتى استوت وكملت، وتناهى إدراكها فأخرج ذلك الجني اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء [1].
ثم هل تأملت إذا نصبت خيمة كيف تمده من كل جانب بالأطناب ليثبت فلا يسقط ولا يتعوج؟ وهكذا الشجر، له عروق ممتدة في الأرض منتشرة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه، وكلما ارتفعت الشجرة إلى أعلى، امتدت عروقها وأطنابها إلى أسفل في كل جهة. ولولا ذلك فكيف كانت تثبت هذه النخيل الطوال الباسقات على الرياح والعواصف [2].
أيها المسلمون: لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الشجر عدداً من الأمثلة، وشبه به عدة تشبيهات إليك بعضها:
من ذلك تشبيه المسلم بالنخلة من حيث كثرة بركته وخيره وعطائه فعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ. فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ فَاسْتَحْيَيْتُ ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هِيَ النَّخْلَةُ)) رواه البخاري.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدنيا وسرعة زوالها بظل شجرة فقال: ((ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركه)) ا.
ومن التشبيهات الجميلة التي شبه بها الرسول صلى الله عليه وسلم الشجر وهي تُسقط ورقها، فمرة شبهها بسقوط الخطايا عن المسلم بسببه وفعله وهو بتلفظه للأذكار الشرعية فقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا اله الا الله، والله اكبر تنفض الخطايا، كما تنفض الشجره ورقها)).
ومرة يكون سقوط الخطايا من عدم فعلٍ من المسلم بل بسبب ما يصيبه من مصائب فيصبر عليها محتسباً قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها، الا حط الله له به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: ((أَجَلْ. مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ)).
ومن تشبيهات الرسول صلى الله عليه وسلم بالشجر تشبيه المؤمن في قوة صلابته وثباته بالأشجار القوية التي لاتهزها رياح الفتن وأعاصير الضلالة، بل يثبت ويتمسك بدينه ولو فُعل به ما فعل، أما طبقة المرتزقة من المنافقين وأذنابهم فشبههم الرسول صلى الله عليه وسلم بشجرة الأرز، وشجرة الأرز معروف ضعفها فأدنى ريح تقلعها، لأن المنافقين أصحاب أهواء، وصاحب الهوى لا يثبت على طريق، بل يتقلب بحسب مصالحه الدنيوية نسأل الله العافية قال عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الريح تفيؤه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا يهتز حتى يستحصد)) [3].
قال الله تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
ومن طرائف أحاديث التشبيه بالشجر ما مثلت به عائشة رضي الله عنها وعن أبيها نفسها بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكراً غيرها قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا. فِي أَيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بَعِيرَكَ قَالَ: ((فِي الَّذِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا)) رواه البخاري.
أيها المسلمون: أن الشجر كباقي المخلوقات يسبح بحمد ربه كما قال جل وعز: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وقال سبحانه: والنجم والشجر يسجدان لكنك قد تعجب إذا علمت بأن الشجر أيضاً يلبي مع المسلمين في حجهم وعمرتهم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا. بل والأعجب من هذا أن هذا الشجر يستريح إذا أهلك الله فاجراً من فجّار الأرض.
نعم، هذا الشجر الذي نراه ونتعامل معه يومياً يتفاعل مع هذا الدين في بعض القضايا التي مات فيها إحاسيس كثير من أبناء هذه الأمة، يستريح إذا مات فاجر عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، محارب للدين وأهله. فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَال: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ قَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)) رواه البخاري. كم من فاجر في هذه الأرض ينصب العداوة لهذا الدين ولأهله العاملون المتمسكون به، ثم يأتي الخبر بهلاكه ولا نحس بالارتياح الذي تحسه الأشجار فنعوذ بالله من موت الشعور، وضعف الأحاسيس تجاه قضايا الدين.
بل إن من عجائب تفاعل الشجر ضد أعداء الدين، ما جاء في صحيح مسلم من أن الشجر يتكلم، ينطقه الله عز وجل بقدرته في آخر الزمان عندما يقضي الله على اليهود بالهلاك، ويكون التمكين لأهل الايمان العاملون به، عندما ترتفع راية الاسلام مرة أخرى في آخر الزمان وتكون الغلبة للدين وأهله، فيبدأ المسلمون في قتل اليهود على أرض فلسطين فيختبأ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيتكلم الحجر والشجر بقدرة من ينطق الجماد إذا أراد. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ: هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ)).
أيها المسلمون: إن من جملة ما أنعم الله به على عباده في الجنة الأشجار، إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام ما يقطعها، وهي شجرة طوبى، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها. بل إن أرواح المؤمنين كما ثبت في الخبر الصحيح عن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه، أن أرواحهم في طير خضر تعلق بشجر الجنة حتى يبعث الله هذه الأجساد يوم يبعثها. وقال في حديث آخر: ((تكون النسم (وهي أرواح المؤمنين) طيراً تعلق بالشجر، حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)).
قال ابن القيم رحمه الله وهو يصف أشجار الجنة:
أشجارها نوعان منها ما له في هذ الدنيا مثال ذان
كالسدر أصل النبق مخضود مكا ن الشوك من ثمر ذوي ألوان
هذا وظل السدر من خير الضلال ونفعه الترويح للأبدان
والطلح وهو الموز منضود كما نضدت يد بأصابع وبنان
أو أنه شجر البوادي موقراً حملاً مكان الشوك في الأغصان
وكذلك الرمان والأعناب التي منها القطوف دوان
هذا ونوع ما له في هذه الدنيا نظير كي يرى بعيان
يكفي من التعداد قول إلهنا من كل فاكهة بها زوجان [4]
وهل تريد يا عبدالله أن يكون لك شجر في الجنة؟ يكون ذلك بإذن الله عز وجل. أتدري كيف يكون ذلك؟ يكون بذكر الله عز وجل، هذا الأمر اليسير على من وفق الله لسانه أن يكون دائماً رطباً بذكر الله، وعسير على من حرم ذلك. يقول صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على غراس، هو خير من هذا؟ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا اله الا الله، والله اكبر، يغرس لك بكل كلمة منها شجرة فى الجنة)).
وفي المقابل فإن أهل النار أيضاً لهم شجر، ولكن أيّ شجر؟ ذكر الله شجرة الزقوم في سورة الدخان طعام أهل النار إن شجرة الزقوم طعام الأثيم وفي الاسراء والشجرة الملعونة في القرآن وفي الصافات أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم إنّا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره على آية الاسراء: وأما الشجرة الملعونة في القرآن فهي الزقوم كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله: هاتوا تمراً وزبداً وجعل يأكل من هذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا. [5] نسأل الله العافية.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
[1] مفتاح دار السعادة 2/37
[2] مفتاح دار السعادة 2/103
[3] نرى والله أعلم أن وجه الشبه في الحديث بين المنافق والأرز أن المنافق لا ينتفع في البلاء الذي يصيبه كما لا تنتفع ولا تتأثر شجرة الأرز إلا بالسقوط.
في حين أن المسلم يستفيد من البلاء ويستجيب له كما تستجيب الخامة من الزرع أي الضعيفة (كما في رواية للحديث عند الدارمي). فريق المنبر.
[4] نونية ابن القيم 2/335
[5] فتاوى اللجنة الدائمة 4/246
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وهذه بعض الأحكام المتعلقة بالأشجار:
قال البخاري رحمه الله: بَاب لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَم. ثم ساق حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ)).
قال الفقهاء رحمهم الله لايجوز قطع شجر الحرم الذي لم ينبته الآدمي، واختلفوا فيما أنبته الآدمي، والظاهر جواز قطعه. والحديث لم يفرق بين الأخضر واليابس، ولكن جوّز الفقهاء قطع اليابس، وقالوا: لأنه بمنزلة الميت، وعلى هذا فسياق الحديث يدل على أنه إنما أراد الأخضر. وفي الحديث دليل على أنه إذا انقلعت الشجرة بنفسها، أو انكسر الغصن، جاز الانتفاع به، لأنه لم يعضده هو، وهذا لا نزاع فيه. فإن قلعها قالع، ثم تركها، فهل يجوز لغيره أن ينتفع بها؟ سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال: من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وقال لم أسمع إذا قطعه ينتفع به [1].
ومن الأحكام: أنه لا يشرع غرس الأشجار على القبور، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم. أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريد فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم وخاص بالقبرين، لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئاً من القربات لم يشرعه الله، قال الله تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [2].
ومن الأحكام: أنه لما حرم الاسلام تصوير ذوات الأرواح أجاز تصوير الأشجار وما لا نفس له ففي صحيح مسلم عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ)) ، وقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ.
أيها الأحبة: وقد سئل بعض علمائنا عما يقام من احتفالات تحت مسمى أسبوع الشجرة. فكان الجواب:
هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً من الشرع وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة، لأن كل شيء يتعبد به الانسان عز وجل وهو غير وارد في كتا ب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه من البدع. لكن الذين نظموها يقولون: إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها. ويجب أن ينظر في هذا الأمر وهل هذا مسوّغ لهذه الأسابيع أو ليس بمسوّغ [3].
وختاماً فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فتن في آخر الزمان، القاعد فيها خير من الماشي، ومن جملة ما أوصى به عليه الصلاة والسلام حال الفتن أن يعتزلها المسلم ولو أن يعض على أصل شجرة. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: تكون هدنة على دخن:... ثم تكون دعاة الضلالة، فإن رأيت يومئذ خليفة الله فى الارض فالزمه، وإن نهك جسمك وأخذ مالك، وإن لم تره فاضرب فى الأرض، ولو أن تموت وأنت عاض على جذل شجرة.
[1] زاد المعاد 3/449
[2] مجموع فتاوى بن باز 5/407
[3] مجموع الفتاوى 2/300
(1/915)
الشفاعة الحسنة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/5/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاضل الناس في الدنيا في الأرزاق وفي المكانة والجاه 2- فضل من استغل جاهه ومكانته
في خدمة إخوانه المسلمين 3- شروط الشفاعة الحسنة المقبولة التي تنفع صاحبها وتزيد من
أجره وبيان لبعض الشفاعات السيئة المحرمة 4- أحكام تتعلق بالشفاعة الحسنة 5- شفاعة
الميت لمن صلى عليه 6- يوم القيامة تزول كل الشفاعات الباطلة 7- أعظم شفاعة هي
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي الله لفصل القضاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يقول سبحانه وتعالى: أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون.
خلق الله الخلق فجعلهم درجات ، فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والأعمال والعقول وغير ذلك ، وكل ذلك من أجل أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، يكون كل منهم مسخراً لخدمة الآخر وللسعي في حاجته. الغنيُ يخدمُ الفقير بجاهه وماله ، والفقير يخدم الغني بعمله وسعيه.
ومن نعم الله على العبد المسلم نعمة الجاه والمكانة بين الناس ، إذا قام بشكرها كانت نعمة ، وإذا قام بكفرها فحجب هذا الجاه عن أهله المستحقين له كانت نقمة ووبالاً عظيماً. قال صلى الله عليه وسلم: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) رواه مسلم.
ومن أعظم أبواب النفع للمسلمين باب الشفاعة الحسنة ، يقول سبحانه وتعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها.
الشفاعة الحسنة وبذل الجاه والمكانة للمسلمين أياًما كانوا ، أصبح في حكم المعدوم والنادر في هذا الزمان. وتناسى أصحاب المكانات والجاه والرئاسة الفضل العظيم في قبول الشفاعات الحسنة. ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة في الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه البخاري ومسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: ((لأن أمشي في حاجة أخي أحبُ إليَّ من أن أعتكف شهراً)).
((وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه السائل - أو صاحب الحاجة - قال: اشفعوا فلتؤجروا ، وليقض الله على لسان رسوله ما شاء)) رواه البخاري. الفتح 10/451.
قال الإمام الشافعي: "الشفاعات زكاة المروات" كشف الخفاء 1/129.
ومرة: جاء رجلٌ إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة ، قضاها ، فأقبل الرجل يشكره ، فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا ، ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة؟ ثم أنشأ يقول:
وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
فرضت علي زكاة ما سكلت يدي
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع
أيها الأخوة: إن الشفاعة الحسنة مبذولة لكل مسلم ، ليست لمعارفك ولا لإخوانك: إنك عمَّا قريب ستفارق جاهك ، وتفارق منصبك ، فلا تبخل حتى بجاهك ومساعدتك عن إخوانك المسلمين. إنما المؤمنون إخوة ، ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)). إذا جاءك رجل مسلم يريدُ شفاعتك في كذا فقم معه ، ولا تتوانى ، ترفع عنه الظلم أو تجلب له الخير بشفاعتك الحسنة.
أيها الأخوة: والشفاعة حتى تكون حسنة ، مقبولة شرعاً ، تنفع صاحبها ، وتزيد في أجره لابد أن تتوفر فيها ضوابط وشروط:
الأول: عدم تضييع من له حق: فكم من الناس يشفع ويتوسط ويتوسل في أمور يضيع بها حقوق المسلمين لنفع صاحبه أو قريبه ، وهذا من المحرمات ، ومن البلايا التي ابتلي بها أهل الزمان ، تضيع حقوق وتهدر أحوال وأوقات وجهود بسبب مكالمة أو ورقة صغيرة: إثمها كبير، ووزرها خطير ، ويظن الجاهل أن هذا من الشفاعة الحسنة ، وما علم أنها من الشفاعة المحرمة: ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً. ومن علامات سوء المجتمع. أنك لا تستطيع إنجاح حاجة من حوائجك بدون أن تكلم فلان أو تتصل على هيان بن بيان أو تستخرج ورقة من علان ، لتسجيل أحد أولادك في الجامعة أو أحد بناتك في الكلية ، أو حتى تسجيل بعض أولادك الصغار في المدارس. أو لكي تعين في المنطقة الفلانية أو تنقل من جهة إلى جهة. وتدخل الشفاعات السيئة عندما يصل الأمر إلى نقل المدرسات من منطقة إلى منطقة بل قد يتعدى الأمر إلى الرشاوى، هذا والنظم موجودة والباب مفتوح. فإلى الله المشتكى. وهذا إن حصل فكما قلت علامة سوء المجتمع.
والضابط الثاني ما أذن فيه الشرع دون ما لم يأذن فيه، والأجر لا يكون في الشفاعة إلا إذا كانت شرعية ، يقرها الشرع.
وبعض الناس يظن أن كل شفاعة أو واسطة فيها الأجر والثواب ، وهذا مخالف لقول الله تعالى: ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ، فدل على وجود نوع من أنواع الشفاعات: حرام ، وهي الشفاعة السيئة.
وقد يشفع إنسان ما بجاهه ومنزلته وبكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين ويظلمهم ويأكل أموالهم بالباطل.
والضابط الثالث: ((ألا تكون الشفاعة في حدٍ من حدود الله)).
إن الشفاعة في الحدود من الكبائر عدها إبن القيم منها ، واستدل بحديث ابن عمر المرفوع: ((من حالت شفاعته دون حدٍ من حدود الله فقد ضاد الله في أمره)) رواه أحمد وغيره بإسناد جيد.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فكلم أسامة رسول الله. فقال: ((تشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم إنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وأيمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطع محمد يدها)) رواه البخاري.
وهذا في الشفاعة إذا وصل الحد إلى السلطان ، فلا تجوز الشفاعة حينئذ ، ومن يشفع فهو مرتكب لكبيرة من الكبائر العظام ، مضاد لحكم الله في أرضه وسلطانه لكن إذا لم يصل السارق إلى السلطان أو شارب الخر فالستر عليه والعفو عنه.
ومن أسباب النكبات التي تمر بها بلدان المسلمين تعطيل الحدود الشرعية، بسبب شفاعات السوء ، وجاهات الضرار التي تحاد شرع الله ، فإذا تعطل الحد الشرعي حلت عقوبة قدرية كونية تشمل المجتمع كليه ، قال صلى الله عليه وسلم : ((حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً)).
- يزني الزاني فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد.
- ويشرب الخمر من يشربها فيشفع فيه من يشفع.
- ويسرق من يسرق فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد.
- ويسبُ الدين والشرع ويستهزأ به ولا يقام الحد.
ويرتد من ارتد عن دينه فلا يقام حد الردة.
وكل ذلك بسبب شفاعات السوء ، التي تحارب حكم الله وحدوده.
أيها الأخوة: وللشفاعة الحسنة أحكام تتعلق بها ، وتنبيهات يجدر بالمسلم أن يتفطن لها. فإذا شفعت أيها الأخ المسلم شفاعة حسنة: فلا يجوز لك أن تأخذ مقابل على هذه الشفاعة والواسطة. والدليل ما رواه الإمام أحمد عن أبي أمامة مرفوعاً: ((من شفع لأحد شفاعة ، فأهدى له هدية (عليها) فقبلها (منه) فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
ومن الناس من يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه: ليعين شخصاً في وظيفة أو نقل آخر من دائرة لأخرى، أو من منطقة إلى أخرى، أو حتى يُدخل مريضاً المستشفى لعلاجه ، أو ليُخرج أوراقاً يمكث بها الناس في بعض الديار والبقاع ، ويأخذ على هذا مبلغاً مالياً ، يشترطه.
إن هذا المقابل المادي حرام لا يجوز أخذه والدليل: ((من شفع لأحد شفاعة فأهدي له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق كما يقوله الشيخ العلامة ابن باز ، فلو شفعت أخي المسلم لأخيك وجاءك بهدية - بدون أن تشترطها - فلا تأخذها ، وأجرك على الله ، ولا تجعل باباً للشيطان يُفسد عليك أعمالك الصالحة التي تبتغي بها وجه الله ، لا تقبل هدية ، ولا مال ، ولا خدمة أخرى مقابل شفاعتك وواسطتك ، فإن "الشفاعات زكاة المروات".
وإذا قلنا بتحريم - أخذ الهدية - على الشفاعة والواسطة ولو لم تشترط ، فإنه لا يدخل في ذلك استئجار شخص لإنجاز معاملة ومتابعتها وملاحقتها في الدوائر ، مقابل أجرة معلومة، فهذا باب آخر غير مسألة الشفاعة والواسطة ، فهو من باب الإجارة: فكأنك تستأجر فلان ليُطارد لك معاملتك وينجزها ، فهذا جائز لا شيء فيه ، وهو ليس من باب بذل الجاه والشفاعة والمكانة مقابل المال. فهذا هو المحرم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فقد تعرضنا في الخطبة السابقة ، لأحكام الشفاعة للحي وفضلها ، وهي التي لا يعرف الناس سواها ، وهناك شفاعة أخرى غائبة عن كثير من الناس إلا ما رحم ربي وقليل ماهم. إنها الشفاعة للميت. نعم. "الميت" أحوج ما يكون للدعاء والشفاعة ، تشفع فيه بدعائك الصالح الذي قد يقبله الله منك. "الميت" أحوج لهذه الشفاعة من ذلك الحي الذي تسعى له بكل جهدك وأعمالك لتصلح من حاله.
يقول عليه الصلاة والسلام: ((إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)) وقال: ((ما من رجل مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً ، لا يشركون بالله شيئاً ، إلا شفعهم الله فيه)) ويموت الميت في هذا الزمان ولا يبالي به بعض أهله ولا يكترثون بمن يُصلى عليه أو يصلي عليه وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في شفاعة الأحياء: ((اشفعوا تؤجروا)) فإنه يقول في الصلاة على الميت: ((من خرج مع جنازة من بيتها أو صلى عليها ، ثم تبعها حتى تدفن ، كان له قيراطان من أجر ، كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أحد)).
أيها الأخوة: وفي يوم الدين تزول الشفاعات الباطلة ، ولا تبقى إلا شفاعة من أذن الله له ورضي له قولاً. يقول الكفار في ذلك اليوم: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ويقول عز وجل عنهم: فما تنفعهم شفاعة الشافعين حتى لو شفع أحد فيهم فلا تنفعهم شفاعة شافع مهما كان. والكفار لا شفيع لهم في يوم المعاد ولهذا يقولون: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم كانوا في الدنيا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويقول الله لهم: وما نرى معكم شفعاؤكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ويقول: ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين.
أخي الحبيب: وفي يوم القيامة كما في الصحيحين: ((يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم ، فيأتون آدم ، فيقولون: يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا ، فيقولون: يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبداً شكورا ، فاشفع لنا إلى ربك ، الا ترى إلى ما نحن فيه؟ألا ترى ما قد بلغنا؟فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي نفسي، نفسي نفسي ، إذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتون إبراهيم ، فيقولون: يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟الا ترى ما قد بلغنا؟فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر كذباته ، نفسي نفسي، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ألا ترى ما قد بلغنا؟فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى ، فيأتون عيسى ، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، قال: هكذا هو ، وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر له ذنبا ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فيأتون ، فيقولون: يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ذنبك ، ما تقدم منه وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال: يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفع ، فأقول: يا رب أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب ، ثم قال: والذي نفسي بيده ، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى)) أخرجاه في الصحيحين بمعناه ، واللفظ للإمام أحمد.
(1/916)
الشفاعة
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الشفاعة, اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/1/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هول الحشر يوم القيامة وظهور مكانة الأنبياء وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم
بالشفاعة في ذلك الوقت وهي الشفاعة العظمى
2- أنواع أخرى من الشفاعة 3- من هم الذين يشفعون
4- أعمال توجب الشفاعة لأصحابها "بإذن الله تعالى" 5- أعمال تمنع الشفاعة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل ويتجلى على عباده في الموقف يوم القيامة بالجلال والجبروت، ونعلم أن الناس يكونون في الموقف والشمس تدنو من الخلائق، وتكون منهم بمقدار ميل، فيغرقون في عرقهم كل بحسب عمله، حتى يتمنى بعض الناس الانصراف ولو إلى النار من شدة ما هم فيه، ولو علموا حقيقة النار لما تمنوا ذلك. فيرحم الله بعض خلقه المستحقين للرحمة بعدة رحمات منها الشفاعة، بالشفاعة يعرف المسلم قدر رحمة الله، ويعرف تفضله على أنبيائه عموماً وعلى نبينا خصوصاً، لأن له المقام الأول، والحظ الأوفر من الشفاعة.
الشفاعة جعلها الله كرامة للشافع ورفعاً لدرجته، ونفعاً للمشفوع له خصوصاً أهل المعاصي من أمثالنا، والله المستعان ممن توقفت سعادتهم للحصول عليها. مسألة الشفاعة من العقائد المسّلم بها عند أهل السنة، وقد خالف وأنكرها بعض أهل البدع ممن ينتمي إلى أهل القبلة. وخلاصة الشفاعة أنها طلب الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من الله تعالى في الدار الآخرة حصول منفعة لأحد من الخلق. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً)). قال الله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه وقال تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون وقال سبحانه: يومئذٍ لاتنفع الشفاعةُ إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا وقال جل وعلا: وكم من ملك في السماوات لاتغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
أيها المسلمون: وأعظم الشفاعات يوم القيامة شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لفصل القضاء بين الناس، عندما يكون العباد في قلق شديد وكرب عظيم لايدرون كيف يهتدون إلى الخلاص مما هم فيه، فيلهم الله تعالى بعض عباده طلب الشفاعة من الرسل إلى الله تعالى لفصل القضاء وإراحتهم مما هم فيه. فيأتون آدم، ثم نوح، ثم ابراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، حتى تنتهي بنبينا صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم. روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ فَذَكَرَهُنَّ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ: عِيسَى إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ أُمَّتِي يَا رَبِّ فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى)).
وهذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي المقام المحمود المراد بقول الله تعالى: ومن الليل فتهجد به عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً.
أيها المسلمون: وهناك شفاعة في أهل الكبائر من هذه الأمة ممن يرتكبون الفواحش والمخالفات فقد يرحم الله بعضهم بشفاعة، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لايموتون فيها ولايحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أَذِن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر (أي جماعات) فبثواعلى أنهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل)) رواه مسلم. وقد قال الله تعالى: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا لايملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً.
وهناك شفاعة لطائفة من المؤمنين بدخول الجنة بغير حساب ولا عذاب وعددهم سبعون ألفاً، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: ((عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ، فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: نَعَمْ. فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ)) رواه البخاري.
وهناك شفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم لمن سكن المدينة ومات بها، فالله جل وتعالى شرّف المدينة بخيرات عديدة، فهي مُهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعاصمة الاسلام الأولى، والإيمان يأرز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، ومن هذه الميزات شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهلها لمن مات بها صابراً محتسباً ففي صحيح مسلم: ((المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لايدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجَهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة)).
أيها المسلمون: وأيضاً هناك شفاعة لرفع درجات أهل الجنة، فهؤلاء قد دخلوا الجنة ومع ذلك تنالهم شفاعة، فترفع درجاتهم كرماً من الله جل جلاله، إن من عباد الله من يقدمون أعمالاً يدخلهم المولى برحمته الجنة، وفوق هذا ينالهم كرم الله فوق ذلك فتنالهم شفاعة ترفع منزلتهم في الجنة. أخرج البخاري عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقُتل دريد وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرُمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته. فانتهيت إليه فقلت: يا عم، من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى، فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزا منه الماء، قال: يا ابن أخي أقريء النبي صلى الله عليه وسلم السلام وقل له: استغفر لي، واستخلَفني أبا عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مرمل وعليه فراش، وقد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: ((اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس، فقلت: ولي فاستغفر، فقال: اللهم اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً)). قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى.
وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لاتدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمّنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يارب العالمين، وافسح له في قبره ونور له فيه)) رواه مسلم.
أيها الأحبة: وهناك شفاعة خاصة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عنه، والكفار كما نعلم لا شفاعة لهم، والأصل في حقهم قول الله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين لكن لما كان لأبي طالب مواقف عظيمة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومساندته له في دعوته ومناصرته والذب عنه، وهي أعمال فاضلة. أُذن للرسول الشفاعة في عمه فقط، وهي شفاعة تخفيف لا شفاعة إخراج من النار. ففي البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال: ((لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)). وعند مسلم من حديث ابن عباس: ((أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو مُنتعل بنعلين يغلي منهما دماغه)) فنسأل الله أن يرحمنا برحمته.
وهل تنتهي الشفاعات عند هذا؟ لا. كرم المولى ورحمته بخلقه أعظم من هذا فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع في أمته عدة مرات وفي كل مرة يرحم الله فيها طائفة من الناس قال صلى الله عليه وسلم: ((ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا رَبِّي ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّي وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ، قُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ عَلَّمَنِيهَا ثُمَّ أَشْفَعْ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مَا يَزِنُ مِنْ الْخَيْرِ ذَرَّةً)).
وهل تنتهي الشفاعات عند هذا؟ لا. وبعد هذه الشفاعات يقول الله جل جلاله: ((شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط)).
فنسأل الله تعالى أن تنالنا شفاعة تنجينا من عذاب الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الله تعالى يشفع في ذلك اليوم وكذلك يشفع الأنبياء والرسل ويشفع الملائكة. وممن يشفع أيضاً يوم القيامة الشهداء الذين قد أراقوا دمائهم في سبيل الله هؤلاء يكرمون يوم القيامة بأن يسمح لهم بالشفاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار: الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)) رواه الترمذي وغيره.
وممن يشفع أيضاً الولدان كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا القَسَم)) رواه البخاري.
وأيضاً سيشفع القرآن، هؤلاء الذين أقبلوا على القرآن هنا في الدنيا، هذا القرآن سيشفع لهم عند الله تعالى، والجزاء من جنس العمل، فقد ثبت أن سورتي البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، تحاجان عن صاحبهما. وقال صلى الله عليه وسلم: ((اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)).
أيها المسلمون: احرصوا على ثلاث واحذروا من ثلاث، أما الثلاثة التي يحرص عليها فإنها مما توجب الشفاعة بإذن الله :
الأمر الأول: طلب الوسيلة للرسول صلى الله عليه وسلم والإكثار من الصلاة عليه: فعن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة)) رواه مسلم.
الأمر الثاني: قول لا إله إلا الله بإخلاص والموت عليها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يارسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: ((لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه)).
الأمر الثالث: الإكثار من السجود: فعن زياد بن أبي زياد مولى بني مخزوم عن خادم النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مما يقول للخادم: ((ألك حاجة؟ حتى كان ذات يوم قال: يارسول الله، حاجتي أن تشفع لي يوم القيامة، قال: فأعني بكثرة السجود)) رواه أحمد وسنده صحيح.
وأما الثلاثة التي يحذر منها فلأنها تمنع من الشفاعة:
الأمر الأول: الشرك بالله: المشرك لا شفاعة له ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. والكافر قد حرم من المغفرة، فالشفاعة من باب أولى. يقول الكفار في ذلك اليوم فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ويقول عز وجل عنهم فما تنفعهم شفاعة الشفاعين حتى لو شفع أحد فيهم فلا تنفعهم شفاعة شافع مهما كان.
الأمر الثاني: كثرة تعمد اللعن: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ان اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) رواه مسلم.
الأمر الثالث: التكذيب بالشفاعة: عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها). والجزاء من جنس العمل.
(1/917)
الصراع مع الروم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/3/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بَدْأ الجهاد ضد النصارى كان في غزوة مؤتة وسبب ذلك ونتيجة تلك الغزوة 2- استمرار
الصراع بين المسلمين والروم النصارى إلى قيام الساعة وأن الحرب بينهم دول إلى أن ينتصر
المسلمون وتنتهي النصرانية قبل قيام الساعة 3- مكانة الجزيرة العربية في هذا الصراع
4- بعض الفوائد من الأحاديث التي جاءت بشأن قتال المسلمين مع النصارى
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن صراع المسلمين مع الروم صراع قديم بدأ مع غزوة مؤتة، إن أول التقاء مع النصرانية كانت في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة ، وكان سببها هو مقتل مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الحارث بن عمرو الأزدي رضي الله عنه بكتاب إلى ملك الروم بالشام والذي تم قتله من قبل حليف الروم شرحبيل بن عمرو الغساني ، الملك على أطراف الشام. لقد كان لقتل رسول رسول الله ، أكبر الأثر في نفس رسول الله فما كان منه صلوات ربي وسلامه عليه إلا أن بَعَث بَعّث مؤتة بقيادة ثلاثة من كبار الصحابة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف رجل ، فجمع النصارى جيشاً عدده مائة ألف رجل، وانضم إليهم من قبائل العرب لخم وجذام وغيرهم ، التقى الفريقان في قرية من قرى البلقاء في الشام ، وانتهت المعركة بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة ، وقذف الرعب في قلوب الروم النصارى والخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب ، حتى أن بعض حلفاء الروم من العرب أفزعهم نبأ هذه الغزوة ، فسارعوا إلى عقد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودفع الجزية ، وقبل هذه الغزوة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام ، فكان من جملة ما كتب رسالته إلى قيصر ملك الروم.
(بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئاً ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). إن هذا الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم يمثل الإعلان الدائم والمستمر على أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى ، لأن الشرط الذي في هذا الكتاب هو قبول الإسلام والخروج من النصرانية بل والتخلي عن الزعامة ، وهل سيقبل النصارى بهذا ، وزعامة العالم اليوم بأيديهم.
أما نحن المسلمون ، فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب ، والسعي لتنفيذه ، وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.
أيها المسلمون: ينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون ، هو ديمومة الصراع مع النصارى ، وأنه سيستمر إلى نهاية العالم.وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق غير مباشر حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. والأصرح منه قول الله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون. إذاً صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة وهو فتنة ، ابتلى الله بها المسلمون ، وهذا قدرهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.
وإليكم أيها الأحبة بعضاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها الإشارة إلى استمرار هذا الصراع ، وأنه يأخذ منحى المداولة، فتارة تكون الغلبة لهم، وتارة تكون الغلبة عليهم ، وأن هذا الصراع ينتهي بانتهاء الروم وانعدام النصرانية، وانتصار الحق في نهاية مسيرة الحياة الإنسانية والتي تعقبها نهاية العالم.وقبل استعراض بعض هذه الأحاديث ينبغي أن نعلم بأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا إرشاد للأمة من جانبين:
الأول: تنمية وتقوية الإحساس بالخطر النصراني حتى لا يستكين المسلمون لهم.
الجانب الثاني: تثبيت الإيمان لدى المسلم ، وألا يفقد الثقة بنفسه حتى في فترات زهو النصرانية وتصدرها الزعامة ، وليعلم بأنها مرحلة، وتكون النهاية للإسلام وأهله ، وللدين وأتباعه ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. إن هذه الأحاديث عباد الله ، تمثل المصل الواقي ، وتمثل الترياق الذي يحافظ على الأمة كيانها في فترات الضعف والذل والهوان كما هو في عصرنا الحاضر.
الحديث الأول: روى الحاكم في مستدركه بسنده عن كثير عن عبد الله عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((لا تذهب الدنيا يا علي بن أبي طالب قال عليّ: لبيك يا رسول الله. قال: أعلم أنكم ستقاتلون بني الأصفر ويقاتلهم من بعدكم من المؤمنين، وتخرج إليهم روقة المؤمنين أهل الحجاز الذين يجاهدون في سبيل الله لا تأخذهم في الله لومة لائم حتى يفتح الله عز وجل عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير، فينهدم حصنها فيصيبون نيلا عظيما لم يصيبوا قبله قط حتى أنهم يقتسمون بالترس، ثم يصرخ صارخ يا أهل الإسلام قد خرج المسيح الدجال في بلادكم وذراريكم، فينفض الناس عن المال، فمنهم الآخذ ومنهم التارك، فالآخذ نادم، والتارك نادم يقولون من هذا الصائح؟ فلا يعلمون من هو. فيقولون: ابعثوا طليعة إلى لد فإن يكن المسيح قد خرج فيأتوكم بعلمه، فيأتون فينظرون، فلا يرون شيئاً، ويرون الناس شاكين، فيقولون ما صرخ الصارخ إلا لنبأ فاعتزموا ثم أرشدوا فيعتزمون أن نخرج بأجمعنا إلى لد فإن يكن بها المسيح الدجال نقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير الحاكمين، وإن يكن الأخرى فإنها بلادكم وعشائركم وعساكركم رجعتم إليها)). هذا الحديث يؤكد حقيقة أن الصراع مع الروم لن ينقطع بل إنه صراع دائم أساسه البعد الثقافي المرتكز على البعد الديني ، ولهذا فإن ديمومة الصراع سوف تستمر حتى ينتهي الأمر بغزو معقل النصارى وفتح مدينة روما وما يسبقها من مدن باستعادة السيطرة عليها من قبل المسلمين. كما يؤكد هذا الحديث أن الدولة الإسلامية سوف تنبعث من الجزيرة العربية كما انبعثت في الماضي، وستعود لها السيطرة على الأرض كما حدث في الماضي، لهذا فإن صراع الروم مع المسلمين في هذا العصر يرتكز على تحطيم القيم والمبادئ والعمل على غزو جزيرة العرب فكرياً بعد أن سقط ما حولها من قلاع المسلمين.
الحديث الثاني: وهو يؤيد هذا الحديث رواه الحاكم بسنده عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، فيخرج إليهم جلب من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ويصبح ثلث لا يفتنون أبدا، فيبلغون القسطنطينية فيفتحون، فبينما هم يقسمون غنائمهم وقد علقوا سلاحهم بالزيتون إذ صاح الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم)). في هذا الحديث إشارة إلى أنه يسبق المعركة معارك يغنم فيها المسلمون غنائم من بينها أسرى وهؤلاء الأسرى يُسلمون ويكونون في صفوف المسلمين. لهذا يرغب الروم في قتال أبناء جنسهم ، لكن المسلمين يمتنعون عن ذلك، ثم تنتهي المعركة بفتح القسطنطينية، وهذا الفتح ليس هو الفتح الأول الذي كان على يد محمد الفاتح.
الحديث الثالث: روى الحاكم بسنده عن يحيى بن أيوب عن أبي قبيل سمع عبد الله بن عمرو يقول لنا ، كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُئل أي المدينتين تفتح أولاً ، يعني القسطنطينية والرومية فقال: ((مدينة هرقل أولاً)) ، يعني القسطنطينية. يشير هذا الحديث إلى أنه سيكون هناك فتح لكلتا المدينتين فالأولى فتحت ، وبقيت تحت سيطرة المسلمون فترة من الزمن ثم سُلبت ، وهناك ما يشير إلى أنه سيعاد فتحها ثانية ، وترجع في حوزة الدولة الإسلامية ، وستُفتح روما أيضاً.
الحديث الرابع: حديث نافع بن عيينة عن الإمام أحمد عن جابر بن سمرة قال: ((كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأتاه قوم من قبل الغرب عليهم ثياب الصوف فواقفوه عن أكمة وهم قيام وهو قاعد ، فآتيته فقمت بينهم وبينه ، فحفظت منه أربع كلمات أعُدهن في يدي ، قال تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله ، قال نافع يا جابر، ألا ترى أن الدجال لا يخرج حتى تفتح الروم)). وقد روى هذا الحديث الإمام مسلم بلفظ قريب من هذا ، في هذا الحديث إشارة إلى تدرج الفتح ، وقد تحقق فتح جزيرة العرب وفارس ، فلم يبق من بلاد فارس جزء لم يكن تحت الولاية الإسلامية ، أما الروم فلا زال الصراع معهم ، ولا زال جزء من بلاد الروم لم يفتح ، وخاصة معقل النصرانية الديني وهو روما ، فالصراع معهم مستمر ، فتارة يدال للمسلمين عليهم ، وأخرى يدال للنصارى على المسلمين، ولازال مركز القيادة الروحية للنصارى لم يفتح. كما أن الحديث يشير إلى أن الصراع مع الروم وخضوعهم للدولة الإسلامية سوف لن يتحقق إلا قرب خروج الدجال ، وقد يكون السر في ذلك والله أعلم هو أن البعد الروحي للنصارى مقترن بالدجال ، لأن العقيدة النصرانية قائمة على الاعتقاد بعيسى وبعودته إلى الأرض. وعودته عليه السلام مقترنة بخروج الدجال، ولهذا فإن الصراع معهم مستمر ، وإن هزيمتهم ستكون الحلقة الأخيرة التي تسبق الدجال. فنسأل الله جل وتعالى أن يعصمنا من الفتن
ما ظهر منها وما بطن كما نسأله جل وتعالى، أن يعز دينه ويعلي كلمته ، وينصر أولياءه وأن يعجل بفرج هذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الحديث الخامس في سلسلة الصراع مع الإسلام والنصرانية الذي سيكون بين مد وجزر ينتهي بالمعركة الفاصلة التي يحشد لها النصارى قرابة مليون شخص تنتهي بالهزيمة النهائية حيث لا يقف الجيش الإسلامي إلا بعد أن يفتح روما العاصمة الروحية للنصرانية ، وعند هذا الفتح سوف تنتهي معركة الروم، فيتحقق ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يتم فتح الروم، ويتبع ذلك مباشرة المعارك مع الدجال الذي ينتهي الأمر بقتله، وعندئذٍ تضع الحرب أوزارها ويقرب العالم من نهايته، ويتحقق وعد الله بتبديل الأرض غير الأرض، ويعود الخلق جميعهم إلى موجدهم لتبدأ بعد ذلك الحياة السرمدية الأخروية.
روى الحاكم في المستدرك والإمام أحمد في مسنده واللفظ للحاكم عن ذي مخمر بسنده عن حسان بن عطية عن خالد بن معدان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تصالحون الروم صلحاً آمناً حتى تغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم، فتسلمون وتفتحون وتنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيقول قائل من الروم: غلب الصليب ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب. فيتداولونها بينهم، فيثور المسلم إلى صليبهم وهو منهم غير بعيد ، فيرميه ، ويثور الروم إلى كاسر صليبهم فيقتلونه فيكرم الله عز وجل تلك العصابة من المسلمين بالشهادة، فيقول الروم لصاحب الروم كفيناك حد العرب ، فيغدرون فيجتمعون للملحمة فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)). وفي رواية أخرى للحاكم: ((ستصالحكم الروم صلحاً آمناً ثم تغزون أنتم وهم عدوا فتنصرون وتسلمون وتفتحون، ثم تنصرفون بمرج، فيرفع لهم رجل من النصرانية الصليب فيغضب رجل من المسلمين، فيقوم إليهم فيدق الصليب فعند ذلك تغضب الروم فيجتمعون للملحمة)).
في هذا الحديث العظيم يتضح بعض الحقائق التي تبين مستقبل الصراع مع النصارى.
الأول: أن هذه الهيمنة من قبل النصارى اليوم على العالم ستزول. وأن هذه القوة المادية وهذه التقنية لن تستمر حتى نهاية العالم قال الله تعالى: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. إذاً فهذه العقلية التي يعيشها الغرب اليوم أنهم قادرون على فعل كل شيء ، وهذا التباهي بالقوة العقلية والمادية والعسكرية والتقنية ، ستزول بقوة الواحد الأحد.
ثانياً: يشير الحديث إلى خفض الهيمنة العالمية المعاصرة للنصارى ، وفك ارتباط الحكومات العربية المعاصرة مع العدو الصليبي اليهودي ، وابتعاد النفوذ الصليبي عن المنطقة مما يتيح للمسلمين تسلم زمام الأمور وتكوين دولة إسلامية تمثل قوة جديدة في العالم ، يلتجئ إليها النصارى ويطلبون الصلح للحصول على مساندة لمحاربة عدوها الذي سينزل بها الدمار.
ثالثاً: إن هذا الصلح الذي سيتم مع النصارى آخر الزمان يتم بناء على رغبة من النصارى فهم الذين يطلبون الصلح بقصد الاستعانة بالمسلمين ، وهذا يؤكد أنه سيكون للمسلمين دولة قوية ، وهو مؤشر إلى أنه قبل الملحمة ستقوم للمسلمين دولة قوية ، يخشاها النصارى ولمعرفتهم بقوة المسلمين يحشدون لهم ما يقارب مليون شخص – ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألف.
رابعاً: يفهم من هذا الحديث أن الفكر العلماني المعاصر التي تتبناه الدول النصرانية ، سوف يحل محله الفكر الديني الصليبي ، وأن الدول النصرانية ستعود إلى دينها ، بعد أن قضت ردحاً من الزمن وهي غارقة في شهواتها وعلمنتها ، وأن الدين سيكون هو المحرك لهذه الدول ، وهذا يؤخذ من الحديث من قيام رجل منهم برفع الصليب بقصد إظهار القوة النصرانية ، فيغضب المسلمون لذلك فيعمدون إلى الصليب فيكسرونه، مما يثير غضب النصارى فيقومون بقتل الجيش الذي كان معهم ، وبهذا ينقضون الصلح مع الدولة الإسلامية.
خامساً: أن هذا الحديث وما سبق وأمثاله من علم الغيب الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن أمة تؤمن بالغيب. الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون.
فانطلاقاً من إيماننا بالغيب ، وثقة بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن على موعد مع الروم ، وسيتحقق كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى ، وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية – روما – وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويكون الغلبة لها ، وستقع المعركة الفاصلة مع الروم ، وسيكسر الصليب فوق رؤوس أصحابها، وستكون معركة شديدة قوية ، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين.
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق – ودابق قرية قرب حلب – فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافّوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبقوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً ، فيفتحون قسطنطينية فيما بينهم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل.فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعودون للقتال يسوون الصفوف إذا أقيمت الصلاة، فينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته)).
فنسأل الله جل وتعالى أن لا يفتنا في ديننا، اللهم إن أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا ، واجمع بها شملنا ولم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.
(1/918)
الصلاة الصلاة
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/5/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة وفضلها وكفر تاركها 2- وجوب صلاة الجماعة وفضلها واهتمام السلف بها
_________
الخطبة الأولى
_________
إن دين الإسلام الذي أكرم الله به هذه الأمة وأتمه لها ورضية لها دينا، ورتب عليه من حسن الجزاء وعظيم المثوبة ما تتمناه، الأنفس وتلذ به الأعين، هذا الدين قد بني على أسس وقواعد متينة لا ينجو من بلغته من أليم العقاب وشدة العذاب، ويحظى بما يترتب على الإتيان بها من عزة واحترام في الدنيا ولذة وسيادة في الآخرة، لا ينال المسلم هذه الأمور حتى يأتي بهذه الأسس والقواعد موفورة كاملة. ومن بين هذه الأسس التي بنى عليها الإسلام: الصلاة، الصلاة التي هي عمود هذا الدين وأهم أركانه بعد الشهادتين. الصلاة التي ملأت فضائلها أسماع العالمين بما أعد للمحافظين عليها. قال صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أبو داود بإسناد حسن، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)) رواه الطبراني في الأوسط وهو حسن. وقال مرة عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه: ((أكثِر من السجود، فإنه ليس من مسلم يسجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله بها درجة في الجنة، وحط عن بها خطيئة)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح – بكل سجدة ترفع درجة في الجنة ويحط عنك بها خطيئة، وما بين الدرجة والدرجة في الجنة كما بين السماء والأرض، بل وإن من فضائل هذه الصلاة ما قاله عليه الصلاة والسلام: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، والمقصود صلاة الفجر والعصر.
أيها الاخوة المؤمنون: وكثير من الناس لا يلقون لفضل الصلاة بالاً ولو لركعتين، مر مرّة عليه لصلاة والسلام على قبر دفن صاحبه حديثا، فقال لأصحابه: ((ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون، يزيدهما هذا في عمله – وأشار عليه الصلاة والسلام إلى صاحب القبر – أحب إليه من بقية دنياكم)) رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح.
نعم – أيها الاخوة المؤمنون – إن بعض الموتى يودون لو يخرجوا من قبورهم فيصلوا ركعتين، فإنهم يرون أنها خير من الدنيا وما فيها. فهل يتعظ بهذا متعظ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)) رواه الطبراني بسند صحيح – بكل ركوع وسجود تتهاوى وتتساقط آثامك وجرائرك العظيمة أمام معاول: وقوموا لله قانتين وقد ورد الأمر بالمحافظة على صلاة الجماعة وإبداء هذه الصلاة المكتوبة في المساجد. قال تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة وتمام المحافظة التي أمر الله بها وكمال الإقامة التي يريدها الله لا يحصلان إلا بأداء الصلوات في جماعة، لقوله تعالى: واركعوا مع الراكعين.
أيها الاخوة المؤمنون: إن الأحاديث والآيات التي فيها إيجاب صلاة الجماعة على المؤمن كثيرة، وتلك التي فيها الترهيب من ترك الجماعة كذلك، كقوله عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم)) رواه البخاري ومسلم، وعند الإمام أحمد بلفظ: ((لولا ما في البيوت من النساء والصبيان لأحرقتها عليهم)) لو كان عليه الصلاة والسلام حياً لهمّ بإحراق مدن ومجتمعات كثيرة لا يعرف أهلها المحافظة على صلاة الجماعة ولا يشهدونها مع المسلمين.
فجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منابركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي
أيها الاخوة المؤمنون: إن الصلاة هي الفيصل والبرزخ بين الكفر والإيمان، فمن أداها وحافظ عليها كان هو المؤمن، ومن تركها وتهاون بها كان هو الكافر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، من تركها فعليه لعنة الله، من تركها خرج من دين الله، من تركها انقطع عنه حبل الله، من تركها خرج من ذمة الله، من تركها أحل دمه وماله وعرضه، تارك الصلاة عدو لله عدو لرسول الله، عدو لأولياء الله، تارك الصلاة مغضوب عليه في السماء، ومغضوب عليه في الأرض، تارك الصلاة لا يؤاكل، ولا يشارب، ولا يجالس، ولا يرافق، ولا يؤتمن. تارك الصلاة خرج من الملة، وتبرأ من عهد الله، ونقص ميثاق الله، إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
أيها الاخوة المؤمنون: لما وقر تعظيم الصلاة وأمر الله في قلوب الصحابة هانت أمامهم كل الصعاب في سبيل المحافظة على صلاة الجماعة من بعدت بيوتهم عن المسجد النبوي فيأتون يسعون إليها، يمرضون فيؤتي بهم، يهادى الرجل منهم بين الرجلين حتى يقام في الصف، الأعمى منهم يسابق البصير على الصف الأول، وليس فيهم أعمى رضوان الله عليهم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن - يعنى في المسجد - فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفع بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف، وفي رواية: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان الرجل ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة). رواه مسلم ولم يرخص عليه الصلاة والسلام للأعمى عن حضورها. والدليل ما روى مسلم عن أبى هريرة قال: أتى ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله: إنى رجل ضرير البصر، بعيد الدار، ولي قائد لا يرافقني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي قال: ((هل تسمع النداء، قال: نعم، قال لا أجد لك رخصة)) ، وفي رواية: ((أتسمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال نعم فقال: فحيّ هلا. وبوب العلماء على هذا الحديث بقولهم)) باب إقرار العميان بشهود صلاة الجماعة، وقد اجتمع في ابن مكتوم ستة أعذار: الأول: كونه ضرير البصر. الثاني: عدم وجود قائد يرافقه. الثالث: بعد داره عن المسجد. الرابع: وجود نخل وشجر بينه وبين المسجد. الخامس: وجود الهوام والسباع الكثيرة بالمدينة. السادس: كبر سنه ورق عظمه. مع هذا كله إلاّ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له، ولهذا بوب عليه ابن المنذر بقوله: ذكر إيجاب صلاة الجماعة على العميان وإن بعدت منازلهم عن المسجد.
وهذا أبى بن كعب رضي الله عنه يقول: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، كانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك منه: ((قد جمع الله لك ذلك كله)) ، وفي رواية أن أُبياً رضي الله عنه لما رأى هذا الأنصاري يكابد المشاق حتى يأتي إلى صلاة الجماعة، قال أبي: فتوجعت له، فقلت: يافلان! لو إنك اشتريت حماراً يقيك الرمضاء وهوام الأرض؟ قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم! قال أبيّ لما سمع ذلك منه، فحملت به حملاً – يعني أنه استفظع هذه الكلمة من هذا الأنصاري وعظمت في سمع أبىّ، فأتى أبىّ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الأنصاري، فقال الأنصاري: رجوت أجر الأثر والممشى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ان لك ما احتسبت)) رواه مسلم. بيته بعيد عن المسجد وآفات في الطريق تعترضه في كل صلاة، ومع هذا يحافظ عليها ويدأب في العمل لها. عظم أمر الله في قلبه، فأحب الصلاة فلمّا أحبها هان في سبيلها كل شيء فماذا يقول المسلم اليوم الذي يحتج بُبعد بيته عن المسجد، والمتأمل في أحوال الصحابة يجد عجباً في تعظيمهم للصلاة، كان تميم الداري إذا دخل وقت الصلاة قام اليها بالأشواق. قال رضي الله عنه ما دخل عليّ وقت صلاة من الصلوات إلا وأنا لها بالأشواق، يشتاق إلى الصلاة وينتظر دخول وقتها. ونقلوا هذه السمات الإيمانية إلى التابعين: فكان الربيع بن خثيم يقاد به إلى الصلاة وبه مرض الفالج، فقيل له: قد رخص لك قال: إنى أسمع حيّ على الصلاة. فإن استطعتم أن تأتوها ولوحبوا.
أيها الاخوة المؤمنون: والعلاقة بين الاهتمام بصلاة الجماعة والمحافظة عليها وبين الخشوع فيها وإحسانها فيها كبيرة جداً، فمن كان محافظا على صلاة الجماعة مبكراً إليها، مسابق إلى الصفوف الأولى منها كان على جانب كبير من الإقبال على الله وانشراح الصدر فيها والتنعم والتلذذ بها، ومن كان متأخراً عنها، يقدم رجلا ويؤخر الأخرى، كلما غدا أو راح إلى المسجد فإنه على جانب كبير من الوسوسة فيها وعدم التنعم بها. وهذا أمر مجرب معروف وسير الصالحين والطالحين تدل عليه.
صلى أبو زرعة الرازي عشرين سنة وفي محرابه كتابة فسئل عن الكتابة في المحراب فقال: قد كرهه قوم ممن مضى. فقال السائلون له: هو ذا في محرابك – محرابك فيه كتابة ما علمت بها؟ قال: سبحان الله، رجل يدخل على الله ويدري ما بين يديه؟ بقي أن تعرف أن أبا زرعة الرازي لم تفته صلاة الجماعة عشرين سنة.
وقال أبو عبد الرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبد العزيز ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن اخي وما سؤالك عن هذا؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به. فقال: ما قمت إلى الصلاة إلا مثلت لي جهنم. وكان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى. وسعيد بن المسيب لم تفته التكبيرة الأولى مدة خمسين سنة، وما نظر إلى قفا رجل منذ خمسين سنة، يعنى لمحافظته على الصف الأول. وهذا كله لأنهم عظموا الصلاة وأدركوا منزلتها، بينما الكثيرون اليوم لم يدركوا منزلتها ولم يتلقوا أمر الله بها بالتعظيم والتوقير. وكان العلامة ابن خفيف به مرض الخاصرة، فكان إذا أصابه أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل ويحضر به إلى المسجد فقيل له: لو خففت على نفسك ؟! فاستعظم هذا الكلام منهم، وقال إن الله يقول: يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً أَوَ في حضور صلاة الجماعة مشقة لا يمكن أدائها؟ ثم التفت إليهم وهو يعاني من مرضه – فقال: إذا سمعتم حي على الصلاة، ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة [1].
و أهل المحافظة على صلاة الجماعة هم أقرب الناس في يوم المزيد إلى ربهم سبحانه وتعالى. قال ابن القيم:
أو ما سمعت بشأنهم يوم المزيد وأنه يوم عظيم الشان
هو يوم جمعتنا ويوم زيارة الرحمن وقت صلاتنا وأذان
والسابقون إلى الصلاة هم الألى فازوا بذلك السبق بالإحسان
سبق بسبق والمؤخر ههنا متأخر في ذلك الميدان
من سبق إلى صلاة الجماعة كان سابقاً في ذلك اليوم يوم المزيد لمقابلة ربه ورؤيته، ومن تأخر عن الجماعة تأخر في ذلك الميدان، والجزاء من جنس العمل.
والأقربون إلى الإمام فهمُ أولو الزلفي هناك فهنا هنا قربان
قرب بقرب والمباعد مثله بعد ببعد حكمة الديان
ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد ومنابر الياقوت والقيعان
هذا وأدناهم وما فيهم دنِي من فوق ذاك المسك كالكثبان
وقد وردت بعض الاثار الدالة على أن قرب المؤمنين من ربهم يوم القيامة على حسب استباقهم إلى الصلاة وشهودهم للجماعة. الجزاء من جنس العمل، فمن تقرب إلى ربه ومولاه وسارع في تنفيذ أوامره كان محظياً عنده في يوم تطاير الصحف ووضع الموزاين. أين أنت من هؤلاء ؟! سبقوا وتأخرت ونافسوا ولهوت، وتقدموا فأجلت.
نزلوا بمكة من قبائل نوفل ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وتقلبوا فرحين تحت ظلالهم وطرحت بالصحراء غير مظلل
وسقوا من الصافي المعتق ربهم وسقيت دمعةَ والهٍ متململ
ياقسمة قسمت ولم يعلم بها وقضية ثبتت لأمر الأول
هل فيك للملك المهمين نظرة فتزيل من داء البعاد المعضل
ما معنى الإيمان الذي يدعيه رجال ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة، ما معنى الإيمان وما قيمة الصلاة في حياتهم ثم إذا تكلمت مع أحد منهم زعم بأنك تتهمه بالنفاق، إن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فأي دين لهؤلاء الذي لا يعمرون المساجد، وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون، قال الله تعالى: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون. قال بعض أهل العلم. هم الذي لا يحضرون الصلاة في الجماعة. أين الأجيال، أين شباب الأمة، أين الرجال، والمساجد خاوية تشكوا إلى الله تعالى. إذا كان هذا حالنا مع الصلاة وهي عمود الإسلام، فكيف بباقي شرائع الدين، كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله، كيف تفلح أمة لا تقدس شعائر الله، كيف تكون صادقة في الحرب أو في التعليم أو في التصنيع أو في الحضارة، أو في الإدارة وهي لا تحسن الاتصال بربها في صلاة فرضها الله عليها.
نسأل الله جل وتعالى أن يحسن أحوالنا، وأن نعظم شعائر ربنا...
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] النزهة 1181/3
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملكا ينادى عند كل صلاة، يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يبعث مناد عند حضرة كل صلاة فيقول: يا بني آدم قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم. فيقومون، فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيغفر لهم ما بينهما، ثم توقدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى، يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فيتطهرون ويصلون الظهر، فيغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذ حضرت المغرب فمثل ذلك، فإذ حضرت العتمة فمثل ذلك، فينامون وقد غفر لهم، فمدلج في خير، ومدلج في شر)). كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، في مقابل ما نضيعه في الأكل والشرب والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، لكن بها يرتفع المؤمنون ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) والحديث واضح وصريح كما سمعتم أمر من الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بأن يقاتل هذا الإنسان، حتى يسجد لله فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أويترك الصلاة أو يتنكر للصلاة، أولا يتعرف على بيت الله يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن، هذا الإنسان حين يترك الصلاة يكون دمه رخيصاً، يسفك دمه، وتهان كرامته، ويقطع رأسه بالسيف، قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً.
أيها المسلمون: إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، كان سعيد بن المسيب إمام التابعين في عصره، كان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض إخوانه، خذ سراجا لينير لك الطريق في ظلام الليل، فقال يكفيني نور الله وصدق الله العظيم: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)). وهل في القيامة ظلمة، وهل في القيامة ليل؟ نعم والله إنه ليل وأي ليل، وإنها لظلمة وأية ظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، ولتاركي المساجد ولواضعي العثرات في طريق أهل المساجد، ظلمة يجعلها الله لأولئك الذين انحرفوا عن بيوت الله، وللذين حرفوا بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة أنظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً كان الصحابة رضي الله عنهم، حتى وهم في المعارك إذا تلاقت الصفوف والتحمت الأبدان وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزّلت الرؤوس من على الأكتاف في هذه الحال لم يكونوا يدعون صلاة الجماعة، تصلي طائفة وتقف الأخرى في وجه العدو.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جما احمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق إنها العهد بين الإنسان وبين ربه، ويوم يتركها المرء أو يتهاون بها، يدركه الخذلان وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
أيها المسلمون: إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا وأن نعمر مساجدنا بحضورنا، فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادى بهن؟ وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة؟ إنها الحياة ولا حياة بغير صلاة، إنها رغد العيش ولا رغد في العيش، بغير صلاة، إنه دوام الأمن والاستقرار ولا أمن ولا استقرار بغير صلاة، إنه التوفيق من رب العالمين في كل شيء، ولا توفيق ولا تسديد بغير صلاة. فالله الله أيها المسلمون في الصلاة، من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون. فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، بواجباتها بسننها، وفي جماعتها، علّ الله أن يحفظنا ويرعانا إذا نحن حافظنا عليها وعظمناها.
فالزم يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
(1/919)
الضحك
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/5/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الضحك وأنه من مخلوقات الله تعالى وأن الله تعالى يضحك كما يليق بجلاله
2- أسباب الضحك 3- ضحك الغرب الكافر على غيره من شعوب العالم الثالث ضحك
استهزاء وسخرية بهم 4- مواقف ضَحِك فيها النبي صلى الله عليه وسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الضحك صفة في الانسان، والضحك من مخلوقات الله جل جلاله، الذي أوجده في الإنسان وجمعه مع ضده، فكما أنه خلق الموت والحياة، وخلق الذكر والانثى فكذلك جل شأنه: وأنه هو أضحك وأبكى بل إن الضحك صفة من صفات الباري جل جلاله فمن مسند الإمام أحمد رحمه الله، عند ابي رزين قال قال النبي : ((ضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غيره. فقال أبو رزين: أو يضحك الرب عز وجل؟ قال نعم، فقال لن نعدم من رب يضحك خيرا)).
فعند أهل السنة والجماعة أن الضحك صفة حقيقية لله جل جلاله، يضحك ربنا لكن ليس كضحك المخلوقات، على حد قوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ومما ورد أيضا في ضحك الله جل وتعالى الحديث المتفق عليه: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما في الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل، فيسلم فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد)).
الضحك أيها الأحبة، هو انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، ومبادئ الضحك هو التبسم، وإذا كان مع الضحك صوت يسمع فهو القهقهة، والنبي كان ضحكه التبسم، بل كله التبسم وكان نهاية ضحكه أن تبدوا نواجذه، أخرج الترمذي كما في حديث عبدالله بن الحارث وفي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أحداً أكثر تبسما من رسول الله ). كيف لا ومن ضمن وصاياه للناس حتى انه رفع قدر البسمة الى مستوى الصدقة عندما قال: ((وتبسمك في وجه اخيك صدقة)) رواه الترمذي: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط)) رواه الإمام أحمد فهلاّ تعلمنا هذا الخلق النبوي، الذي به لو احسن المرء استخدامه لتمكن من فتح مغاليق قلوب طالما اقفلت.
الابتسامة: مفتاح مؤكد النتيجة، ودواء أكيد المفعول، يقرّب البعيد، ويهدّء الغضبان من خلاله، يدخل المرء إلى قلب صديقه ومن طريقه تدخل المرأة الى شفاف قلب زوجها، من نعم الله تعالى على الإنسان إذا رزقه وجها مبتسما دائما، لايعرف الحزن والهم والغم، يبتسم لكل موقف، لأنه يرضى بقضاء الله وقدره، إن الرجل المبتسم يكون دائما في حالة ارتياح نفسي، وهذا أقدر من المنفعل والمتشنج على التفكير، واختيار الكلمات المناسبة، التي يتعامل بها مع الناس.
أيها المسلمون: للضحك أسباب:
منها ما يكون بسبب التعجب، فاذا تعجب الشخص من أمر ما، فقد يضحك قال الله تعالى: ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث ان جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا الى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب قالت ياويلتا أإلد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب فضحكها كان للتعجب – ان هذا الشيئ عجيب.
وقد يكون الضحك بسبب الفرح والسرور قال الله تعالى: فاذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة. فالمؤمن اذا رأى يوم القيامة ما وعده الله من النعيم. سر لذلك واستبشر، وضحك وهذا والله الموقف الذي يستحق الضحك، وهو يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة.
وقد يكون الضحك بسبب التهكم والسخرية، والازدراء، قال الله تعالى: وإن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون أين يكون هذا؟ إنه في الدنيا، لقد كان كفار قريش يضحكون على ضعف المؤمنين في أول الإسلام، وقبل أن تقوم لهم دولة. كانوا يضحكون عليهم، وعلى مقرهم وقلتهم وأيضا واذا مروا بهم يتغامزون. ولا يزال المجرمون يضحكون حتى في وقتنا هذا على المسلمين، لكن بصور وأشكال أخرى، إن الغرب الكافر، وفي مقدمتها الذين يسمون أنفسهم بالدول العظمى لا يعدّون دول العالم الثالث شيء. لذا فهم يضحكون عليهم علانية، ويسخرون ويتغامزون عليهم جهاراً نهاراً وعبر إعلامهم بل وعبر إعلام دول العالم الثالث نفسه، إنهم يضحون على شعوبهم أولا بأن سلطوا عليهم قيادات صنعها الغرب بيده، وغذّاه من فكره وتصوراته، وأقنعه بارادته ومبادئه، ثم صار بعد ذلك يلعب على رقعة الشطرنج، إنهم يضحون على شعوب وقيادات هذه الدول في أنهم جعلوهم حقول تجارب في أشياء كثيرة، فمثلا سلع تصنع لأول مرة، تجرب مدى نجاحها في شعوب هذا الدول، أدوية تصنع لأول مرة، يتم اختبارها على هذه الشعوب الفقيرة المستضعفة، وماذا يضير الغرب لو مات مائة أو ألف من المسلمين من جراء هذه التجارب والاختبارات. إنهم يضحون علينا كما في بعض الاحصائيات أن مصانعهم التي تنتج في الساعة آلاف السلع والأجهزة والمصنوعات المختلفة: لاشك من حصول بعض القصور والخلل في بعض الاجهزة، فإنها لا تخرج 100 لكن قد يصل جودة التصنيع الى 70 أو 80 ، هذا الخلل والقصور في بعض الانتاج، الأصل أنه يتمم أو يتلف هذا الجهاز ويصنع بدله. لكن هل هذه الأمانة تتوقعها من الكفار، الذين لا يبالون في ابادة شعب بأكمله بنسائه وأطفاله وشيوخه هل يتورع من إرسال كذا ألف سيارة أو ثلاجة أو غيرها، تصنيعها لم يتم كما هو مطلوب. إن دول العالم الثالث سوق عريض لترويج أمثال هذه السلع لهذا لا تستغرب إذا اشتريت سلعة جديدة ثم تعطلبت بعد أيام. نشرت إحدى الجرائد قبل شهر تقريبا أن هناك 45 طن من لحوم الهمبرجر التي تنتجها إحدى الدول وتصدرها إلى غيرها، قد انتهت مدة صلاحيته، وأنهم يعملون ترتيبات لإتلافه، لقد أصبح الواحد يشك في مصداقياتهم إنه فعلا سيتم التخلص من هذه الكمية من اللحوم. وما يدريك أنها أُكلت في الشهر نفسه وذهبت في بطون إحدى شعوب دول العالم الثالث.
ايها المسلمون: إن ماذكرت عبارة عن نماذج فقط من ضحك الغرب على المسلمين وإلا فضحكهم في مجال السياسات والاتفاقيات أمر لا يخفى في هذا الوقت على الصغير قبل الكبير.
أيها الأحبة في الله:
في مقابل هذا النوع من الضحك، هناك ضحك آخر: لكنه في هذه المرة يضحك المؤمنون على الكافرين، ويضحكه مؤمنون ومخلصون المسلمين على جبابرة وصناديد وزعماء الغرب الكافر، هذا الضحك يكون في موقفين: موقف في الدنيا، وموقف في الآخرة، أما موقف الدنيا، فهو ضحك المؤمن المبنى على الثقة بالله جل جلاله في خضم هذا الواقع المر، وفي وسط تسلط الأعداء على كل شيء وفي أثناء هذه المرارات التي يتجولها المسلمون في كل مكان، فإن المؤمن يبتسم ثقة بالله تعالى، بأنه هذه الغمامة لابد لها أن تنقشع، وأن هذا التسلط لابد ان يقف عند حد، وكل ليل لابد وأن يعقبه نور الصباح.
إن المؤمن يبتسم ثقة بربه من خلال ماتراه من نصوص الكتاب والسنة، إن النصر لهذه الامة وإن المستقبل لهذا الدين وإن وعد الله لا بد وأن يتحقق وعد الله الذين امنوا منهم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا تعبدونني لا يشركون بي شيئاً وقد أخبر النبي في غير ما حديث أنه ستبقى طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
وأما الموقف الثاني فهو في الآخرة: وهناك سيكون الضحك الحقيقي الذي يضحكه المؤمنون، على كل الكفار الذين كانوا يضحكون عليهم في الدنيا بأي نوع من الضحك، سيضحك المؤمنون فرحين بما أنعم الله عليهم، وذلك إذا تلاقوا على الارائك في الجنة فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون وعندها سيندم المجرمون ويتحسر العلمانيون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أيها الأحبة: بقيت نقطة أحب التعليق عليه قبل أن أختم، وهي ما عبرت عنه، والتعبير من عندي وهو الضحك على الذقون، يظن بعض السذج من الشهوانيين، ومن أصحاب الأخلاقيات المنحرفة، بل ومن العلمانيين، أنهم ببعض أحيلهم في نشر الفساد، وببعض تخطيطاتهم في الحيلولة دون التمدد الخيري في المجتمع. أقول إنهم يظنون أنهم ببعض طرقهم الملتوية يضحكون على المذقون، ويضحكون على أصحاب اللحى، فيقال: إن حيلكم مفضوحة، وإن أوراقكم مكشوفة، وإن رائحة نتنكم يشمها البعيد قبل القريب، لكنها أيام يداولها الله بين الناس والعبرة في النهايات، لا في البدايات، والنهاية الحقيقة عندنا فاليوم الذين امنوا من الكفار يضحكون على الارائك ينظرون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إتماماً لموضوع الضحك، فهذه بعض مواقف ضحك منها النبي ففي البخاري: أن عمر رضي الله عنه استأذن في الدخول على النبي وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر تبادرن بالحجاب، فأذن له النبي فدخل، والنبي يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال: ((عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب))، فقال: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله، ثم أقبل عليهن فقال: يا عدوّات أنفسهن أتهبنني ولم تهبن رسول الله ، قال رسول الله : ((إيه ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك)).
ومن المواقف أيضا التي ضحك فيها رسول الله ما جاء في البخاري أيضاً من حديث أنس بن مالك قال: ((كنت أمشي مع رسول الله وعليه بردّ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت الى صفحة عاتقه النبي وقد أثرت فيها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء)). موقف عجيب من النبي أنه ليس شخصا عاديا، ولا مدير ولا مسئولا، ولا وزيراً بل ولا واليا، إنه رسول الله يستوقفه أعرابي في الطريق، وبغير أدب: يا محمد، ولا يقول: يا رسول الله، ثم بصيغة الأمر، مُر لي من مال الله. ومع هذا يلتفت إليه النبي وبكل هدوء ولا يغضب لنفسه، بل يضحك ثم يأمر له بعطاء، والله لا نتحمل نصف هذا التعامل من أولادنا، فكيف من غيرهم، فهل يأخذ الدعاة وطلاب العلم كيفية التعامل مع الناس من هذا الموقف النبوي.
وأخيراً من المواقف التي ضحك منها رسول الله في سنن ابن ماجة عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر في تجارة الى بصرى قبل موت النبي بعام ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا شهدا بدرا، وكان نعيمان على الزاد وكان سويبط رجلا مزاحا، فقال النعيمان: أطعمني قال: حتى يجئ أبو بكر. قال: فلأغيظنك، قال فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبدا لي؟ قالوا نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم اني حر، فإن كنتم إذا قال: لكم هذه المقالة تركتموه فلا تفسدوا علي عبدي، قالوا: لا بل نشتريه منك. فاشتروه منه بعشرة نواق، ثم أتوه فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلا، فقال نعيمان: إن هذا يستهزء بكم وإني حر، لست بعبد، فقالوا: قد أخبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر، فأخبروه بذلك، قال فاتبع القوم ورد عليهم النوق، وأخذ نعيمان، قال فلما قدموا على النبي وأخبروه قال: فضحك النبي وأصحابه منه حولا.
(1/920)
الظل
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/7/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الظل وأنه من خلق الله يجعله نعمة لبعض عباده ولبعضهم عذاب 2- احتياج الناس
للظل خصوصاً إذا اشتدّ حر الشمس خاصة يوم الحشر 3- صفات وأعمال من عمل بها أظلّه
الله تحت ظل عرشه يوم القيامة 4- أحكام متعلّقة بالظل 5- انقسام الظل إلى حِسّي ومعنوي
6- أهمية البذل من أجل الدين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
يعرف أهل اللغة الظل: بأنه نقيض الشمس أو ضوؤها، فكل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو ظل ، ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيرا.
الظل أيها الأحبة: مخلوق من مخلوقات الله جل وتعالى ، قد يسخره الله لبعض عباده فيكون نعمة ، وقد يسلطه على آخرين فيكون نقمة.
قال الله تعال ممتناً على أهل الجنة ، ما هم فيه من النعيم والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلا وقال تعالى: مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار وقال جل شأنه: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون وقال سبحانه: متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهرير ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في كتاب الله ، تذكر الظل على أنه نعمة ، ورحمة من الله لأهل الإيمان الذين هم أهل الجنة ، جعلنا الله منهم ورزقنا وجميع إخواننا المسلمين ما أعده الله لأصحاب اليمين من سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود. وجعلنا نتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله.
وفي المقابل ، القسم الثاني من البشر ممن كتب الله عليهم الشقاوة فإنهم يعذبون بالظل ، وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم.
إنه الظل ، ينعم به أقوام ويعذب به أقوام ويل يومئذٍ للمكذبين انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب.
أيها المسلمون: إن الناس بحاجة إلى الظل ، خصوصاً إذا اشتد عليهم وهج الشمس ، فإن الظل يكون له طعمه الخاص ، لكن أحوج هذا سيكون يوم القيامة ، يوم يقف الناس بين يدي رب العالمين لفصل القضاء ، وللمحاسبة ، ووقوفهم يكون في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، ويكون ارتفاع الشمس من رؤوس الخلائق كما نطق به الصادق المصدوق ، مقدار ميل. وعرق الناس يكون بحسب أعمالهم ، إنهم أحوج ما يكونون إلى ظل يستظلون به ، إذا كنت يا ابن آدم لا تتحمل قليلاً من الحر لبضع دقائق ، فيكف بك بيوم طوله خمسين ألف سنة ، وارتفاع الشمس عن رأسك قدر ميل ، ولهذا عد المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه ، سبعة أصناف من الناس سيظلهم المولى جل وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، الإمام العادل ، وشاب نشأ في عبادة ربه ، ورجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذاتُ منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) فاحرص يا عبد الله أن تكون أحد هؤلاء.
وهل ذلك الظل خاص بهؤلاء السبعة ، لا يتعداهم إلى غيرهم ، الجواب لا. يقول عليه الصلاة والسلام: ((من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ، هذا إذا محا الدين عن غريمه)) بل إن كرم الله أعظم من هذا ، حتى لو أنظره وأمدّ له الأجل. فعن عبد الملك بن عُمير عن ربعىّ عن أبي اليسرِ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أنظر مُعسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)). وغير هؤلاء المتحابون بجلال الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)). كل هذا أيها الأحبة قبل دخول الجنة ، أما داخل الجنة فيحدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)).
أيها المسلمون: هناك بعض الأحكام المتعلقة بالظل ، ولعل من أوضح هذه الأحكام مواقيت الصلاة وكيف يمكن ضبطها. لقد ضبط المصطفى عليه الصلاة والسلام بعض الصلوات بالظل. فوقت للظهر من زوال الشمس حتى يكون ظل كل شيء مثله. ووقت للعصر من حين كان ظل كل شيء مثله إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه. جاء في هذا حديث ابن عباس عند الترمذي.
ومن الأحكام: النهي عن الجلوس بين الظل والشمس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان أحدكم في الشمس فقلص عنه الظل وصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل فليقم)).
ومن الأحكام: عدم جواز التبول أو التخلي في ظل ينتفع الناس به. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا اللّعّانين ، قالوا وما اللّعّانان يا رسول الله قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)) وعن أبي داود والحاكم: ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل)) فهذا الإنسان بعمله القبيح هذا ، قد آذى الناس. لأن أماكن الظل كثيراً ما يحتاجه الناس ويستفيدون منه ويأوون إليه ، فذلك الرجل الذي أخبرنا المصطفى عليه السلام كما في صحيح مسلم خبره حين انفلتت منه راحلته وهو في أرض فلاة وعليها طعامه وشرابه ، فبعد ما آيس منها ، أين ذهب ، ذهب إلى شجرة فاضطجع في ظلها ، حتى ردها الله عليه. فالذي يفسد على الناس ظلهم يستحق هذا الوعيد.
ومن الأحكام: جواز استظلال المُحرم بحائط أو سقف أو خيمة أو غيرها. لحديث جابر عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة حتى أتى عرفه فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها.
وهذا ما عليه جماهير الفقهاء ، خلافاً لبعض المبتدعة الباطنيين ، الذين طمس الله قلوبهم فإنهم لا يستظلون أبداً ماداموا محرمين ، لا بخيمة ولا بسيارة ، ولا بغيرها ، وهذا من عمى البصيرة.ولا غرابة، فإن هذا من سنة الله في خلقه ، وهو أن الذي ينحرف عن الشريعة ولا يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ويبتدع في الدين ، فلا غرابة أن يأتي بأعاجيب وسخافات وبدع ما أنزل الله بها من سلطان. فنحمد الله جل وتعالى أن هدانا للسنة حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
ومن الظل ظل الملائكة على الشهيد. قال البخاري رحمه الله تعالى: باب ظل الملائكة على الشهيد ، ثم ساق بسنده عن محمد بن المنكدر أنه سمع جابراً يقول: (جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مُثَّل به ووضع بين يديه ، فذهبت أكشف عن وجهه ، فنهاني قومي ، فسمع صوت نائحة فقيل: ابنة عمرو – أو أخت عمرو – فقال: لم تبكي ، أو لا تبكي ، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها). وروى البخاري أيضاً عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.
ومن الأحكام: ما جاء في كتاب المغازي من صحيح البخاري فيما يتعلق بصلاة الجمعة ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع قال حدثني أبي وكان من أصحاب الشجرة قال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به.
أسأل الله جل وتعالى بأسمائه أن يجعلنا من السبعة الذين يظلهم بظله ، يوم لا ظل إلا ظله وأن يرحمنا برحمته.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومما ينبغي أن يعرف أيضاً في موضوع الظل ، أن هناك ظلان ، ظل حسي ، وظل معنوي.
فمن الظل الحسي قوله تعالى: ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ومن الظل المعنوي قول المصطفى عليه السلام كما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذَّلة والصغار على من خالف أمري)). إن كل ما ذكر في الخطبة الأولى كان عن الظل الحسي. أما الظل المعنوي فمن أمثلته ما تخيله صاحب الظلال فألف كتابه العظيم في ظلال القرآن.
أيها المسلمون: إن النبتة الصغيرة ، عندما تنبت وتعيش في الظل تخرج ضعيفة هزيلة بعكس النبتة التي تنبت في الشمس فإنها تكون خضراء. هذا من الجانب الحسي.
أما المعنوي: فإن الأمة كما نعلم جميعاً أنها تعيش مرحلة عصيبة من عمرها ، فتن وأحداث ومشاكل وقلاقل وحروب ، بشتى أنواعها الباردة والساخنة.
إن الأمة الآن ، كما تشاهدون وتسمعون تحارب في عقيدتها ، وفي اقتصادها ، وفي علمائها ، وفي دعاتها ، وفي تدينها ، وفي أسرها ، وفي أخلاقها ، وفي كل مجال من حياتها. لكن مع كل أسف هناك عدد ضخم من المسلمين مازالوا يعيشون في الظل ، لم ينزلوا إلى الميدان بعد. الأمة يكاد بها من كل جانب ، وهم مثل تلك النبتة يحبون البقاء في الظل ، ولا يحبون أن تصيبهم الشمس وإن كان الشمس ، ستجعل أوراقهم خضراء. ومع الأسف أن شيئاً من هذا الكلام ينسحب حتى على الشباب الملتزم ، وعلى نسبة كبيرة من جيل الصحوة ، وهو أنهم مازالوا في الظل ، ولم يعيشوا بعد أحداث أمتهم ، إن المرض الذي أصاب هؤلاء الشباب ، والذي تسمى بمرض – التدين السلبي – الذي لا يقدم ولا يحرك ولا يتفاعل ، لا يعيش خضم الأحداث بل يحب البقاء في الظل. إن الإيمان الحقيقي إذا خالطت بشاشته القلوب ، استحكم الولاء له ، وكان وراءه عمل وكان وراءه التحرك الإيجابي والعمل للإسلام والتفاعل مع قضايا المسلمين.
ما قيمة المسلم في الحياة إذا لم يسخر عمره كله لدينه. إن العمل للدين رسالة في الحياة ، لا يمكن التحلل منها بحال شئت أم أبيت. إن الأمة لا تريد منك أن تكون من كبار علمائها ولا أن تكون الداعية الأول فيها ، ولا المحاضر الأوحد لكن المطلوب منك ألا تكون سلبياً. إن كل عطاء يقدم مهما كان قليلاً ، وكل جهد يبذل مهما كان يسيراً وكل فرصة تأتي لا يمكن أن يضيعها من سخر نفسه للعمل للإسلام. وإليك بعض الأمثلة:
أسماء بنت أبي بكر – امرأة – لما جهزت الرسول صلى الله عليه وسلم وأباها للهجرة ، جمعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها طعامه ، والسقاء الذي فيه شرابه ، ثم جاءت لتحمله فلم تجد شيئاً تربط به السفرة والسقاء ، فعمدت إلى نطاقها فشقته نصفين ، فربطت بأحدهما السفرة وبالآخر السقاء. امرأة ، لا تعيش في الظل ، وتأبى إلا أن تقدم للدين. وتعطي للدين ، ولو كانت لا تملك إلا نطاقها فليكن عطاؤها هذا النطاق ، ويطوى التاريخ صفحاته وأيامه ، ويحمل لنا هذا الخبر ومعه تشريف أسماء بذات النطاقين.
إن هذا اللقب يعبر عن العطاء للدين ، والتفاعل مع الواقع ، مهما كان هذا العطاء قليلاً ، فهو الجهد وهو الطاقة.
مثال آخر: عبد الله بن أم مكتوم ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الأعمى ، الذي عذره الله عن الخروج في الجهاد في سبيل الله. تأتي معركة القادسية ، وهذا الرجل مع أنه شيخ كبير وأعمى ، لكنه يرى أن بإمكانه أن يقدم شيئاً لدينه ، ولا يريد أن يبقى في الظل فماذا قال لأصحابه ، قال لهم: إني رجل أعمى لا أفر ، فأعطوني الراية أمسك بها. يرى أن في عماه مؤهلاً لحمل الراية ، ويطوي هنا أيضاً التاريخ صفحاته وأيامه ، لينقل لنا هذا الخبر ، ومعه أن عبد الله بن أم مكتوم كان أحد شهداء القادسية.
إن وضوح هذا المعنى للصحابة ، هو الذي جعلهم يسجلون خلال سنوات قليلة ، أعظم إنجاز عرفته البشرية يوم طوى بساط المشرق إلى الصين ، وبساط المغرب إلى المحيط الأطلسي.لم يكن هذا الإنجاز يتحقق وهم يعيشون في الظل أبداً. أما اليوم فإن مفهوم العطاء للدين وللدعوة ، والبذل له ، وتسخير الحياة من أجله. حتى إن الحياة كلها بليلها ونهارها. والنفس كله ، بمشاعره وزفراته يسخر للدعوة توارى ، وخفت وهجه في نفوس. لا أقول في نفوس كثير من أبناء الأمة ، بل حتى في نفوس العناصر الطيبة منها.
نعم ، هناك من سخر نفسه لله ، وسخر حياته كلها للدعوة الدينية ، لكن كم هم في مقابل الذين مازال تدينهم سلبياً.
ثم إن هناك معادلة منطقية عادلة ، يُستغرب غيابها عن أذهان الكثيرين ، وهو أن هذه الهداية التي نحملها ، وهذا الخير القليل الذي معنا ، كيف وصلنا؟ إنه ما هو إلا جهد دعاة سبقونا ، وأناس مخلصين سخروا ليلهم ونهارهم ، بل زاحموا ساعات حياتهم عطاءً للدين. فالسؤال: ما مدى شكرنا لله ، ثم شكرنا لمن أهدانا الهداية، وبذل الكلمة والوقت والنفس ، دعوة وجهاداً ومجاهدة.
إن الغيرة على رسالات الله ، منسحبة على ورثة أنبياء الله الذين يرثون عن الأنبياء دورهم في الأمة، فهلا تحركت أخي المسلم ونشطت في الدعوة ، وتفاعلت مع مصاب الأمة ، أم تحب أن تكون من أهل الظل. هل حاولت أن تؤثر في القطاع الذي تعمل فيه ، أو الجزء الذي تعيش فيه، قل أم كثر ، صغر أو كبر. هل اشتريت كتاباً نافعاً لتقرأه ، ثم أبى عليك حس الدعوة إلا أن تشتري بدل النسخة نسخاً ، لنفسك منها واحدة ، وللدعوة الآخر. وقل من هذا الكلام ، بالنسبة للشريط الإسلامي هل فكرت أن تكفي الأمة مجتمعك ، فإن عجزت فالحارة التي تعيش فيها ، فإن قصرت ، فبيتك وأولادك. هل تعلم أنه يجب عليك وجوباً ، أن يكون لك حضور في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لماذا تقول وجوباً ، لأن المنكرات عمت وطمّت، وقد طفحت منها الشوارع والأسواق والشواطئ فدخلت كل بيت. ولا يدري الواحد من أين يبدأ ، أو بماذا يتكلم والله المستعان.
أيها المسلمون: إن الطاقات موجودة ، لكن تحتاج إلى تشغيل وصدق النية موجود ، لكن يحتاج إلى عزيمة وعمل ليخرج للوجود.
لكن المشكلة إذا كان الأخ مازال مقتنعاً بل راغباً. للوقوف ففي الظل بدل الشمس لأنه أسهل وأسلم ، وأقل تكلفة.
(1/921)
العولمة – 1 -
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/12/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى " العولمة " وخطورتها والمقصود منها 2- العمليات التي تسعى العولمة لتحقيقها
3- مجالات العولمة 4- وسائل الغرب لإدخال العولمة إلى بقية المجتمعات 5- حقيقة العولمة
في المجال الاقتصادي 6- كيف يمكن للدول الإسلامية أن تُفلت من فخ العولمة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
تطرح لنا وسائل الاعلام ومراكز البحوث في العالم بين فترة وأخرى بعض الشعارات وبعض المصطلحات والتي تحمل في طياتها عقائد وأفكار وسلوكيات تكون هي حديث الصحافة، وترددها وسائل الاعلام المختلفة شرقاً وغرباً، والمصطلح الذي يغزو العالم كله اليوم، والذي هو حديث رجال الفكر وصناع القرار هو مصطلح "العولمة". فما هي حقيقة العولمة؟ وماذا يهدف أصحابها من وراء رفع هذا الشعار؟ وما هي مجالات العولمة التي يريدون؟ وما هو موقف الاسلام منه؟ وما مدى السلبيات أو الايجابيات إن كان فيها ايجابيات التي تكسبها الدول الاسلامية من الانخراط في هذا المضمار؟ هذا ما سنحاول توضيحه بإذن الله عز وجل بعد توفيقه وتسديده في عدد من الخطب.
العولمة أيها الأحبة: هو مخطط رهيب وخطير يهدف إلى كسر جميع القيود بين شعوب ودول العالم، إنه مرادف لما دعت إليه من قبل الماسونية وما دعى وما زال يدعو إليه ما يسمى بالنظام العالمي الجديد من محاولة لطمس هوية كل أديان العالم وأفكار الشعوب ومعتقداتها، لتصبح مواثيق الأمم المتحدة التي صاغها الغرب وفكّر فيها وخاصة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي هي الدين الجديد الذي يُفرض على العالم كله.
فهو مخطط خطير يحاول أن يزيل كل شيء موجود بين جميع الدول بحيث تصبح الأخلاق والسلوكيات والأفكار والبضائع والشركات والدين كله سواء ويفتح جميع هذه الأشياء على مصراعيها.
وقد تقرأ أخي الحبيب في بعض الكتابات والمقالات أو حتى ربما تسمع مسميات أخرى لهذا الفكر، فقد تقرأ أو تسمع مصطلح: الكوكبة أو الكوننة أو الشوملة فكلها مترادفات لمعنىً واحد.
إن هناك جهوداً جبارة ومحاولات كبيرة ممن يقبعون وراء هذا الشعار إلى عولمة كل شيء: الاقتصاد والاستثمار، وعولمة الشركات والمعاملات التجارية، وعولمة الأفكار والثقافات، وعولمة المعلومات والاتصالات، وعولمة المشاكل البيئية والمناخية، وعولمة الأمراض والأوبئة المقاومة للصناعة، وعولمة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وعولمة الإرهاب والصراعات السياسية، وأخطر من هذا كله محاولة عولمة الدين.
إن مخطط العولمة يسعى إلى تحقيق ثلاث عمليات:
الأول: انتشار المعلومات، بحيث أن أية معلومة في أي مجال يمكن أن يكون متاحاً لكل أحد، وقد نجحوا في هذا من خلال ما أسموه بمعجزة هذا العصر وهو: "الانترنت" الذي من خلاله وأنت في بيتك وعن طريق الكمبيوتر الشخصي يمكنك أن تدخل على جميع الدول وأن تحصل على أي شيء تريد بالصورة والصوت خلال دقائق معدودة، وفي هذا فتح لباب من الشر عريض يفوق شر القنوات الفضائية بمراحل ومراحل.
العملية الثانية: تذويب الحدود، وهي محاولة لتحطيم الحدود الجغرافية بين دول العالم، وفي المرحلة الأولى تكون العملية اختيارية لمن يريد، وبعد فترة من الزمان الذي لايرضى ولا يوافق يبقى معزولاً عن العالم كله، وسيحارب عن طريق الحرب الباردة، ويحاصر اقتصادياً حتى يرضخ لهذا المخطط الرهيب، ولعل توحيد جميع دول أوربا يعتبر نواةً لهذا المخطط.
العملية الثالثة: زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمؤسسات والمجتمعات، وذلك عن طريق تسهيل حركة الناس والمعلومات وجميع السلع بين هذه المجتمعات ومع مرور السنوات تزيد معدلات التشابه وتختفي بعض الفوارق شيئاً فشيئاً خصوصاً إذا كانت شركات العالم واحدة وكذلك مؤسساتها وإعلامها وغير ذلك – هكذا زعموا.
أيها المسلمون: ينبغي أن لا نغفل من أن طرح هذا الشعار من خلال وسائل الاعلام الغربية ما هو إلا تطبيق للنظام العالمي الجديد الذي تسعى كل من أوربا وأمريكا بكل ما أوتوا من إمكانات إلى تحقيقه. ولا نغفل أيضاً من أن العولمة سيف مسلط ونوع من المؤامرة على أعناق الدول النامية ودول العالم الثالث، ولتتخذ منه الدول الكبرى قناعاً تخفي وراءه أطماعها في الهيمنة والسيطرة السياسية والاقتصادية، وتستخدمه كأداة للضغط والتخويف وكسر لقدرة الدول الصغرى على المقاومة دفاعاً عن مصالحها.
أيها الأحبة: إن العولمة سيكون تطبيقها على منهج – الكيل بمكيالين – كباقي الشعارات والادعاءات التي رفعت من قبل. وبلغة صريحة فإن الحضارة الغربية لا تصلح لقيادة العالم في ظل العولمة أو في ظل النظام العالمي الجديد، لأنها وبكل تأكيد ستقوم على الكيل بمكيالين، سواء في مجال القيم أو في مجال السياسة أو في مجال الاقتصاد أو في غيرها من مجالات العولمة والتي سيكون عنها حديث بالتفصيل، إن الغرب في ظل العولمة سيسعى إلى اصطناع قيم جديدة نصيب الدين فيها قليل، ونصيب الأخلاق فيها أقل، والتطفيف في الكيل واضح، فهي تطفف في كيلها مع اليهود وتنقص في كيلها مع المسلمين والعرب فلها مكيالان وميزانان، كما أنها متعصبة للجنس الأبيض. فلا ينبغي تصديق بأن العالم سيسعد في ظل العولمة، أبداً، سيزداد الفقير فقراً، وسيبقى المستورد مستهلكاً لايعطى فرصة للابداع، بل سيتاح الفرصة في عالم العولمة للغني أن يزداد ترفاً وجبروتا، وللقوي أن يزداد تسلطاً وتحكما.
خلاصة القول: أن العولمة، العدل فيها معدوم، والظلم فيها موجود، والإيمان بها كفر، والسؤال عنها ومعرفتها واجب وحتم.
أيها المسلمون: وإذا أردتم نموذجاً حياً لواقع مرير يمر بها العالم هذه الأيام لظلم ظاهر موجود وعدل معدوم فهو ما يحصل اليوم على أرض كوسوفو من إبادة عرقية للمسلمين، وإلا فما ذنب هذه الآلاف من الأسر المشردة، وهؤلاء الذين يذبحهم الصرب ذبح النعاج على مرآى ومسمع من العالم، فأين العدل المزعوم؟ وأين القرارات التي لابد أن تنفذ؟ وأين الذين يدّعون وجود مجلسٍ للأمن؟ لقد ظهر جلياً لمن أراد الانصاف سياسة الكيل بمكيالين، وظهر جلياً في كوسوفو ومن قبلها في أرض الله أن شريعة هؤلاء هو التسلط للأقوى، وأن هناك تعصباً واضحاً لجنس معين ولعرق معين، وأن هناك حرباً لا هوادة فيها ضد دين، ودين معين فقط يحاولون تقتيل أبناءه ونهب خيراته وأمواله، وإضعاف قدراته والتسلط والتحكم على شعوبه ودوله.
وقد يتساءل البعض بأن هناك مساعدات تقدم من دول غربية كافرة شاهدناها عبر وسائل الاعلام من خيام نصبت للمشردين، وهناك تدخل مباشر من بعض الدول لايقاف هذه الحرب فكيف يفسر هذا؟ يفسر هذا بالجواب الصريح للرئيس الأمريكي عندما قال: إذا لم نقم بالجزء الذي يخصنا من مهمة حلف الناتو فسنُضعف التحالف ونعرض الزعامة الأمريكية في أوربا للخطر.
إذن: هي لغة المصلحة، والمصلحة عند هؤلاء هي عقيدة سياسية، والنبرة المصلحية كانت واضحة جداً في كتاب "بين الأمل والتاريخ" عندما قال المذكور نفسه: عندما تصبح التحالفات ضرورية فإن علينا أن نقيمها، وعندما تصبح المفاوضات ضرورية فإن علينا إجراءها، وعندما تصبح الاستثمارات مطلوبة فإن علينا تقديمها، وعندما تصبح القوة مطلوبة لضمان أمننا فإن علينا استعمالها. هذه هي لغة القوم وهذا هو أسلوب تعاملهم مع الآخرين فإلى متى أيها الأحبة ونحن نعيش سطحية في التفكير، وجهلاً لما يراد لنا وبنا، كفانا أيها المسلمون جهلاً بواقعنا، وكفانا سذاجة في تناول الأمور، وإن لم نكن بمستوى هذا التحدي العالمي ونحاول جادين للارتقاء بأنفسنا فإن العاقبة والعلم عند الله تعالى تكون غير سارة. الأمم من حولنا تخطط وتتعلم وتنفذ وكل يوم تسمع بإنشاء مركز للبحوث هنا أو هناك وفي كافة المجالات، ونحن ما يزال شبابنا من رواد المقاهي الشعبية، ويضيع ليلهم جلوساً على الأرصفة والله المستعان.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه..
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن مجالات العولمة كما أشرنا إليها في الخطبة الأولى متعددة متنوعة، وإن من أبرز هذه المجالات التي يكثر الطرق عنها والتي بُدأ بها ومن خلالها تدخل العولمة للدول التي قد ترفض كل صورها، هو المجال الاقتصادي، وقد وضع أسس يدار عليها الاقتصاد العالمي وأنشأ عدد من المؤسسات التي تشكل في مجملها النظام الاقتصادي الدولي الحالي وهي:
- صندوق النقد الدولي: الذي يقوم بدور الحارس على النظام النقدي الدولي.
- البنك الدولي: الذي يعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى.
- الاتفاقات العامة للتعريفات والتجارة والتي تهدف إلى تمكين الدولة العضو من النفاذ إلى الأسواق كباقي الدول أعضاء الاتفاقية، وذلك لتحقيق التوازن بين الحماية المناسبة للانتاج وبين تدفق التجارة الخارجية.
أيها المسلمون: للغرب وسائل متعدد لإدخال العولمة في باقي المجتمعات، فمن ذلك عقد مؤتمرات تحت أسماء براقة كمؤتمر الايواء البشري وقد عقد على نظر من الأمم المتحدة والتي دأبت على عقدها وفق دعايتها بتحسين أوضاع العالم الاقتصادية والتجارية والعمرانية والسياسية والاجتماعية، لكن حقيقة الأمر بخلاف ذلك، بل إن هذه المؤتمرات أداة تستخدمها الرأسمالية اليهودية للسيطرة على العالم اقتصادياً وفكرياً من خلال تأطير السلوك الاجتماعي والسياسي ليوافق الفكر العلماني الذي تقوم عليه الرأسمالية اليهودية المعاصرة.
مشكلة الإيواء وتوفير الأماكن الكافية لاستيعاب ملايين البشر، هذا الإطار ما هو إلا غطاء للتسلل لاحتواء موارد الدول الفقيرة واستغلالها لصالح المؤسسات المالية والمالكين لها من دهاقنة اليهود والمتهودين فكراً وسلوكاً.
إن شعار العولمة الاقتصادية والتي تخدع بها شعوب العالم هو: المساواة والعدالة لجميع الأفراد، للحصول على الإيواء وتوفير البنية التحتية المكملة للمسكن الملائم. واستئصال الفقر.
أما حقيقة العولمة في المجال الاقتصادي فهو:
1/ العمل على تغيير مفهوم الأسرة القائم على الأسس الدينية والقيم الاجتماعية الفطرية، وتوسيع هذا المفهوم ليشمل أنماطاً من الأشكال التي تم تبنيها في المجتمع الغربي بوجه عام.
2/ توسيع النظام الربوي، وتمكين المؤسسات المالية الربوية من السيطرة.
3/ تغيير قوانين الملكية الخاصة بالأراضي: سواء الزراعية أو السكنية، وقوانين الإسكان والإيجارات، وفتح باب سوق شراء وبيع العقارات، وإزلة جميع العوائق الخاصة بتوفير المناخ الملائم لحرية السوق العقاري.
4/ ربط اقتصاديات الدول المتخلفة باقتصاديات الدول الرأسمالية.
وظاهرة "العولمة" التي أخذت في الازدياد في الفترة الأخيرة لها خطورتها على النمو الاقتصادي والحضاري والثقافي للمجتمعات المختلفة، وبخاصة المجتمعات الإسلامية، حيث يتوفر في بلاد المسلمين مصادر الثروات الطبيعية، مما يدفع إلى الاستحواذ عليها من قبل الرأسمالية اليهودية العالمية.
إن السؤال الذي يبرز هنا هو: لماذا تتجه الرأسمالية اليهودية في نقل وتركيز بعض عمليات الإنتاج في الدول المختلفة؟ الجواب: إن الهدف الحقيقي هو البحث عن أعلى معدلات للربح. فقد أخذ البنك الدولي بتوجيه من بعض الدول الكبرى بإجبار دول العالم الإسلامي إلى إعادة هيكلة اقتصادياتها على ضوء هذه السياسة الليبرالية.
خلاصة العولمة الاقتصادية هو أن هناك عقد يوقع بين الدول التي تريد أن تدخل في هذا الاتفاق، وهو أن جميع المجالات الاقتصادية تكون شائعة بين الدول الموقعة، ومن حق جميع الشركات أن تدخل الدولة التي تشاءها وتعمل بها وتفتح مصانعها، وسيلغى جميع الاحتكارات التجارية بأن يكون فلان هو وكيل السلعة الفلانية لايبعها غيره، وهذا يعني من جهة أخرى أن هذه الشركات عندما تدخل المجتمعات التي تريدها فإنها ستدخل ومعها كل سلبياتها أيضاً خصوصاً الأخلاقية وانحرافاتها السلوكية. والدولة التي سترفض الدخول في هذا العقد ستحارب اقتصادياً من الجميع مما يضطرها أن تقف وحدها وسترضح على زعمهم في النهاية.
إن المخرج أيها الأحبة من هذا الفخ الذي نصبته الرأسمالية اليهودية هو قدرة العالم الإسلامي في اتخاذ قراره السياسي المستقل، وهذا لايمكن أن يتحقق إلا إذا طرح الفكر العلماني بكل مناهجه وتوجهاته، وتبنى الفكر العقائدي الإسلامي ومايحتويه من سلوكيات وقيم ونظم وتشريعات لتحقيق سعادة الانسان الدنيوية والأخروية ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
ثم لو اتفق المسلمون لتجاوز هذه المرحلة بتعاون اقتصادي صادق فيما بينهم بإنشاء سوق مشتركة تشكل قاعدة صلبة للتضامن فيما بينهم فقد تكون أمامهم فرصة بإذن الله عز وجل للإفلات من أخطار العولمة.
(1/922)
العولمة - 2 –
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/12/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تلخيص ما سبق ذكره في الخطبة الماضية 2- وسائل الغرب لتحقيق العولمة الاقتصادية
3- العولمة الثقافية : معناها وكيف تُقاوم وخطورتها على المجتمعات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
حديثنا اليوم هو تممة للحديث في الأسبوع الماضي عن موضوع العولمة. هذا المخطط الذي يهدف إلى توظيف التفوق التقني لتمكين مصالح الطرف الأقوى واستبعاد الشعوب الضعيفة واستنزاف مواردها وإرهاب شعوبها وعرقلة مسيرتها وإخماد طاقاتها وطمس هويتها وتبعية فكرها ووأد حركة الأصالة والإصلاح والتطوير في بناء ثقافتها. وبهذا المفهوم تكون العولمة هي الأخطبوط الذي يلف عنق العالم الاسلامي، إنه غزو واستعمار غربي تقني ثقافي اقتصادي وسياسي أشد ضراوة وشراسة من أي لون من ألوان الاستعمار الغربي الذي سامت خسفه الإنسانية.
إن العولمة اليوم هي الليبرالية وهي الديمقراطية بالمفهوم الغربي وهي الشركات المتعددة الجنسيات وهي السوق المالية المتوحدة المفتوحة وهي التجارة الحرة ورأس المال الطليق الذي لايحده دين ولا شرع، وهي شبكات الاتصال المتقدمة وهي تدفق المعلومات وتبادلها وهي السهم الذي يخترق السياسة ويخترق الهياكل الاقتصادية ويخترق المقومات الثقافية ويخترق أنماط التفكير ويخترق السلوكيات الخاصة ليدخل بعد ذلك بكل هدوء على المجتمعات ويفرض ما سبق ذكره كله. إن الهدف المعلن من العولمة هو إزالة الحواجز وتذويب الفروق بين المجتمعات الإنسانية المختلفة، لسيادة آلية رأس المال التي تأبى أي قيود، وآلية المعلومات التي تأبى أي رقابة.
ولقد بدأنا في الأسبوع الماضي بمقدمة عن هذا المصطلح الجديد – العولمة – ثم تحدثنا عن أحد مجالاتها وهي العولمة الاقتصادية. وقلنا بأن خلاصته هو فتح الأبواب أمام المستثمرين من مختلف أنحاء العالم للاستثمار في أية دولة دون أي قيود. والمجتمع الذي يرفض هذا الشرط سيستخدم معه ما يسمى بالعقوبات الاقتصادية التي قد تصل إلى الحصار الاقتصادي الجزئي أو الشامل، وما يصاحبها من إجراءات سياسية ودبلوماسية، بل ورياضية، تعززها حملة إعلامية منظمة لحشد الرأي العام العالمي لتأييد هذه العقوبات والاجراءات التي تؤدي النتيجة المطلوبة من هذه الآلية البديلة عن أسلوب الحرب المعلنة، وهذه النتيجة يمكن التحكم فيها حسب نوع العقوبات وقوتها، فتثمر إزعاج المجتمع المستهدف ومضايقته، أو تعويقه، أو شله، أو تدميره تدميراً شاملاً أو جزئياً، إلى أن يخضع وتتم السيطرة عليه، وهذه الآلية تم اختبارها وما زالت مع دول عديدة. وعلى ذلك، فالقوى العظمى ذات المصلحة الحالية لن تفرط بمكاسبها، وعلى أساس أن الذي يسيطر حالياً هو الذي سيبقى مسيطراً في عصر العولمة إلى درجة العمل على إفناء الآخرين، فالمعركة التنافسية لن ترحم الضعفاء، وبدهي أن إجراءات العولمة تفترض الاعتماد على اقتصاد قوي وأنظمة سياسية واجتماعية مستقرة وبنى تحتية غير محدودة، وخاصة في نطاق الاستثمارات التي تتطلب رؤوس أموال باهضة، وهذا ما لا يتوفر لدول هشة لاتملك القدرة بذاتها على تأمين الضرورات الحيوية لشعوبها، فاختارت أو اضطرت للانجذاب إلى الأقطاب القوية كما في الحقيقة الفيزيائية في التجاذب المغناطيسي.
وأيضاً من وسائلهم في تحقيق العولمة الاقتصادية اتفاقيات التجارة الدولية والذي من خلاله تحقق العولمة شروطها، إنه فتح الأسواق العالمية أمام المنتجات الغربية بدون عوائق أو ضوابط، وعليه فلن تستطيع المنتجات المحلية مواجهة المنتجات المستوردة ومنافستها، مما يعني تعثر العديد من الأنشطة الاقتصادية، ويكون البديل المتاح هو: إما الاقتصار على الاستيراد، وهذا البديل قصير الأمد، حيث ستنضب أرصدة السيولة المالية ويزيد التضخم نتيجة الركود الاقتصادي، وإما بيع الأصول الاقتصادية إلى الشركات العالمية بحجة الإصلاح الاقتصادي واللحاق بركب المنافسة العالمية وهذا هو المطلوب.
وأيضاً من وسائلهم في تحقيق العولمة الاقتصادية وإخضاع المتمرد إغراقه بالديون فهل تعلم بأن الدول العربية كإحدى المناطق المستهدفة بالعولمة بلغت ديونها الخارجية عام 1995م (250) مليار دولار، وتتفاقم ديونها بما مقداره (50) ألف دولار في الدقيقة الواحدة، ولاشك أنه كلما ارتفعت وتيرة الديون كلما ترسخت التبعية ووُجدت الذريعة للتدخل، فعن طريق القروض احتلت إنجلترا مصر، وعن طريق القروض احتلت فرنسا تونس في القرن الماضي، وبسبب هذه الديون التي بدأت بتشجيع من الغرب عن طريق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين يعملان على إغراق الدول المستهدفة بالديون أصبح اقتصاد معظم هذه الدول متخبطاً، يستطيع وبصعوبة بالغة ملاحقة خدمة الديون وفوائدها المتراكمة، فهي في الحقيقة وسيلة لبسط النفوذ على البلاد تماماً كما كانت في الماضي. فبين من ستكون المنافسة في ظل العولمة؟ وكيف ستكون مكانة مثل هذه المجتمعات النامية في العولمة؟ إنها مكانة البقرة الحلوب التي يراد لها ألا تخرج من الحظيرة.
أيها الأحبة: لننتقل إلى أخطر مجالات العولمة وهو العولمة الثقافية. ولقد كانت من أخطر أنواع العولمة لأنها تتدخل مباشرة في صياغة الفكر والسلوك الانساني بوسائل متعددة. ومن أجل هذا كانت معظم هواجس المفكرين والمربيين تتعلق بخوفهم من تأثير العولمة على المكونات الثقافية للشعوب. يقول وزير الخارجية الكندي: لئن كان الاحتكار أمراً سيئاً في صناعةٍ استهلاكية، فإنه أسوأ إلى أقصى درجة في صناعة الثقافة، حيث لايقتصر الأمر على تثبيت الأسعار، وإنما تثبيت الأفكار أيضاً.
إن العولمة الثقافية بلهجة واضحة هي: محاولة نقل ثقافة الغرب وبالتحديد الثقافة الأمريكية إلى معظم شعوب ودول العالم، إنها بتحديد أكثر ما يعبر عنه بعض المثقفين بأمركة العالم، ولكي يقبل الناس هذه الثقافة الدخيلة عليهم فإنهم لايبدأون مباشرة بتغيير المناهج ونمط التفكير، ولكن يأتونك من أبواب لاتخطر لك على بال منها: تغيير نمط المجتمع في تناول طعامه وشرابه وإقباله على وجبات لم يكن يعرفها، هذا باب، ثم باب آخر وهو طريقة تأثيثه لمنزله، وباب ثالث طريقة خروجه ونزهته مع أولاده، وباب رابع وخامس وسادس وعاشر، وبعد سنوات تجدك أخذت ثقافة تلك المجتمعات وأنت لاتشعر فإذا ما جاءت المناهج والأفكار كان المجتمع مهيئاً لقبول كل شيء. لعلك تريد مثالاً واقعياً تشاهده بنفسك على ما أقول، هل تظنون أيها الأحبة أنه من قبيل الصدفة وفي خلال أقل من عشر سنوات أن يغزو العالم كله وليس فقط مجتمعنا مطاعم الوجبات السريعة وبالأخص الشركات الأمريكية كما كدونالدز وأخواتها، وإقبال الناس عليها بشكل عجيب وطرح كل البدائل الأخرى، إنها حقيقة تعاني منها حتى أوربا نفسها الجناح الثاني للغرب، ولعل من أوضح الأمثلة على ما ذكرت أن فرنسا من أكثر الدول الأوربية مناهضة للعولمة الأمريكية بهذا الشكل، فاتخذت لمقاومة هذا التيار عدداً من التدابير، أولها أن الرئيس الفرنسي شيراك أصدر قراراً عارض فيه بشدة فتح مطعم ماكدونالدز في برج إيفل الذي يعتبره تراثاً يخص الفرنسيين وحدهم ولا يصلح أن تغزوه الثقافة الأمريكية. مع أن شوارع باريس مليئة بمطاعم الشركات الأمريكية. ثم فرضت على التلفزيون الفرنسي أن يخصص 60 من برامجه للانتاج الأوربي كي لايطغى الانتاج الأمريكي المتدفق على إعلامه. كما حجبت المساعدات المالية والمادية عن جميع التظاهرات الثقافية الفرنسية التي لاتجعل اللغة الفرنسية لغة أعمالها. وأخيراً ألحّت فرنسا على ألاّ ينتخب على رأس الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة بعد نهاية ولاية بطرس غالي من لايتقن الفرنسية وقد تم لها ما تريد في شخص كوفي عنان.
إن معظم من يعارضون العولمة الثقافية يرون أنها تتعارض مع الهوية القومية وتسعى للقضاء على التنوع الثقافي وإحلال الثقافة الغربية أو بلغة أصرح الثقافة الأمريكية بشكل خاص محل كل الثقافات الموجودة، والعولمة بهذا المفهوم تتعارض تعارضاً تاماً مع قواعد القانون الدولي.
فتأملوا رحمكم الله، هؤلاء وهم كلهم نصارى ودينهم واحد ومع ذلك لايرضون بالتبعية الثقافية لغير جنسهم، والمتأمل في حال أمة الاسلام في الوقت الراهن يرى العجب العجاب.
إن هناك جهوداً محمومة لتهيئة الرأي العام نفسياً وثقافياً للعولمة، بدءاً من انتشار سراويل الجينز، وأزياء الموديلات العالمية، ومطاعم الوجبات السريعة الأمريكية ومشروباتها الغازية التي يعتبر افتتاح محلاتها ومصانعها تمهيداً للفتح الأمريكي وشعاراً عليه.
إن العولمة الثقافية برأي الخبراء والمفكرين تروِّج لثقافة الهمبرجر والكوكاكولا والغناء على الطريقة نفسها، وهي طلائع العولمة التي لا تبشر إلا بمزيد من الشقاء والتعاسة للبشرية.
إن أملنا بالله جل وتعالى لكبير، أن يحفظ علينا إيماننا وديننا، وأن يحفظنا من هذا الغزو المدبّر الذي يحمل في طياته كل شر ودمار، ولكن أيها الأحبة لابد مع الدعاء من عمل ومقاومة لهذا التيار، وأول طرق المقاومة هو كشف هذا المخطط وفضح هذه المؤامرة ثم المناعة الشخصية والأسرية حتى نصل بعد ذلك لحصانة المجتمع والدولة، وإن ثقتنا بربنا وديننا لكبير من أن تهزم ثقافة الميكي ماوس الإيمان الحقيقي الفعال، إيمان الغلام حين يُستدعى للموت فيطلب الشهادة شريطة أن يُنادى بسمع الكون وبصوت عال باسم الله رب الغلام. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نفعني الله وإياكم بهدي...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن العولمة الثقافية هي الشكل الذي يستنهض كل أشكال العولمة الأخرى، فجميع تلك الأشكال تفضي إليها. والعولمة الثقافية تستغل النتائج التي حققها الاعلام والاقتصاد في تحطيم الحدود وإلغاء السيادات أو التهوين من قوتها. إن العولمة الثقافية هي اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات وهي تعني أن ينشأ في وعي الناس ثقافة لاتقوم صلة بينها وبين نظمهم الاجتماعية فضلاً عن شريعتهم ودينهم.
إن العولمة الثقافية بوضوح شديد هي تعميم أو توحيد لاتجاهات وسلوكيات تشمل كل سكان هذا الكوكب، ويذكر تقرير البرنامج الانمائي للأمم المتحدة أنه من مانيلا إلى ماناجوا، ومن بيروت إلى بكين، وفي الشرق وفي الغرب وفي الشمال وفي الجنوب أصبحت أشكال الزي الجينز وتصفيفات الشعر الخاصة والعادات المتعلقة بتناول الطعام والمواقف الاجتماعية والثقافية أصبحت كلها تشكل اتجاهات عالمية، وحتى الجرائم سواء كانت تتصل بالمخدرات أو الاختلاس أو الفساد أصبحت متشابهة في كل مكان، لقد انكمش العالم في أوجهٍ عديدة.
أيها المسلمون: إن دول العالم الثالث وبالمناسبة ليس هناك رابع، هذه الدول في نظر الغرب مجرد حشو دولي! يمكن الاستفادة منه، ولكنه غير مؤهل لدخول لعبة العولمة، أي أنه ليس بلاعب ولكنه ملعوب عليه.
أيها الأحبة: لماذا يراد لنا نحن المسلمون أن نقبل بعضوية نادي العولمة دون أن نُسأل عن شروط العضوية، ورسوم الاشتراك، وطقوس النزع التي تنتظرنا، ودرجة حرارة النار التي سوف يطبخ عليها العشاء الأخير الذي سيزيل من أجسادنا آخر ذرات المقاومة ليجهز في النهاية على أنفاسنا؟
إن هذه الأمة بشهادة خبراء العولمة أنفسهم كانت حتى هذه اللحظة ولا تزال أصعب الأمم على القولبة، وأشدها مراساً في مواجهة النموذج الاستعماري المتغطرس. لماذا؟ لأن العقلاء من هذه الأمة والناصحين والمخلصين فيها يعلمون أن العولمة لاتعني انتقال البضائع والخدمات والنقد والتقنية والمعلومة والشركة والسلوك والثقافة منفردة الواحدة تلو الأخرى كلا، إنها تعني أن يقدم هذه الطُّعم ضمن سياق فكري لانحتاج إلى ذكاء شديد أو حتى بلاهة أشد لنعرف حقيقته أنها الثقافة الغربية النصرانية المادية في نموذجها الأشد فجاجة وغطرسة وتعالياً! وإذا كان من حق فرنسا أن تقاتل وتحارب وترفع صوتها وتتصدى بالقوانين والممارسة لهذا النموذج فلا أظن أن اللاعقين لجراح داحس والغبراء المعاصرة إلا أن يفتحوا عيونهم قليلاً وعقولهم كثيراً لهذه الهجمة المتواصلة منذ انحسار الإسلام كقوة عالمية ودولية مؤثرة!
إن الأسئلة تزداد توغلاً في صدورنا ونحن نرى اليوم ثمار العولمة تنبت في أراضينا شجراً من علقم.
وأخيراً: فالعولمة تحدٍّ كبير يحتاج من الأمة أن تستدعي مثقفيها وعلماءها ومفكريها إلى رصدها والتصدي لها من منظور إسلامي، وهي قضية شائكة تتطلب التفهم الإيجابي لبعض مكوناتها كالاستفادة من التقنية والجوانب الاقتصادية التي لاتتعارض مع مصالح الأمة المسلمة، وهذه الدعوة تحتاج إلى عقول ورجال وإمكانيات بحجم التحدي الهائل وبحجم الإحجام والإهمال الذي نشعر به من مثقفي المسلمين الأصلاء، والذين نخجل من نتاجهم في هذا الجانب مقارنة باهتمام ومتابعة ومقاومة الاتجاهات الفكرية الأخرى داخل وخارج عالمنا الإسلامي.
نسال الله أن يوفق علماء الأمة ودعاتها وطلاب العلم فيها لتحمل هذه المسؤلية.
(1/923)
العولمة – 3 -
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/1/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة العولمة على الشعوب المسلمة 2- من مجالات العولمة : المجال الإعلامي والتاثر
الواضح لإعلام الدول الإسلامية والعربية بالإعلام الغربي 3- المجال السياسي وأهدافه
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
وما يزال الحديث مستمراً عن موضوع العولمة، وقد أطلنا بعض الشيء في هذا الموضوع وذلك لخطورة وعمق هذا الأمر، ثم لتعدد مجالاته والتي لم ننتهي حتى الآن إلا من مجالين فقط وهما المجال الاقتصادي والمجال الثقافي.
أيها المسلمون: إنه يراد في ظل العولمة أن تذوب كل العقائد والآراء والأفكار ولا يبقى إلا الفكر الغربي المادي، وكما قال المنادون لهذه العولمة عندما قال قائلهم: اخلطوا عقائد الأديان الخمس واجعلوها مزيجاً واحداً لا تجدوا صراعاً على وجه الأرض. هكذا يراد للمسلمين أصحاب العقيدة النقية المعصومة بالوحي الإلهي يراد لهم أن يذوبوا مع العقائد المحرفة والأفكار المنحرفة.
إن العولمة لا تعني انتقال البضاعة والخدمات، والنقد والمعلومات، ولا تعني أن يكون هناك مجال للاختيار، فيختار الناس ما ينفعهم ويتركوا ما يضرهم، وإنما العولمة في حقيقتها تعني أن نقبل الكمبيوتر مع الموضة، والتقنية مع الثقافة، والنظرية الفيزيائية والكيميائية مع الذوبان الاجتماعي والانصهار الأسري، أن نقبل الغرب مادياته مع عاداته وأخلاقه ورذائله.
إن العولمة هي استمرار لتحركات الغرب لاخضاع الآخرين، هذه التحركات التي بدأت بغزوات الاسكندر المقدوني وغزوات الصليبيين مروراً بكل حرب خاضها الاسلام مع الشرك والجاهلية، إنها حرب استُبدل فيها المدفع والطائرة والقنبلة، بالكلمات والمصطلحات والوسائل الحديثة، فهذه الحرب تُشنّ بالعبارة الحريرية الناعمة وترفع شعارات براقة مثل شعارات حقوق الانسان وعبارات الأعراف الدولية.
إذن فالعولمة التي يروجون لها تعني أن تتخلى كل أمة وخاصة أمة الاسلام عن شخصيتها وعقيدتها ومبادئها، وأن تعلن اتباعها لهم، والأخذ بأنماط سلوكهم من اقتصادية وتربوية وتشريعية وإعلامية، ومن خالف الغرب في ظل هذه العولمة شنّوا عليه النكير وحاربوه إما جزئياً أو كلياً أو تدريجياً، والاتهام جاهز ومُعلّب إنهم يتهمون المخالف لهم والرافض لعولمتهم بأنه مخالف للأعراف والقوانين الدولية وأنه رجعي متخلف ولا يصلح أن يعيش في هذا العصر.
نواصل الحديث عن العولمة فنقول المجال الثالث من مجالات العولمة هو المجال الاعلامي: إن ثورة الاتصالات التي سيطرت على العالم اليوم جعلتها قرية كونية صغيرة بحيث وجد ما يسمى بمجتمع الاعلام العالمي، وتنبع خطورة عولمة الاتصالات من كونها وسيلة فعالة للسيطرة على الادراك والوعي، وربطه بصور ذات طابع اعلامي تحجب العقل وتشل فاعليته وتنمط الاذواق وتقولب السلوك.
ويدخل في نطاق عولمة الاعلام ما يسمى بعولمة الخبر، لقد أصبحت بعض المحطات كـ CNN هي مصدر المعلومات للجميع، بل وصل الأمر إلى زعزعة ثقة معظم الشعوب بإعلامهم، وما يتلقونه من أخبار، وأصبح الذي يتحكم في صياغة عقول الناس هي إذاعة لندن ومنتكارلو وصوت أمريكا وعدد من المحطات الفضائية التي تخصصت في الأخبار، وليت الأمر وقف عند سماع الخبر بل تعدى إلى التحليل وصار حديث الناس في المجالس فيما يتعلق بأخبار العالم وما يدور حولها من تحليلات وتوقعات مأخوذة عن هذه المصادر الغربية. فتسأل أين موقع قنواتنا الفضائية من الإعراب في مواجهة هذا التيار الجارف وماذا يقدم سواء فيما يتعلق بمصداقية الأخبار وتحليلاتها أو في ما يتعلق بمقاومة الثقافة الغربية المسلطة على عقول وقلوب أبناء الأمة من خلال عولمة الاعلام. الجواب: إن إعلامنا غائب عن الساحة تماماً بل ويلاحظ على الفضائيات العربية النزوع إلى التمظهر فقط، إليك هذا المثال الحي: أردنا أن نقلد الغرب في بعض إعلامهم فيما يسمى ببرامج الحوار فاكتسحتنا هذه البرامج وصار يتوالد عندنا توالد النمل، وهي غالباً ما تكون مع نجوم السياسة ونجوم الفن وغيرهم أحياناً، والشغل الشاغل لهذه البرامج أن تكون على الهواء، وأصبح هناك تصارع محموم في عدد من البرامج التي تبث على الهواء، فالمهم أن يكون البرنامج على الهواء. أما الموضوع وأما المنهج أما المتحاورون فهي جميعها أمور تأتي في الأهمية بعد ذلك بكثير، المهم على الهواء مباشرة.
وأيضاً يلاحظ على فضائياتنا أنها تفتقر إلى الجدية أو العمق في التناول، ومفاجآت التدخلات التلفونية هي عنصر التشويق الرئيس في تلك البرامج، وهي تداخلات تبدو غالباً إما مفتعلة أو مرتبة ومعدة سلفاً، وإما ساذجة أو بليدة، ففي الغالب يكون كلاماً كثيراً ولا تخرج بشئ، بل إن بعض التدخلات يقصد بها أحياناً استفزاز عواطف المشاهد أو إيذاء مشاعره أو خدش حيائه، وذلك لسفاهتها أو لإسفافها وتبذلها، وقد سمعنا عن تدخلات تلفزيونية من هذا النوع لايراد لها إلا أن تتحدى أحاسيس المشاهد الدينية أو الأخلاقية، بل إن في بعض تلك التدخلات التلفزيونية استخدام للسخرية من الفضائيات نفسها ومن مذيعيها، وهي تدخلات أقل ما يمكن أن توصف به أنها جارحة وبذيئة.
وهذه البرامج غالباً ما تعتمد على البطل الواحد المتكرر، وهو هنا مقدم البرنامج أو مقدمته، وهو بالنسبة إلى أي من الجنسين يجب أن تتوافر فيه نسبة من الجرأة ونسبة من صفاقة الوجه وقدر لابأس به من الوقاحة! ووقاحة المذيع قد تكون في بذائته أو في اسفافه أو في قدرته على استفزاز ضيوفه أو مشاهديه بطرق أو ذرائع لامبرر لها. ووقاحة المذيعة هي في هيئتها أو في شكل ملبسها أو في طريقة جلوسها، وقد تكون وقاحتها في صوتها أو في ضحكتها أو في أسلوب حديثها مع الضيف أو في مواجهة الكاميرا. ونكاد نجزم بأن هناك برامج كثيرة تطغى فيها الإثارة الحسية أو الجسدية أو الجنسية على أي شيء آخر سواها حتى أننا لنحس حقيقة بمشروعية الظن بأن تلك البرامج إنما وجدت أصلاً لتحقيق مثل هذا الهدف، هذا إن كانت هناك أهداف أخرى غيره.
أيها الأحبة: إن أشد ما يلاحظ على فضائياتنا أنها إنما ولدت في معظمها ضمن سياق غير طبيعي وغير منهجي، فهي تتكاثر لا من أجل طرح مزيد من المعضلات التي تواجه الانسان المسلم، وإنما من أجل الاستجابة للاعتقاد الراسخ عند أصحاب الفضائيات بأنها الطريق الوحيد أو الطريق الأمثل لاستقطاب مزيد من المشاهدين. إنها وبكل صراحة فضائيات تتجه إلى السهل وإلى الطفولي وإلى الساذج بل وفي كلمة واحدة برامج هدفها إلهاء الناس عن المفيد، وهي في عمومها برامج تافهة تفتقد إلى الجدية والتشويق، وهي لا تعطي شيئاً ولا تثري شيئاً ولا تسمن ولا تغني من جوع، بل إنها لا تزيد الناس إلا بلادة في الحس، وتكلساً شديداً في التفكير، وحثاً مقيتاً على القعود عن تنمية المعلومات وتغذية الذاكرة، بل وتجنح إلى الاسفاف والمجون، إننا لانكاد نجد فرقاً بين بعض الفضائيات وبعض المراقص وأماكن الدعارة في بعض الأزقة العربية الغارقة في الأضواء والشهوات، بل إن المشاهد ليرى في الفضائيات العربية ما لا يتيسر له رؤيته في علب الليل العاجة بالأجساد والرغبات، فمحطة من تلك المحطات مثلاً ترقص فيها الراقصة شبه عارية بل هي بالفعل عارية، والمُخرج يريك من مفاتنها وأفخاذها ما لا يمكن أبداً أن يراه أي سهران أو سكران في المرقص نفسه.
أما الأغاني العربية فحدث ولا حرج، فالملابس والحركة والديكور والاضاءة وطريقة الأداء كلها هي في تلك الأغاني للإغراء الجنسي، سواء كان ذلك في جانب المغنين من الرجال أو المغنيات من النساء، ليس هناك موضوع آخر في تلك الأغاني غير إثارة الغرائز والتركيز على المفاتن، إن هذا الوضع لا نجد له سوى وصف واحد لائق، وهو العبث والميوعة والاشتغال بالتافه والأدنى والحرام. وأما عن زاوية الاعلان والدعاية في الفضائيات العربية فليس في منأى عن الولوغ في حمأة الإثارة الجسدية، بل نحسب القائمين عليها يعدون هذا النوع من الأداء الأكثر تأثيراً في إقناع المشاهد بالسلعة أو الخدمة المراد الترويج لها، وغالباً ما يكون استخدامهم لنوع الاثارة بعيد كل البعد عن مضمون الدعاية وفي غير مكانها الصحيح. وهذا غيض من فيض.
إن الفضائيات العربية مشغولة بإلهاء الناس عن المفيد ومشغولة بالاحتفاء بالهين والسهل والرخيص وغير العميق، ومشغولة بتسطيح الأفكار وتمييع القضايا الأساسية في حياة الأمة وتخديرها وإماتتها. لقد ظن الكثيرون من الغيورين على مصالح الأمة أن تلك القنوات عند ظهورها سيكون لها دور في دفع عجلة التقدم والحضارة، وتوقعوا أنها ستكون المبددة لوحشة الأمة في طريقها الطويل نحو المستقبل، فإذا بها تفاجأ عندما فَتحت عينها على الحقيقة أن هذه القنوات ومع كل أسف مع ما يصرف عليها من مليارات من الأموال لاشأن لها في النافع المفيد، ولا شأن لها بالمستقبل، ولا شأن لها باستغلال هذه القنوات في التعليم والتثقيف، ولم تقم أيضاً على أقل تقدير بالمحافظة على تراث الأمة من الغبار والاهمال، بل إنها تزيد الواقع غموضاً، وركزت عوضاً عن ذلك على غرائزنا الصغيرة وعلى أفكارنا الصغيرة وعلى ألعابنا الصغيرة، وهكذا ستظل أجيالنا إن لم يتغمدنا الله برحمة منه وفضل، ستظل الأجيال متروكة لاجتياح العولمة الاتصالية والاعلامية، فليس أمام تلك الأجيال إلا أن تستهلك ثقافة الآخر أكثر مما تستهلك ثقافتها، وتصير تبحث عن إجابة لأسئلتها المعاصرة عند أولئك أكثر مما تجد ذلك عند أهلها والله المستعان.
هذه هي أوضاع الفضائيات العربية التي تعد أهم عنصر فعّال في مجال الاعلام وهذه هي بعض وجوه الحقيقة المؤلمة فكيف نريد بعد ذلك أن نقاوم تيار العولمة الاعلامية وهذا هو واقع إعلامنا، وهذا لايعني أن الإعلام الغربي إعلام نظيف لا بل هو أشد وقاحة ودنائة، لكن لديه في المقابل ما يقدمه ويطرحه بقوة بل ويفرضه على الآخرين، من برامج علمية أو تاريخية أو حتى أخبار صحيحة نافعة، من أجل هذا وغيره فقد غزت العولمة الاعلامية بلاد المسلمين، ومع الأسف البديل الموجود هو مثل ما سمعتم من أمثلة.
فنسأل الله جل وتعالى أن يهيأ لهذه الأمة من أمرها رشدا، وأن يبصرنا بواقعنا، اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيعونه ويتبعون أحسنه أنت ولي ذلك والقادر عليه. أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
المجال الرابع من مجالات العولمة: هو المجال السياسي: الذين يقبعون وراء تطبيق العولمة في العالم بذلوا أشياء وأشياء لتحقيق شيئ من العولمة السياسية فمن ذلك: السعي الحثيث إلى فرض النموذج الغربي في الحكم الذي يتمثل في الديمقراطية، وتحاول أن تعتبر تطبيق الديمقراطية شرطاً في التعامل مع الدول الأخرى، واعتبر الغرب إن عدم تطبيق الديمقراطية يعني الاستبداد وانتهاك حقوق الانسان وضياع حقوق الأقليات وغير ذلك. لذا تجد أن كل من يريد أن يُرضي الغرب فإنه ينادي بتطبيق هذا النظام، والغرب يحاول فرض هذا النظام على العالم كله.
ومن جهودهم أيضاً في تحقيق العولمة السياسية: إلغاء الفضاء الاقليمي وقد قطعوا شوطاً لابأس به في ذلك عن طريق التطور التقني المذهل في وسائل الاتصال الحديثة وعن طريق القنوات الفضائية وشبكات الانترنت، قلل كل هذا من نفوذ السلطات المحلية في التحكم في كل ما يدخل ويخرج.
ومن جهودهم أيضاً وهذا يعد من أخطر وسائل العولمة السياسة ما يسمى بالخصخصة، الذي هو في حقيقته تنازل الدولة عن عدد من وظائفها للقطاع الخاص كالكهرباء والهاتف والطيران والبريد والسكك الحديدية والطرق والموانئ والمطارات وغيرها، بل إن هناك من ينادي بخصخصة الأمن الداخلي والخارجي أي الشرطة والجيش. فماذا بقي بعد ذلك في يد الدولة. إن مبدأ السيادة الداخلية آخذ هكذا في التقلص والتقهقر، وإن فكرة تحويل العالم كله إلى سوق واحدة خاضعة لسيطرة الشركات الكوكبية هي أمر يفضي إلى هذه النتيجة وإلى ما هو أكثر منها في المجال السياسي.
ومن وسائلهم: تقليص تحكم الدول على الكتلة المالية داخل حدودها، وقد نفذوا بعض ذلك عن طريق نظام النقد الدولي، وتعويم الأسعار، وتحرير القطاع المالي، والاستخدام الواسع لبطاقات الائتمان، وزعزعة الثقة بالبنوك المحلية والاطمئنان الكامل للبنوك العالمية في الخارج كبنوك سويسرا وغيرها.
هذه بعض حيل القوم في تطبيع العولمة السياسية. وكما نلاحظ أن مجالات العولمة هي حلقات مرتبطة بعضها ببعض حتى أنه لايمكن الفصل بينها، بقي عندي في موضوع العولمة بعض أشياء لعلي بذلك أن أُغلق هذا الملف في الاسبوع القادم، وإلا فالموضوع أضخم من أن يُتناول بهذه العجالة.
(1/924)
العولمة – 4 –
أديان وفرق ومذاهب
مذاهب فكرية معاصرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/1/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نقاط أربعة حول موضوع العولمة 2- حقوق الإنسان من أبرز الشعارات التي ترفعها
العولمة وتوضيح ذلك 3- أسباب انتشار العولمة الأمريكية على غيرها
4- حكم الإسلام في العولمة 5- كيفية التعامل مع العولمة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
انتهينا في الخطب السابقة من ذكر طرف فيما يتعلق بموضوع العولمة وماذا يراد فعلاً من وراء رفع هذا الشعار، ثم حصل حديث يسير مقتضب عن أربع مجالات من مجالات العولمة وهي المجال الاقتصادي والثقافي والاعلامي والسياسي. بقي لنا أيها الأحبة في موضوع العولمة أن نبين حكم الإسلام في هذا الشعار؟ ثم ما هو موقفنا نحن من هذا المصطلح؟ وكيف نتعامل معه؟ لكن قبل ذلك فهذه أربع نقاط سريعة في موضوع العولمة:
النقطة الأولى: إن العولمة يراد بها أن يتحول العالم كله إلى صالون واحد مفتوح من كل الجهات، الجميع يشاهد الجميع، والجميع يستمع إلى الجميع، والجميع لن يستطيع أن يخفي شيئاً عن الجميع.
ثم إن هذه العولمة التي سُلطت على النمور الآسيوية وجعلت دول شرق آسيا تعيش تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية. فالغرب لا يريد في ظل العولمة أن تسود الأخلاق في العالم، ولا يريد أن ينقطع الربا عن الأرض، ولا يريد أن يستمتع الناس باستثمار حلال وتجارة حلال أو ينفرد بتصنيع أو تجارة.
النقطة الثانية: هناك مؤتمرات تعقد بين فترة وأخرى تصب في مشروع العولمة ينبغي أن تكون منا على بال، مثل مؤتمرات السكان والتي في حقيقتها مؤامرات ضد السكان، فقد عقدوا منذ فترة مؤتمرين للسكان أحدهما في القاهرة، والآخر في بكين، وقد كان هذان المؤتمران تحضيراً لما هو أكبر، وجس نبض لاستصدار قوانين رادعة في المستقبل تسلط على كل سلوك مخالف لشريعة وقوانين الغرب في إباحية للجنس قبل الزواج، وإباحية للاجهاض وتحديد النسل وتقنين وإكرام الشاذين جنسياً. ويوضح لنا أيضاً لماذا الإصرار على مناقشة قضايا أخلاقية واجتماعية في هذه المؤتمرات، كمؤتمر السكان بالقاهرة، ثم بلاهاي، ثم ببكين، ومؤتمر السكان بإسطنبول، فهي نوع من العولمة لقيم اجتماعية غربية محددة، ووضع المجتمع الدولي برمته على قدم المساواة مع الانهيار الأخلاقي والاجتماعي الذي انحدر إليه الغرب، فالأسرة مثلاً تعتبر الركيزة الاجتماعية الباقية على قدر كبير من التماسك والقوة في المجتمعات الشرقية وخصوصاً الإسلامية بينما هي في الغرب تعتبر عملياً من مخلفات الماضي، وإن بقيت لها أهمية نظرية عند بعض المفكرين وبعض المؤسسات الدينية، ويراد هدم الركيزة في المجتمعات غير الغربية عن طريق إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني.
إن أصحاب العولمة يقولون لكل طاهر ولكل عفيف ولكل مسلم متمسك بدينه ولكل مجتمع يقيم الحدود ولكل مجتمع يصرّ على فصل الرجال عن النساء يقولون لهم المقالة التي قالها أسلافهم لآل لوط أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فالعولمة تحارب أهل الفضيلة وتعتبرهم أناساً متخلفين لا يواكبون حضارة العصر وتقنية الغرب.
النقطة الثالثة: إن أبرز شعار ترفعها وتنادي بها العولمة وتدعيها ما يسمى بحقوق الانسان. لقد عانى العالم الغربي من حربين عالميتين في القرن العشرين راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر وانتهكت فيهما كافة حقوق الإنسان، وقد دعا ذلك إلى إصدار ميثاق عالمي لحقوق الانسان وكان ذلك عام 1948م ومن أهم ما أنتجته العولمة حديثاً الاهتمام بحقوق الانسان واعتبارها قضية تهم المجتمع الدولي، وله الحق في اتخاذ اجراءات تأديبية من خلال هيئة الأمم المتحدة ضد كل من يتطاول على هذه الحقوق. ولا شك أن حماية حقوق الانسان من أهم المقاصد التي تسعى إليها البشرية وهو سلوك حضاري يحبذه الجميع. ولكن ينبغي أن نذّكر بعدة أمور في هذا الصدد:
أولاً: إن ما يدعيه الغرب من تطبيق حقوق الانسان ادعاء باطل وغير صحيح، وهو تطبيق لجهة واحدة في كثير من الأحيان، فهو يختلف بحسب الجنس والوضع والدين، فحقوق اليهود مثلاً محفوظة، بل المطالبة بها قد تجاوزت المعقول، مثل مطاردة أعداء السامية ومن يُتهم بأنه أسهم في تعذيب اليهود في الحرب العالمية أو له علاقة بالنازية. أما عندما يتعلق انتهاك حقوق الإنسان بأفراد من العالم الثالث وخاصة إذا كانوا مسلمين فلا تجد الحماس والمتابعة والتنفيذ من قبل الأجهزة التي أنيط بها حماية حقوق الإنسان، ولعل ما حدث للشعب الفلسطيني وتشريده من أرضه يعطي مثالاً صارخاً على أكبر انتهاك لحقوق الانسان في التاريخ استمر، وما زال مستمراً لأكثر من خمسين عاماً، ومثل هذا يمكن أن يقال عن قضية كشمير وغيرها من القضايا الاسلامية المتعددة التي غابت عنها حقوق الانسان، ولعل أحدث مثال على انتهاك حقوق الانسان ما قام به الصرب تحت سمع وبصر العالم من قتل وتشريد واغتصاب للشعب البوسني المسلم في البلقان، دون أن تفعل هيئات حقوق الانسان شيئاً يذكر، بل إن المأساة تتكرر هذه الأيام في كوسوفا بنفس الأسلوب وبنفس الجرم، ومازال أولئك الذين يدّعون حمايتهم لحقوق الإنسان يتعاملون مع القضية بنفس عدم المبالاة التي سبقتها في كل قضية يكون فيها المسلمون طرف وإن كانوا في هذه المرة قد أدخلوا بعض التحسينات على المسرحية التي يمثلون فيها أمام العالم. قال أحدهم في تصريح له: نحن ليس لنا أعداء على وجه الدوام، نحن لنا مصالحة دائمة، فمن يحقق لنا مصالحنا فهو الذي نحافظ على علاقاتنا ومصالحنا معه، وما سوى ذلك فليهلك في أي واد ولن نسأل عنه. التوقيع: ماجريت تاتشر. فهي إذن حماية لحقوق إنسان معين مخصوص.
ثانياً: لقد جاء الإسلام قبل أربعة عشر قرناً بمنهج متكامل لحقوق الانسان شمل وثيقة حقوق الإنسان وتجاوزها في أمور ما زالت غائبة عن المهتمين بشئون الإنسان وأنه يحافظ عليها دون النظر إلى جنس الشخص أو لونه أو دينه، ومن المعروف أن الإسلام حافظ على ما يسمى بالكليات الخمس: النفس والمال والدين والعقل والنسل. وهذه الخمس التي تشمل كافة ضروريات الانسان هي ما تحتاج البشرية فعلاً إلى حفظه، وغني عن القول بأن موقف القانون الدولي ونظرة الحضارة الغربية من حفظ العقل والدين والنسل فيها كثير من التساهل والتجاوز، ومعلوم أنه لاتوجد عندهم ضوابط تمنع السكر والمخدرات والزنى والردة وغير ذلك، وهذا يعني أن حقوق الإنسان كما يعرضها الغرب ما زالت قاصرة عن تقديم الضمان الكامل لحقوق الانسان في كل مكان، وأنه يقتصر على بعض الجوانب لبعض الأماكن فقط.
النقطة الرابعة: واضح لمن أدرك موضوع العولمة تماماً أن المراد منها بلغة واضحة هو هيمنة دولة معينة وهي دولة أمريكا دون ما سواها من دول العالم الغربي، وأن تكون هي رائدة العولمة، وذلك بأن يقبل العالم كله إما عن طريق الاقناع أو عن طريق غير الاقناع ثقافتها هي، وسياستها هي، وإعلامها هي، وكل ما تقوله هي، فهي الراعي الأول لمشروع العولمة، فالعولمة ما هي إلا تكريس لهيمنتها وتعميق لسلطاتها المطلقة في السياسة والاقتصاد والدفاع وغيرها. فالحركة الإعلامية والتكنولوجية والعسكرية والسياسة ليس لها من همّ غير تعزيز نفوذها. وربما تسأل لماذا هذه الدولة بالذات تمكنت من السيطرة بهذا الشكل؟ ولماذا ثقافتها هي المسيطرة على الجميع؟ ولماذا يسهل اقتناع الناس بها دون غيرها؟ الجواب:
أن عولمتها هي الأكثر انتشاراً لثلاثة أسباب:
الأول: انفتاح مجتمعها، فهو الأكثر قبولاً للاستيعاب والتغيير وتبني الجديد، وهو الأكثر غنى حتى في التناقضات وفي تصارعها. ولذا راج سوقها أكثر من الثقافة الألمانية مثلاً أو الفرنسية أو غيرها من الثقافات التي يغلب عليها العنصرية وعدم قبول الآخر بسهولة.
الثاني: أن مرحلة بناء تراثها الخاص امتد طويلاً، وهي ما زالت مستمرة إلى هذا اليوم، ولهذا فإن تراثها تراث مرن، فهو في طور التشكل المستمر، وما ينفك قابلاً للتطوير، والاستعارة، والنمو، وإعادة البناء، فهذا المجتمع بالذات يختلف عن غيره من المجتمعات في أوروبا أو في الشرق.
الثالث: أن ثقافة هذه الدولة نفسها هي ثقافة متنوعة، فهذا المجتمع لم يتكون إلا من أخلاط من المهاجرين والمجرمين والمنبوذين من أوربا ومن غيرها، فصارت ثقافتها متنوعة بحكم تعدد الأجناس، وتعدد الثقافات التي انصهرت فيها، وهذا مما يساعد على انتشار ثقافتها في خارجها، فشعوب كثيرة قد تجد بشكل أو بآخر نفسها فيها، فتكون الأقرب إلى ذوقها، والألصق بوجدانها. ونتيجة لكل ذلك فقد بلغت صورتها أكثر انتشاراً في العالم لم يبلغه غيرها. وهذا لايعود فقط إلى أن المحرك الأكبر لعجلة الاتصال في العالم هو محركها أو انتاجها، أو صناعاتها، وإنما يعود أيضاً إلى أن ثقافتها الشعبية منتج فضفاض منفلت.
جاء في تقرير عن الأمم المتحدة أن أمريكا تصدر سنوياً إلى أوروبا وحدها مليون ومائتي ألف ساعة من البرامج التلفزيونية.
وفي دراسة لمنظمة اليونيسكو: أن بث الإنتاج الأمريكي في تلفزيونات العالم يتجاوز ثلاثة أرباع ذلك البث (75 ) بينما توزع نسبة الربع الباقي بين الإنتاج التلفزيوني الوطني وبين الإنتاج غير الأمريكي (الأوروبي وغيره).
وتفيد إحصائيات أخرى أن 80 من إيرادات شباك التذاكر في دور السينما البريطانية هي من الأفلام الأمريكية التي أي هذه الأفلام تمثل 60 مما يعرض في فرنسا و90 مما يعرض في ثلاث دول أوروبية شرقية.
إن إنتاج القطاع السينمائي الأمريكي يمثل 85 من الإنتاج العالمي عام 1996م. إن التلفزيون والسينما الأمريكية المنتشرة كل هذا الإنتشار الفاحش في أنحاء العالم، نشرت معها أنماطاً أمريكية متعددة، في الألبسة والأطعمة وغيرها من السلع الأخرى. إن ذلك كله يعني التأثير الواضح على قولبة الرموز الثقافية وجعلها أمريكياً في العالم كله. أما اللغة فلغتها هي اللغة السائدة اليوم، ويراد فرضها كلغة وحيدة في نظام العولمة الجديد. 88 من معطيات الإنترنت تبث باللغة الإنجليزية مقابل 9 بالألمانية و2 باللغة الفرنسية و1 يوزع على بقية اللغات الغربية، ويصنع الأمريكيون 60 من مجموع الحاسبات التي تفيد من الإنترنت.
أيها الأحبة: سبق أن ذكر بأن أغلب دول أوربا عموماً وفرنسا خصوصاً يشتكون من أمركة العالم وهم الجناح الغربي الآخر وعلى دينها، فهل يعي المسلمون ذلك، وأن العمولمة تعني أمركة العالم في كل شيء.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، واتباع سنة النبي المجاب، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وبعد هذا المشوار أيها الأحبة لعلنا نصل إلى حكم الإسلام في العولمة، وهو أنه بهذا الطرح الذي يريده الغرب وبهذا المفهوم الواسع الشامل الذي يسعى إلى تحقيقه أنه كفر وردة عن الدين لاشك في ذلك، لأنه تغيير للعقائد وتبديل للدين. والعولمة كفرٌ وردةٌ أيضاً: لأنه مرادف لما دعت إليه الماسونية من قبل وما دعى وما زال يدعو إليه ما يسمى بالنظام العالمي الجديد من محاولة لطمس هوية كل أديان العالم وأفكار الشعوب ومعتقداتها، لتصبح مواثيق الأمم المتحدة التي صاغها الغرب وفكّر فيها هي الدين الجديد الذي يُفرض على العالم كله. والعولمة كفرٌ وردةٌ أيضاً: لمخرجها، فهل تعلمون من أين خرجت العولمة؟ إنها خرجت من رحم الحضارة المادية الرأسمالية السائدة في الغرب، وغني عن القول أن هذه الحضارة قامت على أسس علمانية تستبعد الدين عن موقع التأثير في الحياة العامة، إن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العولمة والعلمنة، ورغم وجود فرق اصطلاحي بين المفهومين إلاّ أنهما يلتقيان في العولمة المعاصرة التي أصبحت تنادي وتشترط تخلي الشعوب عن دياناتها وأخلاقياتها وموروثاتها وحضارتها وقيمها كشرط مسبق للتحليق في فلك العالمية والانصهار في النظام العالمي الجديد، فمن هذا المنطلق يتضح أن العولمة يتعارض مع الإسلام جملة وتفصيلاً الذي يقوم على أساس الايمان بالله وتطبيق شريعة الله في كافة مجالات الحياة. والعولمة كفرٌ وردةٌ أيضاً: لأن أحد مكونات العولمة هي الدعوة إلى الديمقراطية الغربية التي هي حكم الشعب للشعب، وهذا في الإسلام مرفوض بالكلية الذي لايقبل إلاّ أن يكون الحكم لله سبحانه وتعالى دون غيره. وأذكركم بعبارة ذُكرت في أول خطبة في هذه السلسلة حيث قيل: بأن العولمةَ العدل فيها معدوم، والظلم فيها مؤكد موجود، والإيمان بها كفر وردة، والسؤال عنها ومعرفتها واجب وحتم.
أيها المسلمون: وأما عن كيفية التعامل مع العولمة والتي أصبحت واقعاً للعالم كله لامفر منه فهناك عدة اتجاهات:
الاتجاه الأول: قبول هذا الفكر وتبني هذا المصطلح جملة وتفصيلاً، وهذا قد سمعت قبل قليل أنه كفر وردة ولا يجوز.
الاتجاه الثاني: مقاطعة العولمة تماماً بل ومحاربتها علناً، ولا شك أن هذا الاتجاه غير ممكن واقعاً، لأن العولمة تيار عام، والعالم أصبح قرية صغيرة، والتقوقع والاختفاء في زاوية من الأرض والاستغناء عن الجميع أمر فيه صعوبة، بل هو مستحيل في الواقع الحالي لأسباب كثيرة، منها: أن العولمة صارت تدخل على الناس عبر قنوات مفتوحة لا حصر لها يصعب التحكم بها. ومنها: أن طبيعة النظام العالمي اليوم يقوم على التبادل والتعامل المشترك، ويستحيل على أي طرف أن يحبس نفسه داخل أسوار العزلة. ومنها: أن دول العالم الثالث لاتزال في أوائل مراحل البناء وهي بحاجة إلى رؤوس الأموال والأجهزة والخبرات المدرّبة، فمن أين لها ذلك. ومنها: أن كثيراً من دول العالم الثالث ما يزال يعيش مرحلة نهاية الاستعمار الأجنبي، ولا تزال جسورها موصولة بالسيد القديم أكثر من اتصالها بالجيران والأخوة. وغير ذلك من الأسباب الذي ليس هذا مجال التفصيل فيه.
الاتجاه الثالث: وهو الوسط وذلك بالانتقاء، أخذ الايجابيات ونبذ السلبيات، والحكمة كما نعلم ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وسياسة الانتقاء ليس بالأمر السهل لأنه يحتاج إلى ذكاء وفطنة وجهد كبير. وسياسة الانتقاء يمكن أن تتم على مستويين: المستوى الأول: هو المستوى الفردي وذلك من خلال معرفة شمولية الإسلام ومقاصده، ومن هذه المعرفة، معرفة العولمة نفسها وأهدافها ومخاطرها وكيفية مقاومتها، وهذا يتطلب أن ينبري علماء الأمة والمصلحون وطلاب العلم لتوعية عامة الناس وتهيئتهم وتحصينهم ضد الأفكار الوافدة، حيث أن الوعي السليم هو مصل الوقاية ضد العولمة، وما هذه السلسلة من الخطب إلاّ جهد ضئيل في هذا المضمار.
المستوى الثاني: في سياسة الانتقاء يكون على مستوى الأمة وذلك بأن ترجع الأمة إلى دينها وتحكّم كتاب ربها في كل شئونها وأن تتوحد مواقفها، وبذلك يمكنها أن تستغل الطاقات والموارد التي منحها ربها وهي موارد كثيرة لو أُحسن استغلالها، ولا مانع بعد ذلك أن تنتقي من عالم العولمة ما لا يتعارض مع دينها وينفعها في دنياها، ولو كُمّل ذلك بتنفيذ القرارات التي قد علاها الغبار مثل إنشاء سوق إسلامية مشتركة، وإعادة النظر في الرسوم الجمركية، وحرية انتقال البضائع والأيدي العاملة بين الدول الاسلامية، والمشاريع المشتركة في ميادين الاعلام والتجارة وغيرها، لحصل بذلك نفع عظيم.
أيها المسلمون: إن مقاومة العولمة لاتأتي بإصدار القرارات الرسمية أو الإدارية برفضها، لكن مقاومتها تأتي بمعرفة التعامل معها وفق البدائل التي نصنعها نحن والنابعة من ديننا، ثم طرحها في الساحة، وهذا يحتاج منّا إلى تعبئة حضارية شاملة، وبذل محاولات تلو محاولات جادة ومخلصة لإعادة أنفسنا مرة أخرى. لابد للأمة أن تسعى ليكون لها موقع قدم في وسط هذا الخضم، وأن تؤثر كما تتأثر وأن تعطي كما تأخذ، وإن ذلك لممكن جداً، وقد أثبتت الأحداث أن شعوب العالم تستطيع أن تنصت لنا عندما نقول مفيداً، ونحن في ديننا وثقافتنا وحضارتنا الكثير والكثير مما هو مفيد.
أسأل الله جل وتعالى أن يعجل فرج هذه الأمة.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولُمَّ بها شعثنا ورُدَّ بها الفتن عنا.
اللهم صلِّ على محمد...
(1/925)
الفراسة والذكاء
الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/4/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الفراسة وكيف تكون 2- الفرق بين الفراسة والظن 3- صفة المُتصفين بالفراسة
أمثلة لفراسة بعض السلف 4- أمور تُعدّ من الفراسة والذكاء
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين ذكر عدد من أهل العلم أن هذه الآية في أهل الفِراسة. والفِراسة نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم يكشف له بعض ما خفي على غيره مستدلاً عليه بظاهر الأمر فيسدد في رأيه، يفرق بهذه الفراسة بين الحق والباطل والصادق والكاذب دون أن يستغني بذلك عن الشرع. وهو يختلف عن الفَراسة الذي هو حذق ركوب الخيل. وإذا ما اجتمع بالمرء الأمران الفِراسة والفَراسة فهذا نور على نور، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، بصيرة في القلب، وقوة في البدن لمنازلة أعداء الله في الجهاد. والخسارة من حرم الأمرين.
هذه الفراسة هي ما يسميه العلماء بالفراسة الإيمانية، وهذا يكون بحسب قوة الايمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فِراسةً. فمن غرس الايمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية وسقى ذلك الغراس بماء الاخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قول الله تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين )). رواه الترمذي. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)) رواه الطبراني في الأوسط. وأصل هذا النوع من الفراسة، من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ قال الله تعالى: أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.
أيها المسلمون: هذه الفراسة تتكون للعبد بحسب قربه من الله، فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلقيه من مشكاة قريبة من الله بحسب قربه منه، وأضاء له من النور بقدر قربه، فرأى في ذلك ما لم يره البعيد المحجوب. دخل قوم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر في مقدمة الصحابة ممن عرف بالفراسة رضي الله عنه وسيأتي معنا شيئ من أخباره بعد قليل، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس مُحدّثون فإن يك في أمتي فإنه عمر)). دخل قوم من مَذحِج على الفاروق عمر فيهم الأشتر النخعي، فصعّد فيه عمر النظر وصوّبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث، فقال: ما له قاتله الله، إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيباً. فكان كما تفرس رضي الله عنه فكان منه في الفتنة ما كان.
ودخل رجل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! فقلت: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.
قال أبو شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكفَّ نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخطىء له فراسة وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به ثم قال بعد ذلك: إن في ذلك لآيات للمتوسمين وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم: الله نور السموات والأرض. قال ابن القيم رحمه الله معقباً على كلام الكرماني وسر هذا: أن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون، انتهى.
أيها المسلمون: والفرق بين الفراسة والظن أن الظن يخطىء ويصيب وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته، ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه، وأخبر أن بعضه إثم. وأما الفراسة فأثنى على أهلها ومدحهم في قوله تعالى: إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أي للمتفرسين وقال تعالى: يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم وقال تعالى: ولو نشاء لأريناهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنزه من الأدناس وقرب من الله فهو ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه. ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: ((ما تقرب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)). فأخبر سبحانه أن تقرب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطىء، له فراسة فإن العبد إذا أبصر بالله أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع بالله سمعه على ما هو عليه وليس هذا من علم الغيب بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من حصول صور الحقائق فيه، وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره بحسب ذلك النور، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة المتفرسين روى الحاكم في المستدرك وغيره عن عمرو بن عبسة السُلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الخيل وعنده عيينة بن بدر الفزاري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أعلم بالخيل منك. فقال عيينة: وأنا أعلم بالرجال منك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن خير الرجال؟ قال: رجال يحملون سيوفهم على عواتقم ورماحهم على مناسج خيولهم من رجال نجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت بل خير الرجال رجال اليمن، والإيمان يمان إلى لخمٍ وجُذام، ومأكول حمير خير من أكلها، وحضرموت خير من بني الحارث، والله ما أبالي لو هلك الحارثان جميعاً، لعن الله الملوك الأربعة، جَمَداً، ومَخُوساً، وأبضَعة، وأختهم العَمَرَّدة، ثم قال: أمرني ربي أن ألعن قريشاً مرتين فلعنتهم، وأمرني أن أصلي عليهم فصليت عليهم مرتين مرتين. ثم قال: لعن الله تميم بن مرة خمساً وبكر بن وائل سبعاً ولعن الله قبيلتين من قبائل بني تميم: مَقاعس وملادس، ثم قال: عُصية عصت الله ورسوله. ثم قال: أسلم وغفار ومزينة وأحلافهم من جهينة خير من بني أسد وتميم وغطفان وهوازن عند الله يوم القيامة، ثم قال: شر قبيلتين في العرب نجران وبنو تغلب، وأكثر القبائل في الجنة مَذحِج)).
أيها الأحبة: إننا نعيش في زمن ووقت يحتاج فيه المؤمن أن يكون يقظاً فطناً لديه شيء من الفراسة وإلا لتخطفته الرياح ولعبت به كما لعبت بغيره، والأصل في المؤمن أن يكون ذكياً لا أن يكون مغفلاً ساذجاً، تمر من بين يديه أمور وأمور وهو لا يدري. وخلاصة أمر الفراسة أنها تحتاج إلى إيمان وتقوى، فكلما كان العبد أكثر إيماناً كلما فتح الله على قلبه وأعطاه فراسة في الأمور فصار يرى ما لا يرى غيره. وقد حصل للصحابة وأكابر السلف من هذا الكثير.
روي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجاراً، وقال الآخر: بل حداداً، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجاراً وأنا اليوم حداد.
وقال ابن القيم رحمه الله: كان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيئ أظنه كذا إلا كان كما قال، ويكفي في فراسته: موافقته ربه في المواضع المشهورة.
فمن ذلك أنه قال: يارسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وقال: يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقال لهن عمر: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت كذلك. وشاوره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر فأشار بقتلهم ونزل القرآن بموافقته.
مرّ بعمر رضي الله عنه سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال: لقد أخطأ ظني وإنّ هذا كاهنٌ، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية، فلما جلس بين يديه سأله عمر عن ذلك، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين: كنت كاهناً في الجاهلية.
قال ابن القيم: وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة. ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أموراً عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سِفراً ضخماً.
وقال مالك عن يحيى بن سعيد إن عمر بن الخطاب قال لرجل ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال ابن شهاب، قال: ممن، قال: من الحرقة، قال أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: أيها قال بذات لظى، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال.
وقال الحارث بن مرة نظر إياس بن معاوية إلى رجل فقال هذا غريب وهو من أهل واسط وهو معلّم وهو يطلب عبداً له آبق، فوجدوا الأمر كما قال، فسألوه فقال رأيته يمشي ويلتفت فعلمت أنه غريب، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة واسط، فعلمت أنه من أهلها، ورأيته يمر بالصبيان فيسلم عليهم ولا يسلم على الرجال فعلمت أنه معلم، ورأيته إذا مر بذي هيئة لم يلتفت إليه، وإذا مر بذي أسمال تأمله فعلمت أنه يطلب آبقا.
ومن دقيق فراسة الصحابي جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أن قال الشعبي كان عمر في بيت ومعه جرير بن عبد الله فوجد عمر ريحا فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لمّا قام فتوضأ، فقال جرير يا أمير المؤمنين أو يتوضأ القوم جميعا فقال عمر: يرحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية ونعم السيد أنت في الإسلام.
ومن دقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالا، فدفعه إلى امرأته، ثم طلبه منها، فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقباً ولا أمارة، فقال المنصور منذ كم تزوجتها، قال منذ سنة، قال بكرا أو ثيبا، قال ثيبا، قال فلها ولد من غيرك، قال لا، قال فدعا له المنصور: بقارورة طيب كان حاد الرائحة وغريب النوع فدفعها إليه وقال له تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم، فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت منه إلى رجل كانت تحبه وقد كانت دفعت إليه المال فتطيب منه، ومر مجتازا ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحته عليه فأتى به المنصور فسأله من أين لك هذا الطيب فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة فقال إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه وإلا اضربه ألف سوط، فلما جرّد للضرب أحضر المال على هيأته فدعا المنصور صاحب المال فقال: أرأيت إن رددت عليك المال تحكّمني في امرأتك، قال نعم، قال هذا مالك، وقد طلقت المرأة منك.
وقال رجل لإياس بن معاوية: علمني القضاء فقال إن القضاء لا يعلم إنما القضاء فهم، ولكن قل: علمني من العلم. وهذا هو سر المسألة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بفهم القضية وعمهما بالعلم. وكذلك كتب عمر إلى قاضيه أبي موسى في كتابه المشهور وقال له: الفهم الفهم فيما أدلي إليك. والذي اختص به إياس وشريح وغيرهم من أهل الفراسة مع مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم هو الفهم في الواقع والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، وهذا الذي فات كثيرا من الحكام والقضاة فأضاعوا كثيرا من الحقوق.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن الفراسة غير ما تقدم ما يسمى بالفراسة في تحسين الألفاظ وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السنة وهو من خاصية العقل والفطنة، فمن ذلك: أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران فقال لوزيره الفضل بن الربيع ما هذه؟ قال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين ولم يقل الخيزران لموافقته لاسم أمه.
ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده وفي يده مسواك ما جمع هذا قال: ضد محاسنك يا أمير المؤمنين.
وخرج عمر رضي الله عنه يعس المدينة بالليل، فرأى نارا موقدة في خباء فوقف وقال: يا أهل الضوء، وكره أن يقول يا أهل النار.
وسئل العباس أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
ومن ألطف ما يحكى في ذلك أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه فقال سعد يا أمير المؤمنين فقال أي السعود؟ قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين، وسعد الذابح لأعدائك وسعدٌ بلع على سماطك، وسعد الأخبية لسرك فأعجبه ذلك. ويشبه هذا أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقارب في خطوه فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لجلد، قال: على أعدائك، قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين.
وأصل هذا الباب قول الله تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إذا كلم بعضهم بعضا بغير التي هي أحسن فرب حرب وقودها جثث، أهاجها القبيح من الكلام. وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي)) وخبثت ولقست متقاربة المعنى، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظ الخبث لبشاعته وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق وإرشادا إلى استعمال الحسن وهجر القبيح في الأقوال كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال.
أيها المسلمون: ومن الفراسة، التأمل والنظر في عواقب الأمور ومآلاتها فعلاً وتركاً، وهذا هو المقصود الأعظم في باب الفراسة، وهو ما يسمى بفقه المقاصد في الفعل والترك، النظر في عواقب الأمور، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية القريبة، وهذا أمر لا يُفتح لكل أحد، ومن رزق هذا الباب فقد أوتي خيراً كثيراً، هذه المسألة من المسائل المهمة جداً، والتي يترتب على الاخلال بها وعدم فقهها: فوات كثير من المصالح. فأحياناً يكون هناك تعارض بين مصلحتين لايمكن الجمع بينهما، فما العمل؟ وأحياناً تتعارض مفسدتان لايمكن الخلو من أحدهما، فما العمل؟ وأحياناً تتعارض مصلحة ومفسدة لايمكن التفريق بينهما، بل فعل المصلحة مستلزم لوقوع المفسدة، وترك المفسدة مستلزم لترك المصلحة، فما العمل؟ وهذا باب واسعٌ ومهم جداً، ونحن في واقعنا المعاصر كثيراً ما نحتاج اليه أكثر مما سبق من الأوقات يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله (وهذا باب التعارض باب واسعٌ جداً لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة في الأمة) انتهى [1]. يقصد رحمه الله أنه كلما رق الدين، ونقصت آثار النبوة في المجتمعات، كلما كثر التعارض، وكلما كان الواقع والحياة أقرب الى الدين وأقرب الى تطبيق شرع الله قل التعارض والله المستعان. والمتأمل في واقعنا يجد التعارض في كل شيئ، ما من قضية إلا وهناك العقبات والمعوقات والتعارضات، وهذا إن دل على شيء فانما يدل على البعد عن الدين، نسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته. ومن رزق فقه المقاصد والنظر في عواقب الأمور يفتح الله عليه بترك المرجوح من الأمور وهذا كما قلت من أعظم أنواع الفراسة.
ومن الفراسة: معرفة أحابيل المجرمين وطرائقهم ودسائسهم في تدمير عقائد الناس وأخلاقهم. وما تمكن أعداء الشريعة وخصوم الملة من بعض الأشياء إلا عندما كثر المغفلون في الأمة، تمرر قضايا أحياناً تتعجب من سذاجة المسلمين وقبولهم له، وإلى أي درجة من الغفلة يعيشون، ولعل من أقرب الأمثلة التي يحضرني الآن هو ما طرحته وسائل الإعلام، من شفقة الغرب على أبناء كوسوفا والمساعدات التي قدموها لأجل سواد عيون المسلمين هناك، ومدى حرقتهم على ما حصل لهم. وليس الآن هو مجال تحليل مثل هذه القضية.
ومن الفراسة: أن يعرف المؤمن المجرمين في مجتمعه بسيماهم، وأن يعرفهم في لحن القول بفلتات لسانهم، وما تخطه أيديهم أحياناً، فلان يسمح له بالكتابة، ويطرح قضايا تنقض أصل الدين، ثم لا يرد عليه، فيعلم المؤمن بفراسته أن وراء الأكمة ما ورائها.
ومن الفراسة: معرفة أهل الحق المخلصين، تعرفهم بحرب المبطلين لهم، وتعرفهم بشنآن أهل الشهوات لهم، تعرفهم بصدق اللهجة، واضطراد المنهج، وتعرفهم بمحبة الناس لهم، وتعرفهم بما يحقق الله على أيديهم من الخير، وما يُكَف بسببهم من الشر عن الناس. وهذه فراسة مع كل أسف لا تظهر لكثير من المسلمين. وإلى الله المشتكى.
أيها الأحبة: لما كان الناس قريبون من ربهم، متمسكون بالدين، قلباً وقالبا، ظاهراً وباطنا، كثر أهل الفراسة في الناس وقل عدد الأغبياء، وحصل بسبب ذلك خير كثير، ولما بعد الناس عن الدين والله المستعان حصل العكس من ذلك وكثرت الفتن، يقول سفيان الثوري رحمه الله: كان العلماء يعرفون الفتن قبل أن تقبل وقبل أن تأتي، فإذا ذهبت عرفها الناس، واليوم تقبل الفتن فإذا ذهبت عرفها العلماء.
وأخيراً: فإن المسلم الملتزم حقيقة له قضية يعيش من أجلها، وليس حاله كحال الدهماء، والقضية التي يعيش من أجلها تحتاج إلى فراسة وذكاء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنجز قضيتك بالغفلة والسذاجة.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا ولم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.
اللهم صلِّ على محمد...
[1] الفتاوى 20/57
(1/926)
القلم
موضوعات عامة
مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/10/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى القلم وأنواعه :قلم القدَر ,قلم الوحي ,قلم التكليف ,فلم التوقيع عن الله ورسوله وهو
قلم المُفتين ,قلم التوقيع عن الملوك ونُوّابهم ,قلم الحساب ,قلم الشهادة ,قلم التعبير أي تفسير
المنامات ,قلم التاريخ ,قلم اللغة ,قلم الرد على المبطلين 2- الأقلام الموبوءة التي تحارب
الدين والفضيلة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من أشراط الساعة ظهور القلم)).
القلم أداة الكتابة، بها يعبر الشخص عما في نفسه، وعن طريقها يُكتب العلم ويُنشر، ويقال للشخص صاحب الكتابات الرصينة النافعة، فلان صاحب قلم، ويقال لعكسه: ألا فليكسر القلم.
أيها المسلمون: والأقلام عديدةٌ ومتنوعة، وأيضاً متفاوتة في الرتب:
فالقلم الأول: وهذه أعلاها وأجلّها قدراً ألا وهو قلم القدر الذي كتب الله به مقادير الخلائق، كما في سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يارب وما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيئ حتى تقوم الساعة)). فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها، وقد قال غير واحد من السلف أنه القلم الذي أقسم الله به في قوله جل شأنه: ن والقلم وما يسطرون.
عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ؟ قَالَ: ((بَلْ فِيمَا جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) رواه ابن ماجة. وعنده أيضاً قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ نُورِهِ مَا شَاءَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَصَابَ النُّورُ مَنْ شَاءَ، أَنْ يُصِيبَهُ وَأَخْطَأَ مَنْ شَاءَ فَمَنْ أَصَابَهُ النُّورُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَ يَوْمَئِذٍ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ: جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ)).
القلم الثاني: قلم الوحي، وهو الذي يُكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله. وأصحاب هذا القلم هم الحكّام على العالم، والعالم خدم لهم، وإليهم الحل والعقد، والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رُفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها العالم العلوي والسفلي.
القلم الثالث: قلم التكليف، وهو القلم الموضوع على العبد عند بلوغه، وهذا القلم بأيدي الكرام الكاتبين، وهم الملائكة الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، ويرفع هذا القلم كما نعلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق. وبالمناسبة فلهذا الحديث قصة يحسن أن تذكر في هذا المقام رواها الإمام أحمد في مسنده، وهو أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا فَذَهَبُوا بِهَا لِيَرْجُمُوهَا فَلَقِيَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا هَذِهِ قَالُوا: زَنَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا فَانْتَزَعَهَا عَلِيٌّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَرَدَّهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا رَدَّكُمْ قَالُوا: رَدَّنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا عَلِيٌّ إِلَّا لِشَيْءٍ قَدْ عَلِمَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ فَجَاءَ وَهُوَ شِبْهُ الْمُغْضَبِ فَقَالَ: مَا لَكَ رَدَدْتَ هَؤُلَاءِ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ)) قَالَ بَلَى: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنَّ هَذِهِ مُبْتَلَاةُ بَنِي فُلَانٍ، فَلَعَلَّهُ أَتَاهَا وَهُوَ بِهَا فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: وَأَنَا لَا أَدْرِي فَلَمْ يَرْجُمْهَا. رواه أحمد.
قال شيخ الاسلام: والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء. وحديث رفع القلم عن ثلاثة إنما يدل على رفع الإثم ولا يدل على منع الحد إلا بمقدمة أخرى وهي أن يقال من لا قلم عليه لا حد عليه، وهذه المقدمة فيها خفاء فإن من لا قلم عليه قد يعاقب أحيانا ولا يعاقب أحيانا والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي، ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ولم يندفع إلا بقتله فلها قتله، بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم. انتهى.
وهناك رفع مؤقت لهذا القلم رحمة من الله للعبد المذنب أن يرجع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صاحب الشمال – يعني الملك الذي عن شمال العبد المختص بكتابة السيئات – ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسئ، فإن ندم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتب واحدة)).
القلم الرابع: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو قلم الفقهاء والمفتين، وهذا القلم أيضاً حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق، وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام، وأقلام العالم خدم لهذا القلم. إن هذا القلم ينبغي له أن لايحابي أحداً، وأن لا يداهن، لأنه قلم التوقيع عن رب العالمين، وعن سيد الأولين والآخرين، فهو القلم الذي عن طريقه يعرف الناس الحلال من الحرام، وما يجب عليهم وما لا يجب، ولو قيّد حرية هذا القلم وأحيط بضغوط وقع الظلم والفوضى الذي لا أول له ولا آخر، وما عرف الناس مراد الله ورسوله في هذه القضية أوتلك المسألة. فيا من حملكم الله مسئولية وأمانة هذا القلم، وهو التوقيع عنه: اتقوا الله تعالى فإنه قلم لايُأخذ إلاّ بحقه، وحقُه ألاّ يخشى صاحبه في الله لومة لائم، وإلاّ فليدع القلم. قال الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الانسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
القلم الخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم، وأصحاب هذه الأقلام لهم مكانة لأنهم المشاركون للملوك في تدبير الدول، فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة، وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة، وأقلامهم هي الواسطة بين الملوك ورعاياهم. أصحاب هذه الأقلام هم وزراء السلطان ونوابه، عن أقلامهم تصدر قرارات الدول، وعن طريقهم تنفذ أو تلغى، ولا يقل أهمية ومسؤلية أصحاب هذه الأقلام عن سابقهم، فأولئك يوقعون عن الله في أمور الشرع، وهؤلاء يوقعون عن السلطان في سياسة الدنيا بحسب ما أمر به الشرع، فهو قلم عظيم، ولا يعطى إلا صاحب دين متين وفقه بأحكام الشرع ليس باليسير. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
القلم السادس: قلم الحساب، وهو القلم الذي تضبط به أموال الميزانيات، مستخرجها ومصاريفها ومقاديرها، وما دخل ومن أين؟ وما خرج وإلى أين؟ وهذا القلم مبناه على الصدق والعدل والأمانة، فإذا كذب هذا القلم وظلم، وأخفى ودلّس، فسد أمر الناس، وضاعت الحقوق، ولذا لايعطى هذا القلم إلا لضابط للحساب، ومستعدٌ ليوم الحساب.
القلم السابع: قلم الشهادة، وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين الفاجر وإنكاره، هذا القلم، يُصدّق الصادق، ويُكذّب الكاذب، ويشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله، وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم وعدم الكتمان. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ: ((الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّور))ِ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَه)) رواهما البخاري.
القلم الثامن: وهو قلم التعبير، وهو كاتب وحي المنام وتفسيره وتعبيره وما أُريد منه، وهو قلم شريف جليل، مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدين والدنيا، وهو يعتمد على طهارة صاحبه ونزاهته وأمانته، وتحريه للصدق، والطرائق الحميدة، والمناهج السديدة، مع علم راسخ، وصفاء باطن، وحس مؤيد بالنور الإلهي، ومعرفةً بأحوال الخلق وهيآتهم وسيرهم، وهو من ألطف الأقلام، وأعمها جولاناً، وأوسعها تصرفاً، وأشدها تشبثاً بسائر الموجودات، فتصرف هذا القلم في المنام، هو محل ولايته، وكرسي مملكته وسلطانه.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة)). رواه البخاري. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يعبّر الرؤى لأصحابه، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْم)). رواه البخاري. وعنده أيضاً قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي ذَكَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَدُهُمَا: الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ: مُسَيْلِمَةُ)). وعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ)). رواه البخاري. وهناك باب كامل في صحيح البخاري عن الرؤى وتعبير النبي صلى الله عليه وسلم لها يمكن من أرادها أن يرجع إليها.
القلم التاسع: قلم التاريخ، يكتب تاريخ العالم ووقائعها، ميلادها ووفاتها وهو القلم الذي تضبط به الحوادث، وينتقل من أمة إلى أمة، ومن قرنٍ إلى قرن، لايدع شيئاً من تاريخ الدول إلا سجلها، ولا حدثاً إلا حفظها، فلا يمكن أن ينافق، ولا أن يُخفي، وما فاته قلم مؤرخ، سطره قلم آخر، إنه القلم الذي يحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال، وينقشه في النفس حتى كأن القارئ للتاريخ يرى ذلك ويشهده، إن هذا القلم قلم العجائب، لأنه يعيد لك العالم في صورة الخيال فتراه بقلبك، وتشاهده ببصيرتك، والسعيد من وعظ بغيره.
يا جامعي حطب التاريخ في قلم لا تحرقون سوى الأيدي بلا حذر
هلا وعيتم دروس الأمس دامية هلا استجبتم لضم القوس للوتر
فالقلب إن يعرف الايمان نبضته كان الجناحان ملئ السمع والبصر
القلم العاشر: قلم اللغة، وهذا القلم يشرح معاني ألفاظ اللغة وتصريفها، وأسرار تراكيبها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها، وأنواع دلالاتها، وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ، وأعذبها وأسهلها وأوضحها، وهذا القلم واسع جداً بحسب سعة الألفاظ وكثرة مجاريها وتنوعها، وبحسب صاحب القلم مما أعطاه الله من ملكة واستحضار.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
القلم الحادي عشر: وكم نحن بحاجة إلى هذا القلم، إنه قلم الرد على المبطلين، ورفع سنة المحقين، وكشف أباطيل المبطلين، من الفسقة والشهوانيين، وأصحاب التوجهات التحررية من الحداثيين والعلمانيين، مهمة هذا القلم كشف عوارهم على اختلاف أنواعها وأجناسها، وبيان تناقضهم وتهافتهم، على تعدد ألوانها وأشكالها، وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل، وهذا القلم في الأقلام نظير الملوك في الأنام، وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل، المحاربون لأعدائهم، إنه قلم الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، إنه قلم المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال، وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل، وعدو لكل مخالف، فهم في شأن، وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن آخر، ولكل وجهة هو موليها. إن عدد هذا القلم ما يزال في الأمة قليل، والقليل حبره ضعيف، ولا يزال الواقع يحتاج إلى أعداد من هذه الأقلام، فبعضه يكتب في توضيح دين الله بأسلوب سهل ميسر للعامة، وبعضه يكتب في الرد على المخالفين، والبعض يقوم بفضح مؤامرات المجرمين، ولا بد من تخصيص بعض الأقلام للكتابة في شئون المرأة، وأخرى يكون مناسباً للصغار والناشئة وغيره يخصص لمخاطبة غير المسلمين وغير العرب، بلغات العالم. نسأل الله تعالى أن يعجل بفرج أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
القلم الثاني عشر: وهي الأقلام الموبوءة، التي تكتب بلغتنا، وتنطق بلساننا وتحارب ديننا، أقلام أصحاب القلوب المريضة، والضمائر المستأجرة، والأفكار العفنة، أقلام تعلمت في مدارس الشرق والغرب، شربت ماء فكره، وتغذت بعفن طعامه، وهي الآن تحاول أن تصوغ عقائد وسلوكيات وأخلاق الأرض المباركة على نحو ما عُلّمت ووُجهت، هذه الأقلام صُنعت بأيد ملتوية، ونوايا سيئة، وأفكار منحرفة، وهي تحاول أن تلبس لباس الدين، لكي تضفي على نفسها الصبغة الشرعية، ويقبلها أبناء المسلمين، لأنها تكتب في أرضه، وتستعمل حبره وورقه، ويخرج نتاجها في صحيفته ومجلته، والذي لايمكنه أن يسطر بقلمه ما يريد مباشرة، فإنه يلتحق بالأقلام المهاجرة، ويخرج إفرازات سمه وخبثه في أحضان أسياده في الغرب، ثم يصدر ذلك بشكل مقالات أو أطروحات، تدخل من أبواب خفية، وتنشر على مرأى ومسمع، وفي وضح النهار، تدعو لتحرير المرأة، وتنادي بقيادتها للسيارة، وتحثها على أن تعمل في كل مجال، وأن تزاحم الرجال، وتطرح هذه الأقلام أيضاً أطروحات غريبةً على مجتمعنا، تحاول أن تقنع الناس بأن ما كنتم عليه طيلة السنوات الماضية فإنه التخلف، وأن التحضر هو أن نقبل كل ما تلقي به رياح الغرب وأمواج الشرق، ويركز أصحاب هذه الأقلام أيضاً على قضية الجهاد، محاولين تمييعه، ويصفون كل جهاد يقام في الأرض ضد أعداء الله أنه إرهاب، وقد تجرأت هذه الأقلام أحياناً فصارت تكتب كتابات تمس العقيدة، وتسخر بشئ من الدين، ويشم منها رائحة الكفر أحياناً. إن هذه الأقلام إن لم يؤخذ على يدها وتوقف، فإن شرها عظيم، لأنه سينشأ جيل جديد تربى على قراءة هذه التوافه، فإذا صاحب ذلك ضعف علمي ديني كما هو الحال الآن عند أغلب ناشئة اليوم، فماذا تتوقع منه أن يقدمه لأمته، وقد أدرك أعداء الملة وخصوم الشريعة وعرفوا كيف يقوضون أركان القوة، من غير استخدام السلاح، ومن غير إثارة القلاقل، لكن غير طريق القلم، تسخر أقلام وتستأجر أخرى ويحدد لها الهدف ثم تدعم، وتبدأ تنخر في جسم الأمة، ويكون مفعولها أقوى من رمي القنابل، وضرب المدافع، لأن الجميع مخدّر، ولا يشعر أنه مستهدف. لذا ينبغي التكاتف جميعاً في إيقاف هذه الأقلام أو على الأقل التقليل من شرها، وذلك بفضح أصحابها، وتسخير قلم الدعوة في الاجتهاد في طرح البدائل الصافية، ومقاطعة المجلات التي تنشر سموم أصحاب هذه الأقلام، ومناصحة بعضنا بعضاً ليلاً ونهارا، سراً وجهارا، والتشديد على الناشئة وعدم السماح لهم بقراءة كل ما وقع تحت أيديهم، وهذه مسؤلية أولياء الأمور أن يشددوا في ما يدخل البيت وما يرد إليه، خصوصاً الجرائد والمجلات التي تصدرمن الخارج، فهذه أخبث من أختها.
نسأل الله السلامة والعافية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ)) رواه ابن ماجة وسنده صحيح.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع...
(1/927)
الليل
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
فضائل الأعمال, مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/10/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الليل خَلْقٌ من خلق الله دال على عظيم قدرة الله تعالى 2- مسائل وأحكام تتعلّّق بالليل
3- فضل قيام الليل
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله جل وتعالى بقدرته وبالغ حكمته خلق في هذه الدنيا متضادات لكي يستقيم أمر الحياة، فخلق الحياة والممات، وأوجد الليل والنهار، وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى. وهذا سر من أسرار الكون ولا يستقيم أمر العالم إلاّ بهذا.
أيها المسلمون: الليل وما أدراكم ما الليل؟ هذا السواد الذي يغشى الكون إذا أقبل، أوجده المولى ليكون سكناً تسكن فيه الحركات، وتأوي فيه الحيوانات إلى بيوتها، والطيور إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس، وتستريح من كد السعي والتعب، قال الله تعالى: وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا وقال سبحانه: الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً.
أيها الأحبة: ولنا مع هذا الليل العجيب بعض وقفات وتأملات، وبعض مسائل وأحكام:
إذا غاب قرص الشمس الجميل في الأفق، نادى المنادي كل مسلم أن يصلي لله تعالى صلاة المغرب، ووقتها مع بداية الليل، وهي وتر الصلوات النهارية وفي الليل ساعة يسْتَجَاب فِيهَا الدُّعَاءُ وذلك كل ليلة. عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)) رواه مسلم. هل تدري يا عبدالله متى هذه الساعة؟ أنها ساعة التنزل الإلهي فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ. مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ الْفَجْرُ)). رواه مسلم. أين أنت يا عبدالله من هذه الساعة؟ هل تعرفها؟ هل تتذكرها؟ هل تحرص عليها؟ أم أنت مستغن عن هذا الفيض الالهي؟ المحروم من حرم لذة هذه الساعة. يا عبدالله: وذلك كل ليلة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ)) رواه البخاري.
أيها المسلمون: وفي الليل، هناك صلاة الليل، نعمة ولذة أخرى، لايعرفها إلا أهلها، الخاصّون بها، لذة صلاة الليل يعجز لسان الخطيب عن وصفها، ويقف القلم وهو يكتب عنها، وفضلها لايعد ولا يحصى، كلنا يعرف حديث نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل، هل تدرون أيها الأحبة ما مناسبتها؟ مناسبة هذا الحديث ساقه البخاري في صحيحه تحت باب فضل قيام الليل. فقال عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ قَالَ فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ. فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا)).
يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحاً طويلاً ، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون. ولقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم من الليل حتى تورمت قدماه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يعلم أنه من أهل الجنة. قال عبدالله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروفٌ من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقناتٌ أنّ ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أين نحن الآن أيها الأحبة من ليالي رمضان الجميلة وقيامه، والتي لم تبعد كثيراً عنّا حتى الآن، وما يزال الصالحون منا يعزي بعضهم بعضا على فراقه، وما زالوا يستروحون لذة وبهجة تلكم الليالي، أيليق أن نترك ذلك كله حتى رمضان القادم؟ نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل.
فيا شهر القيام فدتك نفسي تمهل بالرحيل والانتقال
فما ادري إذا ما الحول ولي وعدت بقابل في خير حال
اتلقاني مع الأحياء حيا أو انك تلقني في اللحد بالي
* * * * *
دع البكاء على الأطلال والدار واذكر لمن بان من خل ومن جار
وذر الدموع نحيباً وابك من أسف على فراق ليال ذات أنوار
يا لائمي في البكا زدني به كلفا واسمع غريب أحاديث وأخبار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلى ومنا القانت القاري
يكفيك يا عبدالله أن تتأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أوصانا في الحديث الصحيح فقال: ((عليكم بقيام الليل، فانه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد)).
أيها الأحبة: إذا كان هذا شأن الصالحين مع الليل، فلا يغيب عنّا أن هناك من يستغل الليل في أشياء أخرى، فسواد الليل يخفي عن الأعين كثيراً من جرائم المفسدين، ولقاءات الشهوانيين، وترتيبات المحاربين للدين، وأيضاً فإن شياطين الاعلام ينشطون فيفسدون في الليل أضعاف أضعاف ما يفسدون في النهار، فتقوم قنوات المحطات الفضائية ببث فسقها ومجونها في الليل، فتفسد على المؤمنين روحانية الليل الذي من أجله خلقه الله، فلكل وجهة هو موليها في جنح الليل. والله يعلم المفسد من المصلح. لكني أذكّر كل مذنب بالليل والنهار بحديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)) رواه مسلم.
أيها الأحبة: لقد كان من وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه قال له: واعلم أن لله حقاً بالليل لايقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لايقبله بالليل، وأنه لايقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة [1].
ومعلوم أن الحقوق النهارية والليلية على المسلم كثيرة، ومن أعظمها الصلوات، فصلوات الليل لايصح فعلها في النهار، وصلوات النهار لايصح فعلها في الليل، وهناك حقوق وواجبات أخرى أوجبه الله عليك يمكن أن تجمع بين الليل والنهار، وما لا يدرك هنا يقضى هناك. قال البخاري رحمه الله: بَاب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ. قال ابن حجر: قوله: (باب العلم) أي تعليم العلم بالليل، وأراد المصنف التنبيه على أن النهي عن الحديث بعد العشاء مخصوص بما لا يكون في الخير.
أيها المسلمون: ومن التأملات ما فرق الله جل وتعالى فيه بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والاسرار وفي هذا غاية المناسبة والحكمة لمن تأملها، فإن الليل مظنّة هدوء الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع الهمم المشتتة بالنهار، فالليل محل مواطأة القلب اللسان، ومواطأة اللسان الأذن، ولهذا كان من السنة تطويل قراءة الفجر عن سائر الصلوات، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بالستين إلى المائة آية، وكان أبوبكر الصديق يقرأ فيها بالبقرة، وعمر بالنحل وهود والاسراء ويونس ونحوها من السور، لأن القلب أفرغ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم، فإذا كان أول ما يقرع سمعه كلام الله الذي فيه الخير بكل حذافيره صادفه خالياً من الشواغل، فتمكن فيه من غير مزاحم، وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرية إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح كالمجامع العظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف، فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود وأنفع للجمع [2].
ومن مسائل الليل: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِذَا اسْتَجْنَحَ اللَّيْلُ أَوْ قَالَ: جُنْحُ اللَّيْلِ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا)). قال ابن القيم رحمه الله:
إن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة، وفيه تنتشر الشياطين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكفوا صبيانكم واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء)) ، وفي حديث آخر: ((فإن الله يبث من خلقه ما يشاء)). والليل هو محل الظلام وفيه تتسلط شياطين الأنس والجن ما لا تتسلط بالنهار، فإن النهار نور، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة. ولهذا كان سلطان السحر أعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار، فالسحر الليلي أقوى تأثيراً. ومن هنا أيضاً تعلم سر الإستعاذة برب الفلق، والفلق هو الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور، وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل، فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سردابه وغاره، وتأوي الهوام إلى جحورها، والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها، فأمر الله عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، ويقهر عسكرها وجيشها، ولهذا ذكر الله في كتابه أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور، ويدع الكفار في ظلمات كفرهم قال الله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى: أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [3]. انتهى كلامه رحمه الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. أقول هذا القول فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان فيه خطأً فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله العلي العظيم منه، كما أني أستغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مجموع الفتاوى 22/40
[2] اعلام الموقعين 2/137
[3] بدائع الفوائد 2/218
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن المسائل المتعلقة بالليل: أنه يجب أن يجمع النية من الليل في صيام الفرض والقضاء والنذر وكل صوم معين كصيام الست من شوال ونحوها. أما صيام النفل المطلق فيجوز أن ينويه من أثناء النهار، وكذلك أن يقطعه لو أراد ذلك فعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: ((هل عندكم من شيئ؟ قلنا: لا. قال: فإني صائم. ثم جاءنا يوم آخر، فقلنا: يارسول الله! أهدي لنا حيس، فخبأنا لك منه، فقال: أدنيه، فقد أصبحت صائماً، فأكل )) رواه مسلم.
ومن المسائل: أنه رُخّص للنساء والضعفة أن يدفعوا من مزدلفة في آخر الليل إذا غاب القمر ليرموا جمرة العقبة قبل زحام الناس. قال البخاري رحمه الله تعالى: بَاب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ.
ومن المسائل: النهي عن أن يطرق الرجل أهله ليلاً إذا قدم من سفر، قال البخاري رحمه الله: بَاب لَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ. ثم ساق حديث جابر بن عَبْدِ اللَّهِ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمْ الْغَيْبَةَ فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا)). والحكمة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: ((حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)).
ومن المسائل: أنه يجوز دفن الموتى ليلاً. قال البخاري رحمه الله: بَاب الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلًا.
ومن المسائل: النهي عن أن يسافر الانسان وحده ليلاً. عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الْوَحْدَةِ مَا أَعْلَمُ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ)) رواه البخاري.
ومن المسائل: قول البخاري: بَاب إِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ. ثم ساق حديث جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ)). قَالَ: هَمَّامٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَلَوْ بِعُودٍ يَعْرُضُهُ.
ومن المسائل: أن الانسان إذا استيقظ من النوم ليلاً يسن له أن يبدأ بالسواك، فعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. رواه البخاري.
ومن المسائل الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ الشخص من نومه بِاللَّيْلِ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) رواه البخاري. والشيئ بالشيئ يذكر، فمن دعا بسيد الاستغفار مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ دخل الْجَنَّةِ. فعن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنْ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قَالَهَا مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) رواه مسلم.
ومن المسائل: أن صلاة الليل مثنى مثنى، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ قَالَ: ((مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى)) رواه البخاري.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
(1/928)
الهاتف
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/2/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1-فضل الله تعالى ونعمته على الإنسان بهذا الهاتف 2- صور من صور استغلال الهاتف
في إيذاء الآخرين 3- أن استعمال الهاتف للنساء بكثرة يؤدي إلى تجرّأ النساء وفقدهنّ أو
نُقصان الحياء فيهنّ وصور من تساهل النساء باستعمال الهاتف 4- نصائح للمرأة ووليّ أمرها
فيما يتعلّق باستعمال الهاتف 5- تعليم الأطفال آداب الرد على الهاتف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
لقد فجر الإنسان طاقات هذا العقل الذي منحه ربه عز وجل، وصار يعلم ما لم يكن يعلمه من قبل، وصار هذا الإنسان يخرج لنا كل يوم بجديد من هذه الاختراعات، التي سهلت كثيراً من أمور الحياة، وأصبح الإنسان يتمتع بنعم الله جل وعز في هذه الأرض.
فمثلاً، كم سهلت وأراحت الناس هذه المكيفات وكيف سيكون حياة الناس بدونها، لاشك أنها نعمة عظيمة.
وقل مثل هذا الكلام في اختراع الطائرات، والسيارات وأجهزة الكمبيوتر، والثلاجات، ثم هذه القفزات الهائلة في عالم الاتصالات، وغيرها مما أنعم الله به على الإنسان، علم الإنسان ما لم يعلم.
وكل هذه المخترعات، تعدُ نعماً، لما فيها من تيسير حياة الناس، لكن سوء استخدامها في بعض الأحيان، تجلب لصاحبها المشاكل أحياناً.
ولعلنا نقضي دقائق هذه الخطبة مع جهاز الهاتف، هذا الجهاز الذي وفّر على الناس كثيراً من أوقاتهم وأموالهم، وأنجز كثيراً من معاملاتهم وأمورهم، ورفع مشقة الذهاب والإياب، بل والسفر أحياناً لأمور تُقضى بواسطة الهاتف.
تسمع بخبر عن قريب أو صديق، إما خبراً مفرحاً، أو محزناً، وأنت في طرف من أطراف الأرض، وهو في الطرف الآخر، ففي ثوانٍ تدير قرص الهاتف وتتحدث معه، فإما أن تهنيه، أو تعزيه، وتأخذ أخباره، وتعرف أحواله، فلله الحمد على نعمه. ولك أن تجد الفرق بين هذه الصورة، وما كان عليه الآباء والأجداد، ينتظرون أحياناً بضعة أشهر، لوصول رسالة من هنا أو هناك ليعرفوا بها أحوال أقاربهم وأسرهم. يرفع التاجر سماعة الهاتف، لأي جهة من الدنيا، ليعقد صفقة تجارية بملايين الريالات في دقائق معدودة، دون أن يتحمل عناء السفر.
ومع هذا الجهاز العجيب، عدة نصائح وتوجيهات، ووقفات وتأملات:
أولاً:أذية المسلمين، قال الله تعالى: إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً. إلى أولئك الذين يسيئون استخدام هذا الجهاز، ويوظفونه في أذية عباد الله، ولا تبدأ هواياتهم إلا بعد منتصف الليل، فقط إزعاج الآخرين، كثيراً من الأسر تشتكي من إزعاج الهاتف، خصوصاً بعد منتصف الليل، يكون الواحد، نائماً بعد عناء وتعب النهار، وإذا بالهاتف يصيح، فيقوم الواحد من نومه فزعاً، إذ لا أحد يرد أو يسمعك مقطعاً غنائياً، وغالب هؤلاء المزعجين من الشباب الضائع، الذي يبقى طوال ليله ساهراً، ويتفكه في أذية عباد الله، كم من الدعوات رفعت لها الأيدي في آخر الليل، ووقت التنزل الإلهي على هؤلاء الذين يعبثون في الهاتف، وربما لقي هذا الدعاء باباً مفتوحاً في السماء، وساعة إجابة، فأصابت هذا المزعج إما في نفسه أو بعض أهله بسببه. أذكر هؤلاء مرة أخرى بقول الله تعالى: إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً وأن الهاتف لم يوضع لهذا.
ثانياً: وهذا يمكن أن يكون ضمن أذية المسلمين، لكن يستحق أن يفرد لوحده، لتنوع الصور المتعلقة به، ألا وهو التصنت على عباد الله من خلال الهاتف. أن التنصت قد يقوم به عدة جهات:
قد يقوم بهذا الدور شاب مراهق، يتصنت على جيرانه، أو بعض أقاربه،من خلال جهاز التصنت ونقل المكالمات، ويقضي معظم ساعات ليله، ونهاره في سماع أحاديث الناس. وما يجري بينهم دون علم منهم، وربما قام بتسجيل بعض هذه المكالمات، ليسمعها زملائه الذين يشاركونه في نفس هذه الهواية، وربما استخدموه تهديداً لبعض الأسر وبعض الفتيات.
وقد يقوم بهذا الدور، دور التصنت أخ أو زوج، والدافع لهذا العمل هو الشكُ فحسب ليس لديه يقينيات، مجرد الشك، صار يشك في زوجته، أو الأخ في أخته، فيقوم بالتصنت عليها، وتسجيل مكالماتها وهي تحادث زميلاتها، وربما في خصوصيات لا يصلح أن يطلع هو عليها. وكل هذا داخل في التصنت المحرم الذي لا يجوز، وقد قال الله تعالى: ولا تجسسوا وقد يقوم بهذا الدور جهات أخرى تتصنت وتصطاد في الماء العكر.
فنُسمع كل هؤلاء الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صُب في أذنيه الآنكُ يوم القيامة))، والآنك هو الرصاص المذاب، نعم والجزاء من جنس العمل، فهذا الذي وظف أذنيه للتصنت والتجسس على عباد الله، ويتسمع لحديثهم وهم له كارهون، كان مناسباً جداً لهذه الأذن أن يحمي الرصاص حتى يذوب، ثم يصب في أذنيه، فليتأمل جيداً، كل من يقوم بهذا الدور من الشباب وغيرهم، فإن عاقبة هذا الفعل كما سمعتم من قول الصادق المصدوق.
((من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون ، صُب في أذنيه الآنكُ يوم القيامة)).
ثالثاً: لقد خلق الله جل وتعالى، الجنسين. الذكر والأنثى، وخلق في كل جنس من الفطرة ما يناسبه، فركب في المرأة عنصر الحياء، والمرأة إذا فقدت الحياء، فقد فقدت كثيراً من أنوثتها التي تُرغب الزوج فيها. وإن استخدامات المرأة للهاتف في زماننا هذا، ساعد كثيراً في نزع نسب من الحياء من المرأة، أصبحت المرأة تتصل بجهات عديدة، والأصل أن ولي الأمر هو الذي يقوم بهذا الدور، لكنه سمح للمرأة أن تمارس دوره، فكسر عندها باب الحياء، وماله بعد ذلك إلا أن يتحمل عواقب ما تساهل فيه، خذ هذه الأمثلة السريعة:
- أصبحت المرأة، تتصل بالمدرسة لتطمئن على وضع ولدها الذي يدرس في الابتدائية. وتتابع أحواله، فتكلم المدير أو الوكيل، وقد تطلب مربي الصف لكي تتفاهم معه شخصياً.
- وصارت المرأة تتصل بالخياط الذي يخيط لها ملابسها لكي تعطيه المقاس أو تعدل في الموديل. أو لمجرد التأكد من موعد استلام الملابس.
- وصارت المرأة، تتصل بمكتب الخطوط للحجز، لكي تؤكد موعد سفر، أو تغير الرحلة.
- وأصبحت المرأة تتصل بمطاعم إيصال الخدمة المجانية للبيوت، لكي تطلب وجبة عشاء لأهل البيت في حالة، بل في حالات عدم رغبتها في إعداد الطعام.
- وتتصل المرأة في بعض الجهات الرسمية، كشركة الكهرباء أو مصلحة المياه، أو استعلامات الهاتف، لكي تتابع فاتورة تأخرت، أو ما أشبه ذلك.
- وتتصل بالبقال، أو بائع الخضروات الذي بجوار منزلهم، ليحضر لها ما نقص عليها أثناء ساعات النهار.
وتتصل، وتتصل، وتتصل.
أقول أين ولي الأمر، الذي يفترض أن كل هذه المهام هي من أعماله.
نعم لو كانت المرأة، أرملة وهي القيّمة على أولادها وليس هناك من محارمها أو أقاربها من يعينها في ذلك، فلا حول ولا قوة، أما أن يكون الولي موجوداً وغير موجود، فهذه هي المصيبة.
وأما عن حديث المرأة مع زميلاتها وجيرانها، فحقيقة هناك مشاكل في بعض البيوت، تجلس المرأة أحياناً تتحدث بالثلاث ساعات والأربع ساعات دون مبالغة، يصادف أنك تتصل أحياناً على بعض البيوت، فتعجز أن تجد الخط خالياً، وأحياناً يكون هناك أمر ضروري، إما حالة وفاة، أو حادث سيارة، وتعجز تماماً عن الاتصال ببعض البيوت، وعندما تفتش وإذا بالمرأة، تحادث جارتها قرابة ساعتين، في كلام لا أول له ولا آخر.
وأما عن مكالمات البنات لبعضهن البعض، بحجة الاستفسار عن الدروس المدرسية، فحدث ولا حرج، وقد تكون بعض هذه الدعاوى صحيحة، لكن من الخطأ، أن يسمح ولي الأمر في المنزل أن يُجعل الهاتف مشغول طوال فترة العصر وما بعد المغرب في شرح الدروس المدرسية، فإن الهاتف لم يوضع لهذا، لماذا لا تنتبه الطالبة وتعرف واجباتها، وما يجب عليها من المدرسة كباقي الزميلات. وقل مثل هذا الكلام بالنسبة للطلاب.
وقبل ختم الكلام عن هذه النقطة وهو فيما يتعلق بالمرأة وجهاز الهاتف، ننصحها بالآتي، وبل وننصح وليها بأن يلزمها بالآتي:
1 – عدم الخضوع بالقول، فإن الله سبحانه نهى نساء نبيه صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، اللاتي لا يطمع فيهن طامع، وهن في عهد النبوة، وحياة الصحابة رضي الله عنهم، نهاهن عن أن يخضعن بالقول فقال تعالى: ولا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً فكيف بمن سواهن.
2 – تُمنع المرأة من الاسترسال في الكلام مع الرجال الأجانب، بل ومع محارمها بما تنكره الشريعة وتأباه النفوس، ويُحدث في نفس السامع علاقة.
3 – تحذّر المرأة وكذلك البنت رفع الصوت عن المعتاد وتمطيط الكلام وتحسينه وتليينه وتنغيمه.
4 – على راعي البيت أن يرتب أموره على الستر والصون، وحفظ المحارم، فلا تكون المرأة هي أول من يبادر إلى إجابة الهاتف مع وجود أحد من الرجال.
5 – احذر يا راعي البيت ثم احذر أن يكون هناك جهاز مستقل في كل غرفة خصوصاً غرف الأولاد والبنات، يمنع فيه الجهاز منعاً باتاً لمن أراد الستر والعفاف.
جهاز واحد عام وسط المنزل، يستخدمه الجميع وعلى مسمع من أهل البيت.
إن الهواتف الجانبية والمخفية في البيوت، عواقبها سيئة، وفي ذلك قصص وأخبار، ليس هذا مقام سردها.
نسأل الله جل وتعالى الستر في الدنيا والآخرة، وأن يبصرنا بأمورنا.
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
رابع وقفات هذا الجهاز:هو مع الأطفال في المنزل. فالطفل إما أن يؤدب ويربى جيداً ويُعلم كيف يرد على الهاتف، أو يمنع منعاً باتاً، ويكون الهاتف بعيداً عن متناول يده.
أحياناً تتصل لأمر مهم وضروري ولا يحتمل التأخير، فتقع ضحية طفل يرفع السماعة، تحاول معه أكثر من عشر دقائق أحياناً ليعطيك كبيراً تتفاهم معه، فتعجز عن ذلك، وأهل البيت في غفلة عن طفلهم هذا وعن جهاز الهاتف.
وغالب الأطفال فيهم براءة الطفل وبساطته، فيقوم بالاتصال أحياناً بعض السفهاء ويبدأ يتحدث مع الطفل، ويلاعبه ويمازحه، ثم يقوم باستخراج بعض المعلومات الخاصة بالمنزل والطفل بكل براءة يجيب.فيُسأل عن أسماء أهل البيت ذكوراً وإناثاً، وهل لديكم خادمة، وما اسمها وجنسيتها، وهل أمك تعمل أو لا تعمل، وأين عملها، وغيرها من خصوصيات البيوت، والطفل يعطي معلومات، ثم يبدأ ذلك السفيه أو قل المجرم، بتوظيف هذه المعلومات فيما يريد. أين أهل البيت عن طفل يتحدث في الهاتف لأكثر من ربع ساعة، ولا يعلمون عنه.
وأحياناً يتصل رجل ذو مكانة ومنزلة ووجاهة في المجتمع، إما لعلمه أو لسنه أو لقرابته، ثم يرد عليه طفل يسيء الأدب معه، وربما تلفظ عليه بألفاظ لا تليق بمقامه، من يتحمل كل هذه الأخطاء؟ قد تقول لي: هذا طفل، نقول نعم طفل، لكن لو أحسنت تربيته وتوجيهه وتعليمه، ودربته تدريباً جيداً على استخدام الهاتف، واختبره في ذلك لتعلم وأجاد، وهناك أطفال، لا يمكن أن تخرج منه بمعلومة، أو تسمع منه كلمة سيئة، ما السبب: والداه.
ملخص الكلام عن الأطفال، إما أن يمنعوا من مس جهاز الهاتف، أو يعلموا تعليماً جيداً.
خامساً: ليكن الهاتف بعيداً تماماً عن متناول الخادمات في البيوت، وكذلك السائقين، خصوصاً إذا كانوا كفاراً. فإن دينهم لا يحرم عليهم الكلام مع الأجنبي، والتبسط معه بل ولا يحرم الخلوة به، بل إن دينهم يبيح لهم الزنا، وشرب الخمر، وغيرها من الفواحش، وترك الهاتف حراً طليقاً في يد الخادمات مصيبة، وأية مصيبة، وربما لديكم من القصص والأخبار بل والحوادث والجرائم بسبب الهاتف أكثر مني.
سادساً: لا يجوز لك أن تستغل هاتف العمل لمصالحك الشخصية، خصوصاً تلك المكالمات المرتفعة الرسوم، وبالأخص ما كان لخارج المنطقة، دون إذن صاحب العمل.
وكذلك لا يجوز لك أيها الموظف أن تتحدث بالهاتف أثناء العمل لعدة ساعات وإن كان يعلم صاحب العمل، في مقابل تعطيل المراجعين وتأخير معاملات الناس.
سابعاً: المعاكسات الهاتفية وتبادل الأرقام بين الأولاد والبنات أصبح أمراً مكشوفاً للجميع، بل أولئك الذين يهمهم أمر المجتمع، لديهم من عجائب القصص الشيء الكثير، فاحذروا وانتبه يا ولي الأمر، وراقب هاتف منزلك جيداً.
ثامناً: الأليق بنا كمسلمين أن نستخدم الألفاظ الشرعية في أحاديثنا خصوصاً عند أول رفع سماعة الهاتف، فنبدأ بالسلام، بدل الألفاظ الأجنبية، ونربي أولادنا على ذلك.
تاسعاً: تأكد من الرقم الصحيح، قبل الاتصال ليقل خطأك، ولو أخطأت في الرقم، فاعتذر بأسلوب طيب ومناسب.
عاشراً وأخيراً: قلل مدة كل اتصال بقدر المستطاع، وحاول أن تدرب نفسك على هذا، وستجد أنك توفر كثيراً من المال، خصوصاً في ظل هذه الرسوم المرتفعة، وخصوصاً إن كنت تستخدم الهاتف الجوال.
(1/929)
الهدية
فقه
الهبة والهدية والوقف
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/10/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الهدية وأثرها في علاقات الناس 2- أن الهدية تكشف عن عقل صاحبها
3- حكم إهداء الكفار وقبول هداياهم وهدايا آكلي الربا 4- آداب الهدية وما ينهى فيها وما يحرم من الهدايا
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
من العادات الجميلة والأمور الطيبة بين الناس – تبادل الهدايا -
إن الهدية لها آثار طيبة على العلاقات الأسرية والأواصر فيما بين الناس، فهي تأكيد للمحبة والصداقة، وهي عنوان للوفاء، يفرح القلب بها، وينشرح الصدر لرؤيتها، وإن كانت في النفوس بعض المكدّرات انسلّت وخرجت، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين))، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي ويقبل الهدية ويثيب عليها، روى البخاري في صحيحه ((عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَهْدَتْ أُمُّ حُفَيْدٍ خَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقِطًا وَسَمْنًا، فَأَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَقِطِ وَالسَّمْنِ)) لكنه كان لا يأكل الصدقة ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مَعَهُمْ)) رواه البخاري.
والهدية كما قيل تدل على عقل صاحبها، فلا بد من حسن اختيارها وانتقائها لتعبر عن حب مخلص وصداقة متينة، وليست العبرة بحجمها وكبرها، وإنما بنوعيتها وحسن اختيارها وما تعبر عنه. أهدى رجل الى المتوكل قارورة ذهب وكتب معها: إن الهدية إذا كانت من الصغير الى الكبير، فكلما لطفت ودقّت كانت أبهى وأحسن، واذا كانت من الكبير الى الصغير فكلما عظمت وجلّت كانت أوقع وأنفع. وقيل أيضاً بأن ثلاثة تدل على عقول أربابها: الهدية والرسول والكتاب، فالكتاب يدل على عقل كاتبه، والرسول يدل على عقل مرسله، والهدية تدل على عقل مهديها. وقد حكى الله تعالى عن بلقيس أنها قالت: وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فجعلت جواب الهدية دلالة وأمارة.
وقد يتغاضى المهدى اليه عن كثير من عيوب المهدي ونقائصه، وما ذاك إلا للآثار الجميلة التي تتركها الهدية في النفوس، فهل يدرك هذا جيداً من لهم اهتمام بدعوة الآخرين، فيستغلوا هذا الأمر في كسب مدعويهم والتأثير عليهم.
أيها المسلمون: ومن الأولى أن يهدي الإنسان للأقرب فالأقرب، ولمن له حقوق على الانسان، وكذلك بين الجيران يبدأ بالأقرب كما في حديث عائشة عند البخاري أنها قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: ((إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا)).
والهدية تختلف بحسب مقامها، وبحسب من يستفبد منها، فلا يلزم أن تكون عينية فقد تكون الهدية حكماً شرعياً أو لفتة علمية أو مثل ما حصل بين هذين الفاضلين مما ذكره البخاري في صحيحه: عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: بَلَى. فَأَهْدِهَا لِي. فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ، قَالَ: ((قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)) فأكرم بها من هدية، وأظن أن عبدالرحمن بن أبي ليلى ما فرح بهدية مثل هذه، لكنها تحتاج الى نفوس أمثال تلك النفوس.
أيها المسلمون: ويجوز قبول الهدية من الكفار وكذلك اهدائهم، إما عن قبول هداياهم فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدايا من اليهود، ومعروف قصة اليهودية التي أهدت له شاة وكانت مسمومة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأكل منها وأطعم بعض أصحابه منها أيضاً. وأما عن إهدائهم فقد قال الله تعالى: لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ فَقَال: ((إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا، فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ)) راوه البخاري.
ويجوز أخذ الهدية من رجل يتعامل بالربا، لأن القاعدة عند العلماء هو: أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب فقط بخلاف ما حرم لعينه. فالذي مكسبه حرام يجوز الأكل عنده وقبول هديته والتعامل معه بيعاً وشراءً، ويكون إثمه عليه، أما ما حرم لعينه فهو حرام على الآخذ وغيره، انتبه لهذا المثال: إنسان سرق مال شخص ثم جاء وأعطاك شيئاً من هذا المال، نقول يحرم عليك أخذه لأن هذا المال حرام بعينه، بخلاف هدية آكل الربا، فالهدية في أصلها مباحة وإن كان كسب مهديها حراماً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل من طعام اليهود اذا أهدوا اليه مع علمه بأن اليهود يتعاملون بالربا. بل توفي صلوات ربي وسلامه عليه ودرعه مرهونة عند يهودي.
أيها المسلمون: من المستقبح في الهدية أن يرجع الانسان في هديته فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ)) راوه البخاري.
ومما يجب تجنبه في الهدية، المنّة بها فإن هذا من اللؤم وقلة المروءة. أهدى رجل للأعمش بطيخة فلما أصبح قال: يا أبا محمد كيف كانت البطيخة؟ قال: طيبة! ثم أعاد عليه ثانياً: كيف كانت البطيخة؟ قال: طيبة! فأعادها ثالثاً فقال: إن خففت من قولك وإلا قئتها. وأهدى أبو الهذيل الى أستاذ له ديكاً، فكان بعد ذلك اذا خاطبه أرّخ بديكه، فيقول: أنه كان يوم أهديت اليك الديك، وأنه كان قبل الديك بكذا، وبعد الديك بكذا، وكلما ذكر شيئاً بجمال أو سمن قال: هو أحسن من الديك أو أسمن من الديك الذي أهديته اليكم. وأصبح هذا مثلاً لمن يستعظم الهدية.
نفعني الله واياكم بهدي كتابه، واتباع سنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن الهدية من الأشياء الجميلة، بل من الأمور التي يحث عليها في الإسلام، لكن في المقابل هناك بعض أنواع من الهدايا حرمتها الشريعة، وتعد من الهدايا المحرمة ننبه على بعض صورها لوقوعها بين الناس وانتشار بعض صورها:
فمن الهدايا المحرمة: عدم العدل بين الأولاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اعدلوا بين أولادكم في العطية)) راوه البخاري، وفيه أيضاً أن النعمان بن بشير أعطاه أبوه عطية وكان يحب أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعطية، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت سائر أولادك مثل هذا؟ قال: لا. قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فردّ عطيته)).
ومن الهدايا المحرمة: ما كان في نفسه محرماً كآلات الطرب، والألبسة المحرمة وغيرها فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ. قَالَ: ((إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ)) راوه البخاري.
ومن الهدايا المحرمة: تلك الهدايا التي تهدى بمناسبات الكفار، كالهدايا التي تهدى بمناسبة رأس السنة الميلادية، أو ما يسمونه بعيد الكرسمس، أو غيرها من المناسبات الغير إسلامية، وبالمناسبة أحذّر الاخوة الذين لهم تعامل مع الكفار، التعامل الاضطراري كأن يكونوا في شركة واحدة أو ما أشبه ذلك، إياكم ثم إياكم والمجاملات على حساب الدين، فإن هذه قضايا تمس معتقد المسلم فالحذر الحذر.
ومن الهدايا المحرمة: ما أعطي للرجل بسبب أعمال أوكله بها الوالي أو السلطان عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ الْلَّتَبِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعِرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ بَصْرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي)) رواه البخاري.
ومن الهدايا المحرمة: ما يأخذه بعض الناس من هدايا تعطى له حين يستخدم جاهه في شفاعة معنية، وهو ما يسميه العلماء أخذ الأجرة على الشفاعة، فإنها والعياذ بالله من الهدايا المحرمة، مثاله: كلّمت شخصاً ليتوسط في توظيف أحد أولادك في مصلحة ما أو في نقل أحد بناتك وهي مدرسة من منطقة لأخرى، ثم شفع لك هذا الرجل بجاهه وتم التوظيف أو النقل، فأكرمته بهدية، حرام ولا يجوز، اسمع لهذا الحديث العظيم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية عليها فقبلها منه، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)).
ومن الهدايا المحرمة: ما يأخذه القاضي أو الوالي ليغيّر حكم الله عز وجل، فإن ما أخذه سحت وغلول، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الهدية إلى الإمام غلول))، قال الله تعالى: فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال آتاني فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون.
ومن الهدايا المحرمة: ما يهديه الموظف لرئيسه في العمل، وما يهديه الطالب لأستاذه في المدرسة، وما تهديه الطالبة لمدرستها، فكل هذا من الهدايا المحرمة ولا يجوز لهم أخذها.
ومن الهدايا المحرمة: الرشوة وهذا باب واسع وعريض، وقد فتحت في أيامنا هذه على مصراعيه، وتساهل الآخذ والمعطي فيه، وانتشر وباؤه حتى الذي لايريد أن يتعاطاه يجبر أحياناً تحت ضغط الواقع، خصوصاً من له حق شرعي، ولا يستطيع أن يصل الى حقه الاّ عن طريق الرشوة والعياذ بالله فلا تكفيه هذه العجالة، بل يحتاج الى حديث خاص وسيكون باذن الله تعالى، لكن بمناسبة الرشوة وما وصل إليه الحال عندنا نذكر هذه القصة ذكروا أن الحجاج استعمل المغيرة بن عبيد الله الثقفي على الكوفة، فكان يقضي بين الناس، فأهدى اليه رجل سراجاً من نحاس أصفر، وبلغ ذلك خصمه، فبعث اليه ببغلة، فلما اجتمعا عند المغيرة جعل يحمل على صاحب السراج، وجعل صاحب السراج يقول: إن أمري أضوأ من السراج، فلما أكثر عليه قال: ويحك ان البغلة رمحت السراج فكسرته!
وصل الوقاحة ببعض الموظفين الذين يأخذون عن طريق الرشاوي أضعاف أضعاف رواتبهم أن كتب أحدهم على لوحة صغيرة فوق مكتبه ادفع بالتي هي أحسن. نعوذ بالله من الخذلان.
(1/930)
بعض خصائص رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/9/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص شهر رمضان : أ- تكفير السيئات ب- شهر القيام 3- تُفتح فيه أبواب الجنة
4- تُغلق فيه أبواب النار 5- شهر القرآن
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:-
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
إن شهر رمضان أيها الأحبة، له في قلوب المسلمين معانٍ خاصة.
فقد ميزه المولى جل وتعالى عن باقي الشهور بعدة خصائص. وميزه بعدة سمات، فهذه بعضها:-
أولاً: رمضان شهر تكفير السيئات:
أنعم الكريم سبحانه على الأمة بتمام إحسانه، وعاد عليها بفضله وامتنانه، وجعل شهرها هذا مخصوصاً بعميم غفرانه. فيا أيها الأحبة، أيام رمضان أيام محو ذنوبكم فاستغيثوا إلى مولاكم من عيوبكم، هي أيام الإنابة، فيها تفتح أبواب الإجابة، فأين اللائذ بالجناب، أين المتعّرض بالباب، أين الباكي على ما جنى، أين المستغفر لأمر قد دنا. كم من منقول في هذه الليلة من ديوان الأحياء، عن قريب يفاجأ بالممات، وهو مقيم على السيئات. ألا رُبّ غافل عن تدبير أمره قد انفصمت عُرَى عمره، ألا رُبّ معرض عن سبيل رشده، قد آن أوان شق لحده، ألا رُبّ رافل في ثوب شبابه قد أزف فراقه لأحبابه، ألا رُبّ مقيم على جهله، قد قرب رحيله عن أهله، ألا رُبّ مشغول بجمع ماله، قد حانت خيبة آماله، ألا رُبّ ساع في جمع حطامه، قد دنا تشتت عظامه. أين المعتذر مما جناه فقد اطلع عليه مولاه، أين الباكي على تقصيره قبل تحسره في مصيره.
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال يا محمد: من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت آمين)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)).
يا من كان يجول في المعاصي قبل رمضان، ها قد أعطاك الله الفرصة، لا تكن كمن كلما زاد عمره زاد إثمه.
فيا أيها الغافل، اعرف نفسك، وانتبه لوقتك، يا متلوثاً بالزلل، إغسل بالتوبة أدرانك، يا مكتوباً عليه كل قبيح، تصفح ديوانك.
لو قيل لأهل القبور تمنّوا، لتمنوا يوماً من رمضان. وأنت كلما خرجت من ذنب دخلت في آخر، أنت، نعم أنت الآن في رمضان كما كنت في سفر، أما تنفعك العبر؟ أصُمّ السمع أم عُشَى البصر؟ آن الرحيل وأنت على خطر، وعند الممات يأتيك الخبر.
قال بعضهم: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، وأنفاس العباد ثمراتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قُطّافها".
يا من قد ذهبت عنه هذه الأشهر، وما تغير، أقولها لك صريحة: أحسن الله عزاءك.
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبد المسئ عصيت سراً فمالي الآن لا أبدي النحيبا
أنا العبد المفرط ضاع عمري فلم أرع الشبيبة والمشيبا
أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا
أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا
أنا الغدّار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا
فيا أسفي على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا
ويا حزناه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا
ويا خجلاه من قبح اكتسابي اذا ما أبدت الصحف العيوبا
ويا حذراه من نار تلظى اذا زفرت أقلقت القلوبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان لأن تتوبا
ثانياً: رمضان شهر التراويح، شهر التهجد والمصابيح:
عجباً لأوقاته ما أشرفها، ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها، طوبى لعبد صام نهاره، وقام أسحاره.
إليك يا أخي الحبيب بعض فوائد صلاة التراويح:
منها أن قيام رمضان من الإيمان ومغفرة لسالف الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
ومن فوائد التراويح أن مصليها يستحق اسم الصديقين والشهداء، وهذا من فيض الكريم سبحانه وتعالى. جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته فمِمّن أنا؟ قال: ((من الصديقين والشهداء)) رواه البزار وابن خزيمة وهو صحيح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دخل أول ليلة من رمضان يصلي المغرب ثم يقول: "أما بعد، فإن هذا الشهر كتب عليكم صيامه ولم يكتب عليكم قيامه فمن استطاع منكم أن يقوم فليقم، فإنها نوافل الخير التي قال الله".
ومن فوائد وبركات صلاة التراويح أن من قام مع إمامه كتب له قيام ليلة. عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ان الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة)).
تصلي مع الإمام حتى ينصرف وتتصبر هذه الدقائق يكتب لك قيام ليلة كاملة.
فاتق الله يا عبدالله في عمرك الذي مضى أكثره وأقبل على صلاة التراويح يُقبل الله عليك وانظر إلى سلفك من الصحابة، عن السائب بن يزيد أنه قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميماً الداري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة، قال وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح – أي السحور -.
وما صلاح الأجساد إلا بإنتصابها لربها، في القيام والتراويح، وهو شفاء من أمراض الأجساد والقلوب ورفعة للدرجات عند علام الغيوب وهذا طريق الصالحين من قبلنا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم، وتكفير السيئات، ومطردة للداء عن الجسد)) حديث صحيح رواه الترمذي وغيره.
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها من طول القيام في التراويح.
فرحم الله رجلاً قدم لآخرته، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وقدم مهره، فإنما مهر الحور الحسان طول التهجد بالقرآن، ولا تكن يا أخي ممن يعظم الخِطبة ويسهى المهر.
بادر يا أخي فإنه مبادر بك.
كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوماً شديداً حره لحر يوم النشور، تصدقوا بصدقة لشر يوم عسير".
وقل ساعدي بانفس بالصبر ساعةً فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلاً
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ويصبح ذا الأحزان فرحان جاذلا
ثالثاً: رمضان شهر فتح أبواب الجنان:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)) رواه البخاري ومسلم.
إن فتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة، لا تحتاج إلى تأويل، وهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة من الله، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر.
إنها الجنة يا عباد الله التي غرس غراسها الرحمن بيده.
إنها الجنة التي لا يسأل بوجه الله العظيم غيرها.
إنها الجنة دار كرامة الرحمن فهل من مشمر لها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر مقامك فيها.
إنها الجنة فاعمل لها بقدر شوقك إليها.
إنها الجنة التي اشتاق إليها الصاحون من هذه الأمة، فسلوا عنها جعفر الطيار وعمير بن الحمام وحرام بن ملحان وأنس بن النضر وعامر بن أبي فهيرة، وعمرو بن الجموح وعبدالله بن رواحة.
نعم إنها الجنة التي فتحت أبوابها هذه الأيام ولكن يا عجباً لها كيف نام طالبها، وكيف لم يدفع مهرها في رمضان خاطبها، وكيف يطيب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها، إنها الجنة، دار الموقنين بوعد الله، المتهجدين في ليالي رمضان، الصائمين نهاره، المطعمين لعباد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطعم الطعام وأدام الصيام، وصلى باليل والناس نيام)).
إنها الجنة ما حُليت لأمة من الأمم، مثلما حُلّيت لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن نبي الله موسى عليه السلام خدم العبد الصالح عشر سنوات، مهراً لزواجه من ابنته. فكم تخدم أنت مولاك لأجل بنات الجنان الحور الحسان.
إن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، وهم حُراسها، فيا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الله في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة قال الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقره.
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرةً أمن بعدها يسلو المحب المتيم
أجئتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأً والمورد العذب أنتم
رابعاً: رمضان شهر غلق أبواب النيران:
قال الله تعالى: أن جهنم كانت مرصادا، للطاغين مآبا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وأيم الذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)).
النار التي رأها رسول الله صلى الله عليه وسلم يحطم بعضها بعضاً، والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم لما رآها، لم أر منظراً كاليوم قط أفظع من النار.
هذه النار هي مخلوقة الآن، موجودة الآن، إنها معدة، فإياك ثم إياك أن تكون من وقودها.
لقد أُخبرت بأن النار مورد الجميع، وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً.
فأنت من الورود على يقين، لكنك من النجاة في شك. استشعر يا أخي في قلبك هول ذلك المورد، فعساك أن تستعد للنجاة منه، تأمل في حال الخلائق، وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها، ينتظرون حقيقة أبنائها، وتشفيع شفعائها، إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وجرجرة، تفصح عن شدة الغيظ والغضب، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، حتى أشفق البريء من سوء المنقلب، وخرج المنادي من الزبانية قائلاً: أين فلان بن فلان، المسوّف نفسه في الدنيا بطول الأمل، المضيع عمره في سوء العمل، فيبادرونه بمقامع من حديد، ويستقبلونه بعظائم التهديد، ويسوقونه إلى العذاب الشديد، ثم ينكسونه في قعر الجحيم، ويقولون له: ذق إنك أنت العزيز الكريم فَأُسكنوا داراً ضيقة الأرجاء مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شُدّت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان.
يا عبدالله: إن القضية جد، إنه لقول فصل، وما هو بالهزل، نار، غمٌّ قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، عقابها عميم، عذابها أليم، بلاؤها شديد، وقعرها بعيد، سلاسل وأغلال، مقامع وأنكال، زمانهم ليل حالك، وضجيجهم ضجيج هالك، يصطرخون فيها فلا يجيبهم مالك، ومقامع الحديد تهشم جباههم، ويتفجر الصديد من أفواههم، وينقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود أحداقهم، لهيب النار سار في بواطن أعضائهم، وحيات الهاوية وعقاربها تأخذ بأشفارهم.
نعوذ بالله أن نكون من قوم لباسهم نار، ومهادهم نار، لُحُفٌ من نار، ومساكن من نار، وهم والعياذ بالله في شر دار.
فيها غلاظ شداد من ملائكة قلوبهم شدة أقسى من الحجر
لهم مقامع للتعذيب مرصدة وكل كسر لديهم غير منجبر
سوداء مظلمة شعثاء موحشة دهماء محرقة لواحة البشر
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم فالموت شهوتهم من شدة الضجر
ضجوا وصاحوا زمانا ليس ينفعهم دعاء داع ولا تسليم مصطبر
وكل يوم لهم في طول مدتهم نزع شديد من التعذيب في سقر
فيا أخي الكريم، إذا كانت النار بهذه المثابة بل أشد، فإني أسألك أيها العاقل، أليست فرصة أن تغلق أبوابها هذه الأيام فإن لم تنتهز الفرصة الآن، فمتى يكون؟
فيا عجباً ،ـدري بنار وجنة وليس لذي نشتاق أو تلك نحذر
إذا لم يكن خوف وشوق ولا حيا فماذا بقى فينا من الخير يذكر
وليس لحر صابرين ولا بلى فكيف على النيران يا قوم نصبر
وفوق جنات الخلد أعظم حسرة على تلك فليستحسر المتحسر
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه...
أما بعد:-
الميزة الخامسة لهذا الشهر المبارك، أنه شهر القرآن، بل هو شهر الكتب السماوية كلها.
عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنزلت صحف ابراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان)) حديث حسن رواه الطبراني وأحمد.
أما القرآن خاصة فيقول الله جل وتعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
إن للصيام علاقة خاصة بالقرآن، فإذا علم هذا فلعله يتضح سرّ إقبال الناس على القرآن في رمضان قراءةً وحفظاً واستماعاً دون بقية الطاعات والقربات.
قال ابن رجب: كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها.
وقال أيضاً: وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام.
وقال ابن الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم.
وقال عبدالرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن.
أسأل الله جل وتعالى للجميع القبول والإعانة.
(1/931)
تأملات مع موسم الحج
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/11/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استجابة الناس لنداء إبراهيم عليه السلام بالحج إلى بيت الله الحرام 2- أن مجيء الناس
إلى الحج فيه منافع كثيرة جداً 3- في الحج مظهر من مظاهر تَوحُّد الأمة الإسلامية
4- ما كان عليه أهل الشرك من عقائد في الحج 5- تنبيه حول زيارة الحجاج للمسجد النبوي
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين. وعن أبي هريرة رضى الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه.
فهذه أيها الأحبة سبع تأملات بمناسبة موسم الحج:
أولاً: قال الله تعالى: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم.
ما يزال وعد الله يتحقق منذ إبراهيم عليه السلام إلى اليوم، وإلى الغد، وما تزال أفئدة الناس تهوى إلى بيت الله الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به، عشرات الآلاف من الناس يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة، تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم عليه السلام منذ آلاف الأعوام.
المسلم بحاجة إلى غداء للقلب وإلى زاد للعاطفة أن يقضي شوقه ويروي غلته، والبيت العتيق وما حوله من شعائر الله، والحج وما فيه من مناسك خير ما يحقق تلك الرغبة، وهذا من أسرار بيت الله عز وجل.
إن المسلم يقض هذا الشوق، ويبرز هذا الحنان في الصلوات التي يصليها كل يوم فيسلي بها قلبه، ويهدي بها ثائرته، ويخفف بها حرارة شوقه ووهج نفسه ولكنها في أحسن أحوالها، قطرات تتكون خضوعاً، وتتجمع خشوعاً، وتتساقط دموعاً، ومع ذلك لا تفي بما يجيش في الصدر من حنان وشوق، فيضاف إليها حنان الأفئدة التي تهوى إلى تلك الرحاب.
ثانياً: قال الله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
المنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة، موسم تجارة وموسم عبادة، أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقاً رائجة حيث تجبي إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء من أطراف الأرض، فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج وسوق عالمية تقام في كل عام. وهي أيضاً موسم عبادة، تصفو فيه الأرواح، تستشعر قربها من الله، في بيته الحرام وهي تطوف طول البيت، تستروح الذكريات، وتتذكر الموقف والأطياف طيف إبراهيم عليه السلام وهو يودع البيت، فلذة كبده إسماعيل وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه ربنا إني أسكنت من ذرتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارز قهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد أنهكها العطش، وهدَّها الجهد، وأضناها الإشفاق على الطفل، ثم ترجع في الجولة السابعة، لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في صحراء الجدب.
وطيف إسماعيل مع والده إبراهيم وهما يرفعان القواعد من البيت في إنابة وخشوع وتمر السنين وتتواكب الأطياف والذكريات حتى تصل إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، يتدرج في طفولته وصباه فوق ذلك الثرى، حول البيت وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين، فيضعه موضعه ليطفئ الفتنه التي كادت تنشب بين القبائل، وهو يصلى، وهو يطوف، وهو يخطب وهو يعتكف، وخطوات الحشد من الصحابة الكرام وأطيافهم ترف فوق ذلك الثرى، حول البيت، تكاد تسمعها الأذن، وتكاد تراها الأبصار فهل من مدكر.
ثالثاً: قال تعالى: وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون.
قدر الله جل وعلا لهذه الأمة الخالدة أن تعيش في بيئات مختلفة جداً، من لين وشدة، وحرارة وقسوة، ونشاط وركود، ومصارعة ومقاومة، وإغراءات مادية وسياسية، وتقدم في الحضارة وتوسع في المال والمادة، وضيق وضنك، وبذخ وترف، وعسر ويسر، وتسلط عدو قاهر، وسلطان جائر، وكانت الأمة في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الإيمان، وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فكان الحج ربيعاً تزدهر فيه هذه الأمة، وتظهر بالمظهر اللائق بها. فكما أن الدولة تحتاج إلى تصفية بعد كل مدة ليتميز الناصح من الغاش، والمنقاد من المتمرد فكذلك الملة، تحتاج إلى حج، ليتميز الموفق من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجا.
وقضى الله جل وعلا ألا يخلو الحج في أشد أيام هذه الأمة وأحلكها من الربانيين المخلصين ومن الصالحين المقبولين، ومن الدعاة المرشدين، ومن الداعين المبتهلين، ومن الخاشعين المنيبين، ومن العلماء الراسخين، الذين يملئون الجو روحانية وخشوعاً، فترق القلوب القاسية، وتخشع النفوس العاصية، وتفيض العيون الجامدة، وتنزل رحمة الله وتغشى السكينة، فينتفع الذين جاءوا من كل صوب بعيد، وفج عميق، ويأخذون زاداً من إيمان، وحب وحماسة، وعلم وفقه، يعيشون عليه حياتهم، ويقاومون به كل ما يواجهونه من إغراء وتزيين ويشاركهم في هذا الزاد، إخوانهم الذين قعد بهم الفقر أو الضعف أو المرض أو العدو، فيتعلم الجاهل ويقوى الضعيف، ويتحمس الخامد، وتكتسب الأمة بذلك قوة جديدة، على تأدية رسالتها وتستأنف كفاحها من جديد.
والحج انتصار للمناهج الصحيحة في الأمة، على القوميات الوطنية، والعنصرية اللسانية التي قد يصبح كثير من الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، فتتجرد جميع الشعوب عن جميع ملابسها وأزيائها الإقليمية التي يتعصب لها أقوام، وتظهر كلها في مظهر واحد هو الإحرام، وفي مصطلح الحج والعمرة، حاسرة رؤوسها، تهتف كلها في لغة واحدة، تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواها الشيخان من حديث ابن عمر رضى الله عنهما، أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)).
فكلهم يطوفون حول بيت واحد، وكلهم يسعون بين الصفا والمروة، وكلهم يبيتون في بيت واحد ويفيضون إفاضة واحدة، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
رابعاً: قال الله تعالى: وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون.
ما حدث قط في تاريخ البشرية أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوة والمنعة والسيادة في نهاية الأمر، بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة، إن الكثيرين ليشفقون من اتباع الشريعة، والسير على هداه يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم، ويشفقون من تألب الخصوم عليهم، ويشفقون من المضايقات الاقتصادية وغير الاقتصادية. وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت للرسول صلى الله علية وسلم: ((إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)).
فلما تبعت هدى الله، ماذا حصل، سيطرت على مشارق الأرض ومغاربها في ربع قرن أو أقل من الزمان، وقد رد الله عليهم في وقتها بما يكذب هذا العذر الموهوم أولم نمكن لهم حرماً أمناً بحبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا فمن الذي جعل لهم البيت الحرام؟ ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم، تحمل من ثمرات الأرض جميعاً، تتجمع في الحرم من كل أرض وقد تفرقت في مواطنها. فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس، لو اتبعوا هدى الله، والله هو الذي مكن لهم هذا الحرم، أفمن أمّنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهو تقاة؟ ولكن أكثر هم لا يعلمون، لا يعلمون أين يكون الأمن ولا يعلمون أين تكون المخافة ولا يعلمون أن مرد الأمر لله وهنا نقرأ إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مأمور أن يعبد رب هذه البلدة الذي حرمها إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين.
خامساً: قال الله تعالى: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
يئس الذين كفروا من دينكم، أن يبطلوه، أو ينقصوه أو يحرفوه، وقد كتب الله له الكمال، وسجل له البقاء، وقد يغلب المسلمون، في موقعة أو في فترة، ولكن الذين كفروا لا يغلبون على هذا الدين، وسبحان الله على شدة ما كادوا له، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور غير أن الله عز وجل لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة تعرف هذا الدين وتناضل عنه ويبقي فيها منهجاً واضحاً بيناً مفهوماً محفوظاَ حتى تسلمه إلى من يليها، وما كان للذين كفروا أن ينالوا من أهل هذا الدين إلى أن ينحرف أهله عنه، فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ولا يحققوا في حياتهم نصوصه، وهذه الآية: اليوم أكملت لكم دينكم نزلت يوم عرفات في حجة الوداع وفيه أكمل الله عز وجل هذا الدين فما فيه زيادة لمستزيد، فقد أتم الله نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل ورضى لهم الإسلام ديناً، والذي لا يرتضيه منهجاً لحياته إنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين.
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
سادس هذه التأملات: أنه كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض ولا يأخذونها أبداً ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، ويقولون لا نطوف في ملابس عصينا الله فيها، فكان ذلك باباً لفساد عظيم وتشريعاً جاهلياً، روي مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كانت المرء تطوف بالبيت وهي عريانة، وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أُحله
روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضى الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على الحج، وأمره أن يؤذن في الناس ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
إنها الجاهلية قديماً وحديثاً تلك التي تعري الناس من اللباس ومن التقوى ومن الحياء، وتزعم هذا رقياً وحضارة وتقدماً وتجديداً، الإرتكاس هو الإرتكاس، والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس، لئن كان مشركوا العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية، التي كانت تستغل جهالتهم لضمان السيادة لها في الجزيرة، فإن بيوت الأزياء ومصمميها لهي التي تكمن وراء الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك.
ثم من الذي يقبع وراء بيوت الأزياء؟ من الذي يقبع وراء سعار التعري والتكشف؟ من الذي يقبع وراء الأقلام وغيرها من الوسائل الهابطة التي تقود هذه الحملة المسعورة؟
أنهم هؤلاء وأولئك، الذي يبغون إشاعة الإنحلال الخلقي والجنسي، ويسعون إلى إفساد المجتمعات المحافظة. أتواصو به بل هم قوم طاغون
سابعاً: كثير من الحجاج، إذا قضوا حجهم، توجهوا إلى مهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم، وزيارة المسجد النبوي لا علاقة له بالحج، لكن غالب هؤلاء يكون ممن جاء من مكان بعيد وربما لا يعود إليه مرة أخرى، فمن الطبيعي أن يحن إلى مأرز الإسلام، إلى ذلك المسجد الذي انبثق منه النور، وانطلقت منه موجه الهداية والعلم، وقوة الدين في العالم كله، يحن المسلم إلى المدينة النبوية، التي أوى إليها الإسلام، وتمثلت فيها فصول التاريخ الإسلامي الأول. وشهدت أرضها جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وابتل ترابها بدماء الشهداء، فيصلي المسلم في ذلك المسجد، الذي تعادل فيه ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، روي الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام.
يشهد المسلم مواقف الشهداء والصديقين، والسابقين الأولين، يسلم على الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه، فيستزيد الإيمان، ويستمر الصدق، ويتعرف على معالم الطريق، ويتعلم بأن المستقبل لهذا الدين، ويدرك بأن خصائص التصور الإسلامي ومقوماته نابعة من هناك فيقبل على كتاب الله، ليعيش في ظلال القرآن، فيقرأ في صفحاتها بان معركتنا مع اليهود وأن مشكلات الحضارة لا حل لها إلا بالاسلام. فيقبل بكل جد وعزم على قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم، ودراسات قرآنية وعلى منهج التربية الإسلامية، بركائز إيمانية ثابتة ليقف أخيراً على التأصيل الإسلامي للعلوم الاجتماعية.
نسأل الله جل وتعالى أن يلهمنا رشدنا اللهم يسر للحجاج حجهم.
(1/932)
حد الرجم
فقه
الحدود
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/7/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقوبة الزاني المُحصن وغير المحصن شرعاً 2- حكم الكافر إذا زنى في بلاد المسلمين
3- أثر تطبيق حد الزنى على الأفراد والمجتمعات
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله جلت قدرته ، وبحكمته البالغة ، وضع حداً لكل جريمة تقع ، حداً منصوصاً عليه ، لا مجال للاجتهاد ولا مجال للتخفيف ولا حتى للزيادة ، والله جل وتعالى وهو أحكم الحاكمين ، يعلم بأن هذه العقوبة هي المناسبة لهذه الجريمة ، ومن ذلك ، العقوبة التي حدها رب العالمين لجريمة الزنا ، وهو أن يجلد مئة جلدة لو كان الزاني أو الزانية بكراً لم يتزوج بعد ، على خلاف في تغريبه سنة كاملة ، وإن كان محصناً فعقوبته الرجم حتى يموت.
أيها المسلمون: هذا حكم الله عز وجل ، ليس فتوى عالم ، أو رأي قاضي ، إنه حكم الله جل وتعالى في مرتكبي هذه الجريمة.وما دام أننا مسلمون فينبغي لنا التسليم والاستسلام لأحكام رب العالمين.
ولقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر الله وحكمه ونفذ وطبق هذه العقوبة فيمن وقع في الزنا وهو محصن ، وكذلك الصحابة من بعده ، فما بالنا نحن لا نمتثل بحكم الله عز وجل ، وقصة ماعز رضي الله عنه ، قصة مشهورة ، ومؤثرة ، لمن قرأها وتأملها ، وفيها تطبيق لهذا الحكم الإلهي وملخصها ، أن ماعز بن مالك رضي الله عنه زل به القدم ، وأخطأ كما يخطأ غيره ، فوقع في الزنا رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه ، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطهره فقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه ، فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني ، فقال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه ، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني ، فشهد رضي الله عنه على نفسه أربع مرات بأنه فعل الزنا ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال: أشرب خمراً ، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، فبعدها أمر به المصطفى عليه الصلاة والسلام فرجم.
وفي رواية للحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: ((أحق ما بلغني عنك؟ قال : وما بلغك أعني، قال بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان، قال: نعم، فشهد أربع شهادات ،ثم أقر به فرُجم)) ، يقول راوي الحديث: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد يقول فما أوثقناه، ولا حفرنا له ،ثم صار الصحابة يرجمونه رضي الله عنه، تنفيذاً لحكم الله ورسوله، بالحجارة والعظم والمدر والخزف فلما أوجعته ضرب الحجارة ، تقول الرواية - وهي في صحيح مسلم – أنه اشتد، أي هرب، يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فاشتددنا خلفه يقول فأدركناه في الحرة. فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرة – يعني حجارة الحرة – حتى سكت، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فبعد ما رُجم صار الناس فيه فرقتين. قائل يقول لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى النبي فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة، قال فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء رسول الله وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: ((استغفروا لماعز بن مالك)). قالوا: غفر الله لماعز بن مالك، فقال رسول الله : ((لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)) رضي الله عنه وأرضاه.
أيها الأحبة في الله: بهذه القوة وبهذه الصرامة كان رسول الله يطبق أحكام الله عز وجل، مع أنه كان أرحم الخلق بصحابته وكان يعطف عليهم، ولكن دين الله عز وجل وشرعه وحكمه لا محاباة فيه لأحد، ولهذا استقرت أوضاع الناس، وأمن الناس. حتى الكفار كان لو حصل منهم شيء من ذلك، نفذ فيهم حكم الله، روى مسلم في صحيحه حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله حتى جاء يهود، فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى، قالوا: نسّود وجوههما، ونحممهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما، قال: فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ، يده على آية الرحم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله : مُره فليرفع يده، فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله فرجُما قال عبد الله بن عمر، كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.
قد يقول قائل بأن هؤلاء كفار، وقد يكون مباحٌ في دينهم بعض ما يفعلون. نقول: نعم، هم يفعلون ما يشاءون في بلادهم، لكن في بلاد المسلمين، وفي الأرض الذي يطبق فيها حكم الشرع، فإنه لا يجوز لهم مخالفة أحكام الإسلام، ولو وقع فيهم مخالفة وفعل يحرمه الإسلام، فإن على الحاكم المسلمين، ويرجم الزاني المحصن في بلاد المسلمين، وإن كان كافراً في الأصل. هذا حكم الله عز وجل.
فالرسول طبق في هذا اليهودي واليهودية حد الزاني المحصن، فأمر برجمهما.
ثم الصحابة من بعد رسول الله لم يتساهلوا ولم يتهاونوا في رجم الزاني المحصن، حفاظاً على شريعة الله، وحفاظاً على المجتمع.
فهذا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ،يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أُنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة أو كان الحَبَلُ أو الإعتراف. هذا نص خطبة عمر ، كما حفظها عنه ابن عباس رضي الله عنهم جميعاً.
والذي خشيه عمر رضي الله عنه ، وقع كله أو بعضه ، يقول رضي الله عنه ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله، قال: بهذا الخوارج ومن وافقهم في القديم ، وتشدق سفلة في زماننا هذا وقالوا إن الرجم وحشية ، وإهانة للإنسان أن يرجم بالحجارة أمام الناس حتى يموت.
ثم يعلل عمر رضي الله عنه لماذا يخشى لو ترك الناس تطبيق هذا الحكم فيقول: فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله ، ولقد صدق عمر رضي الله عنه ، وكيف لا يضل الناس بترك شيء أنزله الله ، وما هذه التخبطات في حياة البشر عموماً ، وحياة المسلمين خصوصاً ، إلا بتركهم فرائض وفرائض أنزلها الله ، ومن بينها حد الرجم في حق الزاني المحصن. علق الإمام النووي رحمه الله عند شرحه لهذا الأثر في صحيح مسلم فقال: وهذا من كرامات عمر رضي الله عنه ، ويحتمل أنه علم ذلك من جهة النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: إنه يجب وجوباً على جميع المسلمين ، فوق كل أرض ، وتحت أي سماء ، أن يقيموا حدود الله ، فإن فيها نفع لهم ، لأنها تمنع الجرائم وتردع الزناة ، ويكف من تحدثه نفسه بانتهاك الحرمات.ويتحقق الأمن لكل فرد.
والله لو علم كل من يسير في هذا الطريق ، أنه سوف يرجم بالحجارة حتى يموت لو ثبت عليه ذلك ، لقلب الموضوع في رأسه ألف مرة قبل أن يُقدم ، أما إن أمن الطريق ، وأمن المسير ، وأمن النتائج ، فإنك تشاهد وتسمع بكثرة انتشار جرائم الزنا في مجتمعات المسلمين.
إن أي عمل من شأنه أن يعطل إقامة الحدود ، فهو تعطيل لأحكام الله ، ومحاربة له ، لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر بين الناس.
ما بالكم إذا تعدى الأمر ، وصارت هناك أنظمة تحمي هذه الجريمة ، ليس فقط لا تطبق حدود الله ، بل تحمي الزناة وتدافع عنهم ، وتُقرهم على ذلك.
كلنا يسمع هذه الأيام بانتشار الأمراض المترتبة على تفشي الزنا في المجتمعات ، من أمراض الزهري والسيلان ، وهذا صار قديماً، وظهر الإيدز الذي هو أخطر مما مضى بكثير ، وكم حاولت الدول أن تجد علاجاً وحلاً لهذا المرض.وقبل أسبوعين أو ثلاثة طالعتنا الصحف والمجلات والتلفاز ، بمؤتمرات عالمية ، وعلى مستوى دول ، أقيمت لمناقشة هذا المرض ، ومحاولة إيجاد الحلول ، وها أنتم تقرأون بين فترة وأخرى ، إعلان عن محاضرة طبية تلقى هنا أو هناك حول هذا المرض.
فنقولها صريحة أيها الأخوة ، إنه لا علاج لمرضى الإيدز إلا الحجارة ، لا العقاقير الطبية ، ولا الأدوية الكيماوية ، ولا المحاضرات ولا المؤتمرات.إنه لا علاج ولا حل ، إلا بالرجم بالحجارة ، العلاج الرباني ، والعلاج النبوي ، لأنه الدواء الذي وصفه لنا رب العالمين ، لإيقاف انتشار هذه الجريمة في المجتمعات. تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون. تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون. وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن الزنا كما تعلمون ، جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها ، إنه عدوان على الخلق والشرف والكرامة ، إنه مقوض لنظام الأسر والبيوت ، إنه مروج للكثير من الشرور والمفاسد ، إنه يقضي على مقومات الأفراد والجماعات ، إنه يذهب حتى بكيان الأمة.
إنه يهدد المجتمعات بالفناء ، إنه سبب مباشر في انتشار الأمراض الخطيرة ، التي تفتك بالأبدان ، وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء ، وأبناء الأبناء.فيا من تمارس مثل هذه الرذائل، إن كنت لا تفكر في نفسك فشفقة وعطفاً على أولادك الأبرياء. أن يصابوا بأمراض قد يموتون بسببها ، والسبب هو أنت ، وفي مقابل ماذا؟ ، في مقابل شهوة محرمة ، قد لا تستمتع بها إلا بضع دقائق. لكل هذا ولغيره جعل الله سبحانه وتعالى بحكمته البالغة وبعلمه الأزلي عقوبة الزاني المحصن: الرجم بالحجارة.
وقد يحدث أن يغفل المرء عن الجناية التي يرتكبها الجاني ، وينظر إلى العقوبة الواقعة عليه ، فيرق له قلبه ، ويعطف عليه ، ويقول لماذا هذه العقوبة القاسية. فيقرر كتاب الله عز وجل ، بأن ذلك مما يتنافى مع الإيمان ، لأن الإيمان يقتضي التسليم لجميع أحكام الله ، ولأن الإيمان يقتضي الطهر والتنزه عن الجرائم والسمو بالفرد والجماعة ، إلى الأدب العالي والخلق المتين، قال الله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين.
إن الرحمة بالمجتمع أهم بكثير من الرحمة بالفرد ، نعم ، إنه بالنظرة القاصرة المحدودة ، قد نرى بأن هذا قسوة وشدة في حق هذا الذي زل وأخطأ ، وكان يمكن أن يعالج الموضوع بغير هذه الطريقة ، لكن بالنظر إلى المجتمع ، وشمولية النظرة ، وما يترتب على ذلك من أمور ، مقارنة بعدد الزناة في المجتمع لو حصل تساهل في مثل هذا الموضوع ، أدرك الإنسان بأن حكم الله يجب أن يطبق ، وحكم الله يجب أن يشاع ، ويجب أن يشاهد الناس الرجم ، ولابد أن يُأتى بالزاني أمام الناس ، ويمارس المسلمون عملية الرجم ، تنفيذاً لشريعة الله ، ومحافظة على مجتمعهم من الفساد.
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم طهر مجتمعاتنا من الزنا والبغاة والظلمة...
(1/933)
حديث من ظلم من الأرض شيئاً
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
4/11/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى قوله صلى الله عليه وسلم " طوّقه الله من سبع أرَضين " 2- أن العدل وعدم الظلم
أساس لقداسة الأمم 3- عقوبة الظلم قد تكون في الدنيا قبل الآخرة 4- عظمة اليمين وتساهل
بعض الناس فيها ليأكل الحقوق
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى البخاري في صحيحه أن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ظلم من الأرض شيئاً طوقه من سبع أرضين)) وروى أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)). وروى أيضاً عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين)) والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، تدور على أن من أخذ من أرض غيره ولو بمقدار شبر طوق يوم القيامة من سبع أرضين ، وفي رواية: ((إلى سبع أرضين)). وقد اختلف أهل العلم في هذا التطويق: فقيل أن معناه أنه يكلف نقل ما ظلم منها في يوم القيامة إلى المحشر ويكون كالطوق في عنقه.لا أنه طوق حقيقة ، وقيل أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين أي فتكون كل أرض في تلك الحالة طوقاً في عنقه ، وقيل أنه بعد أن ينقل جميعه يجعل الله في عنقه طوقاً ،ويُعظم قدر عنقه حتى يسع ذلك كما ورد في غلظ جلد الكافر ونحو ذلك ، فقد روى الطبري وابن حبان من حديث يعلى بن مرة مرفوعاً: ((أيما رجل ظلم شبراً من الأرض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين ، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس)) ، ولأبي يعلى بإسناد حسن عن الحكم بن الحارث السلمي مرفوعاً: ((من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين)) قد يقول قائل ، وكيف يأتي هذا يوم القيامة وهو يحمل هذه الأراضي على ظهره ، ربما تكون عشرات الكيلو مترات أو المئات ، وليس شبراً ، فالجواب ، بأن أحوال الآخرة تختلف عن أحوال الدنيا ، ونظير هذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق مانعي الزكاة وأنه يأتي يوم القيامة يحمل على رقبته إما بعيراً أو شاةً ونحو ذلك. وقيل أن المراد بالتطويق ، أنه يكلف هذا الإنسان الذي أخذ من أراضي المسلمين يكلف يوم القيامة أن يجعله كالطوق ، ولا يستطيع ذلك ، فيعذب بذلك ، كما جاء في حق من كذب في منامه أن يكلف بأن يعقد شعيرة ، وما هو بقادر.
على كل، نخرج من أقوال أهل العلم بأن هناك عذاباً قاسياً في حق من اقتطع أو أخذ شيئاً من أراضي المسلمين ، ولو بقدر شبر وأن هذه مسألة خطيرة. قال ابن حجر في فتحه ، بعد عرض هذه الأقوال: ويحتمل أن تتنوع هذه الصفات لصاحب هذه الجناية أو تنقسم أصحاب هذه الجناية فيعذب بعضهم بهذا ، وبعضهم بهذا ، بحسب قوة المفسدة وضعفها. روى ابن أبي شيبة باسناد حسن، من حديث أبي مالك الأشعري: ((أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ، ذراع أرض يسرقه رجل فيطوقه من سبع أرضين)). فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى ، إن حقوق الناس مصانة ، وإن أخذ أملاك الغير جريمة عظمى عند الله عز وجل ، ولو كان شيئاً يسيراً ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة ، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال: إن كان قضيباً من آراك)) رواه مسلم.
وروى ابن ماجه بسند صحيح ، عن أبي سعيد الخدري قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه ، فاشتد عليه حتى قال له: أحرّج عليك إلا قضيتني ، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك ، ترى من تكلم؟ قال:إني أطلب حقي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هلا مع صاحب الحق كنتم؟)) ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: ((إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضي لك)). فقالت نعم بأبي أنت يا رسول الله ، قال فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه ، فقال الأعرابي: أوفيت أوفى الله لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك خيار الناس ، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير مُتَعتَع)). هل هذه الأمة الآن مقدسة ، الجواب لديكم معروف إن من أسباب عدم قدسيتها ، ومن أسباب ضعفها وتخاذلها ، هو أن الضعيف فيها لا يأخذ حقه ، هكذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع. أي من غير أن تصيبه أذى ، فلو توصل إلى حقه بشكل أو بآخر ، لابد أن يلحقه شيء ، أما أن يخرج من القضية سالماً معافى ، هذا لا يمكن أبداً ، لأنه غالباً لا يتسلط على الناس ، ويأخذ حقوقهم ويسلب أراضيهم ، إلا الأقوياء ، وهؤلاء يصعب مواجهتهم ، ومنافستهم واسترداد الحق منهم ، ولو حصل الاسترداد بشكل أو بآخر كما قلت ، فإن هذا الضعيف لن يسلم. كيف يراد لأمة تأكل الحقوق أن يستقيم أمرها ، وهذا من أبسط الأشياء ، وهو عدم أكل حقوق الضعفاء وعلى التسلط على أراضي الناس ، هذا الأمر معدوم فيها ، إلا من رحم الله. كيف نريد أن نقيم العدل في غيرنا ، وفي أنفسنا مفقود. هل يجرؤ أحد أن يخاطب أحد أكل حقه أو سلب أرضه ، أن يُخاطب كما خاطب ذلك الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبداً ، هذا رسول الله ، أفضل الخلق وأكرم الخلق يأتيه صاحب الحق ، ويقول له: أحرج عليك إلا قضيتني ، وعندما ينتهره أصحابه ، يعترض المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ويقول: ((هلا مع صاحب الحق كنتم)). هكذا العدل في الإسلام ، وهذه شريعة الله وما سواها فباطل مردود على أصحابها. إن الكبر والغرور يبلغ ببعض الناس إلى درجة أنه لا يرضى أن يكلمه أحد ، أو أن يناقشه أحد، كل ما أراده أخذه ، وكل ما راق له سلبه، إنها شريعة الغاب ، بحدها وحديدها. إنه يخشى على مجتمع هذا وضعه ، أن ينهار ويسقط فجأة ، لأن أبسط مقومات البقاء مهلهل فيها ، جدارها متصدع ، وأساسها هش، فأين البقاء والدوام؟
أيها المسلمون: على الرغم من وضوح هذه الحقائق ، وعلى الرغم من سهولة إقامة العدل بين الناس ، وإرجاع المظالم إلى أصحابها ، إلا أن هناك بعض الناس يبيع دينه بأبخس ثمن ، ويأكل حقوق الناس بالباطل وهو ذاهل عن المصير المظلم الذي ينتظره. أما في الدنيا ، فقد يرفع هذا المسلوبَ أرضاً أو حقاً يَده إلى السماء ، فيدعو على خصمه فيهلكه الله عز وجل في الدنيا أمام الناس ، ويجعله عبرة لمن أراد الإعتبار. وقد ذكر الحافظ بن حجر رحمه الله هذه القصة عندما شرح الأحاديث التي قرأتها عليكم أول الخطبة. فيقول أنه كانت هناك امرأة يقال لها أروى بنت أويس ، شكت الصحابي الجليل سعيد بن زيد رضي الله عنه – أحد العشرة المبشرين بالجنة- شكته إلى مروان بن الحكم أمير المدينة ، وقالت إنه أخذ شيئاً من أرضها ، فقال سعيد رضي الله عنه: أنا آخذ شيئاً من أرضها بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ذلك ، فقال له مروان ، وماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعته يقول: ((من اقتطع شبراً من أرض طُوقه يوم القيامة من سبع أرضين)) فقال مروان: لا أسألك بعد هذا بينة ، يكفيني قولك هذا ، فقال سعيد رضي الله عنه: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها ، وفي رواية واجعل ميتتها في هذه الأرض ، قال راوي الحديث عروة بن الزبير قال فو الله لقد عمي بصرها حتى رأيتها امرأة مسنة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر ، وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر وكان ذلك البئر قبرها.
فماذا ينتظر الظلمة؟ وهل ينتظر من سلبوا الفقراء والمساكين أراضيهم ومزارعهم ليس شبراً من أرض ، بل أمتار وأمتار ، إلا أن تكون نهايتهم كأروى بنت أويس ، هل ينتظرون إلا أن يدعو عليهم أصحاب الحقوق ، فيصابوا ببلية في أولادهم أو أهليهم أو أموالهم لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.
إن ليل الظلم لن يستمر ، وثوب العار سوف يتمزق ، وشمس الحق سوف يشرق وأعداء الله مهما مكروا فإن الله سيستدرجهم من حيث لا يعلمون.
إن أول من يتخلى عن الظالم شيطانه وأول من يفضحه أقرانه وأعوانه. والناس مصالح-والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة: فقد روى مسلم في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة ، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)).
((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) رواه البخاري.
((أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة ، بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)) رواه مسلم.
أقول قولي هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
روى مسلم في صحيحه أنه جاء رجل من حضرموت ، ورجل من كِنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي ، فقال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ((ألك بينة؟قال: لا قال: فلك يمينه ، قال: يا رسول الله ، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه ، وليس يتورع من شيء فقال: ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر:أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلماً ، ليلقَين الله وهو عنه معرض)). إن هناك فئة من الناس، لا يتورع عن شيء ، فهو مستعد أن يحلف الأيمان تلو الأيمان بأن هذا له ، المهم أن يأخذ ، وكم في عالم القضاء اليوم من أيمان فاجرة ، وشهادات زور وشاوى تدفع لفاقدي الذمة والأمانة ، لكي تبتذ أموال وحقوق الضعفاء والمساكين ، والقاضي ليس له إلا الظاهر ، فإذا حلف من أمامه ، فهو ملزم بقبول حلفه ، وهذا لا يعني بأن القاضي لو حكم له بشيء أنه أصبح حقاً له ، بل هو سحت ونار يأكله في بطنه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، أقضى له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ، فإنما أقطع له قطعة من النار)) رواه البخاري ومسلم. فلنتق الله أيها المسلمون ، اتقوا الله تعالى ، واحذروا حقوق الآخرين ، فإن الشبر من الأرض يطوق به صاحبه إلى سبع أرضين يوم القيامة ، وهذا كلام عام للجميع وخصوصاً من لهم تعامل في الأرض بيعاً وشراءً ، فإنه يحصل فيها هذه الأمور الشيء الكثير ، خصوصاً إذا لم تكن الأمور محددة بالضبط.ويحصل أكثر ، في المزارع المتجاورة ، فإن المد والجزر يحصل فيها أكثر مما يحصل في الأراضي السكنية.فلينتبه أصحاب العقار من لهم تعامل.
ثم إن الاقتطاع ليس منحصراً في الأراضي فحسب ، وأننا لو تحكمنا وضبطنا هذا الباب فقد أقمنا العدل في المجتمع ، كلا ، فإن الموظف بإمكانه أن يقتطع من الحرام ، لو أراد ذلك، وبعضهم مُريد لذلك. والجار بإمكانه أن يقتطع من حق جاره ، ويظلمه ويؤذيه ، والبعض يفعل ذلك. وهكذا. لكن أذكر بقضيتين أركز عليهما ولا أريد أن أنهي الخطبة إلا وهما واضحتان: الأولى وهو أن ظهور أمثال هذه الظواهر في المجتمع ، مؤشر خطير ، لو كثر التعدي ، وكثر هضم حقوق الآخرين ، وكثر التسلط على المسلمين ، فإن هذا منذر بليل قد ادلهم ظلامه. لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع. فلنسعى جادين وليساهم كل منا ، بقدر استطاعته ، وفي حدود إمكانه وولايته ، لرفع الظلم ، ومنع التعدي ، وألا نرضى بذلك، ولو حصل التعدي والتسلط ممن لهم شوكة ومنعة فسكوت المجتمع يعني الدمار على الجميع ، فالذي يريد أن يسلم لابد أن ينكر ، إما بيده إن كان قادراً أو بلسانه ، إما مشافهة أو كتابة ، أو بأية وسيلة ، المهم أن لا ندع هذا المرض يستشري ، ويصبح التعدي والتسلط والأخذ أمراً مسلماً به. فإنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا ، وتجمع بها شملنا وتلم.
اللهم آمنا في أوطاننا.
اللهم ولي علينا خيارنا ولا تولي علينا شرارنا.
القضية الثانية: هو أنه إذا كان أخذ شبر من الأرض ، يكون هذا جرمه وجزاءه عند الله. فكيف بالذي يتنازل عن الأرض كله ، كيف بالذي يسلم الأرض كله لأعداء الله ، من يهود ، ويسلم مع الأرض رقاب من على تلك الأرض ، والله المستعان. من اقتطع شبراً من أرض ، طوقه الله يوم القيامة إلى سبع أراضين ، فكيف بمن اقتطع الأرض كله وأخذ ثمنها وتقاسمها هو وزبانيته هذا بماذا يطوق؟ ويقول ويصرح عن أعداء الله ورسوله أنهم أبرياء. نسأل الله جل وعلا أن يطوق كل ظالم وخائن ببلية في الدنيا إذا لم يتب. وأن يطوق في قبره بسبع حيات تكون طوقاً له إلى يوم القيامة.
(1/934)
حقوق الحيوان في الاسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/6/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الله تعالى خلق الحيوان وسخّره للإنسان وجعل له حقوق وأن هذا الحيوان يسبّح الله
عزّ وجل 2- ذكر بعض خصائص الحيوان على الإنسان 3- حقوق الحيوان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الكثير من آيات القرآن تعرّض لذكر الحيوانات، إما مذكّراً ببديع خلقه سبحانه، أو منوهاً بواسع منّه وكرمه على الانسان بتسخير هذه الحيوانات له، أو مشيراً الى سابغ نعمه وآلائه عليه بجعلها غذاءً له وكساءً ومالاً ومتاعاً، إلى غير ذلك، ويكفي أن نشير إلى أن هناك سوراً في القرآن سميت بأسماء بعض الحيوانات، كسورة البقرة والأنعام والعنكبوت والفيل والنحل والنمل.
أيها المسلمون: اعلموا رحمني الله واياكم أن الحيوانات أمم شتى، وأجناس مختلفة، تأكل وتشرب وتتناسل، تصح وتمرض، تنمو وتهرم، وأيضاً تموت وتبعث ثم تحشر، إلاّ أنها لم تكلف لأنها لم تمنح نعمة التفكير كالإنسان، قال الله تعالى: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه الا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم الى ربهم يحشرون وقال جل شأنه: ومن كل شيئ خلقنا زوجين لعلكم تذّكرون. وقال تعالى: ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك.
ثم إن لهذه الحيوانات حظّها في سكنى الأرض والتنقل فيها والتمتع بخيراتها من ماء ومرعى كما قال تعالى: والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم. وقال تعالى: وفاكهةً وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم. وقال تعالى: فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام. إذن للحيوان الحق في سكنى الأرض والتمتع بنعم الله وخيراته، فلا يجوز التضييق عليه ولا يجوز كذلك حرمانه من نعم الله في أرضه.
ثم أظنك تعلم أخي المسلم ولا يخفاك أن الحيوانات تسبح الله وتسجد له كسائر المخلوقات من إنس وجانّ، ونبات وجماد قال الله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم. وقال تعالى: أولم يروا الى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لايستكبرون. وقال جل شأنه: ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب. وقال سبحانه: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير.
إن الحيوانات فيما يظهر لنا أنها عجماء لاتتكلم ولكنها في الحقيقة تتكلم وتخاطب بعضها بعضا، وقد تخاطب غيرها، والله جل وعز قد يطلع أحد خلقه على ذلك معجزة له أوكرامة، ومن ذلك ما حصل لنبي الله سليمان عليه السلام وغيره، قال تعالى: حتى اذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لايحطمنكم سليمان وجنوده وهم لايشعرون. والهدهد تكلم وقال: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين وحديث البقرة التي تكلمت في البخاري ومسلم وكذلك الذئب الذي تكلم، والحديث في الصحيحين.
إن الله تبارك وتعالى جعل في الحيوانات عظة وعبرة للناس ليتفكروا وليتدبروا في عظيم خلق الله وفي عظيم قدرة الله ليزداد بذلك إيمانهم، والمشكلة أن اكثر الناس لايعلمون ولا يخطر ببالهم ذلك، قال الله تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون. وقال تعالى: وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين وقال تعالى: الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون.
إن الله تعالى أعطى الحيوانات قدرة رؤية ما لايراه الإنسان، وسماع ما لايسمع الانسان، لحكمة هو يعلمها سبحانه، فبعض الحيوانات ترى الملائكة وبعضها يرى الشياطين، بل إنها لتسمع أصوات المعذبين في قبورهم، بل وقبل ذلك وبعده تشفق الحيوانات وتخاف من يوم الجمعة لعلمها أن القيامة لا تقوم إلا يوم الجمعة، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فانها رأت ملكاً، وذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً)) وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله منهن فإنهن يرين مالا ترون)) رواه الامام أحمد وأبو داود. وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى أن البهائم لتسمع أصواتهم)) رواه الطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الجمعة، وما من دابة الا وهي تفزع يوم الجمعة، الا هذين الثقلين: الجن والانس)) رواه ابن خزيمة وابن حبان، وفي رواية أبي داود: ((وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة إلا الانس والجن)).
أيها المسلمون: إن بعض الجيوانات فضّلها الله على كثير من البشر، ممن عطلوا عقولهم واتبعوا شهواتهم، ولم يمتثلوا ما أمروا به، ولم يتبعوا ما خلقوا من أجله، فهبطوا مع كل أسف الى مستوى متدن من البهيمية ومن الحيوانية، فأصبح حياتهم أكل وشرب ولهو ولعب وسهر، واتباع للغرائز، وانغماس في الرذائل، ففضّلت البهائم عليها بتسبيحها وسجودها وخضوعها لربها، قال الله تعالى: والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم وقال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون. انظر الى رجاحة عقل الهدهد، ذلك الطائر الصغير عندما رأى القوم يسجدون لغير الله، فأنكر ذلك الشرك فقال لسليمان عليه السلام مستنكراً غواية الشيطان لهم: وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لايهتدون ألاّ يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لااله الا هو رب العرش العظيم.
أيها الأحبة في الله: إن الله تبارك وتعالى أوجب علينا حقوقاً تجاه هذه الحيوانات، نعم أوجب حقوقاً لهم علينا، وقد تستنكر عليّ أخي المسلم أن أحدثك عن حقوق الحيوان في زمن أهدرت فيه حقوق الانسان، وأهينت فيه كرامة الانسان، بل وأريقت فيه دم هذا الإنسان بشكل عام ودماء المسلمين بشكل خاص، في أماكن كثيرة من بقاع الأرض، لقد أزهقت أرواح، وأبيدت أمم، ودمرت حضارات، ورمّلت نساء، وشرد أطفال، كل ذلك مع الأسف تحت عنوان – حماية حقوق الانسان، ورعاية حقوق الإنسان، وصيانة روحه ودمه وعرضه، والدفاع عن فكره وثقافته ومعتقده – لاأدري هؤلاء يريدون أن يضحكوا على من؟ لقد أصبحت أوراق منظمات حقوق الإنسان مكشوفة حتى للحيوانات، وهو أن المقصود به هو الإنسان النصراني، والإنسان اليهودي، أما الإنسان المسلم فالواقع يشهد لحاله، أصبح الإنسان المسلم يلاحق في كل مكان، وأصبح الإنسان المسلم ينازع حتى في اللقمة التي يضعها في فم أولاده، صار الإنسان المسلم يخاف في بيته الذي يسكن فيه وفي فراشه الذي ينام عليه.
لا بأس أخي المسلم أن أحدثك الآن عن بعض حقوق الحيوان في الاسلام، لتدرك أن هذه الشريعة حفظت حقوق الحيوانات والبهائم، مما بالكم بالانسان، وليخرس بعد ذلك أرباب منظمات حقوق الإنسان.
أولاً: الإحسان اليه حتى حال ذبحه، فعن شداد بن أوس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب الاحسان على كل شيء، فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة، واذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) راوه مسلم.
ثانياً: حرمة دم الحيوان، فدم الحيوان مصان الا ما أحل الله ذبحه لأكله ـو قتله لأذيته.
ثالثاً: لايجوز تعذيب الحيوان، أخرج الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. وأظن أنه لا يخفاك أخي المسلم ما تفتق عنه فكر الانسان المعاصر، المتسربل برداء المدنية المزيفة، المتحضر بحضارة القرن العشرين أن يتلذذ بمشاهدة مصارعة الثيران أو مصارعة الديكة، ومثله أكلة دماغ القردة في الفلبين، أو ما يقدم في بعض مطاعم اليابان من السمك المقلي أو المشوي وهو لايزال يتقلب حياً في الصحفة الى ذلك الزبون المفترس.
رابعاً: يحرم حبس الحيوان والتضييق عليه، ففي الصحيحين أن أمرأة عذبت ودخلت النار في هرة حبستها لاهي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
خامساً: عدم إرهاقه في العمل، فهذا حق للحيوان سوف تحاسب عنه يوم القيامة اذا حملته مالا يطيق، تأمل معي قصة الجمل الذي اشتكى ما يلاقيه من تعب وجوع الى المبعوث رحمة للعالمين صلوات ربي وسلامه عليه، فعن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسّر إلي حديثاً لا أخبر به أحداً أبداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب ما استتر به في حاجته هدف أو حائش نخل، فدخل يوماً حائطاً من حيطان الأنصار فإذا جمل قد أتاه، فجرجر وذرفت عيناه فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذفراه (ذفري البعير: أصل أذنه)، وهو الموضع الذي يعرق منه الإبل خلف الأذن - فسكن فقال: ((من صاحب الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يارسول الله فقال (أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملككها الله! إنه اشتكى إلي أنك تجيعه وتدئبه – أي تتعبه -)) ألا فليسمع هذا دعاة حقوق الانسان وأولئك الذين يظلمون الناس ويأكلون حقوقهم، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان عنده رقيق أن لا يكلفهم مالا يطيقون وأن فعل أن يعيينهم بنفسه، فكيف بمن يرهق عماله وخدمه ومستخدميه وموظفيه الأحرار، ثم يأكل حقوقهم وأموالهم بالباطل.
نفعني الله واياكم بهدي كتابه، واتباع سنة نبينا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
سادس حقوق الحيوان الذي أوجبه الإسلام: استخدامه فيما خلق له، وعدم استخدامه في غير ما سخّر له، وفي الصحيحين أن رجلاً كان يسوق بقرةً قد حمل عليها، فالتفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني إنما خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله، أبقرة تكلّم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإني أومن به وأبوبكر وعمر)).
سابعاً: احترام مشاعر الحيوان، نعم احترام مشاعره، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحد السكين بحضرة الحيوان الذي يذبح، فمرة مر على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، فقال: ((أفلا قبل هذا! أتريد أن تميتها موتتين؟)) رواه الطبراني وغيره. بل إن الإسلام راعى حق الأمومة عند الحيوان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرّش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها!)).
أيها المسلمون: هذه بعض حقوق الحيوان في الاسلام، ولقد أدرك الرعيل الأول من سلف هذه الأمة حقوق الحيوان وحرمتها وأنها مسؤلية وأمانة، ولذا لمّا ولاهم الله حقوق الانسان رعوها حق رعايتها، تأمل في كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: لو أن بغلة في العراق تعثرت لخشيت أن يسألني الله عنها لمَ لمْ أسوي لها الطريق. (عمر يخشى المحاسبة أمام الله عز وجل يوم القيامة لعدم تسوية الطريق لبغلة، وأين في العراق وليست عنده، لذلك لمّا تولى أمثال عمر الخلافة لم يحتاجوا إلى إنشاء منظمات لحفظ حقوق الإنسان لأن كرامة الإنسان محفوظة ابتداءً عندهم، ولم يحتاجوا الى أن يتبجحوا في وسائل إعلامهم أنهم قد أعطوا الإنسان كامل حقوقه).
وأبو هريرة نفسه رضي الله عنه ما سمي كذلك إلا لحفاوته بهرة صغيرة كان يحملها في كمه وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا هر)).
وإنه من المناسب أيها الأحبة أن أختم بهذه القصة وما فيها من عبرة لمن كان له قلب أو ألقىالسمع وهو شهيد: يحدث الامام الزمخشري عن نفسه أن إحدى رجليه كانت ساقطة، وكان يمشي في جارن خشب، فلما دخل بغدادسئل عن سبب قطع رجله – وكان يظن أن ذلك بسبب برد خوارزم الشديد لكنه قال: دعاء الوالدة: وذلك أني كنت في صباي أمسكت عصفوراً وربطته بخيط من رجله، فأفلت من يدي، فأدركته وقد دخل في خرق، فجذبته فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدتي لذلك وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله، يقول فلما وصلت الى سن الطلب، رحلت الى بخارى أطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي، وعملت عليّ عملاً أوجب قطعها.
ألا فليتق الله أولئك الذين يقطعون حقوق الناس ويقطعون أرزاق الناس، أن تصيبهم دعوة مظلوم في ثلث الليل الآخر تكون بذلك نهايتهم.
إن الله عز وجل عاقب هذا الإمام وجعله عبرة لغيره بسبب قطع رجل عصفور، فكيف بمن يتعرض ويعرّض نفسه لقطع وهضم وإعاقة طرق يسترزق من خلالها أسر وبيوتات الله أعلم بحالهم وحال من ورائهم – رحماك ثم رحماك يارب.
ربنا لاتؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(1/935)
حي على الصلاة
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
27/4/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص من السنّة عن الصلاة وفضلها 2- فضل الاعتناء بالصلاة وشؤم التهاون فيها
3- نصيحة للمحافظين على الصلاة أن يحافظوا على تكبيرة الإحرام مع الإمام
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
سأقرأ عليكم جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرعني سمعك يا عبد الله: وكلها أحاديث عن الصلاة. يقول عليه الصلاة والسلام: ((آتاني جبريل من عند الله تبارك وتعالى، فقال يا محمد إن الله عز وجل يقول: إني قد فرضت على أمتك خمس صلوات فمن وافى بهن، على وضوئهن، ومواقيتهن، وركوعهن، وسجودهن، كان له عندي بهن عهد أن أدخله بهن الجنة، ومن لقيني قد انتقص من ذلك شيئا، فليس له عندي عهد، إن شئت عذبته، وإن شئت رحمته)).
ويقول : ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)).
ويقول : ((اعلم أنك لا تسجد لله سجدة، ألا رفع الله لك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)).
ويقول : ((إن العبد إذا قام يصلي أتى بذنوبه كلها، فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه)).
ويقول : ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها، كتبت له تامة، وان لم يكن أتمها قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته)) ، ثم الزكاة كذلك ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك.
ويقول : ((من ترك صلاة العصر حبط عمله)).
ويقول : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبكم الله من ذمته بشيء، فان من يطلبه من ذمته بشيء، يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)).
ويقول : ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن امر بالصلاة فتقام، ثم امر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)).
ويقول : ((صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاة الرجل وحده خمسا وعشرين درجة)).
ويقول : ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية )).
ويقول : ((من سمع النداء فلم يأته، فلا صلاة له إلا من عذر)).
ويقول : ((ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
ويقول : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)).
أيها المسلمون:
هذه الأحاديث وغيرها كثير، من المخاطبون بها؟ لمن قيلت هذه النصوص؟ هل قيلت للجن؟ أين نحن من هذه الآثار النبوية، وما حظ كل واحد منا، يقول عبد الله بن مسعود كما في صحيح مسلم: ولقد كان يؤتى بالرجل يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف.
لما حضرت سعيد بن المسيب الوفاة، وكان رحمه الله عالم التابعين وإمامهم، بكت ابنته عليه، فقال لها: لا تبكي عليّ يا بنية، والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد. من أربعين سنة لا يؤذن المؤذن وهذا الرجل في المسجد ينتظر الصلاة، ليصلى مع المسلمين، وكان الأعمش يقول: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة خمسين سنة. هؤلاء هم الذين عرفوا قيمة الصلاة أما في أوقاتنا:
ولكن أين صوت من بلالٍ
ومسجدكم من العباد خاليٍ
فجلجلة الأذان بكل حيِّ
منائر كم علت في كل ساحٍ
أنتم شهداء الله في الأرض، المسلمون هم شهداء الله في أرضه، ولا يمكن أن نشهد إلا لمن يصلي معنا في المسجد كل يوم خمس مرات، أما رجل قريب من المسجد ثم تفوته الصلاة مع المسلمين، فهذا لا يشهد له عند الله يوم القيامة.
ما معنى الإيمان الذي يدعيه رجال ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة، ما معنى الإيمان وما قيمة الصلاة في حياتهم، ثم إذا تكلمت مع أحد منهم زعم بأنك تتهمه بالنفاق، إن الصحابة رضي الله عنهم، كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فأي دين لهؤلاء الذي لا يعمرون المساجد، وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون، قال الله تعالى: انهم كانوا إذا قيل لهم لا اله إلا الله يستكبرون. قال بعض أهل العلم. هم الذي لا يحضرون الصلاة في الجماعة. أين الأجيال، أين شباب الأمة، أين الرجال، والمساجد خاوية تشكو إلى الله تعالى. إذا كان هذا مستوانا في الصلاة وهي عمود الإسلام، فكيف بباقي شرائع الدين كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله، كيف تفلح أمة لا تقدس شعائر الله، كيف تكون صادقة في الحرب، أو في التعليم أو في التصنيع أو في الحضارة، أو في الإدارة وهي لا تحسن الاتصال بربها في صلاة فرضها الله عليها.
كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، في مقابل ما نضيعه في الأكل والشرب والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، لكن بها يرتفع المؤمنون ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله أني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) ، والحديث واضح وصريح كما سمعتم أمر من الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام بأن يقاتل هذا الإنسان، حتى يسجد لله فيوم يتهاون الإنسان بالصلاة، أويترك الصلاة أو يتنكر للصلاة، أولا يتعرف على بيت الله يصبح هذا الإنسان لا قداسة له، ولا حرمة له، ولا مكانة ولا وزن، هذا الإنسان حين يترك الصلاة يكون دمه رخيصا، لا وزن له، يسفك دمه، وتهان كرامته، ويقطع رأسه بالسيف، قال الله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً.
أيها المسلمون: إنه لا عذر لأحد في ترك الصلاة مع الجماعة، كان سعيد بن المسيب إمام التابعين في عصره، كان يأتي في ظلام الليل إلى مسجد النبي فقال له بعض إخوانه: خذ سراجا لينير لك الطريق في ظلام الليل، فقال يكفيني نور الله: ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) وهل في القيامة ظلمة، وهل في القيامة ليل؟ نعم والله إنه ليل وأي ليل، وإنها لظلمة وأي ظلمة، يجعلها الله لأعداء المساجد، ولتاركي المساجد والواضعي العثرات في طريق أهل المساجد، ظلمة يجعلها الله لأولئك الذين انحرفوا عن بيوت الله، وللذين حرفوا بيوت الله، تظلم عليهم طرقاتهم وسبلهم يقولون للمؤمنين يوم القيامة: انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً كان الصحابة رضي الله عنهم، حتى وهم في المعارك إذا تلاقت الصفوف والتحمت الأبدان وأشرعت الرماح، وتكسرت السيوف، وتنزلت الرؤوس من على الأكتاف في هذه الحال لم يكونوا يدعون صلاة الجماعة، تصلي طائفة وتقف الأخرى في وجه العدو.
والحرب تسقى الأرض جما أحمرا
في مسمع الروح الأمين فكبرا
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا
إنها الصلاة، إنها حياة القلوب، إنها الميثاق إنها العهد بين الإنسان وبين ربه، ويوم يتركها المرء أو يتهاون بها، يدركه الخذلان وتناله اللعنة، وينقطع عنه مدد السماء.
أيها المسلمون:
إن من أسباب السعادة، وحفظ الله لنا، ودوام رغد العيش الذي نعيشه، أن نحافظ على عهد الله في الصلاة، وأن نتواصى بها، وأن نأمر بها أبناءنا وأن نعمر مساجدنا، بحضورنا، فهل من مجيب؟ وهل من مسارع إلى الصلاة حيث ينادى بهن وهل من حريص على تلكم الشعيرة العظيمة إنها الحياة، ولا حياة بغير صلاة، إنها رغد العيش، ولا رغد في العيش بغير صلاة، إنه دوام الأمن والاستقرار، ولا أمن ولا استقرار بغير صلاة. إنه التوفيق من رب العالمين في كل شيء، ولا توفيق ولا تسديد بغير صلاة.
فالله الله أيها المسلمون في الصلاة، من حافظ عليها، حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
فالصلاة الصلاة عباد الله، في أول وقتها بخشوعها، بخضوعها، بأركانها، بواجباتها، بسننها، وفي جماعتها، علّ الله أن يحفظنا ويرعانا إذا نحن حافظنا عليها وعظمناها
فإنه الركن إن خانتك أركان
فالزم يديك بحبل الله معتصما
أقول ما تسمعون، واستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون:
ومما يتعلق بالصلاة، موضوع مهم جدا، وهذا الموضوع ليس لتاركي الصلاة، ولا للمتهاونين والمتخلفين عن صلاة الجماعة، ولكنه لأولئك المحافظين على الصلوات الخمس في جماعة، أخص بالذكر الشباب الطيب، الذي هو أصلا قدوة لغيره في مثل هذه الأمور، وهذه القضية هي، حضور الشخص متأخرا عن الصلاة، وقد فاته بعضها، فبعد أن يسلم الإمام تجد عدد غير قليل من المسلمين يقومون لإتمام ما فاتهم، وعدد غير قليل من هؤلاء المتأخرين من الشباب الطيب المحب للخير، وهذا حرمان عظيم، حرمان أن يفوت الشخص تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقد يعتذر البعض ولو في داخل نفسه أنه مشغول بشيء مهم، فهو ليس كعوام الناس شغله لهو أو لعب، ولكن شغلته دعوة، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو حضور درس أو غيرها من أعمال الخير، فلا يحس بتأنيب الضمير إذا فاته تكبيرة الإحرام، وهذه من المغالطات، بل من الموازنات المرجوحة، فإنه لا أهم من الصلاة إذا نودي لها، وكل عذر مما يشبه ما ذكرت فهو مردود.
اعلموا أيها المصلون أن واجب صلاة الجماعة يبدأ بتكبيرة الإمام تكبيرة الاحرام. فمنذ ينقطع صوت الإمام بقول الله اكبر، يبدأ وجوب المتابعة له قال بعض أهل العلم بأنه من تلك اللحظة يبدأ احتساب الأجر والأخذ في إدراك الجماعة إدراكا كاملا، ويبدأ أيضا احتساب الإثم في حق القادر المتخلف عمدا عن جزء منها، وهذه مسألة قلَّ ما يتفطن لها حتى بعض طلبة العلم. قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد)) المقصود في قوله لا تختلفوا عليه والله اعلم، أي لا تختلفوا عليه في القيام والقعود والمتابعة، ومن ذلك ضرورة التكبير ومباشرته بعده.
وإن من ظواهر التقصير في أداء هذا الواجب ما يرى من تخلف كثير من المصلين عن الحضور إلى مكان الجماعة لحين ما بعد الإقامة، فكثيرا ما ترى الإمام يبدأ بعدد قليل ولا يكاد يكبر تكبيرة الركوع حتى يتضاعف العدد من أناس تمروا بمجيئهم بالإقامة ولا شك في أن فعل هذا عمداً تقصير يفوت أجرا ويرتب وزرا، يفوت أجر الجزء الذي تركه عمداً في الأول، ويرتب وزر تفويته عمداً، فمن المعلوم عند العلماء رحمهم الله أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فعلى فرض أن مسافة الطريق تحتاج ممن تجب عليه الجماعة بضع دقائق، فإذا لم يبق على الإقامة من الزمن إلا بمقدار تلك الدقائق تعين عليه المشي ليلحق بصلاة الجماعة في أولها، أو يعد آثما لو تأخر بدون عذر شرعي.
وبجانب ما في هذا التقصير وهذا العمل من تفويت أجر، وربما ترتب عليه وزر، فهو يؤثر كثيرا وكثيرا على ما يطلب في الصلاة من خشوع وتذلل وتأمل وتدبر، لقد شرع قبلها ما يهيئ لذلك، لا ما يطارده أو يضعفه، شرع قبلها الوضوء، وشرع قبلها أدعية الخروج من المنزل، وشرع قبلها أدعية دخول المسجد، وشرع قبلها صلوات النافلة، وشرع أن يأتيها المسلم بسكينة ووقار لا بغلبة وجلبة يضايقه فيها النفس، وهذا غالب شان المتأخر عنها يحاول أن يدرك هذه الأمور، أيها المصلون، شرعت بين يدي الصلاة وفي الصلاة، وخاصة صلاة الجماعة ذات الفضل العظيم، ليتهيأ المسلم في صلاته لمناجاته لربع، والوقوف بين يديه كأنه يراه، جواب هذا السؤال عندكم، رجل تأخر دون عذر شرعي حتى أقيمت الصلاة، فجاء يركض، بنفس قد ضايقها وشغلها عن مهمتها، وفوت كثيرا مما يشرع الاتيان به قبل ذلك هل هذا الرجل سينصرف بأجر صلاة الجماعة مثل ذلك الذي أدرك تكبيرة الاحرام مع الإمام.
نسأل الله جل وتعالى أن لا يعاقبنا بسوء أعمالنا وما يستشهد به البعض من قوله : ((من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)) فهذا في حق من لم له عذر شرعي، أما من لا عذر له فله أجر ما أدرك وعليه وزر ما فوت.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا رحمكم الله على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، عمروا المساجد، تسابقوا إلى الصفوف الأول واعلموا أنه لن يصلح أخر هذه الأمة، إلا بما صلح به أولها.
أيها المسلمون، اختم لكم هذه الخطبة بان أقرأ عليكم ثلاثة أحاديث من أحاديث الرسول وجعلتها في آخر الخطبة لكي تكون آخر ما يعلق في أذهانكم واسمعوها وتدبروها.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال. قال رسول الله : ((تحترقون تحترقون، فاذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)).
وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن لله ملكا ينادى عند كل صلاة، يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله، عن رسول الله انه قال: ((يبعث مناد عند حضرة كل صلاة، فيقول يا بني آدم قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم فيقومون، فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيغفر لهم ما بينهما، ثم توقدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى: يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فيتطهرون ويصلون الظهر، فيغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر فمثل ذلك فإذ حضرت المغرب فمثل ذلك، فإذ حضرت العتمة فمثل ذلك، فينامون وقد غفر لهم، فمدلج في خير ومدلج في شر)).
اللهم انا نسالك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/936)
حيّ على الجهاد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/1/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الجهاد وأهميّته والغاية من مشروعية الجهاد 2- الأسباب الناتجة عن ترك الجهاد
وشؤم التخاذل عنه 3- خطأ المصطلح الذي يرغب تعويد الأمة عليه وهو " الأمن العام , أو
التعايش السلمي "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
الجهاد في سبيل الله ، ذروة سنام هذا الدين ، ناشر لوائه ، وحامي حماه ، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به.
أولئك الذين يريدون أن ينشروا دين الله عن طريق البرلمانات ، أو الانتخابات ، أو المؤتمرات ، كلهم يخطئون ، فإن هذا الدين لا يقوم ، إلا كما قام أول مرة ، تحت ظلال السيوف ، به نال المسلمون العز والتمكين في الأرض ، وبسبب تعطيله ، حصل للمسلمين الذل والهوان والصغار ، واستولى علينا الكفار ، بل تداعت علينا أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، وأصبحنا مع كثرتنا غثاءً كغثاء السيل ، نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا ووضعها في قلوبنا.
أيها المسلمون: لقد حرص الأعداء على تشويه صورة الجهاد والمجاهدين ، وتخذيل المسلمين عنه ، ووضع العراقيل دونه ، وعلى قصر معناه على الدفاع فقط. بل حتى الاسم ، لا بد أن يكون دفاعاً لا حرباً ولا هجوماً ولا جهاداً ، وأصبحت وسائل الإعلام تطلق على المجاهدين: متطرفين ومجرمي حرب. بينما في المقابل تجد أن إسرائيل تُسمي وزارتها ، وزارة الحرب ، كل ذلك وغيره خوفاً من أن يؤوب المسلمون إليه ، فيهزموهم ، ويذلوهم ، ويلزموهم الذل والصغار ، لأنهم يعلمون أنه متى أعيد الجهاد بصورته التي كان عليها الرعيل الأول ، فإنه لن تقوم لهم قائمة ، ولن يقدروا على الصمود ، أمام زحف جحافل الحق ، التي وعدت بالنصر والتمكين ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الجهاد لم يشرع عبثاً ، ولا لتحقيق أهداف شخصية ، أو مطامع مادية ، أو مكاسب سياسية ، أو لبسط النفوذ وتوسيع الرقعة ولا لإزهاق النفوس وسفك الدماء ، والتسلط على الناس واستعبادهم ، ولكن شرع الجهاد لتعبيد الناس لله وحده. وإعلاء كلمة الله في الأرض ، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون. قال الله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. وقال سبحانه: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير.
لقد شرع الجهاد ، لرد اعتداء المعتدين على المسلمين ، يقول الله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وقال تعالى: ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
لقد شرع الجهاد لمنع الكفار من تعذيب المستضعفين من المؤمنين والتضييق عليهم ومحاولة فتنتهم في دينهم وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها. لقد شرع الجهاد لتغيير الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة. فإن هذه من شأنها أن تفتن المسلم عن دينه ، ولذلك فإن أهل الجزية من أهل الذمة ونحوهم ،يمنعون من المجاهدة بدينهم والتعامل بالربا وبإظهار الزنا ، لأن هذه الأوضاع تفتن المسلم عن دينه. لقد شرع الجهاد لمنع صد الكفار الذين تحت ولايتهم عن استماع الحق ، وإقامتهم سياجاً منيعة أمام دين الله لئلا يدخله الناس ، فيجب أن يقام على هؤلاء الجهاد حتى يتسع المجال لدين الله أن يراه الناس ويعرفونه وتقوم عليهم الحجة به. لقد شرع الجهاد لحماية الدولة الإسلامية من شر الكفار ودفع الظلم والدفاع عن الأنفس والحرمات والأوطان والأموال قال الله تعالى: أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. لقد شرع الجهاد ، لتأديب المتمردين والناكثين للعهود المنتهزين سماحة الإسلام وأهله قال الله تعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطنعوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون.
لقد شرع الجهاد لإرهاب الكفار وإخراجهم وإذلالهم وإغاظتهم وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ، ويقول تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين لهذا ولغيره شرع الجهاد.
أيها المسلمون: قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين. إن مواجهة الكفار وقتال الكفار ، حتم لابد منه ، مادام أن هناك إسلام في الأرض وكفر ، فإن حتمية المواجهة لابد منها. ولهذا ينبغي أن نعلم ، بأن قتال الكفار أصل في دين الإسلام ، لا يمكن أن يتغير بتغير الزمان ، وعليه ، فإن مصطلح "التعايش السلمي" مصطلح كاذب ، مخالف لشريعة رب العالمين.
الكفار في الإسلام لنا معهم ثلاث حالات معروفة مضبوطة في ديننا. إما أن يسلموا فلهم مالنا وعليهم ما علينا ، أو يبقو على دينهم ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذا قال بعض أهل العلم بأنه خاص بأهل الكتاب ،أما الكفار فإما الإسلام أو الثالثة وهو السيف. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لقول الله جلا وعلا: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم عن علي بن أبي طالبٍ قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وسيف لكفار أهل الكتاب قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وسيف للمنافقين جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم. وسيف للبغاة فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله.
أيها المسلمون: إن الآية التي قرأتها قبل قليل يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار علق عليها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعليقاً نفيساً جداً أقرأه بطوله ، لأنه يبين ، بأن الجهاد والقتال أصل في شريعة الإسلام، وأنه يجب على المسلمين أن يقاتلوا الكفار الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الأقرب فالأقرب ، وأن هذا كان نهج ولاة المسلمين. قال رحمه الله: أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأول ، الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهَجْر وخيبر وحضرموت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب. فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال وكان ذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حجة الوداع ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد الحجة بأحد وثمانين يوماً فاختاره الله لما عنده ، وقام بالأمر وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر رضي الله عنه ، وقد مال الدين ميلة كان أن ينجفل فثبته الله تعالى به ، فوطد القواعد ، وثبت الدعائم ورد شارد الدين وهو راغم ، ورد أهل الردة إلى الإسلام ، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام ، وبين الحق لمن جهله ، وأدى عن الرسول ما حمله ،ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان ، وإلى الفرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته البلاد ، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد ، وأنفق كنوزهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك رسول الله ، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده وولي عهده ، الفاروق الأواب ، شهيد المحراب ، أبي حفص عمر بن الخطاب ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع الطغاة والمنافقين ، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً ، وحُملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم ،بعداً أو قرباً ، ففرقها على الوجه الشرعي ، والسبيل المرضي ، ثم لما مات شهيداً وقد عاش حميداً ،أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شهيد الدار ، فكسا الإسلام رياسة حُلةٍ سابغة. وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة ، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلت كلمة الله وظهر دينه وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ، فكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ، امتثالاً لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار. انتهى.
اللهم إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجعٍ يُعلى بخضر المطارف
ولكن قبري بطرُ نسرٍ مقيله بجو السماء في نسور عواكف
وأمسي شهيداً ثاوياً في عصابةٍ يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس من عدنان ألّف بينهم تقى الله نزّالون عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهمو فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
أيها المسلمون: إن هذه الأمة ، ما خلقت لكي تتمتع بحطام الدنيا ، وإن هذه الأمة لم توجد لكي تكون تابعة لغيرها ، لكنها وجدت لنشر دين الله ووجدت لكي تقود الأمم ، لا أن تقاد ، وهذا لن يكون إلا بفتح باب الجهاد على مصراعيه ، وقد وردت نصوص كثيرة ، تحذر من ترك الجهاد وتبين عواقب تركه ، وتصف الناكلين عنه بأقبح الأوصاف ، ولو تأملنا في بعضها ، بل فيها جميعاً ، لرأيناها منطبقة على حالنا الآن: ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة ، أما هلاك الدنيا فبالذلة والاستعباد ، وتسلط الكفار علينا ، واستعمارنا ، الاستعمار المباشر وغير المباشر ، وأما هلاك الآخرة فقول الله تبارك وتعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. ترك الجهاد سبب لعذاب الله وبطشه قال الله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير. ترك الجهاد والفرح بالقعود من صفات المنافقين قال الله تعالى: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون.
ترك الجهاد سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم ، قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين. ترك الجهاد قد يعرض لعقوبة عاجلة تنزل بالقاعدين عن الجهاد ، كما قص الله تعالى من خبر بني إسرائيل لما طلب إليهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يدخلوا الأرض المقدسة فقالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ، وقد وعى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدرس جيداً ، ففي يوم بدر لما استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال قال له المقداد: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن امضي ونحن معك. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه الإمام أحمد. ترك الجهاد سبب للذل والهوان قال الله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير. ومن الذي ينكر أن الأمة الآن لا تعيش في أقصى درجات الذل والهوان. والمشكلة ليس في إعلان الجهاد الآن، المشكلة أن الأمة إلى الآن لم تتحرك ولا حتى في مرحلة الإعداد ، والتهيؤ النفسي والشعوري ، وبث هذه القضية في روح أبناء الأمة. تجد أن التوجه وتربية الناشئة على الدفاع ، وزرع فكرة الأمن العام ، والتعايش السلمي ، وغيرها من العبارات العائمة حتى أن الناس تربوا على الخوف والجبن والرغبة في الحياة ، وعدم التفكير في البذل والعطاء والتضحية ، واقتنع الناس شيئاً فشيئاً بمبدأ عدم اعتداء دولة على أخرى ، والأعداء لم يقصدوا من ترسيخ هذه المفاهيم إلا منع حركة الجهاد ، بينما إعتداءاتهم هم في وضح النهار ، ويبرر لها بألف تبرير. ولا يمكن إيقاف هذه الألاعيب ، ولن يرجع العدل إلى نصابه إلا بعودة الأمة إلى الجهاد. وإقامة الجهاد ، ليست قضية سهلة ، بل يجب أن يسبقها مراحل وخطوات وجهود ، في مقدمتها تحكيم الشريعة أولاً ، وتربية الناس على الإسلام ثانياً، والتهيؤ والإعداد ثالثاً ، وهكذا.
أيها المسلمون: كل هذا من جانب ،فكيف لو أشير إلى الجانب الآخر وهو فضل الجهاد في هذا الدين، وما الذي أعدّه الله للمجاهدين، وما هي منزلة الشهادة في سبيل الله، إسمع يا عبدالله لما قاله ابن النحاس رحمه الله تعالى في كتابه مشارع الأشواق إلى مصارع الأشواق: فإن مما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنيّة لكل أحد مصيب وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الريّ الأعظم في شُرب كؤوس الحتوف، وأن من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ،وأن الشهداء عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرةٍ وغصّة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، وأنه يُأمّن من فتنة القبر وعذابه، وأن الله يكرمه يوم القيامه بحسن مآبه، فواعجباً كيف أن ذروة السنام قد درست آثاره فلا ترى، وطمست أنواره بين الورى، وأعتم ليله بعد أن كان مُقمَرا، وأظلم نهاره بعد أن كان نيّرا، وذوى غصنه بعد أن كان مورقا، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقا، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفنت خيوله فلا تركض، ورُبطت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تُقبض، وأغمدت السيوف من أعداء المسلمون إخلاداً إلى حياة الدعة والأمان، وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان، ونامت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعاً من الموت وهلعا، أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل، ورضي بالحياة الدنيا من الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، وقد أخبرنا الله عن حياة الشهداء عنده فقال تعالى وهو أصدق القائلين: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحق بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين. هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات، وسكنوا في أجل المحالّ في أعلى الغرفات، وكرعوا من النعيم أكوابا، وادرعوا من التنعيم أثوابا، ومتعوا بجنان الفردوس مستقراً ومآبا، وتمتعوا بحورٍ عينٍ كواعب أترابا ،أرواحهم في جوف طير خضر تجول في الجنان تأكل وتشرب، وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن، يتمنون الرجوع إلى هذه الدار ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات، لما بهرهم من ثواب الله الجزيل، فما أقبح العجز عن انتهاز مثل هذه الفرص، وما أنجح الاحتراز بالجهاد عن مقاساة تلك الغصص، وليت شعري بأي وجه يلقى الله غداً من فر اليوم من أعدائه، وماطله بتسليم نفسه بعد عقد شرائه، ودعاه إلى جنته ففر وزهده في لقائه، وبأي عذر يعتذر بين يديه من هو عن سبيله ناكب، وعمّا رغّبه فيه من الفوز العظيم راغب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال، أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)). انتهى.
هل من يموت بميدان الجهاد كما موت البهائم في الأعطان تنتحر
كلا وربي فلا تشبيه بينهمو قد قالها خالد إذ كان يحتضر
أهل الشهادة في الآثار قد أمنوا من فتنةٍ وابتلاءاتٍ إذا قبروا
ويوم ينفخ صور ليس يزعجهم والناس قائمةٌ من هوله ذعروا
وما سوى الدّين من ذنب وسيئةٍ على الشهيد فعند الله مغتفر
أرواحهم في عُلى الجنات سارحةٌ تأوي القناديل تحت العرش تزدهر
وحيث شاءت من الجنات تحملها طير مغرّدةٌ ألوانها خضر
إن الشهيد شفيع في قرابته سبعين منهم كما في مسندٍ حصر
والترمذي أتى باللفظ في سنن وفي كتاب أبي داود معتبر
مع ابن ماجة والمقدام ناقله في ضمن ست خصال ساقها الخبر
ما كل من طلب العلياء نائلها إن الشهادة مجد دونه حفر
وقد تردد في الأمثال من زمن لا يبلغ المجد حتى يلعق الصبر
ربي اشترى أنفساً ممن يجود بها نعم المبيع ورب العرش ما خسروا
فنسأل الله عز وجل أن يعجل فرج هذه الأمة اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الزيغ والفساد وانشر رحمتك على العباد. يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم رحمة إهد بها...
(1/937)
شياطين الإنس
الإيمان
الجن والشياطين
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/8/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير الشارع من الشياطين وبيان عداوتهم للإنسان 2- أسلوب الشيطان مع الإنسان
3- أنّ من الإنس شياطين كما أنّ من الجن شياطين 4- أساليب شياطين الإنس في إغواء الناس
وأن شياطين الإنس أشدّ من شياطين الجن 5- صفات شياطين الإنس كما ذكرها الله تعالى عنهم
وموقف المسلم منهم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
لقد جاءت تحذيرات القرآن المتكررة من الشياطين ، في آيات يصعب حصرها في هذا المقام لكن لابد أن يعلم المسلم ابتداءً أن الشيطان عدوه إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً.
احذر أخي المسلم من أساليب الشيطان معك ، إنه يستخدم أسلوب التخويف أحياناً مع الجبناء. إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين. وأسلوب التزيين أحياناً أخرى وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ، قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. وأحياناً يستحوذ على الإنسان استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. وأحياناً يوقع العداوة والبغضاء إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء إلى غير ذلك من حيل الشيطان وطرقه.
أيها المسلمون: لقد تكلم علماؤنا وقرروا بأن هناك شيطان جني، وهناك شيطان إنسي، استناداً إلى قول الباري جل وعلا: الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. حتى قال بعض أهل العلم بأن الشيطان الإنسي أخطر من الشيطان الجني ، وأكثر ضرراً، وأشد فتكاً.
ولذا فعلى المسلم أن يحذر هذا الشيطان أكثر وأن يتعرف عليه أكثر، وأن يتفطن لطرقه وأساليبه أكثر ، لكي يسلم من شره ، وينجو من غوايته.
فتعال معي أخي المسلم، نتلمس بعض حيل وأساليب هذا الشيطان، لعل الله عز وجل أن يعصمنا من فتنته.
يقول أهل العلم بأن: كل من تعاون مع إبليس وكان من جنوده في الإغواء وتحبيذ المنكر والفحشاء فهو شيطان، كل من كانت له مشاركات وجهود في صد الناس عن سبيل الله فهو شيطان.كل من دعى إلى طرق الباطل بأي أسلوب وتحت أي شعار أو مذهب فهو شيطان.
إن الشيطان من هذا النوع أشد من شيطنة إبليس، لأن إبليس قال: لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ، وقال: لأحتنكن ذريته إلا قليلاً فهو لا يريد التسلط على الجميع، بينما شيطاننا هذا لم يقتصر على الإغواء كإبليس، ولكنه تسلط بجميع أنواع الفتنة والإرهاق، يريد إغواء الجميع وإضلالهم واحتناكهم، كاحتناك الجراد للزرع واحتناك اللجام للفرس، حيث لا يدع أحداً ينطق إلا ما يوافقه ولا يسعى إلا بما يهواه. الله جل وتعالى قال في كتابه: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولم يقل استعذ من إبليس لكثرة أجناس الشياطين وأنواعهم الذين يصدون عن سبيل الله. فما أكثر أعداء الرسل من شياطين الإنس الذين ظهروا في كل عصر وبلد وفي كل فترة، وهم أشد ضرراً من شياطين الجن.
إن ورثة إبليس من شياطين الإنس، الذين سلكوا طريقته في تغرير بني آدم، وإغوائهم على الشر وتحبيب الرذيلة، وهجر الفضيلة، وتحبيب خيانة الله، باطراح دينه ونبذ كتابه، إن هؤلاء أخبر الله عنهم بصفات من كتابه، يمكن التعرف عليهم. فأخبر جل وعز عن هؤلاء الشياطين أن طبيعتهم الاستكبار والفخر، وطلب العلو في الأرض، ورفض كل ما لا يصدر على أيديهم وإن كان صحيحاً نافعاً. هذا الشيطان يعادي الحق إذا صدر على غير يديه. إنه يأمر بالسوء على اختلاف أنواعه وأشكاله، ويحبب الفحشاء للناس بكل وسيلة.
وها نحن نرى هؤلاء الشياطين في هذا الزمان يسمون الفساد إصلاحاً، ويسمون المؤامرات والفتن ونقض العهود تحرراً، ويسمون خيانة الله ونبذ ملة إبراهيم وطنية، ويسمون ارتكاب الفواحش مدنية، ويسمون الدياثة حضارة وتطوراً، وعندهم نبذ كتاب الله رقياً ومسايرة للزمن، وهكذا مما تلوكه ألسنتهم العفنة في وسائل الإعلام المختلفة، وتسطره أيديهم النجسة في الكتب العصرية والنشرات الدورية والصحف التي تفاقم شرها.
فما أحرى المؤمن أن يكثر الاستعاذة بالله من جنس الشيطان الرجيم القاعد لعباد الله بالمرصاد القائل: لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين فلقد تفاقم شر هؤلاء الشياطين، وكثر جنودهم وأولياؤهم وعمت فتنتهم، وكثر ضررهم، لقد سيطر الشياطين على أغلب المرافق وتاجروا بالعقول، وتمويه الفكر، وبلبلة الخواطر، وقلب الحقائق، وتنويع الباطل، وتوزيعه بشتى الزخارف والألوان.
لقد قرر علماؤنا بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، كما قرروا بأن الناطق بالباطل والساعي فيه شيطان ناطق. وإليك بعض الأمثلة:
فالمثبط والمعوق للناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيطان.
والمحبب الرذيلة للناس بأي مصطلح، وتحت أي مسمى شيطان.
والذي يعمل لإزالة الحياء من المجتمع شيطان، والصحفي الذي ينشر ما يخالف الملة الإبراهيمية والشريعة المحمدية شيطان.
والكاتب الذي ينشر ما يفسد الأخلاق ويذهب بالمروءة والحياء شيطان.
والذي يغري الناس بقوله أو فعله على تقليد أعداء الله ورسله في أزيائهم وأخلاقهم وأعيادهم ومراسيمهم شيطان، لأنه يقول بلسان حاله أو بصريح مقاله أو بسوء خصاله لمن قلدهم من الكفرة هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا نعوذ بالله من الخذلان ومن أعظمهم شيطنة، ومن أشدهم خبثاً على الإطلاق من يعمل على إزاحة الناس عن ملة إبراهيم وعن شريعة محمد عليهما الصلاة وأتم التسليم. إنك لتجد الشيطان الإنسي مرهقاً متعباً، يلهث كما يلهث الكلب. لنشر دعايته، وترويج فكرته، وينفق الأموال الطائلة للصد عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون. فكن أيها المسلم على حذر ويقظة مما يقذف إليك سراً وجهراً، وظاهراً وباطنا، واجعل كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام هما الميزان الذي تزن به كل شيء، وكل أحد. فإذا أعجبك كلام أحد أو تبجحه بدعوى الإصلاح، فلا تجعل له في قلبك مجالاً حتى تنظر في سيرته وأعماله، وتقارن ما يقول بما يفعل، فإذا كانت أعماله على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورأيته حاملاً رسالة الله آخذاً بكتابه، عاملاً لنصرة دينه مدافعاً عن قضايا المسلمين في كل قطر، فذلك من حزب الله، وإن رأيت أن أحواله وأعماله كمال المنافقين التي كشفها الله في القرآن، وأن ما يدعيه مجرد مزاعم يتاجر فيها بعقول الناس، ويلعب بعواطفهم، وأن أعماله ومبادئه مستمدة من الشرق أو الغرب فذلك شيطان، من جند إبليس، ودعاة الضلال مهما كبرت مكانته أو كثرت كتبه ومقالاته، أو كثر أتباعه والمجندون لمبادئه، فإن الله تعالى يقول: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله.
لقد جرى للمختار بن عبد الله الثقفي الكذاب مما نقرأ في كتب التاريخ ما جرى، وراج أمره بحجة الأخذ بالثأر حتى كشفه الله وأهلكه وأخزاه، ونقرأ في التاريخ ما جرى من أبي مسلم الخراساني ما أنجح خطته ثم أهلكه الله على يد الذين سعى من أجلهم.
ونقرأ في التاريخ - وكل هذه صور حية لبعض النوعيات من الشياطين، نقرأ ما جرى من فتنة العبيديين الباطنيين والقرامطة في مصر والشام والأحساء والحجاز ماجرى ، حتى ادعى بعضهم الألوهية وقتل الحجاج وصعد كبيرهم الكعبة صارخاً بأنه الله الذي يحيي ويميت فسلط الله الآكلة في جسده، حتى هلك شر هلكه. ونقرأ في التاريخ ما جرى من النصيرية وطغاة المبتدعة الذين صاغتهم سياسة اليهود الماكرة فظائع عظيمة، كشف الله غمتها وأراح أهل دينه منهم، ثم تنوعت أساليب سياستهم في القرون الأخيرة بأنواع الغزو الثقافي الفكري. فنقرأ في التاريخ أنهم نبشوا النعرات القومية في أنحاء أوربا وركزوا جهودهم في تركيا، لنبش القومية الطورانية التي بسببها تنكر حكامها للإسلام والمسلمين. مما سهل لليهود وأذنابهم من النصارى وتلاميذهم بث النعرة العصبية في العرب، فتولى كبرها بعض الشياطين، وتم نشرها في وقت سريع أحدثوا تحت شعاراتها كثيراً مما يهدم ملة إبراهيم.ويناقض شريعة الإسلام، ويمزق القرآن تمزيقاً معنوياً فحصل من جراء ذلك في تركيا وغيرها من بلاد المسلمين شر كبير وفتنة، تتغلغل إلى أكثر الأدمغة. وورائها شياطين يبذلون ما يبذلون في نشرها وترويجها فهلك من هلك من أولئك الشياطين، وسطر لنا التاريخ قبيح أفعالهم، فبقيت فيهم وصمة عار إلى قيام الساعة، وكذلك شياطين هذا الزمان ممن أكمل المشوار، وسار على خطى من قبله، سيكتب التاريخ عليهم كل شيء، وسيأتي اليوم، التي تعرف فيه الأجيال، أسماء وطرق وأساليب وحيل جميع شياطين هذا الزمان، بل سيزيد الأمر فضيحة لأنها ستكون موثقة بالأرقام والإحصائيات، والوثائق، بخلاف كتابة التاريخ في الماضي، فإنها كتابة عامة. لكنه أولاً وأخيراً كتابة التاريخ:
لا تحرقون سوى الأيدى بلا حذر
هلا استجبتم لضم القوس للوتر
كان الجناحان ملئ السمع والبصر
يا جامعى حطب التاريخ في قلم
هلا وعيتم دروس الأمس دامية
فالقلب إن يعزف الإيمان نبضته
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
عليك أيها المسلم: بمعاداة من هذه صفاته وإن قال ما قال، وادعى ما ادعى، فإنه من شياطين الإنس، الذين هم أضر من ابليس أبي الجن وذريته.
وإذا كان الله أمرنا بالاستعاذة من جنس الشيطان من همزه ونفثه ونفخه، ورفض خطواته عموماً، فأمره يدل بطريق أولى على معاداته ومنابذته في كل شيء. فواجب المسلم أن يتعوذ بالله متبرئاً من الشيطان من همزه، الذي يكون بالوسوسة والإغراء على الشر بجميع الوسائل، مقرونة ومسموعه، مرئية ومشاهده، وكذلك من نفخه، الذي يكون بغرس الكبر، بأن يقذف في روع الإنسان أنه من نوع كذا أو أنه من عنصرٍ سام، فيلهب صدره بالقومية الفلانية أو النعرة الفلانية، أو يطغيه بمركزه، فيجعله بهذا أو ذاك معرضاً عن الحق. ساعياً بالباطل كما وصف الله بعضهم بقوله: إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه.
ومن نفثه، بالشعر والكلمات الرنانة المغرية على السير بالباطل والتمادي فيه معتقداً نجاح طريقته، بهذا النفث في آذان الناس وإن يقولوا تسمع لقولهم فإن الكثير من الناس يُخدع بالكلام المعسول.
وهل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم، يلقون السمع وأكثرهم كاذبون وأجاد ذلك الشاعر حيث يصف بعض الشياطين الذين عاصرهم هو، وكيف كان كلامهم معسولاً لكن بقلوب الذئاب.
حرستك ألهة الطعام
من يقظة فمن المنام
يذاب في عسل الكلام
كأنه اللجج الطوامي
كأنه سجع الحمام
نامي جياع الشعب نامي
نامي فإن لم تشبعي
نامي على زبد الوعود
نامي على المستنقعات
نامي على صوت البعوض
أيها المسلمون: لقد تفاقم شر الشاطين في هذا الزمان، إلى حد أنهم أراحوا الأبالسة من الجن في كثير من الأمور، وأراحوا شياطين الإستعمار في كثير من المهام. فصارت فتنتهم أشد من القتل. وذلك لأنهم احتسوا من قيح الإستعمار ودمه وصديده، فأخذوا يمجونه على القلوب الطاهرة. وتجرؤوا على ما لم يتجرأ عليه المستمر قولاً وعملاً وتنفيذاً وفتنة.
وشياطين الجن مهدوا السبيل لهم بإحراق ما قدروا على إحراقه مما في الإنسان من مواهب الخير، أو طمسها أو تصدئتها، بحيث يكون قلب غُلفاً بذلك، مما تقذف به شياطين الإنس وتحشوه من الباطل.
فأكثر أيها المسلم من الإستعاذة، متبعاً لها بالحذر واليقظة، والعمل الدائم لإعلاء كلمة الله، وحفظ حدوده، وأشغل نفسك في جميع أوقاتك بطاعته، كيلا تجعل للشيطان مجالاً أو فراغاً ينفذ منه ، فلا يحصل له عليك سلطان.
وإن خير ما شغل به المسلم نفسه، للتصدي لهذا الشيطان بعد إقامة أركان الإسلام، الدعوة إلى الله عز وجل، والعمل للإسلام، والبذل للدين، ومن جملة العمل، التصدي لهؤلاء الشياطين بفضح خططهم، وتوضيح أساليبهم وتحذير الناس منهم، تحذيراً عاماً وخاصاً، واستغلال بعض المناسبات لتحذير الناس من شر هؤلاء الشياطين، وتبيين مدى خطرهم.
والمفرّط في دينه، إما بترك بعض الطاعات أو إرتكاب بعض المخالفات، أو الغفلة والجهل بهؤلاء الشياطين، فإنه لابد من استيلاء الشيطان عليه، من بعض النواحي والجوانب، والمعصوم من عصمه الله.
فنسأل الله جل وعلا أن يقينا شر أنفسنا، وشر الشيطان وشركه.
اللهم إنا نعوذ بك من شياطين الإنس والجن.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين من شياطين الإنس والجن بسوء فأشغله بنفسه,
واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدبيراً عليه يا رب العالمين.
(1/938)
صوم الصالحين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/9/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- درجات الصوم 2- الأمور التي بها يتمّ الصوم ويكمُل 3- حفظ اللسان عن كلّ سوء
4- فضل الجود والبذل في رمضان لما لذلك من أثر وخصوصية 5- العلاقة بين الصيام
والصدقة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد :-
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.
قالوا بأن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
أما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
أما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام.
أما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الأمور الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله فهو اقبال بكامل الهمة على الله جل وتعالى وانصرافه عن غيره.
قال ابن رجب رحمه الله: الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا.
مثل هذا الصائم ليس عيده أول يوم من شوال، وانما عيده يوم لقاء ربه، وفرحته برؤيته.
أهل الخصوص من الصُوّام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب
من صام عن شهواته أدركها غداً في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه، قال الله تعالى: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت.
فيا معشر الصائمين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
أيها الصائمون:-
إن تمام الصوم وكماله، وكلكم يطلب ذلك، لا يتم إلا بستة أمور:-
الأول: غض البصر وكفه عن الإتساع في النظر إلى كل ما يحرم ويذم ويكره.
قال الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن.
وعن جرير بن عبدالله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فقال: ((اصرف بصرك)) رواه مسلم.
فحذار ثم حذار أخي الصائم من فضول النظر، فضلاً عن النظر إلى شيطان العصر، الذي أخذ بلب العاقل قبل الساذج. وهو التلفاز.
لا تجرح يا أخي صومك، ولا تنقص من أجرك فليس هذا عمل من يطلب لصيامه التمام والكمال.
ماذا يعرض التلفاز؟ يكفي ما فيه من فتن المارقات الماجنات، السافرات العاصيات.
يكفي ما يُثار من غرائز في صدور الرجال. نظرات خائنة، وغمزات جائعة، وتكشف وعري، وتفسخ بذئ، ونزول إلى درجة البهيمية.
لواحظنا تجنى ولا علم عندها وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حُجّاب قلبه أذِنّ على أحشائه بالفواقر
ماذا جنيت يا أخي الصائم في إطلاق نظرك في الصور المعروضة، هل زادت حسناتك، هل زاد إيمانك، هل تعلمت علماً يقربك إلى الجنة ويباعدك عن النار؟
أظن الجواب هو عكس ذلك كله، وأنت أدرى بنفسك من غيرك بك.
اتعظ يا أخي ببعض أخبار من مضى، وإليك هذا الخبر، قال أبو الأديان: كنت مع استاذي أبي بكر الدقاق، فمّر حدث فنظرت إليه، فرآني أستاذي وأنا أنظر إليه، فقال: يا بني لتجدّن غِبها ولو بعد حين. يقول: فبقيت عشرين سنة وأنا أراعي الغِبّ، فنمت ليلة وأنا متفكر فيه، فأصبحت وقد نسيت القرآن كله.
فهل تريد يا أخي أن تجد حسرة هذه النظرات ولو بعد حين، فتفقد شيء من إيمانك أو حسنتاك عند لقاء ربك، والسبب النظر في التلفاز.
فقل للناظرين إلى المشتهى في ديارهم، هذا أنموذج من دار قرارهم، فإن استعجل أطفال الهوى لمآلهم، فعدهم قرب الرحيل إلى ديارهم، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.
الثاني: حفظ اللسان عن فضول الكلام والهذيان والخوض في الباطل والمراء والجدال والخصومة والكذب والنميمة والفحش والمراء والسب وبذاءة اللسان، والسخرية والإستهزاء. وإلزامه السكوت والصمت وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان.
من أطلق عذبة اللسان، وأهمله وأرخى له العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم.
قال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم.
تدبر يا عبدالله في قول الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم هو ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.
فأما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة.
وأما مالا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول، والإشتغال به تضييع زمان، وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، وبذلك يكون سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي ربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقيق الرياء والتصنع، وتزكية النفس، وفضول الكلام، وفصل الخطاب قوله صلى الله عليه وسلم: ((من صمت نجا)).
روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: ((كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)).
من هو هذا الرجل؟ وماذا فعل؟
قيل هو الذي يفطر على حرام، أو من يفطر على لحوم الناس بالغيبة أو من لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
أما الفرض فقد سقط عنه، والذمة برأت، فلا يعاقب عقاب ترك العبادة، بل يعاتب أشد عتاب، حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب.
الأمر الثالث: لمن طلب تمام الصيام.
كف السمع عن الإصغاء إلى كل محرم ومكروه.
فكل ما حرم قوله، حرم الإصغاء إليه، ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى: سماعون للكذب أكّالون للسحت.
وقال عز وجل: لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت.
اذا لم يكن في السمع من تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما فإن قلت إني صمت يومي فما صمتُ
فيا من أطلق أذنه لسماع أصوات المزامير، وأصوات الغناء، اتق الله تعالى في نفسك، واتق الله في صومك، فليس هذا هو صوم الصالحين، وليس هذا من يطلب تمام صومه وكماله.
الأمر الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام.
كف اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار، والحرام سُمّ مهلك للدين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله.
الأمر الخامس: أن لايستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن ملئ من حلال.
وكيف يستفاد من الصوم، قهر عدو الله وكسر الشهوة، إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه مالا يؤكل في عدة أشهر.
ورقة القلب وصفاؤه إنما تكون بترك الشبع، قال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام، ويريد أن يجد حلاوة المناجاة.
من أكل كثيراً نام كثيراً، فخسر كثيراً، وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد، وإن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
الأمر السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً بين الخوف والرجاء. اذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من الممقوتين. وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها.
مرّ الحسن البصري بقوم وهم يضحكون فقا :
إن الله عزوجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف قوم فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
نسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن رمضان شهر الجود والإحسان، شهر الكرم والعطاء، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأكرم الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال وبل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم، ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لايخشى الفقر. رواه مسلم.
يقول صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاني، وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال وعنده صُبْرة من تمر فقال: ((ما هذا يا بلال؟ قال: أعد ذلك لأضيافك، قال: أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً)). يقول أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغد. نعم هكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم.
تَعَوّدَ بسط الكف حتى لو أنه ثناها القبض لم تجبه أنامله
تراه إذا ما جئته متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
إن الصدقات في رمضان لها عدة خصوصيات:
منها شرف الزمان ومضاعفة أجر العامل فيه.
- ومنها إعانة الصائمين المحتاجين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم. ولهذا فمن فطر صائماً كان له مثل أجره.
- ومنها أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة، فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.
إن هناك علاقة خاصة بين الصيام والصدقة.
فهما من موجبات الجنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام)).
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك والصدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.
الصيام جُنّة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
الصيام لابد أن يقع فيه خلل أو نقص، والصدقة تجبر النقص والخلل، ولهذا وجب في أخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
الصيام والصدقة كفارات لعدد من الأشياء كالأيمان ومحظورات الإحرام وكفارة الوطء في نهار رمضان، بل إن الصوم أول مافرض كان بالتخيير بين الصيام والإطعام ،ثم نسخ ذلك وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصيام لكبره.
فعليكم بالصدقة أيها الصائمون فهذا شهركم، خير الناس أنفعهم للناس.
الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، إن لله تعالى أقواماً يختصهم بالنعم لمنافع العباد ويقرّهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها، نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((داووا مرضاكم بالصدقة)).
أما علمت يا أخي أن الصدقة تزيد في العمر. وتبقى لك بعد الممات.
يا أخي الصائم: ما قدر كسرة تعطيها، أو ماسمعت أن الرب يربيها، فيراها صاحبها كجبل أحد، أفيرغب عن مثل هذا أحد.
إن تطوعات البدن لا تتعدى المتطوع، لكن نفع الصدقة متعدد متنوع. من فطر صائم فله مثل أجره. والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء.
فيا أيها الصائمون المؤمنون، هذا شهركم، وهذه فرصتكم، فمن لم يتصدق في رمضان فمتى يكون. وكيف ينسى المسلمون بعضهم بعضا.
يموت المسلمون ولا نبالي ونهرف بالمكارم والخصالِ
ونحيا العمر أوتاراً وقصفاً ونحيا العمر في قيل وقال
وننسى إخوة في الله ذرّت بهم كف الزمان على الرمال
تمزقهم نيوب الجوع حتى يكاد الشيخ يعثر بالعيال
يشدون البطون على خواء ويقتسمون أرغفة الخيال
وناموا في العراء بلا غطاء وساروا في العراء بلا نعال
يسيل لعابهم لهفاً وتذوي عيونهم على جمر السؤال
وليت جراحهم في الجسم لكن جراح النفس أقتل للرجال
يمدون الحبال وليت شعري انقطع أم سنمسك بالحبال
نسينا: واتقوا يوماً ثقيلا به النيران تقذف كالجبال
ونحن المسلمون ننام حتى يضيق الدهر بالنوم الخبال
جلسنا والآرائك فاخراتٌ وأوجفنا على الفرش الغوالي
ورصفنا البيوت من المرايا لتنطق بالبهاء وبالجمال
وفاح العطر وائتلقت جنان كأن العمر ليس إلى زوال
فنام على الريال وإن صحونا فإن الفجر فاتحه الريال
(1/939)
عام الحزن
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/12/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العالم ومكانته وأثر فقده على الأمة 2- فقد المسلمين لإمامين جليلين :
الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ : محمد ناصر الدين الألباني 3- العمل الذي ينبغي عمله
تجاه هذه المصيبة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
هذه آخر جمعة لنا في عامنا الهجري 1420هـ. ولقد أطلق البعض على هذا العام عام الحزن، والسبب في ذلك هو الأمة فقدت كوكبة من علمائها، ومات ثلة من مفكريها وأدبائها ودعاتها، وحُق لهم أن يسموه عام الحزن، فإذا لم يكن العام المنصرم عام حزن فمتى يكون؟ وإذا لم نحزن لهذا السبب فمتى يكون الحزن؟
يا عام أحزاننا تترى مصائبنا ذابت جوانحنا شوقاً لمن رحلوا
تخطّف الموت في ذا العام كوكبةً هم صفوة الناس إن قالوا وإن فعلوا
أبعدهم نستلذُّ العيش في رغدٍ ونحن أسرى معاصينا ولا وجل
فاغفر لنا يا إلهي سوء ماقترفت قلوبنا وعليه النفس تشتمل
ومن سواك إلهي يستجيب لنا رغم الذنوب ففي ألفاظنا الخجل
أحسن خواتمنا يا ربنا فلنا في عصرنا أنفسٌ تذوي بها العلل
لقد كانوا رحمهم الله أعلاماً يُهتدى بهم، وأئمة يقتدى بعلمهم، وأقطاباً تدور عليهم معارف الأمة، وأنواراً تتجلى بهم غياهب الظلمة. إن وجود العلماء بين ظهراني الأمة يكون سبباً في حفظ دينها، وصوناً لعزتها وكرامتها، لأنهم السياج المتين الذي يحول بين الدين وأعدائه، والنور المبين الذي تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه، إنهم ورثة الأنبياء في أممهم، وأمناؤهم على دينهم، ((فإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما روثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)). العلماء عباد الله هم شهداء الله في الأرض الذين شهدوا بالحق وأعلنوها على الملأ بأنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وهم شهداء الله في أرضه يشهدون أن رسله صادقون مصدقون وهم شهداء الله في أرضه يشهدون بأحكامه على خلقه، يقرأون كتاب الله وسنة رسول الله ويعلمونها لعباد الله، فليس في الأمة كمثلهم ناصحاً ومخلصاً، يعظون عباد الله، ويقودون الأمة لما فيه الخير والصلاح، فهم القادة حقاً، وهم الزعماء المصلحون، وهم أهل الخشية لله إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء.
إن فقد العالم ليس فقداً لشخصه فحسب، ولكنه فقد لجزء من تراث النبوة، إن فقد العالم لا يعوض عنه بمال ولا عقار ولا متاع ولا دينار، بل فقده مصيبة على الإسلام والمسلمين، لا يعوض عنه إلا أن ييسر الله من يخلفه بين العالمين فيقوم بمثل ما قام به من الجهاد ونصرة الحق والدين.
إن فقد العالم في مثل هذا الزمان لتتضاعف به المصيبة، لأن العلماء العاملين أصبحوا ندرة قليلة بين الناس، وكثر الجهل والتشكيك والالباس، ولكننا لا نيأس من روح الله فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لن تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهو على ذلك)).
الصبر أجمل والرضا لك أفضل فالكل يفنى عاجل ومؤجل
ما لإبن آدم غيرما كتبت له أيدي القضاء حقيقة لا تجهل
العين تبكي والفؤاد هوى به نحو الكآبة رزء دهر أخطل
أيها المسلمون: إن ارتفاع العلم إنما يكون بموت العلماء، حيث يموت علمهم معهم، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) متفق عليه. والمراد بقبض العلم هو موت العلماء وذهاب الفضلاء والفقهاء، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب عن عطاء رحمه الله قال: "هو موت العلماء وذهاب الفضلاء وفقهاء الأرض وخيار أهلها". وقال ابن عباس رضي الله عنه: "لا يزال عالمٌ يموت وأثرٌ للحق يندرس حتى يكثر أهل الجهل ويرفع العلم".
عباد الله: لقد مات هذا العام الذي هو حقيقة عام الحزن قرابة العشرون ما بين عالم وفقيه ومحدث وأصولي وأديب ومفكر، وأي خسارة للأمة أكثر من هذا، وكم نحتاج من سنوات وسنوات حتى نهيأ من أمثالهم من يسد العجز الذي تركوا، والمكان الذي شغروا. وكان على من فقدتهم الأمة شيخ الاسلام في هذا العصر وتاج العلم ورأسها بقية السلف الصالح الامام الفقيه المحدث الزاهد الورع عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة، لم تشهد الأرض في وقته مثله، جمع الله له العلم والخلق والكرم والشجاعة والقوة، وصفات تفرقت في عشرات من العلماء والرجال وتجمعت في شخصه. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ولذا فقد عظم العزاء بفقده:
عزاء بني الإسلام قد عظم الأمر وليس لنا إلا التجلد والصبر
فشيخ قد غاب عنا مسافراً إلى ربه إذا ضمه اللحد والقبر
فيا قبر رفقاً بالذي فيك راقد هنيئاً لقد خصصت بالفضل ياقبر
فها هي تنعاه الجزيرة كلها لقد مسها من فقده الحزن والضر
فذكراك في كل القلوب مقيمة وذكراك مع طول المدى كلها عطر
فإن غبت عنا أنت في القلب حاضر مآثرك الجلّى هي الطيب والذكر
قدمت إلى رب جزيل ثوابه ونعماه طول الدهر ليس لها حصر
سحائب من عفو الكريم هواطل تسح على مثواك ما سحت القطر
وما كاد الجرح أن يبرأ وما كاد القلب أن يهدأ إلا وجاءنا خبر وفاة محدث العصر، علامة الشام، بقية السلف الصالح، محيي السنة في بلاد كثر بين أهلها الشرك والبدع، الامام محمد ناصر الدين الألباني عليه رحمة الله. ثم بعدهم وقبلهم مات عدد ليس بالقليل كلٌ له مكانته الخاصة، والثغرة التي كان يسدها في الأمة. حقاً إنه عام الحزن.
أيها المسلمون: وليس معنى عام الحزن أن نجلس ونبكي ونتحسر على فقد فلان وفلان، دون أن نحرك ساكناً، فهذه سلبية تتنافى مع دين الإسلام. بل الواجب هو شحذ الهمم وسد النقص، كل بما يستطيع، ولا يعني هذا أن أصل أنا أو أنت إلى ما وصل إليه العالم الفلاني أوالمحدث الفلاني، فهذه أيضاً قدرات وطاقات يهبها الله لبعض عباده، والشيء بالشيء يذكر:
إن الله جل وتعالى خلق البشر معادن ومواهب، وطاقات وخصائص، فمن صلح لأمر قد لا يصلح لآخر، ومن سدّ ثغراً لا يسد كل الثغور، ألا ترى أن الجيش يحتاج إلى ميمنة وميسرة، ورجل ساقة، ورجل حراسة، بل يحتاج إلى من يخلف المجاهدين في أهليهم. هؤلاء هم صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، فيهم أبوبكر الخليفة الصديق، وعمر العبقري الفاروق الذي لم يَفرِ أحد فَريه، وعثمان المنفق في سبيل الله الذي لا عليه ما فعل بعد ما قدّم وبذل، وعليّ ذو الرأي والشجاعة وحلّ المعضلات، ومعاذ الفقيه، وأبيّ القارىء، وأبوذر صادق اللهجة الورع الزاهد، وسيف الله خالد كلٌ قد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم موقعه وموهبته وبلاءه في دين الله، وقل مثل ذلك في سلمان وعمار وابن عباس وابن مسعود وصهيب وبلال وابن عمر وأبي هريرة وأصحاب بدر والشجرة ومن أنفق من قبل الفتح وبعده والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً.
أيها المسلمون: إن الله سبحانه بحكمته ورحمته وعدله قد وزّع بين الناس مواهبهم في العلم والفكر، ونوّع طرائقهم في الخُلق والسلوك، وعدد مهاراتِهم في العمل والكسب، والمنهج الأقوم أن يستفاد من كلّ مسلم ذي موهبة في موقعه، والفضل بينهم بالتقوى وحسن العمل.
فهذا عالم ينشر علمه، قد أخذ على عاتقه إزالة غشاوة الجهل عن الناس وتبصيرهم بحق الله عليهم، يرفع الله بعلمه الدرجات، وذلك محتسبٌ آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر أعطى لذلك نفيس وقته وصرف عظيم جهده، وتحمّل من أذى الناس ما تحمّل. وآخر قد رق قلبه للأكباد الجائعة والبطون الخاوية فكان ينفق مما آتاه الله أو يسعى بشدة ليأخذ من الأغنياء أو يشرح الحال لذوي الرأي والوجهاء. وأولئك قد فُتح لهم باب الجهاد فهم يغنون فيه الغناء الواسع ينتقلون من موقع إلى موقع، حاملين أرواحهم على أكفهم يبذلونها رخيصة في سبيل الله. وآخرون منهم سخرهم الله لدعوة غير المسلمين فاهتموا بشؤن الجاليات وغير الجاليات ورُزقوا الصبر ودماثة الخلق ووسائل البذل والتضحية في الجهد والوقت والمال مما لا يضيع أجره عند الله. وانظروا إلى ذلكم الذي قد وهبه الله قلماً سيالاً ولساناً صادقاً فهو يصول ويجول في معارك فكرية ومناقشات إسلامية شعراً ونثراً إذاعةً ونشراً دفاعاً عن حياض الإسلام وساحاته لينفي عنه الدخلاء ويكشف الأُجراء. ولا يغيب عن البال من رزق الصبر والاحتساب فجلس للناشئة الصغار يقضي زهرة شبابه وخلاصة عمره من أجل التنشئة والتربية يعلمهم كتاب الله والعلوم النافعة، تربية على الإسلام، وتدريباً ليكونوا هم رجال الصحوة في الغد. ناهيك بالطبيب النطاسي الذي قد برع في تخصصه فخفف بإذن الله الآلام، وواسى الجروح وحفظ على المسلمين عوراتهم يعاونه إخوة له فنيون مهرة من الصيادلة والممرضين سيماهم الصلاح ومسلكهم الحشمة والأدب ورائدهم البراعة والإخلاص.
أيها المسلمون: إنها أنواع من الحاجات وألوان من المواهب مما لا يقع تحت حصر كلها جهود خيرة ومسالك لازمة لا تستغني الأمة عن واحد منها فكيف بها مجتمعة، من أجل هذا وغيره فاعملوا وكل ميسر لما خلق له.
عاتب رجل الامام مالكاً رحمه الله لما رأى فيه من انصراف كلي إلى العلم، فأجابه رحمه الله: إن الله قسم بين الناس الأعمال كما قسم بينهم الأرزاق، فرُبّ رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر في الصدقة، وآخر في الجهاد قال مالك: فنشر العلم من أفضل أعمال البر ورضيت بما فُتح لي فيه وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجوا أن يكون كلانا على خير.
عباد الله: إن بخسَ الناس أشياءهم وتلمس أخطائِهم ومعايبهم لا يرفع خسيسةً، ولا يقيم عوجاً، ولا يخدم هدفاً، إذا فشا هذا المسلك افتقد المجتمع توازنه وضلت فيه فئام من الناس. فما أنبله من شعور أن تثني على من يستحق الثناء وتكشف جوانب فضله وتعترف بمقدرته وجميل عمله وكبير أثره، وتستغفر الله له فيما قد أخطأ فيه، وكم هو جميل أن يدرك الناس أن الخطأ في البشر ليس بمعيب، فهو لا يحط قدرا، ولا يسلب فضيلة، ولا يخرج من جنة إن كان من أهلها، ولا يدخل ناراً إن كان ليس من أهلها، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. ورحم الله الحافظ ابن رجب حيث يقول: والمنصف من اغتفر قليل خطأ المر في كثير صوابه.
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
حقاً إن عام 1420هـ عام الحزن. وما هو الحزن مرة أخرى إن لم يكن بفقد الصفوة وذهاب النخبة، والفرق بينهم وبين البديل كما يُرى كبير كبير. إنه حقاً عام الحزن.
شجنٌ شجا في القلب كالظلماء فتفجرت بين الضلوع دمائي
وتعثرت فوق الشفاه مشاعري مكداً فثارت ثورة الإيحاء
من أين أبتدأ الكلام وخاطري بالحزن كالظلماء في الصحراء
من أين والأحباب شدوا رحلهم ومضوا إلى دار المنى الخضراء
عيدان مرا كالسهام فلم نجد في طيها فرحاً على استحياء
يا عام عشرين الأليم أما كفى أن تشعل النيران في الأحشاء
منذ المحرم والدموع سواجم تبكي فراق أجلة العلماء
العالمين العاملين بعلمهم السالكين طريقة الفضلاء
يا عام عشرين الحزين مرارة في القلب تحكي لوعة الغرباء
كم ذا أعد من الألى ساروا على نهج الصحابة دونما إغضاء
مات ابن بازٍ والقلوب مشوقةٌ حرّى يلمّظها حنينُ شقاء
مات الفقيه الحافظ الشهم الذي درأ الخصوم بحجة بيضاء
فتن تذوب إذا رأته فلا ترى منها على الدنيا سوى الأشلاء
هو زاهد والمال يركض نحوه متوسلاً فيبؤ بالإقصاء
من لي بمثل الباز في زمنٍ غدا فيه الرويبض أفصح الفصحاء
يتقافزون على المنابر كالدمى ويزوّرون صحيفة الإفتاء
ومحدث الشام المعطر ذكره شيخ الحديث خليفة الخلفاء
جئني بنصف محدث من مثله يزري بتلك الألسن الخرساء
إصعد ودعنا في ثرى أوهامنا ما بين من يجفو وبيم مراء
متعالم ملأ القلوب كئابة يمحو النصوص بأرذل الآراء
أسفاً لألبانينا أسد الفلا كم ذب عن عرض الذرى الشماء
من لي بمثل ابن الغصون وسيدٍ وعطيةٍ أو مصطفى الزرقاء
أو مثل طنطاويّ ذا الشيخ الذي أزرى بفكر بقية الأدباء
من بخلف الندوي في أنظارنا من ذا يرى في الهند نبع وفاء
من يخلف القطان للقرآن يصبح خادماًً في همة علياء
أواه هل أنا في منامي حالمٌ إني أكاد أصاب بالإغماء
عفواً فقد تعب اليراع وملّ من تسطير ذكر بقية الأسماء
هو ليس يحقرهم ولكنّ الأسى همّ يحير أعقل العقلاء
وعزاؤنا في ابن العثيمين الذي نفع العباد بهمة عصماء
يارب أسألك الثبات على الهدى فعلى القلوب اليوم ألف غطاء
فتنٌ تضاءلت النفوس أمامها حتى غدت في حالة شوهاء
قيض لأمتنا الكريمة سيداً بالعز يبعث سيرة النبلاء
أنت المرجى يا إلهي فاستجب لضراعتي وتوسلي ودعائي
(1/940)
عام الفرج
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
27/12/1418
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب تسمية ذلك العام الذي مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحزن 2- ما حلّ
بعد ذلك من الفرج والنصر والتمكين 3- قصة الإمام البويطي رحمه الله ونعيم بن حمّاد رحمه
الله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
وبعد أيام، يطوى سجل عام كامل من عمر الأمة، وتفتح أمة الإسلام صفحة جديدة في دفترها، لتستقبل عاماً هجرياً جديداً، وسبحان الله، ما أسرع مرور الأيام، وانصرام الأعوام. لكن بماذا وعلى ماذا وبأي وضع، أنهت الأمة عاماً كاملاً من عمرها، ما هي منجزاتها وما هي أرباحها وخسائرها، وهل طوت صفحة عام وهي غارمة أم غانمة، منتصرة أم منهزمة هل كان عام حزن أم عام فرح.
إن أمة الإسلام تمر بمرحلة من أصعب مراحل وفترات حياتها، ولا أريد في هذه الخطبة ونحن على بوادر استقبال عام جديد أن أذكرك فقط بمآسي الأمة في عامها المنصرم وما مرت به من نكبات ومآزق واضطهاد، وتقتيل وتشريد لبعض شعوبها، لأن كثرة الطرق لمثل هذه المواضيع دون عمل، ودون تغيّر للحال، قد يبلد الإحساس. فالمسلم لكونه مسلم، يجب عليه أن يعيش متفائلاً مستبشراً. ولنا في رسول الله أسوة حسنة.
قبل عدة أسطر سألت هل كان العام المنصرم عام حزن أم عام فرح؟
لعلك تجيبني أنه ففي الجملة عام حزن، بالنظر إلى عموم أحوال الأمة، هذا صحيح فإن الحزن والمصاب والآلام، أكثر بكثير من الفرح والنصر والتمكين. لكن أولاً: أين التفاؤل الذي ذكرناه قبل قليل. ثم ثانياً: ليست هذه هي سنة الحياة أن يكون الحزن دائماً حزن، فإن الحزن لابد أن يعقبه فرح. ولابد: هل سمعت بعام الحزن الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أظنك سمعت به ماذا كان بعد عام الحزن ذاك. إليك طرفاً من أخباره، لتنزع ثوب اليأس عنك، وتزداد ثقة بالله وبهذا الدين، وما ينتظرنا من مستقبل. عدد من الأحداث الجسام مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، قائد هذه الأمة وبأصحابه، في أقل من أربعة أشهر كادت تعصف بالدعوة في مهدها، وكانت في نظر المرجفين، ومحدودي الرؤية، أحداث مؤذنة بنهاية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتصار معسكر قريش على معسكر الإيمان. ذلك ما هي هذه الأحداث والتي بسببها سمي ذلك العام عام الحزن. مات أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجه، فماذا كان أثر وفاتها.
قال ابن اسحاق: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلاك خديجة، وكانت له معيناً في دعوته إلى الإسلام. وهلك عمه أبو طالب، الذي كان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعة وناصراً على قومه. فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر التراب على رأسه. قال ابن كثير رحمه الله: وعندي أن غالب ما روي من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي- وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقاً شديداً حتى حال دونه أبو بكر الصديق، وكذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك مما أشبه ذلك - كان بعد وفاة أبي طالب. نعم لقد فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عضده وحاميه من قريش فاجترأت عليه، وزادت في ايذائه حتى روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)). وفقد صلى الله عليه وسلم سلوته وملاذه وأم أولاده خديجة بنت خويلد. قال عليه الصلاة والسلام عنها: لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها.
قال ابن اسحاق: وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يسمع شيئاً مما يكرهه من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها ، إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه ، وتصدقه ، وتهون عليه أمر الناس رحمها الله تعالى رحمة واسعة. فعلاً: إنها أحداث تهز الكيان البشري ، وتزلزل الأرض من تحت أقدام الضعفاء. أما من قوي إيمانه بالله ، ويقينه بوعده ونصره ، فلا تزيده هذه الأحداث إلا تصميماً وعزماً على مواصلة الطريق.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بعد أن أحس أنها لم تعد بيئة صالحة للدعوة ، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام. وإلى أن يكونوا أنصاره وحماته ، وكان ذلك بعد وفاة خديجة بقليل فماذا كان جوابهم؟
لقد قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم أسوأ مقابلة ، وردوا عليه أقبح رد ، وعاملوه بما لم تعامله به قريش لقد رفضوا الداعي والدعوة ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه ، حتى إنه لم يدخل مكة إلا بجوار المطعم بن عدي. إذاً ما العمل؟
ذهب السند الداخلي الذي كان يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالراحة والطمأنينة ، والمشاركة والمواساة ، وهلك المدافع أمام قومه ، الذي كان يوفر له مساحة يتحرك فيها لدعوة الناس وإبلاغ رسالة الله. وسُدَّ أقرب منفذ للدعوة يمكن أن تنتقل إليه ، وتنطلق منه ، هل تنتهي الدعوة ، هل يقف الداعية ، هل كانت هذه الأحداث إيذاناً بانتصار معسكر الكفر ، لقد أجاد الشاعر وهو يصف هذه الأحزان وهذه المصائب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:
وأنت مرتهن لازلت في الرحم
ولم تكن حين ولت بالغ الحلم
فكنت من بعدهم في ذروة اليتم
فاختاره الموت والأعداء في الأجم
رُأيت في ثوب جبار ومنتقم
سلا الجزور بكف المشرك القزم
وألبستك رداء العطف والكرم
فأسلمتك لجرح غير ملتأم
يعود ما بين مقتول ومنهزم
رأيت من لوعة كبرى ومن ألم
في عزم متقد في وجه مبتسم
مجدٌ وغيرك عن نهج الرشاد عُمى
ولى أبوك عن الدنيا ولم تره
وماتت الأم لمّا أن أنسْت بها
ومات جدك من بعد الولوع به
فجاء عمك حصناً تستكن به
ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما
حتى على كتفيك الطاهرين رموا
أما خديجة من أعطتك بهجتها
غدت إلى جنة الباري ورحمته
وشج وجهك ثم الجيش في أحد
ورغم تلك الرزايا والخطوب وما
ما كنت تحمل إلا قلب محتسب
بليت بالصبر مجدٌ لا يماثله
هذه الحالة شبيهة بحال الأمة في واقعها الآن ، حين أحكم العدو قبضته من كل جانب فهل كانت كل هذه الأحداث إيذاناً بانتصار معسكر الكفر؟ الجواب لا ، وكلا. بل كانت على علامة قرب انتصار الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته. وفتح أبواب أكبر وآفاق أوسع إن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا لقد ضاقت مكة بالدعوة ، ورفضت الطائف استقبالها ، وأخذت بعض القبائل التي تأتي في الموسم ، تساوم عليها. لقد ضاقت الأرض ففتحت السماء ، لم تتأخر البشارة بهذا النصر كثيراً ، ففي ذي القعدة من السنة العاشرة يُسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، فيؤم هناك الأنبياء عليهم الصلاة وأتم التسليم ثم يعرج به إلى السموات السبع.
إن حادث الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس بالذات والله أعلم: لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب. وأن الله سينقل هذا المنصب من بني إسرائيل الخبثاء إلى بني إسماعيل الحنفاء. ستنتقل قيادة البشرية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيعقب عام الحزن ، أعوام فرح ونصر وتمكين. إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا. لكن كيف تنتقل هذه القيادة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بين جبال مكة طريداً وحيداً بين الناس ، هل يمكن أن هذه الحالة تتغير ، كما يقول بعض اليائسين في وقتنا هذا ، هل يمكن لهذه الحالة التي تعيشها أمتنا أن يكون بعدها تمكين إن مثل هذا السؤال يكشف الغطاء عن حقيقة أخرى ، وهي أن طوراً من هذه الدعوة قد أوشك إلى النهاية والتمام ، وسيبدأ طور آخر يختلف عن الأول في مجراه. ولذلك نرى بعض الآيات تشتمل على إنذار سافر ووعيد شديد في مثل قول الله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً وإضافة إلى هذه الآيات ، آيات أخرى تبين للمسلمين قواعد الحضارة وبنودها ومبادئها التي ينبني عليها مجتمعهم الإسلامي ، كأنهم آووا إلى الأرض ، وتملكوا فيها أمورهم من جميع النواحي ، وكونوا وحدة متماسكة تدور عليها رحى المجتمع ، ففيها إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجد ملجأً ومأمناً يستقر فيه أمره ، ويصير مركزاً لبيت دعوته إلى أرجاء الدنيا. ثم لم يتأخر النصر الموعود ، فبعد ثلاث سنوات فقط من تلك الأحداث المحزنة ، التي بلغت قمتها بالمؤامرة الدنيئة لاغتياله عليه الصلاة والسلام عند ذلك ولد الفجر ، وظهرت تباشير النصر وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، ليؤسس هناك دولة الإسلام ، ويعلن انتصار الإيمان وهزيمة الكفر: والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إن أحداث عام الحزن بما فيها من ألم ومرارة تغرس في قلوب الأتباع روح التفاؤل والإيمان ، والتطلع إلى غدٍ مشرق ، وقطع العلائق بالخلائق ، والالتجاء إلى رب الأرض والسماوات والاعتماد عليه وحده. لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر لاشك أن في السيرة النبوية سلوى لكل الدعاة حيال ما قد يتعرضون له من مشاق أو مضايقات ، فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وفي السيرة سلوى لهذه الأمة ، حيال كل ما يكُاد لها ، ورغم كل المؤامرات والمؤتمرات التي يحبكها أعداء الإسلام ضدها ، في كثير من البلدان ، بل والإساءة بالاتهامات الباطلة لعلماء الأمة ، بمناسبة وبغير مناسبة نقول: هيهات لهم ثم هيهات ، فإن أعوام الحزن التي مرت بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سمعتم، كان بعده أعوام فرح وفرج وتمكين. فلتثق هذه الأمة بدينها ، ولتثق بمستقبلها ، ولتثق بأن نصر الله لها لا يتأخر عن موعده لعباده الصالحين ، والخسارة والخزي لأعداء الدين. فاصبروا وصابروا ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون.
يكمل الشاعر قصيدته فيقول:
تهيم من غير هدىٍ ولا علم
ضعف الأخوة والإيمان والهمم
تسعى لنيل دواءٍ من ذوي سقم
مهما ارتضت من بديع الرأي والنُّظم
ليست كمثل فراتٍ سائغٍ طعم
فطائر السّعد لم ينوي ولم يُحِم
يا أمة غفت عن نهجه ومضت
تعيش في ظلمات التيه دمرها
يوماً مشرقةً يوماً مغربةً
لن تهتدي أمةً في غير منهجه
ملح أجاجٌ سراب فادحٌ خورٌ
إن أقفرت بلدةً من نور سنته
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون. حين يدلّهم الخطب ، وتعظم الأمور ، ويظهر الفساد ، ويخشى الناس على أنفسهم وأولادهم وذويهم ، في مثل هذه الحالات التي تمر بالأمة ، فإنه ليس لها بعد الله عز وجل إلا علماءها المخلصون ودعاتها الغيورون ، والأمة مازالت ولله الحمد فيها خير كثير. كلنا يعلم بأن إحياء الأمة من مواتها وبعثها من غفوتها ونومها ، وإخراجها من عبادة غير الله ، وقيادتها إلى ربها وسوقها إليه سوقاً جميلاً ، كل هذا وغيره يكون بعد الله عز وجل على يد العلماء الفحول. الذين يعيشون قضايا الأمة التي تحتاجها في كل مرحلة. ولو أدى ذلك إلى تضحيتهم بأرواحهم ، وهو أغلى ما يملكون ، سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
أظنك سمعت بقصة الإمام البُويْطي. يوسف بن يحيى المصري البويطي ، سيد الفقهاء ، صاحب الإمام الشافعي ، كان إماماً في العلم قدوة في العمل زاهداً ربانياً متهجداً ، دائم الذكر ، عندما كانت مشكلة الأمة في وقته وفتنة القول بخلق القرآن ، سعى بعض المرتزقة ، فكتبوا فيه تقريراً رفعوه إلى والي مصر فامتحنه بالقول بخلق القرآن ، فلم يجب. فقال له الوالي ، قل فيما بيني وبينك. فقال: إنه يقتدي بي مئة ألف ، ولا يدرون المعنى. فأمر به أن يحمل إلى بغداد. قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنةٌ وزنها أربعون رطلاً. وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت مخلوقة فكأنما مخلوقاً خُلق بمخلوق. ولئن دخلت عليه لأصدقنه – يقصد الواثق – ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم. وتوفي رحمه الله في قيده مسجوناً بالعراق سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.
وأما الإمام نُعيم بن حماد ، صاحب التصانيف فقد تحمل المشاق في نفس القضية حماية للأمة من التلبيس. قال ابن يونس: حُمل على القول بتلك الفرية فامتنع أن يجيب فسجن ومات في سجنه سنة تسع وعشرين ومئتين ، وجر بأقياده ، فألقى في حفرة ، ولم يكفن ولم يصلى عليه. وأوصى هذا الإمام أن يدفن في قيوده "وقال: إني مخاصم".
إنه لا خلاص للأمة من مآزقها ومن نكباتها إلا بعلماء أمثال البويطي وابن حماد وأمثالهم الذين يعيشون واقعهم ، ويعيشون قضايا عصرهم ثم يضحون من أجلها.
نسأل الله جل وتعالى أن يهيأ لنا من أمرنا رشدا ، وأن يختم لنا عامنا بتوبة نصوح وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقاءه.
وأن يجعل ما نستقبل من أعوام ، أعوام خير وأمن وإسلام وإيمان.
ربنا آتنا في الدنيا...
(1/941)
عبودية الإنس ( مراتب العبودية )
التوحيد
الألوهية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الغاية من خلق الخلق هو تحقيق العبودية لله تعالى 2- مراتب العباد في درجات
العبودية كثيرة لا يحصيها إلا الله وذكر بعض المراتب 3- مرتبة النبوّة ثم الصحبة ثم الجهاد
ثم العلم ثم البر ثم الدعوة ثم الصلاح ثم النجاة ثم الإسراف
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عرضنا لكم في الجمعة الماضيه صورا من العبوديات التي تقدمها بعض الكائنات. من نبات وحيوان ودواب، وأيضا شيئا من عبودية السماء والأرض والجبال والبحر، وكيف أن هذه الكائنات لها عبادات تخصها وأنها تقوم به على أتم وجه، وتعد خطبة الجمعة الماضيه كلها مقدمة، لنصل إلى بيت القصيد وهو عبودية هذا الإنسان وما الذى يجب عليه، ولماذا هو قد انحرف في كثير من الأحيان عن خط العبودية المستقيم. قال الله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إننا ما خلقنا أيها الأحبة، ولا وجدنا إلا للعبادة، وأى عبد جد واجتهد فإنه يرتقي في سلم العبودية ويفوق الأخرين بغض النظر عن وضعه الإجتماعي أو المادي أو القبلي أو لأي دولة هو تابع.
ولذا فإن المطيعين من الإنس يتفاوتون فيما بينهم تفاوتا عظيما في العبودية، ولهم مراتب عديدة لا يعلمها إلا رب العباد، وكل بحسب عمله، فمن الناس من ترقي فى سلم العبودية حتى وصل إلى مراتب الصالحين، ومنهم من وصل مراتب الشهداء، ومنهم من وصل إلى مراتب الصديقين، وبين هذه المراتب، مراتب ومراتب لا يحصيها إلا الله، وهناك السابقون السابقون أولئك المقربون، وهناك أصحاب اليمين، وما أدراك ما أصحاب اليمين، وقد أعد الله جل وتعالى لكل قسم من هذه الأقسام من الجزاء والنعيم ما يناسبه.
مراتب العباد في درجات العبودية كثيرة لا يحصيها إلا رب العباد، وسأعرض لكم أيها الأحبة بعض هذه المراتب، ومنزلة كل مرتبة عند الله جل وتعالى، وما أريد منك أخي المسلم إلا أن تصنع أنت نفسك فى أحد هذه المراتب، وتحت أى صنف يمكن أن تصنف نفسك، وأي قسم ترى أنه ينطبق عليك، وتشعر أنك من أهله لنعلم قربنا وبعدنا، من هذه المراتب، فها هى هذه المراتب وهي ليست على سبيل الحصر بل هي أمثلة وأيضا ليست مرتبة مع بعض التعليقات اليسيرة.
فأولى مراتب العبودية، مرتبة الرسالة والنبوة، وهى أعلاها، وأصحابها هم المصطفون كما قال تعالى: الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس. وقال سبحانه: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. أنا وأنت لسنا من هذه المرتبة لإنها بالإصطفاء. وأهل هذه المرتبة أيضا يتفاوتون فيما بينهم وإن كانوا أنبياء ،فبعضهم أفضل من بعض قال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ففي مقدمتهم أولوا العزم من الرسل ثم عامة الرسل، ثم عامة الأنبياء، وقد قاموا جميعا بالعبودية لله تعالى حق قيام وكانوا قدوة لأقوامهم فى حياتهم وبعد مماتهم.
المرتبة الثانية: مرتبة أصحاب الأنبياء والرسل وهؤلاء ورثة الرسل وخلفاؤهم، وهم القائمون بما أمر الله به على لسان رسله، علما وعملا، وهم الوسائط فى التبليغ عن الرسول للأمة من بعده، فهم الربانيون وهم الحواريون، وهم الذين كانوا مع الرسل في حياتهم فآمنوا بهم وأزاروهم ونصروهم. إن مرتبة الصحبة من أفضل مراتب الخلق بعد النبوة، أصحابها فضلوا على بقية الأمة، اصطفاهم الله جل وتعالى لصحبة رسله وأنبيائه، لقد ءامنوا حين كفر الناس، وصدقوا حين كذب الناس، فتحمل أصحاب هذه المرتبة من العذاب والنكال في دين الله ما الله به عليم، لقد بذلوا الأنفس والأموال فى نصرة دين الله، لقد قاتلوا مع رسل الله، فقتلوا وقتلوا فأثابهم الله خيري الدنيا والأخرة، محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً أيضا نحن قد فاتنا وحرمنا هذه المرتبة.
المرتبة الثالثة: مرتبة المجاهدين في سبيل الله، وهؤلاء هم جند الله عز وجل، الذين يقيم الله بهم دينه ويدفع به بأس أعدائه، المجاهدون هم الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله، ويكفي أنهم قد ربحوا التجارة مع الله، بما بذلوا من أموالهم وأنفسهم، يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
لقد باعوا أنفسهم وأموالهم لله عز وجل فقبل البيع منهم وأثابهم الجنة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم.
روى البخاري في صحيحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)).
وكيف لا يكون للمجاهدين هذه المنزلة وهذه الدرجات وهم كلما نادى المنادي، لبوا وأقبلوا فمرة تراهم على أرض أفغانستان، يروون جبالها وهضابها بدمائهم الزكية، ومرة تسمع بأخبارهم في مناطق الشيشان، يرفعون الرايات، ويقدمون المهج والأرواح، ومرة يأتيك نبأهم من أرض البلقان، يقاتلون مع إخوانهم المسلمين، الصرب الكافرين فما من أرض رفع فيها راية الجهاد، إلا وأصحاب هذه المرتبة، يطيرون لها مودعين الأهل والأحباب، تاركين الزوجة والأولاد، يطلبون إحدى الحسنيين، إما نصر وإما شهادة في سبيل الله.
يسيرون إلى الأعداء والطير فوقهم له القوت من أعدائهم وله النصر
فبأس يذيب الصخر من حر ناره ويطف له بالماء من نجس الصخر
شباب إذا لاقى العدو ظننتهم أسود الشرى عنت لهم الأؤم والعفر
ترى كل شهم في الوعى مثل سهمه نفوذاً فما يثنيه خوف ولا كثر
هم الأسد من بيض الصوارم والقنا لهم في الوغى الناب الحديدة والظفر
يرون لهم في القتل خلدا فكيف باللقاء لقوم قتلهم عندهم عمر
إذا استغلقت شم الحصون فعندهم مفاتحها بيض مضاربها حمر
المرتبة الرابعة: مرتبة العلماء: هنيئا لأصحاب هذه المرتبة، فهم حقا رجال الأمة، في هذا الميدان، وهم الفرسان وهم الشجعان، فلا أدري هل أنا وأنت نحشر مع هؤلاء ونعتبر منهم، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)).
وفي المقابل قال صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منزلة الشهداء وإن مات على فراشه)). وهؤلاء لهم في سلم العبودية حظ وافر لأنهم الذين يحملون أمانة العلم، ويحفظون دين الله من الضياع، ويبلغونه للناس، ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، العلماء هم الذين يعلمون الجاهل، ويرشدون الضال، ويقومون بالذب عن دين الله تعالى بالرد على المبتدعة، وأهل الأهواء، العلماء هم الذين يواجهون السلاطين والزعماء ويردونهم عن ظلمهم، فهم الوارثون للأنبياء وهم الراسخون في العلم، قضوا زهرة حياتهم وصفوة شبابهم في حلق العلم وبين مجلدات الكتب، أسهروا ليلهم وقضوا نهارهم في حفظ المتون وقراءة الشروح، في الوقت الذي كان غيرهم يقضون أوقاتهم في الشواطئ والحدائق العامة ومدرجات الملاعب أمام الشاشة، جدوا واجتهدوا حتى وصلوا الى هذه المرتبة، ففضلهم عظيم، ومنزلتهم عالية إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء. فحقهم علينا كبير، فنسأل الله عز وجل أن يحفظهم وأن يطيل في أعمارهم، فمن للناس إذا ذهب العلماء، وكيف يتعلم الناس إذا سكت العلماء، ولهذا لا غرابة إذا استغفر لهم الحيتان في البحر، والنملة في جحرها، إن ((فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينار ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)).
المرتبة الخامسة: مرتبة أهل الإيثار والصدقة والإحسان الى الناس باختلاف حاجاتهم ومصالحهم في تفريج الكربات، ودفع الضرورات، وتسهيل المهمات، هؤلاء رغبوا فيما عند الله وآمنوا بأن ما ينفقونه من الأموال لا ينقص مما عندهم بل يزداد، وأنه ما نقص مال من صدقة، يستشعرون قول الباري عز وجل: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون هؤلاء الصنف من العباد، اعتقدوا اعتقادا جازما بأن ما عندهم ينفذ وما عند الله باق، وأن ما ينفقونه ليست لهم، وانما هو مال الله جعلها في أيديهم واستخلفهم فيها لينظر كيف يعملون، وكيف يتصدقون، وعلى أية طريقة يصرفون وينفقون.
إذا سمعوا بناء مسجد تسابقوا، وإذا سمعوا بأرملة أو مسكينة إلى خدمتها تدافعوا، وإذا علموا بمشروع خيري بذلوا، فهنيئا لهم، تساووا مع الناس في أداء الواجبات، وزادوا على الناس بما أنفقوا، رغبة فيما عند الله، لا يريدون من أحد جزاء ولا شكورا، فهل أنت من هؤلاء يا عبد الله؟.
المرتبة السادسة: مرتبة الدعاة الى الله، عز وجل، هؤلاء طلبة علم ودعاة خير وإصلاح هداهم الله جل وتعالى لطريق الخير والاستقامة، في زمن كثرت فيه المغريات، وعمت الفواحش والمنكرات، فحفظهم الله عز وجل، لكن لم يريدوا الخير لأنفسهم فقط، فحملوا على عواتقهم واجب الدعوة الى الله عز وجل، ومحاولة انتشال الهلكى والغرقى في وحل الخطيئة والمعصية الى بر السلامة والنجاة. فانتشروا في أوساط الناس، يعلمون هذا، ويرشدون ذاك، من لا يصلي بينوا له خطورة ترك الصلاة، ومن لا يزكي، وضحوا له الحكم الشرعي، ومن أبتلي بالمسكرات والمحرمات، حاولوا تخليصه مما هو فيه بتعظيم حرمات الله في قلبه، ومن كان مقصرا كملوا نقصه، ومن تعثر أقالوا عثرته، كل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، والأسلوب الأمثل، يلقون درسا هنا، ومحاضرة هناك، يوزعون كتيبا هنا، وشريطا هناك.
همهم هداية الناس، اقتطعوا من أوقات راحاتهم ومن مرتباتهم في سبيل الدعوة، خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، صدق فيهم قول ذلك الشاعر الذي قال:
لهم خلف أرض الصين في كل ثغرة الى سوسها الأقصى وخلف البرابر
رجال دعاة لا يفل عزيمتهم تسلط جبار ولا كيد ماكر
إذا قال مروا في الشتاء تطوعوا وإن كان صيف لم يخف شهر ناجر
بهجرة أوطان وبذل وكلفة وشدة أخطار وكد المسافر
فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم وأروى بثلج للمخاصم قاهر
وأوتاد أرض الله في كل بلدة وموضع فتياها وعلم التشاجر
تراهم كأن الطير فوق رؤوسهم على عمة معروفة في المعاشر
وسيماهم معروفة في وجوههم وفي المشي حجاجا وفوق الأباعر
فنسأل الله عز وجل أن يحشرنا في زمرتهم، بحبنا لهم، وإن لم نعمل مثل أعمالهم، فالمرء مع من أحب.
أقول قولي هذا وأستغفر...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
المرتبة السابعة: من مراتب عباد الله في درجات العبودية، مرتبة أولئك الصالحين، الذين قاموا بفرائض الله، وازدادوا عليها بالنوافل، بما فتح الله تعالى عليهم، فمنهم المكثر من الركوع والسجود، ومنهم المكثر من قراءة القرآن، ومنهم المكثر من الصوم، ومنهم الذاكرون، ومنهم الصابرون، فهؤلاء جاهدوا أنفسهم في تكثير الحسنات ومحو الزلات، فهم حقا أهل الربح والخيرات، إذا عمل أحدهم خطيئة تاب وأناب، هم أهل قول الله تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع. وقوله تعالى: كانوا قليلا من الليل ما يهجعون. وقوله تعالى في الحديث القدسي: ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب الي عبدي بشئ أحب الى مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه)). أقول فأين هؤلاء في زماننا هذا، والله أنهم لأعز وجودا من الكبريت الأحمر، فنسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته.
المرتبة الثامنة: مرتبة أهل النجاة، ممن يؤدي فرائض الله تعالى ويترك محارمه، مقتصرا على ذلك لا يزيد ولا ينقص، عما فرض عليه، فهؤلاء هم المفلحون، لحديث الرجل الذي جاء الى رسول صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام ثم قال بعدما علم والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أفلح إن صدق)). وفي رواية: ((دخل الجنة إن صدق)). فالنجاة في أداء الفرائض من الصلوات المفروضة والزكاة والصوم وحج البيت للمستطيع، واجتناب المحارم وعدم الوقوع فيها، فان أحد أصاب من الصغائر شيئا، كفرت عنه الحسنات التي يقوم بها، لقول الله عز وجل: وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)). فهل تعتقد يا أخي أنني أنا وأنت، نصنف على الأقل مع هؤلاء؟ ونكون من أهل النجاة، ونتجاوز القنطرة،فرحماك ثم رحماك يا أرحم الراحمين.
المرتبة التاسعة: مرتبة الذين أسرفوا على أنفسهم، فهؤلاء أدوا ما افترض الله تعالى عليهم، لكنهم غشوا معاصي وكبائر، وفعلوا ما نهى الله عنه، فأدوا جانبا من العبودية، وفرطوا في جانب، يتوبون من معاصيهم من وقت لآخر، لكن غواية الشيطان لهم دائمة، وقلوبهم اليها مائلة، فهم ظالمون لأنفسهم فيما يقعون فيه من الذنوب، لكنهم يسمعون قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا. فتميل قلوبهم إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
أيها المسلمون: هذه بعض مراتب العباد في سلم العبودية، وكما قلت أولا أنها ليست على سبيل الحصر، بل هي نماذج لتفتح لنا بعض آفاق، فينظر كل واحد منا موقعه من الإعراب ضمن هذه المجموعات، هل تصنف أنت نفسك من أهل النجاة، أم تحشر نفسك مع العلماء، أم أنت من أهل الإنفاق، ولبذل الصدقة، أم أنت من عباد الله الصالحين، قوام بالليل صوام بالنهار، وما بينهما ذاكر مستغفر مسبح، أم أقرب ما يناسبني أنا وأنت من أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم؟!!.
عباد الله:
إن لعدم تحقيق العبد ما طلب منه من عبودية أسباب، هناك أسباب تصرف العبد عند الإستقامة على الجادة، والإنضباط في قالب العبودية. لعلنا نعالج هذه الأسباب في مرات قادمة.
إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/942)
العبودية [ عبودية الكائنات ]
التوحيد
الربوبية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/3/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن تحقيق العبودية هي الغاية من خلق الخلق ولذا أرسل الله الرسل وأنزل الكتب
2- صور من عبودية الدواب لله عزّ وجل 3- صور من عبودية الشجر والنبات لله عز وجل
4- صور من عبودية الجبال لله عز وجل 5- عبودية الريح وعبودية السماوات والأرض
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون إن تحقيق العبودية لله، مطلب شرعي لابد من تحقيقه، بل إن الله عز وجل خلق الكائنات كلها لعبادته، من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وجماد، وغيرها من الموجودات، فطرها سبحانه على توحيده والاعتراف بألوهيته والإقرار بفقرها واحتياجها وخضوعها له جل وعلا، إلا إننا نجد العجب من أمر هذا الإنسان من انصرافه وبعده عن العبودية الحقة لله، وانشغاله بملذات الدنيا وشهواتها، ولذا فقد كان هذا الإنسان في مجموعة أقل الكائنات عبودية، وأكثرها معصية وأشدها استكبارا على مقام العبودية: قتل الإنسان ما أكفره – إن الغاية من دعوة الرسل جميعا لأقوامهم هم العبودية ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فموسى عليه السلام كان أول ما أوحى الله تعالى به إليه إنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري وأول ما نطق به عيسى عليه السلام أمام قومه: وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى له: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين فكان عليه الصلاة والسلام قمة المثال الذي يقتدي به في تحقيق العبودية فوصل إلى أعلى مراتبها وأسمى منازلها فكان أحق من يوصف بهذا الوصف وأهلها دون غيره من البشر، نعود إلى موضوع هذا الإنسان وعبوديته لله عز وجل، وسيكون لنا معه حديث خاص لكن قبله لنستعرض كائنات ومخلوقات أخرى غير الإنسان، وما مدى قربها وبعدها من تلك العبودية عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والأنس)) قال الله تعالى: تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً فلنبدأ بعرض بعض الصور من عبودية الحيوانات والدواب. إن هذه الحيوانات لها عبوديات تخصها، تشترك في بعضها مع الإنسان في الاسم وتختلف في الكيفية: وكثير من هذه الحيوانات تقدم عبوديتها لخالقها أحسن من كثير من البشر، فهذه الدواب تسجد لربها: ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ومن عبوديتها أن هذه الدواب تخاف من يوم الجمعة لأنها تعلم بأن الساعة تقوم يوم الجمعة، وكثير من الإنس في غفلة، روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من دابة إلا وهي مصيخة أي منصتة ومستمعة – يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة)) ومن عجيب عبودية هذه الدواب لربها أنها تستريح إذا مات رجل فاجر في هذه الأرض روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه جنازة فقال: ((مستريح ومستراح منه، فقالوا: يا رسول الله، ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)) إن الدواب تنزعج من وجود الفاجر في الأرض لأنه مبارز لله عز وجل، لذا فإذا مات الفاجر، استراحت منه البهائم، سبحان الله، حتى البهائم والدواب تميز بين أولياء الله وأعداء الله، وكثير من الإنس في غفلة.
أيها المسلمون:
فمن هذه الدواب والحيوانات – البقرة – روى البخاري في صحيحه: ((بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم، فقال عليه الصلاة والسلام: فأني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)) فالبقرة تكلمت بأمر الله عز وجل، إلى هذا الرجل لتفهمه، سوء استخدامه لها وان هذا يتنافى مع العبودية لله، وأنها لا تضرب بدون مبرر، وأنها إنما خلقت للحرث ونحوه، وأنها تؤدي العبودية التي أمرت بها.
ومن عبوديات الدواب: الحيتان: روى ابن ماجه قوله: صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليستغفر للعالم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر)) وعند الترمذي: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير)) إن الحيتان في البحر والنملة في جحرها، يقدرون فضل العلماء والدعاة والمصلحين، ومعلمي الناس الخير، ورواية ابن ماجه تشعر بأن كل الكائنات علويها وسفليها، حيوانها ونباتها وجمادها، تقدر منزلة أهل العلم وأهل الدعوة والحريصين على مصالح الناس ومعلمي الناس الخير فهي تستغفر لهم، وسبحان الله وكثير من الإنس في غفلة عن علمائهم ودعاتهم ومشايخهم ومعلمي الناس الخير.
ومن صور عبودية الدواب العجيبة: عبودية الذئب: روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: عدا الذئب على شاة فأخذها فطلب الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقا ساقه الله إلي، فقال: يا عجبي ذئب مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال فاقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي، أخبرهم فأخبرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صدق والذي نفسي بيده)).
ومن عبودية الدواب عبودية الديك واأنه يوقظ للصلاة، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد: ((لا تسبوا الديك فإنه يدعو إلى الصلاة)) ، وفي رواية أبى داود: ((فإنه يوقظ للصلاة)) إذا كان سب الديك لا يجوز لأنه يأمر بالمعروف ويدعو إلى الصلاة، فكيف بالذي يسب من يدعو إلى الصلاة من أصحاب الهيئات. إن التعرض لديك لا يجوز، لأنه يدعو للصلاة وهذا أمر بمعروف، فكيف بالتعرض لغير الديك – ممن يدعو للصلاة ولغيرها من أبواب المعروف، وينهى عن أبواب المنكر المختلفة والمنتشرة في مجتمعات المسلمين والتي لا عد لها ولا حصر، لا شك بأن التعرض لهؤلاء أقبح وأبغض عند الله عز وجل.
أيها المسلمون:
أما عبوديات النباتات فأمر عجب، فهذا الشجر، الذي نص الله جل وتعالى بسجوده له بقوله: والنجم والشجر يسجدان والأعجب حديث بن عباس في سنن ابن ماجه وسنده صحيح أنه قال: ((كنت عند النبي عليه الصلاة والسلام فأتاه رجل فقال: إني رأيت البارحة فيما يرى النائم كأني اصلي إلى شجرة فقرأت السجدة، فسجدت فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول الله احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا واجعلها لي عندك ذخرا، يقول ابن عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة، فسجد فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجل عن قول الشجرة)) هذا الشجر يسمع الآذان ويشهد للمؤذن فعن أبى سعيد الخدري قال: ((إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالآذان فإني سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: لا يسمعه جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر إلا شهد له)) ان هذا الشجر يلبي مع تلبية الحاج والمعتمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من قلب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا)) إن هذا الشجر له في تحقيق عبودية الولاء والبراء للكفرة ولليهود، تحقيق تام عبودية أحسن بمراحل ممن يتزلفون لليهود، ويطلبون ودَّهم، ويتقربون منهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله)) وفي رواية ابن ماجه: ((إلا الغرقد فإنها من شجرهم لا تنطق)). إن هذا الشجر سينطقه الله عز وجل، سيتكلم الشجر عبودية لله، وولاء له وللمسلمين، وبراء من اليهود، حتى الشجر لا يرضى بوجود اليهود، فيريد أن يعجل المسلم بقتله: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، فما بالنا لا نكون حتى بمستوى بعض الأشجار تجاه اليهود، إن أولئك الغرقديون، أمرهم مفضوح، لأن العنصر اليهودي منبوذ حتى من الشجر والحجر، لكن عجبا لبعض البشر من الغراقدة إن صح التعبير أدنى بكثير في عبوديتهم لربهم من الشجر والحجر.
أما البحر فله عبوديات عدة، لكن من أعجبها ما جاء في مسند الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن رب العزة: ((ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينتضح عليهم فيكفه الله عز وجل)) وفي رواية: ((ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه ان يغرق ابن آدم، والملائكة تعاجله وتهلكه، والرب سبحانه وتعالى يقول دعوا عبدي)) فيا سبحان الله، البحر يقعر ويغضب، ويستأذن الله في كل ليلة أن يهلك ويغرق الناس هل تعلمون بسبب ماذا؟ انه بسبب معاصي ابن آدم، وعدم تحقيق ابن آدم العبودية المطلوبة منهم، فيعظم على البحر أن يرى ابن آدم وهو يعصي الله فيتألم لذلك ويتمنى هلاك ابن آدم، لكن الله جل وتعالى بحلمه وعطفه ورحمته بنا يقول، دعوا عبدي.
نسأل الله جل وتعالى أن يرحم ضعفنا وأن يجبر نقصنا وأن يعفو عنا وأن لا يؤاخذنا بأعمالنا، أقول قولي هذا واستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن عبوديات الكائنات، عبودية الجبال لله تعالى: أما سجودها ففي قول الله تعالى: ألم تر ان الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء وأما تسبيحها ففي قول الباري جل وعلا: وسخرنا مع دواد الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وقوله تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وأما عن خشية الجبال فعجب من العجب: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون فالجبال مع صلابتها وقسوتها تخشع لله عز وجل، ومرة أخرى، وكثير من الانس في غفلة، اسمع أخي المسلم لهذا الكلام الرائع من ابن القيم رحمه الله، وهو يتكلم عن عبودية الجبال فإنه كلام ممتع للغاية، يقول رحمه الله بعدما ذكر حكمه الله تعالى في خلق الجبال قال: هذا مع أنها تسبح بحمده، وتخشع له، وتسجد وتشفق وتهبط من خشية الله، وهي التي خافت من ربها وفاطرها وخالقها على شدتها وعظم خلقها من الأمانة إذ عرضها عليه وأشفقت من حملها، ومنها الجبل الذي كلم الله عليه موسى كليمه ونجيه، ومنها الجبل الذي تجلى له ربه فساخ وتدكدك، ومنها الجبل الذي حبب الله رسوله وأصحابه إليه، وأحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومنها الجبلان اللذان جعلهما الله سورا على نبيه وجعل الصفا في ذيل أحدهما والمروة في ذيل الآخر وشرع لعباده السعي بينهما وجعله من مناسكهم وتعبداتهم، ومنها جبل الرحمة المنصوب عليه ميدان عرفات، فلله كم به من ذنب مغفور، وعثرة مقالة، وزلة معفو عنها، وحاجة مقضية، (ثم قال رحمه الله؟) ومنها جبل حراء الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلو فيه بربه، وهو الجبل الذي فاض منه النور على أقطار العالم، فسبحان من اختص برحمته من شاء من الجبال والرجال، هذا وإنها لتعلم أن لها موعدا ويوما تنسف فيها نسفا، وتصير كالعهن، فهي مشفقة من هول ذلك الموعد، فهذا حال الجبال وهي الحجارة الصلبة، وهذه رقتها وخشيتها وتدكدكها من جلال ربها وعظمته، وقد أخبر عنها فاطرها وباريها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدعت من خشية الله، فيا عجبا من مضغة لحم أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى عليها، ويذكر الرب تعالى فلا تلين ولا تخشع، أ هـ رحمه الله.
ثم هذه الرياح التي نشعر بها ولا نراها قد نستغرب من شانها حين نعلم أن لها إدراكا خاصا يليق بها، فهي كانت مسخرة لسليمان عليه السلام كما قال تعالى: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ومن عجيب عبودية هذا المخلوق أنها هاجت لموت منافق، روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر فلما كان قرب المدينة، هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بعثت هذه الريح لموت منافق)) فقدم المدينة فإذا عظيم من المنافقين قد مات. فتأمل يا عبد الله من هيجان الريح لموت منافق في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ادري هل منافقو زماننا هذا على دراية بهذا الحديث، لا أظن ذلك.
ومن عبوديات الكائنات، عبودية السماوات والأرض، فأولها عرض الأمانة عليهما: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ثم إنهما مطيعان لربهما تمام الطاعة: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ومن عجيب عبوديتهما، أنهما لا يرضيان بالشرك، فعندما نسب النصارى الولد إلى الله، وقالوا بأن عيسى ابن الله، فما إن سمعت السماوات والأرض ذلك الافتراء الكاذب حتى كادت تهد هدا، قال عز وجل: تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً ان دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً.
بل والأعجب في عبوديتهما، هو بكاء السماوات والأرض على فراق المؤمنين الصالحين، قال الله تعالى: فما بكت عليهم السماء والأرض إنهما لا يبكيان على الكفار ولا على المنافقين ولا على المحاربين لشريعة الله، بل يبكيان على فراق المؤمن الصالح لهذه الدنيا.
والأعجب منه أن الأرض لا تقبل أجساد بعض المنافقين للدفن فيها، فكلما دفنوا لفظتهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب قال فعرفوه، قالوا: هذا يكتب لمحمد فاعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا.
إن المنافقين والعلمانيين على خطر عظيم. إن هذه الأرض التي نمشي عليها ونطأها بأقدامنا سيأتي عليها يوما تحدث أخبارها، وهذا من عبوديتها بأن فلان ابن فلان فعل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، بأن ربك أوحى لها، وقد يوحى لها ربها بأن لا تقبل أجساد أصناف من البشر لجرائم فعلوها على ظهرها، وقد تقبلهم الأرض، فتشتعل عليهم وهم في بطنها، فكما أن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وهذه من عبوديتها فقد يأمرها سبحانه فتفتك ببعض الناس جزاءً لهم على أعمالهم، فلينتبه الإنسان من الأرض، وليعمل عليها خيرا، وليجتنب محارم الله، وليحقق عبوديته لمولاه على هذه الأرض فإن الأرض أيضا لها عبودية لابد وأن تؤديها.
(1/943)
فلسطين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
المساجد, المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/9/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الأزَمات والنكبات المتلاحقة على أمة الإسلام يُنسي بعضها بعضاً وهذا من الخطأ
فالواجب التوازن والاعتدال في التأثر بالمشكلات 2- فضل المسجد الأقصى ومكانته
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن من خلل التوازن عندنا ، هو أننا نتحمس لقضية معينة فترة من الزمن ، ثم تأتي قضية أخرى، والقضية الأولى مازالت قائمة ولم تذهب فننساها تماماً ونتجاهلها تماماً ، وكأن لم يحصل شيء وننشغل بالثانية ، ثم تأتي الثالثة ، فننسى الثانية أما الأولى فقد صارت نسياً منسياً. وهكذا.
مع أن الأصل أن يكون هناك توازن واعتدال في كل القضايا ولا نغلب جانب على جانب. أذكر عندما كنا صغاراً في المرحلة الإبتدائية ، كان هناك ما يسمى - ريال فلسطين - وسنوات ونحن ندفع ريال فلسطين ، وكانوا يلقوننا في المدارس ونحن أطفال - ادفع ريالاً تقتل يهودياً -، ويتحمس الصغار ويدفعون ومضى الآن عشرون عاماً تقريباً ، واليهود في ازدياد والقتل في الفلسطينيين.ولم تنفع تلك الريالات ، ولم تقتل أحداً. ولعلها محفوظة لحين ينطق الحجر والشجر ويقول يا مسلم يا عبد الله ، هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله.
ثم جاءت قضية أفغانستان. وتحمست الأمة كلها ، وهبوا من كل فج عميق ، وبذلوا أموالاً خيالية في القضية الأفغانية ، ونسوا فلسطين تماماً إلا من رحم الله وكأن لم تكن هناك قضية ، وصار الإتجاه نحو أفغانستان ، حتى أن كثيراً من شباب الأمة من مختلف البلدان ذهبوا بأنفسهم ، واستنزفت دماء على تلك الجبال وفي تلك الهضاب. وفعلاً حققت الأمة أشياء كثيرة ، وظهرت طاقات.
ثم جاءت قضية البوسنة ، ونسى الناس أفغانستان تماماً ، وكأن الأمور قد انتهت هناك ، وانشغل الناس بما يجري على أرض البلقان ، وصار جمع التبرعات لتلك الجهات أما فلسطين فلم تعد تذكر.
ونحن لا نقلل من شأن ما يجري الآن على أرض البوسنة ، فإن العدو الكافر قد كشفت أوراقه للعالم كله ، وهذا التواطؤ المعلن من الجميع أصبحت فضيحة ، لكن أين الذي يخجل.
أعود لأصل الموضوع وهو أن التوازن مطلوب وينبغي أن لا تشغلنا شيء عن شيء ، ولا قضية عن قضية. صحيح أن الأحداث المتلاحقة في السنوات الأخيرة والآلام والجراحات التي أصابت الأمة ، صارت ترقق بعضها بعضها، والمسلم أصبح لا يدري إلى أين يلتفت.
هل يتابع أحوال المسلمين في الصومال وما يواجهون وكيف يظلمون ، أم يسأل عن المسلمين في المغرب والجزائر وما حولها من الدول هناك أم ينتقل إلى الشرق ويتابع آخر الأحداث في الفلبين وكشمير والهند وما يحصل هناك.
لكن مع كل هذا فالتوازن والاعتدال مطلوب.
أيها المسلمون: هذه الخطبة كانت لتذكيركم بالمسلمين في فلسطين ، وأن القضية التي كنا ندفع لها ريالاً مازالت قائمة ، وأن الوضع الحالي لا يكفيه الريال المسكين. بل يحتاج إلى أكثر من ذلك.
إن لكم إخوانا مسلمين في تلك البلاد مازالوا يكافحون ويدافعون عن أعراضهم ونساءهم ، وهناك الكثير المحافظون على دينهم ، وهناك ولله الحمد صحوة إسلامية مباركة دبت في نفوس أبنائها. رغم كل الكيد ورغم كل التعتيم ورغم كل الصد إلا أن الخير باقٍ والخير ينتشر بإذن الله.
أيها الأحبة في الله: لقد طغى الصهاينة وعاثوا وداسوا ولوثوا ، ولكن العزة لله ورسوله وللمؤمنين ، والذل والصغار والمسكنة لمن غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، نقضت العهود والمواثيق يحرفون الكلم عن مواضعه ، سماعون للكذب أكالون للسحت ، ملعونون على ألسنة أنبياء الله ورسله يريدون في الأرض علواً وفساداً ، يوغلون فيها عتواً واستكباراً ، استعدوا أمم الأرض ، ولم يكن لهم فيما اغتصبوه من حق ولكن تآمر قوى الكفر على أمة الإسلام تجزئة وتقسيماً وتفرقة وتدميرا.
لقد أكدت الأحداث وأثبتت الوقائع أنهم لا ينصاعون لمساومات ولا يصدقون في محادثات الخيانة خلقهم والكذب مطيتهم والدسائس في السراديب المظلمة مسلكهم. وإني لأتصور أن عمل السراديب كان هذا قديماً ، فهم الآن ليسوا في حاجة إلى سراديب أو عمل خلف الكواليس ، لأنهم يعلمون بأنه ليس أمامهم أحد ، فقد تمكنوا فيمن حولهم ، وكل من كان فيه غضبة لدين ، أو نخوة ، فإن إبر التخدير قد عملت فيه دورها. إنه لا حل لهذه القضية ، وكل قضية يكون العدو الكافر طرفاً فيها إلا برفع راية الجهاد ، والمواجهة بالمثل ، وإلا فالذلة. إنه حقاً على الأمة أن تربيها التجارب والوقائع ، وتصقلهم الإبتلاءات والمحن. إن الأمر كله لله ، بيده مصائر الأمور وكل شيء يجري في طريقه المرسوم حتى يبلغ أجله المحتوم إما موت وإما قتل ، أمر لا مفر من ملاقاته، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيل أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة. إنك لتعجب كيف يرضى بالذل وكيف يرضى بالقعود من يملك وسائل الجهاد والبذل ، كيف لا يذودون عن حرمة ، ولا ينتصرون لكرامة ولا يستشعرون صغاراً ولا ذلة.
لابد أن نعلم أيها الأخوة ، بأن وراءه حب الدَعَة وإيثار السلامة سقوط الهمة ، وذلة النفس ، وانحناء الهامة والتنكص عن المواجهة.
كيف تحلو الحياة لمن يضيع دياره ، وإذا ضاع الحمى ذهبت كل التضحيات خسارة.
قد استبيحت بها الأعراض والحُرَم
فمن أراد ذهاباً فالطريق دم
أين المواثيق والهدنات والذمم ؟
أين السلام وهم ليست لهم قيم
والخبث دليلهم إن العداة هم
أرجاؤه ظُلم من فوقها ظُلم
بلا سفين وموج البحر يلتطم
سلوا فلسطين إن رمتم بها خبراً
عز الذهاب إلى مسرى النبي بها
سلوا بلاداً بلبنان التي طُعنت
أمن يهودٍ تريدون السلام لكم ؟
فالشر منطقهم والغدر شيعتهم
هذا الزمان عجيب لست أفهمه
إني أرى أمتى قد أبحرت سفهاً
فنسأل الله عز وجل أن يعجل فرج هذه الأمة ، وأن يرينا الحق حقاً...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بد:
لقد ذكر الله بيت المقدس في كتابه في مواضع عدة ، وجاء فضل المسجد الأقصى في غير ما حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً والقرية هي بيت المقدس كما ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره. وقال عز وجل: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله وقال عز وجل: يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم إلى غير ذلك من الآيات. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام فقلت: يا رسول الله ثم أي؟ قال: ثم المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة)). وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء.ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت)) رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا)) رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أن سليمان سأل الله ثلاثاً فأعطاه إثنتين وأرجو أن يكون أعطاه الثالثة: سأله أن يحكم بحكم يواطئ حكمه فأعطى.وسأله أيما عبد أتى بيت المقدس لا يريد إلا الصلاة فيه أن يكون خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه)) رواه النسائي وابن ماجه بسند صحيح. فنسأل الله عز وجل أن يعجل بفرج بيت المقدس وأن يرزقنا الصلاة فيه ، وأن يقضي على من منع المسلمين ذلك ، وهو يوم قادم لا محالة. لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرجها البزار في مسنده بإسناد حسن: ((أنتم شرقي النهر، وهم غربيه)) فكأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حدد تماماً موضع المعركة ، وهذا من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام وبما أخبر به من علم الغيب الذي سيقع في المستقبل. فهذا أمر لا شك فيه عندنا. لكن هل نبقى هكذا نجلس ونضع أيدينا حتى يأتي هذا اليوم. فإنا لم نؤمر بهذا ، بل أمرنا ببذل الأسباب وأخذ العده.
ومن العدة مساعدة المسلمين هناك الآن ، بالمال والدعاء ، فإن لكم إخواناً متمسكين بدينهم في تلك البلاد ، يعيشون تحت وطأة يهود ، يعانون أموراً لا يعلم بها إلا الله.وهم بحاجة إلى دعمكم ودعائكم، فما نجمع من صدقاتكم أيها الأخوة هذه الجمعة فإنه للمسلمين في أرض فلسطين المباركة والتي يتعرض أبناؤها وشبابها إلى نقمة أعداء الله وإلى أبشع الإهانات من إخوان القردة والخنازير فنهيب بكم جميعاً أيها الأخوة ، أن تشمروا والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
(1/944)
في موكب الصحابة – 1 -
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/8/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة ومكانتهم في هذه الأمة 2- أقوال بعض العلماء في وجوب حب الصحابة
وذم بعضهم والتنقّص منهم وحكم من سبّهم 3- أسباب بلوغ الصحابة هذه المنزلة
4- قصص من حياة بعض الصحابة تدلّ على حُبهم للدين وبذلهم من أجله
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم. وقال تعالى: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً.
إن الله تعالى لما جعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء جعل الصحابة أفضل الحواريين واختارهم الله تعالى لصحبة رسوله وحمل دينه وتبليغ شرعه، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة هم رؤوس الأولياء وصفوة الأتقياء وقدوة المؤمنين وأسوة المسلمين وخير عباد الله بعد الأنبياء والمرسلين شرّفهم الله بمشاهدة خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم وصُحبته في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل حتى صاروا خيرة الخيرة، وأفضل القرون بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهم خير الأمم، سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، هم الذين أقاموا أعمدة الاسلام بسيوفهم، وشادوا قصور الدين برماحهم، واستباحوا الممالك الكسروية، وأطفأوا الملة النصرانية والمجوسية، وقطعوا حبائل الشرك من الطوائف المشركة العربية والعجمية، وأوصلوا دين الله إلى أطراف المعمورة شرقها وغربها ويمينها وشمالها.
أولئك قوم شيّد الله فخرهم فما فوقه فخر وإن عظم الفخر
عن أبي وائل قال: قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ((إن الله تعالى اطلع في قلوب العباد فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته، وانتجبه بعلمه، ثم نظر في قلوب العباد بعد، فاختار له أصحاباً فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم)) [1].
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم الا بخير، وحبهم دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
قال الشارح: فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين.
وقال أيوب السختياني رحمه الله: من أحب أبابكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق.
قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: اذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة [2].
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لاتسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) رواه البخاري ومسلم. إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقد بين رحمه الله أيضاً في كتابه القيم الصارم المسلول على شاتم الرسول بيَّن حال من يسب الصحابة فقال بعد تفصيل للمسألة: من زعم أن الصحابة ارتدوا أو فسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا ريب في كفره لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين.
ورحم الله القحطاني اذ يقول في نونيته:
قل إن خير الأنبياء محمدٍ وأجل من يمشي على الكثبان
وأجل صحب الرسل صحب محمد وكذاك أفضل صحبه العُمران
إلى قوله:
لا تركنن إلى الروافض إنهم شتموا الصحابة دونما برهان
لَعنوا كما بغضوا صحابة أحمد وودادهم فرض على الإنسان
حب الصحابة والقرابة سنة ألقى بها ربي اذا أحياني
أيها المسلمون:
الصحابة رضى الله عنهم هم صدارة هذه البشرية بعد الأنبياء والرسل تحقق فيهم رضى الله عنهم ما لم يتحقق فى غيرهم منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة وعوامل الخير تجمعت فيهم ما لم يتجمع فى جيل قبلهم، ولن يتجمع فى جيل بعدهم، فهم بحق ذلك الجيل القرآنى الفريد ولهذا كان لهم من الشرف والكرامة عند الله جل وعلا ما ليس لغيرهم لماذا هذا الشرف ولماذا هذه الكرامة؟ ذلك:
لأنهم أخلصوا دينهم لله، وجردوا متابعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التمام والكمال ودافعوا عنه فى جميع الأحوال هان عليهم فى سبيل هذا الدين الأموال والأولاد والأرواح والدماء غادروا الأوطان وهى عزيزة عليهم راضين مختارين، تاركين ورائهم كل شىء، والعجيب فى تضحية أولئك الرجال، أن مغادرتهم، وذهابهم كان إلى أراضٍ لا عهد لهم بها لا يعرفون شىء عن تلك البقاع التي ذهبوا إليها وذهبوا إلى أمم لا نسب ولا ألفة بينهم وبينها، ومكثوا وراء البحر فى بلاد الحبشة سنين وأعواما حتى أعز الله دينه ونصر جنده وأعلى كلمته.
خرجوا من مكة مهاجرين إلى المدينة، كل على قدر حاله وقوته إما سراً وإما إعلاناً.
وكان من جملة المهاجرين من مكة صهيب الرومى رضى الله عنه، فاتبعه نفر من قريش فقالوا له: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا، فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك ؟! والله لا يكون ذلك، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمى بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شىء فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي قالوا: نعم ففعل، فلما قدم على النبى صلى الله عليه وسلم قال: ((ربح البيع أبا يحيى ربح البيع))، فنزل قوله تعالى: ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد (1).
هكذا كانوا رضى الله عنهم إذا طمع غيرهم فى المال والمتاع جعلوه فداء لعقيدتهم مسترخصين فى أدنى حرمة من حرمات دينهم.
وأما دفاعهم وذبهم رضى الله عنهم عن نبيهم واسترخاصهم كل شىء فى سبيل ذلك فقد نوه الله - عز وجل - بذلك وسجله لهم فى كتابه العزيز بقوله: ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [الأحزاب:22-23].
ولقد حفظت لنا كتب السيرة والتواريخ ما أجاب به المهاجرون والأنصار النبيّ صلى الله عليه وسلم من القول الدال على عظيم استجابتهم لله ولرسوله عندما استشارهم صلوات الله وسلامه عليه فى غزوة بدر لما لاقوا العدو على غير ميعاد وغير استعداد فقد قام فيهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه خطيبا فقال: ((أشيروا على أيها الناس)) فقام الصديق فقال وأحسن القول، ثم قام عمر فقال وأحسن القول، ثم المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (3) لجالدنا معك دونه حتى تبلغه، ثم قام سعد بن معاذ فقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: ((أجل)) قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ فى الحرب، صدقٌ فى اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر على بركة الله، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((سيروا وابشروا فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم)) (4).
وإذا تأمل الانسان مساومة قريش لزيد بن الدثنة عندما أخرجته قريش من مكة لتقتله فى الحل بعد أن أسر هو وخبيب بن عدى يوم الرجيع رأى صلابة الصحابة فى الدين وحبهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولتملّكه العجب كما تملّك أبا سفيان بن حرب فإنه قال لزيد بن الدثنة عندما قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمداً عندنا الآن فى مكانك نضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وأنى جالس فى أهلي قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً (5).
أما خبيب بن عدي رضي الله عنه، فعندما أراد مشركوا مكة قتله سطر أبياتا تكتب بماء الذهب طلب منهم أن يصلى ركعتين فبعدما صلى، إلتفت إليهم وقال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد علي لأني في وصال بمضبع
وقد جمعوا أبنائهم ونسائهم وقربت من جذع طويل فمنع
الى الله اشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الاحزاب لي عند مصرعي
فيارب صبرني على ما يراد بي فقد بضعوا الحمى وقد يأس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هملت عيناني من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جسم نار ملفع
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان فى الله مصرعي
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ولست بمبد للعدو تخشعاً ولا جزعاً. إنى إلى الله مرجعي
وليس هذا التفانى والإخلاص أحرزه الرجال دون النساء والشبان بل كانوا جميعاً سواء، يتسابقون فى مرضاة الله ورسوله ويتهافتون على حياض الموت فى سبيل الله، ففى إثر وقعة أحد التي أثخنت جراحها المسلمين، وفقدوا عظماء فيها من كبارهم وفضلائهم مرّ سيد الأولين والآخرين بامرأة من بنى دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت: أرونيه حتى أنظر إليه فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة (1).
وأما بذلهم للمال والمتاع فلم تشهد الأرض فى مسيرة بنى آدم الطويلة عليها أن توارث قوم فيما بينهم من غير قرابة ولا رابطة دم وعن طواعية واختيار ورضى إلا فى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تتفجر ينابيع السخاء والكرم فى أمة من الأمم كما تفجرت فى جيل الصحابة الكرام الذين استظلوا براية الإسلام وشرفوا بتربية سيد الأنام ولذلك استحقوا ثناء الله عز وجل الذى تتلوه الألسنة على الدوام وعلى ممر السنين والأعوام والذين تبوء والدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [الحشر:9].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، واتباع سنة...
[1] أخرجه أحمد والبغوي في شرح السنة وهو حديث حسن.
[2] الكفاية للخطيب ص 49
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 3/228 ، ورواه الحاكم فى المستدرك 3/398 وقال عقبه صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، أسباب النزول للواحدى ص 39
(3) برك الغماد : موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلى البحر وقيل : بلد باليمن دفن عنده عبد الله بن جدعان التميمى القرشى " معجم البلدان " 1/399.
(4) السيرة النبوية لابن هشام 1/614 - 615 ، تاريخ الأمم والملوك 2/ 434 - 435 وأورده ابن الأثير فى الكامل 2/120 ، وابن كثير فى البداية والنهاية 3/287 - 288.
(5) السيرة النبوية لابن هشام 2/172 ، وانظر تاريخ الطبرى 2/542 ، أيام العرب فى الاسلام ص49.
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2/99 ، تاريخ الأمم والملوك 2/533.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن الصحابة الكرام رضى الله عنهم هم أعلام الفضيلة، ودعاة الهداية، الذين حملوا نور الإسلام فى أنحاء المعمورة وأنقذوا به البشرية من أغلال الوثنية، وأرسوا قواعد الحق والخير والعدل للإنسانية، نشروا كلمة الله حتى علت فى الأرض ورفرف علم الإسلام فى الآفاق ولقد بذلوا فى سبيل ذلك قصارى جهدهم، سهروا من أجل تبليغ كلمة الله ونشرها الليل والنهار دون ملل أو كلل بل كانوا كما أخبر الله عنهم فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما وضعوا وما استكانوا [آل عمران:146]. لم يميلوا إلى دعة ولا أخلدوا إلى راحة ولم تغرهم الحياة الدنيا بزخارفها، ضحوا بكل غال ورخيص لكى يخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
حرصوا رضى الله عنهم على ملازمة النبى صلى الله عليه وسلم حتى أخذوا عنه الكتاب والسنة واجتهدوا فى حفظهما وفهمهما فهماً متقناً، ثم بلغوهما إلى من جاء بعدهم كما تلقوهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل، فهم الواسطة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين من جاء بعدهم من الأمة، فمن قدح فى تلك الواسطة فقد قدح فى الدين، إذ القدح فى الناقل قدح فى المنقول ومهما مدح المادحون الصحابة الكرام رضى الله عنهم فإنه ضئيل إلى جانب ثناء الله ورسوله عليهم يكفيهم شرفاً وفخراً أن يكون الكتاب العزيز ناطقاً بجميل وصفهم وعظيم مدحهم، كما يكفيهم فخراً ورفعة أن يكون حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام مشيداً بتعداد محاسنهم، ومنوهاً بفضائلهم ومآثرهم إنه لا يعرف عظم قدرهم إلا من قرأ سيرتَهم وتابع أخبار حركتَهم ومسيرتَهم ومتى عرف الإنسان ذلك أدرك لماذا أثنى الله عليهم وزكاهم فى محكم التنزيل فقد عدلهم الله من فوق سبع سماوات، ووصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً [البقرة:143]. وقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110]. وقال عليه الصلاة والسلام فيهم: ((خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم... )) (3) وقال: ((لا تسبوا أصحابى فوالذى نفسى بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) (4) ، وبهذا فهم لا يحتاجون بعد شهادة الله والرسول لهم بالفضل والخيرية إلى ثناء أحد أو تزكية بشر إنهم جيل نصر وثلة خير وأئمة دعوة ولهذا كان من تقدير العزيز العليم ومن حكمة الله البالغة أن جعلهم أمناء على حمل الرسالة السماوية الأخيرة التى ختم الله بها الرسالات والتي أنزلها الله على محمد عليه الصلاة والسلام ليقوموا بمهمة الأنبياء فى التبليغ والأداء ورغم ما تبوأه جيل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من مكانة عالية ومقام رفيع فقد تعرض هذا الجيل فى القديم والحديث إلى حملات العداء والتشويه لتاريخهم وسيرتهم المشرقة ممن أصيبوا بالخذلان والزندقة فقد وقف منهم الرافضة والخوارج والنواصب وبعض المعتزلة موقفاً سيئاً فقد جعلوهم غرضاً لمطاعنهم القبيحة التى خالفوا بها وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ أنه وصى أمته أن يكرموهم ويحترموهم وحذرهم من التعرض لهم بالقول السيىء ولكنهم انقادوا للشيطان بزمام لم يوفقوا للاعتقاد السديد فيهم بل طعنوا فيهم وملأوا قلوبهم بالغل والكراهية لهم، ولم يوفق لمعرفة قدر الصحابة إلا أهل السنة والجماعة فلله الحمد والمنة فقد وفوهم حقهم من التكريم والإجلال، فقد كانوا موضع محبتهم واعترفوا بفضلهم ولا يذكرونهم إلا بالجميل والثناء الحسن فهم الذين انطبق عليهم الوصف الإلهى الكريم فى قوله: والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم [الحشر:10].
أيها الأحبة: سيكون بإذن الله عز وجل بعض خطب عن الصحابة رضي الله عنهم، وما هذه إلا مقدمة بين يدي هذه السلسلة، أسأل الله تعالى العون والتوفيق.
اللهم رحمة إهد بها قلوبنا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم صلِّ...
(3) صحيح البخارى 2/288 ، صحيح مسلم 4/1963.
(4) صحيح البخارى2/292 ، صحيح مسلم 4/1967 ، واللفظ له.
(1/945)
في موكب الصحابة – 2 – ثمامة بن أثال رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/8/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداء ثمامة لرسول الله والمسلمين في أول الدعوة 2- قصة أَسْر المسلمين لثمامة ثم
إسلامه وصدعه بالحق 3- وقَفَات من قصة ثمامة بن أثال
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
بدأنا في الجمعة الماضية بمقدمة عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرنا بكلام عام بعض مناقبهم وفضائلهم. وها نحن اليوم نقف مع أحد شخصيات الصحابة لنتعرف على قصته ولنستفيد منها بعض دروس وفوائد.
لقد بعث الله تعالى رسوله صلى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس فآمن به من آمن، وكفر به في بداية أمره الكثيرون، ووقفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن دعوته ودينه موقف العداء، ولكن مع مرور الأيام والشهور والأعوام كان الكثير من هؤلاء الكفار يدخلون في دين الله أفواجاً، ويتبين لهم الحق وتزول عنهم الغشاوة ويريد الله لهم الهداية. وقد يكون الواحد منهم في يومه عدواً لدوداً للإسلام والمسلمين، ثم يكون في غده شخصاً آخر، حين يسلم ويخالط الإيمان شغاف قلبه فإذا هو يناصر دين الله بكل ما أوتي من قدرة، وكان من بين هؤلاء أحد السادة الأعلام ممن هدى الله قلوبهم وأنار بصائرهم بعد طول عداء لدين الله، بل بعد أن كان لشدة بغضه وكرهه للإسلام يحاول أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسل ذلكم الصحابي هو ثمامة بن أثال رضي الله عنه، الذي كان سيداً من سادات بني حنيفة وملكاً من ملوك اليمامة، وكان في قومه لايعصى له أمر.
فلقد كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام فتلقى ثمامة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بالزراية والإعراض، وأخذته العزة بالإثم، فأصم أذنيه عن سماع دعوة الحق والخير، وزاد شره حتى قتل عدداً من المسلمين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه.
وبعد مدة ليست بالطويلة عزم ثمامة على أداء العمرة، وقد كان المشركون قبل البعثة يحجون ويزورون البيت لكن على الطريقة الشركية، وبينما كان في الطريق قريباً من المدينة إذا به يقابل سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسرته وهي لاتعرف أنه ثمامة، فوقع أسيراً في يد المسلمين، فأتوا به إلى المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، منتظرين أن يقف النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه على شأن الأسير الجديد، وأن يأمر فيه بأمره ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهمّ بالدخول إذا به يفاجئ بثمامة بن أثال مربوطاً في السارية، فقال للصحابة ممن حوله: ((أتدرون من أخذتم؟ " قالوا: لا يا رسول الله. فقال: هذا ثمامة بن أثال الحنفي فأحسِنوا أساره)). ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله وقال: ((اجمعوا ما عندكم من طعام وابعثوا به إلى ثمامة بن أثال)). ثم أمر بناقته أن تحلب له في الغدو والرواح وأن يقدّم إليه لبنها. وقد تم ذلك كله قبل أن يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم أو يكلمه.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على ثمامة يريد أن يستدرجه إلى الإسلام وقال: ((ما عندك ياثمامة؟ فقال: عندي يا محمد خير. فإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دمٍ، وإن تُنعِم تُنعِم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعْطَ منه ما شئت. فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم يومين على حاله، يؤتى إليه بالطعام والشراب، ويحمل إليه لبن الناقة، ثم جاءه فقال: "ما عندك ياثمامة؟" فقال: ليس عندي إلا ما قلت لك من قبل. فإن تُنعم تُنعم على شاكر وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان اليوم التالي جاءه فقال: "ما عندك ياثمامة؟" فقال: عندي ما قلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال أعطيتك منه ما تشاء)).
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: ((أطلقوا ثمامة)) ففكوا وثاقه وأطلقوه. فغادر ثمامة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى، حتى إذا بلغ نخلاً في حواشي المدينة قريباً من البقيع فيه ماء أناخ راحلته عنده، وتطهر من مائه فأحسن طُهوره، ثم عاد أدراجه إلى المسجد، فما إن بلغه حتى وقف على ملأ من المسلمين وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله. ثم اتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد. والله ما كان على ظهر الأرض وجهٌ أبغض إليّ، من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ، ووالله ما كان دين أبغض إليّ، من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، ووالله ما كان بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ. ثم أردف قائلاً: لقدكنتُ أصبت في أصحابك دما. فما الذي توجبه عليّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تثريب عليك ياثمامة. فإن الإسلام يجبّ ما قبله)). وبشَّرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير الذي كتبه الله له بإسلامه. فانبسطت أسارير ثمامة وقال: والله لأصيبنّ من المشركين أضعاف ما أصبت من أصحابك، ولأضعنّ نفسي وسيفي ومن معي في نصرتك ونصرة دينك. ثم قال: يارسول الله. إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة. فماذا ترى أن أفعل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((امض لأداء عمرتك، ولكن على شرعة الله ورسوله)). وعلمه ما يقوم به من المناسك.
مضى ثمامة إلى غايته حتى إذا بلغ بطن مكة رفع صوته بالتلبية قائلاً: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك. فكان أول مسلم على ظهر الأرض دخل مكة ملبياً. وما أن سمعت قريش صوت التلبية حتى هبت مغضبة واستلت السيوف من أغمادها لتبطش بهذا الذي جاهر بمخالفة دينها في عقر دارها. ولما أقبلوا عليه رفع صوته بالتلبية، فهّم فتى من فتيان قريش أن يرميه بسهم، ولكن كبار القوم أخذوا على يديه وقالوا: ويحك أتعلم من هذا؟ إنه ثمامة بن أثال ملك اليمامة. وإنكم إن أصبتموه بسوء قطع قومه عنا الميرة. ثم أقبلوا إليه بعد أن أعادوا السيوف إلى أغمادها وقالوا: ما بك ياثمامة؟ أصبوت وتركت دينك ودين آبائك؟ فقال: ما صبوت، ولكني اتبعت خير دين. اتبعت دين محمد صلى الله عليه وسلم ثم أردف يقول، أقسم برب هذا البيت إنه لايصلكم بعد عودتي إلى اليمامة حبةٌ من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا دين محمد عن آخركم. وبعد أن أدى ثمامة مناسك العمرة كما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى بلاده فأمر قومه بأن يحبسوا الميرة عن قريش، فصدعوا بأمره واستجابوا له، مما جعل الأسعار ترتفع في مكة، ويفشو الجوع ويشتد الكرب حتى خافوا على أنفسهم وأبنائهم الهلاك. عند ذلك كتبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: إن عهدنا بك تصل الرحم وتحض على ذلك.. وإن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا وأضرَّ بنا. فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث بما نحتاج إليه فافعل. فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يطلق لهم ميرتهم فأطلقها.
هذه صفحات من حياة ثمامة بن أثال رضي الله عنه. صفحة منها سوداء مظلمة، وذلك في أيام كفره وإعراضه ومحاربته للإسلام وأهله، وقتله لبعض الصحابة، ومحاولته قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفحات منها مشرقة مضيئة تبين حاله بعد أن هداه الله للإسلام، وصار أحد المنتسبين إلى هذا الدين، المحاربين لأعداء الله وأعداء رسوله ذَلِكَ فَضْلُ اْللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاْللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
اللهم يا حي يا قيوم ارض عن صحابة نبيك أجمعين. واجزهم عن هذا الدين وأتباعه خير الجزاء. وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وبعد هذا العرض السريع لجانب من قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه نريد أن نقف بعض الوقفات سائلين الله أن ينفعنا بما نقول وما نسمع إنه سميع مجيب:
الوقفة الأولى: هي أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فبينما ثمامة عدو من أشد الأعداء بغضاً وكرهاً لهذا الدين ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا به يصبح أحد أتباعه، وإذا بذلك الكره للدين ولرسوله ولبلده ينقلب حباً شديداً لايعدله حب، حتى قال ثمامة: يا محمد: والله ما كان على ظهر الأرض وجهٌ أبغض إليّ، من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليّ ووالله ما كان دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، ووالله ما كان بلد أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ.
ومن هنا نستفيد أن علينا ألا نيأس من هداية أيّ أحد مهما كان موغلاً في الفساد والإنحراف. فهداية القلوب بيد علام الغيوب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. من يهدي الله فهو المهتدي فالله تعالى هو الهادي هداية التوفيق والسداد. عليك أيها المسلم أن تبذل ما في وسعك في الدعوة والبيان. وليس عليك أن تهدي الناس. ولكن لا تقنط ولا تيأس. وأن أشد الناس عداوة لهذا الدين قد يصير أحد أتباعه المجاهدين في سبيله، كما حصل لثمامة بن أثال رضي الله عنه.
إذا رأيت إنساناً يقع في معصية ومنكر من القول أو الفعل ثم استعظمت ما هو واقع فيه، فلا تظننّ أنه لا يمكن أن يهتدي. بل الهداية له ممكنة إذا أراد الله له ذلك. ولهذا فعليك أن تدعوه وتناصحه فإن استجاب لك فقد حصل المطلوب، وإن لم يستجب لك فأجرك كامل غير منقوص ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء. إن واجبنا هو نصح الناس وإرشاد الناس وليست مهمتنا هو الحكم على الناس هذا شقي وهذا سعيد.
هذه إحدى الفوائد الجليلة من قصة ثمامة الذي كان يسعى جاهداً لإطفاء نور الإسلام، ولكنه بين عشية وضحاها يهتدي بهدي الله، ويدخل في هذا الدين القويم فرضي الله عنه وأرضاه.
الوقفة الثانية: هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عامل ثمامة بن أثال معاملة طيبة رغم ما صدر منه من جرم، حيث قتل بعض الصحابة الكرام شر قتلة. لقد بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ولم يجعله جباراً ولا متكبراً ولا حقوداً يحمل الضغينة بحيث لا يجد العفو والصفح إلى قلبه سبيلاً. كلا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك بل قد جبله الله على أكرم الصفات وأفضل الأخلاق وأحسنها. ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل ثمامة بن أثال لما كان عليه في ذلك لوم ولكنه صلوات الله وسلامه عليه كان يريد إيمان الناس واتباعهم للحق، ولهذا عامل ثمامة تلك المعاملة الطيبة. جمع مافي بيوت أزواجه من طعام وأرسله إلى ثمامة، وأمر بناقته أن تحلب ويقدم لبنها لثمامة غدوًّا وعشيّا، ثم بعد ذلك مَنَّ عليه وأطلقه دون فداء. فكان لهذه المعاملة الرائعة أثرها الفعال، مما جعله الله سبباً لهداية ثمامة إلى الإسلام.
فهل نجعل من شعارنا أن نعامل الناس بلطف وبخلق حسن لعل في هذا ما يجعل غير المسلم يسلم، وما يجعل العاصي يكف عن معصيته، وصاحب المنكر قد يستحي ويدع منكره؟
وإذا كان عندك أيها المسلم عمّال أو خدم غير مسلمين، فهل خطر ببالك يوماً من الدهر أن تحسن معاملتهم لعل في هذا مايدفعهم إلى الدخول في هذا الدين؟ علماً بأن الأصل ألا تأتي إلا بعمّال وخدم وسائقين مسلمين حتى لا يكون عليك وزر من أدخل المشركين في جزيرة العرب، وأظنك تعلم نهي النبي صلى الله عليه وسلم من أن يجتمع في جزيرة العرب دينان. ولكن وقد فعلت المنهي عنه وأتيت بهم، فلا أقل من أن تدعوهم إلى الإسلام، ولن تدعوهم إليه بأفضل من القدوة الصالحة والتعامل الطيب، فتدعوهم بأفعالك قبل أن تدعوهم بأقوالك.
هذا بعض ما يؤخذ من قصة ثمامة بن أثال رضي الله عنه. والله المسؤول بمنه وكرمه أن يهدينا سبل الرشاد. وأن يجمعنا بالصحابة الكرام في جنة الفردوس.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام وفقنا لما تحبه وترضاه وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم اهدنا سبل الرشاد. اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين يا رب العالمين.
اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان...
عباد الله:
صلوا وسلموا على النبي المصطفى الأمين المبعوث رحمة للعالمين. خير البرية وأزكى البشرية.. فقد أمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اْللهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اْلنَّبِيِّ يَأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/946)
مشاهد الاحتضار
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/1/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الموت نهاية حتمية لكل البشر 2- اختلاف أحوال ومواقف الناس حال الاحتضار
3- نماذج من مشاهد احتضار بعض السابقين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام ويقول سبحانه: كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون.
الموت أيها الأحبة مصير كل حي، الموت نهاية كل إنسان في هذه الدنيا، الموت الذي لايفرق بين صغير وكبير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين شريف ووضيع كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور الموت الذي يفر منه الجميع وهو يطلبهم قل ان الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.
أيها المسلمون: الموت باب مفتوح أمام كل منا سيلجه، ومركب حتماً سيركبه، ومشهد عظيم سيشهده، لامفر له منه، ولا محيد له عنه، إيمان يقيني قائم بذلك في النفوس، ووراقع مسشهود محسوس ملموس.
أمامنا أيها المؤمنون مشهد الاحتضار الذي ينتظر كلاً منا بلا موعد ولا خيار وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت مشهد الاحتضار عباد الله وُصف في كتاب الله بقوله: كلا اذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أيحسب الإنسان أن يترك سدى.
الموت الذي لم ينج منه نبي مرسل ولا عبد صالح وقال سبحانه لخير خلقه إنك ميت وإنهم ميتون.
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حُط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشيب
عباد الله: إن الموت لاخلاف فيه ولا ينكره أحد منا، وليست هذه قضيتنا، لكن قضيتنا ماهي مواقف الناس عندما يحل بهم الموت، هل يستوون؟ الجواب: إنهم لايستوون، إن بين الناس في مشاهد الاحتضار مشاهد شتى ومواقف مختلفة، فمنهم من يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت فيقال له: كلا.
ومنهم من يقول: لولا أخرتني الى أجل قريب فيجابُ بـ ولن يؤخر الله نفساً اذا جاء أجلها.
ومنهم من يرد عليه ويذكّر بالعمر المديد والزمن الطويل الذي عاشه ولكنه لم ينتفع به ولم يزده طول العمر إلا بعداً عن الله فيقال له: أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير.
ومنهم من يقول: يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنتُ من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين فيجاب هذا الإنسان على هذه الطلبات المتعددة والمتنوعة بقوله تعالى: بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لايمسّهم السوء ولا هم يحزنون. نعم أيها الأحبة تتباين مواقف الناس، وتختلف مواقف الناس في مشاهد الاحتضار أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لايستوون.
وإليكم أيها الأحبة نماذج من مشاهد احتضار من سبقونا ونقل إلينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من سلف هذه الأمة، ممن هم أكمل الناس إيماناً وأكثرهم عملاً وجهاداً، ننظر في مشاهد أولئك القوم وكيف كان الواحد منهم يخرج من هذه الدنيا ويدخل عالم الآخرة، وبأي نفسية وشعور كان احتضارهم ثم نقارن بين حالهم وحالنا، والله المستعان.
عن أبي ظبية قال: مرض عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فعاده عثمان وقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لاحاجة لي فيه.
من الذي يقول هذا؟ يقوله ابن مسعود حبر الأمة، الذي قال فيه عمر: "كُنيفٌ ملئ علماً" أي وعاءً مملوءاً علماً، ابن مسعود الذي كان يدعو في صلاته ويقول: يا رب خائف مستجير، تائب مستغفر، راغب راهب، ابن مسعود الذي إذا سمع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. تصيبه رعدة ووجل وخوف، كان إذا نام الناس وهدأت العيون وغطى ثوب الليل المدينة، قام يصلي ويُسمع له دويٌ كدويّ النحل، هذا هو ابن مسعود، في لحظة مرضه وفراقه للدنيا يشتكي ذنوبه، كم هو الفرق بين ذنوب عبدالله بن مسعود وذنوب من بعده، ومع ذلك لانتعظ ولا نخشى من ذنوبنا، ويمشي الواحد منا على الأرض وكأنه من أهل الجنة.
وعن ثابت البناني قال: لما مرض سلمان الفارسي رضي الله عنه، خرج سعد من الكوفة يعوده، فقدم فوافقه وهو في الموت يبكي، فسلم وجلس وقال: ما يبكيك يا أخي؟ ألا تذكر صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تذكر المشاهد الصالحة؟ قال: والله ما يبكيني واحدة من اثنتين، ما أبكي حباً في الدنيا، ولا كراهية للقاء الله قال سعد: فما يبكيك بعد ثمانين؟ قال: يبكيني أن خليلي عهد إلي عهداً فقال: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب، وإنّا قد خشينا أنا قد تعدينا.
فتأمل: سلمان يقول: إنّا قد خشينا أنا قد تعدينا.
يا عجباً لك يا سلمان، وما عساك أن تكون قد تعديت يا سلمان، في مقابل من تعدى ممن جاء بعدك. سلمان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((سلمان منّا آل البيت)) ، يقول عن نفسه أنه تعدى، فماذا يقول من تعدى حقيقة على أموال الناس بنهبها، وأعراض الناس بانتهاكها، وحريات الناس بكتمها، ومعتقدات الناس بإفسادها، وتصورات الناس بتشويهها. الصادقون أمثال سلمان يراقبون تصرفاتهم على مقتضى النصوص الشرعية ويتألمون هل تعدوا، هل قصروا، هل بدّلوا وغيّروا.
ثم ماذا قال سلمان بعد هذا: نادى زوجته فقال لها: افتحي هذه الأبواب فان لي اليوم زوّاراً لا أدري من أيّ هذه الأبواب يدخلون عليّ. ثم دعا بمسك وقال: ضعيه في تور ثم أنضحيه حول فراشي، تقول فاطّلعت عليه فإذا هو قد أُخذ روحه، فكأنه نائم على فراشه، رضي الله تعالى عنه ورحمه.
وكان سلمان يقول: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني، وثلاث أحزنتني حتى أبكتني. أما الذي أعجبني حتى أضحكني: فمؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك ملئ فيه ولا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راضٍ عنه. وأما الذي أحزنني حتى أبكاني: ففراق محمد صلى الله عليه وسلم والأحبة، والوقوف بين يدي الله تعالى، ولا أدري أيُذهب بي إلى جنة أم إلى النار.
وعن ابن أبي مليكة أن ذكوان أبا عمرو حدثه قال: جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن عائشة رضي الله عنها وهي في الموت، قال: فجئت وعند رأسها عبدالله بن أخيها عبدالرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن، قالت: دعني من ابن عباس لاحاجة لي به، ولا بتزكيته، فقال عبدالله: يا أُمّه، إن ابن عباس من صالحي بنيكِ، يودعُكِ ويسلم عليك، قالت: فأذن له إن شئت، قال: فجاء ابن عباس فلما قعد قال: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصبٍ، وتلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة، إلاّ أن تفارق روحَكِ جسدكِ. قالت: إيهاً يا بن عباس. قال: كُنتِ أَ حب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب إلا طيبا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله: فتيمموا صعيداً طيباً فكان ذلك من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة، ثم أنزل تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجد من المساجد يذكر فيها الله، |لا براءتك تتلى في آناء الليل والنهار، قالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسياً منسياً.
هذه أم المؤمنين عائشة بنت صديق هذه الأمة تقول: دعني عنك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسياً منسيا.
دعني عنك يا ابن عباس لاتعدد فضائلي، ولا تعدد مناقبي، اليوم أقدم على ربي، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمن، يرى أن ما قدمه وبذله – إن كان قد بذل شيئاً – يرى أنه لا شيء، ولهذا كانت تقول عائشة دعني عنك يا ابن عباس، فلوددت أني كنت نسياً منسيا، ليتني لم أخلق، وليتني لم أوجد. أين عائشة بفضائلها الذي ملأ ما بين السماء والأرض، وبين من إذا أحسن مرة في عمره، تمنى على الله الأماني، ورأى أنه أتى بشئ لم يأت به الأوائل، فهل من وقفة محاسبة أيها الأحبة، قبل أن نوقف ونحاسب، وهل من استدراك لما بقي على ما مضى.
وهذا بلال رضي الله عنه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما حضرته الوفاة صار يقول وهو يحتضر: غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه. هذا هو الذي غلب عليه وهو يحتضر، وهذا الذي كان يسيطر على مشاعره بعد أن فارق حبيبه صلى الله عليه وسلم فاشتاق الى لقائه، لقد اشتاق المؤذن الى الإمام، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. فصرخت امرأته وكانت بالقرب منه: واويلاه، تقول ذلك لمصيبتها في فراق زوجها، وهو يقول: وافرحاه، وافرحاه. إنه فرح حقيقي بقدوم الموت، إنه اشتياق حقيقي للقاء الأحبة ولقاء الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونفسه تغرغر وهو يقول: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه. لقد مات بلال سنة 20 للهجرة، أي بعد إمامه بتسع سنوات، تسع سنوات على فراق المصطفى صلى الله عليه وسلم وحرارة الشوق لم تبرد، بقي طوال هذه المدة وحياته اليومية على السنة التي تعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم لم يغيّر قيد أنملة، ولهذا كان ذلك الاشتياق. أين العبد الذي يعمر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حياته اليومية ويتمثل بالسنة لايغيّر ولا يتغير، إن هذا العبد سيقول بلا ريب مثل ما قال بلال: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه جزع جزعاً شديداً عند الموت، فقال له ابنه عبدالله: ما هذا الجزع وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك، قال: أي بني، قد كان ذلك، وسأخبرك: أي والله ما أدري أحباً كان أم تألفاً، ولكن أَشهد على رجلين أنه فارق الدنيا وهو يحبهما، ابن سمية، وابن أم عبد. فلما جدّ به وضع يده موضع الأغلال من ذقنه وقال: اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك. فكانت هذه كلماته رضي الله عنه وهو يشهد الاحتضار حتى خرجت روحه وفارق الدنيا رضي الله عنه وأرضاه. اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك.
ونحن أيضاً ينبغي علينا أن نقول: اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا الا مغفرتك. اللهم أمرتنا بالجماعة فتركنا، أمرتنا بالصدقة فتركنا، أمرتنا بالجهاد فتركنا، أمرتنا بالطاعات فقصرنا، أمرتنا بالحقوق فعطلنا. ونهيتنا فركبنا، نهيتنا عن أكل الحرام فأكلنا، ونهيتنا عن الربا فتعاطينا، ونهيتنا عن المعاصي ففعلنا، ونهيتنا عن الغش فتعاملنا، ونهيتنا ونهيتنا ونهيتنا فما سمعنا وما أطعنا. ولا يسعنا إلا مغفرتك، ولا يسعنا إلا عفوك ورحمتك، ولا يسعنا إلا سترك وعافيتك.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يفرح بلقاءك وينعم بعطائك، وممن يصحب في الدارين أولياءك يارب العالمين.
أقول هذا القول...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
ومن عجب أخبار القوم ما روي عن النزّال بن سبرة قال: قلت لأبي مسعود الأنصاري ماذا قال حذيفة بن اليمان عند موته؟ قال: لما كان عند السحر قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار ثلاثاُ ثم قال: اشتروا لي ثوبين أبيضين فإنهما لن يتركا عليّ إلا قليلاً حتى أُبدل بهما خيراً منهما، أو أُسلبهما سلباً قبيحا.
ومثله أبوهريرة، بكى في مرضه فقيل له ما يبكيك قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بُعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعود، ومهبطه على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يُؤخذ بي.
ولما احتضر معاوية بن أبي سفيان قيل له ألا توصي؟ فقال: اللهم أقل العثرة، واعف عن الزلة، وتجاوز بحلمك عن جهل من لم يرجُ غيرك، فما وراءك مذهب، ثم قال:
هو الموت لامنجى من الموت والذي نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ولما احتضر الأسود بن يزيد، بكى فقيل له ما هذا الجزع؟ فقال: مالي لاأجزع، والله لو أُتيت بالمغفرة من الله لأهمّتني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحياً منه.
ولما احتضر عبدالرحمن بن الأسود بكى، فقيل له فقال: أسفاً على الصلاة والصيام ولم يزل يتلو حتى فاضت روحه.
أسفاً على الصلاة والصيام، هذه الصلاة التي طالما ضيعناها وفرطنا فيها وقصرنا، أولئك القوم كانوا يتأسفون عند موتهم فقدها، والله المستعان والى الله المشتكى وعليه التكلان ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
وروى المزني قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولسوء عملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا، وعلى الله واردا، ولا أدري أروحي تصير الى الجنة فأهنيها، أم الى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:
ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني بعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما
أيها الأحبة: إن أخبار القوم لاتنتهي، وكل واحدة أعجب من أختها، وما ذاك الا أنهم كانوا يستشعرون التقصير حقيقة، إنهم كانوا يبكون مفارقة الطاعات، وانقطاع الحسنات، وبقاء السيئات، ولولا خشية الاطالة لنقلت لكم عجباً وأي عجب.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى، ما هذه القصص عرضت لنقل الغرائب والعجائب من حياة أولئك، لكنها نقلت للعبرة والعظة، فاختاروا لأنفسكم أيها الأحبة طريقاً بيناً وصراطاً مستقيماً، تحيون عليه في دنياكم حتى تلاقوا ربكم وهو راضٍ عنكم، وينالكم البشر والسرور عند الاحتضار كأخبار أولئك القوم، ويتحقق لكم قول الله تعالى: ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون.
(1/947)
معادن الناس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, قضايا دعوية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/8/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المقياس الحقيقي في التفاضل بين الناس 2- اهتمام القرآن بذكر معادن وكذلك السلف اعتنوا
بذلك من أجل التثبّت من نقل الأخبار 3- آثار تظهر على الجوارح يُعرف من خلالها معادن
الناس 4- فئات المجتمع المسلم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
روى البخاري في صحيحه حديث الصحابي الجليل، أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: ((أكرمهم: أتقاهم. قالوا: يا نبي الله، ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبيُّ الله، ابن نبيَّ الله، ابن نبي الله، ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: أفعن معادن العرب تسألونني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية، خياركم في الإسلام إذا فقهوا)). هذا الحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام ، ولنا وقفة، مع معادن الناس خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
المعدن: هو الشيئ المستقر في الأرض، وكلنا يعلم بأن المعادن منها النفيس ومنها الخسيس وكذلك الناس معادن، فمن الناس من معدنه نفيس، ومن الناس من معدنه خسيس. والنفاسة والخسة في معادن الناس، لا علاقة لها بالنسب والحسب والقبيلة والدولة. وإنما نفاسة الناس وخستهم ، بحسب ما معهم من التقوى والدين والخوف من الله، والالتزام بأحكام الإسلام، وبما اتصفوا به من محاسن الأخلاق، وكرائم الفضائل من العفة والحلم والمروءة، وغيرها من الصفات الحميدة، ((فمن بطئ به عمله لم يسرع به نسبه)). وإن أكرمكم عند الله أتقاكم. فالقضية ليست لأنك من البلد الفلاني، أو النسب الفلاني، وإنما القضية ما مدى قربك وبعدك عن أوامر الله. روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما تقولون في هذا؟ قالوا: حرىّ إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يُسمع. قال ثم سكت. فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حرى إن خطب ألا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يُستمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملئ الأرض مثل هذا)).
أيها المسلمون: قد يعترض شخص ويقول: لماذا تصنفون الناس، ونحن نعلم بأن تصنيف الناس أمر مذموم؟ فيقال: على حسب التصنيف فإن كان على أساس البعد والقرب من أحكام الله ورسوله، فنعم التصنيف حينئذٍ، إما إن كان على اعتبار النعرات الجاهلية القبلية، فبئس التصنيف عندئذ.
إنك لتجد الآيات الكثيرة في كتاب الله، صنف الناس، وفرز معادنهم على الأساس الأول فسورة البقرة مثلاً، وهي أكبر سور القرآن، بدأت بتقسيم الناس إلى ثلاث فئات: فئة تؤمن بالله، وأخرى كافرة، وثالثة جائرة مترددة مخادعة، عظيمة الخطر، أطال الكلام عنها لخطورتها، وهم المنافقون. فهذا تصنيف وتقسيم للناس، وفرز لمعادنهم. بل وأنت تمضي في تلاوة آيات السورة نفسها، تجد معادن الناس: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله. ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق وهكذا.
بل لو تأملت في سورة براءة تجد أيضاً تقسيم الناس على هذا الأساس وتجد معادنهم فمنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ومنهم من يلمزك في الصدقات.
و منهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر. ومن الأعراب منافقون ، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق. وكل هذا ذكر لمعادن الناس بحسب قربهم وبعدهم عن دين الله جل وتعالى. بل إن الله سبحانه وتعالى زاد الأمر إيضاحاً في بعض النوعيات من المعادن. فذكر أن من الناس من معدنه معدن الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون.
ومن الناس ، من معدنه معدن الحمار: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين.
أيها المسلمون: إن معرفة معادن الناس، أمر مهم ، وليس هو من فضول المعرفة، بل إنه يتعين على الدعاة خاصة والمصلحين والمربين، معرفة هذه المعادن وإلا فكيف يريدون أن يتعاملوا مع أناس يجهلونهم، وكيف تريد أن تربي وأن تصلح وأن تنتقل من مرحلة لأخرى، مع أناس تجهل معادنهم، فمعرفة أحوال الناس وأصناف الرجال وطبائعهم وأخلاقهم، من المعاني المطلوبة شرعاً لو كان القصد منها الإصلاح والدعوة، وما كتب الرجال وتراجمهم، ومصنفات الجرح والتعديل إلا كلام في معادن الناس، وقد اهتم السلف بهذا الجانب من أجل حفظ الشريعة. والتوثق من نقل الأخبار والآثار وبذلك ميزوا لنا صحيحها من سقيمها.
عباد الله: إن هناك آثاراً تظهر على الجوارح والأبدان، يمكن من خلالها معرفة معادن الناس، ومراتب الرجال. وهذا على الأغلب صحيح أن النوايا لها دور بارز في هذا، لكن النوايا علمها عند المطلع على النوايا، أما نحن فليس لنا إلا الظاهر. فنقول: بأن من غلب عليه آثار الخوف، كالبكاء مثلاً إذا سمع آيات ونصوص الوعيد، فهو من الخائفين بمعنى أن هذه العلامة أو هذا الأثر الظاهر على جوارحه وهو البكاء، عند سماع الوعيد يدل في الغالب على أنه من الخائفين، وإن كان تصنّع هذه الحالة، يمكن أن يحسنها البعض في بعض المواقف. ومن غلب عليه السرور والاستشعار والفرح عند سماعه لنصوص الوعد، فاعلم أنه من الراجين. ومن غلب عليه بغض الصحابة وشتم أبي بكر وعمر والطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فاعلم أن معدن هذا الرجل، معدن خسيس، باطن، مناوئ لأهل السنة بل من المعادين لهم. ومن غلب عليه محبة العلم والعلماء، وغلب عليه الحرص على كتب العلم والقراءة والإطلاع وحضور الدروس والمحاضرات، واستغلال الأوقات في هذا المجال، فاعلم أنه طالب علم. ومن غلب عليه انتقاص العلماء، وعيب الدعاة، والطعن في أعراض المؤمنين، وذم الصالحين، وتتبع عوراتهم، حتى أنه لم يسلم منه حتى الميتين، فاعام أنه منافق، محارب للدعوة مبغض لحزب المؤمنين.
ومن غلب عليه العمل بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتزم بما يدعو إليه، وتكلف تبعة دعوته، فاعلم أنه من الدعاة المخلصين العاملين، الذين يهمهم قضايا المسلمين. يفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، وهؤلاء بإذن الله تعالى، هم الذين يحبون سيرة السلف الصالح أمثال سعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام وعبد الله بن المبارك، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. وهؤلاء هم الذين سيعيدون بإذن الله للأمة مكانتها، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوله. إن هؤلاء هم الذين ثبتوا على المنهج فكانوا كما وصفهم الله تعالى بقوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. إن أمثال هؤلاء ينبغي أن تمد لهم الأيدي لأنهم أمل الأمة بعد الله، وهم نجدتها، وإن كانوا في هذه الفترة أعز من الياقوت الأحمر. نخلص من هذا أيها الأحبة، بأن هناك بعض الآثار وهناك بعض المظاهر إذا ظهرت على الشخص فإنه في الغالب يدل على معدنه. وما ذكرته أمثلة وإلا فأصناف المعادن أكثر من هذا: ففتش في نفسك يا عبد الله أي الآثار التي ذكرت يغلب عليك، لأن بعضها قد يحدد دخول الإنسان ملة الإسلام أو خروجه منه.
ثم إن معرفة هذه الآثار مهمة، والتنبيه عليها وإعطاء بعض الأمثلة مهم من جهة الأفراد أنفسهم لأن الشخص قد يظن أنه على الجادة وهو في الحقيقة منحرف عنها. فكم من عاصي يظن أنه مطيع، وكم من بعيد يظن أنه قريب. ومن مخالف يعتقد أنه موافق ومن منتهك يعتقد أنه متمسك، ومن مدبر يعتقد أنه مقبل، ومن هارب يعتقد أنه طالب ومن جاهل يعتقد أنه عارف، ومن آمن يعتقد أنه خائف، بل كم من مراءٍ يعتقد أنه مخلص ومن ضال يعتقد أنه مهتد، ومن أعمى يعتقد أنه مبصر. والشرع أيها الأحبة هو الميزان، يوزن به معادن الرجال. وبه يتبين النفيس من الخسيس فمن رجح في ميزان الشرع كان من أولياء الله وتتفاوت مراتب الرجحان. ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك هم أهل الخسران، وتتفاوت أيضاً دركات خفتهم في الميزان.
فنسأل الله جل وتعالى بأسمائه أن يهدينا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها.
أقول هذا...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن معادن الناس التي تتالف منها مجتمعات المسلمين اليوم خاصة، تتكون من ثلاث فئات من الناس، ولا يمكن أن يخرج فرد من الأفراد عنها بحال وهذه الفئات هي:
1 - الفئة المصلحة الداعية إلى الخير.
2 - الفئة المفسدة الداعية إلى الشر.
3 - فئة الأتباع والمقلدة.
ولا يمكن لأي فرد منا إلا وهو واقف تحت مظلة، من هذه المظلات الثلاث.
أما المعدن الأول: وهم الفئة المصلحة الداعية للخير فهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً ، وأثراً على الناس، وأنبلهم غاية وأسماهم هدفاً، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين. وهم الذين عناهم الله في قوله: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين وهم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)). هذا المعدن، هو أشرف المعادن بحق، كيف لا، وهم يحملون أعظم رسالة، وأنبل غاية ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين. وإخراجهم بإذن الله من ظلمات شهوة الحيوانيين وشبهات العلمانيين إلى نور الهداية والدين. كيف لا يكون معدن هؤلاء أنفس معدن، وهم الذين يضحون بأوقاتهم وأموالهم وراحاتهم، في سبيل إنقاذ الناس من عذاب الله تعالى في الدنيا، وعذابه الأليم في الآخرة. لاشك أن هذا الصنف من أنفس المعادن.
المعدن الثاني: الفئة المفسدة الداعية إلى الشر والصادة عن الخير، وهؤلاء هم سفلة المجتمع وهم أراذل الناس وهم أخس المعادن، لأنهم خانوا ربهم وخانوا أمتهم، وظلموها وعرضوا الناس للشقاء والنكد في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
إن هذه الفئة هي التي تحارب الدعوة، وهي صاحبة المكر والكيد، لكنهم مساكين لأن الله تعالى يقول في نهاية الآية: وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون إن الذي يكره انتشار الخير - ويبغض أهله، وينشر الفساد، ويصد عن سبيل الله، إنما هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. وما الحياة عنده إلا هذه الدنيا فهو يسعى ليجمع ويظلم ويبطش. فهذا كافر مرتد قولاً واحداً. وإما أن يكون ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، لكن الدنيا بزخارفها ومناصبها أسكرت عقله، وغطت لبه فأصبح في قمة الغفلة، حتى استمرأ الفساد وصارت الدنيا أكبر همه، يلهث وراءها، ويجمع حطامها ولو كان عن طريق الفساد والإفساد، فهذا يؤمن بالآخرة لكن لا عقل له. كما أن الأول لا إيمان له وقد يخسر إيمانه في النهاية. وما علم هؤلاء بأن العاقبة للمتقين، وبأن المستقبل للإسلام، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
المعدن الثالث: فئة الأتباع وعامة الناس وهم الذين لم يصلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة، ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة، إنما هي بين الفئتين، ولديها الاستعداد للخير الذي تدعوا إليه الأولى، كما أن لديها الاستعداد لتلقي الشر والفساد الذي تسعى لنشره الفئة الثانية. وهذا يؤكد عليكم يا أهل الخير، ويا شباب الدعوة، ويا بغاة الإصلاح، يؤكد أهمية الدعوة إلى الله، وقطع الطريق على الفئة المفسدة حتى لا ينحرف الناس عن الجادة. والملاحظ أن هذه الفئة هي السواد الأعظم من المسلمين. ولهذا يقوم التدافع بين عناصر المعدن الأول وعناصر المعدن الثاني على الفئة الثالثة، وهو ما يسمى بالصراع بين الحق والباطل قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين. فينبغي على الفئة الأولى أن تجتهد في الخير وأن تسعى في نشره بكل وسيلة، وأن تأتي بالجديد المرغّب، لكسب أكبر عدد من الفئة الثالثة.لتندحر المعادن الخسيسة، وتدخل في جحورها، وهي خاسئة مندحرة بإذن الله عز وجل. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/948)
والله يعلم المفسد من المصلح
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/2/1416
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الله تعالى خلق الإنسان من أجل الصلاح والإصلاح ولا يمكن أن يجتمع الإصلاح مع
الإفساد إلا وحصل بينهما التدافع 2- أن الصلاح والإصلاح ليست دعوى مجردة بل لابد أن
يوجد ما يُثبتها من العمل وأن الله تعالى يعلم المفسد من المصلح 3- أن الإصلاح يشمل جميع
جوانب الحياة ولا يقتصر على جانب دون آخر 4- بعض صفات المصلحين وبعض صفات
المفسدين 5- أن الإصلاح واجب كل مسلم على حسب حاله 6- الرد على شبهة " أصلح نفسك
أولاً ثم ابدأ بعملية الإصلاح في المجتمع "
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله جل وتعالى أوجدنا في هذه الأرض لكي نسلك طريق الإصلاح ونبتعد عن طريق الفساد والإفساد. بل وأمرنا جل وتعالى أن نكون من المصلحين تبعاً لمنهج وطريقة الأنبياء والمرسلين. فشعيب عليه السلام قال لقومه: إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. وصالح عليه السلام قال لقومه: ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين. ثم ان الله جل وعز نهى عن الفساد في الأرض فقال تعالى: ولا تعثوا في الأرض مفسدين وأخبر أنه لا يحب الفساد فقال: والله لا يحب الفساد وقال سبحانه: ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين. ولهذا لا يمكن أن يجتمع الصلاح والفساد في إناء واحد، ولا يمكن أن يوجد المصلح والمفسد في مكان واحد إلا وحصل بينهما التدافع أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كا لمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار. فسبيل المصلحين معروف وسبيل المؤمنين المتقين معروف، كذلك سبيل المجرمين وسبيل المفسدين معروف. لأن الإصلاح ضد الإفساد، والفطر والعقول السليمة تميز ذلك، ولا يمكن أن يلبس على الناس الإصلاح والإفساد وإن حاول ذلك بعض الأغبياء.
أيها المسلمون: إن من عجائب هذا الزمان، محاولة المفسد أن يلبس ثوب المصلح، الرجل الذي عرف بالفساد وتاريخه معروف للجميع، الصغير والكبير كل يعرفه، وله مواقف سيئة في طريق الإصلاح، سواء كانت ظاهرة أم خفية بحسب ظنه هو، هذا الرجل يريد أن يلبس الآن ثوب المصلح، ويظهر نفسه أمام الناس أنه المصلح، وأنه يحب طريق الإصلاح وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم المفسدون ولكن لا يشعرون. بل والأعجب من هذا أيها الأحبة والأقبح، أن يتهم المفسد المصلح أنه يريد الإفساد في الأرض وهذه تهمة قديمة جداً، وحيلة قد عفى عليها الزمن لكن لغباء المفسدين، مازالوا يستخدمونها. إن تاريخ هذه التهمة يرجع إلى أمام المفسدين فرعون مصر الذي كان يتهم موسى عليه السلام بذلك، وكان يحاول أن يقنع قومه عبر أجهزة إعلامه بذلك، فكان يقول: إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد فرعون كان يخاف وكان حريصاً على الدين، فرعون كان يتهم موسى بأنه يظهر في الأرض الفساد، لذا كان يريد هو أن يحمي مجتمعه من فساد موسى على حد قوله. فالطريقة الوحيدة لحفظ المجتمع هي القتل، وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد إلى أن قال فرعون بعد هذه الآيات وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب. وهذه هي نهاية كل مفسد، يريد أن يقف في وجه الإصلاح، بل إن أمره لابد أن ينكشف ويظهر. والله جل وتعالى يقرر في آية من كتابه قاعدة عظيمة جليلة في هذا الباب فيقول عز شأنه: والله يعلم المفسد من المصلح قال ابن كثير رحمه الله: أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح.
فليعلم أهل الإفساد بأن أمرهم مكشوف، وأن الله جل وتعالى عليم بهم كما قال سبحانه: فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين. بل إن الله جل وتعالى قرر في كتابه بأن عمل المفسدين، وتخطيطاتهم، وتدبير اتهم، سيبطله جل وتعالى، وأنه لا يمكن أن يوفقهم إلى عمل، فقال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين.
أيها المسلمون: إن الإصلاح عملية شاملة واسعة، لا تحدها حدود، ولا تقف في وجهها سدود، إن مساحة الإصلاح مساحة عريضة واسعة، لا يمكن بأي حال من الأحوال، قصرها على جوانب معدودة، لذا فإن الذي نذر نفسه أن يكون من المصلحين، هذا الإنسان، الله جل وتعالى أعطاه كامل الصلاحيات بالإصلاح في كل باب، بشرط أن يكون أهلاً لذلك الباب عالماً الشريعة ما يحتاجه ذلك الجانب، فلا يحق لأحد أياً كان موقعة أن يقول للمصلح: إن هذا لا يعنيك، وإن إصلاحك ينبغي أن يقتصر على كذا وكذا، فالإصلاح عملية متكاملة تدخل جميع جوانب الحياة. ومن خلال هذا الأصل، نعلم بأن تصغير مساحة الإصلاح، عملية غير شرعية، بل هي منافية لشمولية الإسلام، وأيضاً تهميش أدوار المصلحين، أو قصر أدوارهم على جوانب معينة، كل هذا يخالف الإسلام الذي أمر الله به، والذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. إن تحديد الدور أو تحديد الإطار الذي يتحرك ويتكلم ويكتب فيه المصلح عمل يتنافى ويتعارض مع شمولية الشريعة الربانية، وأكبر شاهد على ذلك من هم في قمة هرم الإصلاح ومن هم رؤوس المصلحين وهم أنبياء الله ورسله، وفي مقدمتهم إمام المصلحين نبينا محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فإن عملية الإصلاح التي قام بها بل ودعا أتباعه أن يقوموا بها من بعده، شملت كل جانب ودخلت كل شيء، بدءاً بالتوحيد ومحاربة الشرك والوثنية القرشية، ومروراً بالعبادات والأسس والقواعد الشرعية، وقواعد الحكم وأسس بناء الدولة، وانتهاء بكل جوانب الأدب والأخلاق والمعاملات، فلم يدع شاردة ولا واردة مما يمس حياة الناس الخاصة والعامة، الفردية والجماعية القريبة والبعيدة الداخلية والخارجية، إلا وشملها عملية الإصلاح وتكلم عنها محمد صلى الله عليه وسلم بل ومارسها بالحياة الواقعية، على نفسه وعلى غيره سواءً كانوا أفراداً أو مجتمعات أو دول أخرى كانت تناطح صخرة الإسلام ثم جاء من بعده خلفاؤه الراشدون، وساروا على نفس سيره،ونهجوا نفس نهجه ثم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، نراهم ونقرأ سيرهم وأخبارهم على مر التاريخ، وهم يمارسون العملية الإصلاحية، تكلموا في كل باب، وألفوا في كل فن، بل ومارسوا حياتهم الإصلاحية بكل شمول ولم تكن عندهم بدعة محدودية العملية الإصلاحية، ولا بدعة تهميش الأدوار، بل لم يكونوا يعرفون من إسلامهم إلا العموم والشمول والتكامل. قال تعالى: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون. يقول جل وتعالى: فلولا كان من القرون ، أي فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ماذا يعمل هؤلاء، وماهي وظيفتهم؟ ينهون عن الفساد في الأرض، ينهون عما كان يقع بينهم ممن الشرور والمنكرات والفساد في الأرض، إلا قليلاً:أي أنه قد وجد نماذج من هؤلاء المصلحين لكنهم قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه، وفجاءة نقمته، إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ولهذا أمر الله جل وتعالى هذه الأمة أمراً أن يكون شعارها وعملها ووظيفتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالإصلاح والنهي عن الإفساد، سلوك ودعم ومساندة طريق المصلحين، ومنع وتقليل وإزالة طرق المفسدين، فقال عز وجل: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وفي الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب)) ثم قال تعالى: واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه. أي استمروا على ماهم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى نصح المصلحين حتى فاجأهم العذاب وكانوا مجرمين ثم قال عز وجل : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون أي إنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، محاربة للإصلاح، لا تريد الإصلاح لنفسها ولا لغيرها.
فنسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين أقول هذا القول.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام لأخيه هارون وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ويخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب نبي الله صالح عليه السلام وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون وأخبر تعالى أنه فرق أهل الأرض إلى طائفتين، وأنت لا خيار ثالث لك فقال جل وتعالى: وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فاختر لنفسك إما أن تكون من الصالحين أو من دون ذلك، وهذا التفريق ليس في عالم الأنس بل حتى في عالم الجن وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً. وأخبر جل وتعالى أن العاقبة تكون في النهاية لأهل الإصلاح وهم الذين سيتولون زمام الأمور فقال سبحانه: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فالأرض لم تخلق لكي يلعب بها المفسدون ولم توجد لكي يحكمها أهل الفساد، وإنما خلقها الله تعالى للصلاح ولأهل الإصلاح وإن حصل شيء من الفساد فهي لفترة مؤقتة ولحكمة يمكنهم الله منها. وأخبر سبحانه أنه مع أهل الإصلاح، وأنه يتولاهم وينصرهم ويعينهم على أهل الفساد والإفساد إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. وقص الله علينا في كتابه قصة أولئك الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد.
أيها الأحبة في الله: المصلحون هم الذين يريدون ويبحثون عن مصلحة البلاد والعباد، والمفسدون هم الذين يسعون لخراب البلاد والعباد، المصلحون لا يرضون بما يوجد من منكرات وأخطاء في المجتمع فيسعون جاهدين لإزالتهما وتخفيفها، المصلحون يريدون تقليل ومنع طرق الشهوات المحرمة في الناس. إن بقية الخير الذي نشاهده ونلمسه في واقعنا، ما هو إلا فضل الله عز وجل ثم فضل البقية الباقية من اهل الإصلاح، سواءً كانوا معروفين للناس ظاهرين، أم كانوا مغمورين لكنهم يعملون ليل نهار لنشر الإصلاح وإيقاف الإفساد، يكفي أن الله يعرفهم. إن هناك قضايا في المجتمع لا يمكن أن تتغير إلا إذا تصدى لها المصلحون، لا يمكن أن يغيرها الرياضيون، ولا الصحفيون، ولا الممثلون، ولا أية شريحة أخرى من شرائح المجتمع، إنه لا يعيدها إلى جادة الصواب إلا المصلحون، لذا فلا يحق لأحد أن يحتكر وظيفة الإصلاح لنفسه، ولا ينبغي حكر عملية الإصلاح في جهة معينة أو هيئة معينة، إنها عملية ضخمة، تتسع للجميع أن يشارك فيها، بل ينبغي للجميع المساهمة فيها، كل بحسبه وفي موقعه ومحدود ما أعطاه الله من طاقات وإمكانيات فهذا بقلمه، وذاك بخطبته، والثالث بمحاضرته والرابع بتربيته للجيل القادم، والأب في منزله والموظف في مكتبه، والإمام في مسجده، والجميع في حارته. أما أن ينبري لنا شخص لوحده، أو جهة محددة وتدعي حكر عملية التوجيه والإصلاح فهذا مما لا يُقبل شرعاً ولا عقلاً. ثم إنه لا يحق لأحد أن يخلع ثوب الإصلاح من أحد، أو أن يسلب أحداً خيرية الإصلاح، أو ان يخرجه من دائرة الإصلاح، بحجج لا يدعمها أدلة واضحة صريحة من الشرع المطهر. ثم إنه لا يلزم من كل مصلح، وممن يرغب أن ينضم في سلك المصلحين أن يكون كاملاً خالياً من كل نقص وعيب، طاهراً ظاهرا وباطناً، هذا لا يمكن أبداً، والذي يطلب هذا إنما يطلب المستحيل، إن هذه المسألة قد يثيرها أهل الفساد، وهم يتصيدون على أهل الإصلاح، بأن فلاناً فيه كذا وكذا، وهو يدعي الإصلاح، ما المانع أن أكون مقصراً في جانب وعليّ نقص في جانب وأنا أدعو للإصلاح وأحب نشر الخير، فإن طلب الكمال محال.
فيا من أعددتم أنفسكم لتكونوا من المصلحين، لا توقفكم هذه النقطة، تلمس يا أخي مواطن النقص والخلل في نفسك، وعالجها وسد الخلل، وأكمل النقص وأنت تمارس العملية الإصلاحية، في آن واحد سواءً بسواء، لا تخدع بتكميل النقص أولاً وسد الثغور ثم الإصلاح، فإن العمر يفنى ولو عمّرت عمر نوح وسيبقى الخلل موجوداً وهذه طبيعة البشر. ثم إن المصلحين يمكن يتعلم بعضهم من بعض، ويستفيد بعضهم من بعض، وينقل المتقدم خبراته للمتأخر، محاولين بذلك سد النقص في قلة حلقات العلم، وقلة العلماء الذين بذلوا أنفسهم لتعليم الناس ولإرشاد المصلحين.
نختم بأن الله جلت قدرته، قد ألقى الخوف والذعر في قلوب المفسدين- أهل الشهوات وأهل النفاق – من أهل الإصلاح -من المصلحين-، وإن تظاهروا بعكس ذلك، السبب: لأن أهل الفساد لو حاولوا تجهيل الناس، ظهر لهم واحد من أهل الإصلاح فأحيا نور العلم والتعليم، ولو حاول أهل الفساد إسقاط راية الجهاد، لظهر في الأمة من يحي روح الجهاد، ولو حاول أهل الفساد إشاعة المنكرات بين الناس، لظهر أعداد من أهل الإصلاح يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والسر في ذلك، أن هذه الأمة أمة مباركة، والخيرية باقية فيها إلى قيام الساعة، أمة كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره. لذا فإن المفسدين يتقطع قلوبهم خوفاً من المصلحين، أحيانا يكون المصلح رجل واحد والمفسدين لا أقول مئات بل آلاف مؤلفة، ويمتلكون أجهزة كاملة ومع ذلك فإن الذعر والخوف ملأ قلوبهم.
(1/949)
وفاة الشيخ بن باز
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
العلم الشرعي, تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/1/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أن الموت حق على كل حي فيجب الاستعداد له
2- ترجمة للشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- ومكانته وفضله
3- متى تشرع الصلاة على الغائب
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون، اتقوا الله واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله، اتقوا يوما تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
عباد الله: إن الله جلت قدرته وتعالت أسماؤه، أوجدنا في هذه الحياة من عدم هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكوراً. أوجدنا في هذه الدنيا لا للدوام والبقاء، ولكن للموت وما بعد الموت كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون.
حكم المنية في البرية ساري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها سائراً حتى يكون خبرا من الأخبار
قال الله تعالى: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت)). وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس: اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)).
أيها المسلمون، عباد الله: إن الموت مما ينبغي الإستعداد له واستشعار قربه، فانه أقرب غائب ينتظر، وما يدري الانسان لعله لم يبق من عمره إلا اليسير، وهو مقبل على دنياه، ومعرض عن آخرته.
تؤمل في الدنيا طويلا ولا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش دهرا إلى دهر
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإله وان فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
لقد بلغ الجميع نبأ وفاة عالم الأمة ومفتي هذا الزمان سماحة الوالد الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. فقد انتقل الشيخ إلى جوار ربه ليلة الخميس في ساعة متأخرة من الليل، على إثر تعب أصابه رحمه الله في أول الأسبوع دخل على إثرها المستشفى في الطائف يوم الأحد وبقي في المستشفى حتى أن توفاه الله ليلة الخميس. وسيصلى عليه في هذا اليوم بعد صلاة الجمعة في مكة المكرمة. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اليوم فلتبكِ الجزيرة إنها بمصابها مهزوزة الأركان
اليوم فلتبكِ الجزيرة جهبذاً لا كالجهابذ حكمة ببيان
الله أكبر كنت ،ـور مجالس يهدى العقول بعيدها والداني
كنت الإمام لكل طالب سنة أو مستزيد من هدى الفرقان
أو باحث ما قال أرباب النهى في الفقه والتوحيد بالتبيان
حتى لسان العرب كنت مجلياً في علمه من قبل كل لسان
ماذا يعزى أمة مكلومة قذفت بها الويلات كل سنان
يا للجراح نجيعها قمم النهى وذر البيان وأثبت الأركان
ماذا أقول وكل نفسي حرقة أعيا من الخطب العضال بياني
أشكو الى الله القدير مصابنا أشكو إليه كآبتي وهواني
رباه إنك عالم بمصابنا هل من طريق رب للسلوان
إنا إليك لراجعون وحسبنا بالصبر لا السلوان والنسيان
أيها المسلمون:
كيف نستطيع أن نتحدث عن حياة رجل عاش قرابة تسعين سنة في الدعوة إلى الله والعمل والبذل والجهاد والتأليف والافتاء في خطبة تستغرق ثلاثين أو أربعين دقيقة. إن هذا لمن المستحيل، لكنها كلمات نعزي بها أنفسنا، ووالله إن حب هذا الإمام عبادة نتقرب بها عند رب العالمين.
فشيخنا هو الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالرحمن بن باز، إمام أهل السنة في هذا العصر، المحدث الفقيه مفتي الديار. ولد الشيخ في مدينة الرياض في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة عام 1330هـ من أسرة صالحة. نشأ الشيخ منذ صباه على رسالة الإسلام واقتدى بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم وسار على طريق التوحيد وشهادة أن لااله الا الله وأن محمداً رسول الله. فحفظ القرآن قبل سن البلوغ.
ابتلاه الله جل وتعالى بعمى العينين وهو في أول شبابه فزاد قلبه بصيرة وعلما، وما ضره عمى عينيه فازداد حفظاً وزاد ورعاً وزاد علما. فقد ضعف بصره وعمره ستة عشر سنة، وبقي الضعف يزداد معه واستمر قرابة أربع سنوات حتى فقد بصره تماماً وعمره عشرون سنة.
رأيتك أعمى العين صار ضياؤها بقلبك حتى صرت فجراً مبلجاً
فصار سواد العين في القلب فاقتدا ينظم من نور الشريعة منهجا
تولى الشيخ القضاء في منطقة الخرج مدة أربعة عشر عاماً من عام 1357هـ إلى 1371هـ ثم انتقل للتدريس في معهد الرياض العلمي لمدة سنة، ثم انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض وبقي فيها حتى عام 1380هـ حيث عيّن نائباً لرئيس الجامعة الاسلامية بالمدينة النبوية وبقي نائباً لرئيس الجامعة مدة تسع سنوات، ثم عين رئيساً لها. وبقي في هذا المنصب حتى عام 1395هـ حيث عين في منصب الرئيس العام لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد. ثم عين أخيراً المفتي العام لهذه البلاد بالاضافة إلى عدد من الأعمال والتي كان يزاولها الشيخ فهو رئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي، ورئيس المجمع الفقهي الاسلامي بمكة المكرمة، ورئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد، إلى أعمال أخرى كثيرة.
أيها المسلمون: إننا عندما نذكر هذه المناصب لانريد أن نرفع من منزلته في قلوب من يسمع مثل هذا الكلام، فالشيخ رحمه الله وأمثاله من العلماء والكبار هم أعظم من هذه المناصب، بل إن هذه المناصب تشرف بأن يضاف أمثال ابن باز لها، فعلماء الأمة لايزيدهم شيئاً عندما نقول بأنه تولى القضاء أو درّس في كلية الشريعة بل إن هذه المناصب تكبر في عيوننا أن يتولاها أمثال ابن باز. لقد شرفت كلية الشريعة بالرياض عندما وضع ابن باز فيها قدمه، وصار لهيئة كبار العلماء قيمة عندما تولى رئاستها ابن باز، فالأمة لم تعرف هذه الإمام لأنه في منصب كذا وكذا، لكن عرفته الأمة لأنه الإمام المصلح الداعية الفقيه المفتي الزاهد الورع المهتم بشئونها المعايش لقضاياها في أي منصب كان، بل حتى لو تخلى من المناصب. لكن يكفينا درساً أن هذا الإمام بقي على رأس العمل وهو في التسعين من عمره يعمل ويجهد لم يأخذ إجازة رسمية من عمله منذ أن تقلد الوظائف الرسمية أبداً، لأنه كان يعمل لله وكان يشعر أنه يخدم الدين والاسلام من خلال عمله فلماذا الاجازة.
أيها المسلمون: ومن عرف الشيخ رحمه الله تعالى رأى أنه قد تجمعت فيه أخلاقٌ قل ما تجتمع في أحد في هذا الزمان، فقد تميز الشيخ رحمه الله بالحلم الواسع فهو قليلاً ما يغضب وإن غضب كتم أنفاسه وما تكلم، ولا يجرح المشاعر أبداً، وهو كالنسيم العذب على القلوب، ولذلك جعل الله له محبة عظيمة واسعة في قلوب الخلق، فلا ينال من الأشخاص، ولا يتهكم على أحد ويحفظ للناس قدرهم. وعندما كان مديراً للجامعة الاسلامية في المدينة النبوية كان يفتح مكتبه للطلاب وللمدرسين والمراجعين والزوار والضيوف، وهذه ميزة يفتقدها كثير من العلماء والمسئولين والموظفين حيث إغلاق الأبواب في وجوه المسلمين، فكان الشيخ يرى أنه ليس من الحكمة أن يغلق بابه، بل يفتحه للجميع ويسمع من الجميع. فهو بحق رجل عامة لا يحجب الناس دونه، وليس على بابه بواب. وهذا النموذج هو الذي تفتقده الأمة في هذا الزمان إلا من رحم ربي. إن الأمة بحاجة إلى هذا النمط من العلماء والدعاة الذين لا يحتجبون عن الناس، رجال يربون أنفسهم نفسياً وشخصياً لتقبل مشاكل العامة، والبشاشة في وجوههم والسؤال عن أحوالهم، وهذا النمط من العلماء والدعاة هم القواد الحقيقيون للمجتمع. أخرج أبو داود وبن ماجة بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من ولي من أمور المسلمين شيئاً فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته وفاقته وقفره)).
وجميع الذين زاروا المراكز الاسلامية والأكادميات والمساجد في شتى بقاع الأرض ينقلون كلاماً واحداً وهو أنهم لايثقون إلا بفتاوى الشيخ. فالشيخ رحمه الله لم يؤت هذه المكانة من حب الناس له وقبولهم لعلمه وكلامه وفتاواه من أجل منصبه أو أسرته ولكن من إخلاصه وتقواه ولا نزكي على الله أحداً وفي الصحيح: ((أن الله إذا أحب عبداً قال لجبريل فنادى جبريل نحب فلاناً فيحبه الناس فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبونه ثم يوضع له القبول في الأرض)).
أشمس الكون قد منيت بخسف أم البدر المنير علاه غيم
أم الشيخ الجليل قضى لنحب فغُيب في الثرا علم وحلم
وليس فراقنا للشيخ سهلاً ولكن الفنا للخلق حتم
فموت الشيخ نقصان ورزء يجل بنا وللاسلام ثلم
قضى العمر المبارك في دروس وحل للمشاكل إذ تهم
هو الشيخ المعلم والمربي عزيز النفس صمام وشهم
هو المفتي الموفق لا يجارى بصير بأنه بحر خضم
تلقاه الرحيم بفيض عفو وجنات بها النعمى تتم
أيها المسلمون:
لقد ضرب الشيخ رحمه الله نموذجاً عجيباً في هذا العصر في باب الكرم، فهو بحق حاتم طائيّ هذا العصر، فعطاءه كان مستمراً للفقراء والمحتاجين، فمن عرف الشيخ علم أنه لايرد طلباً، ولم يتعود أن يأكل طعامه لوحده، وإنما طعامه دائماً مع طلابه أو ضيوفه، وبيته لايخلو من مسافر أو عابر سبيل.
وضرب الشيخ رحمه الله نموذجاً عجيباً أيضاً في الشجاعة، وهذا قلّ ما يتوفر في علماء هذا العصر، فله رحمه الله رسائل وخطابات ومكاتبات إلى معظم حكام الدول العربية، فقد كتب خطاباً إلى جمال عبدالناصر يوم أن أعدم الشيخ سيد قطب رحمه الله ومن معه من الدعاة خطاباً قوياً مشهوراً ذكّره فيه بالله وختم رسالته بقول الله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا وكتب إلى رئيس الجزائر ورئيس تونس ورئيس اليمن وغيرهم يكتب مذكراً وناصحاً وداعياً إلى تحكيم الكتاب والسنة والرفق بالشعوب التي تحت أيديهم. وليت ما كتب الشيخ من هذه الرسائل وغيرها تنشر على الناس.
أيها المسلمون: لقد خرج الشيخ رحمه الله تعالى من الدنيا وليس في يده شيء منها، والذي عرف الشيخ من قرب علم أنه أحياناً كانت تثقله الديون لكثرة نفقاته وعطاياه وكرمه وجوده. لقد عاش الشيخ قرابة التسعين سنة، لكنه لم يقض هذا العمر في رغد العيش وفي جو من الراحة ولو أراد ذلك لحصل له، لكنه رحمه الله قضاها في جوٍ من الجهاد والصبر والاحتساب والمواجهة، فحياة الشيخ كلها كانت بين فتيا أو كتابة شفاعة أو تعليم أو إصلاح بين الناس أو اتصال أو مساعدة إنسان أو وقوف مع محتاج، وهذا أيها الأحبة والله هو العمر المبارك.
لقد ترك الشيخ فراغاً يحتاج إلى عشرات من العلماء دون مبالغة لسد هذا الفراغ نعم لقد فقد العالم الاسلامي وفقدت الأمة أهم شخصية في هذا الوقت. وكأني أرى باب الفتوى قد انكسر بوفاة الشيخ، فالذي كان لا يتجرأ على الفتوى في حياة الإمام ممن كان في قلبه مرض سيجد الباب الآن مفتوحاً على مصراعيه.
أيها الأحبة: لاشك عندنا أن الجميع متأثر بوفاة الشيخ العامة والخاصة الكبار والصغار النساء والرجال، مع علمنا أيضاً أن هناك فئة فرحت بوفاة الشيخ وهم الشهوانيين من هذه الأمة والحداثيون والعلمانيون الذين كانوا ينتظرون مثل هذا اليوم، لعلمهم أن تأخر كثير من مخططاتهم إنما كان بعد توفيق الله عز وجل من جهود هذا الإمام وفتاويه وكلامه الذي كان سداً منيعاً في وجوههم وحائلاً دون الوصول إلى مراداهم، فنقول لهؤلاء لاتفرحوا كثيراً فإن الشيخ رحمه الله قد ورّث طلاباً ودعاةً سيأخذون الراية من بعده، وسيلقمون بإذن الله تعالى حجراً بازياً في فم كل ناعق.
خطب ألم بن،ا والهول محتدم لله كم هاج فينا خطبك العرم
هذي الجزيرة بكت فقدان عالمها مفتي الديار الجليل الطاهر العلم
بكت به عالماً فذاً أخا ورعاً يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
جزاك ربك فيما كنت تبذله في رفعة الدين فاهنأ أيها العلم
حققت للدين والإسلام عزته حتى زهت مكة بل هلل الحرم
لقد تركت فراغاً ليس يشغله سواك أو مخلص في الدين معتصم
سُدوا المكان الذي قد كان يملؤه أو فاتركوه وإلا مثله عدم
وجهتها لطريق الخير فاتجهت لك القلوب وحامت حولك الأمم
بعثت منها قلوباً من أماكنها فدبت الروح وانجابت بك الظلم
أرى الحجاز قريح العين ذا ألم دامي الفؤاد ونجداً مضها الألم
تمسي على مضض والحزن يغلبها في كل وجه عليه الحزن مرتسم
تركتها وهي حرى النفس قائلة أين المنابر والتشريع والقلم
ها نحن نبكيك من نفس ملذعة يبكي العقاف ويبكي العلم والكرم
إن غبت عنا فذكراكم بخاطرنا فلا تفارقنا الذكرى ولا الحكم
ومن يكن عاملاً للدين منهجه هدي الرسول فلا هم ولا سقم
نم هانئ البال مرتاح الضمير فقد حظيت بالخلد في الجنات والنعم
فنسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتغمد شيخنا برحمته وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يرفع منزلته مع النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن كل أمة لها رجالها وقادتها في الفكر والعلم والسياسة والجهاد والطب والادارة وغيرها من المجالات المختلفة، وإنه لمن المسلمات عند التربويين أن تنشئة الجيل على احترام هؤلاء الكبار وتقديرهم، ضرورة تربوية لابد منها، فبمن تقتدي الأجيال؟ وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشباب الأمة ونربيهم على تقفي آثارها؟ إن تجاهل أجهزة الاعلام في الأمة لعلمائها ورجال الفكر والدعوة والجهاد أمر خطير ينبغي أن يكون منا نحن الآباء على بال، من جهة تعويض هذا النقص، لأن هذا الإغفال يعني من جهة أخرى فسح المجال للثناء على رموز الحداثة، وأساطين التسول الفكري من العلمنة والعولمة وغيرهم، أو على أقل تقدير إبراز رموز الرياضة والفن والرقصات الشعبية وجعلهم هم القدوات للجيل الناشئ، لأن فطرة الانسان تستوجب أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً تعتبره هو موضع الأسوة والقدوة، ولهذا لما أنزل الله جل وتعالى هذا القرآن أنزله على قلب رجل من البشر تمثل هذا القرآن ليكون قدوة للناس في تطبيق تعاليمه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانت التوجيهات تكفي لوحدها لكفى أن ينزل القرآن لوحده ليعمل الناس به، لكن لعلم الله أن هذا يخالف فطرة الانسان كان لابد أن يتمثل القرآن نبياً من عند الله تعالى، وهذا هو السر الذي لا يفهمه كثير من الناس وهو لماذا بعض القرارات الإدارية والتعليمات لا تلقى قبولاً ولا تنفذ؟ السبب هو أن مُصدر هذا القرار أو هذه التعليمات لايطبقها هو فكيف يريد من غيره أن يعمل بموجبها. أعود فأقول بأن الجيل إذا فقد القدوات الذين يستحق أن يقتدى بهم فإنه يلتمس القدوة في الرياضي أو المغني الذي قد يكون منحرفاً في فكره أو خلقه أو دينه، ولكن أجهزة الاعلام نجحت في إبرازه كرمز، والجيل المستغفل انطلت عليه اللعبة، والأب ضعيف الإدراك لم ينتبه، ومن انتبه لم يبالِ في تعويض النقص الضروري.
ما بالكم أيها الأحبة إذا نشأ جيل وهو يرى ويسمع ليل نهار أن الأمة تتنكر لعظمائها ممن يستحقون أن يكونوا هم القدوات، وتتجاهل تاريخهم، هذا الرجل إما أن ينساق وراء هذا التصرف الخاطئ للأمة فلا يحترم من يستحق الاحترام، أو أنه على أقل تقدير ينظر للوسط والمجتمع الذي يعيش فيه أنه مجتمع فاسد منهار. لهذا أيها الأحبة فليس في مصلحة الأمة أن تهمل أو تهمش أمثال هذه الشخصيات فيها لأن ذلك يعود عليها بالضرر لا محالة.
أيها المسلمون: لقد توفي ابن باز وهذا هو مصير كل حي، وإن لهذا الامام حق علينا جميعاً وإن أقل واجب علينا تجاه هذا الإمام العلم الجبل أن ندعو له، وأن ننشر الأصول والمبادئ التي كان يقول وينادي بها، وإن أهم شيء امتازت به دعوة هذا الإمام وله الفضل الأكبر بعد الله عز وجل على هذه الصحوة المباركة وعلى هذا الشباب الملتزم هو نبذ التقليد، والأخذ من المنبع الكتاب والسنة: قال الله، قال رسول الله.
حدثني أحد المشايخ في المنطقة أنه اتصل على الشيخ بالهاتف يوم السبت قبل دخول الشيخ للمستشفى بيوم يقول: فسألته بعض المسائل، يقول والشيخ يجيب ويفتي وهو حاضر الذهن حتى آخر لحظة، يقول فسألته عن امرأة حجت وفعلت كل أعمال الحج وبقي عليها السعي فقط فماتت فهل يسعى عنها؟
فأجاب الشيخ بأنه نعم يسعى عنها، يقول وقبل أن أسأله السؤال الثاني استدرك الشيخ وقال لكن لابد أن يكون الساعي محرماً، فيذهب ويأتي بعمرة ويسعى عنها، يقول ثم زادني فائدة وقال ولا بأس أن يسعى عنها قبل أن يشرع في عمرته وإن أراد أخر السعي بعد العمرة. فتأمل أفتى الشيخ ثم استدرك ثم زاد فائدة على أصل السؤال.
قال فسألته السؤال الثاني: هل يجوز أن يقول شخص لرجل صالح إن أعطاك الله الشفاعة يوم القيامة فإني أطلب منك أن تشفع لي؟
يقول ففكر الشيخ وتأمل في المسألة للحظات ثم قال: لا أرى بأساً بذلك.
أيها المسلمون: لعلي أختم بمسألة مهمة كثر النقاش حولها وهذا أوانها، وهي مسألة صلاة الغائب. هذه المسألة أيها الأحبة كبقية المسائل التي اختلف فيها أقوال أهل العلم بين قائل بجوازها ومانع لها ومخصص لها لمن له شأن في الاسلام ونحوهم. والقول الذي أرتضيه ديناً هو ما رجحه شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره من المحققين من أهل العلم أن صلاة الغائب لاتشرع، إلا لرجل مسلم مات ثم دفن ولم يصل عليه، فيصلى على هذه الحالة فقط صلاة الغائب كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بأرض الحبشة، والحبشة في وقته كانوا نصارى فدفنوه، ولم يصل عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة صلاة الغائب، وهذه هي المرة الوحيدة التي ثبت فيها صلاة الغائب عن النبي صلى الله عليه وسلم. والذي يرجح هذا القول هو أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عندما مات صلى عليه الصحابة الذين كانوا في المدينة فقط ولم يصل أهل مكة أو الطائف أو غيرها من المدن والقرى على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب ولو صلوا لنقل إلينا، ولا يوجد هناك أحب إليهم منه عليه الصلاة والسلام، وأيضاً عندما توفي أبوبكر الصديق رضي الله عنه صلي عليه في المدينة فقط، ولم تؤمر بقية المناطق والقرى والهجر أن يصلوا على خليفة المسلمين، وقل نفس الكلام عندما توفي عمر وعثمان وعلي وغيرهم من علماء وحكام المسلمين. فالقول الراجح والله أعلم هو عدم مشروعية صلاة الغائب لمن صلي عليه.
ثم إن هناك ملحظ آخر فيما يتعلق بصلاة الغائب على سماحة الوالد، وهو أنه لم يصل عليه حاضراً إلى الآن فكيف نصلي نحن عليه غائباً، فسيصلى عليه رحمه الله اليوم بعد صلاة الجمعة في مكة المكرمة، ونحن هنا في المنطقة الشرقية متقدمون في الوقت كما تعلمون فننتهي من الصلاة وما يزال خطيب الحرم على المنبر، فالشيخ ما يزال في كفنه ولم يصلى عليه حاضراً فلا يسوغ أن نصلي نحن عليه غائبا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة...
اللهم أرحم إمامنا ووسع له في قبره وأسكنه فسيح جناتك.
اللهم جازه عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء.
(1/950)
وقفات مع الحج
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/11/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الحج والأمر به 2- دلالات عدة من توقيت النبي صلى الله عليه وسلم للمواقيت قبل
فتحها 3- محضورات الإحرام وقفة معها 4- حرمة مكة وعظم جرم الإلحاد بظلم فيها
5- سدنة البيت واعتداؤهم على الدعوة وإيذاء المنتسبين لها 6- وقفة مع تجمع الحجيج وأنه
ينبغي أن يستغل في الدعوة إلى الله تعالى وإلى كل خير 7- فضل أيام عشر من ذي الحجة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله ، وقال سبحانه وتعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. وقال عز وجل: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. وقال صلى الله عليه وسلم: ((العمرة الى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول: إن عبدا أصححت له جسمه ووسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم)). إنه موسم الحج العظيم لم يبق عليه إلا أياما معدودات.
وهذه عدة وقفات لا بد من تأملها قبل الحج:
الوقفة الأولى: المواقيت:
ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنا، ولأهل اليمن يلملم، وقال: ((هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة)).
هذا الحديث متى قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قاله عليه الصلاة والسلام والشام والبصرة والكوفة ومصر، كل تلك البلاد لم تفتح بعد. كل هذه البلاد لم تفتح إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في الوقت الذي كانت فيه هذه البلاد بأيدي الكفار وتحت حكمهم، فهاهنا عدة دلالات:-
الأولى: أن هذا يدل على معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بأمر عيني لم يقع بعد.
الثانية: أن الرسول وقت هذه المواقيت لأهلها، وأهلها لم يسلموا بعد فدل ذلك على أنهم سيسلمون وأنها ستفتح وسيسلم أهلها، وكل هذا حصل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: وهذا مما نعتقده وهو أنه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه المواقيت قبل فتح بلادها وفتحت، فكذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد أخرى كالقسطنطينية وهذه أيضا فتحت بعد عدة قرون من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسلم أهلها وحجوا إلى بيت الله الحرام.
كذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح روما وهذه أيضا ستفتح بإذن الله عز وجل، وسيسلم أهلها وإن كانت هي الآن في أيدي الكفار كما كانت الشام والعراق ومصر في أيدي الكفار في الوقت الذي حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المواقيت، فكل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح أنه سيقع فسيقع، لا نشك في ذلك، ومنه أيضا أنه في آخر الزمان سيمكن لهذا الدين، وأنه ((ما من بيت على وجه الأرض)) – وتأمل ما من بيت – فليس الحديث ما من بلد أو دولة أو مجتمع بل ما من بيت، وإن كان بيت مدر أو وبر ((إلا وسيدخله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله)). وإن كانت الفترة الحالية التي تمر بها أمة الإسلام، من أصعب فتراتها لكن هذا لن يستمر، بل سيكون له نهاية وللكفر حد سيقف عنده، وللظلم حد سيقف عنده، بل للدنيا كلها حد ستنتهي اليه وستكون الغلبة للإسلام وأهله وللدين وأعوانه، ولجنة الله وأولياءه، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
الوقفة الثانية: محظورات الإحرام:
المحرم عليه أن يتجنب تسعة محظورات وهي: اجتناب قص الشعر، والأظافر، والطيب، ولبس المخيط، وتغطية الرأس، وقتل الصيد، والجماع، وعقد النكاح، ومباشرة النساء. كل هذه الأشياء يمنع منها المحرم حتى يتحلل، وهذه محظورات خاصة بعبادة الحج وهناك محظورات عامة في الحج وغيره، لكنها تتأكد حال الإحرام، كالغيبة والنميمة والكذب والغش والظلم وغير ذلك من المحظورات الشرعية. فمن عزم على الدخول في مؤتمر الحج العظيم وجب عليه أن يستعد له، إذاً يجب عليه قبل مجاوزة الميقات أن يحرم، وأن يتجنب هذه المحظورات التي ذكرنا الخاصة منها والعامة، وهذا يعني أنه يدخل منطقة الحرم في سلام، فلا يتعرض للصيد بأذى، ولا يتعرض لآدمي أيضاً بأذى، ولا يتعرض لشجر بقطع، إنه سلام كامل، حتى شعره وأظافره لا يقص شيئا منهما، فهذا فضلا عن كونها علامة على التقشف، إلا أنها تشير الى معنى السلام، إنه سلام حقيقي لاسلام مزيف.
يدخل المسلم هذا المؤتمر الذي هو الحج، يتعلم ويدرك من خلالها قيمة المسلم مهما كانت درجته الاجتماعية، فلا يتعدى على أحد ولا يظلم أحد ولا يبغى على أحد، يدرك المسلم من خلال هذا المؤتمر قيمته الحقيقية التي وضعه الله فيها، فضلا عن قيمته الإنسانية كإنسان، فيتبين له زيف تجهيل الإعلام العالمي، ويتبين له كذب منظمات حقوق الإنسان التي لا تعنى إلا بالإنسان الغربي، أما الإنسان المسلم فحوادث التاريخ وأحداث الزمان كشفت عن مدى جرم هذه الدول التي تسمى بالعظمى والكبرى، وإلا فكيف يفسر ما تفعله دولة ما تسمى بإسرائيل في لبنان هذه الأيام، غارات وقصف لمواقع سكنية ولأسر وأطفال، على مرأى ومسمع من العالم، أين السلام الذي تدعيه وتدعوا له دولة إسرائيل؟ قبل عدة أسابيع جمعت دول العالم أغلب في مؤتمر، وحضرت زعماء تلك الدول بسب قتل أفراد في عمليات فردية قامت بها منظمة حماس، واليوم هي تهجر مئات الأسر، وآلاف الأشخاص، ولا أحد يحرك ساكنا، هذا هو السلام الذي تريده إسرائيل، سلام من طرف واحد، ومع كل أسف يصل الذل بأمة الإسلام إلى هذا الحد، لكنه ينبغي أن يعلم بأن هذا هو جزاء بُعد الأمة عن شريعة ربها وبعدهم عن منهج الإسلام في كل شيء، فلا غرابة بعدها أن يسلط الله عليهم شرذمة يهود يسومونهم سوء العذاب.
ولهذا فلا يتصور أمان ولا وئام ولا سلام في ظل هذه المنظمات وتحت هذه الأنظمة، إن كل عاقل ومنصف يشهد فضلا عن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، يدرك بأن السلام الحقيقي، والتعاون على البر والتقوى لا ظل له في الواقع، إلا في الإسلام وفي تاريخ الإسلام، أما غير المسلمين من شتى الأمم ومختلف الديانات، فإن أقوالهم معسولة مسمومة، وأفعالهم في غاية الفحش والدناءة والفظاعة والبشاعة.
فما أحوج البشرية في هذا العصر، وهي تكتوي بلهيب الصراعات الدموية، والنزاعات الوحشية، ما أحوجها الى الدخول في الحج الى بيت الله الحرام، لتتخلص نفوس أبناءها من الأنانية والبغضاء والكراهية والشحناء، وترتقي الى أفق الإسلام، فتتعلم الحياة بسلام ووئام كما أراد الله لعباده المؤمنين.
الوقفة الثالثة: حرمة مكة:
ثبت في الحديث المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لايعضد شوكه ولا ينفّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها، ولا يختلى خلاه.
بيت بنته يد التقوى وشيده أبو النبيين للأجيال يرفعه
أمجاده في كتاب الدهر حافلة ثوب الجلال عليه الرب يخلعه
تدرعن بسياج الدين حرمته والله من عبث الباغين يمنعه
أولاه بالحج تشريفاً وتكرمة حتى غدت موئل التقديس أربعه
وكعبة الروح بالتوحيد شاهدة كالشمس تسطع نوراً وهي منبعه
فمكة هي البلد الحرام ومن حرمتها ما جاء في المعاقبة على الهم بالسيئة فيها وإن لم تفعل لقوله تعالى: ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
والإلحاد في البلد الحرام يكون بالكفر ويكون بالشرك، ويكون أيضا بفعل أي شيء حرمه الله، ويكون أيضاً بترك ما أوجبه الله، فكل هذا يدخل في الإلحاد بظلم في البلد الحرام حتى قال بعض أهل العلم بأنه يدخل في ذلك إحتكار الطعام بمكة. يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له خيمتان، إحداهما في طرف الحرم، والأخرى في طرف الحل، فاذا أراد أن يعاقب بعض أهله أو غلامه فعل ذلك في الخيمة التي ليست في الحرم، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم. فتأمل يا عبد الله فعل ابن عمر إن ثبت عنه، كان يتحرز من أن يعاقب أهله أو يعاقب غلامه داخل حدود الحرم خشية أن يقع في الإلحاد فيه بظلم، فما بالك بمن يعمل في مكة أمورا يشيب لها الوليد كمن يتعامل بالربا جهارا نهارا في البلد الحرام، أو كمن يشرب الخمر في البلد الحرام، أو من يروج للمخدرات في البلد الحرام، أو يستعملها، أو من ينشر وسائل الإفساد واللهو كبيع أجهزة الفيديو وبيع الدخان وغيرهما مما حرم الله في البلد الحرام. ثم ما بالكم فيمن يسعى لنشر وتكثير هذه المحرمات في حرم الله، إما بدعم أو رأي أو فكرة، أو تسهيل أو غيرها من الطرق والوسائل. أليس هذا من الإلحاد في حرم الله؟ أليس هذا من إنتهاك حرمة الله في المكان والزمان؟ بلى والله إنه لكذلك.
ألا فليتق الله أولئك الذين يمارسون المحرمات في البد الحرام، ألا فليتق الله أولئك الذين يبيعون المحرمات في البلد الحرام، ألا فليتق الله أولئك الذين يعينون على كل ذلك في البلد الحرام. ألا فليعلم بأن الذنب يعظم والعقوبة تشتد إذا كانت تلك المحرمات أو غيرها تفعل في البلد الحرام. قال الله تعالى: وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. إنه الأمر بتطهير منطقة الحرم وحدودها للطائفين، لاتلويثها وإفسادها. ومن العجيب أن أهل الجاهلية وهم كفار كانو يراعون حرمة البلد الحرام في بعض الأحيان، فقد قالت إحدى النساء قبل الإسلام توصي إبنا لها فتقول:
أبُنيّ لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير
أبني من يظلم بمكة يلق آفات الشرور
أبني قد جرّبتها فوجدت ظالمها يبور
إذن: فأهل الإسلام أولى أن يتركوا الظلم في البلد الحرام وأن يطهروا البلد الحرام من الأنجاس والأدران الحسية والمعنوية.
الوقفة الرابعة: سدنة البيت:
إن النهج الذي شرعه الله في بيته الحرام، هو إيجاد منطقة يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم. منطقة يلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصمون، وتحقن فيها الدماء، ويجد كل أحد فيها مأواه، إلا أن سدنة البيت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم حكومة قريش، يكفرون بالله، وإذا بها تجعل الناس يكفرون بالله، كما قد كفروا بالمسجد الحرام فانتهكوا حرمته وآذوا المسلمين في مكة، فبلال يجر على رمضاء مكة، وعمار يربط في الشمس، والثالث يضرب، والرابع يسجن، والخامس يفر من مكة هربا بدينه، وتستمر قريش طوال دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وهي تفتن الناس عن دينهم في مكة وقبل الهجرة, إن قريش لم تأخذ بحرمة البلد الحرام ولا بقدسيته، والله جل وتعالى يقول: والفتنة أكبر من القتل. وبعدما ارتكب كفار قريش هذه الأمور في البلد الحرام، انكشف موقفهم ليس عند الصحابة، بل حتى عند القبائل الأخرى البعيدة عن مكة. وعرفت معظم قبائل العرب، أن قريش كانت تتخذ من الحرم ستارا تغطي به جرائمها، لقد كان إدعاء قريش بالشهر الحرام والتلويح بحرمة الشهر، وحرمة البيت مجرد ستار يحتمون خلفه، لتشويه سمعة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهارهم أمام القبائل بمظهر المعتدي والمخطىء والخارج عن دين الآباء والأجداد، والحقيقة التي ظهرت فيما بعد، أن قريش هم المعتدون ابتداءا، وهم الذين انتهكو حرمة الشهر ابتداء ثم بعد ذلك يتسترون وراء الشهر الحرام، ويتشبثون باسم البيت الحرام، ويرفعون أصواتهم: انظروا هاهو ذا محمد ومن معه، ينتهكون حرمة الشهر الحرام، وقد كذبوا في هذا ورب الكعبة، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم واختار الله له مكة أرضا مباركة، وأعلنها حرما آمنا ليست أرضا منزوعة السلاح فحسب، بل منزوعة العنف ومنزوعة الأذى ومنزوعة ترويع الآمنين، أولم يرو أنا جعلنا حرما آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون.
لقد أمّن الله في البلد الحرام الناس على أرواحهم وممتلكاتهم وأموالهم وأعراضهم، أمّنهم حتى من القول القبيح واللفظ الفاحش فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. بل لقد أمن الله في البلد الحرام الطيور والحيوانات فلا تصاد، والشجر فلا يقطع. حتى الحيوانات العجماوات تستظل في منطقة الحرم بمظلة حرمة البلد الحرام، فأبت قريش احترام هذه القدسية، بل لقد تعدوا في ذلك فأخرجوا أغلب المسلمين من مكة، فحصلت الهجرة. لكن ذلك لم يستمر، فجاء بعده فتح مكة، وسقطت سدانة قريش المزيفة للبيت الحرام. وآل الأمر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام. وصدق الله العظيم ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الوقفة الخامسة: تجمع الحجيج.
أي نعمة من أن يجمع الله لك أخي المسلم هذه الحشود الهائلة وفي هذا المكان، وأيضا النفوس مهيئة، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغل المواسم والتجمعات في الدعوة الى دين الله، وكان يخشاهم في أنديتهم وأسواقهم، فسيرا يا طلاب العلم على هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرا على منهجه واتباع طريقته.
أخي المسلم. ياطالب العلم، إن الله لن يسألك عن هذا الدين لماذا لم يتنصر، ولكنه سوف يسألك لماذا لم تنصر هذا الدين بما تستطيع. إنك أخي المسلم مسئول أكثر من غيرك لأنك تعيش في أرض الجزيرة، وأسباب تعلم العلم مهيئة لك، ووسائلها مطروحة بين يديك. وأوضاعك المادية لا مقارنة بينها وبين مسلمي العالم، فما بقي عليك الا أن تشمر ثم تبدأ العمل والتنفيذ. فماذا عساك أن تفعل بعد هذه الكليمات؟ هل تأملت بعناية أخي المسلم في وفد الحجيج؟ إن فيهم ما بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع، إلا من رحم الله، وهم مع ذلك زبدة مسلمي الأرض تقريبا. منهم من هو واقع في الشرك علم أم لم يعلم، ومنهم المبتدع الهالك في بدعته، ومنهم المنحرف، ومنهم المسلم اسما، ومنهم الفاسق المجاهر، ومنهم من هو متشبع بالجهل إلى عينيه. هذا كله من جهة، ومن جهة أخرى: منهم المطارد، ومنهم المحبوس في بلده، وفيهم المظلوم، ومنهم المشرد، ومنهم المقاتل المستباح العرض والدم والمال. وأوضاع أخرى، وإلى الله المشتكى. فهل فكرت أخي المسلم في أن تقدم شيئا؟ أو أن تفعل شيئا في موسم الحج، أم أنهم ليسوا من بلدك ولا يهمك أمرهم، فكر أخي المسلم بجدية في هذا الأمر، ولا أظن ان العاقل مثلك يعدم وسيلة يقدم فيها خيرا لمسلم.
الوقفة السادسة: عشر ذي الحجة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام. يعني أيام العشر. قالوا: يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب اليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد)) رواه الإمام أحمد.
لقد دخلت أخي المسلم في أيام العشر فاغتنم هذه الأيام سواء كنت حاجا أم غير حاج، وغير الحاج ينبغي له العناية بها أكثر لأنه قد فاته الحج، فليحرص أن لا يفوته العشر، فعليك بالتوبة والصلاة والصيام والتكبير والذكر والصدقة.وعليك بصلاة العيد، واعتنِ بالأضحية، فإنها سنة أبينا ابراهيم عليه السلام.
ثم لا تنس التكبير بعد الصلوات المكتوبات، وهي لغير الحاج تبدأ من فجر يوم عرفة، وللحاج من ظهر يوم النحر، ويستمر الحاج وغير الحاج في التكبير إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، ثم صيام يوم عرفة لغير الحاج. روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)).
الوقفة السابعة:
من فاته في هذا العام القيام بعرفة، فليقم لله بحقه الذي عرفه. ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هنا، وقد بلغ المنى. ومن لم يصل الى البيت لأنه منه بعيد، فليقصد رب البيت فإنه أقرب إليه من حبل الوريد، اللهم يسر للحجاج حجهم، وسهل أمورهم يارب العالمين.
إليك قصدي رب البيت والحجر فأنت سؤلي من حجي وعُمري
إليك قصدي قبل البيت والأثر وقبل سعي بأركانٍ وبالحجر
صفاء دمعي الصفا لي حين اعبره وزمزمي دمعة تجري من البصر
عرفانكم عرفاتي إذ مِني منىً وموقفي وقفة في الخوف والحذر
وفيك سعيي وتطوافي ومزدلفي والهدي جسمي الذي يغني عن الجزر
ومسجدي الخيف خوفي من تباعدكم ومشعري ومقامى دونكم خطري
زادي رجاءي لكم والشوق راحلتي والماء من عبراتي والهوى سفري
اللهم يسر للحجاج حجهم، وسهل لهم أمورهم...
(1/951)
وقفات مع سورة القمر
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/8/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
وقفات مع سورة القمر وفي:
أ- معجزة انشقاق القمر
ب- مصارع الأمم الغابرة
ج- الوعيد لكفار قريش
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
إن الله جل وتعالى ما أنزل من كتاب إلا ليُعمل به، وما أرسل من رسول إلى قوم إلا ليُتبع.. وأية مخالفة لذلك الكتاب أو لذلك الرسول، فإن تلك الأمة ستنال عقابها وستتحمل مخالفتها لشرع ربها. وهذه أيها الأحبة، سنة ماضية في الأولين والآخرين.. ولنستعرض سوياً سورة من سور القرآن الكريم، تؤكد هذه الحقيقة، ولنتأمل في نوع المخالفات التي خالفته تلك الأمم، ثم نوع العقوبات التي حلت بها، لنتعظ ولنعتبر.
قال الله تعالى. بسم الله الرحمن الرحيم: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ يخبر تعالى بأن الساعة وهي القيامة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق وكان هذا على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لما طلب منه كفار قريش أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما جاء به.. روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما. ومع هذا قالوا سحر مستمر، أي سحرنا محمد وسحر غيرنا فكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه، فجاءت الآيات بعدها فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ.
ثم بدأت السورة الكريمة، بعرض مصارع الأمم التي سلكت من قبل مسلكهم مبتدئة بقوم نوح كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. نوح عليه السلام، أول رسول بعثه الله، دعا قومه إلى توحيد الله، وعبادته، فامتنعوا وقالوا: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً بل وقالوا عن نبي الله بأنه مجنون.. عندها دعا نوح ربه عز وجل: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي هذه قوتي وهذه طاقتي وهذا دينك أنت، وهذه دعوتك، انتصر لحقك، وانتصر لمنهجك، وما تكاد هذه الكلمة تقال من نبي الله نوح أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحب الأمر إلا وجواب الله جل وتعالى حاضر فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أغرقهم الله عز وجل، أغرق أمة كاملة بالتقاء المائين، ماء السماء وماء الأرض وهذه هي نهاية كل أمة تخالف أمر الله، هذه نهاية كل أمة تتنكب الطريق الذي رسم لها. ويأتي بعده سؤال المولى تبارك وتعالى، لي ولك ولكل أحد فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُر كيف رأيت أيها المخاطب عذاب الله.
لا شك أنه كان عذاباً مدمراً جباراً، لكن أين المعتبر؟!.
الأمة التي تليها، أمة عاد، وهي القبيلة المعروفة باليمن، أرسل الله لهم هوداً عليه السلام، يدعوهم إلى شريعة الله ودينه، لكنهم آثروا المخالفة على الطاعة. كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
أيها المسلمون: ما أهون الخلق على الله، ما أهون الخلق على الله، إذا عصوا أمره، وخالفوا شريعته، انظر في حال هؤلاء، ماذا فعل الله بهم، أرسل عليهم ريحاً شديدة استمرت سبع ليال وثمانية أيام حسوما، من شدتها أنها كانت ترفع بالرجل إلى جو السماء ثم تدفعهم إلى الأرض، فتدق رقابهم فتفصل الرأس من الجسد. وقيل أنهم كانوا يتداخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر في الأرض، ويدخلون فيها، هروباً من هذه الريح، فكانت كما وصفت الآية: تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي تجعل جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي اقتلعته الريح فسقط على الأرض. فما أهون الخلق على الله إذا لم يتبعوا دينه، لماذا توصل الأمة نفسها وبيدها إلى هذا المصير، وكان بإمكانهم توقي ذلك.
الأمة التي تليها، أمة ثمود وهي القبيلة المعروفة في أرض الحِجر، نبيهم صالح عليه الصلاة السلام، دعاهم إلى دين الله، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأنذرهم العقاب إذا هم خالفوه فكذبوه واستكبروا عليه فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ استمع إلى آيات الله وهي تصور لنا ذلك التمرد على شريعة الله، ثم ما هي نهاية المال. كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هؤلاء القوم، مع تمردهم وعصيانهم لأمر الله وامتناعهم عن الطاعة، اتهموا قبحهم الله نبي الله صالح بالكذِب، قالوا: بل هو كذاب أشر ، أي كثير الكذب والشر. سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنْ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ. فأرسل الله الناقة، التي هي من أكبر النعم عليهم يحلبون منها ما يكفيهم جميعاً، لكنهم ذبحوا الناقة في آخر الأمر، وانبعث لها أشقاها.. فنزل عليهم عذاب الله عز وجل، عاقبهم الله بالصيحة وهي الرجفة، فأهلكتهم عن آخرهم، ونجى الله صالحاً ومن آمن معه، أما العصاة فكانوا كهشيم المحتظر، أي كالحشيش اليابس المتكسر الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته. كل هذا بسبب عدم اتباع دين الله، وعدم طاعة كل ما يقوله الرسول الذي أُرسل.
الأمة التي تليها أمة لوط، وهؤلاء مخالفتهم ظاهرة، وهو أنهم مجتمع انتشر بينهم الفاحشة والفجور، ما قنعوا بالحلال، فأسرفوا في الحرام، فعاقب الله عز وجل تلك الأجساد التي تمتعت وتلذذت بالجنس المحرم، عذب تلك الأجسام بريح تحمل معها الحجارة كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إن هؤلاء القوم طالما أنذرهم لوط عليه السلام، لكنهم تماروا بالنذر، واستمروا على فعل الفاحشة، وعندما نزل الملائكة ضيوفاً على لوط عليه السلام، جاءوا مسرعين قبحهم الله وراودوه عنهم، فأمر الله جبريل عليه السلام فطمس أعينهم، ثم قلب عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، ثم أتبعهم بحجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك للمسرفين.. هذه نهاية الفواحش، وهذه نهاية مجتمع يستشري فيه هذا المرض، فيصل إلى مرحلة لا يكون العلاج إلا بخسف القرية، وإهلاكهم جميعاً.. إن طمس الأعين كان ليلاً وفي الصباح وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ صبحهم ذلك الحاصب الذي طهر الأرض من تلك اللوثة ومن ذلك الفساد. ونجى الله لوطاً وأهله من الكرب العظيم، جزاءً لهم على شكرهم، وعبادتهم لربهم، وعدم انخراطهم في أوحال ذلك المجتمع النتن.... إنه ليس بالأمر الهين أن يمسك الإنسان نفسه عن فعل أمور بإمكانه أن يفعلها، وكل من حوله يفعلها، ثم هو حفاظاً على دينه وخوفاً من ربه يمسك.. تخيل رجلاً يعمل في دائرة وكل من حوله يسرق وينهب من المال العام، وهو بإمكانه أن يفعل مثلهم بل وظروف المعيشة وضغطها عليه قد تضطره أحياناً وتراوده نفسه على ذلك، لكن يمسك ويرضى بشظف العيش حفاظاً على دينه. كذلك الذي يعيش في وسط ينتشر فيه الرذيلة، وقضايا الحرام ميسرة لمن أرادها، ثم هذا الإنسان يضغط على نفسه، ويرغم هذه النفس على سلوك الطريق المستقيم، ويكون من الذين شبههم المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن الذي يقبض على دينه كالقابض على الجمر.
ما نهاية مجتمعات استشرى فيها الفاحشة. إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ.
اللهم طهر مجتمعات المسلمين من الفواحش، ما ظهر منها وما بطن...
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا...
أقول هذا القول... وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الأمة التي تليها في سلسلة هذه الأمم كما تعرضها هذه السورة، فرعون وقومه وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. أرسل الله إليهم موسى الكليم، وأيده بالآيات البينات، والمعجزات الباهرات، وأشهدهم من العبر ما لم يشهد غيرهم، فكذبوا بآيات الله كلها، وحاربوا دعوة موسى عليه السلام وضيقوا عليه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فأغرق الله فرعون وجنوده في اليم، ونجى موسى وقومه.
أيها المسلمون: ما المراد من ذكر هذه القصص، لماذا عرض الله علينا هذه السلسلة من مواقف أولئك الأقوام من دينه سبحانه، ولماذا هذا التوضيح وهذا التفصيل في كيفية إنزال العذاب، كل ذلك أيها الأحبة لتحذير الناس، وأن لا يسلكوا مسالك أولئك القوم، فيصيبهم ما أصابهم، ولهذا جاءت الآية الفاصلة المانعة بعد سلسلة هذه الآيات.. نوح ثم عاد ثم ثمود ثم لوط ثم فرعون. وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ(41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قال بعدها مباشرة سبحانه وتعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ ، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ. الكفر ملة واحدة، وأولئك القوم ما أصابهم ما أصابهم إلا بسبب كفرهم، ونحن إذا كفرنا والعياذ بالله وخالفنا وعصينا، حل بنا ما حل بغيرنا، أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ ، أبداً والله، فليس كفار العرب أحسن عند الله من كفار الغرب، وليس نصارى العرب أحسن عند الله من نصارى الغرب، وليس يهود العرب أحسن عند الله من يهود غيرهم، بل إن ما يعانيه المسلمون اليوم في بعض الجهات من نصارى العرب ويهود العرب أشد مما يعانون من نصارى ويهود غير العرب والله المستعان.. فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، فليس كفارنا بخير من كفارهم، وليست مخالفتنا وعصياننا لشريعة ربنا أهون بمخالفة وعصيان أولئك لشريعة الله.
اعلموا أيها الناس، بأن كل ما يصيبنا وكل ما ينزل بنا إنما هو سبب منا، فعلى سبيل المثال، وهذا شيء يسير من عقوبات الله، ارتفاع الأسعار، الذي ضجت به مجالس الناس هذه الأيام، يتحدثون بالساعات الطوال حول هذه القضية، ويعلقون أسبابها لكذا أو كذا.. وقد يكون كلامهم فيه شيء من الصحة، لكن أيضاً هذا السبب لماذا حصل؟ هذه النقطة التي يغفل عنها الكثيرون، ألا وهو معاصينا ومخالفاتنا وتقصيرنا في جنب الله.. لماذا نزعت البركة في معيشتنا، ولماذا قلت وشحّت المادة في أيدي الناس، ولماذا يرتفع كل شيء يوم بعد يوم، لتفريط الناس في أوامر الله، لمخالفة الناس لأمر الله، ثم نريد بعد ذلك يسر العيش ووفرة المال والبركة، هذا أقل ما يصيبنا إذا تأملنا في واقعنا، ونسأل الله جل وتعالى ألا يكون مقدمة لسيل من العذاب ينزل بنا لا ندري ما هو.. المنكرات زادت، والفواحش كثرت، والمجاهرة بالمعاصي عمت وطمت، أين المصلين في صلاة الفجر، أين الذين يؤدون زكاة أموالهم، أين الذين يطهرون بيوتهم مما حرم الله، وأين وأين وأين؟؟؟ كل هذا نفعله، وكل هذا نرتكبه، ثم نتضايق ونتضجر بعقوبة يسيرة.
فاتقوا الله أيها المسلمون أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ.
ثم ذكر بعدها عز وجل مصير كل المجرمين الذين يحاربون دعوة الله، والذين يضيقون على دعوة الله. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ.. ثم قال بعدها سبحانه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. أي أهلكنا من الأمم السابقة، الذين عملوا كما عملتم. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ. ثم ختم جل وتعالى بمصير المتقين المطيعين المتبعين لشريعة الله فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
نسأل الله جل وتعالى أن يجعلنا منهم، وأن يجعلنا وجميع أخواننا المسلمين الأحياء منا والميتين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
(1/952)
ولكنكم تستعجلون
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/11/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستعجال منه ماهو محمود ومنه ماهو مذموم
2- بعض صور الاستعجال المذموم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أخرج البخاري في صحيحه أن خباباً يقول: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شِدّة – فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرٌ وجهه فقال: لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق اثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، ولَيُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
ولكنكم تستعجلون. العجلة طبع في الإنسان، بشهادة خالق هذا الإنسان، قال الله تعالى: ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولاً وقال سبحانه: خلق الإنسان من عجل.
والاستعجال ليس مذموماً دائماً، بل أن الاستعجال في الخير والمبادرة إليه، هو المطلوب أحياناً، ولعل هذا هو المعْنيِّ في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك ربي لترضى.
وأما حديث خباب الذي قرأته عليكم فإنه صورة من صور الاستعجال المذموم مع أن الصحابي رضي الله عنه كان طلبه من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم، عسى أن الله عز وجل يفرج عنهم شيئاً من الضيق والشدة التي كانوا يواجهونها في مكة، فأحمّر وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا الطلب، مع أنه طلب دعاء، وعدّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا من الاستعجال الذي لا ينبغي في مثل هذه الظروف، وإنما المطلوب الصبر والتحمل وملاقاة كل ذلك في سبيل الدين.. ولكنكم تستعجلون.
وإليك أخي المسلم بعض صور الاستعجال المذموم والذي قد يحدث من البعض والصور كثيرة، لكني اخترت لكم أربعةً منها:
الصورة الأولى: الاستعجال في تغيير واقع الأمة. إن كثيراً من الغيورين على هذه الأمة، وممن لا يرضون بالانحراف والجور والبعد عن منهج الله عز وجل، لهم جهودٌ طيبة ومشكورة في التغيير، كل بحسب اختصاصه، وبحسب الثغرة التي هو يملؤها. إن الغيرة على واقع الأمة شيء مطلوب، والانزعاج مما وصلت إليه الأمة من الذلة والمهانة والخضوع لأعدائها، أمر يلزم قلب كل مسلم عاقل غيور. بل أن الضريبة التي تدفعها الأمة لخصمها الكافر تجعل الساكن يتحرك، والهادئ ينفعل، وهو يرى خيرات الأمة وثرواتها تستنزف في غير مسارها الصحيح، وفي المقابل هناك من أبناء هذه الأمة في بقاع كثيرة من الأرض لا يجدون لقمة العيش، بل إن أعداداً ليست بالقليلة تموت جوعاً وظمأً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم إن هذا الظلم العلني التي توجه سهامه لهذه الأمة، والمتمثل في إزهاق أرواح الأبرياء نساءً ورجالاً، صغاراً وكباراً، دون أي سبب، سوى أنهم مسلمون، هذا الوضع وهذه الصور جعلت طائفة من الناس لا يتحملون ويريدون التغيير بأية صورة.
ولا أريد في هذه العجالة أن أتتبع كل ما يُفعل بالأمة، وكل ما يدبر لها، وكل جوانب النقص والخلل فيها، فليس هذا مجاله.. لكن هذه المقتطفات التي ذكرتها، لأبين السبب الذي قد حرك فئةً من الغيورين للمساهمة في التغيير، فالذي نحذر منه هو! الاستعجال في التغيير.
إن الواقع الذي وصلت إليه الأمة، لم يحصل فجأة ولم تكن الأمة في المساء مستقيمة وأحوالها طيبة، ثم أصبحت، وإذا بالأمور منقلبة رأساً على عقب، أبداً لم يكن التدني والدنو بهذا الشكل. وإنما الذي حصل، هو أن حال الأمة اليوم نتيجة لتخطيط وتدبير استمر مئات السنين، أعداء الأمة يخططون منذ أمد بعيد، وتخطيطهم كان يسير بخطوات هادئة، لكي لا يحدث ردة فعل، فجهة كانت تدبر لتقويض أركان الأمة اقتصادياً، وجهة كانت تعد البرامج لهدم الأمة أخلاقياً، وثالثة كانت تنظّر لغزو الأمة فكرياً، وهكذا مؤسسات ضخمة، وميزانيات ودعم قوي ومستمر ودول قائمة لهذه الجهات، لكي تعمل عملها في الإفساد. فالسؤال الآن هذا التدبير الماكر الذي بدأ بإسقاط الخلافة الإسلامية، وتقسيم العالم الإسلامي إلى دويلات، ثم تبعه ما تبعه من الإفساد هذا المشوار الطويل الذي استمر كما قلنا مئات السنين، هل يمكننا إعادة الأمور إلى نصابها بفترة قصيرة: شهر أو سنة، أو حتى عشر سنين؟ هل يمكن تغيير واقع الأمة ورفع كل جوانب النقص والخلل في مدة سنة أو سنتين أو حتى عشر سنين؟ من كان يظن ذلك فهو مخطئ، ومن كان يتصور هذا فمع كل أسف ليس لديه بُعْد نظر.. إذا كان النزول لم يحصل بسرعة، وإنما استمر عمراً ليس بالقصير من عمر الأمة، فكيف بالصعود مرة أخرى، والكل يعلم بداهةً بأن الصعود أصعب وأشق من النزول.. لا بد أن تكون تقديراتنا معقولة ولا بد أن يكون تصوراتنا فيها شيء من الصحة.
إن تغيير واقع الأمة الآن، وإن انتشال الأمة الآن، من الوحل التي هي غارقةٌ فيه، لا يمكن أن يحصل بسنة، ولا سنتين ولا حتى عشر سنين، بل ربما يستغرق ذلك عمر جيل كامل، أو جيلين، إن لم يكن أكثر.. لأنه ما من جانب إلا ونخر فيه الفساد، فإنه لا يحتاج إلى إزالة هذا الفساد فقط، وإنما يحتاج إلى ملئه بالنافع والصالح أيضاً، فأين العقول المتوفرة في الأمة، لكي تسد كل فراغ؟ وأين الطاقات التي سوف تساهم في كل ميدان؟ النقص كبير، والمسافة بعيدة، ولا أريد بهذا الكلام، إحباط ذوي الهمم أبداً، لكن الفكرة التي أريد أن أوصلها لكم باختصار، هو أن تغيير واقع الأمة الحالي، لا يكون بسهولة، ولا يكون بسرعة، بل لا يمكن ويستحيل أن يحصل بسرعة، فالاستعجال في هذه القضية، يحتاج إلى دراسة متأنية، فكما أن الشر استمر سنوات وهو يخطط وينظّر حتى نشر شره، فكذلك الخير يحتاج إلى سنوات وهو يخطط وينظّر حتى يزيل الشر الموجود، ويوجد مكانه الخير.. الصحوة موجودة والحركة العلمية بدأت لكن كل هذا بحاجة إلى تربية طويلة. وإن كنا على يقين تام، واعتقاد جازم، بأن العاقبة للتقوى، وتسلم زمام الأمور سوف يكون لأهل الخير والاستقامة بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثانية من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في نزع بذور الشر من نفوس الناس.. وهذه شبيهة تقريباً بسابقتها، لكن تلك على المستوى العام، وهذه لها علاقة بدعوة الأشخاص، بعض من لهم جهود طيبة ومشكورة في إصلاح الناس، وبث الخير بين الناس، ومحاولة نزع وتقليل الشر من نفوس الناس، هولاء يستعجلون أحياناً، ويريدون أن يرتقوا بالمدعوين دفعة واحدة وبسرعة، وهذا خطأ، فنفوس أشربت المعاصي سنوات عديدة، ونفوس ألفت المنكرات مدة طويلة من الزمن، من الاستعجال المذموم أنك تريد نسف هذا الركام في وقت قصير، وفي لحظة.. بل من الطبيعي أنك ترى أخطاء، وتشاهد قصوراً وضعفاً، فالواجب عليك الصبر، وغض الطرف أحياناً عن بعض التقصير، حتى تستقيم هذه النفوس شيئاً فشيئاً على دين الله.
هل تتصور أن بقاء الشخص على منكر أو معصية عشرة أو عشرين سنة لا يكون له أثر أو بقايا في نفسه حتى ولو التزم؟ إن كنت تظن هذا فأنت مخطئ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – وتأمل معي أخي المسلم هذا المقطع من كلام شيخ الإسلام، فإنه كلام نفيس – يقول رحمه الله: وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفى الرسول عما عفى عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع [1]..انتهى. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] مجموع الفتاوى 20/60
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
الصورة الثالثة من صور الاستعجال المذموم: الاستعجال في الفتوى. هناك العديد من النصوص التي تحذر من الفتوى بغير علم، والتحدث في أمور الشرع والدين بغير بصيرة قال الله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.
إن أهل العلم الحقيقيين لا يودون أن يُسألوا، لأنهم يعلمون خطورة الفتوى، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كلهم يحيلها لغيره، حتى ترجع للأول، كل هذا تورعاً من أن يتكلم أحدهم بشيء في الدين ثم لا يكون صواباً. لأن الفتوى معناها أن حكم الله في هذه المسألة هو كذا، وهذا أمر صعب خصوصاً في الأمور والقضايا التي لا يكون الأمر فيها واضحاً وضوحاً بيناً، فلذا يقال بأن الاستعجال في الفتوى أمر مذموم، ولا يتعجل في الفتوى إلا جاهل، ولا يجرؤ على الفتوى إلا قليل البضاعة، ومع كل أسف صار الدين في زماننا هذا يتكلم فيه كل أحد، وأصبح الجميع متخصصاً في تفاصيل أمور الشرع، وأصبحت الجرأة في الفتوى عجيبة، ولذا أصبَحتَ تسمع بالطوام العظام.
المشكلة أن العجلة في التحدث في قضايا الشرع والجرأة في الفتوى لم تعد مقصورة على أنصاف العلماء وأرباع العلماء وطويلبي العلم، بل حتى بعض العوام أصبحوا مفتين، وتجد في كل عائلة وفي كل حي أحياناً هناك هيئة لكبار العلماء، ولجنة دائمة تجتهد في كل أمر وفي كل مسألة، وفي قضايا لو عرضت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رقة الدين وزيادة الجهل وضعف الخوف من الله، والله المستعان.
ثم إن المفتي، ومرجعية الفتوى تكون لمن؟ هذا لا تحدده المناصب، وليست المسألة تعين فلان أو فلان، فإن الأمة تعرف لمن ترجع حال النوازل، ومن هم العلماء الراسخون الذين يُلجأ لهم في الفتوى بعد الله عز وجل، ففي الوقت التي كانت حكومة المأمون ضد الإمام أحمد رحمه الله وجردته من كل شيء: من الإمامة والتدريس والفتوى بل وجردته حتى من ثيابه وأودعته السجن ووضعت القيد في يديه ورجليه، في تلك اللحظة كان هو مفتي أهل السنة والجماعة في وقته، وله المرجعية في المسائل. ومثله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في الوقت الذي حبس في سجن القلعة بدمشق وألّب قضاة السوء الحكومة عليه كان هو المفتي الحقيقي للأمة، وفتاواه هي التي يعمل بها في حين كان غيره خارج السجن حراً طليقاً ولا يؤبه لرأيه.
الصورة الرابعة من صور الاستعجال المذموم: بل والخطير هو الاستعجال في الحكم على الأشخاص والهيئات والأوضاع.
لقد أمرنا الله عز وجل بالتثبت، ونهانا عن قبول خبر الفاسق، وأحياناً يظهر في المجتمع من يتخصصون في تفسير النيات، والمقاصد والنوايا.. فلان يقصد كذا، وفلان كان يريد بكلامه كذا، وفلان ينوي أن يقول كذا.
وحديثي ليس إلى هذه الفئة، لأن من سلك هذا المسلك فانحرافه أظهر من أن يبين واعوجاجه أبين من الشمس، فليس من منهج أهل السنة والجماعة، تبديع الناس وتفسيقهم من خلال النية والمقصد، لأنها قضايا لا اطلاع لأحد من البشر عليها، ولا يعلم بالنيات إلا الله عز وجل، بل ولا حتى من المنهج الصحيح تبديع فرد بعينه بمجرد كلمة خرجت منه، ربما لا يقصدها، أو لا يريد معناها، ونحو ذلك.
لكن نصيحتي لغيرهم، لنا نحن جميعاً أن لا نقبل الطعن في أحد دون بينة، أن لا نستعجل ونقبل كلام أحد في أحد إلا بعد التثبت. فإن من الاستعجال المذموم قبولنا الحكم على الأشخاص والهيئات، أو الأوضاع بطعن، أو تبديع أو جرح دون أدلة قوية واضحة، ودون تأكد من أنه قد أقيمت عليهم الحجة، وبُين لهم الخطأ. والاستعجال في مثل هذه الأمور قد يُحملّك وزر غيرك، أنت في غنى عنه.
(1/953)
يُعرف المجرمون بسيماهم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/3/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات وأعمال من اتصف بها أو عملها كان من المجرمين
2- عقاب المجرم في الدنيا والآخرة
3- أحوال المجرمين مع الأنبياء والدعاة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
أحياناً والشخص يقرأ كتاب الله عز وجل، أو وهو يسمع، يمر بآية أو بمقطع، يشد من انتباهه، فيتأمل في هذه الآية، وإذا هي تحمل في طياتها معانٍ عظيمة جداً، وإذا ما رجع إلى أقوال أهل العلم.رأى أشياء وأشياء لم تكن تخطر بباله لأول وهلة.
ولقد مرت بي آية من القرآن فوقفت عندها. وتأملتها ورجعت لها. فكانت هذه الخطبة. وهو قول الله تبارك وتعالى في سورة الرحمن يُعرف المجرمون بسيماهم يُعرف المجرمون بسيماهم يُخبر المولى تبارك وتعالى أن هناك علامات وسمات وأوصاف. بل وأعمال، يعرف من خلالها المجرم من غيره. هناك بعض الأعمال والتصرفات التي إذا صدرت من الشخص أدخلته في دائرة المجرمين.
ففتشت بعد ذلك في كتاب الله، فإذا بالقرآن مليء بذكر أوصاف المجرمين، وفضح لأعمال المجرمين.بل وآيات كالقوارع تذكر مصيرهم ونهايتهم سواءً في الدنيا أو في الآخرة ، فإليكم أيها الأخوة، بعض أعمال المجرمين، بحيث لو رأينا من يتصف بها، فلا نتردد ونقول بأن فلان مجرم. فالتفريق بينهما واجب، وقد فرق الله بينهما بقوله: أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون قال الله تعالى: وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين وإليكم بعض تلك الآيات: تبياناً لأعمال وأفعال المجرمين. الآية الأولى: قول الله تبارك وتعالى في سورة الفرقان وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين.
فهذا عمل من أعمالهم، وهو معاداة الأنبياء والمرسلين، ومحاربة ما جاء به الأنبياء والمرسلين، ومن ثم المعاداة لأتباع الرسل والمعاداة، ولكل من يدعو إلى ما دعا إليه الأنبياء والرسل، وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين، فهؤلاء المجرمون يضايقهم شريعة الله، ويزعجهم تعاليم الدين، لا يريدون أن يطبق عليهم أحكام الله، ولا يريدون الامتثال لما أمر به الدين. فلا سبيل لهم إلا التمرد على الأنبياء والرسل ومن بعدهم ومعاداة الدعاة إلى دين الأنبياء. فإذا رأينا من يعادي من يدعوا إلى دين الله، فلنعلم بأنه مجرم، إذا رأينا من يحارب دين الله ، فلا نتردد بأن نصفه أنه مجرم، وهذا ليس حكمنا، وليس كلامنا بل هو حكم الله عز وجل، في كل من يعادي شريعة الله، ويخاصم الملة الحنيفية فهو مجرم، وسيحشر يوم القيامة مع المجرمين، وإن تظاهر هنا في الدنيا بأنه من الصالحين.
أولاً: لا فلاح ولا توفيق له في الدنيا، قال الله تعالى: إنه لا يفلح المجرمون ، أما في الآخرة، فيود هذا المجرم أن يتخلص من عذاب الله، لكن أنّى له الخلاص، يود لو كان بإمكانه، أن يفتدي نفسه بأن يقدم أولاده وعشيرته وذويه في مقابل خلاص نفسه، لكن أنّى له ذلك، وهذه نهاية من يعادي شريعة الله، هذه نهاية من يحارب دين الله، هذه نهاية كل مجرم، يعادي دعاة دين الله قال الله تعالى: يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى.
الآية الثانية ، في فضح أفعال المجرمين، قول الله جل وتعالى في سورة الأنعام: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. يخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه ما أن تقوم دعوة إصلاح في أي قرية إلا وتصدى المجرمون لحربها وتصدروا لمقاومتها. فما الفرق إذن بين هذا وبين ما قيل في الآية السابقة؟ الفرق أن الآية الأولى عامة: وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين فالآية لم تحدد من هم هؤلاء المجرمون، أما الآية الثانية ففيها تحديد لنوع معين من المجرمين وهم الأكابر، أكابر أهل القرية. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ، ماذا يفعل هؤلاء الأكابر المجرمون، ما هي أعمالهم: ليمكروا فيها ، ولكنهم في النهاية ومن حيث لا يشعرون: وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين والرؤساء ودعاة الكفر والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة. هذه سنة الله تعالى في كل الأكابر، المجرمين، في كل قرية، إذا هم مكروا بدين الله، ومكروا بحملة دين الله، يكون نهاية مكرهم أن ينقلب الأمر عليهم، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.وإليك الدليل على هذه السنة، وعلى هذه القاعدة: لقد مكر المجرمون الأكابر بأول الرسل نوح عليه السلام ومكروا مكراً كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يعوق ويغوث ونسراً فماذا كان نتيجة تلك المحاربة لدين الله؟ أن أهلكهم الله ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
وقد مكروا بنبي الله صالح عليه السلام فكانت العاقبة له ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.
وُمكر بموسى عليه السلام أشد المكر، وحوربت دعوته، وضيق على أتباعه، ولكن كان الأمر كما قال الله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً فماذا كانت النتيجة فوقاه الله سيئات ما مكروا. وفرعون عندما كان يحارب ويعادي موسى عليه السلام وأتباعه، لم يكن عن جهلٍ بأن ما يقوله موسى هو الحق، لكنها الغطرسة، وحب الكرسي، والتكبر، والعلو في الأرض، ويجمع هذا كله عنوان عام وهو الإجرام.ولكن كما قال المولى جل وعز: إنا من المجرمين منتقمون فانتقم الله منه، وانتقم الله لموسى ولأتباع موسى من إيذاء فرعون، فأماته الله أحسن ميتة، وأهلكه بالغرق، والقصة معروفة، ومكر المجرمون بعيسى عليه السلام ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا أما عن سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام فهي خير شاهد على ما دلت عليه الآية التي نتحدث عنها. ففي قريته - مكة - انبعث أكابرها وذوي السلطة فيها، وهم مجرموا زمانهم، انبعثوا لمقاومة دعوة الإصلاح التي خرجت عليهم، فصار التضييق في كل مكان، وكممت الأفواه ولم يسمحوا لأحد أن يتكلم أو يدعوا لهذا الخير حتى لا يتأثر به غيره. فاضطر بعض المسلمين إلى الخروج خارج البلاد، فكانت هجرتي الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة، وحاولت قريش أن تمنع البعض من السفر أو من الخروج، وهو ما يسمى في الوقت الحاضر بالإقامة الجبرية، فأمسكوا من استطاعوا مسكه، وتفلت البعض الآخر، وخرجوا خارج البلاد، وشكلوا بما نسميه نحن في هذا العصر بحزب المعارضة ضد حكومة قريش في مكة.فحاولت قريش أن تستعيد رعايها فأرسلت مندوبها إلى ملك الحبشة، لكن باءت تلك المحاولة بالفشل، والقصة معروفة، انتهت القصة بأن الأفواه التي كمت عن الكلام وعن تبليغ دين الله، وأولئك الذين خرجوا خارج البلاد، أولئك النفر الذين كانت تطاردهم أجهزة أمن قريش في شعاب مكة وأزقتها، هم الذين دقوا أعناق أكابر المجرمين في بدر وأحد والأحزاب، وغيرها من مواقف الإسلام الفاصلة، أولئك الذين هربوا خارج مكة، ليكونوا حزب المعارضة ضد قريش، ولاحقتهم السلطات القريشية، هم الذين فتحوا القرية - مكة - بعد ذلك، وأذلوا كبرياء المجرمين الأكابر فيها، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وصدق الله العظيم كذلك نفعل بالمجرمين قال الله تعالى: قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين فيا خسارة أولئك الأكابر، أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين كم هو جميل، لو خضع الأكابر لدين الله، كم هو جميل، لو تبنى الأكابر هم بأنفسهم دعوة الخير والإصلاح، فانتفعوا ونفعوا، يُبقي الله لهم سلطانهم وملكهم، هذا في الدنيا، وأما الآخرة فمما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وأي غبن وأي غباوة من الأكابر أن يُهلكوا أنفسهم بأيديهم، يعارضون دين الله، ويتعرضون لأتباع دين الله، فتكون الخسارتين عليهم، في الدنيا بزوال سلطانهم، كما سردت لكم قصص وآيات الرسل، وأما في الآخرة فلعذاب الآخرة أشد وأبقى. وصدق الله العظيم: وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
إن الآيات الواردة في فضح أعمال وأفعال المجرمين كثيرة في كتاب الله، ويصعب جداً في هذا المقام القصير التفصيل. لكن أتابع وعلى عجالة. من أعمالهم وأفعالهم قول البارئ جل وتعالى: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وهكذا المجرمون يفعلون، الضحك على أهل الإيمان والسخرية بهم، وقد يسخر المجرمون وسائل إعلامهم لخدمة هذا الجانب، وقد خرج عدد من الأفلام في الغرب وفي الشرق، فيها الاستهزاء بدين الله علانية، والضحك والسخرية بأهل الإيمان، ولا تردد بأن صاحب هذا مرتد خارج من الملة، فليعرف بأنه لو رُأي أو سُمِع أو قُرأ شيء أقل مما ذكرت ، فقد لا يصل إلى الكفر، لكن ليُعلم بأن أصحابها أقل أحوالهم أنهم مجرمون.
ومما ذكر أيضاً في القرآن قوله تعالى: إلا أصحاب اليمين في جناتٍ يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نكن نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين.
فهذه جملة أخرى من صفات المجرمين، لو رأينا شيئاً منها فلا نتردد بإطلاق الإجرام على أصحابها.
وأيضاً فإن الظلم والترف من صفات المجرمين قال الله تعالى: فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
فليتق الله كل من وجد في نفسه خصلة مما ذكرت، فليتق الله كل من به إجرام، فإن النهاية ليست هينة، فضيحة في الدنيا، وخزي وذل وصغار في الآخرة، هذا الذي ساقه إجرامه إلى إذلال أهل الإيمان، ستكون نهايته قول الله تعالى: سيصيب الذين أجرموا صغارٌ عند الله وعذاب شديد. ذلك المجرم الذي كان يحارب دين الله ويرفع رأسه على شريعة الله، ويشمخ برأسه على عباد الله الصالحين، ذلك الرأس سوف يُنكس يوم القيامة.اسمع إلى قول الحق في ذلك ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون. هل هذا فحسب، كلا، بل وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليّذكر أولوا الألباب.
أما عن حشر المجرمين فلا تسل، فإن الله تعالى يقول: ونحشر المجرمين يومئذٍ زُرقاً أي زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال فيا بؤس نهاية كل مجرم، ويا تعاسة خاتمة المجرمين حقاً لا بشرى يومئذً للمجرمين فأين يكون مستقرهم النهائي؟ وأين يحطون رحالهم، إنه في جهنم والعياذُ بالله قال الله تعالى: ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً وقال الله تعالى: إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموتُ فيها ولا يحيى وقال الله تعالى: إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون.
فنسأل الله جل وتعالى...
(1/954)
أحكام الأضحية
فقه
الذبائح والأطعمة
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – الحكمة من الأضحية
2 – شكر الله على شعيرة الأضحية
3 – مشروعية الأضحية
4 – أحكام وشروط الأضحية
5 – من الأحكام المتعلقة بالمضحي
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد :
أيها المؤمنون نحن على أبواب شهر ذي الحجة حيث نرقب فيه بعد أيام قليلة وفود ذلك اليوم العظيم الذي تجتمع فيه وفود المسلمين من كل جوانب الأرض وفجاجها تلبية النداء الخالد الذي أذن به إبراهيم عليه الصلاة والسلام إستجابة لأمر ربه اذ قال له: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا إسم الله في أيام معدوادات على مارزقهم من بهيمة الأنعام وإذ كان حجاج بيت الله الحرام قد أكرمهم الله بهذه العبادة العظيمة وهي الحج فإن المسلمين في أرجاء الوطن لابد أن يكون لهم كرماً من الله ومنة عليهم وتكريماً لهم عبادة يتقربون بها الى الله وهي تشبه بعضاً من هذه العبادات التي يؤديها الحجاج والعمار، هذه العبادة هي الأضحية، والأضحية هي النسيكة التي تذبح يوم العاشر من ذي الحجة أي يوم عيد الأضحى وإنما شرعت لهذه الأمة تذكيراً لها بتلك النعمة الجليلة التي أنجى الله بها أبانا إسماعيل عليه الصلاة والسلام كما قصها علينا القرآن الكريم فقال تعالى: فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا ابراهيم أن قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم فكانت هذه الأضحية تذكيراً لهذه الأمة بنعمة جليلة أبقت على وجودها في هذه الأرض لتحمل رسالة الإسلام وتكون خير أمة أخرجت للناس في هذه الدنيا، وهذه النعمة ينبغي لهذه الأمة أن تشكر الله عليها وتديم الشكر عليها، والشكر لا يكون مؤدى على وجهه الا اذا تحقق فيه شرطان:
الأول: فهو أن يكون خالصاً لله وحده.
الثاني: بأن يكون عملاً موافقاً لهدي النبي وبذلك يتحقق الشكر الذي شرعه الله لهذه الأمة أداءً لحق الله عليها لكي تتقرب الى الله بأجل الطاعات وأعظم النعم.
واذا كنا نشارك حجاج بيت الله هذه الشعيرة العظيمة وهي الأضحية، فلابد أن نعلم بعضاً من أحكامها لنكون على بينة منها، لأن المسلم لاينبغي أن يجهل حكماً من أحكام الله التي فرضها وشرعها له، ولكي نتبين أحكام هذه الأضحية يجب علينا أن نعلم:
أولاً: أن الله تبارك وتعالى شرع هذه الأضحية أو النسيكة لهذه الأمة، به حكم كتابه وعلى لسان رسوله وأجمعت الأمة عليها من يوم أن شرعها النبي ولن تغيب مشروعيتها ما دامت تحيا على وجه الأرض، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر فقد جاء ترتيب النحر أي الذبح بعد الصلاة وهذا الترتيب فعله رسول الله عملاً، وعلمه أمته أيضاً قولاً وعملاً ذلك من سنته الحكيمة المحكمة، فالله سبحانه وتعالى يقول: فصل لربك وأنحر أي صل صلاة عيد الأضحى ثم أنحر وأذبح نسيكتك تعليماً وإشهاداً لهذه الأمة أنها لن يغيب عنها حكم من الأحكام وأن هذه الأحكام إنما شرعت بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه.
وأما من السنة فقد جاءت الآثار والأحاديث القولية والفعلية كثيرة، كثيرة جداً من ذلك ما يرويه لنا انس بن مالك أن النبي ضحى يوم الأضحى بكبشين سمينين أملحين، والأملح هو الأبيض الذي يخالطه بعض السواد، وكان عليه الصلاة والسلام اذا فعل أمراً أشهد الناس عليه لأنه يريد أن يشيع وأن يكون مشروعاً لهذه الأمة بقوله وفعله ولذلك كان عليه الصلاة والسلام لا ينحر نسكه الا في المصلى، ومن هنا ثبتت الحكمة التي من أجلها شرعت صلاة العيد في المصلى ولم تشرع في المساجد، ذلك لأن المساجد ليست محلاً لإراقة الدماء، وقد أجمعت الأمة على هذه الأضحية من غير نكير لها ولا مخالف لها، بحيث لايستطيع أن يغيب عنها حكمها.
ثانياً: وأما المسألة الثانية التي ينبغي أن نعلمها ألا وهي أن هذه العبادة وهي الأضحية إنما تكون من المال وليست من جهد البدن، وعليه فإن المسلم الذي يريد أن يضحي عليه أن يتخير مال أضحيته من طيب ماله وكسبه، ولذلك فلا تعمدوا أيها المؤمنون الى المال المخلوط بالربا أو بشيء من الحرام لتشتروا به أضحيتكم، ذلك لأن الله أمرنا أن نخرجها وننفقها من طيب أموالنا إذ يقول سبحانه: يا ايها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولاتيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه والرسول يقول: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)) اذاً لايليق بالمسلم أن يشتري أضحيته إلا من طيب وخالص ماله حتى تكون عبادته مقبولة.
ثالثاً: وأما المسألة الثالثة وهي أن الأضحية لا تقبل إلا بشروط، وقد أوضحها وبينها نبينا عليه الصلاة والسلام وهي:
أن تكون الأضحية مسنه، والمسنة هي الثنية من الضأن والبقر والإبل فمن الضأن في سنة فما فوق، ومن البقر سنتين وتدخل في الثالثة، ومن الأبل خمس سنوات وتدخل في السادسة، فاذا تعسرت المسنة أجزأت الجذعة من الضأن التي لم تبلغ سنة لقوله : ((لا تذبحوا الا مسنة الا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) 1 ، فعليكم أن تختاروا أنعم السن وأحسنها بدناً، وأصفاها دماً، وأنقاها من العيوب كما قال مبيناً لنا الشروط والأخرى: ((أربعة لاتجوز في الأضاحي العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والعجفاء التي لا تنقى)) والعجفاء التي لا تنقى أي الهزيلة الضعيفة التي ذهب مخ عظم ساقيها ولأجل ذلك كان النبي يتخير السمين من الكباش حتى تكون سليمة من العيوب، فضحى عليه الصلاة والسلام بكبشين سمينين أملحين. فعليكم عباد الله أن تختاروا الأضحية الحسنة المنظر، السليمة من العيوب، والتي أتمت السنة وإلا فالأقرب الى السنة وفقني الله وإياكم لتعظيم شعائر الله عز وجل.
1 - رواء مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وأما المسألة الرابعة وهي حكم الأضحية هل هي مسنونة مندوبة بحيث اذا تركها القادر عليها لا يلام ولا يعاقب ولا يؤاخذ على تركها أم أن حكمها الوجوب بحيث لو تركها عوقب وأثم على تركها، واذا أردنا أن نعرف ذلك فعلينا أن نسوق الأدلة من الكتاب والسنة، فأما صريح الكتاب فقوله تعالى: فصل لربك وأنحر فقد أمر الله بالنحر وهو الذبح والأمر هنا يفيد الوجوب إذ لم يأت ما يصرفه عن ذلك، بل النصوص من الآثار والأحاديث تدعم القول بأنها واجبة. وإن السلف لم يتخلفوا يوماً أو عاماً عن التقرب الى الله بهذه الأضحية ولا أدل على ذلك من قوله : ((من ذبح قبل الصلاة فليعد)) وفي لفظ آخر: ((من ضحى قبل الصلاة فليضح بأخرى مكانها)) فهذا الحديث صريح تماماً في أن الأضحية واجبة على المسلم القادر وأنه من تخلف عن الإستجابة لهذا الأمر فإنه يأثم ويعاقب على عدم فعله، ولو كانت الأضحية غير واجبة لما طلب النبي من الذي ذبح قبل صلاة العيد أن يعيد الذبح بعد الصلاة بأضحية أخرى، فالأمر بالإعادة يدل على أن الأضحية واجبة ولا يلتفت الى ماكان من الذبح قبل الصلاة.
وأما المسالة الخامسة وهي وقت الأضحية: يبدأ وقت الأضحية بعد صلاة العيد من اليوم العاشر من ذي الحجة وهذا ما جاء صريحاً في الحديث السابق، وأصرح منه ما جاء في رواية اخرى أن النبي قال: ((من كان ذبح قبل أن يصلي فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد أن يصلي فقد تم نسكه وأصاب سنة المرسلين)) 2 ، ويستمر وقتها طيلة أيام التشريق الثلاثة لقوله : ((أيام التشريق كلها ذبح)) سواء كان للأضحية أو الهدي للحاج المتمتع أو القارن غير أن الهدي له مكان خاص وهو الحرم المكي بينما الأضحية تذبح في كل بلاد المسلمين، وعلى المسلم أن يذبح بيده هو فإن ذلك من السنة، وإلا عليه أن يشهد ذبحها اذا وكل غيره للذبح لأن النبي ذبح في حجة الوداع مائة من الأبل، ذبح هو بيده الشريفة ثلاث وستين منها، ووكل الباقي لعلي ليذبحها، ويجوز للمضحي أن يأكل ويتصدق ويدخر من أضحيته ما شاء دون تعيين للقسمة، لا ثلث ولا غيره، لقوله تعالى: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ولقوله : ((كلوا وتصدقوا وتزودوا وأدخروا)) 3 ، وأعلم أيها المسلم أنه اذا دخلنا العشر الأوائل من ذي الحجة وأردت أن تضحي فلا تأخذ من شعرك ولا من أظفارك شيئاً لما أخرجه مسلم أن النبي قال: ((من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره)) وأعلم أيضاً أنه يستحب لك يا من تريد أن يغفر الله لك أن تصوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة فقد قال فيه صلى الله عليه وسلم حين سئل عن صوم يوم عرفة فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) 4 ، فأي فضل كهذا فأحرص أخي المسلم على أن لايفوتك هذا الفضل العظيم.
فالله نسأل أن يوفقنا للعمل في هذه العشر الأول من ذي الحجة فإن العمل الصالح فيها أحب الى الله من العمل في غيرها، لحديث إبن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مامن أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه - أي العشر من ذي الحجة – إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)) ، فاحرصوا أيها المؤمنون على فعل الخير في هذه الأيام. وفقني الله وإياكم لطاعته وجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
2 - أخرجه البخاري.
3 - أخرجه مسلم.
4 - رواه مسلم.
(1/955)
استقبال شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, الكبائر والمعاصي, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – البشارة والتهنئة بشهر رمضان.
2 – بعض المنكرات التي تقع في رمضان
3 – أصناف الناس في استقبال رمضان
4 – فضل رمضان
5 – شكر الله على بلوغ رمضان
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
عباد الله: لقد أهلّ علينا شهر من أعظم الشهور، فهو شهر عبادة يتقرّبُ بها العبد إلى ربه. بترك محبوباته من طعام وشراب لينال رضا ربه، ولو يعلم العباد ما في هذا الشهر الكريم من الأجر والثواب لتمنّت الأمة أن تكون السنة كلها رمضان. يقول الله عزّ وجل: ((يترك شهوته وطعامه وشرابه لأجلي، فالصوم لي وأنا أجزي به)).
هذا الشهر الكريم كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبشِّر أصحابه بقدومه فيقول: ((أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تُفتح فيه أبواب السماء، وتُغلق فيه أبوب جهنم، وتُغلّ فيه مَرَدة الشياطين، لله فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم)) قال العلماء هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بدخول الشهر، فالشقي من حُرِم فيه رحمة الله، وكيف لا يكون شقياً وخاسِراً وهو لم تدركه رحمة الله في شهر التوبة والغُفران ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالبعد والهلاك والشقاء والخسران لمن أدرك رمضان ولم يُغفر له. فعن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُحضِروا المنبر فحضرنا فلما ارتقى درجة قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: آمين. فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: آمين)) فلما نزل قُلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كُنا نسمعه قال: ((إن جبريل عرَض لي فقال: بَعُد من أدرك رمضان فلم يُغفَر له. قلت: آمين. فلما رقيت الثانية قال: بَعُد من ذُكِرتَ عنده فلم يُصَل عليك. فقلت: آمين. فلما رقيت الثالثة قال: بعُد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يُدخلاه الجنة قلت: آمين)).
ولله عزّ وجل أيها الصائمون في هذا الشهر عتقاء من النار وذلك كل ليلة من ليالي رمضان، فعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة – يعني من رمضان – وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة – أي لا تُرَد -)) فانتبهوا عباد الله لهذا الوقت واشغلوه بدَعوات صالحات. كم من مؤمن أيها الأحباب لم يُدرك هذا الشهر، بالأمس القريب مات جارٌ أو قريبٌ أو أخ أو صديق ولم يُدرك رمضان، فاحمَدوا الله عزّ وجل أن أبقاكم أحياءً ومنحَكم فرصة، فاغتنموها ولا تُضيِّعوها، ولينظر أحدنا ماذا أعدّ لرمضان، وكيف استعدَّ له؟ أنستعدّ له في تضييع أوقاته في السهر على المُحرّمات من شُربٍ للمُخدِّرات والتمتّع بالأفلام والمُسلسلات الساقطات والجري وراء الشَهَوات، أو نستقبله بالإسراف والتبذير في المأكولات والتّلهُّفِ على الملذّات. أم نستعدّ له بالحفلات والأغاني أم نستقبله بالمعاصي والحرام ومحاربة الملك الديّان.
إن الناس في استقبالهم لرمضان على صنفين اثنين.
أما الصنف الأول: فهم الذين يفرحون بهذا الشهر ويُسرُّون بقدومه، لأنهم عوَّدوا أنفسهم على الصيام ووطّنوها على تحمُّله، ولهذا جاء في السنة النبوية استحباب صيام الاثنين والخميس وأيام البيض ويوم عرفة ويوم عاشوراء مع يوم قبله وصيام شعبان وغير ذلك من أنواع الصيام المُستحب الذي سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ليعتادوا الصوم ويتزوَّدوا من التقوى. وأثر ذلك واضح في الواقع، فإنّك تجد الذي يصوم النفل لا يستثقل صيام رمضان بل هو عنده أمر يسير لا كُلفة فيه ولا عناء، وأما الذي لا يصوم شيئاً من النافلة فإنّ رمضان يكون عليه ثقيلاً شاقاً. ولقد كان السلف مِثالاً رائعاً في الحرص على النوافل، ورُوي عنهم في ذلك قصص عجيبة، من ذلك أن قوماً من السلف باعوا جاريةً لهم لأحد الناس فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان كما يصنع كثير من الناس اليوم، فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: لماذا تصنعون ذلك؟ قالوا لاستقبال شهر رمضان فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان، والله لقد جئت من عند قوم السنة عندهم كأنّها كلُّها رمضان، لا حاجة لي فيكم رُدّوني إليهم ورجعت إلى سيدها الأول.
ويروى أن الحسن بن صالح وهو أحد الزّهاد العُبّاد الأتقياء كان يقوم الليل هو وأخوه وأمّه ثلاثاً أي يقوم هو الثلث الأول، وأخوه الثلث الثاني، وأمّه الثلث الثالث فلما ماتت أمه صار يقوم هو نصف الليل وأخوه النصف الآخر، فلما تُوفي أخوه صار يقوم الليل كلّه. وكان لدى الحسن بن صالح هذا جارية، فاشتراها منه بعضهم فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد قامت تصيح في الدار: الصلاة الصلاة. فقاموا فَزعين وسألوها هل طلع الفجر؟ فقالت: وأنتم لا تُصلّون إلا المكتوبة؟ فلما أصبحت رجعت إلى الحسن بن صالح وقالت له: لقد بِِعتني إلى قوم سوء لا يُصلّون إلا الفريضة ولا يصومون إلا الفريضة، فردّني فردّني.
هؤلاء كانوا فرحين برمضان لأنهم يعلمون أن منع النفس وكفّها عن المَلذات في هذه الدنيا سبب نيلها في الآخرة فإنّ امتناع الصائم عن الأكل والشرب والجماع وسائر المُفطرات في نهار رمضان طاعة لله عزّ وجل يكون سبباً في حصوله على ألوان الملذّات الخالدة في الجنة فيقوى يقين المُتقين بذلك، تراهم يفرحون بقدوم هذا الشهر الكريم، وعلى العكس من ذلك حال المُنغمسين في الملذّات المّحرّمة في هذه الدنيا فإن انغماسهم فيها يكون سبباً في حرمانهم منها يوم القيامة. ألم يقل رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب)) وإنما يُحرم من شربها يوم القيامة – وإن دخل الجنة – عقاباً له على تمتّعه بخمر الدنيا وهي مُحرّمة عليه. وما يُقال في الخمر يقال في لبس الحرير للرجال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) كذلك يفرح هؤلاء بهذا الشهر لأنهم يُدركون أنه من أعظم مواسم الطاعات والتنفس في القُربات، ويعلمون أن الله يُجري فيه من الأجور ما لا يُجري في غيره من الشهور، فلا عجب أن يفرحوا بقدومه فرح المشتاق بقدوم حبيبه الغائب أو أعظم من ذلك. هذا هو الصنف الأول من الناس في استقبال شهر رمضان.
وأما الصنف الثاني: الذين يستقبلون هذا الشهر ويستعظمون مشقّته، فإذا نزل بهم فهو كالضيف الثقيل، يَعُدّون ساعاته وأيامه ولياليه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر، يفرحون بكل يوم يمضي منه حتى إذا قرُب العيد فرحوا بِدُنوّ خروج هذا الشهر، وهؤلاء إنما استثقلوا هذا الشهر وتطلّعوا إلى انتهائه لأنهم اعتادوا التوسُّع في الملذات والشهوات من المآكل والمشارب فضلاً عن ارتكابهم للذات المُحرّمة كالنظر إلى النساء وعدمِ غضّ البصر وغيرها. فوجدوا في هذا الشهر مانعاً وقيداً يَحبِسهم عن شهَواتهم، ويَحول بينهم وبين ملذّاتهم، لذلك ثَقُل عليهم رمضان ولأنهم قوم عظُم تقصيرهم في الطاعات حتى إنّ منهم من قد يُفرِّط في الفرائض والواجبات، كالصلاة فإذا جاء هذا الشهر التزموا ببعض الطاعات، فترى مَثلاً بعض المُفرِّطين والمُقصّرين يتردّدون في هذا الشهر على المساجد ويشهدون الجُمَع والجماعات ويواظبون على الصيام والصلاة، فبسبب هذا الالتزام الذي لم يألَفوه ولم يتعوَّدوا عليه استعظموا حِمْل هذا الشهر، هكذا حال الذين يستقبلون رمضان لأنهم سيفارقون ما ألِفوه من الشهوات ويلتزمون ببعض العبادات هذا مع ضعف يقينهم بما أعدّه الله تبارك وتعالى للمؤمنين وعدم استحضارهم لِفضل هذا الشهر وما فيه من الأجور العظيمة، فلا عجَب ألا يجدوا من اللذة والفرح والسرور بهذا الضيف الكريم ما يجده الصادقون المؤمنون.
جعلني الله وإياكم ممن يَفرح بقدوم رمضان ويجتهد فيه للتقرُّب إلى الله عزّ وجل إنّه وليّ ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
وماذا عن شهر رمضان، إنه شهر أنزل الله فيه كتابه وفتح فيه للتائبين أبوابه، فلا دعاء فيه إلا وهو مسموع، ولا خير إلا وهو مجموع، ولا ضُر إلا وهو مدفوع، ولا عمل إلا وهو مرفوع، الظافر الميمون من اغتنم أوقاته، والخاسر المَغْبون من أهمله ففاته، شهر جعله الله لذنوبكم تطهيراً ولسيئاتكم تكفيراً، ولمن أحسن منكم صُحبته ذخيرة ونوراً. ولمن وفّى بشرطه وقام بحقِّه فرحاً وسروراً، شهرٌ تَورَّع فيه أهل الفسق والفساد، وازداد فيه إلى الرغبة إلى الله أهل الجدّ والاجتهاد، شهر عمارات القلوب، وكفّارات الذنوب واختصاص المساجد بالازدحام والتحاشر، شهر فيه المساجد تُعمر، والمصابيح تزهر، والآيات تُذكر، والقلوب تُجبَر، والذنوب تُغفَر، شهر تُكثِر فيه الملائكة لصوّامه بالاستغفار ويَعتق فيه الجبّار في كل ليلة ويوم، وتنزل فيه البركات وتعظُم فيه الصدقات، وتكفر فيه النكبات، وتُرفع فيه الدرجات وتُرحم فيه العبَرات، وتنادي فيه الحور الحِسان من الجنّات: هنيئاً لكم يا معشر الصائمين والصائمات، والقائمين والقائمات بما أعدّ الله لكم من الخيرات، فقد غمرتكم البركات واستبشر بكم أهل الأرض والسماوات. فيا ليت شعري مَن المقبول منّا فنهنّئه بحسن عمله؟ أم ليت شعري من المطرود منّا فنعزّيه بسوء عمله؟
عباد الله: أوصيكم ونفسي في هذا الشهر الكريم بوصيتين أرجو الله أن ينفعنا بهما، أما الوصية الأولى: فهي أن تَحمَد الله أيها الصائم على نعمة الله التي أسبغَها عليك، ومنها أن كتَب لك الحياة حتى بلغت رمضان فتذكّر أولئك الذين حنّت أرواحهم واشتاقت أنفسهم لبلوغ رمضان، قد مضى بهم القدَر وانقطع عنهم الأثر فهم اليوم في الأعماق تحت التراب. كانوا يتمنّوَن لقاء هذا الشهر فما بلغوا مُناهم، وما حقّقوا رَجاهم، وأنت أيها العبد قد وفّقك الله لذلك، فاذكر نعمة ربّك عليك، وقُل بلسان الحال والمقام: اللهم لك الحمد أن بلّغتني رمضان، وتذكّر أيضاً أيها الصائم إخواناً لك على الأَسِرّة البيضاء في المُستشفيات – شفاهم الله – قد منعَتهم الأمراض وحالت بينهم وبين الصيام والقيام تَذكّر هؤلاء الناس الذين ودّوا أن يصوموا فما استطاعوا وودّوا أن يقوموا فما تمكّنوا، فاذكر أيها العبد ما تتمتّع به من العافية، وانظر إلى جسدك وهو تغمرُه الصحة الغالية فإذا تَذكرْت ذلك فاسأل الله دوام العافية، واسأله أن يعينك على دوام الطاعة والإنابة إليه. ثم تذكّر أيها العبد أنّ صيامك إنما هو لله فإن جُعت لله وعطشت لله فلا تؤثِّر فيه نزَغات الشيطان من الجن والإنس، وتذكّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُث ولا يَصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)). فكُن على حذر من هذا حتى لا تُضيع صيامك.
وأما الوصية الثانية: فهي للقائمين. إذا وفّقَك الله لأن تقوم ليالي رمضان فاحرص على أن يكون خروجك من بيتك لصلاة التراويح لله عزّ وجل لا تُريد إلا وجهه، ولا يكون في قلبك إلا ما أعدّه الله للقائمين فقد قال نبيّك صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه)). واعلم أنه ما رَفعتَ خطوة وأنت ذاهب إلى المسجد إلا رفعَك الله بها درجة وما وضعت قدَماً إلا حطّت عنك سيئة، فكم من أُناس وقفوا بين يدي الملك العلاّم وهم في القيام أوجب الله لهم دار السلام. وكم من أناس اجتهدوا في القيام في جوف الليل فما كان حظُّهم إلاّ التعب والسهر. فالإخلاص الإخلاص عباد الله، وإيّاك أيها العبد أن تَمَلَّ وأنت قائم فكم من أُناس يستثقلون آية يسمعونها وهم قيام خَلف إمامهم ولكنهم لا يَملُّون الحديث وهم في مجالس الغيبة والنميمة فإيّاك أن تَبْخَس أعمالك وأنت لا تَشعر. فاصبروا على قيامكم وتَذكّروا أنه أهون وأخف من قيامكم يوم الحشر بين يدَي ربكم. واحتسبوا أجر القيام عند ربّكم. كما أُوصيكم وأنتم قائمون أن تسمعوا وتُنصِتوا وتتدبّروا في الآيات التي تسمعونها واعرضوها على أعمالكم، فإن وجدتم أنفسكم معها طائعين فاحمَدوا الله واسألوه الثبات على ذلك، وإن وجدتم أنفسكم مُخالفين أو مُقصِّرين فتوبوا إلى ربكم وأصلحوا ما أفسدتم وتداركوا ما فاتكم فَفُرصة هذا الشهر بين أيديكم، فاللهم وفِّقنا لاغتنامها والإكثار من العمل الصالح فيها وانفعنا بالصيام والقيام وبما نقول وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أنّ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/956)
الأمانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – فضل أداء الأمانة
2 – تعريف الأمانة والتمثيل لها.
3 – وجوب إعطاء الوظائف للأكفاء
4 – تضييع الأمانة من أشراط الساعة
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم يا عبد الله وفقني الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الأمانة من الإخلاق الفاضلة، وأنها أصل من أصول الديانة، وهي ضرورية للمجتمع، لافرق فيها بين حاكم وموظف وصانع وتاجر ومزارع، ولا بين غني وفقير، ولا كبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير، وواجب الموظف ورأس مال التجار، وسبب شهرة الصانع، وسر نجاح العامل والمزارع، ومفتاح كل تقدم بإذن الله، ومصدر كل سعادة وفلاح بإذن الله، وليست الأمانة محصورة في الودائع التي تؤمن عند الناس من نقود وجواهر ونحوها، بل الأمانة أوسع من هذا كله، فالأمانة عمل لكل مالله فيه طاعة، وإجتناب كل مالله فيه مخالفة ومعصية، سواء كان ذلك في عبادة الله أو في معاملة عباده.
فالصلاة أمانة عندك مطلوب منك أن تؤديها في وقتها. إن لم يكن عذر شرعي كاملة - غير منقوصة مستوفية لفرائضها وأركانها وشروطها وسننها، وأداؤها بقلب خاشع وجسم مطمئن فإن فعلت ذلك فقد حافظت على الأمانة، وإن قصرت في جانب منها فقد ضيعت هذه الأمانة بقدر تقصيرك، والزكاة أمانة عندك أيها الغني مطلوب منك أن تؤديها في وقتها كاملة إذا جمعت الشروط، طيب بها نفسك لكي تطهر مالك وتزكي نفسك وتسلم من عقوبة إضاعتها، والصيام أمانة مطلوب منك أن تحفظه وتصونه عما يفسده، فلا يفكر عقلك إلا في خير ولا ينطق لسانك إلا حسناً ولا تسمع أذنيك إلا طيباً ولا تنظر عيناك إلا الى حلال ولا تمد يدك إلا إلى إصلاح ولا تسعى قدمك إلا إلى طاعة ومعروف، والحج أمانة الله في عنقك إن كنت ممن توفرت فيه الإستطاعة، فتنظر إلى المال الذي ستحج به أهو من حلال أم حرام، وهل جمعته من عرق جبينك أو جمعته من دماء الناس وسرقة أموالهم بغش أو رشوة أو رباً أو نحوها، وهل تريد بحجك سمعة ورياء أو تبتغي به وجه الله، المهم أن تفتش في نفسك قبل العمل لئلا تخسر الدنيا والآخرة، وبقدر ما يكون الإنسان مقصراً في عبادة من هذه العبادات يكون غير موف لأمانته تماماً، فينبغي لك أيها المسلم أن تستحضر في كل ساعة، وفي كل نظرة ولفتة وفي كل إشارة وعبادة وفي كل حركة وسكون أنك مطالب بالأمانة، فلسانك أمانة عندك، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله والقذف والفحش ونحو ذلك مما نهى الله عنه وأستعملته في ذكر الله وتلاوة كلامه فقد حفظت هذه الأمانة، والأذن أمانة، إن جنبتها إستماع المحرمات من الغيبة والملاهي والغناء واستعملتها في إستماع ما ينفعك في الدنيا والآخرة فقد حفظت الأمانة، ورجلك أمانة عندك، إن إستعملتها بالمشي إلى ما أمر الله كإكثار الخطوات الى المساجد لحضور الصلاة مع الجماعة أو منعتها من السير الى كل ما يغضب الله فقد حفظتها، وكذلك الفرج، إن جنبته الزنا وكل مانهى الله عنه وأستعملته فيما أباحه لك الله فقد حفظته، قال تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين وكذلك عقلك إن إستعملته فيما ينفعك ولم تستعمله في المكر والخداع والكيد للمسلمين فقد حفظته.
ومن معاني الأمانة أن يوضع كل شئ في مكانه اللائق به والمناسب له، فلا يعطي منصب الا لمن هو أهل وكفؤ له، أما من يعجز عن القيام به ويهمله فلايجوز إسناده اليه فعن أبي ذر قال: قلت يارسول الله ألا تستعملني – أي ألا تعطيني ولاية أو إمارة – قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه)) فأين نحن من أبي ذر وأولئك الرجال الذين شهد لهم رسول الله بالخير؟.
إن الولاية أو المنصب أو الحكم شرطها: العلم والقوة وحفظ الأمانة، فالواجب أن يختار للعمل فيها أحسن الناس قياماً بها، و\أما ان أختار شخصاً لهوى أو رشوة أو قرابة فهذه خيانة من ولاه أو اختاره، قال : ((من أستعمل رجلاً على عصابة – جماعة – وفيهم من هو أرضى الله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) وعن معيقل بن يسار قال: سمعت رسول الله يقول: ((مامن عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) وفي رواية لمسلم: ((ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم أو ينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)).
أيها الناس: إن الأمة التى لا أمانة هي التي تنتشر فيها الرشوة وتهمل الأكفاء وتبعدهم وتقدم الذين ليسوا أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة التي قد وقعت فقد جاء عن النبي أن رجلاً سأله عن الساعة فقال: ((إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال: وكيف أضاعتها؟ قال: إذا وسِدَ الأمر لغير أهله فانتظر الساعة)) ، ومن الأمانة أن لايستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه من أجل منفعة له أو إلى قريبه، كأن يأخذ زيادة على مرتبه بطرق ملتوية، إما بتناول رشوة وإما بتناول رشوة بإسم هدية، يتناولها هذا الخائن بأي وسيلة كانت، ثم مع هذا يريد أن يحللها بنوع من أنواع التأويلات. ألا فليعلم أن كل ذلك غش وخيانة وتلاعب بالدنيا، وما أخذ فهو سحت وأكل أموال الناس بالباطل لأنه ثمرة خيانة وغدر وإستغلال للمنصب، فاسمع يرحمك الله ما قاله نبينا محمد فيما رواه مسلم: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً – أي سرقة على وجه الخيانة – يأتي به يوم القيامة فقام إليه رجل من الأنصار كأني أنظر إليه. فقال: يا رسول الله: اقبل عني عمل. قال: ومالك؟ قال: سمعت تقول كذا وكذا. قال: وأنا أقوله الآن: من أستعملناه منكم في عمل فليجأ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ، وما نُهي عنه انتهى)) ، وقد إستعمل النبي رجلاً على جمع الصدقة فلما رجع هذا الرجل قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي. فخطب النبي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء أو بقر له خوار أو شاة تيعر)) ، فاللهم اجعلنا من الأمناء السعداء وجنبنا الخيانة الموجبة للشقاء أقول ما تسمعون والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وإن من الأمانة التي ضيعها الكثير من الناس ويشتكي الكثير من أصحابها منهم عدم إيفاء الديون وردها الى أصحابها إما نكراناً منهم أو مماطلة وتأخيراً، فقد جاء عند البخاري ومسلم قوله : ((مطل الغني ظلم)). يعلمنا رسول الله حسن المعاملة وجميل المقاضاة وإنما الدين المعاملة، والدنيا محك الرجال، ولابد للإنسان في هذه الحياة أن يكون آخذاً أو معطياً فإن كان آخذاً أو متصدقاً عليه شكر ودعاء لصاحب المعروف وكافأه على ذلك بما يستطيع أو أخذ منه قرضاً رده لصاحبه عند حلول أجله شاكراً له إحسانه فإن النبي كان يوفي الحق أهله ويزيدهم حتى يرضوا، وأحسن الناس أحسنهم فضاءً، وأما إن كان الإنسان معطياً رفع العطاء لا بخيلاً ولا مناناً ولا مضيقاً على فقير، وينبغي على الذي عليه الدين أن يجعل قضاءه لتيخلص منه فإن النبي كان يكثر من دعائه فيقول: ((اللهم إني أعوذبك من المأثم والمغرم)) وسئل عن سبب إكثاره من هذا الدعاء، فقال: ((إن المرء اذا إستدان حدث فكذب، ووعد فأخلف)) والدين هم بالليل ومذلة بالنهار وكذلك ينبغي على الدائن أن أراد أن يحسن الى المدين فينظره حتى ييسر الله له كما قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم)) أي من أخر مما عليه وهو قادر على رده فهو البغيض الظلوم الممقوت الملام.
إن الذي ينظر في معاملة الناس اليوم يجدها معاملتهم غير شرعية، وأفعالهم غير مرضية فمن الناس من يأخذ شيئاً على سبيل الدين فإذا أتى الأجل المحدد تراه يجحده ويظلم صاحبه، ومنهم وما أكثرهم من يتأخر يسوف في قضائه، ويعد أصحاب الحقوق فيخلفهم، وإذا ردّ شيئاً رده منقوصاً، وإن رده كاملاً رده بالجفاء والسخرية والكلمات الموجعة حتى إننا سمعنا من بعض أصحاب الحقوق من يتنازل عن حقه أو يفوض أمره لله عند من هو معروف بالمراوغة والمماطلة والتلاعب وإخلاف الوعود، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة الا بالله، فلو أخذ المسلمون بتعاليم دينهم والتزموا أحكام شريعتهم فحافظوا على الأمانات سواء في العبادات أو المعاملات لربحت تجارتهم وحفظت حقوقهم وغنى فقيرهم، وبورك لهم في أرزاقهم وسلموا من المكر والخداع، ومن أكل أموال الناس بالباطل، ألا فليتق الله أناس عليهم شيء من حقوق العباد أن يؤدوه إليهم من غير مماطلة ولا تساهل، ومن كان له شيء أخذه غير شاق ولا مستحل لما حرم الله عليه في المعاملة، وليعلم الجميع أن المال أمانة يُسئل الإنسان عن إكتسابه أمن حلال أم حرام؟ والحلال ما أحله الله لا ما حل في يديك، والحرام ما حرمه الله لا ماحرمت منه، ولا تقل كما يقوله الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يريدون إلا العاجلة فإن الله سبحانه وتعالى قال: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب وكذلك أولادك أمانة عندك، إن أحسنت فيهم وربيتهم التربية الصالحة وو جهتهم توجيهاً حسناً فقد أديت أمانتك، وإن أهملتهم ولم تبال بهم فقد خنت أمانتك، وكذلك التلميذ أمانة يجب على الأستاذ أن يوجهه الى العلوم النافعة وأن يحذر من كل ما يضر في دينه فيبين له ما يعرفه من الكتب المضلة عن الصراط المستقيم، ويذكر له العلماء العاملين وكتبهم ليقتنيها، فيتأثر بها بإذن الله، فيكون هذا المعلم المخلص هو السبب في إستقامة هذا التلميذ وهدايته ولن يضيع الله أجر المعلم والموجه وإن لم ينل حقه في الدنيا فإن الله قال: إنا لانضيع أجر من أحسن عملاً وفق الله العاملين على حفظ الأمانة والقيام بها أحسن قيام، وهدى الله المقصرين فيها، وجعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
(1/957)
الشرك الأصغر (الرياء)
التوحيد
الشرك ووسائله
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – درجات الرياء
2 – مراتب المرابين
3 – طرق علاج الرياء
_________
الخطبة الأولى
_________
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)). اعلم يا عبد الله أصلحك الله: أن العمل الذي لا يقصد فاعله وجه الله أقسام: فتارة يكون رياءً خالصاً كحال المنافقين كما قال عنهم جل وعلا: وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً وهذا الرياء المحص هو أخطر وأغلظ أقسام الرياء لأنه يقدح في أصل الإيمان وهو لايكاد يصدر من مؤمن في غرض الصلاة والصيام، وقد يكون كثيراً في الصدقة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز. ولا يشك مسلم في أن هذا القسم من الرياء محبط للعمل، وأن صاحبه يستحق المقت والعقوبة من الله، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، هذا القسم دون الأول بكثير، كمن يحضر الجمعة أو الصلاة ولو لا خوف مذمة الناس له ما حضرها أو يصل رحمه أو يحسن الى والديه لا عن رغبة وحب، ولكن خوفاً من كلام الناس، أو يزكي أو يحج فيكون خوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، وهذا غاية الجهل، وما أجدر صاحبه بالمقت.
وقسم يرائي بالنوافل يكسل عنها إذا كان خالياً ثم يبعثه الرياء على فعلها كحضور الجماعة وعيادة المريض واتباع الجنائز وصوم عرفة وعاشوراء طلباً للمدح والثناء، ويعلم الله تعالى أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض، وهذا القسم عظيم الخطورة كالذي قبله فقد روى البخاري ومسلم عن جندب بن عبدالله قال: قال النبي : ((من سمع سمّع الله به، ومن يرائي الله يرائي به)) أي من أظهر عمله الصالح للناس من أجل أن تعظم مكانته عندهم أظهر الله سريرته وفضحه على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
وعند أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من تعلم علماً يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا – أي متاعاً وحطاماً من الدنيا – لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) أي لم يجد ريحها، ليعلم أيضاً أن الله رائٍ مقصوده لا محالة. وإنما يرائي المرء حين يرائي ليدرك مالاً أو منزلة أو غرضاً من أغراض الدنيا وله درجات:
أشدها خطراً أن يكون مقصوده من إظهار العبادة التوصل إلى معصية الله، كالذي يظهر للناس التقوى والصلاح، لكن غرضه أن يعرف بالأمانة فيتولى منصباُ أو يسلم إليه ثفرقة المال فيأخذ منه ماقدر عليه أو تترك عنده الودائع فيأخذها أو يتوصل إلى التحبب بإمرأة لفجور ونحوه فهؤلاء أبغض المرائين الى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصيته.
وأما الدرجة الثانية أن يكون غرض المرائي نيل حظ من حظوظ الدنيا من مال أو تزوج بإمرأة شريفة، كالذي يظهر العلم والعبادة ليرغب الناس في تزويجه أو إعطائه فهذا رياء ممقوت صاحبه، لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا.
وأما الدرجة الثالثة: أن لايقصد نيل حظ وإدراك مال، ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه الناس بعين النقص فلا يعدونه من الزهاد والعباد كالذي يكثر من الضحك والمزاح فإذا رأى الناس أظهر الحزن وأكثر الإستغفار، ولربما قال: ما أعظم غفلة بني آدم عن نفسه ويكثر هذا النوع في التطوع في الصيام فإنه قد يعطش يوم عرفة أو عاشوراء فلايشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم، وقد لايصرح بقوله إني صائم ولكن يقول: لي عذر فإنه يري أنه صائم، ثم يري أنه مخلص، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً، فيريد بذلك أن يقال عنه إنه ساتر لعبادته مخلص فيها، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء.
أما المخلص فإنه لايبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم، وقد علم الله ذلك منه فلايريد أن يلبس شيئاً على الخلق مما فيه خلاف علم الله وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره، وقد يلبس الشيطان على المخلص في أن يعمل عملاً صالحاً يظهره ليقتدي غيره به فيحرك فيه رغبة الناس فيه فليحذر الإنسان من مكايد الشيطان وغروره، فهذه درجات الرياء ومراتب المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه ومن أشد المهلكات عافاني الله وإياكم من الرياء وجعلني وإياكم من المخلصين آمين والحمد الله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلم أخي المسلم يامن تريد إخلاص عملك لله وقبوله عنده أن من أسباب الرياء تعظيم الناس ونقصان تعظيم الله في النفس، فمن أحسن أنواع العلاج لهذا الداء القاتل معرفتك لأنواع التوحيد معرفة كاملة.
أورد طرفاً يسيراً منها عسى أن تكون ذكرى وعبرة لك. إن الله تعالى وحده هو الذي ينفع ويضر من شاء، فأطرح عن نفسك الإعتقاد الفاسد بأن الناس ينفعونك ويضرونك متى شاؤوا ومتى أرادوا، وإنما يدخل الشيطان عليك ليجعلك تزين العبادة أمام الناس لظنك أنهم قادرون على النفع والضر فانظر ماذا يقول رسول الله لابن عباس: ((ياغلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك، اذا سألت فأسأل الله، وإذا أستعنت فأستعن بالله، واعلم أن الأمة لو إجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو إجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
واعلم أيضاً أن مما يعينك على الإخلاص والتخلص من الرياء أن الله تعالى سميع بصير يراك ويسمعك ويعلم ماتخفي وما تعلن: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وقال جل وعلا: ألم يعلم بأن الله يرى وقال سبحانه: ألا يعلم من خلق ، أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ، والآيات في عظمة الله عز وجل وإطلاعه وسعة علمه ومراقبته لخلقه كثيرة، وأنه سبحانه لايغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، فما لي أراك تراقب الناس ولا تراقب الله، وهو سبحانه مطلع عليك ألا يكفيك إطلاعه عليك وهو يقول: أليس الله بكاف عبده إذا علمت هذا القدر من الله فليعظمه قلبك وفؤادك وعندئذ تخلص له أعمالك بلا شك.
واعلم أيضاً أن من أسباب الرياء والشرك عدم خشية القلب من عذاب القبر والنار وأهوال ما بعد الموت، فإنه كلما إزدادت معرفتك بذلك إزداد خوفك من ربك فأخلصت له عملك ومن أسباب الرياء والشرك أن تشعر باللذة والتنعم عندما يمدحك الناس، ولكنك إذا علمت قيمة هذا المدح والثناء مع ما أعده الله تعالى للمتقين في الجنة أدركت أنه لابد من صرف الأعمال كلها لله وحده، وأنك لاتبالي أرضي الناس عنك أم سخطوا، ومما يعينك أخي المسلم على الإخلاص والتخلص من الرياء تذكر الموت وقصر الأمل قال الله تعالى: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان إبن عمر يقول: اذا أمسيت فلا تنتظر الصباح واذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
معرفتك أخي المسلم بقيمة الدنيا وعدم بقائها خير معين لك على الإخلاص والبعد عن الرياء، وحسبك في ذلك قول ربك: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً ، مثل الحياة الدنيا في زوالها وفنائها كمثل هذا الهشيم الذي نثرته الرياح يسير وسهولة فاتقوا الله عباد الله وراقبوا أنفسكم وأعمالكم، وتفقدوا نواياكم، اجتهدوا في إخلاصها لله تعالى فما جاهد أحدكم شيئاً أشد عليه من نيته نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المخلصين.
(1/958)
الظلم وعاقبته يوم القيامة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – تعريف الظلم
2 – الظلم والفساد سبب الدمار والعقاب
3 – أعظم الظلم الشرك
4 – نصوص في ذم الظلم والتحذير منه
5 – وجوب نصرة المظلوم
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم أيها الراجي- لسعادة نفسه في الدنيا ونجاتها في الآخِرة - أن الظلم عاقبته وخيمة سيئة. وهو منبع كل رذيلة ومصدر كل شر. وحَدُّ الظلم أن تضع الشيء في غير موضعه اللائق به. ومتى انتشر الظلم وشاع في أمة أهلكَها وإذا حلّ بقرية أو مدينة دمّرها، والظلم والفساد شقيقان. بهما تخرب الديار وتزول الأمصار وتقِلّ البركات. والظلم ظُلُمات تَزِلّ به الأقدام وتضِلّ به الأفهام، وينتشر بسببه الفزع والاضطراب بين الناس. وأعظم الظلم وأشدّه وأخبثه الشرك بالله تعالى قال جلّ وعلا: إنّ الشرك لظلم عظيم. وقال سبحانه: إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادِقها. وقال تعالى: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع وقال جلّ شأنه: وسَيَعلم الذين ظَلَموا أيّ مُنقَلَبٍ ينقلبون. وقال عزّ وجل: ولو ترى إذِ الظالمون في غَمَرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تُجزَوْن عذاب الهُون بما كنتم تقولون على الله غير الحقّ وكنتم عن آياته تستكبرون. وقال تعالى: ولا تَحْسَبنّ الله غافلاً عما يَعمَل الظالمون. هذا بعض ما جاء في القرآن الكريم في حق الظالمين. وأمّا السُنّة فهِي حافلةٌ بالأحاديث التي تُرَهِّب من الظلم وما أعدّه الله للظالمين، فمِن ذلك ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الظُلم ظُلُمات يوم القيامة)) وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظُلُمات يوم القيامة..)).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الله ليُمْلي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفْلِته)) ثم قرأ عليه الصلاة والسلام: وكذلك أخْذُ ربِّك إذا أخَذ القرى وهي ظالمة إنّ أخْذَه أليم شديد.
وظُلم الناس عباد الله صور كثيرة جَمَعَها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع حين قال: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنّه قال: ((من كانت عنده مَظْلَمة لأخيه من عرض أو شيء فلْيَتَحلّله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمَل صالح أُخِذ منه بقدر مَظْلَمته وإن لم تكُن له حسنات أُخِذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون مَن المُفلس؟ قالوا: المُفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المُفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتَم هذا وقَذَف هذا وأكل مال هذا وسَفَك دَمَ هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثم طُرح في النار)). وعن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قال رسول الله : ((إنّ الرجل لتُرفع له يوم القيامة صحيفة حتى يرى نفسه أنه ناجٍ، فما تزال مظالم بني آدم تَتْبعه حتى ما يَبْقى له حسنة ويحمل عليه من سيئاتهم)). فيا ويح أهل الظلم واللهو والغِنا إذا أقبلت يوم الحساب جهنّمُ
إذا ما رآها المُجرمون وأيقنوا بأنّ لهم فيها شراب ومَطعَمُ
ضريع وزقّوم ويتلوه مشرب حميم لأمعاء الشقيين يهذم
ومن قطران كسوة قد تسربلوا وسيقوا لما فيه العذاب المُخيِّمُ
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه أنه قال: ((يا عبادي إنّي حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم مُحرَّماً فلا تظالموا)). واحذر يا عبد الله من الظلم فإنّ للمظلوم عند ربه دعوةً مستجابة لا تُرَد. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله بعَث معاذاً إلى اليمن فقال له: ((اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا تُردّ دعوتهم الصائم حتى يُفطِر والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويَفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزّتي لأنصُرنّكِ ولو بعد حين)). بل إن الله ليستجيب لدعوة المظلوم وإن كان فاجراً فاسقاً ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً K ففجوره على نفسه)). فهيهات أن ينجو الظَلوم وخلفه سِهام دعاءٍ من قِسيِّ ركوع
فالمظلوم في حقه أو ماله يَدفعُ عنه الظلمَ أخوه المسلم بكل ما يستطيع من الوسائل. فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً فقال: رجل يا رسول الله أنصُره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تحجزه أو تمنعه عن الظلم، فإن ذلك نصره)). والقصد أن تكون اليد مع يد المظلوم حتى يأخذ حقّه. وأما نصر الظالم فمنعه عن الظلم، فإذا أراد أخْذَ مالٍ حُلت بينه وبينه، وأخذت بيده، وإن أراد البطش ببريء ضربت على يده، وإن كانت النصيحة تنفعه فاسلكها معه حتى ينتهي ويرجع عن ظُلمه.
ولا يختص الظلم بأصحاب الوظائف والمناصب بل إن الظلم يشمل هؤلاء وكل من كانت له سُلطة على بيت أو على أُسرة, ففي الأسرة: الكبير والصغير والقوي والضعيف والرجل والمرأة، لكلّ واحد من هؤلاء حقوق في أعناق المسؤول عليهم , بل إن الإنسان لَيُعَدّ ظالماً إذا تعدى على حقّ نفسه. كأن يُبذِّر ويُسرف في الإنفاق عليها. ومن ظُلم الإنسان لأهله أن يُعاملهم بالقسوة والشدة أو يَبخل عليهم فلا يُنفق النفقة الواجبة أو لا يُحسن معاشرتهم فقد ذكر أن عمر رضي الله عنه كان ذات يوم مُستَلقياً على ظهره في بيته وصبيانه يلعبون حوله فدخل عليهم أحدُ وُلاته فأنكر عليه ذلك، فقال له عمر: كيف أنت مع أهلك؟ فقال: إذا دخلت سكت الناطق. فعَزَله عمر من ولايته وقال له: إنك لا ترفق بأهلك وولدك فكيف ترفق بأمة محمد.
ومن أعظم ظلم الرجل لأولاده أن يتركهم بلا أمر ولا نهي ولا يُؤَدّبهم ولا يُوجّههم، ولربما وجدته يأمر وينهى الناس البعيدين عنه. ومن ظُلم الرجل لجيرانه أن لا يقوم بحقّ الجوار لهم, فلا يواسيهم بل لا يَكُفّ عنهم شره وشر أولاده وأهله، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك المرأة التي لم تنفعها صلاتها بالليل ولا صيامها بالنهار لأنها كانت تَظلِم جيرانها وتؤذيهم بلسانها قال فيها رسول الله : ((لا خير فيها، هي من أهل النار)) نعوذ بالله من النار ومن الظلم والظالمين والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
فقد وصل الناس اليوم في ظلم بعضهم بعضاً إلى حدّ أن يقول القائل فيهم: كأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا بالموت ولا بأنّ الجزاء واقع على الأعمال، وذلك لأنّهم غفَلوا عن عواقب الظلم في الدنيا والآخرة. ولو أنهم علموا أن شقاء الدنيا والآخرة ناتِج عن الظلم ما دَنَا من الظلم أحد، وقد سمِعتم طرَفاً من النصوص التي تُرهّب من الظلم وأصحابه وتُبيّن الوعيد الشديد على مُرتَكبه وأن من قبل ردّ المظالم أحاط به خُصماؤه يوم القيامة فهذا يأخذ بيده وهذا يقبض على ناصيته وهذا يُمسك يده وهذا يتعلّق برقبته, هذا يقول: ظلمَني فغَشّني وذاك يقول: ظلمني فخدعني، وثالث يقول: ظلمني فأكل مالي, ورابع يقول: ظلمني فاغتابني، وآخر يقول: كذب عليّ, والجار يقول: جاوَرَني فلان فأساء جواري، وهذا يقول: رآني مظلوماً فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على مُنكر فلم ينهَني، وهذا يقول: جَحَد مالي أو مَطَلني حقي, وهذا يقول: باعني وأخفى عنّي عيب السّلعة, وهذا يقول: شهِد عليّ بالزور، وهذه زوجة تقول: ظلمني في النفقة ولم يُحسن عِشرتي أو تقول: لم يَعدِل بيني وبين زوجته الأخرى. وهذا الزوج يقول عَصَتني زوجتي ونَشَزَت علي.
أنت على تلك الحال المُخيفة التي لا يرى فيها بغضك من كثرة من تعلّق بك من المظلومين الذين أحكموا فيك أيدَيهم وأنشبوا فيك مخالبهم وأنت مُتحيِّرٌ مضطرب العقل من كثرتهم ومُطالبتهم حقوقَهم, فلم يَبْق منهم أحد ممن عاشرته في الدنيا وظلمتَه إلا وقد استحقّ عليك مَظلَمة.
إذا قَرَع سمعك نداء الجبّار جلّ وعلا: اليوم تُجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم.
فعند ذلك ينخَلِع قلبك وتضطرب أعضاؤك من الهيبة, وتوقن نفسُك بالخسران، وتتذكّر ما أنذرك الله تعالى به على لسان رُسُله حيث قال: ولا تَحسَبنّ الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مُهطعين مقنعي رؤوسهم لا يَرتدّ إليهم طَرْفهم وأفئدتهم هواء. وقال أيضاً: وترى الظالمين لمّا رأوا العذاب يقولون هل إلى مرَدٍّ من سبيل وتراهم يُعرَضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طَرْفٍ خفي. فيالها من مصيبة وما أشدّها من حسرة في ذلك اليوم إذا جاء الرب جلّ وعلا للفصل بين عباده بحُكمه العدل رأى الظالم وعلم أنه مُفلس فقير عاجز مَهين لا يقدر على أن يرُدّ حقاً أو يُظهِر عُذراً.
فعند ذلك تؤخذ حسناته التي تعِب عليها في عُمُره ليلاً ونهاراً حضراً وسفَراً، وتُعطى للخُصَماء عِوَضاً عن حقوقهم، فلينظر العاقل فيكم إلى المصيبة في مثل ذلك اليوم الذي رُبَّما لا يبقى معه شيء من الحسنات وإن بقي شيء أخَذه الغُرماء، فكيف تكون حالك أيها العبد إذا رأيت صحيفتك خالية من حسنات طالما تَعِبت عليها فإذا سَألت عنها قيل لك: نُقِلت إلى صحيفة خصمائك الذين ظلمتهم. وكيف بك إذا رأيت صحيفتك مشحونة مملوءة بسيئات لم تعملها، فإذا سَألت عنها من أين جاءت إليك قيل: هذه سيئات القوم الذين طالما اغْتَبْتَهُم وتناولت أموالهم بالباطل وشتمتهم وخُنْتَهم في البيع والجوار والمعاملة.
أحسبت يا بن آدم أنّك تُهمَل وتترك فلا تعاقب وتظلم وتتقلّب في النعم كيف شئت ولا تُحاسب؟
أنسيت قول النبي : ((إنّ الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخَذه لم يُفلِته)). كل هذه من جهالتك وعميان بصيرتك، ولكن اعمل ما شئت فإنّك مُحاسب عليه وأحْبب من شئت فإنّك مُفارقه واظلم من شئت فإنه مُنتصر منك يوم القيامة نسأل الله تعالى أن يُجنِّبنا الظلم وأن يكفينا شر الظالمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
(1/959)
الغش في المعاملات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – وجوب الصدق والنصح في المعاملات
2 – التحذير من الغش
3 – من صور الغش
4 – انتشار الغش في أوساط التجار
5 – من اضرار الغش
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم أخي المسلم وفقني الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مما يتأكد إجتنابه والتحذير منه وإنكاره الغش والخداع في المعاملات، فإن الإسلام يحرم ذلك بكل صوره في بيع وشراء وفي سائر أنواع معاملات الإنسان فالمسلم مطالب بإلتزام الصدق في كل شؤونه، والنصيحة في الدين أغلى من كل مكسب كما قال : ((الدين النصيحة)) وقال : ((البيعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) ومر رسول الله برجل يبيع طعاماً فأعجبه ظاهره، فأدخل يده فيه فرأى بللاً فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يارسول الله – أي المطر – فقال : فهلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس منا)) 1 ، وفي رواية أنه مر بطعام وقد حسنه صاحبه، فوضع يده فيه فإذا بالطعام رديء فقال: ((بع هذا على حدة وهذا على حدة من غشنا فليس منا)) ، فانظر بماذا حكم على من غش في الطعام، والطعام مادة ينتهي أثرها بسرعة فكيف بما هو أعظم وأعظم من ذلك، فالإيمان الصحيح الكامل يلزمنا الصدق والإخلاص والتقوى والنصح وفي الحديث الصحيح: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مايحب لنفسه من الخير)).
فإذا سألك إنسان مؤمن عن حال رجل وأخلاقه وأمانته ودينه فأجبته بغير ماتعرف وتعلم كأن كان فاسقاً فقلت: إنه صالح أو كان صالحاً فقلت: إنه من المفسدين. فقد غششته، وإن إستنصحك أخوك المؤمن عن إمرأة يريد أن يتزوجها تعرفها وتعلم صفاتها وأخلاقها وأهلها فلم تصدقه الحقيقة ولم تذكر له الحق الذي تعرفه فقد كذبت عليه وغششته وكنت من الخائنين، واذا سألك أخوك عن تاجر ومعاملته للناس فقلت غير الحق وعمّيت عليه أمره فمدحته وهو مذموم، فاعلم أنك بذلك جمعت بين الغش والكذب، ومحل ذلك كله إذا كان السائل له مصلحة تتعلق بمن يسألك عنهم فلزمك أن تصدقه الخبر وأن تبذل له النصيحة خالصة لوجه الله تعالى، أما اذا كان السائل من الذين يبحثون عن أحوال الناس ويتبعون عوراتهم وأخطاءهم ليشهر بهم ويطعن في أعراضهم وينتقص منهم فليكن جوابك له على كل سؤال قول النبي : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وقل له: الأولى بك أن تفتش عن نفسك وعيوبها والسعي في إصلاحها واحذر أن تتصف بما قاله الشاعر:
شر الورى من يعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل
وإذا كان الغش وهو تقديم الباطل في ثوب الحق مذموماً في الطعام فكيف بالغش في الوظيفة والعمل والتوجيه والإرشاد وفي جميع شئون معاملة الإنسان لأخيه، ولهذا كان السلف يفهمون مدى خطورة الغش ويطبقون أحاديث المصطفى فكانوا يبينون ولا يكتمون، ويصدقون ولا يكذبون، وينصحون ولا يغشون، عرفوا بحق قول النبي : ((لا يحل لإمرئ يبيع سلعة يعلم بها داءً أي عيباً الا أخبر به)) ، وتزداد حرمة الغش إذا صاحبته اليمين الكاذبة، يحلف وهو كاذب كما قال : ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة)) وقد أصبح الغش عند كثير من البائعين إلا من رحم الله ركناً أساسياً يندر أن تجد بائعاً غير غاش، فينبغي للإنسان في هذا الزمان الذي انتشر فيه الغش وعمّ وطمّ وقل فيه الخوف والضرب على أيدي الغشاشين أن يحذر منهم ويتحفظ في المعاملة معهم فإنهم بمثابة السُّراق، وكثير من البائعين اليوم ممن لايخاف الله يحاول إخفاء العيب بوضع لاصق عليه أو يجعله في اسفل صندوق البضاعة أو يستعمل مواد كيميائية ونحوها، تظهر بمظهر حسن براق أو يخفي صوت العيب الذي في المحرك في أول الأمر، فإذا عاد المشتري بالسلعة لم يلبث أن تتلف من قريب، وبعضهم يغير تاريخ انتهاء صلاحية السلعة، أو يمنع المشتري من فحص السلعة وتجريبها، والغالب في من يبيعون السيارات والآلات أنهم لا يبينون عيوبها فهذا كله حرام لا يحل فعله.
عباد الله: إن الغش معصية لله ولرسوله، وإنه لايفيد صاحبه إلا الوزر والخزي العاجل والآجل إن لم يتب، وإنه لمن العار، إنه يضيع الثقة، فإن الناس إذا عرفوا الرجل غاشاً في معاملته انصرفوا عنه وأسقطوا الثقة به، فأغلق بذلك على نفسه أبواب الربح والخير، ومن جنايات الغش على صاحبه أن البركة تذهب من عمل يديه وربما دارت عليه أو على ذريته الدوائر.
فاتقوا الله عباد الله وعاملوا الناس بالعدل، عاملوهم بما تحبون أن يعاملوكم به، حللوا مكاسبكم اجعلوها زاداً لكم يعينكم على طاعة ربكم، لا تجعلوها غرماً عليكم فتفقدوا بركتها وتستحقوا عقوبة الله من أجلها، وفي الحديث: ((لا يكسب عبد مالاً من حرام فيتصدق به فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولايتركه خلف ظهره إلا كان زاده في النار، إن الله لايمحوا السيئ بالسيئ ولكن يمحوا السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحوه الخبيث، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) واجعلوا قول ربكم دائماً نصب أعينكم ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.
1 - رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
فإن مضار الغش وجناياته على صاحبه أنه يسيئ إلى أسرته إذا اشتهر به لأنه يلوث سمعتها ويحمل الناس على أن يقولوا: هذه أسرة الغشاش، وأعظم بها أذية للمستقيمين، وإن أذية الغشاش لأولاده أشد، إذ الأبناء حول أبيهم يأخذون عنه وينشؤون على أخلاقه ولابد أن يأخذوا من طباعه، ويوشك أن يكونوا مثله غشاشين بعد ما يبلغوا مبلغ الرجولة فيكون أبوهم سبباً في وقوعهم في ضرر الدنيا والآخرة، وأما ضرر الغش وأذيته للدين فيالها من مصيبة فادحة وعقبة صعبة ضد القائمين بالدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والحث على التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، لأن أعداء الإسلام إذا نظروا إلى هؤلاء الغشاشين يتهمون الدين بالنقص ولا يقولون: إن النقص في الناس لعدم تمسكهم بالدين بل يلصقون النقص والعيب بالإسلام، وذلك صد عن إتباع الحق، وكفى بذلك ضرراً وأذية، فما الداعي أيها المسلمون لمثل هذه المعاملات السيئة؟ أهو القوت الذي تكفل به الحي الذي لايموت؟ وما رأينا تقياً مات جوعاً أم هو الطمع والجشع وحب الدنيا وجمع حطامها الفاني.
أيها التجار ماهكذا يكون الربح، وما هكذا يكون المكسب، وما بتلك الأساليب والطرق تتكون الثروة، ويجمع المال، ولكن بالصدق والأمانة والشرف والتعفف عن الحرام ففكروا في مصير ما أتعبتم نفوسكم وأبدانكم في جمعه، وفكروا في المناقشة يوم القيامة عن دخوله وخروجه، وأنكم مفارقوه عن قريب.
فاتقوا الله أيها المسلمون وتعاملوا فيما بينكم بالبر والصدق والبيان، وإياكم والكذب والغش والكتمان، وتأملوا جيداً فيما تأتونه من أعمالكم في معاملتكم، وتدبروا عواقب أمركم فلا تنقصوا المكيال والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تتساقطوا على الربا حتى في التافه من بضاعتكم، ولا تدخروا البضاعة المشتراه بثمن زهيد فتبيعونها عند فقدها بثمن مرتفع، حين تشتد حاجة الناس فيقال لهذا: انتهت السلعة. ويقال لهذا: ارجع بعد ساعة. ويقال للآخر: قد زيد في الثمن. فاعلموا أن هذه المعاملة احتكار حرمه الإسلام ولا يعد من البيع الذي أحله الله، ذلك لأن المحتكر يمتص بفعله هذا أموال الناس بدون شفقة ويحدث بذلك خللاً في السوق بحيث لاتسير أسعار البضائع سيراً طبيعياً مألوفاً. إن الإحتكار إستغلال لحاجة الناس وتحكم فيهم لاسيما اذا تعلق الأمر بأقواتهم وأغذيتهم، وقد بين النبي عاقبة المحتكر بأن الله لن يبارك في ماله بل هو بعيد عن رحمة الله، لأنه لايرحم الناس فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يرحم الله من لايرحم الناس)) وقال : ((لايحتكر الا خاطئ)) وعن إبن عباس أن النبي أتى على جماعة من التجار فقال: ((يا معشر التجار إن الله باعثكم يوم القيامة فجاراً إلا من أتقى وبر وصدق)).
عباد الله: وإن من الغش الذي أنكره الإسلام أشد الإنكار تطفيف المكيال وعدم إيفاء الوزن حقه قال تعالى: وزنوا بالقسطاس المستقيم أي: زنوا الأشياء بالميزان العدل المضبوط، وأوعد الله بالعذاب الشديد الذين يغشون الناس بإنقاص حقهم في المكيال والميزان مذكراً إياهم بموقف الحساب يوم القيامة حيث يبعثون أحياء من قبورهم ليجازيهم الله على ما اقترفوا في دنياهم فقال جل وعلا: ويل للمطففين الذين إذا أكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ، إن الغش في الكيل والميزان إذا شاع وكثر في مجتمع أنذر بحلول عذاب الله ونقمته، فلقد أخبرنا الله عز وجل عن قوم شعيب عليه السلام الذين نشأ فيهم الغش في المكيال والميزان، وأنهم لم ينتهوا عما هم فيه من ذلك بعدما نهاهم نبيهم فقال: فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين فلما أعرضوا عن هذه الدعوة أرسل الله عليهم العذاب وأهلكهم بصاعقة شديدة فقال سبحانه: فلما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فاصبحوا في ديارهم جاثمين.
أليس في هذا ما يدخل عليكم الخشية من الله والإقلاع عما حذر منه ونهى عنه، نسأله تعالى أن لا يسلط علينا عذابه وسخطه، وأن يصلح أمورنا وأن يجعل عواقبنا الى خير إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.
(1/960)
الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – التنفير من الغيبة
2 – تعريف الغيبة
3 – الأسباب الدافعة إلى الغيبة
4 – متى تجوز الغيبة
5 – ضوابط الغيبة الجائزة
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن من أخطر آفات اللسان التي شاعت بين الناس حتى صارت فاكهة كثير من المجالس: غيبة المسلمين والطعن في أعراضهم، وهو أمر قد نهى الله تعالى عنه ونفر عباده منه ومثله بصورة كريهة تتقزز منها النفوس فقال جل وعلا: ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ولما كان الكثير من الناس لا يعرفون معنى الغيبة ولا يقدرون خطورتها، وتراهم يتساهلون فيها وجب التذكير بها وبيان بعض أحكامها قياماً بأداء حق النصح والتذكير لي ولإخواني، عسى الله أن يصلح ألسنتنا من الغيبة ومن جميع آفات اللسان.
فاعلم يا عبد الله أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكره، وهو غائب عنك سواء ذكرته بنقص في بدنه كأن تقول: هو قصير أو طويل أو أسود أو أقرع أو ذكرته بنقص في نسبه بأن تقول فيه: أبوه فاسق وأمه فاسقة أو تذكره بنقصاً في خلقه كأن تقول فيه: سيء الخلق بخيل متكبر، شديد الغضب، جبان، متهور أو ذكرته بنقص في أفعاله كقولك فيه: هو سارق كذاب شارب خمر ظالم عاق لوالديه ونحوه، وقد بين معنى الغيبة النبي بقوله: ((أتدرون ما الغيبة قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد إغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) لا كما يقول بعض من يغتاب الناس إذا قلت له: اتق الله لا تغتب أخاك قال: هذه ليست غيبة إني أقول فيه شيئاً هو حقاً ولا أزيد عليه، فقل له ما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن كان فيه ما تقول فقد إغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) أي كذبت عليه، فالغيبة أيها الناس محرمة بالإجماع، وهي من الكبائر التي يجب التوبة منها إلى الله تعالى، وهناك أسباب تبعث الإنسان وتدفعه لأن يغتاب أخاه، منها أن يشفي غيظه بأن يجري من إنسان في حق إنسان آخر سبب يهيج غيظه فكلما هاج غضبه تشفى بغيبة صاحبه، وعلاج هذا السبب ودفعه أن يتذكر يا عباد الله قول الله تعالى: وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين وتذكر قوله : ((من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور ما شاء)) ، ومن الأسباب الدافعة والباعثة على الغيبة موافقة الزملاء ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الغيبة، فإنه يخشى إن أنكر عليهم أن يكرهوه فيجب على من كان حاضراً في مجلس فيه غيبة أن ينهي عن هذا المنكر ويدافع عن أخيه المغتاب فقد رغب في ذلك النبي فقال: ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) وإن خفت أن يستغلك الرفقاء ويكرهوك لأنك لم توافقهم على غيبتهم فتذكر دائماً قول نبيك محمد : ((من التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله الى الناس)).
ومن الأسباب الدافعة الى الغيبة أن يريد الإنسان أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول مثلاً فلان جاهل وفهمه ركيك، وهو يريد أن يفهم الناس أنه هو العالم، وأن فهمه هو الصحيح فعلاج ذلك يتم بأن تعتقد يا عبدالله أن ماعند الله تعالى خير وأبقى، وأن هذا العبد الذي تريد غيبته ربما يكون عند الله تعالى أفضل منك، وإنك حيث تذكره من خلفه بما يكره ترفعه وتخفض نفسك عند الله تعالى، وما أكثر الذين يغتابون الناس لأجل اللعب والهزل فيذكر أحدهم غيره بما يضحك به الآخرين على سبيل الحكاية، فلا تنس يرحمك الله قوله عليه الصلاة والسلام: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له)) ، وقد يغتاب الإنسان من أجل الحسد لشخص آتاه الله من فضله حتى ينزل قدره من قلوب الناس ويبغضه لهم فليتدبر الحاسد قوله : ((لايجتمع الإيمان والحسد في قلب عبد)) وليتذكر الحاسد أنه بهذه الغيبة يجعل المحسود فوقه يوم القيامة لا في الدنيا وحسب.
ومن الأسباب الدافعة للغيبة أيضاً كثرة الفراغ والشعور بالملل، فيشتغل بالناس والطعن في أعراضهم واتباع عيوبهم، ويتم علاج ذلك بأن يقضي المرء أوقاته في الطاعات والعبادات والعلم والتعلم، ومن البواعث على الغيبة التقرب لدى أصحاب الأموال والمسؤولين، وذلك عن طريق الطعن في العاملين معه ليرتقي الى منصب أفضل أو لينال شيئاً من متاع الدنيا، وعلاج ذلك يتم بأن يتذكر المسلم الآيات والآحاديث التي تكلمت عن الرزق ويتدبرها جيداً وإنه لا ينال ما عند الله بما حرم الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
علمت يا عبدالله أن الغيبة محرمة بالإجماع وإنها كبيرة من الكبائر تجب التوبة منها إلى الله تعالى، فاعلم أنه لاتباح الغيبة ولا تجوز إلا لغرض شرعي صحيح لايمكن الوصول إليه إلا بالغيبة، من ذلك: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم الى القاضي أو الى من له قدرة وولاية على إعطائه حقه من ظالمه فيقول: ظلمني فلان بكذا، ودليل ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح (أي بخيل) وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) وتباح الغيبة عند الإستفتاء كأن يقول للمفتي: ظلمني أخي فما هو طريقي في الخلاص منه، وتباح الغيبة عند الإستعانة على تغيير منكر أو دفع بلاء من مسلم، كما فعلت هند مع النبي في شأن زوجها.
وتباح الغيبة أيضاً عند تحذير المسلمين ونصحهم من أصحاب الشر الذين يضرون غيرهم، بل قد تكون الغيبة واجبة اذا تعلق الأمر بالدفاع عن حديث رسول الله من أولئك الكذابين المجروحين الذين يختلقون أحاديث من عندهم وينسبونها ظلماً وزوراً الى رسول الله ، ومن ذلك أيضاً المشاورة في أمور الزواج أو المشاركة في مشروع أو المجاورة في المسكن، كأن يطلب منك ولي البنت رأيك في شاب تقدم لخطبتها فيجب عليك أن تذكره بما تعرف ولا يعد ذلك غيبة وقد ثبت في الحديث قوله : ((ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)) أي مطل الغني وهو الذي يؤجل موعد تسديد الديون مرة بعد الأخرى، وكذلك تباح غيبة الذي يجهر بفسقه أو المبتدع ببدعته فعرضه هدر، لأنه استهان بربه وهتك حرمته وستره فجدير به أن يجازى بمثل عمله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إستأذن رجل على رسول الله فقال: ((أئذنوا له بئس أخو العشيرة)) ، فلما دخل ألان له الكلام، قلت: يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنت له الكلام؟ قال: ((إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه)) قال النووي رحمه الله تعالى: أحتج البخاري بهذا الحديث على جواز غيبة أهل الفساد والريب.
ومن الأمور التي تبيح الغيبة التعريف بالإنسان إن كان معروفاً بلقب معين كالأعوج والأعمى، ولكن لايحل إطلاقه على وجه التحقير والتنقيص، وإن أمكن تعريفه بغير ذلك كان أفضل والدليل قوله : ((أن رجلاً يأتيكم من اليمن، يقال له أويس لا يدع اليمن غير أم له قد كان به بياض- أي برص- فدعا الله تعالى فأذهبه عنه الا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فليستغفر لكم)) ، ثم أعلم أخي المسلم أن هذه الأمور التي تبيح لك الغيبة ينبغي أن تضبطها بما يلي:
- الإخلاص لله تعالى في النية، فلا تقل ما أبيح لك من الغيبة تشفياً أو نيلاً من أخيك أو تنقيصاً منه.
- إن أمكنك أن لا تذكر الشخص بإسمه فافعل إلا ما دعت اليه الحاجة.
- أن تذكر أخاك بما فيه لما يباح لك، ولا تفتح لنفسك باب الغيبة فتذكر ما تشتهي نفسك من عيوبه.
- أن تتأكد بهذه الغيبة وقوع مصلحة شرعية وإلا فلا.
- ثم اعلم أخيراً أن هناك أموراً يظنها الإنسان أنها ليست غيبة ولكنها في حقيقة الأمر غيبة، فقد يغتاب الرجل أخاه وإذا أنكر عليه قال: أنا مستعد أن أقول ذلك أمامه فيرد على هذا بأنك ذكرته من خلفه بما يكره مما فيه، وهذه هي الغيبة التي بينها رسول الله ، وأما إستعدادك للحديث أمامه فأمر آخر مستقل لم يأت فيه دليل يبيح لك أن تذكره من خلفه بما يكره.
- كذلك قول القائل في جماعة من الناس عند ذكر شخص ما نعوذ بالله من قلة الحياء أو نعوذ بالله من الضلال أو هدانا الله وإياه فإنه بذلك يجمع بين غيبة ذلك الشخص ومدح النفس.
- كذلك من الغيبة غيبة الصغير، ولا يصح قولهم: هذا صغير تجوز غيبته، فأين الدليل على ذلك، بل النصوص جاءت عامة في الكبير والصغيرة.
- كذلك من الغيبة التساهل في غيبة العاصي مطلقاً سواء جهر بالمعصية أولا، لأن قول النبي : ((الغيبة ذكرك أخاك بما يكره)) يشمل المسلم الطائع والعاصي.
أيها الناس: بعد ما علمتم هذا الداء الغيبة وخطرها وأنها من كبائر الذنوب وجب عليكم أن تحذروا منها وأن يشتغل كل واحد منا بعيبه وإصلاح نفسه ولا نشتغل بعيوب غيرنا فربما نعيب الناس ونحن أكثرهم عيباً، فالواجب على كل واحد منا إن كان صادقاً في قوله مخلصاً في نصحه اذا وجد في أخيه عيباً أن يتصل به ويناصحه من يغتاب إخوانه المسلمين أن يمنعه ويدافع عن أعراض إخوانه فإن النبي قال كما سمعتم آنفاً ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)).
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا الغيبة والطعن في أعراض الناس وأن يصلح ألسنتنا بما ينفع وأن يرزقنا لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وعملاً متقبلاً.
(1/961)
المعاصي والذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل بني آدم خطاء. 2- الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاجر. 3- أضرار الذنوب والمعاصي. 4- حال الكفار والعصاة. 5- كيف تحفظ نفسك من الذنوب والمعاصي؟
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الكثير من الناس اليوم يَشْكون من ضيق في المَعيشة وقلق في النفس، والسبب في ذلك بلا شك كثرة المعاصي والذنوب، فمَن مِنّا لا يُذنب؟! ومن منّا لا يعصي الله عزّ وجل؟! بل قال عليه الصلاة والسلام: ((لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يُذنبون فيستغفرون فيَغفِر الله لهم)) ، بل قال عليه الصلاة والسلام: ((كلّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التّوابون)) ، بل حتى التّقي الورِع يقع في الذنوب والمعاصي، والله جلّ وعلا لما وصَف المؤمنين المُتّقين ذكَر أنّ مِن صفاتهم أنّهم يَقَعون في الفواحش أو ظُلم النّفس، واسمع ـ يا عبد الله ويا أَمَة الله ـ إلى المُتّقين إذا وقعوا في الذنوب والمعاصي ماذا يفعلون، قال الله جلّ وعلا في صفتهم: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135]، بل إن الفَرق بين المؤمن الذي يُذنب والفاجر الذي يَعصي قد بيّنه ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (إن المؤمن يرى ذنبه كأَصل جبَلٍ يوشك أن يقع عليه، والمنافق الفاجر يرى ذنبه كذُباب وقَع على أنفه فقال بِيَده هكذا). أرأيتم إلى هذا الفَرق بينهما؟! كلاهما يعصي الله عزّ وجل، لكن المؤمن إذا عصى خاف ونَدِم ووجل قلبه واستغفر وعَمِل الصالحات لِيُكفِّر عن السيئات، أما الفاجر المنافق فيرتكب الذنوب والمعاصي ويفرح بذلك ويتباهى ويُجاهِر بها.
إذًا لا بد من الذنب، ولكن ـ أخي المسلم أُختي المسلمة ـ لا بد أن تَحْفَظا نَفسيكما من الوقوع في هذه المعاصي، وقد تسألان: كيف السبيل إلى حِفظ النفس من المعاصي؟! وقبل الجواب على ذلك اعلما أن للذنوب أضرارًا ولتلك المعاصي سوءًا في الوجه وظُلْمَةً في القلب، واسمَعا إلى ربنا عزّ وجل كيف يَصِف أولئك الذين ابتعدوا عن شرعه وانتهكوا حُرُماته ووقعوا في الذنوب وأسرَفوا فيها، انظروا كيف يصِف الله حياتهم ومعيشتهم في هذه الدنيا، قال الله جلّ وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه: 124]. تجِده في الصباح يستيقِظ على الأغاني ولا يَعرِف ذكر الله للسانه سبيلا، إذا ركِب سيّارة لا يَسمع إلا الأغاني، كُلّما رأى الفتيات تَلفّت يَمْنة ويَسرة لا يَغُضّ بصره، وكذلك الفتاة لا تخرج من بيتها إلا مُتعطِّرة مُتبرِّجة كاشفةً عن شعرها وذراعيها لتقولَ للناس: انظروا إليّ، وإذا رَجَعت إلى بيتها لا تَذكُر ذكرًا ولا صلاة، بل تجلِس إلى التِّلْفاز إلى مُنتصَف الليل، إذا سألت هذا الرجل وتلك المرأة: لِمَ تفعلان ذلك؟ قالا لك: إنّه المَلل، إنه ضيق في الصدر ولا أحسُّ بلذة في الحياة. أتعلَم لماذا كلّ ذلك؟ إنه الإعراض عن ذكر الله كما قال سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 124-126].
اسمع إلى هذا الرجُل الكافر (ديل كار بينجي) الذي بحث عن السعادة في الدنيا وأراد أن يبحث عن أسبابها فألّف كتابًا سمّاه: (دعِ القلق وابدأ الحياة). ألّف هذا الكتاب لِيُبيّن أسباب السعادة في الدنيا، فلما انتهى من تأليفه إذا به يربِط حبلاً في غرفته ويَشنُق نفسه، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً. نعم، يعيش كما يعيش الناس، بل كما تعيش البهائم؛ يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ويركب، ولكن قلبه حزين وصدره ضيِّق وضاقت به الدنيا بما رحُبَت، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.
عبدَ الله، سل أصحاب المعاصي والذنوب: هل أنتم في سعادة؟ انظر وتأمّل في حالهم، عندهم كلّ شيء إلا ذكر الله والصلاة وشرع الله، فإنّهم يَشْكون من ضيق في الصدر، يبحثون عن رُقية تُخفِّفُ عنهم آلامهم، واجلسي ـ أختي المسلِمة ـ مع أَمَة الله الصالحة تلك المُحجّبة المُحتَشِمة التي إن قامت فإنها تقوم لصلاة الفجر وتنام على ذكر الله وتستيقِظ على ذكر الله، تَغُضُّ بصرها وتحفَظ محارم ربّها، تلك وأمثالها قال فيهم ربُّ العزة سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
عبد الله، أمَة الله، إذا كانت هذه أضرار المعاصي وأضرار الذنوب في الدنيا فما بالك بأضرارها والخسارة الناتِجة عنها يوم القيامة وفي القبر وفي الحشر؟!
إذًا يا عبد الله، كيف تحفظ نفسك من الذنوب والمعاصي؟ كيف تبتعد عنها؟ كيف تُحصِّن نفسك؟! كيف تحصن نفسك إذا أقبلت الذنوب والمعاصي؟ وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه سوف يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، يصبح الواحد ما يتحمل أن يتمسك بدينه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا)) ، في الصباح تراه مصليًا ساجدًا ذاكرًا يعرف حق ربه، ثم إذا أقبل الليل وغربت الشمس فإذا به يجحد أوامر الله ويستهزئ بشرع الله، ((ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا)) ، فما الذي حدث؟ قال بعدها عليه الصلاة والسلام: ((يبيع دينه بعرض من الدنيا)) ، كم وكم من الناس كانوا صالحين فإذا بشهوة أو بمعصية ينقلبون بسببها على أعقابهم.
واسمع ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الرجل الذي كان صالحًا طوال حياته بل كان مؤذّنًا يؤذن للناس ويدعوهم إلى الصلاة، كان يقوم على منارة المسجد فيقول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، وفي يوم وهو يؤذن نظر بالقرب من المسجد فإذا فتاة، فجعل ينظر إليها ويطيل النظر ولم يغضّ بصره، فإذا بقلبه يتعلق بها، فنزل بعد الأذان وقصد بيت تلك الفتاة، فلما طرق الباب فرحت تلك الفتاة وهي نصرانية فقالت له: مؤتمن ويخون؟! أي: أنت أمين للناس تؤذّن لهم ثم تخون الأمانة! فقال لها: إني أريدك، فقالت: إذًا تريدني زوجة؟ قال: نعم، قالت: لكن بشرط واحد، قال: ما هو؟ قالت: أن تتنصر، أي: تترك دينك وتكفر، فإذا به يقبل شرطها ويقول: أتنصر، فسبحان مقلب القلوب! لا إله إلا الله! أرأيتم كيف تدخل الذنوب إلى القلوب فتقلبها وتبدلها، ثم أدخلته البيت وقالت له: اشرب من هذا الكأس، فإذا به يشرب الخمر ويأكل الخنزير، ثم قالت له: اصعد على سطح البيت فإذا جاء والدي أخبرته الخبر، فلما صعد السطح وهو سكران سقط من أعلى المنزل، فإذا به يفارق الحياة على نصرانيته ورِدّته، يقول المولى جلّ شأنه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27]، ويقول : ((إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)).
فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن أول أمر تحفظ به نفسك من الذنوب والمعاصي هو المحاسبة والمراقبة؛ أن تراقب الله جل وعلا دائمًا وفي كل مكان، واعلم أن هناك من يراك ومن يطلع عليك، إنه الواحد الأحد، إنه الذي يحسب عليك كل نفس وكل خاطرة وكل نظرة وكل كلمة، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد: 9، 10]، أي: الذي يخفي نفسه في الظلام ويغلق الباب على نفسه من الذي يراه؟! أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق: 14]، وصدق الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث أنشد يقول:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوت ولكن قل: عليّ رقيب
بلى يا عبد الله، إذا أتيت الله يوم القيامة فإنه يعرض عليك كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30].
اسمعي ـ يا أمة الله ـ إلى تلك المرأة التي غاب عنها زوجها في الجهاد وظلت أشهرًا على هذه الحال تصارعها الفتنة، فمر عمر بن الخطاب ببيتها فسمعها تردّد هذه الآبيات:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرّقني أن لا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله ربًّا أراقبه لِحرّك من هذا السرير جوانبه
واسمع ـ يا عبد الله ـ أمرًا آخر به تحفظ نفسك من المعاصي، إنه الخوف من الله جلّ وعلا، فلا تظنّ أنها معصية ثم تذهب، أو أنها نظرة ثم تضيع، أو أنه الفيلم الأخير ثم أتوب بعده، إن الله عز وجل يحذر الناس نفسه ويقول: وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 175]. ألا تخاف ـ يا عبد الله ـ من الله وأنت تتجرّأ على معصيته؟! ويا أمة الله، أما تخافين وأنت ترتكبين معصية أن يأخذك الله ويقبض روحك؟! اسمعي إلى السابقين إلى الصالحين كيف كانوا يخافون ربهم، فهذا إبراهيم عليه السلام قيل: إنه كان يسمَع له من بعيد وهو في الصلاة أزيز صدرِه من شدة الخوف، وهذا داود عليه السلام كان الناس يزورونه يظنون أنه مريض وما كان به شيء إلا شدة الخوف من الله، كانوا أعدل الناس وأخشاهم لله ولم يكونوا عصاة، ومع ذلك كانوا أشدّ الناس خوفًا من الله، بل الصالحون يصلّون ويصومون ويتصدقون ومع ذلك يخافون أن لا يتقبّل منهم، وفيهم قال جل شأنه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، فإن كان هؤلاء الصالحون المصلون المكثرون للخيرات يخافون على أعمالهم أن لا تقبل فكيف بالمقصرين؟! بل كيف بالذين لا يصلّون ولا يعرفون لله حرمة؟! كيف بالتي هجرت القرآن ولا تذكر الله؟!
اسمعي ـ يا أمة الله ـ إلى نبينا وهو أعبد الناس وأصلحهم كيف كان يخاف، تقول عنه عائشة رضي الله عنها: كان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه، فتقول: يا رسول الله، إن الناس إذا رأوا غيمًا فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأنت إذا رأيته عرفت الكراهية في وجهك، قال: ((يا عائشة، ومن يؤمّنني أن يكون فيه عذاب؟! قد عذّب قوم بالريح، وقد رآه قوم فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24] )). أما نحن للأسف الواحد يرتكب المعاصي وينتهك الحرمات وهو يضحك ويلعب ولا يبالي، يقلب رأسه في الفراش وهو مطمئنّ لا يصلي الصبح إلا إذا طلعت عليه الشمس ولا يبالي، ما بال قلوبنا قد قست؟! الواحد يرتكب الذنوب ولا يبالي!
اسمع إلى أبي بكر الصديق وهو أصلح هذه الأمة بعد رسول الله يقول عن نفسه من شدة الخوف من الله: (يا ليتني كنت شجرة تعضد). أما تخاف يا عبد الله وأنت يا أمة الله؟! اسمعوا إلى أولئك الأربعة نفر الذين سافروا إلى بلاد من أجل الزنا والمعاصي، فإذا بهم يدخلون إلى مرقص من المراقص ويتمتّعون بشرب الخمر في تلك الليلة، والربّ جل وعلا قد نزل إلى السماء الدنيا في ذلك الوقت فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، وينظر إلى عباده أين ذهبوا، ذهبوا إلى المرقص، وماذا عملوا؟ شربوا الخمر ورقصوا، وبينما هم مشتغلون بتلك المعاصي في ذلك المرقص إذا بواحد منهم يسقط مغشيًا عليه حضرته الوفاة، فقال له أحدهم: قل: لا إله إلا الله، فقال له وهو يحتضر: زدني كأسًا من الخمر، فما يزال يرددها حتى خرجت روحه، نسأل الله العافية وحسن الخاتمة.
أما تخافين ـ يا أمة الله ـ أن تكوني على معصية في ليلة هي آخر ليلة من حياتك؟! أما يخاف أحدنا وهو راكب على سيارة يعصي الله ثم يختم الله له بسوء الخاتمة في حادث؟! قال : ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)).
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أحدكم يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، فالبدار البدار، البدار إلى التوبة والعمل الصالح والثبات على ذلك حتى الممات.
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يثبتنا على دينه، وأن يصرف قلوبنا إلى طاعته، وأن يختم لنا بالصالحات أعمالنا، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/962)
النميمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – تعريف النميمة
2 – ذم النميمة وبيان مفاسدها
3 – تحريم النميمة
4 – انواع النميمة وصورها
5 – موقف المسلم إذا جاءه النمام بخبر
_________
الخطبة الأولى
_________
روى البخاري ومسلم عن إبن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله مر بحائط اي بستان من حيطان المدينة فسمع صوت رجلين يعذبان في قبريهما فقال النبي : ((إنهما ليعذبان ومايعذبان في كبير، ثم قال: بلى وإنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)) ، لا يزال حديثنا عن خطر اللسان وآفاته المهلكة والموجبة لصاحبها عذاب الله عز وجل ومن هذه الآفات الخطيرة النميمة، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض من أجل الإفساد وإيقاد نيران الحقد والعداوة بينهم، وقد ذم الله تعالى صاحب هذا الفعل فقال عز وجل: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم أي لاتطع ولا تسمع لكل حلاف مهين أي الذي يكثر الحلف وهو كاذب، والهماز الذي يغتاب الناس، والمشاء بنميم هو الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لإفساد ذات البين.
فالنميمة عباد الله، خلق ذميم لأنه باعث للفتن وقامع للصلات وزارع للحقد ومفرق للجماعات يجعل الصديقين عدوين، والأخوين أجنبيين، والزوجين متنافرين، فهذه المصيبة أي مصيبة النميمة لايرضاها لنفسه إلا من انحطت قيمته ودنؤت نفسه وكان عندها حقيراً، وصار كالذباب ينقل الجراثيم، وأما من كان يشعر بنفسه وله خوف من ربه فلا يرضى لها هذه الحالة النميمة حرام بجميع أنواعها وصورها، وإن من أشد صورها خطراُ تخبيب الزوج على زوجته والعكس أي السعي في إفساد العلاقة بينهما، ولا يخفى ما يصلح بسبب هذه النميمة من التباغض والكره بين الزوجين الى أن يصل الأمر إلى الفصل والطلاق بينهما غالباً.
ومن صور النميمة السيئة قيام بعض الموظفين لدى أرباب الجاه والسلطان والمسؤولين بنقل كلام الآخرين بقصد إلحاق الضرر بهم، فكم جرت هذه السعاية والوشاية من ويلات على كثير من الأبرياء المؤمنين الغافلين طاهري القلوب سليمي الصدور، فقضت على أرواحهم وأموالهم، وكم نكلت بكثير من العلماء فأخرجتهم من ديارهم وأموالهم وأصبحوا عرضة للمحن والمصائب؟ وكم ضرت بصالحين مطمئنين فأودعتهم السجون وسلبتهم الحقوق وجعلت للفسقة عليهم سلطاناً؟ وكم حرمت أطفالاً ونساءً من قوتهم وسلبت منهم نعيمهم بدون جناية اقترفوها؟ ومن صورها أيضاً: رفع الثقة من مزاحم في تجارة أو صناعة وإنزال شخص عن مكانته واحترامه عند فئة من الناس، فهذا أيها الناس معظم أنواع النميمة وصورها الخطير، وهي كما ترون من شر ما منيت به الفضيلة ورزئت به الإنسانية لأجل ذلك قال النبي فيما يرويه أحمد والحديث صحيح: ((خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكرالله، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العنت)) أي الذين يسببون بهذه النميمة التعب والمشقة والمصائب والمحن للأبرياء.
فالنمام عباد الله عدو المحبة حبيب للفرقة والخلاف، فلينظر في نفسه عسى أن يكون قد إقترب أجله هل اشبع غيظه وملأ قلبه الحاقد فرحاً وغبطة بالنميمة والأذى؟ ماذا جنيت أيها السفيه أتظن أنك قد أحسنت صنيعاً؟ فلا والله ما أحسن، كم فرقت بين القلوب وكم بكلامك الجائع للشر قتلت الأبرياء والأتقياء، كم حملت من الأوزار والآثام والخطايا، اعمل ما شئت فستجزى على كل ذلك، لبئس ما أنت عليه من حال، ولبئس ما سيكون لك من مآل.
فليتق الله أصحاب الألسنة الحداد، ولا ينطقوا إلا بما فيه الخير لخلق الله، ويكفيكم في هذا قول المصطفى : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) فيا أيها المسلمون إن الواجب على من نقل إليه أحد أن فلاناً يقول فيه كذا وكذا أن ينكر عليه وينهاه عن ذلك ويذكره بما قال : ((لا يبلغن أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج اليكم وأنا سليم الصدر)) ، وترهبه بقوله : ((لا يدخل الجنة نمام)) نعوذ بالله من النميمة ومن أهلها.
_________
الخطبة الثانية
_________
إذاً تبين لكم أن النميمة دواء وبيل وشر خطير يترتب عليه أعظم الشرور والمفاسد فعلى كل واحد منا إذا نقلت إليه النميمة. كأن يقول لك: قال فيك فلان كذا وكذا أو فعل بحقك كذا وكذا فالواجب أن لا تصدق النمام لأن النمام فاسق، والله تعالى يقول في شأن الفاسق: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة ويجب أن تنهي هذا الناقل وتنصحه إن كنت تظن به خيراً، وأنه يتأثر بالموعظة الحسنة، فتذكره بما جاء من الآيات والأحاديث الصحيحة في عظم النميمة وخطرها، وتبين له ما يترتب عليها من إيذاء المسلمين وظلم الناس في أعراضهم وأرزاقهم وتحذره من عاقبة وشايته، وتأمر أن لا يظن بأخيه الغائب السوء فإن الله عز وجل يقول: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم وخير علاج يقضي عليه أن ينصرف الناس عن النمام ولا يستمعون إليه، ولقد أجاد من قال:
تنح عن النميمة واجتنبها فإن النمّ يحبط كل أجر
يثير أخو النميمة كل شر ويكشف للخلائق كل سر
ويقتل نفسه وسواه ظلماً وليس النم من أفعال حر
وروي عن ابن عمر بن عبدالعزيز أنه دخل عليه رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فقال عمر: إن شئت حققنا هذا الأمر الذي تقول فيه وننظر فيما نسبته إليه، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: هماز مشاء بنميم وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً، ثم اعلم أن من نقل إليك كلام الناس وأفشى سرهم، فإنه ينقل عنك كلامك ويفشي سرك الى الآخرين، ورحم الله الحسن البصري فإنه قال:
لا تفش سراً ما أستطعت إلى امرئ يفشي إليك سرائراً يستودع
فكما تراه بسر غيرك صانعاً فكذا بسرك لا أباً لك يصنع
وقال آخر:
لا تقبلن نميمة بُلِّغتها وتحفَظَّن من الذي أنبأكها
إن الذي أهدى إليك نميمة سينم عنك بمثلها قد حاكها
وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن رجلاً – وذكر إسمه – ما يزال يذكرك في قصصه بشرّ. فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعلمه: أن الموت يغمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين، وروى أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري رحمه الله فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا فقال الرجل ما فعلت ولا قلت. فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال: للرجل اذهب بسلام.
وروي أيضاً أن بعض السلف زار أخاً له وذكر له بعض إخوانه شيئاً يكرهه فقال له: يا أخي أطلت الغيبة وأتيتني بثلاث جنايات – أي مخالفات – بغضت الي أخي – أي جعلته مكروهاً عندي – وشغلت قلبي بسببه، وأتهمت نفسك الأمينة.
فيا أخي المسلم وأختي المسلمة إحفظا لسانكما من هذه الآفة السيئة: النميمة، فإن فيها إفساداً لذات البين، وفي إفساد ذات البين تعاون على الإثم والعدوان والله جل وعلا يقول: ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ولذلك سماها النبي : ((الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)) ، فعلى كل مسلم أن يسعى في كل أمر يؤلف بين قلوب إخوانه ويجمع كلمتهم وأن ينابذ ويبغض كل ما يؤدي الى الإفساد في الأرض بسبب النميمة، فقد سمعتم في الحديث أنها سبب لعقوبة الله وعذابه في القبر كما قال عليه الصلاة والسلام: ((وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) وحسب النمام عقوبة وعذاباً أن لايدخل الجنة فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم واطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
فاللهم اهدنا لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال، وجنبنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال اهدنا إلى صراطك المستقيم إنك جواد كريم، وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/963)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – بر الوالدين قرين التوحيد في كتاب الله
2 – فضل الوالدين
3 – الأم ثم الأب
4 – حق الوالدين والأدب معهما
5 – احاديث فضل بر الوالدين
_________
الخطبة الأولى
_________
روى البخاري ومسلم عن إبن مسعود رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله : أي العمل أحب الى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)).
بر الوالدين فريضة لازمة وواجب متحتم وعقوقهما حرام، وذنب عظيم، وقد جعل الله بر الوالدين قرين توحيده وعبادته سبحانه، وبيّن ما يجب لهما وما لا يحل فعله معهما فقال جل وعلا: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهم جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات على ماقاموا به نحوهم من الطفولة الى الرجولة، من عطف ورعاية وتربية إلا أن يجد الولد أباه مملوكاً فيشتريه فيعتقه كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لايجزي ولد والده الا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) فشكر المنعم واجب ولله سبحانه على عباده نعم لا تحصى كما قال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها فمن تلكم النعم، إن الله عز وجل خلقنا وأوجدنا وجعل سبحانه للوالدين نعمة الإنجاب والتربية الصالحة والعناية التامة بالأولاد، وأكبر الناس مِنَّة وأعظمهم نعمة على الإنسان بعد رسل الله والداه، اللذان جعلهماالله سببا لوجوده وأعتنيا به منذ كان حملاً إلى أن صار رجلاً، فأمه حملته شهوراً تسعاً في الغالب تعاني آلاماً من مرض ووحم وتقل، فإذا آن وقت الوضع وجاءها المخاض شاهدت الموت وقاست من الآلام ما الله به عليم، فتارة تموت وتارة تنجو، وليت الألم والتعب ينتهي بالوضع: يكن الأمر سهلاً، ولكن يكثر النصب ويشدد التعب بعده قال الله تعالى: حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً ثم ترضعه حولين كاملين فتقوم به مثقلة وتقعده به مثقلة تضيق أحشائها وقت حمله وتضعف أعضاؤها عند وضعه وإرضاعه، ثم بعد ذلك بكاء وصياح بالليل يحرم الوالدين النوم وكذلك بالنهار يقلق راحتهما، ومرض يعتري الولد من وقت لآخر يتعب قلبيهما يذرف دموعهما، تعهد من الأم لجسمه بالغسل ولثيابه بالتنظيف، ولفضلاته بالإزالة لا يوماً ولا يومين ولا شهراً ولا شهرين، ليلهما ونهارهما كله في متاعب ومشاق، وكثير ما يضحي الوالدين براحتهما في سبيل راحة الأبناء والبنات، والطفل يعرف أمه ويحبها قبل كل أحد، فاذا غابت صاح حتى تأتيه واذا أعرضت عنه دعاها وناجاها بما قدر عليه من كلام أو غيره، واذا أصابه شيء يؤلمه إستغاث بها وناداها، يظن أن الخير كله عندها ولا الشر يصيبه ما دامت تضمه على صدرها وترعاه بعينها وتدافع عنه بيديها، ولذلك فالأم مقدمة في الحضانة إذا فارقها زوجها ولم تتزوج حتى يميز ويختار من شاء منهما، كما جاء في حديث عبدالله بن عمر بن العاص أن أمرأته قالت: ((يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال رسول الله : أنت أحق به مالم تنكحي – مالم تتزوجي)) ، ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه، إذا دخل سر وبش به، وإن خرج تعلق به، واذا حضر قعد على حجره، واذا غاب سأل عنه وانتظره، فأي حب وإحترام بعد هذا، ولكن يا للأسف سرعان ما ينسى الجميل وينكر المعروف ويلتفت الى زوجته وأولاده وينسى أباه ولذلك لا يحتاج الآباء الى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأولاد الى توصيتهم ببر الوالدين وتذكيرهم بواجبهم نحوهما.
ولقد أجاد من قال:
عليك يا إبن أخي قد أفنت العمرا
وقد تمرغت في أحشائها شهراً
سرت لما ولدت مولدها ذكراً
في حجرها تستقي من ثديها الدررا
منها ولا تشتكي نتنا ولا قذراً
خوفاً عليك وترخي دونك السترا
حتى استويت وصرت كيف ترى
ولا تدع قلبها بالقهر منكسراً
واحفظه لا سيما إن إدرك الكبرا
على ظهرك حج البيت واعتمرا
فلا تطع زوجة في قطع والدة
فكيف تنكر أماً بثقلك احتملت
وعالجت بك أوجاع النفاس وكم
وأرضعتك إلى حولين مكملة
ومنك ينجسها ما أنت راضعة
وقل هو الله بالمرات تقرؤها
وعاملتك بإحسان وتربية
فلا تفضل عليها زوجة أبداً
والوالد الأصل لا تنكر لتربيته
فما تؤدي له حقاً عليك ولو
فاللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم، وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم، وأرزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
فقد فصَّل سبحانه وتعالى ما يجب علينا من الإحسان الى الوالدين فقال: إما يبلغن عندك الكبر أي اذا وصل الوالدان أو أحدهما الى الكبر، حال الضعف والعجز وصارا عندك في آخر العمر، كما كنت عندهما في أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف بهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، ويظهر الإحسان إلى الوالدين بأن تتبع معهما أموراً خمسة:
أولاً: ألا تتأفف من شيء تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى منه الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك في صغرك واحذر الملل القليل والكثير، وعليك بالرفق واللين معهما والله لايضيع أجر من أحسن عملاً.
ثانياً: أن لا تنغص ولا تكدر حياتهما بكلام قبيح تزجرهما به فقد بلغنا من بعض من لايحفظون للوالدين حقوقاً ولا يعرفون لهما معروفاً ولا إحساناً، بلغنا عنهم أنهم يجرحونهما بكلام قبيح حتى بلغ بأحدهم أن أمه زارته في بيته فغلظ لها الكلام وفتح الباب وطردها، فالله المستعان ولا حول ولا قوة الا بالله.
ثالثاً: أن تقول لهما قولاً كريماً أي حسناً طيباً مقروناً بالإحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب كأن تقول يا أبي ياوالدي يا أمي ولا تدعوهما بأسمائهما ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك بل يكون نظرك إليهما نظر عطف ولطف وتواضع، أخرج إبن أبي حاتم عن عروة في قوله تعالى: وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال: إن إغضباك فلا تنظر إليهما طويلاً، فإن أول ما يعرف به الغضب الرجل شدة نظرة إلى من غضب عليه. وسئل الحسن إلى أي شيء ينتهي إليه عقوق الوالدين؟ قال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحد النظر إليهما.
رابعاً: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة جزاء رحمتهما بك وجميل شفقتهما عليك.
خامساً: أن تتواضع لهما وتطيعهما فيما أمراك به مالم يكن معصية لله، وينبغي عليك أن تشتاق وترتاح كلما بذلت ما يطلبان منك من حطام الدنيا الفانية.
وعلى الجملة فقد أكد جل وعلا التوصية بالوالدين من وجوه كثيرة، وكفاهما أن جعل الإحسان اليهما مع توحيده سبحانه، وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة من ذلك أن رجلاً جاء الى النبي يستأذنه في الجهاد معه فقال: ((أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)) ومن ذلك ما رواه ابو هريرة رضي الله عنهما أن النبي قال: ((رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة)) ، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل الى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد وأبتغي الأجر من الله تعالى، فقال: ((فهل من والديك أحدٌ حي؟)) فقال: نعم بل كلاهما قال: ((تبتغي الأجر من الله تعالى)) قال: نعم بل كلاهما، قال: ((تبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم، قال: فأرجع الى والديك فأحسن صحبتهما)) ، وفي رواية لأبي داود قال الرجل: جئت أبا يعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع اليهما فأضحكهما كما أبكيتهما، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((من سره أن يمد في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه)).
وعن أسير بن جابر قال: كان عمر رضي الله عنه اذا أتى عليه أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى إليه فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: الك والدة؟ قال: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله يقول: ((ياتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن: كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة يحوبها بر، لو أقسم على الله لأبره)) ، فإن إستعطعت أن يستغفر لك فافعل فاستغفر لي. فانظروا رحمكم الله إلى هذه المنزلة التي بلغها هذا البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عن المصطفى وأن يقول لعمر إن إستطعت أن يستغفر لك فأفعل، وانظر الى حوض عمر على البحث عن هذا الرجل البار ليطلب منه الإستغفار له.
ورأى إبن عمر رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل بكثير.
فاللهم وفقنا للإحسان الى الوالدين وجنبنا عقوقهما واغفر لهما وارحمهما كما أحسنا إلينا والحمد لله رب العالمين.
(1/964)
تقوى الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – فضل التقوى
2 – معنى التقوى
3 – صفات المتقين
4 – الحث على الإحسان إلى الناس
5 – آداب الصدقة
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله : عليكم بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين كما قال تعالى: ولقد وصينا الذين أوتو الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله فمامن خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلغة له، وما من شر عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
ولقد علق الله عز وجل في كتابه العزيز على التقوى خيرات عظيمة وسعادات جسيمة من ذلك أن الله عز وجل مع المتقي دائماً يحفظه وينصره ويؤيده قال جل وعلا: واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ومن فضائل التقوى وخيراتهما محبة الله للمتقين قال سبحانه: فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين التقوى سبب للأمن فقد نفى الله الخوف والحزن عن المتقي المصلح فقال جل وعلا: فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون التقوى فرقان بين الحق والباطل وكفارة للسيئات ومغفرة للذنوب قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ، ومن خيرات التقوى النجاة من النار قال الله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً وقال تعالى: وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لايمسهم السوء ولاهم يحزنون ومن ذلك أن التقوى سبب للخروج من شدائد الرزق من حيث لا يحتسب قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لايحتسب ، ومن ذلك أن الله ييسر ويسهل أمور المتقين كما قال سبحانه: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ويعظم له الأجر: ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً ومن ذلك الوعد من الله بالجنة للمتقين: وأزلفت الجنة للمتقين وقال: إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عن مليك مقتدر ومن خيرات التقوى أيضاً الكرامة عند الله: إن أكرمكم عند الله اتقاكم ، إذا فهمت يا عبدالله هذه الخيرات الحاصلة بالتقوى فاعلم أن التقوى هي طاعة الله عز وجل بفعل أوامره والإبتعاد عن نواهيه، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على مانهاهم عنه، المتقون هم الذين يعترفون بالحق قبل أن يشهد عليهم، ويعرفونه ويؤدونه وينكرون بالباطل، ويجتنبون ويخافون الرب الجليل الذي لاتخفى عليه خافية، المتقون يعملون بكتاب الله فيحرمون حرامه ويحلون حلاله، المتقون لا يخونون في أمانة ولايرضون بالذل والإهانة ولايعقون ولايقطعون ولايؤذون جيرانهم ولايضربون إخوانهم، المتقون يصلون من قطعهم ويعطون من حرمهم ويعفون عمن ظلمهم، الخير عندهم مأمول والشر من جانبهم مأمون، المتقون لايغتابون ولايكذبون ولا ينافقون، المتقون لايحسدون ولا يراؤون ولا يرابون ولا يرشون ولايقذفون ولا يأمرون بمنكر ولاينهون عن معروف، بل المتقون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقاً الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة خائفون مشفقون، المتقون حقاً هم أهل الفضائل منطقهم الصواب، وملبسهم الإقتصاد ومشيهم التواضع، غضو أبصارهم عما حرم الله عليه، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم في البلاء كما نزلت في الرخاء عظم الخالق جل شأنه في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصيرة فأعقبهم راحة طويلة وتجارة مربحة يسرها لهم ربهم.
أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها أما الليل فصافون أقدامهم يتلون آيات الله إذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا اليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم، واذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زئير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون من الله تعالى أن يفك رقابهم من النار، فالمتقون لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون، إذا زكى أحدهم خاف مما يقال فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري.
اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون واغفر لي مالا يعلمون والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد:
عباد الله: إن كنتم في سعة منا لعيش فاحمدوا الله تعالى أن جعلكم من أهل الإيثار وأديموا شكره يدم عليكم النعمة ويزدها، ومن تمام شكر النعمة أن لا تبخلوا بأموالكم وأن تخرجوا منها جزءاً إلى ذوي الحاجات لعلكم أن تفوزوا بالخلف والثواب الجزيل من فاطر السموات والأرض فأحسنوا إلى عباد الله كما أحسن الله اليكم، وارعوا عند الإحسان الأدب فإن للصدقة آداباً ينبغي أن يراعيها المتصدق منها أن يفهم المقصود من الصدقة وهو ثلاثة أشياء أن الله عز وجل يبتلي كل من يدعي محبة الله تعالى بإخراج شيء يحبه، وأن ينزه العبد نفسه عن صفة الشح والبخل المهلكين، وإن الصدقة هي شكر الله المنعم عليك بالمال.
ومن آداب الصدقة أيضاً إخراجها سراً، وهو أفضل من إخراجها جهراً لقوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم وحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل الا ظله وذكر منهم رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، لكون الإخفاء أبعد عن الرياء والسمعة، وفي إظهارها إذلال للفقير أيضاً. ومن آداب الصدقة أن لايفسدها صاحبها بالمن والأذى ويرى نفسه محسناً الى الفقير منعما عليه بالعطاء ولو حقق المتصدق النظر جيداً لرأى أن الفقير هو الذي يحسن إليه لأن صدقته طهرة له وإنماء في ماله، ومن آداب الصدقة أيضاً أن يختار المتصدقون من ماله أجله وأطيبه وأحبه إليه، أما الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وأما الأجود والأحب فإن الله قال: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، ومن آداب الصدقة أيضاً أن يكون المتصدق طيب النفس بإخراجها فرحاً مسروراً وليحذر أن يكون كارهاً لإخراجها فإن ذلك من صفات أهل النفاق الذين وصفهم الله بقوله: ولا ينفقون الا وهم كارهون.
فهذه بعض الآداب الواجب على المتصدق مراعاتها عند التصدق، فأحسنوا الى عباد الله كما أحسن الله إليكم وارعوا عند الإحسان هذه الآداب فلا تمنوا على الفقير، ولاتؤذوه فإن ذلك محبط للأعمال، واستروا عطاءكم مخلصين متيقنين أن حاجتكم إلى الثواب وتكفير الذنوب أشد من حاجة الفقير الى مالكم، واعلموا أن إحسانكم إنما هو لأنفسكم وأعصوا الشيطان فإنه يأمر بالبخل والشح وينهى عن العفط على المساكين، يخيفكم إن تصدقتم أن يذهب مالكم وأنتم تعلمون أن نصيحة العدو مهلكة، وقد أخبركم ربكم جل وعلا أن الشيطان لكم عدو مبين، وأخبر نبيكم أنه مامن يوم يصبح العباد إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً.
(1/965)
حصائد اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – نعمة اللسان
2 – خطورة اللسان
3 – اللسان وسيلة للخير والشر
4 – الإنسان محاسب على كل كلمة صغيرة وكبيرة
5 – اللسان من أسباب دخول النار
_________
الخطبة الأولى
_________
فمن نعم الله عز وجل التي لا تحصى أن أحسن خلق الإنسان، وعدله وألهمه نور الإيمان، فزينه به، وجمله وعلمه البيان، فقدمه به وفضله، وأمده بلسان يترجع به عما حواه القلب وعقله، فاللسان أخي المسلم حصانك إن صنته صانك، وإن زنته زانك، وإن خنته خانك، فتدبر أمرك، وأعلم أن اللسان صغير حجمه عظيم خطره وجرمه، به يصون الإنسان ماله ونفسه وعرضه في الدنيا، ويسعد في الآخرة به، ويهلك في الدنيا ويسعد في الآخرة وأن أصر على الكفر ينل منه في الدنيا ويشقى في الآخرة.
حفظه الله بالأسنان والشفتين لكيلا تعجل بإطلاقه والتفكر فيما تقول، فإن كان خيراً قلته وإن كان شراً سكت عنه، باللسان تقرأ القرآن وتذكر الله تعالى وتسبحه وتهلله وتصلي على النبي وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدل على الخير وتنهى عن الشر وتصلح بين الناس وتقول الحق والصدق وتنشر العلم وتدعوا الى الفضيلة وتنفر من الرذيلة، وباللسان يرتكب الكذب والغيبة والنميمة والخصومة والحلف بغير الله واللعن والسب والشتم والقذف وغير ذلك، فأعجب لهذا العضو وخطورته، يروى أن لقمان الحكيم أمره سيده أن يذبح شاة ويأتيه بأطيب عضو فيها فذبحها وأتاه باللسان وقال له: هذا أطيب عضو في الشاة. وبعد مدة أمره سيده بذبح شاة أخرى وأن يأتيه بأخبث عضو فيها فذبحها وأتاه باللسان، وقال له هذا أخبث عضو فيها، فاللسان سلاح ذو حدين يستعمل في الخير ويستعمل في الشر وأعضاء الجسم كلها تخشى اللسان وآفاته فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((اذا أصبح إبن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن إستقمت إستقمنا وإن اعوججت اعوججنا)).
أخي المسلم إن الكلام من العمل وأنت محاسب عليه لا تظنن أن الأمر هزل فأهل النار يتعجبون حينما يرون كل ما عملوه من صغير وكبير قد أحصاه الله عليهم وقالوا ياويلتنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فلا تعجب بعد قول الله تعالى: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد لا تعجب بعد قول الله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ، وقد أوضح لنا رسول الله عظمة أمر اللسان وخطورته، وأنه مكمل لسائر أعمال الخير من صلاة وصيام وزكاة وحج وقيام ليل وجهاد، وأن سائر الأعمال قد ينقص فضلها وأجرها بل قد تحبط وتمحى كلها باللسان، بين رسول الله ذلك كله لمعاذ بن جبل حين سأله عما يدخل الجنة ويبعده عن النار، أخي المسلم هاك الحديث بتمامه فاسمعه بإمعان، حتى تدرك عظمة اللسان وخطورته: روى الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: قال يارسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلاً ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل أي وسطه ثم تلا تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعلمون ، ثم قال: الا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه – أي أعلاه- قلت: بلى يارسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قلت: يارسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجههم إلا حصائد ألسنتهم)) فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع الخير من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع الشر من قول أو عمل حصد الندامة.
إن حديث النبي هذا يدل على أن أكثر مايدخل الناس به النار النطق بألسنتهم، فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك، وقد علمتم أنه أعظم الذنوب عند الله عز وجل، ويدخل فيها القول على الله بغير علم وهو قرين الشرك أيضاً، ويدخل فيها شهادة الزور والسحر والقذف والكذب والغيبة والنميمة، ولقد كان اللسان بهذه الخطورة والأهمية كان حفظه شعبة من شعب الإيمان، فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يعملا على حفظ ألسنتهما من كل ما يشين وأن يجتهدا في ألا يتكلما إلا بما يزين، والذي يشين اللسان هو كل ما حرمه الله عليك، فواجب عليك الانتهاء عنه قطعاً.
فاتقوا الله أيها الناس واحفظوا ألسنتكم ولا تطلقوا عنانها فتهلككم، إذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا قول ربكم وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وتذكروا قول نبيكم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
_________
الخطبة الثانية
_________
قال الله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً فلا تقل يا عبدالله رأيت وأنت لم تر شيئاً، ولا تقل سمعت وأنت لم تسمع ولا علمت وأنت لم تعلم، فإن ذلك عين الكذب الذي نهانا عنه رسول الله وأمرنا بخلافه فيما يرويه مسلم عن إبن مسعود قال: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي الى البر وإن البر يهدي الى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عندالله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي الى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) ، الكذب – عباد الله – هو أن تخبر بالشيء ماهو خلاف ما عليه الواقع، والكذاب جبان له وجهان، لا يجرؤ على الصدق، ولذلك فهو معدود من المنافقين، اذ المنافق يظهر خلاف ما يبطن، ولا ينفصل الكذاب عن النفاق حتى يصدق في الحديث فإذا صدق زال عنه اسم النفاق، روى مسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب واذا عاهد غدر واذا وعد أخلف واذا خاصم فجر)) ، الكذب ذنب كبير من تخلق به كان بعيداً عن الإيمان فقد سأل أحد الصحابة رسول الله : ((المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك، قال: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك، قال: المؤمن يكذب؟ قال: لا. قال الله تعالى: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله أولئك هم الكاذبون )) ، إن بعض الناس يعتبرون الكذب أمراً هيناً فيجعلونه قسمين: كذبة بيضاء وكذبة سوداء، الا فليعلموا أن الكذب حرام كله، حتى الكذب المزاح ليضحك به الناس فقد روي عن أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: سمعت رسول الله يقول: ((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب)) ، الكذب كله مذموم، وإنما يتساهل بعض الآباء فيكذبون على أبنائهم وبناتهم، ويعدونهم وعوداً كاذبة، والطفل يتعلم من أبويه أخلاقهما، فينشأ في حديثه على الكذب لأنه تربى على ذلك، ورسول الله لم يغفل عن التربية والتوجيه، فقد سمع إمرأة تعد ولدها وعداً فوجه إليها النصح والإرشاد، وبين لها أنها لولم تطعمه ما وعدت لكان كتب عليها كذبة، ويكثر الكذب في مجالس النساء خاصة فإن كثيراً من النساء إذا جلسن إلى بعضهن تساهلن في أحاديثهن وكذب فيها إفتخاراً، فتدعي إحداهن أمام صويحباتها أن زوجها إشترى لها واشترى وأعطاها وسافر بها إلى كذا وكذا، وصرف عليها كذا وكذا، والحال كله كذب، أو تقول: إشترى لي الثوب بكذا وكذا أضعاف قيمته فلتعلمي أختي المسلمة أنه لايحل لك أن تلوني لسانك الذي أمرت بحفظه بالكذب، وإسمعي ما قاله نبيك محمد فيما يرويه مسلم عن أسماء وكذا البيهقي عن عائشة رضي الله عنهما أن إمرأة جاءت النبي فقالت: يا رسول الله إن لي زوجاً ولي ضرة وإني أتشبع من زوجي، أقول: أعطاني كذا وكساني كذا وهو كذب، فقال رسول الله : ((المتشبع بمالم يعط كلابس ثوبي زور)) يرى الناس عليه ثوبين يظنون أنهما له وليسا له فهو متشبع بما ليس له.
أخي المسلم قد تحلف على شيء تظن صدقك فيه ثم يظهر لك خلافه كأن يقول لك ولدك أعطيني مبلغ كذا فتجيبه: والله ما معي ما تطلب وأنت معتقد صدق ما تقول وإنه لا يوجد لديك المبلغ المطلوب، ثم تمد يدك الى محفظتك فتجد أضعاف المبلغ، فهذا يمين لا مؤاخذة فيه لأن الكذب فيه غير مقصود، ووقع خطأ ويسمى هذا اليمين لغو الذي قال الله فيه: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان واليمين اللغو إن كان لا مؤاخذة فيها فعليك أيها المسلم أن تحفظ إيمانك فلا تحلف بالله على كل شيء فإن الأتقياء البررة ينزهون إسم الله فلا يحلفون به ولو كانو صادقين، أما الحلف بالله كاذباً قصداً فحرام، وعليك أخي المسلم وأختي المسلمة أن تصونا ألسنتكما عنه، فقد حذر رسول الله من إقترافه وسمي اليمين الكاذبة غموساً، لأنها تغمس صاحبها في النار وهي من أكبر الكبائر فقد أخرج البخاري وغيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي قال: ((الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس)) وفي رواية أن إعرابياً جاء الى النبي فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: ((الإشراك بالله، قال: ثم أي؟ قال: اليمين الغموس، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال إمرئ مسلم –أي يأخذه- بيمين وهو فيها كاذب)) ، واليمين الغموس فسحة الكذابين يسارعون إليها مستهينين بعذاب الله وما دروا هؤلاء أنهم سيلقون الله وهو عليهم غضبان، فقسمهم يشترون به حطاماً فانياً وعرضاً زائلاً ويظلمون بها غيرهم ويسلبونهم حقوقهم فهم يقسمون ليبطلوا حقاً أو يحقوا باطلاً، كما هو الشأن في شهادة الزور، فالنار مثواهم إلى أن يتوبوا ويردوا الحقوق الى أصحابها، روى البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن إبن مسعود أن النبي قال: ((من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان)) قال عبدالله ثم قرأ علينا رسول الله من كتاب الله عز وجل: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولايكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب آليم.
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال إنه لايهدي لأحسنها إلا أنت، وجنبنا منكرات الأخلاق والأعمال إنه لايصرفها إلا أنت وسبحانك اللهم وبحمدك وأشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/966)
داء الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – خطورة القلب ووجوب العناية به
2 – حالنا مع القلوب
3 – من أمراض القلوب
4 – صفات المتكبرين
5 – ذم الكبر وأهله
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: لقد كانت القلوب موضع العناية التامة عند السلف الصالح لأنهم يعلمون أنها كما قال النبي : ((إذا صلحت صلح الجسد كله)) وذلك لأن مبدأ الحركات البدنية والإرادة النفسية، فإن صدرت من القلوب إرادة صالحة تحرك البدن حركة نحو الطاعة، وإن صدرت عنها إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فالقلب كالملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده، وعليه كان واجباً علينا أن نكون كما كان سلفنا في العناية والإهتمام بهاتيك القلوب، لأن بها سعادتنا بإذن الله، وبها شقاءنا عياذاً بالله، ولكن ياللأسف ماكان من ذلك الإهتمام شيء، والذي كان منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تنجرح منه القلوب وتذوب له الأكباد، ولذلك نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض في القلوب وتشعبت وصعب شفاؤها وانعدم أطباؤها، ومن وصل إلى هذا الحد فهو في خطر عظيم.
فمن الأمراض التي أزمنت في قلوبنا مرض الكبر، ومرض العجب الذي لايكاد يسلم منه إلا القليل، ولهذا يعتقد الصغير منا والكبير أنه كامل في نفسه، ومن اعتقد ذلك في نفسه هوى وضل لأنه لا ينظر إلى مابه كمال الرجال.
أيها الناس: إن مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال المتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا والكبر، نشأعنه مرض الحسد، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له، وليس هذا كل مافي قلوبنا من الأمراض، بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا الى منع الزكاة وغير ذلك كثير، وكلها أمراض مهلكات، ونحن لانهتم بقلوبنا ولا بأمراضنا بقدر مانهتم بأمراض أجسامنا ونسرع في علاجها إلى المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بالنسبة الى أمراض القلوب، بل ترى الكثير ممن يهتم بجمال ظاهره فيبالغ في تحسين ملابسه ومركبه ومسكنه ومجلسه وبدنه، فانظر إليه عند ذهابه إلى مقر عمله لتتعجب من تغفيله وإنخداعه، فلوكانت عنايتنا بالقلوب كعنايتنا بالملابس والظواهر ما كنا بهذه الحالات المحزنات، عباد الله إن من يتكبر على خلق الله أذله الله، ومن تواضع لله رفعه الله، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر تدوسهم الناس لأنهم هانوا على الله تعالى، المتكبرون شرار الخلق وأهل النار، المتكبر يشمخ بأنفه إذا تكلم ويجافي مرفقيه عن جنبيه لاوياً عنقه يقارب خطاه إذا مشى، متطاولاً على إخوانه، مترفعاً على أقرانه، ينظر الى الناس بمؤخر العين متقدماً عليهم اذا مشى، محتقراً للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحميوان، فالمتكبر لايحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لايقدر على ذلك ولا يقدر على التواضع الذي هو رأس أخلاق المتقين، ولايقدر على ترك الحقد ولا يقدر أن يداوم على الصدق ولايقدر الى ترك الغضب ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من إحتقار الناس وإغتيابهم وتنقصهم لأنه يشعر بالعظمة والعزة والكبرياء فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعظمة مضطر إليه ليحفظ به عزة وعظمته ولذلك ورد في الحديث قوله : ((لا يدخل الجنة من في قلبه ذرة من كبر)) ومما جاء في وصية لقمان لابنه: ولا تصعر خدك للناس ولا تمشي في الأرض مرحاً إن الله لايحب كل مختال فخور ومن تعاليم ربنا لنبيه ولأمته قوله جل وعلا: ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً. فيا أيها المتكبر المتعاظم في نفسه إن شأنك حقير وقدرك صغير ومالك عند عاقل من حساب ولا تقدير لا قليل ولا كثير، فهون عليك وارفق بنفسك، فإنك مغرور يا مسكين، وتدبر كلام رب العالمين: إنه لايحب المستكبرين ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وذم الكبر والمتكبرين في القرآن كثير، وحسب المتكبر أنه عدو الله ولنفسه وللناس، يقصر في الواجب ويدعي ماليس له، ثقيل في حركاته وسكناته بغيض في أمره ونهيه ومجالسته ومشاركته، فالويل كل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة لأن داء الكبر يعدي فتبعد السلامة من المقترب منه، قال بعض السلف: كيف يتكبر من أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو مع ذلك يحمل البول والعذرة. هذا أكبر برهان على أنه دنس جاهل مجهول ممتلئ كبراً وإعجاباً بنفسه، فهو أشبه شيء بالدخان يملا الفضاء ويخرب صدور الناس، وأصله من القمامات والأوساخ المبعثرة، نسأل الله أن يقلل من هذا النوع المنحط، وأن يكثر من أهل التواضع واللين والعطف والحنان قال الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين.
اللهم أجعلنا في سلك عبادك الخيار ونجنا برحمتك من عذاب النار وأسكنا الجنة مع أوليائك الأبرار وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلم يا عبد الله أن للكبر آثاراً تظهر على الجوارح كلها، فترى المتكبر إن سمح أن يمشي مع الناس يكون متقدماً عليهم، حريصاً جداً أن يكونوا كلهم خلفه، كان عبدالرحمن بن عوف - وهو على غناه – لا يعرف من بين خدمه إذ كان لايظهر في صورة ظاهرة عنهم. ومشى قوم وراء الحسن البصري رحمه الله فمنعهم، وهذا رسول الله كان في بعض الأوقات يمشي مع بعض أصحابه، فيأمرهم بالتقدم ويمشي خلفهم حتى يعلمهم ويدفع عن نفسه داء الكبر والإعجاب.
ومن آثار الكبر أن يترفع المتكبر عن جلوس غيره معه بالقرب منه، وإذا جلس معه جلس بعيداً عنه بل إن من المتكبرين من إذا قاموا إلى الصلاة وسمعوا الإمام يأمرهم بتسوية الصفوف وإلصاق القدم بالقدم والكتف بالكتف، ترى المتكبرين لايفعلون ذلك.
ومن آثار الكبر أن يتكبر الرجل على أهله فلا يتعاطى شغلاً في بيته وقد كان النبي كما روت عائشة: ((كان في مهنة أهله يعني في خدمتهم ومعاونتهم)) وروي عن عمر بن العزيز رحمه الله تعالى أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد المصباح أن يطفأ فقال: الضيف أقوم الى المصباح فأصلحه، فقال: ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أفأنبه الغلام؟ أي الخادم، فقال عمر: هي أول نومة نامها. فقام وملأ المصباح زيتاً، فقال الضيف: قمت أنت ياأمير المؤمنين؟ فقال: ذهبت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر، ما نقص مني شيء، وخير الناس من كان عند الله متواضعاً. ومن آثار الكبر الذي يحسبه الناس شيئاً هيناً وهو عند الله عظيم إسبال الثوب اي إطالته أسفل من الكعبين بل بعضهم يمس لباسه الأرض وبعضهم يسحبه خلفه فاسمعوا رحمكم الله ما قاله نبيكم في هذا الشأن فعن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر اليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم: المسبل إزاره اي الذي يطيل ثوبه أسفل الكعبين، والمنان أي الذي يعطي شيئاً ثم يتكلم به، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) وقد يقول قائل إن إسبالي لثوبي ليس كبراً فهو يزكي نفسه تزكية غير مقبولة وحتى وإن لم يقصد به الكبر فإن ذلك منهي عنه جاء فيه وعيد آخر قوله : ((ما تحت الكعبين من الإزار ففي النار)) فاذا أسبل الرجل ثوبه خيلاء وتكبراً صارت عقوبته أشد وأعظم، وهذا الحكم يخص الرجال، وقد رخص النبي للمرأة أن ترخي ثوبها شبراً أو ذراعاً لستر قدميها، خوفاً من الإنكشاف، ولكن لايجوز للمرأة أن تجاوز هذا الحد كماهو الحال في بعض ثياب العرائس التي تمتد أشباراً وأمتاراً وربما حمل ورائها، ومن آثار الكبر جعل بعض الرجال خاتم ذهب أو ساعة فيها ذهب أو نظارات فيها ذهب، فاسمع ماقاله النبي في ذلك حين رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فرماه ثم قال: ((يعمد أحدكم الى جمرة من نار فيجعلها في يده)) ، وقد يصل الكبر الى درجة الكفر والعياذ بالله فمن ذلك ما روى أن رجلاً دخل مسجد البصرة فبسط ناس له رداءً تعظيماً له فمشى عليها وقال لرجل يماشيه لمثل هذا فليعمل العاملون أداه كبره الى أن يستهزئ بآية من آيات الله، نعم إلى هذا الحد يصل الكبر بأهله، قال إبن القيم رحمه الله تعالى:
فهما لكل السر جامعتان
الخير إذ في قلبه يلجان
والكبر أخزى ثم يجتمعان
هذين فأسأل ساكني النيران
وسل العياذ من التكبر والهوى
وهما يصدان الفتى عن كل طريق
فتراه يمنعه هواه تارة
والله ما في النار إلا تابع
فنصيب المتكبر من الله كما سمعتم من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة التي اذا سمعها المتواضع الموفق فتش عن نفسه وحاسبها مخافة أن يكون قد دخل عليه الكبر وهو غافل عنه، وأما نصيب المتكبر من الناس أنه ممقوت محتقر عندهم، فهم يدركون أنه لئيم لا يتواضع الا اذا أهنته ولا يعرف نفسه إلا إذا احتقرته.
فاللهم نجنا من الكبر وأهله وعافنا برحتمك يا أرحم الراحمين.
(1/967)
سوء الخاتمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 – الخوف من سوء الخاتمة
2 – التحذير من الغفلة
3 – فريق في الجنة وفريق في السعير
4 – التزود بالتقوى ليوم الحساب
5 – من أسباب سوء الخاتمة : أ / الحرص على الدنيا ، ب / الإنغماس في المنكرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد:
اعلم رحمك الله أن أمر الخاتمة وما يحذر من سوئها أمر إذا ذكرته حقّ ذكره ازداد قلبك خوفاً وخشية من الله، فابتعدت عن معصيته وسارعت إلى طاعته. ولولا أن الله عزّ وجل حدّد الآجال لزهقت الأنفس عند أول ذكره، ولكنها مربوبة مُدبَّرة مأمورة مُصرَّفة تخرج إذا أُذن لها في الخروج، وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يُختم له بسوء الخاتمة. وما الذي أمّنه منه والخاتمة مُغيَّبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة، والنفس كما ترى، والشيطان منها وهي تدري وهي مُصغية ومستمعة إليه.
قال تبارك وتعالى: إنّ النفس لأمّارة بالسوء فهي مُلتفتةٌ نحو الشيطان مُقبلة عليه.
وقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الرجل ليَعمل عمَل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعملُ عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم)).
فانظر رحمك الله كيف تَقَرّ عين عاقل في هذه الدار؟ وكيف يستقر له فيها قرار مع هذه الحال وتوقُّع هذا المآل واشتغال هذا الخاطر وتقسيم هذا البال. كلا لا حلول له ولا قرار ولا ريع ولا دار ولا قلب إلا مُستطار، ولا نوم ينامه إلا غرار، حتى يدري أين مسقط رأسه ومَحطُّ رحله وموضع رجله، وما المورد والمنهل، وفي أيّ المحالّ يحل، وفي أي المنازل ينزل؟ وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدرِ في أي المكانين تنزل
لكنّ حجاب الغفلة الذي غطّى قلوبنا كثيف، فلا ترى ما وراءه، والوقر الذي في آذاننا عظيم فلا نسمع من ناصح دعاءه. جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((يُجاء بالموت يوم القيامة كأنّه كبش أملح فيُوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا فَيشرَئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. ثم يُقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت فيُذبَح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)) ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قُضِي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون فانظر رحمنا الله وإياك إلى عظيم هذه الغفلة وكثافة حجابها وكيف منعت من النظر في هذا الحديث والتفكير فيه والعمل بمقتضاه.
وقيل: يا ابن آدم الأقلام تجري وأنت في غفلة لا تدري. يا ابن آدم دع الغنى والأوطان والمنازل والديار والتنافس في هذه الدار. حتى ترى ما فعلتْ في أمرك الأقدار. وقد بكى أولوا الألباب على هذا فأكثروا وسهروا من أجله الليالي الطويلة وذلك للعلم الذي لاح لهم والتأييد الذي شمَلهم والتوفيق الذي قطع عنهم ما صدّهم عن طريق الله عزّ وجل، ثم تذكّروا ما هم مُعرَّضون له فعادوا لما كانوا عليه من الاجتهاد، وربما زادوا عليه وأكثروا. ومع هذا فإنهم لشدة خوفهم من الله يظنّون كل إشارة إنما يُشار بها إليهم. كما رُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع قارئاً يقرأ: إن عذاب ربّك لواقع فقال: هذا قسَم حق. فظن أن العذاب قد وقع به، فغُشي عليه، وسمع آخرُ قارئاً يقرأ قوله تعالى: خذوه فغلُّوه أو آية نحوها فغُشي ليه. فاسلك يا أخي على منهاج هؤلاء العقلاء، والتمس على آثار هؤلاء الفُضلاء، وأَدِم حسرتك وصِل البكاء بالبكاء، والأسى بالأسى حتى تنكشف لك هذه الغشاوة وتنجلي عنك هذه العماية.
بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فقيل له: أتبكي على الذنوب؟ فأخذ تِبْنةً من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، إنما أبكي خوفاً سوء الخاتمة. وما ذلك إلا لأن سوء الخاتمة أمر صعب ينبغي أن يهتمّ له كل عبد. ولذلك قيل: لا تكفّ دمعك حتى ترى في المعاد مكانك. ولا تُكحّل عينك بنوم حتى ترى ما لك بعد اليوم، ولا تبِت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور.
وقد علمتَ أخي أن الناس صنفان: صِنف مُقرّبٌ مُصان، وصنف مُبعد مُهان، صنف نُصِبت له الأسِرّة والأرائك وجُمعت له الآمال والرغائب. وصنف أُعدت له المقامع والأغلال وأنواع الأهوال والسلاسل والغِسلين والزّقوم والضّريع والحميم، وأنت لا تعلم من أي الصنفين أنت، ولا في أي الفريقين كُتبت.
إخواني إنّكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر، والطريق كثيرة المخالفات فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفَوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات وتفكّروا فيما أراكم من الآيات. وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات قبل أن ينادي بكم منادي الشّتات، قبل أن يُفاجئكم هادم اللذات قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزَفًرات، قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات، قبل أن يغشاكم من غمّ الموت والغمرات، قبل أن تزعجوا من القصور إلى بطون الخلوات، قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة، قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات.
فاللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا، وحقق بفضلك آمالنا، وحسّن في جميع الأحوال أعمالنا والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
ثم اعلم أن لسوء الخاتمة. أعاذنا الله منها أسباباً وأن لها طُرقاً وأبواباً. أعظمها: الإقبال على الدنيا والحرص عليها والإعراض عن الآخرة والانغماس في المعصية. وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض عن الله والدار الآخرة، فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاء الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبيّن المراد ولا علم ما أراد، وإن أعاد عليه وأعاد.
ويُروى أن رجلاً نزل به الموت، فجعل ابنه يقول له: قل لا إله إلا الله فقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والجنان الفلانية افعلوا فيها كذا وكذا.
ونُقِل عن تاجر أنه كان يُلقَّن عند الموت كلمتي الشهادتين فيقول: خمسة ستة أربعة، فكان مشغولاً بالحساب الذي طال له إلفه فغلب على لسانه ولم يُوفَّق للشهادتين. وقيل لآخَر قل لا إله إلا الله فجعل يهذي بالغناء، وقال: ما ينفعني ما تقول ولم أدَع معصية إلا ارتكبتها ثم مات. وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال: وما يغني عنّي وما أعلم أني صليّت لله صلاة ثم مات ولم يَقلها.
وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله فقال: أنا كافر بما تقول ثم مات. وقيل لآخر قل لا إله إلا الله فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يُمسك عنها. قال ابن القيم رحمه الله: أخبرني من حضَر بعض التّجار عند الموت فجعلوا يُلقِّنونه لا إله إلا الله وهو يقول: هذه القطعة رخيصة. هذا المبيع جيد. وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عِبَراً والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم.
فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوّته قد تمكّن منه الشيطان واستعمله بما يُريده من المعاصي، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله، وعطّل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته، فكيف الظنّ به عند ضعفه واشتغال قلبه وجمع الشيطان له كل قوته وهمّته لينال منه غرضَه، فأقوى ما يكون عليه الشيطان ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة: أي حالة نزع الروح فمن ترى يسلم على ذلك فهنالك: يُثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
فكيف يُوفّق لحسن الخاتمة من أغفلَ الله قلبه عن ذكره واتّبع هواه، وكان أمره فُرُطا.
فمن كان قلبه غافلاً عن الله، عبداً لِهواه مُقيّداً بشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطّلة من طاعته مُشتغلة بمعصيته، فبعيد أن يُوفّق لحُسن الخاتمة.
إنه ليُخشى على صاحب المعاصي والمنكرات والذين اتخذوا آلات اللهو، يُخشى عليهم أن يكونوا مشغولين بها في آخر لحظة من حياتهم، فيكون خِتام صحيفتهم والعياذ بالله ما نطقت به ألسنتهم مما اعتادوه من المنكرات.
ثم اعلموا عباد الله أن سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلُح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد وإصرار على الكبائر وإقدام على العظائم.
فربما غلَب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، ويَثِب عليه قبل الإنابة، ويأخذه الموت قبل إصلاح نفسه فيتخطّفه الشيطان عند تلك الدهشة. فبادروا رحمكم الله بالأعمال الصالحة فبين أيديكم أهوال من سكرات الموت صِعاب، وحشر وصراط وحساب، ويوم ياله من يوم، تنقطع فيه الأرحام والأنساب، ولا ينفع فيه الأهل والأموال والأصحاب، وما هو والله إلا نعيم في الجنان أو تقلّبٌ في العذاب.
انتبه يا من قادته الشهوات إلى الحفائر، ويا من دنّس الحرامُ منه الظاهر والباطن. انتبه يا من سبَقه القوم وتخلّف في الشهَوات وقسا قلبه بالمعاصي وشاب رأسه وهو مُقيم على الزلاّت، إلى متى وأنت تُبارز بالمعاصي من يَعلَم الظواهر والخفِيّات، تيَقّظ يا مسكين فإنّك عن قريب ستندم على ما فاتك من اكتساب الباقيات الصالحات.
فاللهم إنا نسألك أن تعصِمنا من سوء الخاتمة وأن تختِم أعمارنا بالصالحات، وأن تُثَبّت قلوبنا على دينك وتصرفها إلى طاعتك إلى أن نلقاك وأنت راضٍ عنّا يا رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
(1/968)
فوائد ذكر الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
محمد بو سنه
عين النعجة
مبارك الميلي
_________
ملخص الخطبة
_________
1 - أهمية الإعتناء بحياة القلوب
2 - فضل ذكر الله تعالى
3 - ذكر الله بالقلب واللسان والجوارح
_________
الخطبة الأولى
_________
اعلم أيها العبد أن حياة قلبك أولى بالاهتمام من حياة جسدك، ذلك لأن حياة القلب تؤهّلك لأن تعيش حياة طيبة طاهرة في الدنيا وسعادة أبديّة في الآخرة بينما حياة الجسد حياة مؤقتة، سُرعان ما تزول وتنقضي، ولا سبيل لعلاج حياة القلب وزيادة الإيمان فيه إلا بالطاعات، فهي كلّها لازمة لحياة القلب كما يلزم الطعام والشراب لحياة الجسد، ومن أعظم ما يحتاجه قلب العبد من الأغذية النافعة ذكر الله عزّ وجل، فالذكر هو المنزلة الكبرى التّي يتزوّد منها العارفون وفيها يُتاجرون وإليها دائماً يتردّدون، وهو قوت قلوبهم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وهو عمارة ديارهم التي إذا تعطّلت عنه صارت بوراً، وهو سِلاحهم الذي يُقاتلون به قُطّاع الطريق، وهو دواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، وهو السبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب.
فبذكر الله تُدفع الآفات وتُكشف الكُرُبات وتهون المصيبات. كان السلف إذا أظَلّهم البلاء فإلى ذكر الله ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مَفزعُهم، فهو رياض جنّتهم التي فيها يتقلّبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتَّجِرون، الذكر يَجعل القلب الحزين ضاحكاً مسروراً، ويوصل الذاكر إلى المذكور – أي إلى ربّه –، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي عبادة غير مؤقتة، بل يُؤمر العبد بذكر مَعبوده ومحبوبه في كل حال قياماً وقعوداً وعلى جنبه.
ذكر الله عزّ وجل هو جلاء القلوب وصفاؤها ودواؤها إذا مرِضت، وكلّما ازداد الذاكر في ذكره ازداد محبة إلى لقاء ربه. وإذا واطئ في ذكره قلبه للسانه نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عِوَضاً من كل شيء. به يزول الوقر عن الأسماع، والبَكم عن الألسنة، وبه تنقشع الظلمة عن الأبصار، فالذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يُغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري رحمه الله: "تَفقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة وفي الذِّكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مُغلق".
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى للذكر فوائد كثيرة أقتَصر على بعضٍ منها: فمن فوائده:
أنه يطرد الشيطان ويَقمعه ويَكسره، ويُرضي الرحمن عزّ وجل، ويُزيل الغمّ والحُزن، ويجلب للقلب الفرَح والسرور والبَسْط.
ومن فوائده أنّه يُقوّي القلب والبدن ويُنوِّر الوجه والقلب ويَجلِب الرزق.
ومنها أنه يكسو الذاكر الحلاوة والمهابة ويورثه محبّة الله.
ومها أنه يُكسِب العبد مراقبة ربّه فيدخل في باب الإحسان فيُصبح يعبد الله كأنّه يراه.
ومن فوائده أنّه سبب ذكر الله عزّ وجل لعبده الذاكر كما قال تعالى: فاذكروني أذكُرْكم. وفي الحديث القُدسي الذي أخرجه البخاري ومسلم :(( فإن ذكرني في نفسه ذكَرتُه في نفسي، وإن ذكرني في مَلأ ذكرته في ملأ خير منهم)).
ومنها أيضاً أنه يورث حياة للقلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الذكر للقلب كالماء للسمك، فكيف يكون حال السّمك إذا فارق الماء".
ومنها أيضاً أنّه يورث جلاء القلب من صَدَئه، إذ كل شيء له صدأ، وصدأ القلب: الغفلة والهوى، وجلاؤه وصفاؤه: الذكر والتوبة والاستغفار.
ومنها أن الذكر يَحُطّ الخطايا ويُذهِبُها، فإنّه من أعظم الحسَنات والله تعالى يقول: إن الحسنات يُذْهِبن السيئات. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال في يوم وليلة سبحان الله وبحمده مائة مرّة حُطّت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبَد البحر)).
ولا شكّ أن حضور حِلَق الذكر يؤدي إلى زيادة الإيمان، وذلك لعدة أسباب منها: ما يحصل فيها من ذكر الله، ونزول الرحمة والسّكينة وحَفّ الملائكة للذاكرين كما جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويَتَدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشِيَتهم الرحمة وحَفّتهم الملائكة وذَكَرهم الله فيمن عنده)). ومما يدلّكم على أن مجالس الذكر تزيد الإيمان ما أخرجه مُسلم في صحيحه عن حنظلة الأسيدي قال: لقِيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله يُذكِّرُنا بالنار والجنّة، حتى كأننا نراها، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عُدنا إلى أزواجنا وأولادنا ومعاشنا فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فو الله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخَلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟)) قلت: يا رسول الله نكون عندك تُذكِّرُنا بالنار والجنة حتى كأنّا نراهما بأعيننا، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده إنكم لو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذّكر لصافحتكم الملائكة على فرُشِكم وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)). وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الجلوس للذكر ويسمّونه إيماناً، قال معاذ رضي الله عنه لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة".
ومن فوائد الذكر أنه سبب لاشتغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفُحش، فمن عوَّد لسانه ذكر الله حفِظه عن الباطل واللغو، ومن يَبِس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطّب بكل باطل ولغو وفحش، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الخطبة الثانية: - ومن فوائد ذكر الله عزّ وجل أنه يوجب الضمان والأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في دُنياه وأُخراه فإنّ من نَسِيَ الله سبحانه وتعالى نسي نفسه ومصالحها كما قال تعالى: ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون. وإذا نسي العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيَها واشتغل عنها فهَلَكت وفسَدت كمن له زرع أو بستان، فلم يُصلِحه ولم يقم عليه وأهمله ونسيَه واشتغل عنه بغيره، فإنه يَفسُد ولا بد.
ومن فوائد الذكر أيضاً أن جميع الأعمال إنما شُرِعت إقامة لذكر الله عزّ وجل ومن أعظمها الصلاة قال جلّ وعلا: وأقم الصلاة لذكري أي لإقامة ذكري. وقال عزّ وجل: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمُنكر ولذِكر الله أكبر. أي أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما فيها من ذكر الله أعظم من نَهيِها عن الفحشاء والمنكر.
ومن فوائد الذكر أن المُداومة عليه ينوب عن كثير من الطاعات ويقوم مقامها كما جاء ذلك صريحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن فُقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور أي الأغنياء بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يُصلُّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم يحجّون بها ويعتمرون ويجاهدون فقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أعلِّمُكم شيئاً تُدركون به من سَبَقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحَدَ يكون أفضل منكم إلا من صَنَع مثل ما صنعتم. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تُسبّحون وتحمدون وتُكبّرون خلف كلّ صلاة)) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أسبِّح الله تعالى تسبيحات أحبّ إليّ من أن أنفِق عَددهنّ دنانير في سبيل الله عزّ وجل".
ومن فوائد ذكر الله أيضاً أنّه يُعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه فقد أخرج البخاري: عن فاطمة رضي الله عنها أنها شَكَت ما تلقى في يدها من الرحى أي مِما تطْحن فأتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، فلم تجِدْه، فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته. قال علي رضي الله عنه: فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذنا مضاجعنا أي أرادا أن يناما، فذهبت فاطمة لتقوم فقال لها: مكانك فجلس بيننا ثم قال: ((ألا أدلّكُما على ما هو خيرٌ لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فِراشكما أو أخذتما مضاجعكما، فكبِّرا الله أربعاً وثلاثين. وسبِّحاه ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهذا خيرٌ لكما من خادم)).
ومن فوائد الذكر أن كثرته أمان من النفاق فقد وصَف الله المنافقين بأنّهم قليلو الذكر لله عزّ وجل فقال تعالى: إن المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى يُراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. فمَن أكثر من ذكر الله عزّ وجل برئ من النفاق ولهذا ختَم الله تعالى سورة المنافقين بقوله: يا أيها الذين آمنوا لا تُلْهِكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون.
ومن فوائده أيضاً ما يَحصُل للذاكر من لذة لا يُشبِهُها شيء، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة من الذكر والنعيم الذي يُحسّ به الذاكر في قلبه لكفى به، ولهذا سُمِّيت مجالس الذكر رياض الجنّة. قال مالك بن دينار: "ما تلذّذ المُتَلذّذون بمثل ذكر الله عزّ وجل".
ومن فوائد الذكر أن الله عزّ وجل يقبل الدعاء الذي يُقَدّم صاحبه بين يديه ذكر الله، إذِ الذكر أفضل من الدعاء، لأن الذكر ثناء على الله عزّ وجل، والدعاء سؤال العبد حاجته، فالدعاء الذي تَقَدَّمه الذكر أفضلُ وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المُجَرَّد عن الذكر.
فاتقوا الله أيها الناس وأديموا ذكر ربّكم بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم وفي كل أحوالكم، فأمّا ذكرَكم ربَّكم بقلوبكم فإنّ معناه: أن يكون القلب متعلّقاً بالله مُعظِّماً له دائماً في قلبه مُستحضِراً نِعَمه التي لا تُحصى، وأما ذكرَكم ربكم بألسِنتكم فهو النُّطق بكلّ ما يُقرِّب إلى الله من تهليل وتكبير وتحميد وتسبيح وقراءة القرآن وقراءة العلوم الشرعية ونُصح العباد للقيام بأوامر الله.
وأما ذكرَكم ربّكم بجوارحِكم فهو كل فِعل يُقرِّب إلى الله عزّ وجل من طهارة وصلاة وزكاة وصوم وحج وبرِ الوالدين وصِلَة الأرحام.
فلازموا عباد الله ذكر ربكم في جميع أوقاتكم وأحوالكم، فإنّ الله مع الذاكرين كما قال سبحانه في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكَرني في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خير منهم)) فاللهم اجعلنا من عبادك الذاكرين، وسُبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفِرك وأتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/969)
الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عثمان بن جمعة ضميرية
الطائف
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم أمر الغيبة التي يستسهلها الناس. 2- حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
3- تحريم الغيبة بالنصوص الشرعية. 4- عاقبة المغتاب في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة، وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور.
أحمده على ما منح عابده من التصرف الكامل، فمن اهتدى وسلك سبيل السعادة نجاه ومن اغتاب جوزي بمثل ما فعل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ولا رب سواه ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فبلغ رسالة ربه وهدى الأمة إلى أقوم طريق فاللهم صل على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
أيها المؤمنون: فقد أنعم الله تعالى على المسلمين عندما أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث والمضار، ولكن عجيب شأن المسلمين إنهم جعلوا هذا وراءهم ظهرياً، فوقعوا في اللحم الحرام يأكلونه وبالفاكهة الفاسدة الضارة يتفكهون بها، إن نوعاً من اللحم الحرام الخبيث المنتن يأكله كثير من الناس ويستمرؤونه، وإن نوعاً من الفاكهة الخبيثة تنتشر اليوم بين الناس في أسواقهم وبيوتهم، عند رجالهم وعند نسائهم بشتى مستوياتهم، إنهم لا يدفعون ثمن هذه الفاكهة من جيوبهم فيأكلونها حراماً فتصبح حراماً على حرام، إنها فاكهة مسمومة مشؤومة في المجالس السامرة لا يشبع طاعمها، ونغمة أحاديثها لا تمل سامعها، أتدرون ما هذه الفاكهة الحرام؟
إنها الغيبة التي يذكر فيها الإنسان أخاه المسلم بما يكره، ويظن أنها أمر سهل بسيط، ويحسبه الناس هيناً وهو عند الله عظيم، فإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم، وقد قال بعض التابعين لأصحابه إنكم تعملون أعمالاً ترونها هينة، كالذباب يقع على أنف أحدكم يقول له هكذا كنا نعدّها على عهد أصحاب رسول الله كأمثال الجبال.
فيا معشر المسلمين: إن الإسلام قد جعل للمسلم حقوقاً على أخيه فلا يجوز أن يتساهل فيها، لقد قال في حجة الوداع؛ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وإن الله سبحانه لما وهب للإنسان السمع والبصر واللسان أوجب عليه أن لا يستعملها كلها إلا في الخير وفي طاعة الله.
وإن الغيبة انتهاك لحرمة المسلم وعرضه، ووقيعه فيه، وإنها تخوض في الحرام، وانحراف بنعمة اللسان الذي ينبغي أن نحفظه فلا نقول به إلا خيراً، ولقد أوصى النبي معاذاً فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قال معاذ: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) ، والبهتان هو أعظم الكذب والافتراء.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي : حسبك من صفية أنها كذا وكذا، تعني قصيرة، فقال: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) أي خالطته مخالطةيتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها.
فما بالكم يا معشر المسلمين: بمن يجلسون اليوم في مجالسهم ولا يقولون كلمة واحدة كهذه، ولكنهم يصفون أخاهم على السفود، يسلقونه بألسنةٍ حداد، ويشرحونه بمباضعهم أوصالاً، من قمة رأسه إلى أخمس قدميه، وهم لا يألون جهداً في التندر بشأنه وكشف ستره ونشر عيوبه، بل يجتهدون في أن يستخرجوا أباءه وأجداده من قبورهم، لينهشوا الجميع ويأكلوا لحومهم أحياءً وأمواتاً، ويغفلون عن الجزاء الذي ينالونه يوم القيامة، وقد حدثنا رسول الله عن هذا الجزاء فقال: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي ، فارتفعت ريح منتنة، فقال رسول الله : ((أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)).
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) ، وردغة الخبال هي عصارة أهل النار.
يا معشر المسلمين: إن في النفوس بقية من خير وإيمان، لا يجوز أن نهملها، وإن في النفوس أيضاً استعداداً للتسامي والرفعة يجب أن نتعهده، لعلنا بذلك نرتقي إلى مستوى هذا الدين الذي أكرمنا الله به وإلى مستوى الخلق الذي ربّى عليه النبي أصحابه فأبعدهم عن كل الرذائل والموبقات.
عندما سلك بهم طريقاً في التربية ذا مسالك متعددة: يبعدهم فيها عن الغيبة:
دعاهم باسم الحجة والبرهان، ثم دعاهم باسم الإيمان، ثم دعاهم باسم الحس والوجدان.
دعاهم باسم الحجة والبرهان قائلاً: يا أيها السامرون الذين نصبوا أنفسهم حكماً فيما بينهم وبين الناس فلأنفسهم أبداً الرضا والثناء والحمد، ولغيرهم أبداً الهجاء والسخط والذم، هل أعددتم أنفسكم حقا لهذا الحكم؟ وهل أحطتم علماً بما فيه تحكمون؟ هلا بدأتم بالحكم على أنفسكم قبل أن تحكموا على غيركم؟ وهلا شغلتكم عيوبكم عن عيوب إخوانكم؟ وهل أمنتم أن ينقلب الميزان فيكون الحكم عليكم لا لكم؟ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن.
ثم دعاهم باسم الإيمان قائلاً: يا معشر الهمازين اللمازين المغتابين، إنكم لا تدركون حقيقة ما تفعلون، ولو فكرتم قليلاً لعرفتم أنكم لا تعيبون إخوانكم فحسب، ولكن تسبّون ربكم أيضاً.
فإن أكثر ما تتفكهون به من عيوب الناس هي عيوب لا ذنب لهم فيها، عيوب ألوانهم وعاهات أبدانهم، مظاهر فقرهم ورقة حالهم، خمول أنسابهم، ومهنة أبائهم.
ألم تعلموا أن الله هو الذي أعطى كل شيء خلقه، وركّبه في الصورة التي اختارها له، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقبض عمن يشاء، وهو الذي قسم معيشته، ورفع بعضاً عليه أو ميزه بدرجة من الدرجات، فلو عبتموه كنتم تعيبون الرحمن في صنعته، وتتعقبون حكمه في تدبيره، فاحذروا الكفر بعد الإيمان، والجاهلية بعد الإسلام، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتنب فأولئك هم الظالمون.
وأخيراً دعاهم باسم الحس والوجدان: إن أردتم أن تعرفوا كنه الغيبة وحقيقة مرتكبيها، فانظروا إلى مائدة ممدودة قد ألقي عليها فريسة من البشر، وقد جعل ينال شرذمة من الخلق، جلودهم جلود البشر، وقلوبهم قلوب النمور، وقد جعل ينال من هذه الفريسة، قضماً بأسنانهم ولعقاً بألسنتهم هؤلاء الذين يفعلون ذلك أترونهم من البشر؟ أم من فصيلة أخرى تأكل لحوم البشر؟ فكيف لو كانت هذه الفريسة عاجزة مجردة من كل سلاح، ثم هي من قبل ومن بعد أخ في أسرة الدين والنسب، تلك هي جريمة الغيبة كما صورها الله تعالى في كلماتٍ بليغة خالدة فقال: ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/970)
العدالة في الإسلام
الإيمان
الجن والشياطين
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أمر الله سبحانه وتعالى بإقامة ميزان العدالة بين الناس حتى يكون الناس سواسية، كما أمر الله عز وجل الحاكم أن يخضع لحكم الله عز وجل فيحكم بين الناس بما أمر الله، ولذلك يقول الله عز وجل: وأن احكم بينهم بما أنزل الله فإذا فرط الحاكم في هذا الجانب فإنه مسؤول أمام الله عما ضيعه في الحكم بين الناس، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) الإمام راع أي الحاكم راع، ومسؤول عن رعيته والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة مسؤولة في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، الخادم راع في منزل سيده ومسؤول عن مال سيده ((ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) وهذه المسؤولية مسؤولية عظيمة لا يستطيع أحد أن يتنصل منها لأن كل إنسان سيحاسبه الله سبحانه وتعالى، ولذلك جعل الله عز وجل الحكم بين الناس أمانة، وأمر الله عز وجل بالمحافظة على هذه الأمانة أشد مما يحافظ الإنسان على أمانة الودائع أي كما أنه يجب أن لا يضيع أمانة استودعها من قبل الناس، فكذلك أيضاً ينبغي عليه أن لا يضيع الأمانة التي حمله الله سبحانه وتعالى الحكام والمحكومين، كلاً في حدود طاقاته واختصاصاته، وهذا الأمر قد ضيعه أبناء المجتمع الإسلامي اليوم مع أن الدين الإسلامي دين ما قام إلا لإرساء قواعد العدالة بين الناس، وهذا السبب الذي دفع كثيراً من المخالفين لمنهج الإسلام أن يدخلوا إلى الدين الإسلامي، حين وجدوا أن العدالة تطبق بحذافيرها بين المسلمين، لا فرق بين أبيض ولا أسود، ولا راع ومرعي، ولا حاكم ومحكوم، ولا سيد ومسود، ولا رئيس ومرؤوس، الكل سواسية كأسنان المشط إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولذلك كانوا يجدون أن هذا الإسلام دين عظيم، فهذا الذي دفع كثير من المخالفين للإسلام وخصوصاً في عصر الفتوحات الإسلامية أن يدخلوا هذا الدين جملة واحدة، ونحن اليوم أبناء الأمة الإسلامية إذا أردنا أن نحقق العدالة فلنحققها وفق كتاب الله سبحانه وتعالى ووفق المنهج الذي ارتضاه لنا رسول الله وجعله مشاعاً بين الناس، وإنك لتعجب حين تجد كثيراً من أبناء الأمة الإسلامية وهم يولون وجوههم صوب الشرق والغرب يبحثون من أنظمة الجاهلية نظاما يحقق لهم العدالة، فتسمع أحياناً رجلا يقول لك: إن العدالة لا يمكن أن تكون موجودة إلا إذا طبقنا الديمقراطية، ومنهم من يقول لك: إذا أردنا العدالة فلن نجدها ولن نستطيع أن نجدها إلا إذا يممنا وجوهنا صوب الإشتراكية العلمية ونسو أن هذا المنهج القرآني فيه ما فيه لكفالة الناس جميعاً، وفيه ما فيه من الأنظمة والقوانين التي تحقق للناس كافة السعادة، وتحقق لهم الطمأنينة، وما موقف الإسلام تجاه الأديان السماوية التي سبقتها وتجاه النظريات قائمٌ إلا على أساس إقامة العدالة في الأرض، وتأملوا بعض النصوص القرآنية، ماذا تجدون فيها؟ يقول الله سبحانه وتعالى: وكذلك جعلنكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً الوسطية هنا يعني العدالة أي أن أمة الإسلام أمة محمودة اختارها الله سبحانه وتعالى، لا يكون جانباً من حياتها طاغياً على جانب آخر، إنما هي أمة تعرف الحدود والموازين، ولأجل ذلك فإنها تسعى إلى إقامة إرساء العدالة بين الناس، وهذا الأمر مأمور به من الله عز وجل إذ يقول في محكم التنزيل: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أي حتى لو كان ذلك الأمر لك شهوة فيه في نفسك وكان خاضعاً لهواك، لكن عليك أن لا تقدم بين يدي الله ورسوله شيئا ولو كان ذلك الشيء يتعارض مع مبدئك وخيارك، ويتعارض كذلك أيضاً مع ما ترجوه وتتمناه في الحياة، إن عليك أن تقدم حكم الله عز وجل على كل شيء قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم فمن قدم نظرية على حكم الله، ومن قدم قانوناً على حكم الله، ومن قدم تشريعاً بشرياً على حكم الله فقد كفر بما أنزل الله على محمد ، وهذه الحقيقة ينبغي أن تكون واضحة في أذهان المسلمين لأنهم اليوم جهلوا حقائق ووقائع الشريعة الإسلامية ولذلك رأينا بين صفوف الأمة الإسلامية من يدعو إلى العلمانية العلمانية في الحكم والسياسية، والعلمانية في النظم والقوانين الاقتصادية، العلمانية في مجالات التشريع والتقنين، علمنة كذلك أيضاً في ميدان التربية والتعليم، كما علمنوا من قبل الإعلام وجعلوا الإعلام يخضع لتصورات اليهود والنصارى ليشن حربا على كل القيم التي يرتضيها الله سبحانه وتعالى لعباده، هذه الأمور كلها ما وجدت في واقع المسلمين إلا حينما غابت المفاهيم الإسلامية الأصيلة من واقع المسلمين، ولذلك أقول أيها الأخوة والأعزاء: إننا لم نفهم ديننا كما أراده الله سبحانه وتعالى لسبب واحد وهو أن بعض أبناء الأمة الإسلامية فهموا أن الإسلام وراثة، ولم يعلموا أنه عقيدة. منهم من ظن أن الدين محصور في صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك وظنوا أن الإسلام لا دخل له بالتشريع وبالسياسة ولا بسلطة الدولة. نقول لهؤلاء: تأملوا الدين الإسلامي منذ أن قام رسول الله يدعوا الناس إلى كلمة التوحيد ألم يكن رئيساً في المدينة يقود الدولة الإسلامية، ولذلك صدق الإسلام في واقع الحياة انطبق المجتمع الإسلامي جملة وتفصيلاً تطبيقاً واقعيا عملياً في شخصه أولا، لأن عائشة حينما سئلت عن خلق النبي. قالت: ((كان خلقه القرآن)) إذا كان القرآن يتلى في المصاحف أو يحمله الناس إذا حفظوه على صدورهم عن ظهر قلب فقد كان رسول الله قرءاناً يمشي بين الناس في معاملاته وفي سلوكياته وفي أخلاقياته وفي تعامله مع الآخرين ممن اختلفوا معه في المنهج والتصور والعقيدة والفكر، ولذلك أرسى رسول الله دعائم الدولة الإسلامية والصحابة رضوان الله عليهم تأثروا به، فإنه ما كان يجامل أحداً على حساب دين الله، ولا كان يحابي أحداً على حساب التشريع الإسلامي إنما كان يجعل المقياس هو إقامة العدالة في الأرض إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نِعمّا يعظكم به إن الله كان سميعاًً بصيراً ، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر يعظكم لعلكم تذكرون ويقول تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى أي لا يجرمنكم أي لا يدفعنكم عداوتكم لأقوام، عدواتكم لليهود وعداوتكم للنصارى أن لا تعدلوا إذا كان الحق لهم، بل اعدلوا لأن العدالة لأجلها أقام الله سبحانه وتعالى هذا الدين، ولأجلها رفع الله سبحانه وتعالى السماوات بغير عمد، ولا بأس أن نذكر شجرات من التاريخ الإسلامي ذلك الجيل الواسع الرائع الذي يذكر لنا فيه الأجداد الأوائل رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم حين سطروا في التاريخ الإسلامي سطوراً كأنها سطرت ونقشت بماء الذهب تبقى نبراساً للمسلمين جميعاً يستضيئون به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إن رسول الله نراه يرسي ميزان العدالة بين الناس ماذا يفعل رسول الله حين سرقت امرأة من بني مخزوم كما ثبت في الصحاح حين سرقت المرأة المخزومية قالوا: من يشفع لنا عند رسول الله فاجتمع قولهم على أن يكلموا أسامة بن زيد لأنه حبيب النبي فقام أسامة فكلمه يشفع لهذه المرأة فقال عليه الصلاة والسلام بعد أن رؤي الغضب على وجهه فإنه غضب غضباً شديداً قال: ((يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله)) ثم قام فخطب في الناس قال: ((أيها الناس إنه كان فيمن كان قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الشريف تركوه والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) هكذا يرسي العدالة في الأرض ونحن نقول لهؤلاء الذين يتشدقون بكلمات العدالة، تعلموا العدالة من رواد العدالة، تعلموا العدالة من مرسي العدالة، تعلموا العدالة من صاحب العدل الإسلامي الذي كان عادلاً في كل الحقوق والواجبات، والذي كان عادلاً في أقواله وأعماله، والذي كان عادلاً كذلك فيما دعي إليه من أوامر وفيما أمر من أمور تعتبر صالحة للناس في كل زمان ومكان، إذا أردتم العدالة فلا تجلئوا إلى دُر كايم ولا لينين ولا ماركس ولا جورج بوش وغيرهم، إنما إلجئوا إلى الواحد القهار تعلموا العدالة من رسول الله ولذلك ثبت أيضاً أن رسول الله استدان أي اقترض من رجل يهودي شيء من المال فمضى على هذا الدين عند رسول الله أشهراً طويلة لأن الرسول عجز عن سداد الدين لضائقة ألمّت به صلوات الله وسلامه عليه ولذلك جاء اليهودي فطلب من رسول الله ماله يريد أن يرجع إليه الدين الذي استدانه منه فالرسول عاجز ما استطاع أن يدفع له ولا قرشاً واحداً ولا درهماً لأنه لم يكن بيده الأموال مع أنه كان حاكماً وكان قادراً لو رفع يديه إلى السماء أن يحول الله له جبال مكة والمدينة جميعها لتكون له ذهباً وفضة، ولكنه عاش عيشة الفقراء فليعلم أولئك الذين ينادون ويطالبون بالعدالة ويبنون القصور الفخمة ويكنزون الأموال في سويسراً ويكنزونها في لندن وفي جنيف نقول لهؤلاء كفاكم دجلاً وتزويراً وكذبا على ذقون العباد تعلموا العدالة أيها الناس من صاحب العدالة صاحب الرسالة العصماء ماذا يقول عليه الصلاة والسلام حينما يجد ذلك الرجل اليهودي رسول الله يأخذو بتلابيبه ويغلظ له القول ويطالبه بحقه، وعمر يرى هذا الموقف والرسول ساكت، فهمّ عمر أن يضرب عنق هذا اليهودي فيقول: يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق هذا اليهودي، فيقول له رسول الله : ((يا عمر قد كنت جديراً بغير هذا، كنت جديراً أن تطالبني بحسن السداد وتطالبه بحسن الطلب)) هكذا يعلمه رسول الله مع أن هذا اليهودي قد أخطأ في حق رسول الله، ومن هو رسول الله؟ إنه أفضل مخلوق وجد على الأرض، فوق هذا لو ذبح عمر ذلك اليهودي أو ضرب عنقه لما كان عليه لوم، ولكن الرسول ما جاء إلا ليقيم العدالة في الأرض أيكون جائراً حاشى لله، حاشى لرسول الله أن يكون جائرا، لأن الله سبحانه وتعالى قد طهره ونقاه، وهو الذي قال في حقه وإنك لعلى خلق عظيم وبعد ذلك علينا أن ننتقل انتقالة سريعة لنتذكر بعض النماذج التي توضح لنا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم بعد أن تأثروا بروح النبي الشفافة في التعامل مع الناس، وتأثروا به فإنهم أرسوا ميزان العدالة في الأرض فهذا عمر بن الخطاب أول ما ولي الخلافة يطلع على المنبر فيقف خطيباً في القوم فيقول لهم: إن رأيتم فيّ إعوجاجاً فقوموني، فيقوم له رجل من الصحابة فيقول له: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد السيف. ما غضب عمر، ولو كان حاكما في زماننا من دعاة الديمقراطية ومن دعاة العدالة ومن دعاة المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات ومن الذين يرفعون الشعارات في كل وطريق لو كان أحد هؤلاء فقال لهم: راع من رعاياهم قال لهم: لو رأينا فيك أعوجاجا لنصحناك قبل أن يقولوا لقومناه بحد سيوفنا لأعلنها حالة طوارئ واستنفار، وأقام الدنيا وأقعدها وكان مصير ذلك الذي يتكلم بكلمة الحق أن يزج به في السجون، لكن عمر وهو الذي تربى على يد النبي في مدرسة الإيمان ما غضب فقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد السيف ماذا تفسرون هذا؟ تفسيراً دنونياً؟ أتفسرونه تفسيراً جاهلياً، علينا أن نفسره تفسيرا إسلاميا إنهم أناس ارتفعوا من ضحالة الدنيا ورجسها ووثنيتها، وعلموا أن الواجب عليهم أن يكونوا أطهاراً لأن الإسلام نقاهم من رجس الدنيا، نقاهم من قذارة الدنيا، أراد لهم الإسلام أن يعلوا فكانوا في السمو والعلياء أما الذين أرادوا لأنفسهم أن ينتكسوا في الوحل والطين فهؤلاء قد برء الإسلام منهم ولا يرتجى لهم الخير، ولا يرتجي منهم الخير وهكذا رفع الله سبحانه وتعالى بالإسلام وحده أقواماً وأذل أقواماً آخرين.
نموذج آخر عن صحابي جليل أبو بكر الصديق هذا الرجل الذي كان أول خليفة للمسلمين بعد النبي فإنه يقف أيضاً فيقول: (إني وليت عليكم ولست بخيركم) لله درك يا أبي بكر كنت خير رجل عرفته البشرية بعد محمد إلى هذه الدرجة من التواضع يقول: (إني وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن اسأت فقوموني) أخلاقيات الإسلام أخلاقيات لا إله إلا الله جعلتهم يتواضعون جعلتهم يقولون قولة الحق للناس ولا أجد فيما أعلم حاكماً في هذا الزمان يقول للناس إن رأيتم فيّ أعوجاجاً فقوموني، أو يقول لهم: إن أسأت فقوموني، لا نجد حاكماً يقول للناس أو يطلب منهم أن يقوموه، وبما يكونوا من الذين عدلوا عن منهجه، لكن بعد أن يقوم الناس بثورة عارمة بضغط من واقع المجتمع أو بضغط ثورة شعبية ربما تجدون هذا، أحسنهم ربما تجدوا واحداً منهم يعدل على منهجه ويحسنها لكن من تلقاء نفسه أن يقوم فيقول للناس إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فأقيموني أو إن أسأت فقوموني، هذا لا نجده إلا في صحابة رسول الله وهذا التاريخ كفيل لنا بأن يحدثنا عن نماذج كثيرة من تلك البطولات الرائعة ومن تلك القيم التي استمدوها من الإسلام، قيم العدالة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن ترسى في الأرض، هذه النماذج سنستكمل الحديث عنها بعد أن نأخذ قسطاً من الراحة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من دعاة العدالة الاجتماعية وأن يجعلنا من حملة لواء العدالة حتى نحرر البشرية مما هي فيه من رقة العبودية، عبودية الإنسان لأخيه الإنسان أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المرسلين وسيد الأولين الآخرين صلى الله عليه وعلى صحبه الطيبين الطاهرين ومن سلك سبيلهم ورسم خطاهم ونهج منهجهم وسار على دربهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإسلام قد سجل لنا نماذح كثيرة من العدالة التي حققها الرعيل الأول صحابة النبي في كل ميدان من ميادين الحياة وفي كل مجال من مجالات الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو التشريعية.
هذه النماذج ينبغي أن نقف أمامها وقفة تأمل حتى نجد البون الشاسع بين أولئك الذين تشدقون بكلمات لا وجود لها في أرض الواقع وبين الصحابة رضوان الله عليهم الذين حققوا هذا الأمر في الواقع بحيث أنهم جعلوا من المثالية واقعاً وارتفعوا بالواقع إلى درجة المثال، ننقل نموذجاً ثالثاً بعد أن نقلنا نموذجين في الخطبة الأولى. أمامنا قضية تبدوا لأول وهلة أغريبة عند كل الناس، إنه ابن عمرو بن العاص حين كان عمرو بن العاص والياً على مصر في عهد عمر بن الخطاب إن ولد عمرو بن العاص تسابق مع شاب قبطي فلما سبق هذا القبطي ابن الأمير، ابن عمرو بن العاص غضب ابن عمرو بن العاص وضربه بعصى كانت في يده فقال له: خذها مني وأنا ابن الأكرمين. فذهب القبطي يشتكي يقطع الفيافي والقفار والمسافات الشاسعة، من أين؟ من مصر إلى المدينة المنورة، لأجل ماذا ليشتكي عند الخليفة الزاهد الفاروق عمر الذي لا يظلم عنده أحد، وهنا لنا وقفة الأقباط قبل أن يأتي الإسلام كانوا يخضعون لسلطة الدولة الرومانية والرومان كانوا يذلون الأقباط ذلا شديدا، سبب إذلال الرومان للأقباط عائد إلى مسألة عقدية، فالرومان على المذهب الكاثوليكي والأقباط على المذهب الأرثوذكس، فالاختلاف في المذهبين دفع الرومان إلى أن ينكلوا بالأقباط وكانوا يعذبونهم بوحشية حتى أنهم كانوا يقتلون منهم في اليوم الواحد أعداداً جمة كثيرة، فكان الأقباط يعدون من قتل منهم في معركتهم ضد الرومان شهيداً، حتى أنك تجد اليوم في جنوب مدينة القاهرة كنيسة باسم جرجس أو يسموها ماري جرجس، كنيسة ماري جرجس، وكلمة ماري تهنى الشهيد جرجس، وهكذا لم يستطع أحد من الأقباط في ظل السلطة المسيحية سلطة الرومان أن يدفعوا عن أنفسهم ذلك الشر، ولا أن يشتكوا إلى أحد، فإلى من يشتكون يشتكون؟ إلى ظالم يظلمهم ولكن في الإسلام بضربة من رجل مسلم لقبطي إذا بذلك القبطي يسافر من مصر إلى المدينة المنورة ليشتكي عند أمير المؤمنين فما كان من عمر إلا أن استدعى عمرو بن العاص وولده الذي ضرب ذلك القبطي ثم أعطاه السوط والعصى وقال له: خذ حقك منه، اضرب ابن الأكرمين، فيضربه يأخذ حقه منه فيقول له ضعها على صلعة عمرو لأنه سكت عن هذا الأمر ولم يغضب لذلك القبطي ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلو اعدلوا هو أقرب للتقوى إن الله بما تعملون خبير ثم يقول عمر كلمة أصبحت خالدة في التاريخ فقال له: يا عمر متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. إن هذه القضية لو كانت وقعت بين مسلم ومسلم أو عربي وعربي لقال كثير من الناس صحيح إنها عدالة، ولكنه أمر ليس مستغرب لأن الظالم مسلم والمظلوم مسلم، أو الظالم عربي والمظلوم عربي، ولكنها لم تكن من هذا النوع ولا من ذلك الشكل، إنما كانت بين رجل مسلم يظلم قبطيا كافراً، رجلا مسيحيا لم يكن على دين الإسلام فما الذي دفع الحاكم وهو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن ينصف بينهما؟ وكذلك نقف أمام أبي بكر الصديق فإنه حين ولي الخلافة، فمن زهده وورعه وتقواه خشي أن يأكل من بيت مال المسلمين، لو أخذ شيئا من المال ليأكله ليتفرغ في تسيس شؤونه تجارة الدولة لما لامه أحد في ذلك، ولكن أبا بكر كان يعلم أن عظمة المسؤولية عظيمة عند الله عز وجل: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فإنه يخرج في أول يوم بويع للخلافة، يخرج ويحمل على كاهله بعضاً من الأقمشة لأنه كان يتاجر بالقماش، يحمل هذه الأقمشة فيخرج إلى سوق المدينة ففي بعض طرق المدينة يقابله عمر فيقول له: إلى أين يا خليفة رسول الله فيقول له إلى السوق لأبيع هذه الأقمشة حتى أتعيش بها أنا وعيالي. فيقول له: وتفعل ذلك وأنت خليفة المسلمين وأمير المؤمنين ارجع إلى أبي عبيدة فإنه أمين بيت المال فليخصص لك في السنة مبلغاً ينفعك أنت وعيالك لتتعيش به. فما كان من أبي بكر إلا أن ذهب مع عمر إلى أبي عبيدة أمين بيت مال المسلمين، في مصطلحنا اليوم وزير المالية فيقف أبو عبيدة يخاطب الخليفة فيقول له: نجعل لك نفقة أربعة آلاف (في اليوم، لا في الأسبوع، لا في الشهر لا) في السنة أربعة ألاف درهم لمن؟ لأمير المؤمنين وحكام اليوم يكنزون الملايين ليست من الريالات إنما من الدولارات الأمريكية، يأكلونها من عرق جبين الشعوب، وبعد ذلك يدّعون العدالة العدالة. أين العدالة يا هاضم حقوق الناس، لكن أبا بكر يستمع إلى وزير ماليته يخاطبه بهذا المفهوم فيقول له نخصص لك نفقة أنت وعيالك أربعة ألاف درهم في السنة، ونجعل لك كسوة في الشتاء وكسوة في الصيف فإن أبليت (إن أصبح كساءك بالياً) رددته إلى بيت مال المسلمين وصرفنا لك غيره فلست برجل أفضل من المهاجرين والأنصار ولا ننفق لك نفقة أفضل منهم، فيأخذها أبو بكر برحابة صدر وسعة، لماذا؟ لأنه علم أن أبا عبيدة في اختصاصه مسؤول أمام الله، وأن أبى بكر في مجاله مسؤول أمام الله، وكل رجل مسؤول أمام الله في مجال اختصاصه، لكن أبا بكر كان ورعا تقيا فأخذ أربعة ألاف في سنتين لأنه حكم سنتين فقط، وكنزها في بيته، ولم يأكل منها درهما وقد كان هو قبل أن يتولى السلطة كان من أغنى المهاجرين والأنصار، معلوم أنه غنيا في الجاهلية وبارك الله له أمواله حتى في الإسلام فبعد ذلك حين حضرته الوفاة قال لأولاده يوصيهم: رحم الله عمر فقد قلت له: إنه لا يصلح لي هذا المال، لا يصلح لي أن أكل أموال المسلمين. خذوا من مالي ثمانية ألاف درهم، وردوها إلى بيت مال المسلمين ثمانية ألاف درهم لأن ابن عبيدة صرف له أربعة ألاف في السنة الأولى أربعة ألاف درهم في السنة الثانية، وأبو بكر يأمر أن يرد إلى بيت مال المسلمين ثمانية ألاف، أتعب من بعده تعباً شديداً، نموذج آخر أختتم به حديثي هذا النموذج لخليفة زاهد هو الذي سمي خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله فإنه كان زاهدا وكان ورعا وكان شديد المحاسبة لنفسه، في كل ليلة إذا فرغ من تدبير شؤون المؤمنين يدخل على بناته يسلم عليهم قبل أن يخلو بنفسه، ما كان يخو بنفسه ليجلس مجالس اللهو واللعب ولا ليجلس على مائدة يعصى فيها الله عز وجل. إنما كان يتفرغ لنفسه يحاسب نفسه هل أنصف أم هل ظلم؟ هل كان عادلا أم كان جائرا؟ هل أنه أدى الواجب الذي عليه ويظل في ليلته يقسمه ثلاثة أقسام: ثلث يراجع نفسه فيما قضاه وحكمه بين الناس، وثلث يتعبد فيه الله، والثلث الآخر ينام فيه، وفي الصباح يهتم بشؤون المؤمنين يتفقد الرعية حتى لم يوجد عهده من سرق مالاً لأن الناس أصبحوا أغنياء، من كثرة العدالة، أصبح الناس أغنياء، ولم يجدوا فقيرا حينما جمعت له أموال الزكاة لم يجدوا فقيرا يدفعون إليه المال لأن الناس أعتنوا في زمانه وفاض المال بأيديهم بسبب العدالة ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون فإنه كان يدخل كما قلنا في كل ليلة قبل أن يخلو بنفسه على بناته ليسلم عليهن فدخل عليهن ذات ليلة بعد أن صلى صلاة العشاء، فلما أحست البنات بقدوم والدهن إذا بهن يضعن أيديهن على أفواههن فيقول عمر حاضنته ما بال البنات. تقول: إنهن لم يجدن شيئا يتعشين إلا عسلاً وبصلاً وكرهن أن تشم منهن الرائحة لأن رائحة البصل كريهة فكرهن أن يشتم أبوهم الرائحة إذا بعمر بن عبد العزيز يقول لبناته يقول: يا بناتي لا تفرحن أن يكن لكن الألوان المتعددة من الأطعمة ويؤمر بأبيكن يوم القيامة في النار، يرضيكن ذلك؟ فبكين حتى ارتفعت أصواتهن؟ وبكى عمر بن عبد العزيز ثم انصرف إلى هذه الدرجة من السموق والعلياء والرفعة سجلها هؤلاء الأوائل:
أولائك آبائي فجئن بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فليس دعاة العدالة ودعاة الديمقراطية الذين يقولون إن من مبادئ الديمقراطية العدالة والمساواة بين الناس ليتهم يعلمون أن العدالة لن يجدوها إلا في كتاب الله وسنة رسوله، فمن أراد المزيد فليراع كتب التاريخ، ومن أراد أن يستنير فليراجع سيرة النبي وسيرة صحابته رضوان الله عليهم أولائك الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بأيدينا إلى ما يحبه ويرضاه وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه وأن يجعلنا هداة مهتدين وأن يوفقنا لكل ما نَصْبو إليه إنه على كل شيء قدير فاللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين وأعز الإسلام والمسلمين واخذل الكفرة والمشركين والملحدين ولم شعثنا ووحد صفوفنا وخذ بأيدينا إلى كل خير ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا وكن معنا حيثما كنا يا رب العالمين، اللهم نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علمنا منه وما لم نعلم، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
(1/971)
منكرات الأفراح
الإيمان
الجن والشياطين
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
20/10/1420
غير محدد
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد اعتاد كثير من الناس في زماننا هذا أن يقيموا أفراح الزواج بعيداً عن شرع الله، وإنما يقيمونها حسب العادات التي تعارف عليها الناس اتباعاً لأهوائهم وصدوداً عن شرع الله، وإن الواجب على المسلم أن يسأل عن حكم دينه، ولا يقدم على شيء إلا بعد أن يعرف موقف الشرع منه، فإن كان مما يرضي الله عز وجل أقدم عليه، وإن كان مما يغضب الله ابتعد عنه.
وإذا كان المنكر لا يخلو منه مجتمع، ومهما كان المجتمع من الطهر والعفاف والالتزام بالدين، فإنه لابد وأن يوجد مفسدون في الأرض، فإن واجب النصح يملي على االمسلم أن يبين للناس ما هم واقعون فيه من المنكرات والمخالفات الشرعية، فعن تميم بن أوس الداري أن النبي قال: ((الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [رواه مسلم]. وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: ((بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم)) [متفق عليه].
وقد أمر رسول الله المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم ويذكر بعضهم بعضاً، وأن يقوموا بتغيير المنكرات التي متى ما عمت وفشت بين الناس، فإن المسؤولية يتحملها الجميع، فعن أبي سعيد الخدري ، قال: سمعت رسول الله : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [رواه مسلم].
وإن الواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي تحدث في الأفراح والأعراس وأن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على تغيير تلك المنكرات.
ومن هذه المنكرات العزوف عن ذات الدين في الزواج فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) [متفق عليه].
ومن منكرات الزواج أيضاً رفض تزويج صاحب الدين وقد قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [رواه الترمذي بإسناد حسن].
ومن هذه المنكرات كذلك التي شاعت في الزواج مسألة الخطبة ونظر الخاطبة إلى خطيبته والناس في الخطبة طرفان ووسط، فالطرف الأول وهم الذين تعصبوا ومنعوا الخاطب أن ينظر إلى مخطوبته مع أن النبي قال للمغيرة بن شعبة حين خطب امرأة: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) [أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة].
والطرف الثاني وهم على النقيض من الطرف الأول وهم الذين تركوا الحبل على الغارب للخاطب ومخطوبته فيخلو بها ويتفسح معها وقد يقع المحذور الشرعي بعد ذلك، ورسول الله يقول: ((ألالا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم ولا تسافرن امرأة إلا مع ذي محرم)) [متفق عليه].
ومن المنكرات أيضاً لبس الدبلة من الذهب من قِبل الرجال، والذهب زينة النساء وهو حرام على ذكور أمة محمد ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله نظر إلى رجل وفي يده خاتم من ذهب فنزعه وقال: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده)) فقيل للرجل خذ خاتمك وانتفع به فقال: والله لا آخذ شيئا وضعه رسول الله [رواه مسلم].
وأما ما اعتاده الناس من أن يلبس الخاطب خطيبته الدبلة يوم إعلان الخطبة أو يوم إعلان النكاح أو الزواج فإنها من التشبه بالنصارى – لعنهم الله – وقد أشار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني إلى ذلك في كتابه آداب الزفاف ص212، فقال: ويرجع ذلك إلى عادة قديمة لهم ما كان العريس يضع الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى ويقول باسم الأب ثم ينقله واضعاً له على رأس السبابة ويقول: باسم الابن ثم يضعه على رأس الوسطى ويقول باسم الروح القدس، وعندما يقول آمين يضعه أخيراً في الخنصر حيث يستقر.
فهذه مع كونها بدعة خبيثة أحدثها الفساق بين المسلمين هي أيضاً تشبه بالكفار وقد نهانا عن التشبه بهم في الاعتقادات والعبادات والعادات.
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ولا تتشبهوا بالكافرين في عاداتكم وتقاليدكم والواجب عليكم أن تجعلوا العادات موافقة لشرع الله، واعلموا أن مخالفة شرع الله نذير شؤم على المسلمين، وما حلت المصائب بالمسلمين إلا لمخالفتهم شرع الله في كثير من أمور دينهم ودنياهم.
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أقول ما تسمعون ادعوا الله واستغفره.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن من منكرات الأفراح كذلك - ما سموه: إحياء الأفراح - باستضافة المطربين والمطربات والمغنيين والمغنيات ومن الناس من يتباهى بذلك، وقد عمت البلوى بالأغاني في هذا الزمان حتى صار ديدن كثير من الناس.
ومن المعلوم شرعاً أن الأغاني حرام ولا يجوز سماعها قال الله تبارك وتعالى: واستفزز من استطعت فيهم بصوتك [الإسراء:64].
(قيل هو الغناء قال مجاهد: باللهو والغناء اي استخفهم بذلك) [تفسير ابن كثير:3/70].
وقال تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين [لقمان:6]. فهذه الآية بيان لـ( لحال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله قال: هو والله الغناء، وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم في الغناء والمزامير [تفسير ابن كثير:3/583].
فالغناء يورث النفاق في القلب وهو بريد الزنا، والواجب على المسلمين إنكار هذه المنكرات التي شاعت بينهم في هذه الأزمنة، فإنك لا تدخل محلاً ولا بيتاً إلا وتسمع فيه الطرب واللهو والغناء.
والعجب من هؤلاء والذين يستفتحون أول أيام حياتهم بمعصية الله فيرضون الشيطان الرجيم ويغضبون الرحمن الرحيم.
ولذلك ما تفاقمت الشرور بين المسلمين إلا بسبب هذه المعاصي التي جاهروا بها، ولما كان الغناء والمزمار صوت الشيطان، ترى انتشار حالات الطلاق بشكل مذهل، ومن أراد أن يعلم صدق ما أقول فلينظر إلى المحاكم والدعاوي المرفوعة فيها، فإن أكثرها في المنازعات الزوجية، وسبب ذلك كله يكمن في هذه المعاصي والمنكرات التي يستفتح بها الناس حياتهم الزوجية في أول ليلة من ليالي حياتهم.
فيا أيها المسلمون: احذروا هذه المنكرات واتقوا الله في سركم وعلانيتكم واعلموا أن الله سبحانه وتعالى حرم عليكم الوقوع في المنكرات والمعاصي، فاقترافها وفعلها والمجاهرة بها سبب من أسباب الشقاء في الدارين، قال تعالى: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب [الأنفال].
(1/972)
قيام الساعة
الإيمان
الجن والشياطين
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1-... أن لكل شيء أجل حتى هذه الحياة الدنيا سوف تنتهي بقيام الساعة التي لا يعلم موعدها إلا الله.2-... أن كل شيء يبلى من الإنسان إلا عجب الزبن منه يركبون وأن الساعة تقوم على شرار الخلق.3-... النفخ في الصور وقيام الناس من القبور وحشرهم وما يقع بعد ذلك من الأهوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فإن الله سبحانه وتعالى كتب الفناء على كل شيء في هذه الحياة الدنيا، فما من شيء خلقه الله وأوجده في هذه الحياة إلا كان مصيره الفناء ولكل شيء أجل معدود، فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، واذا كنا نعلم علم اليقين أن الآجال معلومة ومحددة في علم الله سبحانه وتعالى فإن للدنيا أيضاً أجلٌ معدود فلا يعلم الساعة التي يحين فيها أجل هذه التي نعيش فيها إلا الله عز وجل، فذلك غيب غيب الله على سائر المخلوقات ولا يعلم الساعة ومتى قيامها نبي مرسل ولا ملك مقرب وإن الساعة آتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يعلمون وقبل أن يحين أجل هذه الحياة الدنيا وقبل أن ينفخ الله سبحانه وتعالى في الصور ايذاناً بقيام الساعة تكون زلزلة تهز الأرض هزاً وتخرج ما فيها وتلقي كل ما في باطنها من كنوز وأموال إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد هذه الزلزلة يصبح الناس فيها سكارى وما هم بسكارى ولكن من هول العذاب وهوا الفاجعة هي الذي جعلتهم يترنحون يميناً وشمالاً، وهذه تكون قبل أن يأمر الله سبحانه وتعالى إسرافيل بنفخ الصور، فإن هذه الزلزلة تكون زلزلة عظيمة ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، شرار الخلق يكونون إلى الشر إسراعاً كخفة الطير وأحلام السباع، ولا تقوم الساعة في الأرض من يقول: الله الله، ولا يوجد في الأرض من يقول لا إله إلا الله، تجتالهم الشياطين حتى تعيدهم الشياطين إلى الجاهلية الأولى ليعبدوا الأوثان والطواغيت والشياطين، فبعد ذلك يأمر الله سبحانه وتعالى بنفخ الصور، والصور قرن عظيم خلقه الله سبحانه وتعالى بعد أن فرغ من خلق السموات والأرض وجعل النفخ بيد إسرافيل فهو المأمور بأن ينفخ فيه وذلك بأمر الله، وقد ذكر الإمام ابن جرير بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور ثم أعطاه إسرافيل فوضعه في فيه فهو شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يأمر)) أي ينتظر متى يأتيه الأمر من الله سبحانه وتعالى بأن ينفخٍ النفخ، والنفخ ثلاث مرات نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة الثالثة التي يكون فيها الناس قياماً لرب العالمين قال أبو هريرة قال: يا رسول الله ما الصور قال: ((هو قرن، قال: فكيف هو قال قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والنفخة الثانية نفخة الصعق، والنفخة الثالثة نفخة التي يكون فيها الناس قياما لرب العالمين))، فهذه النفخات الثلاثة تكون متتابعة ما بين النفختين أربعون، وقد ثبت ذلك في حديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما بين النفختين أربعون قال أي رجل يسأل أربعون أربعون يوما قال أبيت قال أربعون شهرا قال أبيت قال أربعون سنة قال أبيت))، أي إن أبي هريرة لا يدري مقدار هذه الأربعين أهي أربعون يوما أو أربعون شهرا أو أربعون سنة ثم قال ينزل الله سبحانه وتعالى من السماء ماء فينبت الأجساد كما ينبث البقل، وليس شيئا من الإنسان إلا يبلى إلا عظما واحداً هو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة، وعجب الذنب هو عبارة عن آخر سلسلة من العمود الفقري، وهو عظم كالحب أو كالنواة صغير الجسم، كل شيء في الإنسان يبلى إلا عجب الذنب فمنه ينبت الناس ويركب الخلق يوم القيامة وعندما يقول الرسول : ((كل شيء في الإنسان يبلى)) المراد بالإنسان من غير الأنبياء، لأن الأنبياء كما تواردت الأحاديث الصحيحة لا تأكل الأرض من أجسادهم، إنما الناس من غير الأنبياء يتفاوتون على قدر أعمالهم وقربهم إلى الله، ولكن أجسادهم تفنى وسيعيد الله سبحانه وتعالى الجسد كما بدء منه، ثم إنكم لبعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون.
والساعة إذا قامت تقوم بغتة، والناس يخوضون في أمر دنياهم فمنهم من يبيع ومن يشتري ومنهم من يرفع لقمته إلى فيه ومنهم من يصلح حوضه، وكل الناس مشغولون بأمر دنياهم فتأتي الساعة بغتة فلا يكمل أحد العمل الذي يعمله في هذه الدنيا، حتى الرجل الذي كان يرفع لقمته إلى فيه إذا نفخ في الصور لا يستطيع أن يرفعها، لأنه يصعق فنفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في حديث طويل قد ذكرته ذات مرة وأنا في هذا المقام، حديث فيه إحدى عشرة علامة من علامات الساعة في آخره قال عليه الصلاة والسلام: ((ولتقومّن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نقحته (أي بلبن ناقته) فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يصلح حوضه فلا يسبقى فيه)) أي في رواية: ((وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه)) ومعنى يليط أي يصلح حوضه ((فلا يسقى فيه شيء، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يأكلها حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتانا أمرنا ليلاً أو نهار فجعلناه حصيداً كم تغنى بالأمس)) جعلها الله سبحانه وتعالى قائماً صفصف ترى فيها عوجا ولا أمتا)) وجاء في رواية عند مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في حديث طويل نأخذ الجزء الذي فيه يختص بالمجال الذي نتحدث فيه وهو أن رسول الله ذكر النفخ ثم قال: ((ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغا ليتاً)) ورفع ليتا أي أنه حين يسمعون النفخة تأتي من السماء يرفعون أعناقهم هكذا ينصتون بأذان صاغية ما هذا الصوت الغريب الذي جاءهم ولم يكن معهوداً من قبل، وأول من يسمعه رجل يليط حوض أبل (أي يصلح حوض إبله) فيصعق، فيصعق الناس ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنها الطل أو الظل فتنبت منه أجساد الناس ثم يقال للناس، ثم ينفخ في الصور النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: للناس هلم إلى ربكم وقفوهم أنهم مسؤلون ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال: من كم فيقال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فذلك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق.
هذا الحديث يبين أن بعث النار بعد أن يقوم الناس من قبورهم، وبعد أن يساقوا إلى ساحة الحشر والحساب والعذاب، أنه من ألف يساق تسع مائة وتسعة وتسعين إلى النار، ولا ينجو من عذاب الله من كل ألف إلا واحد، فأين نحن من تلك الأهوال العظام الشدائد، أين نحن منها ونحن قد أصبحنا في غفلة وقد اعرضنا عن كتاب ربنا ومنهج محمد وقد جاء بالحديث عن المقداد بن الأسود أنه سمع رسول الله يقول: ((تدنوا الشمس يوم القيامة من رؤوس الخلق كمقدار ميل)) يقول سليم ابن عامر أحد الذين يرون الحديث في سنده يقول سليم ابن عامر فلا أدري أهو الميل الذي نكتحل به أو ميل المسافة. سواء كان الميل يكتحل الناس أو ميل المسافة من ذا الذي يستطيع أن يتحمل حرارة الشمس حينما تدنى ميل المسافة أو ميل الكحل، لا أحد يستطيع إننا والذي لا إله غيره لو أن الله سبحانه وتعالى رفع درجة الحرارة بما يزيد عن أربعين درجة لصحنا، ولأصبح الناس يضجون بالشكوى، ويقولون، فكيف بالشمس حينما تدنوا ثم قال يكون الناس على قدر أعمالهم من العرق، الغرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكونوا إلى ركبتيه، ومنهم من يكونوا إلى حقويه أي إلى وسطه يأخذه العرق إلى وسط جسمه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ثم أشار إلى فيه أي أنه يغوص فيها على قدر العمل.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا الذي قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن الزهادة فيها ترك ما فيها
فغرس قصور التقوى ما دمت مجتهداً وأعلم بأنك بعد الموت لاقيها
إنه لهول شديد.
أيها الناس: واسمعوا إلى ما يقوله المولى عز وجل يوم القيامة: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون كل الأنساب والقرابات تنقطع لا والد ينفع ولده ولا أم حنون تعطف على ولدها، ولا زوج يرحم زوجته، ولا قريب ينفع قريبه ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون لا ينجوا الإنسان إلا بعمله كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر هل فكرت يا ابن آدم حين يوقفك الله سبحانه وتعالى في ساحة الحشر وبعد أن يطوي الله الأرض والسموات بيمينه ويقول: أنا الملك. أين ملوك الأرض؟ هل فكرات بذلك اليوم؟ لمن الملك يومئذ؟ لله الواحد القهار. وعندما نقول بأن الله يطوي الأرض والسماوات بيمينه فنحن نقف عند نص الآية حسب ظاهرها، فنثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات والأفعال، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، إنما نثبت لله ما أثبته لنفسه، فنثبت لله اليمين، يميناً يليق بجلالته، وعظمته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقد جاء في حديث عن سهل ابن سعد الساعدي أن رسول الله قال: ((يحشر الله الناس يوم القيامة إلى أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي ليس فيها معلم لأحد)) هذا الحديث دليلٌ أن الله بعد أن يطوي السموات والأرض بيمينه يسوق الناس إلى ساحة الحشر، وهي أرض بيضاء عفراء أي شديدة البياض، ناصعة البياض، ليس فيها معلم لأحد، أي لم يرق فيها دم، ولم تدنس فيها معصية إنما أرض بيضاء في تلك الأرض، يحاسب الله سبحانه وتعالى بعد أن يسوقهم إلى ساحة الحشر يحشر الناس في تلك الأرض ونحن لا نعرف أين هذه الأرض؟ وأين تكون وذلك غيب غيبه الله على الناس وبعد أن يقف الناس قياماً ينظرون إلى المولى عز وجل لا يدرون ما يفعل الله بهم إذا بالصحف تطاير، فمنهم من يعطى كتابه بيمينه، ومنهم من يعطى كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم أقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية هذا قد فاز فوزاً عظيما لا يشقى بعده أبدا وأما من أوتَ كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوتي كتابيه ولم أدرِ ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية يتمنى أن يقضي الله سبحانه وتعالى عليه ويفنيه ليكون تراب كما يجعل الله الحيوانات بحيث يصيرها تراباً يوم ينظر الكافر إلى تلك الحالة فيقول: يا ليتني كنت تراب يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه لا ماله الذي كان يتبجح به ويتكبر به على الخلائق ينفعه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه المال الذي كنزه ولم ينفقه في سبيل الله، أين ذهب، وسوف يطوقه الله سبحانه وتعالى به ليكون شجاعاً أي ثعباناً ينفث السم على رأسه له زبيبتان يطوقه فيأخذ بلزمته فيقول له أنا مالك أنا كنزك الذي يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذقوا ما تكنزون إن الجزاء من جنس العمل والله سبحانه وتعالى إن عذب إنساناً إنما يعذبه بعدله، وإن أنعم على إنسان بنعمة أبدية سرمدية وأدخله مع محمد في روضات الجنان فإنما ذلك بلطفه ومنّه ورحمته وكرمته، ولكن نحن لم نفكر ولا نتفكر بهذا المصير المحتوم الذي ينتظرنا، فأين نحن من تلك الأهوال الشداد ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه ماذا يكون جزاءه يا رب خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذارعاً فأسلكوه لماذا يارب لأنه لم يكن يؤمن بالله رب العالمين ولا يحض على طعام المسكين فليس له هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون.
أيها الخاطئون أيها العاصون أيها المتكبرون أيها الجبابرة: عودوا إلى ربكم من قبل أن يأتي الموت بغتة فإذا جاء الموت بغتة فإنكم تساقون بأعمالكم واستمعوا إلى ما يرويه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((يدنوا أحدكم إلى ربه فيضع كنفه عليه (فيضع كنفه عليه أي ستره أعماله التي كان يعملها في هذه الدنيا والتي كانت مستورة تكشف) فيضع كنفه عليه فيقول الله له ألم تعمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فيقول: نعم، فيقول: أعملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقرره)) أي أن الله سبحانه وتعالى يذكره بذنوبه لكي يأخذ منه اقراراً، فبعد أن يقر بذنوبه يعطى كتابه بحسناته جاء في الرواية أيضاً أن رسول الله قال: ((فيقول الله له: يا عبدي قد سترت عليك في الدنيا وأنا أيضاً أسترها عليك بالآخرة)) ما أعظم رحمتك يا رب، وأنت تعفو وتستر الذنوب، ما أحلمك يا رب ونحن المقصرون في هذه الحياة وأنت تقابلنا بالسيئات إحسانا، وبالذنوب مغفرة وعفواً ورضوانا، ما أحلمك يا رب أنت الصادق الذي قلت في كتابك وسنة رسولك أن الذنوب تكون سببا في أن تردنا إلى مهاوي الردّى وقد سترك في الدنيا وأنا أسترك الآن فيعطى كتاب حسناته فيعطى كتاب حسناته فأما الكافر فيعطى كتاب سيئاته بشماله، ثم ينادي منادٍ على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين هؤلاء الذي كذبوا على ربهم، في ذلك اليوم ينجي كل شيء، وتفتح الصحف، ويقال للإنسان: إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما يحدث بعد ذلك نحن على موعدٍ معه بعد أن نأخذ قسطاً من الراحة أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمقتين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وعلى آله الطيبين والطاهرين ومن سلك سبيلهم وترسم خطاهم ونهج منهجهم وسار على دربهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإنسان بعد أن يموت يبقى في القبر إلى أجلٍ لا يعلمه إلا لله، ثم بعد ذلك يبعث من قبره، وأول من ينشق القبر عنه محمد فإذا نفخ وصعق الناس ونفخة النفخة الثانية وقام الناس إلى ربهم يكون رسول الله أول من تنشق عنه الأرض كما أخرجه البخاري في صحيحه أول من يقوم وينشق عنه الأرض فيقوم من قبره فيقول عليه الصلاة والسلام فإذا أنا بموسى آخذاً بقوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقه يوم الطور، فإن رسول الله يبين أن الأرض تنشق عنه فيفيق، ولعل موسى يكون ممن استثناهم الله، وهذه المسألة خلافية عند العلماء ولكن الذي يهمنا أن رسول الله ما ترك صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق من أهوال القيامة إلا وحدثنا عنها، وعلينا أيها المسلمون أن نتفكر في ذلك اليوم لأنه ليس ببعيد فإن كل إنسان إذا مات قامت قيامته، فإنك إذا مت عرض عليك مقعدك من الجنة أو مقعدك من النار، لا تدري من أي الفريقين تكون أمن أهل السعادة أم من أهل الشقاوة، ولكن عليك أن تتفكر وتعمل خيراً حتى تلقى الله وهو راض عنك، يقول عليه الصلاة والسلام كما جاء عن أبي هريرة أن رسول الله قرأ: يومئذ تحدث أخبارها فقال: ((أتدرون ما أخبارها. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها بأن تحدث كل إنسان بما عمل)) فتقول: يا عبد الله ويا أمة الله عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فذلك من أخبارها، هذه الأرض تتحدث، الأرض البكماء العمياء الصماء تتحدث، لأنها موكلة من عند الله سبحانه وتعالى بأن تخرج كل شيء فعله الإنسان في هذه الأرض، إنك إذا وقفت أمام الله وأنكرت فكيف تنكر الذنوب والمعاصي العظام التي فعلتها في تلك الحياة وهو الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ويوجد من الناس من ينكر ويظن أن الله سبحانه وتعالى ليس بقادر على كل شيء، بلى إنه قادر على كل شيء، وسوف يفضحك قبل أن تفضحك الأرض، فإن الله سبحانه وتعالى إذا أنكر الإنسان الذنوب والمعاصي التي فعلها ينطق الله الأرض بعد أن يخرس الألسنة، ينطق الله سبحانه وتعالى اليد والرجل وينطق السمع والبصر وينطق الجلود فيقول أولئك العصاة والكفار ولم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء. إن الذي جعلك تنطق وتتكلم وتكون فصيحا بليغا تخاطب الناس بكل ما تريد أن تقوله وبكل ما هو مكنون في نفسك قادر أن ينطق هذه اليد إذا أنكرت. أما إذا أقررت فإن الله سبحانه وتعالى هو الحليم الغفور، هو الذي يتجاوز عن السيئات ولكن عليك أن تفكر وأن تتدبر بأنك لا تستطيع أن تغالط الخالق الذي وصف نفسه أم يحسبون أنا لا نعلم سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون وهو الذي يقول: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم وعندما يحشر الناس يكونون على ثلاثة أصناف كما أخرج الترمذي في سننه قال عليه الصلاة والسلام: ((يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف مشاه أي يمشون على أقدامهم وصنف ركبان وصنف على وجوههم)) أي ينكسهم الله، ويقلبهم رأساً على عقب نتيجة ما فعلوه وما أقترفوه وما جنوه في هذه الحياة، ومن زرع حصد ومن عمل خيرا وجد، ومن عمل شرا فلا يلومن إلا نفسه، وصنف على وجوههم فقال الصحابة كيف يمشوا يا رسول الله على وجوههم قال: ((الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم)) ألا إنهم يتقون بوجوههم كل حدبٍ وشوك يتقون كل ما على وأرتفع يتقون بوجههم كما أنت تتقي الشوك وكما تتقي الحفر والأماكن العالية بأقدامك التي تمشي بها، فهذا هول عظيم وخطب جليل وأمر عصيب ينتظر كل إنسان وهل تعتقد أيها الإنسان أنك تبعث وتقوم من قبرك وأنت تلبس الحلي أو تلبس ما حسن وما جمل من ثياب إنما تحشر حفاة تحشرون حفاة عراة غرلاً وقد جاء ذلك في حديث متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال وعظني رسول الله بموعظة فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة موّدع فقال: ((إنكم محشورون عند الله تعالى حافة عراة غرلاً، كما بدءنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين حفاة بلا حذية عراة بلى ألبسة غرلاً أي غير مختونين الجلد الذي يكون على الحشفة وينزع عند ختان الطفل قبل البلوغ، يعيده الله كما بدءنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين )) وقد جاء في رواية أخرى عن عائشة رضي الله عنها حين أخبرها رسول الله أن الناس يكونون حفاة عراة ويحشرون كذلك ويكونون غرلا قالت: يا رسول الله الرجال والنساء قال: ((بلى، فقالت: ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الأمر لأعظم)) من أن ينظر بعضهم إلى بعض، إن هول المصيبة وذلك الخطب الجليل لا يجعل الإنسان ينظر إلى عورة أخيه، ولا إلى فرج امرأة، لأن كل إنسان يقول نفسي نفسي ولا يدري أهو من الذين يساقون إلى النار وبئس القرار أم من الذين يفوزون فوزاً عظيما فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور كما بدءنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ألا إن أول الخلائق يكس يوم القيامة إبراهيم يكسى إبراهيم يلبّس أمام الناس قبل أن يلبس الناس لماذا؟ لأن الله يكرمه تلك المكرمة جزاء صبره يوم أن فتنه قومه المشركون، وحفروا له حفرة عظيمة فأُوقد فيها النار بعد أن سب أحلامهم وعاب آلهتهم وأقام عليهم الحجج البينات الواضحات الدافعات، فجرد من ثيابه وألقي في النار وأكرمه الله سبحانه وتعالى وحفظه من كل سوء قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين وبعد ذلك يكرمه الله سبحانه وتعالى يوم القيامة فيلبسه ويكون أول من يكسى، ((ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه سيجاء رجال من أمتي فيأخذ بهم ذات الشمال أي يساقون إلى النار نعوذ بالله من النار ونعوذ بالله من سخط الله وعذابه وغضبه فيأخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدث بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، فيقال لي: إنهم ما زالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)) وجاء في رواية أخرى أن رسول الله يقول: ((فأقول سحقا سحقا)) أي بعداً لمن غير ديني وبدّل الأمر من بعدي فهل أتعظ الناس بهذا الحديث وغيرها من الأحاديث التي تحمل في طياتها الوعيد الشديد والإنذار العظيم أم أنكم ما زلتم في غيكم سامدون، وفي ضلالكم تعمهون؟ أفيقوا أيها المسلمون: اتركوا الغفلة وأعلموا على أنكم لن تكونوا من اتباع محمد إلا بشروطها، وإلا فإن محمداً لا يريد يوم القيامة أناساً يسودون بوجهه فكيف إذا جأنا بكل أمة بشهيد وجئنا من على هؤلاء شهيداً حينها يقول رسول الله : ((يا ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا))، اتخذوا القرآن مهجورا فتشوا عن حياتكم ما هذه الظلمات التي ركب بعضها بعضاً، وتفننا في ركوبها وتجاوزنا الحدود والواجبات ويقتل بعضنا بعضاً ويسرق بعضنا بعضا، ويعصي كثير من الناس ربهم، الصلاة لا يقيمونها في أوقاتها، ثم يقولون: مسلمون يزنون ويشربون الخمر ثم يقولون من أتباع محمد يضيعون الحقوق والواجبات التي جعلها الله سبحانه وتعالى بين الخلائق ثم يقولون نحن من أمة محمد كفاكم تزويراً وكفاكم خداعا، فمن تخدعون؟ الذي يعلم السر وأخفى والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وكيف بك حين يوقفك الله سبحانه وتعالى أمامه فيسألك عن كل صغيرة وكبيرة. ماذا تقول؟ فحاسب نفسك أيها الإنسان ولا تغتر بهذه الدنيا وأكثر الأمل وجدَّ في العمل، كن من الذين يتزودون بالخير والإحسان وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ما من كم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان (أي ليس بينه وبين ربه ترجمان) فينظر أيمن منه فلا يجد إلا ما قدم (أي ينظر على يمينه فلا يرى إلا ما قدم) وينظر أشمل منه فلا يرى إلا ما قدم (أي إذا نظر إلى شمائله لا يرى إلا ما قدم) ثم ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة)). اتقوا النار ولو بشق تمرة اتقوا الله أيها المسلمون فإن أهوال الساعة شديدة وذلك اليوم أتدرون كم تقفون بين يدي المولى عز وجل، كمن يكون مقدار الوقفة التي تقفها لا تأكل فيها ولا تشرب ولا ترتاح، وقد ثبت في الحديث أن الناس يلجمون بالعرق حتى يصل إلى الأرض سبعون ذراعاً فيغطى العرق إلى أطراف آذانهم، فهل فكرت في ذلك اليوم، فكر يا ابن آدم، فكر يا ابن آدم قبل موتك في الحياة الثانية، فكر فإنك ميت ليست سنينك باقية لك، إن تفكر فالخلود بجنة أو هاوية والرسول عليه الصلاة والسلام قد قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم على النساء بالفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله سبحانه وتعالى)) أي خرجتم بتكون في الصحاري والفيافي وإلى الأراضي الشاسعة تبكون إلى الله عز وجل تفرون إلى الله بذنوبكم، التي تجاوزت الحدود ووصلت إلى أمور لا يعلم كنهها ولا علمها إلا الله. إن يوم الحشر يوم يتبعه بعد ذلك حساب، وما حاسب الله أحداً ولا ناقشه إلا عذبه ثم تكون الشفاعة العظمى التي لا تكون إلا لرجل واحد، وهو رسول الله ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً فيعطى من محامد الله وينال تلك المقامة التي ينالها لا بني مرسل غير محمد، ولا ملك مقرّب وهنا شرف لهذه الأمة وشرف لنبيه ويكون بعد ذلك الذين يشربون في حوضه هم الذين اتبعوه قولاً وعملاً، ثم بعد ذلك يكون المرور إلى الصراط الذي هو أدق من الشعر وأظلم من الليل، وأحدّ من السيف، وهو جسر موضوع على شفير جهنم كل الناس يجوزون، فمن حازه بعمله فقد أفلح وأنجح، ومن لم يجزه وأبطئ به عمله فإن على جنبتي الصراط كلالبيب تأخذه فتشده حتى تلقيه في قعر جهنم، ويكون ميزان الأعمال حين يزن الله سبحانه وتعالى كل إنسان مع عمله، فمن رجحت حسناته فقد فاز، ومن رجحت سيئاته فأمه الهاوية وما أدراك ما هي نار حامية، هذه كلها تكون مقدمات قبل دخول الناس إلى النار أو إلى الجنة، نحن على موعد مع الشفاعة العظمى مع الحوض والصراط والحساب ونحن مع دخول الناس إلى الجنة أو إلى النار.
اسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الجنة وأن يعيذنا من النار. ونعوذ به من سخطه وغضبه والنار اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا في كل خير. اللهم هيء لعناصر الخير أن تسود ولكرام الأمم إن تقود، وأعد للمسلمين مجدهم يا رب العالمين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقون بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله وأقم الصلاة.
(1/973)
الإخلاص والمخلصون
التوحيد
شروط التوحيد
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرطا قبول العمل وهما : الإخلاص والمتابعة 2- معنى الإخلاص 3- معنى الرياء
وجرحه للإخلاص 4- أقوال بعض السلف في فضل الإخلاص وبعض أعمالهم الدالة على
تَحرّيهم للإخلاص 5- آفات الإخلاص وعلاجها 6- الأمور التي تُعين على الإخلاص
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون: إن الإخلاص شرط العمل وأساس العبادة ليكون المبتغى والمقصود وجه الله وابتعاء مرضاته قال تعالى: فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص ، وقال رسول الله قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) [مسلم].
عباد الله وشرطا العبادة الإخلاص والصواب، والمراد بالصواب أن يكون العمل موافقاً لما جاء به الرسول ، لقول النبي : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [مسلم]. والمراد بالإخلاص إفراد الله بالقصد في الطاعة وتصفيته عن ملاحظة المخلوقين وتنقية العمل من آفات الرياء والسمعة والعجب وغيرها، والمراد بالرياء إظهار الطاعة والعبادة للناس والتزين بها أمامهم والرغبة في مدحهم على العبادة وطلب المنزلة في قلوب الناس من التوقير والمدح والثناء أو التزين في العبادة وإظهارها لطلب الدنيا من المال والرئاسة – قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((إذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه فأحيا قلبه واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد وذلك من السوء والفحشاء ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذي لم يخلص لله فإنه في طلب وإرادة وحب مطلق فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه كالغصن أي نسيم مر بعطفه (بجانبه) أماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده الدرهم والدينار)) ويقول ابن الجوزي رحمه الله: ((ما أقل من يعمل لله تعالى مخلصاً لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم ثم قال: ولقد رأيت من الناس عجباً حتى من تزين بالعلم إن رآني أمشي وحدي أنكر علي وإن رآني أزور فقيراً عظم ذلك)) فالتفتوا إخوني إلى إصلاح النيات وترك التزين للخلق ولتكن عمدتكم الإستقامة مع الحق فبذلك صعد السلف وسعدوا أيها الإخوة وسنعيش وإياكم في روضات المخلصين ومع سلفنا الصالح لنطلع على شيء من حياتهم وأخبارهم لعل أن يكون في ذلك يقظة لقلوبنا من غفلتها ودعوة إلى الصدق والإخلاص، قال الربيع بن خثيم: كل ما لايراد به وجه الله يضمحل، ووصى الإمام أحمد ابنه قائلاً: يابني إنو الخير فإنك لاتزال بخير مانويت الخير، وسئل حمدون القصار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق، ودخل عبدالعزيز بن محيريز رحمه الله حانوتاً وهو يريد أن يشتري ثوباً فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز فأحسن بيعه فغضب ابن محيريز وخرج وقال: إنما نشتري بأموالنا لسنا نشتري بديننا، أي أنه لا يريد رحمه الله أن يراعى في السعر أو يقدر من أجل دينه لأنه يريد بدينه وجه الله لا الاستفادة من الناس، وقال زبيد: أحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في طعامي وشرابي، وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لايدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين (زين العابدين) فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل وكان علي بن الحسين رحمه الله قد وجدوا بظهره أثراً من الجرب مما كان ينقل بالليل إلى منازل الأرامل، قال الحسن البصري: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام، وكان عبد الله بن المبارك يضع اللثام على وجهه عند قتاله في سبيل الله كي لايعرف – وقال عنه الإمام أحمد: ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبئية كانت له، وخرج عبدالله بن المبارك غازياً في سبيل الله ولما رجع من غزوته إلى الرقة سأل عن شاب يقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه فقال: ابن المبارك كم مبلغ دينه؟ قالوا: عشرة آلاف درهم فاستقصى عن صاحب الدين ودعاه ليلاً وأعطاه كامل المبلغ وحلفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبدالله حياً وقال: إذا أصبحت فأخرج الرجل من الحبس، اللهم أخلص قلوبنا لك واجعل أعمالنا كلها ابتغاء وجهك ولا تجعل لأحد فيها شيئاً، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم الوهاب إليه المرجع والمآب يقبل توبة من تاب إليه وأناب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها المسلمون: إن أمر الإخلاص عظيم وهو مطلب جليل أقض مضاجع العابدين وأفزع حياتهم وأخافهم لقول النبي : ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى، قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزيد صلاته لما يرى من نظر رجل)) [أحمد]. وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال: كذبت، ولكن فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)) [مسلم]. الله أكبر كم من عمل كبير ضيعته النيات فصار وبالاً على صاحبه فسحب على وجهه في النار لأنه لم يقصد به وجه الله، وكم من عمل صغير سهل بسيط رفع الله به صاحبه إلى الجنان بسبب النية وحسن القصد لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، قال الربيع بن خثيم لأصحابه: تدرون ما الداء والدواء والشفاء؟ قالوا: لا، قال: الداء الذنوب والدواء الاستغفار والشفاء أن تتوب فلا تعود، فكانت أم الربيع تناديه فتقول: يابني يا ربيع ألا تنام؟ فيقول: يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام، قال: فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يابني لعلك قتلت قتيلاً؟ فقال: نعم ياوالده قتلت قتيلاً، فقالت: ومن هذا القتيل يابني؟ نتحمل على أهله فيعفوك والله لو علموا ما تلقى من البكاء والسهر لقد رحموك؟ فيقول: والدتي هي نفسي، وقالت: ابنة الربيع بن خثيم يا أبتاه ما لي أرى الناس ينامون ولاتنام؟ قال: إن جهنم لاتدعني أنام، وقال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لاتعلم به، وقال الخريبي كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئة من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولاغيرها، وقال الشافعي: لوددت أن الخلق يتعلمون مني ولا ينسب إلي منه شيء، وقال أيوب السختياني: والله ما صدق عبد إلا سره أن لايشعر بمكانه وغلب أيوب البكاء يوماً فقال الشيخ: إذا كبرمج وغلبه فوه فوضع يده على فيه وقال الزكمة ربما عرضت.
أيها المسلمون: قال ابن القيم: ومن آفات الإخلاص رؤية العمل وملاحظته فيرى الرجل عمله ويعظم في نفسه ويعجب بنفسه، قال رسول الأمة : ((لولم تذنبوا خفت عليكم ما هو أكثر من ذلك العجب))، فالمعجب يعتز بنفسه أو يثني عليها وينسى نعمة الله عليه وما بكم من نعمة فمن الله ، وعلاج ذلك مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه وأنه بالله لا بنفسه قال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والآفة الثانية في الإخلاص هي طلب العوض والمقابل على الطاعة وعلاج ذلك يكون بعلم العبد أنه عبد محض لربه والعبد لايستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجرة فما يناله من سيده من الأجر والثواب تفضل منه وإحسان إليه والآفة الثالثة رضاه بعمله وسكونه إليه، وعلاج ذلك أمران:
الأول: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره وما فيه من حظ النفس والشيطان فقل عمل من الأعمال إلا للشيطان فيه نصيب وإن قل وللنفس فيه حظ فقد سئل النبي عن الإلتفاق في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) فهذا التفات لحظة بعينه فكيف بالتفات القلب إلى ما سوى الله؟ فهذا أعظم نصيب للشيطان من العبودية وأما حظ النفس مثل شعور العبد بالميزة على غيره وطلب المدح والخجل من الناس إذا قصر في عبادة.
العلاج الثاني: لرضا العبد بعمله وسكونه إليه هو العلم بما يستحق الرب جل جلاله من حقوق العبودية وشروطها وآدابها والعبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها فكيف يرضى عن نفسه؟ وكيف لايستحي من مقابلة الله بعمله؟ فعليه أن يسيء الظن بنفسه وعمله ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور جاهل لأنها مأوى كل سوء وعجز وضعف وهوى وفتنة، عباد الله والذي يعين على الإخلاص بعد توفيق الله أمور وهي:
1 – أن يجعل العبد ربه نصب عينيه فيقصد بعمله وجه الله ويلجأ دائماً إلى ربه ويسأله ويكثر من قول: يا حي ياقيوم برحمتك أستغيث.
2 – أن نعلم أن الناس لاينفعون ولايضرون فعلينا أن نقطع اعتبارهم وأخذ حسابهم في أي عبادة.
3 – أن يحذر العبد المسكين من نفسه الأمارة بالسوء التي تريد العلو والمباهاة والتقديم والتكريم والمدح وغلبة الرأي وتريد احتقار الآخرين والتعالي عليهم والسخرية منهم.
4 – أن نحذر من الشيطان الرجيم لا يأتينا من أبواب نأمنها كعند الكلام والمفاخرة أو عند الغيرة على الدين أو عند إعجاب الناس وثنائهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة اللهم يا حي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام يا بديع السموات والأرض برحمتك نستغيث ومن عذابك نستجير، اللهم اشرح صدورنا للإسلام ونورها باليقين والإيمان، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً ونحن نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه، اللهم إنا نعوذ بك من الغفلة والذنوب ونسألك عفوك ورضوانك ورحمتك التي وسعت كل شيء يا أرحم الراحمين ويا خير الغافرين، اللهم إنا نسألك يا الله باسمك الأعظم أن تحسن ختامنا وتتوفانا وأنت راض عنا وأن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فإننا الفقراء والضعفاء المذنبون الغافلون المساكين، اللهم لاتعذب قلوباً توجهت إليك ولا أعيناً بكت من خشيتك ولا أرجلاً مشت في سبيلك ولا أيد امتدت لمرضاتك ولا ألسناً لهجت بذكرك وتلاوة كتابك ولا آذاناً أصغت بسماع دينك ولاتخيب نفوساً تعرضت لرحمتك وغفرانك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، اللهم لاتردنا خائبين ولاعن باب رحمتك مطرودين، اللهم ارزقنا إخلاصاً يباعدنا عن معاصيك ويقربنا إليك، اللهم انصر دينك وأعل كلمتك وأعز أولياءك وارفع رايتهم وتول أمرهم وفرج همهم ونفس كربهم وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم عليك بالكفرة ومن شايعهم اللهم لاترفع لهم راية ولاتحقق لهم غاية واجعلهم لمن بعدهم آية اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم وخالف بين كلمتهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا خير الناصرين، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا والمسلمين ومجتمعاتهم وطهرها من كل فحشاء ومنكر، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
عباد الله: صلوا وسلموا على نبيكم امتثالاً لأمر ربكم إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلمو تسليماً.
(1/974)
الأمر بالإحسان إلى الخلق
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
9/5/1415
جامع الجردان
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: اتقوا الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وخافوه وراقبوه وسارعوا إلى بذل الإحسان ابتغاء مرضاته لتنالوا الثواب العظيم والأجر الكبير واعلموا أن الله يحب المحسنين وأنه مع المحسنين وأنه يجزي المحسن بالإحسان إليه ويجزي المحسنين بالحسنى قال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، وأنه سبحانه لا يضيع أجر المحسنين ولا أجر من أحسن عملاً، والإحسان أيها المسلمون ثلاثة أنواع، الأول: إحسان العمل وهو إتقانه وإتمامه، والثاني: الإحسان فيما بين العبد وبين ربه في عبادته إياه وهو أعلى مراتب الدين وقد فسره النبي بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومعنى ذلك أن العبد يعبد الله تعالى على استحضار قربه منه وأنه بين يديه كأنه يراه وذلك يوجب الخشية والتعظيم ويوجب النصح في العبادة وإحسانها، الثالث: الإحسان إلى الغير وهو بمعنى الإنعام عليه وهذا هو موضوع الخطبة اليوم، فلقد أمر الله بالإحسان إلى الخلق تارة أمر وجوب كالإحسان إلى الوالدين والأقارب بمقدار ما يحصل البر والصلة والإحسان إلى الجار والضيف وملك اليمين قال تعالى: وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتمى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم وتارة أخرى أمر الله بالإحسان إلى الخلق أمر استحباب وندب فإن بذل المعروف وتقديم البر والخير إلى الناس هو صفة أصحاب القلوب الحية الرحيمة التي تتجاوب مع حاجات المسلمين وتعيش همومهم وتقلق لمصابهم، إن الذي يقدم الإحسان إلى إخوانه ويسعى في قضاء حوائجهم وتفريج كروبهم وتنفيس ضوائقهم هو ذلك الرجل الشهم الأبي الذي لا يعيش لنفسه فقط ولا يحقق مصالحه فقط وهو بهذا البذل والجود والإخلاص والتفاني لا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً ولا يريد مدحاً ولا مالاً ولا منزلة في قلوب الناس ولكنه يريد الثواب من الله ويريد موعود الله ويريد محبة الله ومعيته، إن الله مع الذين اتقو والذين هم محسنون ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره يريد المحسن تفريج كرباته يوم القيامة، ويريد الفلاح والفوز بالجنة ويريد الخيرية في الدنيا والآخرة لأن خير الناس أنفعهم للناس، وافعلوا الخير لعلكم تفلحون عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) مسلم، أيها المسلمون إن الإحسان إلى الخلق أمر واسع الأبواب وقربة إلى الله من أعظم القربات فهو يقوي روابط المسلمين ويشعرهم بالوحدة والمحبة والحنان والصلة ويبني روابط الأخوة ويزيل ضغائن القلوب ويقوي صفاءها فتنشرح النفوس ويشعر المنصور والمظلوم والفقير وصاحب الحاجة والكربة والضائقة يشعر أنه ليس غريباً بين إخوانه ولا مهملاً بين المسلمين وأن مصابه مصابهم وقضيته تعنيهم فعند ذلك تتحقق الأخوة في الإسلام وتزداد الرحمة بين الناس والإحسان يكون بالكلمة الطيبة قال تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ويكون بتقديم الخدمة وقضاء الحاجة، عن أبي موسى عن النبي قال: ((على كل مسلم صدقة، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يستطيع أو لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليأمر بالمعروف، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر فإنه صدقة)) خ،م ويكون الإحسان بالصدقة، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: ذكر النبي النار فتعوذ منها وأشاح بوجه ثم ذكر النار فتعوذ منها وأشاح بوجهه قال شعبة: أما مرتين فلا أشك ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم يكن فبكلمة طيبة)) خ، ويكون الإحسان بالرفق والمعاملة الحسنة ولين الكلام وخفض الجناح عن عروة بن الزبير أن عائشة قالت: ((دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، فقالت: فقال رسول الله: مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله: قد قلت وعليكم)) خ، وعنها رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)) مسلم، وله عنها: ((أن الرفق لايكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه)) ، وقال عبد الله بن عمرو لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً وإنه كان يقول: ((إن خياركم أحسنكم أخلاقاً)) خ، ومن الإحسان إلى المسلمين التعاون فيما بينهم على الحق فعن أبي موسى عن النبي : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه)) خ، ومن الإحسان الشفاعة لأخيك المسلم قال تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها وعن أبي موسى عن النبي : ((إنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: اشفعو فلتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء)) ويكون الإحسان كذلك بالنصرة والمؤازرة قال : ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) ويكون الإحسان بحسن العهد والوفاء والمروءة وحفظ السر والصبر على الأذى واحتمال الزلة وصيانة اللسان عما يكره أخوك وإدخال السرور على قلبه وإبعاد ما يسؤه، أيها المسلم امسح دموع اليتيم واعطف على المسكين وقم بحاجة أخيك وفرج هم المهموم ونفس كرب المكروب واعلم أن من يقدم الخير يحصد الخير في الدنيا والآخرة، عن صفوان بن سليم يرفعه إلى النبي : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل)) خ، وقال : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى)) خ، إن الرحمة لا تنزع إلا من شقي وإن رحمة المسلم لإخوانه وإطالة فكره وهمه في مصائبهم تدل على رحمته وصفاء قلبه وسلامته، قال : ((من لا يرحم لا يرحم)) خ، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة)) خ، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) خ، اللهم اجعلنا من المحسنين المتراحمين المتعاطفين الذي يقدمون الخير للناس ويؤثرون على أنفسهم، اللهم تقبل منا ياحي ياقيوم واجعل أقوالنا وأعمالنا ونياتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رؤوف يا رحيم يا غفور يا شكور.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على توفيقه وامتنانه والشكر على نعمه وإحسانه الذي يحب المحسنين ويرحمهم فهو سبحانه رحيم يحب الرحماء ومحسن يحب المحسنين، عباد الله لقد كان بينكم محسناً يجود غاية الجود بنفسه وماله ووقته يبذل ما يحتاج إليه الناس مؤثراً لهم على نفسه فلقد كان أجود الناس يعطف على الفقير ويواسي المحتاج ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويدل الضال على الصراط المستقيم، ولقد كان نبي الله موسى محسناً من المحسنين حين سعى للمرأتين الضعيفتين اللتين لا تستطيعان سقيا حتى ينتهي الناس فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ولقد كان نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام محسناً وكريم الطبع نبيل الخلق ذا مروءة عظيمة فلقد فعل فيه إخوته ما فعلوا وعمي أبوه يعقوب عليه السلام من شدة المصيبة ولوعة الفراق وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ثم يأتي إليه إخوته معترفين بذنبهم وجنايتهم قائلين: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فرد عليهم بعد كل الذي جرى قائلاً لهم وصافحاً عنهم بلسانه الصادق وقلبه الكبير الممتلئ محبة وإحساناً وطهارة وسلامة لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين الله أكبر ما أعظم هذا البر وما أجمله حين نتحلى به لتصفو النفوس وتتحلى به القلوب وتشرف به الأعمال أيها المسلمون وإليكم هذا المشهد من رجل لا كالرجال من رجال هذه الأمة من الصديق أبي بكر خليفة رسول الله فقد أخرج أن عساكر عن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب كان يتعهد عجوزاً كبيرة عمياء في بعض ضواحي المدينة من الليل فيسقي لها ويقوم بأمرها فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت فجاءها غير مرة فوجد أنه يسبق إليها فأراد أن يعرف من هذا الذي يسبقه فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة فقال عمر: أنت هو لعمري، واسمعوا أيها الإخوة عظيم الأجر من الله لمن أحسن إلى الناس وقام بحوائجهم قال : ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف له كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً ولئن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً ومن كف غضبه ستر الله عورته ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)) ، عباد الله وإحسان المحسن وأجره لا تقف فقط عند الإحسان إلى الناس بل يتعدى كذلك حتى للحيوان البهيم، فعن عبدالله بن جعفر أن النبي : ((دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي حن وذرفت عيناه فأتاه رسول الله فمسح ذفراه وهما الموضع الذي يعرف من قفاه، فسكت فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله ، فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه (أي تتعبه بكثرة استعماله))) وأخبر النبي : ((أن امرأة عذبت في هرة ربطتها لم تطعمها ولم تسقها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً)) مسلم، وقال النبي : ((بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغية من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها (خفها) فاستقت له به فسقته إياه فغفر لها به)) خ،م، هكذا إن فضل الله واسع وأجره كبير لمن صدق مع ربه وأخلص له في علانيته وسره وبيت محبة الخير للناس ونفعهم ورحمتهم فإن الله يعلي درجته ويرحمه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ت، وقال : ((سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره، من علم علماً أو كرى نهراً (أي حفره) أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته)) ، أيها المسلمون نعم تلك أعمال المحسنين وغيرها كثير مماهو في معناها التي ينبغي للمسلم أن يستشعرها وأن يتذوق حلاوة التعبد لله بها وهذا بخلاف حال الذين لا تهمهم إلا مصالحهم ولايسعون لأحد إلا بمقدار ما يستفيدون منه ولا يريدون إلا نفعاً مادياً أو عرضاً دنيوياً فلم يحتسبوا لله بتقديم معونة ولا بسد خله ولا برحمة صغير أو توقير كبير قد قست قلوبهم عن رحمة المظلومين ومواساة المحتاجين وإغاثة الملهوفين فحلت في القلوب الشحناء والتنافر محل المحبة والصفح والوداد وحل الشح والبخل ومن الناس من يأخذ حقوق الآخرين وينكرها ويخون الأمانة ويعتدى على الحرمات وينتهك الحرمات ويعتدي على ما حرم الله فأين هذا وحال الذين يتعبون ليستريح الناس ويجوعون ليشبع الناس؟ كم الفرق بين المحتسبين والظلمة والأشقياء الذين يبدلون الجود والكرم والسماحة محل الكبر والتعاظم فتباً للقلوب القاسية المتحجرة التي لا تترقب فضل الله وجوده وإحسانه ولا تتأثر لجراح المسلمين وبكاء أطفالهم وأنين شيوخهم وحسرات الثكالى وزفرات المقهورين وخيبة وخسراناً للأناني الذي لا يعيش إلا لنفسه ولا يفكر إلا في مصلحته الشخصية وهواه غير مهتم بأمر المسلمين فلم يذرف على مصابهم دمعة ولم يقدم لحاجتهم معونة ولم تتحرك في قلبه عاطفة بل قد تجد من الناس من لايحسن إليهم ولا يريد لأحد أن يحسن ولا يريد أن ينتفع المسلمون أو تسكن لهم عبره أو يسد لهم رمق وفاقة فتجده يأمر بالبشر والقطيعة وينهي عن الرحمة والإحسان والمودة فحاله كحال المنافقين الذي قال الله عنهم: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اجعلنا إخوة متحابين متناصرين يرحم بعضنا بعضاً ويمشي بعضنا بحاجة بعض اللهم اجعلنا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، اللهم اهد قلوبنا ونور بصائرنا وسكن روعنا وآمن خوفنا اللهم اغننا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك واجعل لنا من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين ويسر أمور المحتاجين.
(1/975)
الإنابة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
30/6/1418
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التوبة والإنابة إلى الله تعالى 2- تعريف التوبة وتعريف الإنابة
3- الأمور الأربعة التي تتضمّنها الإنابة 4- أن الإنابة لا تستقيم إلا بثلاثة أشياء
5- أثر الإعراض عن الله تعالى في الدنيا والآخرة 6- حقيقة الإنابة 7- مثلٌ لسَعَة رحمة
الله تعالى ولطفه بمن تاب إليه وأناب
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: اتقوا ربكم وأطيعوه وتوبوا إليه من ذنوبكم واستغفروه وأنيبوا إليه راجعين من المعصية إلى الطاعة ومن الغفلة إلى الذكر ومن الكذب إلى الصدق ومن الدعاوى والكلام إلى الحق والعمل الصالح وارجعوا إلى ربكم من تعظيم هذه الدنيا وإيثارها وهمومها وأكدارها إلى إيثار الدار الآخرة ورجاء ما عند الله وإلى الإستعداد ليوم الممات وإلى تذكر يوم القيامة يوم الحسرات والويلات يوم الصدق يوم ينكشف المغطى وتظهر الحقائق وتشهد الجوارح يوم نقف بين يدي الملك العظيم الذي لاتخفى عليه خافية يومئذ تعرضون لاتخفى منكم خافية ، يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر.
أيها الإخوة حديثنا اليوم إن شاء الله عن التوبة والإنابة، فالتوبة هي الرجوع إلى الله بترك الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها والعزم على عدم العودة إليها والندم على مافات وإرجاع الحقوق إلى الناس بصدق وعزيمة سعياً لطلب مرضاة الله من مال أو ظلم أو عرض قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار وقال النبي : ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) [ مسلم]، والله عز وجل يحب التوابين الصادقين ويفرح بتوبتهم أعظم الفرح ويبدل سيئاتهم حسنات، قال النبي : ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)).
أيها الإخوة: قال ابن القيم رحمه الله: (ولما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته كما قال تعالى: إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحا فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح، أي لابد من ترك لما يكره الله وفعل لما يحب الله ولابد من تخل عن معصيته وتحل بطاعته، فالإنابة هي الرجوع إلى الله بالإسراع إلى مرضاته والتقدم إلى محابه في كل وقت، والإنابة تتضمن أربعة أمور: محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه فلا يستحق إسم المنيب إلا من جمع هذه الأربع، قال تعالى: وأنيبوا إلى ربكم وقال عن خليله إبراهيم إن إبراهيم لحليم أواه منيب - والرجوع إلى الله يستقيم بثلاثة أشياء: بالخروج من التبعات والتوجع للعثرات واستدراك الفائتات، والمقصود بالخروج من التبعات هو التوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الله وأداء الحقوق للخلق – والمقصود بالتوجع للعثرات أي يتوجع القلب وينصرع ويتألم إذا عصى ربه وتجاوز أمره وأن يتوجع كذلك لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر ولايشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته، والمقصود بإستدراك الفائتات هو المسارعة إلى الطاعة والتقرب إلى الله بكل ما يرضيه وتدارك العمر بالصالحات قبل فوات الأوان، أيها الإخوة والرجوع إلى الله يستقيم ويصلح بالخلاص من لذة الذنب بحيث يعود مكانها التوجع والألم لذكر الذنب والتفكر فيه, ويستقيم الرجوع إلى الله بترك الإستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع فتح باب الرجاء للنفس, فترجوا الرحمة لنفسك وتخشى على أهل الغفلة النقمة، والصحيح أن ترجوا لهم الرحمة وتخشى على نفسك النقمة ويستقيم الرجوع إلى الله في الاستقصاء في رؤية علل العمل والتفتيش عن حظوظ النفس فيه وتمييز حق الرب من حظ النفس, قال ابن القيم رحمه الله: (فكم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة وتمنع أن تصل إليه) وإن العبد ليعمل العمل حيث لايراه أحد وهو غير خالص لله ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه وهو خالص لوجه الله، ثم قال رحمه الله: (فبين العمل وبين القلب مسافة فيها قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل إلى قلبه منه محبة ولاخوف ولارجاء ولازهد في الدنيا ولارغبة في الآخرة ولانور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولاقوة في أمره فلو وصل أثر الأعمال إلى القلب لاستنار وأشرق) ثم بين القلب وبين الرب مسافة عليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب ورياء وسمعة وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة من الله وعلل خفية ومن رحمة الله تعالى أن ستر تلك العلل على أكثر العابدين إذ لو رأوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والإستحسار وفتور الهمة.
أيها الإخوة ويستقيم الرجوع إلى الله باليأس من عملك ومعاينة اضطرارك واستشعار لطف الله وإحسانه اللهم ارزقنا الإنابة إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العليم الخبير السميع البصير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور لايعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولاحبة في ظلمات الأرض ولارطب ولايابس إلا في كتاب مبين، والله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيظ الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى والمعيشة الضنك في الدنيا وفي القبر، فإن من أعرض عن ذكر ربه فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها فقلوب العصاة والغافلين في جحيم قبل الجحيم الأكبر وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر، إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم قال ابن عباس: إن للحسنة نوراً في القلب وضياءً في الوجه وقوة في البدن وزيادةَ في الرزق ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمةً في القلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق.
أيها الإخوة وحقيقة الإنابة إلى الله أن يفتقر العبد لربه جل جلاله وأن يذل وينكسر ويخضع بين يديه وأن يستكثر ما منَّ به ربه عليه من الخير وإنه لايستحق منه قليلاً ولاكثيراً وأن يستحضر العبد أن رحمة ربه هي التي اقتضت اعترافه بنعم الله واقتضت استقلاله طاعاته لربه ورآها من أقل ما ينبغي لربه والمنيب هو من يستكثر قليل معاصيه وذنوبه وينكسر قلبه إذا ذكر تلك الذنوب، قال ابن القيم: فما أقرب أن يجبر الله قلب العبد المكسور وما أدنى الرحمة والرزق منه وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم، وأحب القلوب إلى الله قلب تمكنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذلة فهو ناكس الرأس بين يدي ربه لايرفع رأسه إليه حياءً وخجلاً من الله فإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم وخشع الصوت وذل العبد واستكان وخضع واضعاً خده على عتبة العبودية ناظراً بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم فلا يرى إلا متملقاً لربه خاضعاً له ذليلاً منكسراً مستعطفاً له يسأله عطفه ورحمته يترضى ربه ليس له هم إلا استرضاءه واستعطافه ويقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد العبادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية، قال ابن القيم: والقصد أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله وترمه على طريق الجنة فيفتح له منها باب لايفتح له من غير هذه الطريق وإن كانت طرق الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبواباً من الجنة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والإنكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم بحيث يشاهدها ضيعة وعجزاً وتفريطاً وذنباً وخطيئة نوع آخر وفتح آخر والسالك بهذا الطريق غريب في الناس وهم في واد وهو في واد آخر وهي شمس طريق الطير يسبق النائم فيها على فراشه فيصبح وقد قطع الطريق، واسمعوا أيها الإخوة إلى هذا المثل وتدبروه، تصور أن رجلاً كان في رعاية أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ويربيه أحسن التربية ويرقيه على درجات الكمال وهو القيم بمصالحه كلها فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشده وثاقاً ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه فتهيج من قلبه الحسرات كلما رأى حاله ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه فبينما هو في أسره وعدوه يريد نحره في آخر الأمر إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه قريباً منه فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث يا أبتاه يا أبتاه انظر إلى ولدك وماهو فيه ودموعه تستبق على خديه فاعتنقه أبوه والتزمه بالأحضان وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ممسك بأبيه فهل تقول إن والده يسلمه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه، فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الولد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر العبد إلى ربه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه ضارعاً يرجوه منيباً يسأله معترفاً نادماً شاكياً حاله وضياعه وتفريطه يريد النجاة من عداوة النفس والشيطان والهوى وقرين السوء، يقول: يارب يارب أرحم من لا راحم له سواك ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك وراجيك وداعيك لا ملجأ له منك إلا إليك أنت معاذه وبك ملاذه، أيها الإخوة فمن كانت هذه حاله حال الإعترف والصدق مع ربه فهو يشهد مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقاء ربه والابتهاج والفرح والسرور فتقر عينه ويسكن إليه قلبه وتطمئن جوارحه وتخمد نيران شهواته ويستولي ذكر الله على لسانه وقلبه فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية وتصير حركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاته بالمعاصي قد امتلاً قلبه من محبة ربه فتدبر أيها المسلم أي إحساس أعظم من أن يبارز العبد ربه بالمعاصي وهو يمده بالنعم ويعامله بألطافه ويسبل عليه ستره ويحفظه في نومه ويقظته ويجري فيه النفس والحياة وفي عروقه الدم ويحول بينه وبين أعدائه المترقبين والله يحفظه ويحوطه ويرعاه ويسخر له مافي السموات ومافي الأرض وقد وعده بالجنان والرضوان إن هو استقام وأصلح ما بينه وبينه قال النبي : قال الله تعالى: ((أنا الجواد الكريم عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم في مضاجعهم وأحرسهم على فرشهم، من أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد أهل طاعتي وأهل كرامتي وأهل معصيتي لأأقنطهم من رحمتي إن تابوا إليَ فأناجيهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب)) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن ياتيكم العذاب ثم لا تنصرون.
(1/976)
التحذير من أكل أموال الناس بالباطل
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
16/10/1415
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً 2- بَيّن الطيب من الأموال وبين شؤم الكسب الحرام
على صاحبه في الدنيا والآخرة 3- بعض صور أكل أموال الناس بالباطل 4- ضرورة السؤال
عما أشكل من أمور الكسب وحذّر من أن يُفتي الإنسان نفسه بنفسه ليستبيح حقوق الآخرين
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أيها الناس اتقوا الله تعالى وراقبوه واعلموا أن الله طيب لايقبل إلا طيباً من النيات والأقوال والأحوال والأعمال وإن الطيب من الأموال ما اكتسبه الإنسان من طريق الحلال ثم أنفقه فيما يرضي الله أما المال المكتسب من حرام فليس بطيب فلا يقبله الله، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لايحب ولايعطي الدين إلا من يحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه لا والذي نفسي بيده لايسلم أو لايسلم عبد حتى يسلم أو يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه قالوا: وما بوائقه؟ قال: غشمه وظلمه ولا يكسب عبد مالاً حراماً فيتصدق به فيقبل منه ولا ينفق فيبارك فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحوا السيء بالسيء ولكن يمحوا السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحوا الخبيث)).
أيها المسلمون: في هذا الحديث موعظة بليغة وعبرة للمعتبر وهي أن الدنيا يعطيها الله للمؤمنين وللكفار والبررة والفجار ولكن الدين والإستقامة على أمر الله لا يعطيه الله إلا من يحب، فهذا ميزان بين يديك أيها المسلم لتعلم أن الله يحبك أم لا وكذلك يدل الحديث على أن كسب الحرام خسارة عظيمة لا ربح فيها للعبد أبداً لأنه إن تصدق من الحرام فلا يقبل وإن أنفق لم يبارك له فيه وإن خلفه بعده لورثته كان زاده إلى النار إن اكتساب المال من طريق حرام طريق إلى النار قال : ((وأيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به)) فمن اكتسب المال بالغش أو بالكذب أو بالربا أو بالدعوى الباطلة فعليه الوعيد الشديد قال : ((من غشنا فليس منا)) وقال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ثلاثاً، قال أبو ذر: خابوا وخسروا يا رسول الله من هم؟ فقال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف والكذب)) [مسلم]. و((لعن رسول الله آكل الربا ومكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء)) ، وقال : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) وقال : ((من حلف على مال أمرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان)).
عباد الله: ألا ما أعظم الظلم وما أقبح عاقبته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فسيذوق الظالم الحسرة وسوء الحال ومرارة الظلم وأما في الآخرة فالنار الحامية ما للظالمين من نصير، قال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) كما أن دعوة المظلوم لا ترد فيرفعها الله فوق الغمام ويقول: لأنصرنك ولو بعد حين، أخي المسلم لا تتهاون في حق أخيك ولو كان قرشاً واحداً فما الذي يبيح لك ماله؟ وما الذي يبيح لك حقه إذا ائتمنك عليه؟ وما الذي يبيح لك التهاون أو الغش في عمل ستأخذ عليه الأجر كاملاً؟ قال : ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) ، لقد عظم التكالب على الدنيا وجمع حطامها الفاني فمن أجلها يحلف المسلم كاذباً ويغش ويظلم ويحتال ويرابي والعياذ بالله وهذا نقص في الدين والعقل وإلا فإن الرزق بيد الله والرزق الذي قسمه الله لك سيأتيك فلماذا تأخذه بطريق الحرام؟ وفي السماء رزقكم وما توعدون ، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها.
أيها المسلمون: لقد وجد في هذا الزمان من يفرح إذا أخذ أو ظفر بحق أخيه واعتبر ذلك ذكاءً ودهاءً وقوة فليس المهم أن هذا المال حرام أو حلال ولكن المهم عنده أنه حصل عليه فلقد قل خوف الله عند كثير من الناس ونسوا وعيد الله ونسوا دعاء المظلومين وعذاب قلوبهم المتجهة إلى ربها ترفع أكف الضراعة إلى الله ليأخذ حقها وينتقم ممن ظلمها، ومن الناس من يتساهل في أمر الدين أو السلف فيقترضه ويماطل في تسديده أو ينكره أو يتناساه وليعلم من كان كذلك أن روح المسلم معلقة بدينه إذا مات حتى يقضى عنه وقد قدمت جنازة إلى رسول الله ليصلي عليها فقال : ((هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فقال صلوا على صاحبكم ورفض أن يصلي عليه، فضمن أبو قتادة الدينارين فصلى عليه الرسول وقال: الآن بردت جلدته))، وقال : ((من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) ، وقال : ((مطل الغني ظلم)) وفي رواية ((وإذا اتبع أحيل أحدكم على مليئ فليتبع)) ، وقال : ((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)) وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر)) ، عباد الله لقد كثرت في المحاكم الخصومات والقضايا والمشكلات بسبب المظالم ومن الناس من يعلم أنه هو الظالم ويريد الانتصار على خصمه وأخذ حقه وربما غلب بالحجة وقضى له القاضي بمال أخيه على نحو ما ظهر له، فلا يظن أحد أن حكم القاضي يحل الحرام أو يحرم الحلال لأن القاضي ليس له إلا الظاهر بما يسمع من الخصمين وأما الباطن فهو إلى الله هو الذي يحكم به يوم تبلى السرائر ولا يوجد في ذلك اليوم للظالم من قوة ولا ناصر قال : ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار)). وقال : ((لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: قال الله تعالى: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) ، أيها الناس إن الواجب على كل مسلم أن يخاف الله ويرعى حدوده وأوامره وألا يغتر بعمل فلان أو فلان أو يغتر بما عليه أكثر الناس اليوم وأن نتذكر الحساب وأنه لايخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره وقد تخاصم رجلان عند النبي في أرض فقال للمدعي: ((ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، فقال: يارسول الله إن الرجل فاجر ولا يبالي على ما حلف عليه؟ فقال النبي : ليس لك منه إلا يمينه فلما أراد أن يحلف قال النبي : لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض فأدرك الرجل مخافة الله فرد أرضه)) اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك واجعل لنا من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا اللهم ارزقنا خوفك ورجاءك وانزع حب الدنيا من قلوبنا واجعلنا أغنى خلقك بك وأفقر عبادك إليك، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على نعمه وآلائه والشكر له على توفيقه وإحسانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عباد الله إن الكسب في هذه الحياة هو سنة الله في خلقه وأمر المعاش أمر فطري فطر الله عليه عباده وقال تعالى: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فأمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور وقد يتعرض المسلم في كل يوم من أيام حياته إلى المعاملة مع الناس أو البيع أو الشراء أو العمل أو الخصومة أو يؤدي أمانة أو يشهد على قضية لذا يجب على المسلم أن يراقب ربه ويخزن لسانه ويكف جوارحه عما حرم الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وأن الله أمر المؤمنين بما امر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وقال: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)) [ت،م]. وعن خولة الأنصارية قالت سمعت رسول الله يقول: ((إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [ خ]. وفي رواية للترمذي: ((إن هذا المال خضر حلو من أصابه بحقه بورك له فيه ورب متخوض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار)) [خ]. ومعنى يتخوضون في مال الله بغير حق: أي يأخذونها ويتملكونها كما يخوض الإنسان الماء يميناً وشمالاً.
أيها الإخوة: إن المسلم مدعو أن يسأل الله عما أشكل عليه ولا يفتي لنفسه ليستبيح حق الآخرين وألا يقتصر على هواه ومجرد رأيه قال تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وعلى المسلم كذلك أن يترك المتشابه الذي لايدري هل هو حرام أم حلال؟ وأن يسعى دائماً في إبراء ذمته وأن يكون دائم الاستعداد للقاء ربه وإذا أخذت من أحد شيئاً قرضاً أو ديناً أو حقاً أو حاجة فإن عليك أن تكتبها وأن تشهد عليها فإن كنت حياً لا تنساها وإن مت علم بذلك أهلك وقرابتك ليسددوا عنك وما عليك لتبراً ذمتك ولتلقى الله وليس في ذمتك لأحد شيئاً كما عليك أخي المسلم أن تسعى ببراءة ذمتك من حقوق المسلمين في أعراضهم وأذيتهم بأن تتحلل منهم وترضيهم قال : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لايكون دينار ولادرهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [خ]. فاحذر يا عبدالله أن تذهب أعمالك الصالحة التي تعبت عليها لله احذر أن تذهب عنك وتخسرها لتعطي الناس الذين أنت ظلمتهم واعتديت على حقوقهم.
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن ابت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
كم من مدائن في الإقامة قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول : ((إن الحلال بين الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)) [خ،م]. عباد الله إن من أسكن الحياة الدنيا في قلبه أصبحت هي همه وغايته فسيعمى عن الآخرة وستتشعب به الهموم ويهلك في أوديتها بين شبهاتها وشهواتها وسيكون عبداً للمال يوجهه المال إلى جمعه والجشع فيه والشح وسيبيع آخرته بدنياه ولكن من أسكن الآخرة قلبه وجعل همه لها فسيرى ببصيرته أن هذه الدنيا متاع قليل وإنها دار من لادار له ومال من لامال له ويجمعها من لاعقل له وإنها السحارة التي تسحر القلوب وإنها لعب ولهو وزينة وإن ما عند الله هو خيراً وأعظم أجراً، فما قل وكفى خير مما كثر وألهى ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، فكونوا يا عباد الله من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا لأن الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان في قلب واحد.
(1/977)
السعادة الحقيقية وأسبابها
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
4/3/1420
جامع الجردان
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة والناس كل الناس يبحثون عن السعادة التي بها يرتاحون ويجدون الأنس والطمأنينة وراحة القلب والشعور بالغبطة والأريحية السعادة التي تتحقق بها خيرية الذات والحياة والمصير ولكن السعادة. أيها الإخوة لها أوهام وكثيرون هم الذين يضلون طريقها فمن الناس من يبحث عن السعادة والراحة في المال وجمع الثروات والعقار والقصور فيتوهم أنه إن حصل على المال ارتاح وتألق وصار الآمر والناهي الذي يحقق ما تريده نفسه والصحيح أن المال لايجلب السعادة فإن المال يصاحبه هم في جمعه وهم في حفظه وهم وقلق وخوف من ضياعه وخسارته وكم من إنسان يملك المليارات ولكنه قلق خائف لأنه لا يملك الأمان على بقاء هذا المال بين يديه ولأن المال لا يمنع عنه المرض ولا الموت ولا المشاكل ولا يمنع عنه عذاب الله إذا كان من الكفرة والفجرة المعذبين يوم القيام، قال تعالى عن الكافر أمية بن خلف: ما أغنى عني ماليه ومن الناس من يطلب السعادة ويظن أنها في الشهرة والمركز وكثرة الأعوان والمشجعين مثل أهل الرياضة والغناء والمسارح، وكل هذا وبال على أصحابه فإنهم يعيشون الحسرة والضيق في صدورهم ويجدون إعراض الناس عنهم عند أول إخفاق بل ويجدون الذم والتنكير من الناس عندما يخفقون وتنزل مستوياتهم ويجدون النسيان عندما يموتون وربما وجدوا اللعن والبراءة من الذين أضلوهم ودعوهم إلى الفسق والفجور، ومن الناس من يطلب السعادة في الشهادة والمؤهلات العلمية وهذه سعادة وهمية ربما أودت بصاحبها إلى الضرر والتكبر والظلم واحتقار الآخرين وربما صارت علوماً منحرفة صرفت صاحبها عن هدي ربه واتباع سنة نبيه، ومن أوضح الأدلة على أن الأعراض الخارجية من الغنى والسلطان والمظاهر اللامعة ليست هي عنوان السعادة فإن أغنى الدول الأوروبية وهي الدول الإسكندنافية تمثل أعلى نسب الإنتحار وأغنى دول من حيث دخل الفرد وهي دول السويد ولكنها أعلى دولة في نسب الإنتحار في العالم، وليس من أسباب الشقاوة والبعد عن السعادة الفقر ولا المرض ولاقلة الأعوان بل إن الشقاوة في الدنيا والآخرة يجمعها قول الله تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ومن الإعراض عن الله وذكره ما يلي: فمن ذلك الكفر والمعاصي والآثام والجرائم والحسد والإعتداء والظلم والحقد والغل والغضب والطغيان والغرور والكبرياء وكذلك الخوف من غير الله كالخوف من المخلوقين والشياطين والتشاؤم وسوء الظن واتهام الآخرين وقسوة القلب وعدم الرحمة وأكل الحرام وتعلق القلب بغير الله والمسكرات والمخدرات، أيها الإخوة والواقع الماضي والحاضر دليل أكيد وبرهان قاطع على أن من ابتعد عن ربه وأنزل الدنيا في قلبه وركض وراء أطماعها وشهواتها ووشبهاتها وسعى في جمع حطامها من الحرام فإنه حليف الشقاء مع فقدان نعمة الإيمان وراحة القلب لأن الدنيا والآخرة ضرتان فمن قرب إحداهما أبعد الأخرى، قال النبي : ((من أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع الله عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق الله شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على كل حال أحمده وأستعينه وأستغفره وهو ذو الجلال شديد المحال الكبير المتعال وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أيها الإخوة إن الناس يطلبون السعادة في كل باب من أبواب هذه الدنيا ويسعون لجمع حطامها الرخيص ولكنهم لايجدون السعادة إلا في طاعة الله والسعي في طلب رضاه، قال الله تعالى: من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقال النبي : ((شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس)) فطاعة الله من صلاة وذكر وقرآن وصدقة وصيام وحج وتوحيد وإيمان يجد المؤمن بها الراحة والطمأنينة قال النبي : ((أرحنا بها يا بلال)) إذا أديت العبادة بخشوع وإخلاص، وتدبر واتباع، قال أبو سليمان الداراني أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، أيها الإخوة وتكون السعادة بالإقبال على الله ومناجاته والتلذذ بذكره والشكوى إليه وإنزال الحوائج فيه قال : ((احفظ الله يحفظك تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)) وإذا أقبل العبد على ربه وتضرع إليه فإن الله ينزل في قلبه الطمأنينة والراحة القلبية فيجد نعيم الروح وشرح الصدر وقرة العين وأنس الخاطر فإن القلب فيه شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله وفيه داء لا يشفيه إلا الله عز وجل وفيه فاقة لا يسدها شيء سوى الإقبال على الله فإن القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين من جهة العبادة ومن جهة الإستعانة فإن القلب لا يسكن ولا يلتذ ولا يطيب إلا بعبادة ربه والإقبال عليه ولو توفرت له ملذات الدنيا جميعها ومن جهة الإستعانة فإن الله إذا لم يعن العبد ويوفقه ويهديه فلن يستطيع المسكين أن يجلب لنفسه خيراً ولا يدفع عن نفسه شراً إلا بالإستعانة بالله والركون إليه والتوكل عليه فلا ينفعه عقله ولا علمه ولا ماله ولا جاهه ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً أيها الإخوة ومن أسباب السعادة الإحسان إلى الناس وتقديم الخير إليهم وتفريج كروبهم مادياً أو معنوياً لأن من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ولأن الله مع المحسنين ويحب المحسنين والجزاء من جنس العمل فأحسن إلى الناس يحسن الله إليك وارحم الناس واعطف عليهم وتألم لمصائبهم يرحمك الله ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، ومن أسباب السعادة أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من أساء إليك فإن العفو والصفح ينقي القلب من الغيظ والحقد والعداوة والصفح والتجاوز يطهر القلب ويجلب له السعادة والمسرات فلا يسر الإنسان وقلبه ممتلئ غيظاً وحقداً ومن أسباب السعادة الرضى بقضاء الله وقدره فيطمئن العبد على كل ما يصيبه ويرضى بما قسم الله له ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ومن أسباب السعادة أن يتذكر المؤمن ويستيقن بالوعد الكريم من الرحمن الرحيم من نعيم الجنان دار الأفراح والمسرات ودار الكرامة والنعيم المقيم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون، وإذا استشعر المؤمن الموقن أن المآل إلى الجنان الزاهيات بكل خير ونعمة وقرة عين ومنة التي يعيش أهلها هناك لا يموتون ولا يمرضون ولا يتغوطون ولا يبولون في خلود ولا موت فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانو يعملون فإذا تذكر هذا النعيم وعرفه هانت عليه هذه الدنيا واستشعر حقارتها وقصرت في عينه فلم تكن الدنيا أمله ولا غايته ولم يُعنِّ نفسه من أجلها ولم يشق خاطره في سبيلها فنظر إليها على أنها طريق العبور إلى الجنة وهذه الحياة دار الفتن والإبتلاءات فيعيش عيشة السعداء الذين طلقوا الدنيا وارتاحوا من همومها وأكدارها، ومن أسباب السعادة أن تعلم أن الله معك يحفظك وينصرك ويمدك بالمعونة والنصر والتأييد والحفظ فكن مع الله بحفظ أوامره والبعد عن نواهيه ولا تتعد حدوده يكن الله معك بالنصر والتوفيق احفظ الله يحفظك، ومن أسباب السعادة كثرة ذكر الله بيقين وتدبر وخشوع وخضوع ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، وعليك بكثرة دعاء الله فإن الدعاء يصل قلب العبد بربه ويهيجه إلى الشكوى لخالقه فيجد المريض والمكروب والمظلوم وصاحب الحاجة يجد بث الهموم والفرج والتنفيس بالدعاء ويجد الفرح والسكينة وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ، ويامن تريد السعادة احذر كل الحذر من الذنوب صغيرها وكبيرها فإن الذنوب هي سموم القلوب التي تجلب الكمد وضيق الصدر والحياة النكدة والمعيشة الضنك فإن الله أبى إلا أن يذل من يعصيه فيكون شقياً متحسراً في دنياه ومعرضاً لوعيد الله بناره الحامية في أخراه رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها، وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها.
فيامن تريد السعادة لا تستسلم للذل والمهانة ولا لكيد النفس والشيطان وأعوان السوء فإن لك رباً يحميك ويرفعك ويؤيدك ويغفر ذنبك ويهديك فلا تعن الشيطان على نفسك ولا تبرر لنفسك رديئ أعمالها إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد فمن الذي أخرج يونس من بطن الحوت وظلمات البحار ومن الذي جعل البحر لموسى أرضاً يابسة ومن الذي جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم ومن الذي شفى أيوب بعد ثمانية عشر عاماً بعدما سقط لحمه ورفضه القريب والبعيد ومن الذي لطف بمحمد ونجاه من كيد المشركين وهو في الغار مع رفيقه الصديق وقال له: لا تحزن إن الله معنا ومن الذي أنطق عيسى في المهد لما اتهم الظلمة مريم عليها السلام ومن الذي رد يوسف إلى أبويه بعد الفراق والعذاب ومن الذي نصر القلة المؤمنة من الصحابة الأطهار وهم الجياع والفقراء على أعدائهم من المشركين والمنافقين وعلى الأكاسرة والقياصرة ومن الذي يجري الدماء في عروقك والنفس في رئتيك والمخ في دماغك والأعصاب في مفاصلك ومن الذي يشفيك بعد المرض ويعطيك بعد الفقر ويشبعك بعد الجوع ويجمع شملك بأهلك بعد الفراق ومن الذي ينعم عليك بكل مامعك من سمع وبصر ونفس وعقل وحياة وإيمان وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها فيامن تريد السعادة في الدنيا والآخرة اطلبها من الله واسع في مرضاته ثم أبشر بالفوز والغفران والسعادة في الدنيا والآخرة وتفطن بأن الحياة قصيرة والموت قريب فلا تقصر الحياة بالأكدار.
(1/978)
المنجيات في يوم القيامة
الإيمان
الجن والشياطين
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
6/2/1420
جامع الجردان
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله فاتقوا الله حق تقاته واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد أيها المسلمون غداً يهرع الأولاد مبكرين خائفين لأداء الإختبارات مستعدين ومعتنين بهذه المهمة الكبيرة التي لأجلها بذلوا السهر والعناء والكد والتردد على المدرسة طوال العام الدراسي وبذل الأهل لأبنائهم كل ما يستطيعون لإعداد الولد والحرص عليه وهيؤه للإختبارات لتحقيق النجاح وهذا عمل طيب وجهود مشكورة إن شاء الله إذا صلحت النية وصارت العناية بالأولاد ليست خاصة في أمر الدراسة فحسب بل استشعر الأبوان تربية أبنائهم تربية صالحة على الأخلاق الحسنة والمحافظة على حقوق الله ورسوله والبعد عن سيئ الأعمال والأقوال وجلساء السوء لأن الله عز وجل سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع وقال النبي : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) خ، أيها الإخوة وأمام الجموع المحتشدة غداً التي ستكرم عند الإمتحان أو تهان لنا وقفة اعتبار وادكار ولنا موقف محاسبة مع النفس عن اليوم العظيم يوم القيامة الشديد وأهواله وشدائده وكرباته الذي أكثر الله من ذكره ونوع من أسمائه لعظيم شأنه وطول وقوفه الذي فيه سيصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ثم يصير الناس بعده إما إلى الجنة أو إلى النار يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفود ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً، يوم الوقوف بين يدي الله وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه قال النبي : ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقر إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت)) وإنشقاق السماء هو إنفطارها وتناثر نجومها وتكور الشمس أن تجمع ثم يمحى ضوؤها ثم يرمى بها وإذا الجبال سيرت أي حولت من الحجارة لتكون كثيباً مهيلاً كالعهن وتكون سراباً وإذا العشار عطلت الإبل الحوامل يعطلها أهلها فلا يحلبونها لأنهم إذا قاموا من قبورهم رأوا الوحوش والدواب محشورة لم يهتموا بها لأنهم مشغولون بأنفسهم وإذا البحار سجرت أي أوقدت وصارت ناراً وإذا النفوس زوجت أي تلحق كل شيعة بشيعتها وأتباعها فيتبع اليهود باليهود والنصارى بالنصارى والمجوس بالمجوس وكل من يعبد من دون الله شيئاً يلحق ببعضهم البعض والمنافقون بالمنافقين والمؤمنون بالمؤمنين، ويقرن الغاوي بمن أغواه ويقرن المؤمنون بالحور العين والكافرون بالشياطين وإذا الصحف نشرت للحساب وإذا الجحيم سعرت أي أوقدت وإذا الجنة أزلفت أي قربت لأهلها ودنت إليهم.
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتى على طول البلاد جسور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
يوم القيامة يوم الصاخة والقارعة والطامة يوم الزلزلة والآزفة والحاقة يوم يخرجون من الأجداث سراعاً يوم يقوم الناس لرب العالمين يوم الكرب والأهوال يوم الشدائد والأعمال يوم يقول كل واحد: نفسي نفسي قال المحاسبي رحمه الله: حتى إذ تكاملت عودة الموتى وخلت الأرض والسماء من سكانها لم يفجأ روحك إلا نداء المنادي لكل الخلائق للعرض على الله بعظمته وجلاله فتسمع بانفراج الأرض على رأسك فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك شاخصاً ببصرك إلى النداء وجميع الخلائق معك مغبرون من غبار الأرض فتصور نفسك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك في زحمة الخلائق عراة حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة وقد نزع الملك من ملوك الأرض ولزمتهم الذلة والصغار ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤسها لذل يوم القيامة وأقبلت السباع بعد ضراوتها منكسة رؤسها ذليلة يوم القيامة وأقبلت الشياطين بعد تمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه الذي جمعهم بعد طول البلاء واختلاف الطبائع فإذا استووا جميعاً في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم وطمست الشمس والقمر وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها ثم انشقت السماء وبغلظها البالغ خمسمائة عام ثم تمزقت وانفطرت والملائكة قيام على أرجائها حافون بها ثم كسيت الشمس بحر عشر سنين وأدنيت من رؤوس الخلائق على مقدار ميل ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين ثم ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش ففاض العرق منهم سائلاً على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله بالسعادة والشقاوة فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى شحمة أذنيه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً قال الحسن: ما ظنك بأقوام قاموا لله على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش واحترقت أجوافهم من الجوع صرفوا إلى النار فسقوا من عين آنية قد اشتد حرها واشتد لفحها فلما بلغ المجهود منهم ما لاطاقة لهم به كلم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو النار من وقوفهم ففزعوا إلى آدم ونوح ثم إلى ابراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وكلهم يقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، وكلهم يقول: نفسي نفسي حتى إذا يئس الخلائق من شفاعتهم أتوا إلى النبي محمد فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه فأذن له ثم خر لربه ساجداً ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم لفصل القضاء بينهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وجاء ربك والملك صفاً صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ، يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العفو الكريم الرحمن الرحيم مالك يوم الدين جعل الحياة الدنيا داراً للإبتلاء والإختبار وداراً للعمل والاتعاظ والإنتفاع بشرعه وجعل الآخرة دارين داراً لأهل كرامته وقربه دار المكرمين الأتقياء الأبرار وداراً لأهل غضبه وسخطه دار الجحيم للكفار والفجار الذين تكبروا وفجروا وأغرتهم شهواتهم وقرناؤهم فقادوهم إلى النار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أيها الإخوة سمعنا شيئاً عن خبر اليوم العظيم يوم المعاد يوم يجمع الله الرسل والخلائق ليقضي الله سبحانه بينهم بالحق والعدل يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد، وإليكم أيها الإخوة شيئاً من الأعمال الصالحة التي تكون سبباً في النجاة من أهوال ذلك اليوم العظيم وسبباً في الفوز برضوان الله وجنته والنجاة من غضبه وناره فمن ذلك تفريج الكرب عن المكروبين قال النبي : ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) م، ومن الأعمال بر الوالدين قال النبي في حديث الرؤيا: ((إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أمتي جاء ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه)) ومنها ذكر الله ((ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين وأحاطوا به فجاءه ذكر الله مخلصه من بينهم)) ومنها الصلاة ((رأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم)) ومنها الاغتسال من الجنابة ((رأيت رجلاً والنبيون قعود حلقاً حلقا كلما دنا من حلقة طردوه فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده بجنبي)) ومنها صلة الرحم ((ورأيت رجلاً من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت: يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه)) ومن الأعمال الصدقة ((ورأيت رجلاً من أمتي يتقي شرر النار ووهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ستراً على وجهه وظلاً على رأسه)) ومنها حسن الخلق (( ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه بينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله الله)) ومنها الخوف من الله ((ورأيت رجلاً من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه)) ومنها موت الأطفال ((ورأيت رجلاً من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه)) ومنها البكاء من خشية الله ((ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار)) ومنها حسن الظن بالله ((ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده ومضى)) ومنها الصلاة على النبي ((ورأيت رجلاً من أمتي على الصراط يزحف أحياناً ويحبو أحياناً فجاءته صلاته علي فأخذت بيده ومضى على الصراط)) ومنها شهادة أن لا إله إلا الله ((ورأيت رجلاً من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته)) ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ((ورأيت رجلاً من أمتي قد أخذته الزبانية (ملائكة العذاب) من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله مع ملائكة الرحمة)) ومنها التجاوز عن المعسر وإنظاره قال النبي : ((حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال: قال الله عز وجل: أنا أحق بذلك منه تجاوزوا عن عبدي)) رواه مسلم ومن الأعمال عمل السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله وهم ((الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) م، ومن الأعمال إشباع الجائع وكسوة العريان وإيواء المسافر قال رسول الله : ((من أشبع جائعاً وكسا عرياناً وآوى مسافراً أعاذه الله من أهوال يوم القيامة)) أيها الإخوة وبالجملة فكل عمل صالح شرعه الله ورسوله يفعله المسلم صادقاً مخلصاً يبتغي به وجه الله لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا مالاً ولا جاهاً ولا منزلة عند الناس فإن هذا العمل هو سبب يرجو به العبد النجاة من النار وأهوال يوم القيامة ويرجوا رحمة ربه وجنته قال تعالى: إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً وقال تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً أيها الإخوة فالبدار البدار قبل الممات والحساب الحساب قبل يوم الحساب والزرع الزرع قبل يوم الحصاد يوم تجزى كل نفس ما كسبت واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
(1/979)
اليقين
التوحيد
شروط التوحيد
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
22/5/1417
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليقين من أعظم نعم الله على العبد 2- فوائد اليقين وأثره في حياة المسلم وبعد موته
3- أعمال القلوب ومن أعظمها اليقين 4- درجات اليقين الثلاث
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
عباد الله: عليكم بتقوى الله في السر والعلن، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون.
أيها المسلمون: إن نعمة الإيمان واليقين لا تعدلها نعمة لأن الذي من الله عليه باليقين فإنه يذوق حلاوة الإيمان ويلتذ بالطاعة ويأنس بذكر الله ويبتعد عن المعصية ويكرهها ويستغل حياته برضاء واطمئنان وسكينة وانشراح لأنه قد نزل اليقين في قلبه بالرضا والاطمئنان بقضاء الله وقدره فإن أصابته ضراء ومصيبة وفقر وهم صبر واحتسب وعلم أن ذلك من عند الله وإن أصابته سراء وصحة وعافية شكر وحمد الله واستعمل النعمة في طاعة الله واستيقن أن كل ما به من نعمة فهي من الله، عباد الله المؤمن المستيقن هو الذي نظر إلى هذه الدنيا نظرة صحيحة فهو يعلم أنها دار الغرور والزوال ودار الأكدار والهموم والفراق ودار الفتن والإبتلاءات وهي مع ذلك دار الزرع والعمل ودار الجد والكفاح والجهاد وحيث يُصَِِّر المستيقنون أنفسهم على الطاعات ويكفون أنفسهم عن المحرمات يريدون الوصول إلى رضوان الله وجنته، نعم إن المؤمن المستيقن ينظر إلى هذه الدنيا نظرة احتقار وزهادة لانظرة نهم فيها وطلب فلم يرضها الله لنبيه حيث قال رسول الله: ((مالي وللدنيا ما أنا إلا كمسافر قال تحت ظل شجرة ثم قام وتركها)).
أيها المسلمون: إن اليقين عبادة عظيمة وعمل من أجل أعمال القلوب التي هي الأساس وأعمال الجوارح لها تبع لقول النبي : ((إنما الأعمال بالنيات)) والقلب هو ملك الجوارح وهي له تبع فإن صلح صلحت سائر الجوارح وإن فسد فسدت، والعناية بأعمال القلوب مهمة وعظيمة، فإذا صلحت القلوب صلح الحال وحصل الصدق مع الله فيكتب الله لعباده النصر والتوفيق وتصلح كذلك أخوة المسلمين مع بعضهم فتسلم الصدور ويغاث الملهوف ويطعم الجائع، ومن أعمال القلوب حسن الظن بالله والخشوع والإخلاص والصدق والخوف والرجاء والمحبة واليقين والإنابة والاستعاذة والاستغاثة والشكر والرضا والصبر وغير ذلك، وحديثنا اليوم إن شاء الله عن اليقين، فاليقين هو ضد الشك وهو كمال الإيمان وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فبه تفاضل العارفون وتنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون، وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال تعالى: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون قال سفيان: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
أيها المسلمون: وقد خص الله أهل اليقين بخصائص عظيمة فهم الذين ينتفعون بالآيات والبراهين لقوله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين وهم المفلحون المهتدون من بين العالمين قال تعالى: والذين يؤمنون بما أًنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون واليقين هو روح أعمال القلوب وهي أرواح أعمال الجوارح واليقين هو حقيقة الصديقية، عباد الله وحقيقة اليقين هو ظهور الشيء للقلب كأنه يراه عياناً فيكون المخبر به من قبل الشرع للقلب كالمرئي للعين بحيث تتجلى حقائق الإيمان للصبر كأنه يراها رأي العين مثل الجنة والنار والصراط والميزان وموقف القيامة والحوض وانصراف المتقين إلى الجنة وانصراف الفجار إلى النار وعذاب القبر ونعيمه، فتتضح تلك الحقائق وتتجلى للموقن فتعيش معه في حله وترحاله يصاحبه همها فتدعوه وتسوقه وتشحذ همته إلى عمل الصالحات والمسابقة إلى الخيرات فيزداد شوقه وحنينه ولهفه وحبه العظيم إلى الجنان هناك حيث رؤية وجه الله الكريم المنان حيث الحور والولدان والأنهار والجمال والكمال هناك حيث النعيم الأبدي الذي لايلحقه الزوال ولا الأكدار حيث القصور والتفكه في صنوف ضيافة الرحمن الرحيم فلا موت ولا مرض وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون.
أيها المسلمون والموقن هو الذي يعيش كذلك خوف غضب الله ووعيده بالنار الحامية لأهل الكفر والعصيان فيشهد بقلبه النار التي تلظى بسلاسلها وأغلالها وقيودها حيث الإهانة والعذاب الأليم والذل والخزي والعار فيعمل المؤمن الموقن في هذه الدنيا العمل المتواصل الجاد على البعد منها والحذر من معصية ربه والخوف من غضب الله حتى لايكون من الذين غضب الله عليهم ولعنهم ومقتهم فيكبهم في النار ولايبالي، اللهم انفعنا بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكرم أولياءه بطاعته والصدق في معاملته وأنزل في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وعمر أوقاتهم بالبذل لخدمة الدين وإعزاز المؤمنين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عباد الله إن الموقن إذا نزل اليقين في قلبه بالجنة والنار والوقوف بين يدي الله وعلم أنه محاسب ومجزي بأعماله قال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تعلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين إن المؤمن إذا عاش بهذا التصور واليقظة والتذكر ازدادت رغبته فيما عندالله وازداد بعداً عن المعاصي وازداد محاسبةً لنفسه وردعاً لها وازداد إخلاصاً وصدقاً فأصبحت علانيته وسره سواء وتعلق بربه تعلق المضطر المخبت المنيب الراجي لعفو مولاه والشاعر بالفاقة والضرورة إلى رحمة الله ويزداد الموقن احتقاراً لنفسه وإزدراء لها فتذهب عظمة النفس وغرورها وإعجابها بذاتها ويذهب التعالي على الناس وظلمهم وتذهب الرغبة في مديح النفس وثنائها، والموقن يضمحل من نفسه وقلبه التهالك والركض وراء هذه الدنيا الدنية بزينتها وشهواتها وتُمحى من نفس الموقن المنيب إلى ربه نغمة الجاه والحسب والنسب والمال والسلطان وطغيان الصحة والعافية والاغترار بالمواهب والأعوان قال تعالى: فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولايتساءلون والمستيقن المؤمن يزول عنه نتن الجاهليات والعصبيات وداء الحسد وفساد ذات البين - وبالجملة ياعباد الله فإن الموقن بوعد الله هو الذي يترقب الموت كل لحظة ومع كل نفس فيصدق مع ربه في كل نية وكل قول وكل عمل أمره كله لله وحينئذٍ يحبه ربه ويرقيه ويمن عليه بالتوفيق والقبول والكرامة قال النبي : قال الله عزل وجل: ((ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعذنه)) [البخاري].
أيها الإخوة واليقين درجات ثلاث، الأولى: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الله ورسوله من الأوامر والنواهي والأخبار وقبول ما غاب عنا من أمور المعاد وتفصيله ومشاهد القيامة وأوصاف الجنة والنار وقبول ما قام بالله سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد وأما الدرجة الثانية فهي: عين اليقين وهو المغني عن الخبر بالعيان المشاهد بالعين، وأما الدرجة الثالثة فهي: حق اليقين وهو إسفار صبح الكشف وهذه الدرجة لا تنال في هذه الدنيا إلا للرسل عليهم الصلاة والسلام فإن نبينا محمد رأى الجنة والنار بعينه وموسى سمع كلام الله منه إليه بلا واسطه، قال ابن القيم رحمه الله: (نعم يحصل لنا حق اليقين وهي ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بأعمال القلوب فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق اليقين مثل التلذذ بذكر الله وحصول حلاوة الإيمان والأنس بمناجاة الله ودعائه وتلاوة كتابه كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة) عباد الله وانظروا لمن حضر عنده اليقين وعاين سوق الشهادة في سبيل الله وهو في الدنيا كما قال الرسول للصحابة: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)) فبينما الصحابي الجليل الموقن عمير بن الحمام قاعد يأكل تمراته على حاجة وفاقة وجوع ألقى تمراته من يده وقال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات فألقاها من يده وقاتل حتى قتل، وهكذا كانت حال الصحابة فإنهم قد شغفهم حب الله تعالى وحب مراده عن حب ماسواه، فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم كنسبة ما يرشح من القربة إلى ما في داخلها.
أيها الإخوة: هذا هو اليقين الذي يسوق النفوس والأرواح والقلوب لتنيب إلى الله وتخبت إليه فما هو نصيبنا من اليقين فهل حضر عندنا اليقين في الصلاة عمود الدين التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والتي هي صلة بين العبد وربه؟ وهل حضر عندنا اليقين في القرآن الكريم كلام ربنا في تدبره واستشعار عظمته وكبير أثره ففيه الهدى والشفاء والموعظة والرحمة؟ فهو كلام رب العالمين الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قال تعالى: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وهل حضر عندنا اليقين في بر الوالدين واستشعرنا التعبد لله ببرهما وإدخال السرور عليهما وتقديم أمرهما والحذر من التأفف منهما أو عصيانهما؟ وهل حضر عندنا اليقين في فعل المعصية ولو كانت واحدة؟ فهل تيقن العاصي أنه يسخط رب العالمين بمعصيته وأنه ربما مات وهو مقيم على ذنبه فيلقى ربه بتلك المعصية؟ وأنها سبب لقسوة القلب وطاعة الشيطان؟ وأنها ربما كانت باباً تجر مثيلاتها؟ وأنها سبب للغفلة والحجب عن الصالحات؟ وأنها تنافي الصدق والإخلاص لأن الصادق يسعى في طلب رضا محبوبه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدو إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير.
(1/980)
تحقيق العبودية
التوحيد
الألوهية
عبد الله بن فهد السلوم
بريدة
8/8/1419
جامع الجردان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عِظم فضل ونعمة الله تعالى على الإنسان 2- تعريف العبادة وأنها تقوم على أصلين
عظيمين 3- الحكمة من مشروعية العبادات 4- العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة
5- كلام ابن القيم رحمه الله في منازل العبودية 6- الدلائل والعلامات للعبادة الصحيحة
التي يتأثر بها القلب
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل وخوفه ورجائه ومحبته بقلوبكم وجوارحكم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
أيها الإخوة: إن حق الله علينا عظيم وكبير، فمن الذي خلقك وسواك؟ ومن الذي أنعم عليك وأعطاك؟ ومن الذي وهب لك العيون والأرجل والأيدي ومتعك بالعافية وأعطى السمع والعقل؟ ومن الذي أجرى فيك الدم وسخر لك الخلايا والعروق والأعصاب والأنسجة؟ ومن الذي شفاك بعد المرض وأحياك بعد الموت؟ ومن الذي ترجوه أن ينجيك من النار ويهب لك الجنة فتسعد بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً؟ وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها إن الله غفور رحيم قال ابن القيم رحمه الله: فإن من لم ير نعمة الله عليه إلا في مأكله وملبسه وعافية بدنه وقيام وجهه بين الناس فليس له نصيب من هذا النور البته، فنعمة الله بالإسلام والإيمان وجذب عبده إلى الإقبال عليه والتنعم بذكره والتلذذ بطاعته هو أعظم النعم، وكذلك النظر إلى أهل البلاء وهم أهل الغفلة عن الله والابتداع في الدين فإذا رأيتهم وعلمت ماهم عليه عظمت نعمة الله عليك في قلبك وعرفت قدرها حتى إن من تمام نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب نعم أيها المسلم من الذي هداك وجعلك من الموحدين المصلين الصائمين الشاكرين الذاكرين؟ إن العبادة هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وتقوم العبادة على أصلين عظيمين هما غاية الحب لله وغاية الذل لله فلا يكفي أحدهما في عبادة الله بل لابد من اجتماعهما حتى يحقق العبد العبودية لله لأنه بالمحبة والذل يحصل الإنقياد التام والإستسلام لأمر الله ومحبة ما عند الله حتى تنبعث الهمة في البحث والمسارعة والمسابقة إلى كل ما يرضي الله، فأنت إذا تعلقت بشخص فأعجبك وأحببته فإنك تكون دائم الذكر له تحب لقاءه والأنس بحديثه وتتشرف بخدمته ولا يمكن أن تعصي له أمراً أو تعمل ما يكرهه ويؤذيه، هذا العمل مع عبد مربوب فقير مثلك لايستطيع لك نفعاً ولا ضراً فلابد من أن يكون الله ربك وخالقك ورازقك ومحبك وهاديك ومعطيك ولابد أن يكون لله سبحانه أعظم القدر في نفسك وأشد التعلق في قلبك فتصرف له الحب كله والسعي كله والامتثال لأمره والابتعاد عن نهيه قال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ومن عرف الله وأحبه وأطاعه قرت عينه بطاعة الله وفرح بذلك ووجد الراحة والطمأنينة في عبادة ربه أيها العبد العابد يامن تريد النجاة من النار ويامن تقصد بعملك وجه الله تفطن جيداً واعلم بأن الله شرع العبادات كلها لا لنؤديها فقط بأجسامنا وجوارحنا بحركة آلية ليس لها معنى ولا حكمة بل إن الله شرع العبادات لتحيا القلوب بذكر الله وتنشرح الصدور لمحبة الله وتنكف النفوس عن معصية الله وتستسلم الجوارح وتتوجه النفس والروح تريد رضوان الله وجنته الغالية هناك في النعيم المقيم في دار الكرامة في مقعد الصدق السالمة من الزوال والآفات، أيها الأخ الكريم لقد شرع الله الصيام من أجل حصول التقوى لله وشرعت الصلاة لتكون ناهية عن الفحشاء والمنكر وشرعت الزكاة لتكون طهارة للمال والنفس وشرع الذكر لتطمئن القلوب وشرع الحج لإقامة ذكر الله والتنقل بين المشاعر ليعمل القلب بين مواطن الرحمة عند البيت وفي عرفات وعند رمي الجمار.
أيها الإخوة وهكذا فإن كل عبادة شرعها الله لنا من أجل أن تحيا القلوب لتعظيم الله وتقديره حق قدره وعلى قدر معرفة العبد بربه يكون تعلق القلب به وعلى قدر جهل العبد بربه تكون غفلته وإعراضه قال العابد ابراهيم بن أدهم: والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف، ويقصد بالنعيم هو ما يجده العابد من لذة العبادة والتلذذ بذكر الله وحلاوة مناجاته ومحبته لربه والإقبال عليه والفرح بطاعته، وقال رسول الله : ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) وقال تعالى: أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.
أيها الإخوة: والعبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية التي هي منقمسة على القلب واللسان والجوارح وعلى كل واحدة منها عبودية خاصة والأحكام لكل واحدة خمسة أحكام واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك على كل شيء قدير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله على إحسانه والشكر له على تفضله وامتنانه وأوحده وأستغفره وأثني عليه تعظيماً لشانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، قال ابن القيم رحمه الله: فأول منازل العبودية هي اليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الإنتباه من رقدة الغافلين والله ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها وما أشد غايتها على السلوك فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح وإلا فهو في سكرات الغفلة فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى وأوطانه التي سبي منها فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم، ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم، وثاني منازل العبودية هو العزم الجازم إلى المسير ومفارقة كل قاطع ومعوق ومرافقة كل معين وموصل وثالث منازل العبودية هي الفكرة وهي نظر القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له ورابعة المنازل هي البصيرة وهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد والجنة والنار وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق وقدنزلت ملائكة السموات فأحاطت بهم وقد جاء الله جل جلاله وقد نصب كرسيه للفصل والقضاء وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيئ بالنبيين والشهداء وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمعت الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه وكثر العطاش وقل الوارد ونصب الصراط على متن جهنم للعبور عليه وقسمت الأنوار دون ظلمته والنار يحطم بعضها بعضاً والمتساقطون في الجحيم أضعاف أضعاف الناجين فينفتح في قلب العابدين عين يرى بها شاهد من شواهد الآخرة يرى دوامها ويرى الدنيا وسرعة انقضائها.
أيها الإخوة: ومن كان ذا بصيرة انكف عن هذه الدنيا وزخارفها وزينتها وشهواتها وويلاتها فلم يملأ بها قلبه ولم يشغل بها نفسه ولم يقض بها وقته وحتى تدخل محبة الله في القلب لابد من إخلاء القلب من الطمع في هذه الدنيا لأن الدنيا والآخرة طرفان لايجتمعان على حد سواء في القلب فمن قرب أحدهما بعد الآخر ولابد وعلى قدر محبتك لربك ونزول اليقين في قلبك بالآخرة على قدر ذلك يكون بعدك عن الدنيا والتعلق بها، وكان السلف رضي الله عنهم يملكون أشياء من الدنيا ويبيعون ويشترون ولكن الدنيا بين أيدهم والآخرة في قلوبهم وهذا على خلاف كثير منا اليوم الذين ملأو قلوبهم بأعراض هذه الحياة ومشاكلها وشهواتها وأطماعها فأصبح هم الآخرة في قلوبهم ضعيفاً وأثر العبادات على سلوكهم ضعيفاً وأصبحت محبة الله في القلوب ضعيفة وجعلوا لله فضول الأوقات والاهتمامات والأموال قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون أيها المسلم حاسب نفسك وتدبر في تعبدك لربك وإليك هذه الدلائل والمعلومات للعبادة الصحيحة التي يتأثر بها القلب فمنها الخشوع في كل عبادة بالتدبر لما تقول وقوة التعظيم له ومنها الحرص على كل سانحة من سوانح الخير والمسابقة والمسارعة إليها ومنها أن تستشعر النقص في عبادتك لتسارع إلى بذل المزيد لإكمالها بالنوافل ومجاهدة النفس على رعايتها وإحضار القلب فيها والخوف من نقصانها وردها ومنها الإلحاح في سؤال الله قبول العبادة إنما يتقبل الله من المتقين ومنها المحافظة على الإزدياد من النوافل التي تجبر نقص الفرائض وتسبب محبة الله لعبده وتسبب حفظ الله لعبده وإجابته لدعائه ومنها إستحضار الصدق والإخلاص له ومحاذرة الرياء والسمعة والعجب ومنها شدة العناية بالتأسي بالمصطفى في كل قول وعمل أيها الإخوة ومن العلامات على صحة العبادة أن تكون العبادة ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر ومطهرة له ومنها وقوع الخوف في قلب العبد من ربه فيخاف العبد من انصراف قلبه عن ربه ويخاف من خاتمته ويخاف من عدم قبول الله لعبادته ويخاف من مروره على الصراط المنصوب على متن جهنم ويخاف العبد من ذنوبه أن يعذبه الله بها ولايتوب عليه ويخاف العبد من الرياء والسمعة ومن العلامات على صحة العبادة وجود لذة العبادة في القلب وانشراح الصدر لها والرغبة في المزيد ومنها والفرح بالأعمال الصالحة والسرور بها والندم والكراهية للسيئات والتوبة منها.
أيها الإخوة وختاماً فاستمعوا إلى ما يعين على تحقيق العبودية لله ويقوي الإيمان في القلب فمن ذلك الإقبال على القرآن الكريم تلاوة وتدبراً وحفظاً وكذلك الإكثار من ذكر الله ودعائه والاستغفار وكذلك الصبر على العبادة وتحمل المشقة ومجاهدة النفس على ذلك لأن النفس تريد الكسل والنوم والتسويف قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وقال تعالى: فاعبده واصطبر لعبادته وكذلك الاجتهاد في طلب العلم الشرعي النافع وتعظيم أوامر الله ونواهيه وعدم التساهل في شيء منها سواء كان كبيراً أو صغيراً وكان أحد الصالحين يحرص على صغائر العبادة ورقائقها ولا يدع منها شيئاً ويقول: أخشى أن يزيغ قلبي لأن الله يقول: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ومن الوسائل المعينة على تحقيق العباده الحرص على الخلوة بالله عز وجل والانكسار بين يديه والبكاء من خشيته قال ابن مسعود: (اطلب قلبك في ثلاث مواطن عند قراءة القرآن وعند مجالس الذكر وفي ساعة الخلوة فإن لم تجده فسل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لاقلب لك) وإن من أعظم الحرمان أن يحرم العبد لذة المناجاة والتمتع بالعبادة فقد يقول عاصي: إني أعصي الله ولم أر عقوبة عاجلة؟ والجواب: كفى بحرمانك لذة المناجاة والأنس بالله والتلذذ بذكره والفرح بطاعته كفاك بهذا عقوبة وأي عقوبة لأن لذة العبادة هي أعظم اللذات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.
عباد الله: ثم صلوا وسلموا..
(1/981)